المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم وهو حسبي
يقول العبد الفقير إلى الله تعالى الغني به محمّد بن علي بن إبراهيم بن شدّاد بن خليفة بن شدّاد بن إبراهيم بن شدّاد: الحمد لله الَذي قصّ من أنباء الرسل ما ثبت به فؤاد رسوله وتلا عليه من أخبار الأمم ما بلغ به تصديقه غاية سؤاله جاعل الأيام دولًا والأنام ملوكًا وخولًا وملبس الزمان من تقلّب الدول قشيبًا وسملًا محي الأموات ومميت الأحياء ومقدّر الأقوات ومجري الماء أحمده على تصرّف الأقدار وأشكره على تعاقب الأعصار وأصلّي على نبيه المبعوث بتغيير الملل وإقامة الدين ورفع منار الحق وقمع أباطيل الملحدين وعلى آله وصحبه الذين نسخوا ظلام الكفر بضياء الإيمان وجاهدوا في الله حق جهاده حتى علا دينه على سائر الأديان صلاةً زاكيةً دائمةً ما اختلف الملوان.
وبعد فإنه لما حللت بمصر المحروسة وتبوّأتُ محالها المأنوسة وشملني من أنعام مولانا السلطان السيد الأجل المجاهد المابط رافع كلمة الإيمان وقامع عبدة الصلبان ملك العصاة الإسلامية حامي حوزة الملّة الحنفية إسكندر الزمان والبلاد الجزرية خادم الحَرمين الشريفين القائم بمتابعة الخليفتين مقر الإِسلام في نصابه ومعيد رونق الخلافة العباسية بعد مضيّه وذهابه الملك الظاهر الطاهر المقاصد الباهر المفاخر ركن الدين أبي الفتح بيبرس قسيم أمير المؤمنين لا زالت ألويتهُ في الخافقَّين خافقة وسوابق جياده إلى ديار أعدائه لعزماته سابقة ومواقفه لما يرضي الله ويعزّ الدين موافقة ولا برح النصر مفرونًا بأعلامه والدوام مصاحبًا لأيامه والدهر مصرّفًا بين نقضه وإبرامه ما يعجز البليغ عن حصره ويستقي الطاقة في نشره ولا يبلغ كنه قدره.
ورتعت في أنعامه بين روضة وغدير ورفلتُ من ملابس إحسانه فيما دونه الحرير وصاحبتُ زماني طلق المحياّ بعد عبوسه وعاد إليَّ معتذرًا مما كان قد أخنى عليَّ من بؤسه وكان السبب في نجعتي عن بلاد بها عقّ تمائمي الشباب وفيها اتخذتُ الإخوان والأصحاب وقضيتُ الأوطار مع اللدات والأتراب ما لا ينسى ذكره على مرور الأيام ولا يبرح مكرّرّا بأفواه المحابر وألسن الأقلام من دخول التتر الخذولين البلاد وتفرقتهم بجموعهم لشمل من سكنها من العباد رأيت انتهاز الفرصة في شكر إنعامه العميم وإدراك البغية في وصف إكرامه الجسيم أن أضع كتابًا أذكر فيه ما سنى الله له من الفتوحات التي لم تكن تتوهمها الأطماع وملَّكه ما كان بأيدي الكفر من منيعات الحصون والقلاع وما وطئته سنابك خيوله واسترجعتْه مواضي لهاذمه ونصوله من البلاد التي يئست الأطماع من ردها وألزمت العيون مداومة سهدها وجرعت النفوس الصبر بعد شهدها مفصّلًا كل جند من أجناد الشام والجزيرة بأعماله وحدوده ومكانه من المعمور وأطواله وعروضه ومطالع سعوده ملتزمًا في كل بلد ذكر من وليه من أوّل الفتوح وإلى الوقت الذي فُرغ فيه هذا الكتاب وأجري في ذلك طلق جهدي معتمدًا فيه على ما صح عندي ولا أدعي الإحاطة فيما ذكرتُ ولا أقول إني أحرزتُ الغاية وما قصرتُ عن إدراكها بل جعلتُه دستورًا يسترجع به عارب الإنس ويُستفادُ منه ما حدث باليوم والأمس وأبدأ بذكر جند حلب لكونها مسقط رأسي ومحل أنسي وناسي وثدي الذي ارتضعتُ دَرَّه ويجري الذي تقلد نحري دُرّه وموضع نزهتي ووطني وبقعتي والمكان الذي حمدتُ به الأيام والمنزل الذي كنتُ به من الحوادث في ذمام والدار التي صحبتُ بها الشباب غضاٍّ جديدًا وقطعتُ فيها بالدعة والسرور عيشًا حميدًا وعاشرتُ من لم يزل للمحفل صدرًا وللجحفل قلبًا وعند النائبات " شعر ":
أُحبُّ رُبّى فيها رُبيتُ مُكرَّمًا ... وَيُعْجِبُني كُثْبانُها وَهِضابُها
بِلادٌ بِها عَقَّ الشَبابُ تَمائِمي ... وَأَوَّلُ أرْضٍ مَسَّ جِسْمي تُرابَها
ولله قول ابن الرومي حيث أفصح عن السبب في حب الأوطان والتأسف علي القطّان " شعر "
وَحَبَّبَ أوْطانَ الرِجالِ إلَيْهِمُ ... مآرِبُ قَضّاها الشَبابث هُنالِكا
إذا ذَكَروا أَوْطانَهُمْ ذَكَّرْتُهمُ ... عُهودَ الصِبا فيها فَحَنّوا لِذالكا
1 / 1
وقد جاء في المنقول: حبّ الوطن من الإيمان. وعن علي كرّم الله وجهه: عمرت الدنيا بحب الأوطان. وعن إبراهيم بن أدهم رضه أنه قال: ما عالجت شيئًا أشدّ من منازعة النفس للوطن. وقال عبد الملك بن قريب الأصمعي: سمعت أعرابيًا يقول: إذا أردت أن تعرف الرجل فانظر كيف تحببه إلى أوطانه وتشوقه إلى إخوانه وبكاؤه على ما مضى من زمانه. ولولا ما عمتني من الإحسان الظاهري وأصّله الله تع ما أسلى عنها لذهبت نفسي شعاعًا لفقدها ولم تهنني الأيام من بعدها.
لكن في إنعامه ما يُسلي الغريب عن أوطانه ويُعيد للمرء في أيّام المشيب شرخ شبابه وقديم زمانه فالله تع يعضده بالملائكة المقرّبين ويبقي دولته على تعاقب الأيّام والسنين وأَتوخّى في ترتيب ذلك أيّام الخلفاء الراشدين ومن خلفهم من بني أميّة والعبّاسييّن وعندما تمّ كتابي وكمل وارتدى بالفوائد واشتمل وسمّيتُه بالأعلاق الخطيرة في ذكر أمراء الشام والجزيرة راجيًا أن يكون مرهفًا لغرمات من وُضع له وإن كانت مستغنيةً عن الأرهاف وسميرًا يغنيه في أوقات خلواته عن ذي الإكرام والجلال مستوهبًا منه موادّ التوفيق والإفضال إذ لا حول إلاّ به ولا معوّل إلاّ عليه ولا قوة إلاّ منه سائلًا من وقف على ما جمعتُه ولفقتُه ووضعتُه ونمقتُه من ذوي الأخذ والنقد وأولى الحلّ في المعارف والعقد إصلاح ما يرى فيه ممّا لا يقبله التمييز ويرتضيه من تقصير في العبارة أو تطويل في مكان الإشارة أو خلل وقع في الترتيب أو زلل أخلّ به مقتضى التهذيب ملتمسًا منه أن يسبل عليه ستر المسامحة عالمًا أنّ الاعتداد إنّما هو بالنيّة الصالحة متيقنًّا أن التأريخ معرض للتصديق والتكذيب وأنّ واضعه سائق نفسه إلى التعنيف والتثريب والله تع أسأل غفرًا وآمل سترًا وأرغب أن يشرح لي صدرًا ويبدل عسري يسرًا وأصدر القول بالأهمّ من تكميل غرضي في هذا الكتاب وهو أربعة مقاصد.
المقصد الأوّل في
ذكر الشام واشتقاق اسمه
حكى أبو الحسين أحمد بن فارس في كتاب اشتقاق أسماء البلاد قال: الشام فعل من اليد الشؤمي وهي اليسرى. يقال أخذ شأمةً أي على يساره وشأمت القوم ذهبت على شمالهم. وقال قوم: هو من مشؤوم الإبل وهي سودها وحضارها هي البيض. قال أبو ذؤيب:
فما تُشْتَرى إلاّ بِرِبْحٍ سِباؤُها ... بَناتُ المَخاضِ شُؤْمُها وَحِضارُها
وفي كتاب الله ﷿ في المعنى الأوّل) وَأَصْحابُ المَشْأَمَةِ (. قال الأعشى:
عَلى أَثَرِ الأَدِلَّةِ وَالبُعايا ... وَخَفْقِ الناعِجاتِ مِنَ الشآمِ
وقال أبو بكر محمّد " بن " القاسم الأنباريّ: في اشتقاق اسم الشأم وجهان أحدهما يجوز أن يكون مأخوذًا من اليد الشؤمى وهي اليسرى. قال الشاعر:
وَأَنْجى عَلى شُؤْمَى يَدَيْهِ فَرادَها ... بأَظْماءَ مَرْفوعِ الذُؤَابَةِ أَسْحَما
والثاني أن يكون فعلًا من الشؤم. وقال ابن المقفّع: سُمّيت الشام بسام بن نوح وسام اسمه بالسريانيّة شام وبالعبرانيّة شيم. وهشام بن محمّد المعروف بابن الكلبيّ ينكر هذا ويقول: إنّ سامًا لم ينزل هذه الأرض قطّ وإنّما سُمّيت الشام بشامات بها حمر وسود وبيض. وقال غيره: سُمّيت الشام لأنّها عن شمال الكعبة كما أنّ اليمن عن يمينه. وقال أيضًا هشام بن الكلبيّ: لمّا تفرّق الناس من أرض بابل بوقوع صرح النرود أخذ بعضهم يمنةً فسُميّت الأرض الّتي نزلوا بها يمنًا لأنّها عن يمين البيت وأخذ آخرون شأمةً فسُميّت الأرض الّتي نزلوا بها شأمًا لأنّها عن شأمة البيت أي شماله.
المقصد الثاني في
ذكر أوّل من نزل به
1 / 2
قرأتُ في تأريخ دمشق للشيخ الإمام العالم الحافظ أبي القاسم عليّ بن الحسن بن هبة الله بن عبد الله المعروف بابن عساكر رحمه بعد سند رفعه إلى هشام بن محمّد عن أبيه قال: كان الّذي عقد لهم نوح - صلّى الله على نبيّنا وعليه - ببابل فنزل بنو سام المِجْدِل وهو ما بين ساتيداما إلى البحر وما بين اليمن إلى الشام وجعل الله النبوّة والكتاب والبياض فيهم ونزل بنو حام مجرى الجنوب والديور فيُقال لتلك الناحية الداروم وجعل الله فيهم الأُدمة وجعل في أرضهم الأثل والعشب والنخل وجرّى الشمس والقمر في سمائهم ونزل بنو يافث في الصفون بمجرى الشمال والصبا وفيهم الشقرة والحمرة وأخلى أرضهم فاشتدّ بردها وأخلى سمائها فليس يجري فوقهم شيء من النجوم السبعة الجارية لأنهم صاروا تحت بنات نعش والجدي والفرقدين. ثم لحقت عاد بالشِحْر فعليه هلكوا ولحقت بعدهم بالشحر مَهْرَة ولحقت عُبيْل بموضع يثرب ولحقت العماليق بأرض صنعا. ولحقت ثمود بالحجر فهلكوا ولحقت طًسْم وَجديس باليمامة فهلكوا ولحقت أميم بارض وبار فهلكوا بها وهو رمل عالج فيما بين اليمامة والشِحْر فلا يصل إليها أحد لأن النّ غلبت عليها ولحقت يُقْطَن بن عابر باليمن فسُميت يمنًا حين تيمنوا إليها ولحق قوم من بني كنعان بالشأم فسُميت شأمًا حين تشاءموا إليها
المقصد الثالث في
ذكر ما ورد من فضل الشام
قرأت في التاريخ الحافظ بن عساكر الدمشقي ﵀ بسند رفعه عن عبد الله ابن حَوالة الأزدي أنّه قال: يا رسول الله صِف لي بلدًا أكون فيه فاو علمتُ أنّك تبقى لم أختر على قربك شيئًا. قال: عليك بالشام ثلاثًا فلّما رأى النبي ﷺ كراهته إياها قال: هل تدري ما يقول الله في الشام؟ إن الله تع يقول: يا شام أنتِ صفوتي من بلادي أدخل فيك خيرة من عبادي أنتِ سوط نقمتي وسوط عذابي أنتِ الأنذر وإليكِ المحشر. ورأيتُ ليلة أسرى بي عمودًا أبيض كأنه لؤلؤة تحمله الملائكة. قلتُ: ما تحملون؟ قالوا: عمود الإسلام أمرنا أن نضعه في الشام وبينا أنا نائم إذ رأيتُ الكتاب اختُلس من تحت وسادتي فظننتُ أن الله تع تخلى من أهل الأرض فأتبعتُه فإذا هو بين يدي حتى وضع بالشام فمن أبى فليلحق يمنةّ ويُسقَ من غدره فإن الله تكفّل بالشام وأهله.
وروى بإسناده قال رسول الله ﷺ: صفوة الله من أرضه الشام وفيها صفوة من خلقه وعباده. وفي حديث آخر: من خرج من الشام إلى غيرها فبسخطه - يعني الله تعالى - ومن دخلها من غيرها فبرحمته. وروى أيضا أنّ الّله تع بارك ما بين العريش والفرات وخصّ فلسطين بالتقديس - يعني التطهير -. ثم قال عقيب هذا الحديث: هذا الحديث منقطع.
وروى أيضا عن عبد الله بن عمر رضهما قال قال رسول الله ﷺ: الخير عشرة أعشار تسعة في الشام وواحد في سائر البلدان والشر عشرة أعشار واحد بالشام وتسعة في سائر البلدان وإذا فسد أهل الشام فلا خير فيكم.
وروى أيضا بسند رفعه إلى أبى الدرداء. قال رسول الله ﷺ: أهل الشام وأزواجهم وذرّياتهم وعبيدهم وإماؤْهم إلى منتهى الجزيرة مرابطون في سبيل الله فمن احتلّ منها ثغرًا من الثغور فهو في جهاد وهذا القدر كافٍ في شرف من احتلً من أهله شافٍ.
وروى أيضا عن شهر بن حَوشْ بأنّ معاوية بن أبي سفيان سمع رجلًا من أهل مصر يسبُّ أهل الشام فأخرج وجهه من برنسه وقال: يا أهل مصر لا تسبّوا أهل الشام فإنّي سمعت رسول الّله ﷺ يقول: فيهم الإبدال وبهم يُرزقون وبهم يُنصرون. وقد قيل: إنّ عوفًا قال ذلك ومعاوية يسمعه.
المقصد الرابع في
ذكر موضعه من المعمور وحدوده
وإلى ما انقسم إليه من الأجناد
1 / 3
أما موضعه من المعمور فإنّه في الإقليم الثالث والرابع وأمّا حدوده فإنّ الصاحب كمال الدين أبا القاسم عمر بن أحمد بن محمّد بن هبة الله بن أبي جَرادة الحلَبي العُقَيْليّ المعروف بابن العديم روى في كتابه المسمّى ببغية الطلب في تأريخ مدينة حلب حديثًا رفعه إلى النبيّ ﷺ أنّه سُئل عن البركة التي بورك في الشام أين موضع حدّه. قال: أوّل حدوده عريش مصر والحدّ الآخر طرف البثنية والحدّ الآخر الفرات والحدّ الأخير جبل فيه قبر هود عم. وذكر أصحاب الاعتناء بتحديد المسالك والممالك أنّ حدّه الجنوبيّ العريش من جهة مصر وحدّه الشماليّ بلاد الروم وحدّه الشرقيّ البادية من أيلة إلى الفرات وحدّه الغربيّ بحر الروم.
وأمّا ما انقسم إليه من الأجناد فالّذي ورد في ذلك ما حكاه أبو جعفر الطبريّ في تأريخه أنّ أبا بكر الصدّيق رضه لما عزم على فتح الشام سمّى لكل أمير أمّرَه على الجيوش كورةً فسمّى لأبي عبيدة بن الجرّاح كورة حمص وليزيد بن أبي سفيان كورة دمشق ولشُرَحْبيل بن حَسَنَة كورة الأردنّ ولعمرو ابن العاصّ وعلقمة بن محرز كورة فلسطين. فإذا فرغ منها ترك علقمة وسار إلى مصر فيدلّ هذا على أنّ الشام لمّا كان في أيدي الروم مقسومًا إلى هذه الكور الأربعة لا غير.
وممّا يؤيّد ما قدّرناه ما ذكره قُدامة بن جعفر في كتاب الخراج أنّ أبا عبيدة سار إلى قنّسرين وكورها يومئذ مضافة إلى حمص ولم يزل كذلك حتّى فصل يزيد بن معاوية وقيل معاوية قنّسرين وإنطاكية ومنبج الثغور جندًا وأفردها عن حمص وصيّر حمص وأعمالها جندًا ولمّا استخلف هارون الرشيد أفرد قنّسرين بكورها وصيّر ذلك جندًا وأفرد منبج ودُلوك ورَعْبان وقورص وإنطاكية وتيزين الثغور وسمّاها العواصم. وقد قيل: إنّ العواصم من حلب إلى حماه. وسمّيت العواصم لأنّ المسلمين يعتصمون بها في ثغورهم فتعصمهم فتكون إذّا أجناد الشام ستةً قنّسرين والعواصم وحمص ودمشق والأردنّ وفلسطين. وسنذكر ما اشتملت عليه هذه الأجناد من البلاد البرّية والساحليّة في موضعها من هذا الكتاب إن شاء الله تع على تفصيل يروق مستمعه ويشهد من وقف عليه أنّ هذا موضعه.
وإذ قد فرغتُ من ديباجة كتابي الّتي ضمّنتُها مقاصدي فيه وجعلتُها مفصحةً عن سرّه الّذي يخفيه فقد آن أن أبدأ بذكر حلب على ما تقدّم الوعد به وتعلّق سبب غرضي بسببه وأرتّب الكلام فيه على ثلاثة أقسام حلّت منه محلّ الأرواح في الأجسام.
القسم الأوّل أضمّنه سبعة عشر بابًا في أمر البلد وما اشتمل عليه بنيانه ظاهرًا وباطنًا.
القسم الثاني أضمّنه خمسة أبواب فيما يشتمل عليه حدود نواحيها الخارجة عنها.
القسم الثالث في ذكر أمرائها منذ فُتحتْ إلى عصرنا الّذي وضعنا فيه الكتاب.
القسم الأوّل
أمر البلد وما اشتمل عليه بنيانه ظاهرًا وباطنًا
ويشتمل على سبعة عشر بابًا الباب الأوّل في ذكر موضعها من المعمور
الباب الثاني في ذكر الطالع الّذي بُنيت فيه ومن بناها.
الباب الثالث في ذكر تسميتها واشتقاقها.
الباب الرابع في ذكر صفة عمارتها.
الباب الخامس في ذكر عدد أبوابها.
الباب السادس في ذكر بناء قلعتها والقصور القديمة.
الباب السابع في ذكر ما ورد في فضلها.
الباب الثامن في ذكر مسجدها الجامع والجوامع الّتي بظاهرها وضواحيها.
الباب التاسع في ذكر المزارات الّتي بباطنها وظاهرها.
الباب العاشر في ذكر المساجد الّتي بباطن حلب وظاهرها.
الباب الحادي عشر في ذكر الخانقاهات والربط.
الباب الثاني عشر في ذكر المدارس.
الباب الثالث عشر في ذكر ما بحلب وضواحيها من الطلسمات والخواصّ.
الباب الرابع عشر في ذكر الّحمامات.
الباب الخامس عشر في ذكر نهرها وقنيها.
الباب السادس عشر في ذكر ارتفاع فصبتها.
الباب السابع عشر في ذكر ما مُدحت به نظمًا ونثرًا.
الباب الأوّل في
ذكر موضعها من المعمور
1 / 4
اعلم أنّ حلب من الإقليم الرابع وهذا الإقليم هو أفضل الأقاليم السبعة وأصحها هواءً وأعذبها ماءً وأحسنها أهلًا وهو وسطها وحيّرزها. وذكر هِرمِس أنّ الإقليم الرابع في الوسط من العمران وهو للشمس. وقال بطليموس: إنَ الإقليم الرابع للشمس وأطول ما يكون النهار في المدن الّتي على الخطّ المسمّى وبسيطه أربع عشرة ساعةً ونصف وبُعد هذا الخطّ من خطّ الاستواء ستّ وثلاثون درجةً تكون من الأميال ألفَيْ ميل وأربعمائة ميل وسعة عرضه من آخر حدود إقليم الثالث إلى أوّل الخامس من الأجزاء خمس درج وأربع دقائق تكون ذلك من الأميال ثلاثمائة وثلاثون ميلًا ونصف الميل. قال: وفي هذا الإقليم من الجبال الطوال اثنان وعشرون جبلًا ومن المدن الكبار المشهورة نحو مائتي مدينة واثنتي عشرة مدينةً وهذا الإقليم هو إقليم الأنبياء والحكماء لأنه وسط بين ثلاثة أقاليم جنوبية وثلاثة شمالية وهو أيضًا في قسمة النيّر الأعظم. وذكر الخالديّان في تأريخ الموصل أن الإقليم الرابع أفضل الأقاليم وأجلّها لأنّه يبتدئ من المشرق بالصين فيمرّ ببلاد التُبّت وينتهي إلى بحر المغرب وأهل هذا الإقليم أصحّ هذه الأقاليم طباعًا وأتمّهم اعتدالًا وأحسنهم وجوهًا وأَخلاقًا وأكثر الأقاليم مدنًا وعمارةً وفيه مغاصّ الدُرّ وفيه جبال أنواع اليواقيت والحجارة الثمينة وجميع أصناف الطيب ولأهلها الصنائع واللطف والتأليف من الرخام وصِبْغه ونصب الطلسمات وكلّ مدينة معتدلة الهواء مشهورة الاسم فمنه وداخلة فيه.
الباب الثاني في
ذكر الطالع الذي بُنيت فيه ومن بناها
اخبرني الرئيس بهاء الدين أبو محتد الحسن بن إبراهيم ابن الخشاب الحلبي قال: نقلتُ من ظهر كتاب عتيق ما هذه صورته: رأيتُ في القنطرة التي على باب إنطاكية من مدينة حلب في سنة إحدى عشرة وأربعمائة للهجرة كتابةً باليونانيّة فسألتُ عنها فحكى لي أبو عبد الله الحسين بن إبراهيم الحسينيّ الحرّانيّ أيّده الله انّ أبا أسامة الخطيب بحلب حكى له أنّ أباه حدّثه أنّه حضر مع أبي الصقر القبيصيّ ومعهما يقرأ باليونانيّة فنسخوا هذه الكتابة. قال: وأنفذ إلي ّ نسختها في رقعة وهي: " بُنيت هذه المدينة والطالع العقرب والمشتري فيه وعطارد يليه ولله الحمد كثيرًا بناها صاحب الموصل ". قال: ثمّ سيَر إليّ أبو محمّد الكتاب الذيّ نقل منه ما ذكره بعينه. قال: فشاهدتُ عليه المكتوب كما ذكره لي من غير زيادة ولا نقصان. قلتُ: وصاحب الموصل والله أعلم هو بلوكوس الّذي تُسمّيه اليونانيون سردنيبلوس.
قال كمال الدين بن العديم: قرأتُ في الكتاب الجامع للتأريخ المتضمن ذكر مبدأ الدول ومنشأ الممالك ومواليد الأنبياء وأوقات بناء المدن وذكر الحوادث المشهورة مماّ عُني بجمعه أبو نصر يحيى بن جرير الطيب التكريتيّ النصراني من عهد آدم إلى دولة بني مروان ونقلتُ ذلك من خطّه. قال: ذُكر أن في دولة الواصلة أنّ بلوكوس الموصليّ ملك خمس وأربعين سنةً وأوّل مُلكه في سنة ثلاثة آلاف وتسعمائة وتسعة وثمانين لآدم عَم. قال: وفي سنة تسع وعشرين من مُلكه وهي سنة أربعة آلاف وثماني عشرة سنةً لآدم ملكت أطوسا المسمات سَميرَم مع بلوكوس أبيها. وبلوكوس هذا الّذي تسمّيه اليونانيّون سَرْدنيبلوس وهو الّذي بنى حلب.
وقال أبو الريحان أحمد بن محمد البيرونيّ في كتاب القانون المسعوديّ: بُنيت حلب في أيام بلقورس من ملوك نينوى وكان مُلكه لمضي ثلاثة آلاف وتسعمائة واثنين وستين سنةً لآدم عم ومدّة مقامه في الملك ثلاثون سنةً. وبلقورس هذا هو بلوكوس الّذي قدّمنا ذكره غير أنّ هذه الأسماء الأعجمية لا يكاد المسمّون لها يتَّفقون فيها على صورة واحدة لاختلاف ألسنتهم.
وممّا نقلتُه من تأريخه أيضا قال: وفي السنة الحادة والعشرين من ملك سلوقوس اليهود أن يقيموا في المدن الّتي بنى وأطرّهم إلى ذلك وقرّر عليهم الجزية الّتي أزالها شمعون بعد مائة وسبعين سنةً ووجد ذلك في بعض تواريخ القدماء. إنّ في السنة الأولى من تأريخ الإسكندر ملك سولوقوس على سوريا وبابل وهذا الرجل بنى سلوقية وأفامية والرُها وحلب ولاذقية.
1 / 5
ووجدتُ في بعض الكتب أنّ جميع عدد السنين مذ خلق الله ﷿ آدم عم إلى أول سنة من عدد اليونانيّين وتُعرف بسني الإسكندر خمسة آلاف ومائتان وإحدى وعشرون سنةً وهذا يدلّ على أنّ سلوقوس بني حلب مرّةً ثانيةً ولعلّها كانت خربت بعد بناء بلوكوس فجدّد بناءها سولوقوس فإنّ بين المدّتَين ما يزيد على ألف ومائتي سنة.
وسوريا يُطلق على الشام الأولى وهي حلب وأعمالها. وبناحية الأحصّ من بلد حلب مدينة خربة تُسمى سوريا وإليها يُنسَب اللسان والسوريانيّ والقلي السوريانيّ والقلي السوريانيّ وسنبيّن ذلك فيما يأتي إن شاء الله تع.
قال ابن العديم: ونقلتُ من خطّ إدريس بن حس الإدريسيّ ما ذكره أنّه نقله من تأريخ إنطاكية. قال صاحب تأريخ أنطاكية وهو أحد المسيحيّة السريانيّة: الّذي ملك بعد الإسكندر بطلميوس الأرنب وهو الّذي بنى أفامية وحلب واللاذقيّة والرُها. وبطلميوس الأرنب هو سلوقوس. لكن اليونانيّون كانوا يسمّون كلّ من ملك تلك الناحية بطليموس كما تسمّي الفرس كلّ من ملك عليهم كسرى وكما تسمّي الروم كلّ من ملكهم قيصر.
وقد قيل: إنّ حلب بناها حلب بن المهر بن حيص بن عمليق من بني جان بن مكنّف فسُمّيت باسمه.
فصل. وكانت حلب تُعرف بمدينة الأحبار عند الصابئة. وُجد في كتاب بابا الصابئي الحرّانيّ في المقالة الرابعة في ذكر خروج الحبشة وفسادهم في البلاد: وينزل على الفرات وتأمن مدينة الأحبار المسمّاة مابوغ هي حلب.
وقال في المقالة السادسة: وأنتِ ياموغ وهي حلب مدينة الأحبار يأتي رجل سلطان ويحلّ بك ويُعلي أسوارك ويجدّد أسواقك ويحوّز العين الّتي فيك وبعد قليل يُؤخّذ منك. ولَما شرع السلطان الملك الناصر صلاح الدين يوسف في بناية الأسوار والأبرجة بمدينة حلب وعمّر اليوقَيْن اللذَيْن أنشأهما شرقيّ الجامع بحلب أحدهما نقل إليه الحريرّيين والآخر نقل إليه النّحاسين قال لي بهاء الدين أبو محمّد الحسن بن إبراهيم بن سعيد بن الخشّاب الحلبيّ وهو من رؤساء حلب وكبرائها وأعيانها: إنّني خائف أن يكون هذا الملك الّذي يحلّ بها ويجدّد أسوارها ويعمّر أسواقها ويُخذ منها. فوقع الأمر كما ذكر في سنة ثمان وخمسين وستمائة.
الباب الثالث في
ذكر تسميتها واشتقاقها
قرأتُ في كتاب أسماء البلدان وإلى من تُنْسَب كلّ بلدة عن هشام بن محمّد بن السائب الكلبيّ أنّ حمص وحلب وبردعة تُنسَب لقوم من بني المهر بن حيص بن جان بن مكنف بن عمليق. وقيل إنّما سُمّيت حلبًا لأن إبراهيم الخليل ﷺ كان يرعى غنمًا له حول تلّ كان بها وهو الآن القلعة فكان له وقت يحلب فيه الغنم ويأتوا الناس إليه في ذلك الوقت فيقولون حَلَبَ إبراهيم حَلَبَ إبراهيم فسُمّيت حلبًا.
ونقلت من تأريخ كمال الدين ما ذكره أنه قرأه بخطّ الشريف إدريس ابن حسن بن عليّ بن عيسى الإدريسي وكان له معرفة بالتأريخ قال: أما اسم حلب فسمعت فيه كلاما من أفواه الرجال وأريته الشريف أبو طالب النقيب أمين الدين أحمد بن محمد الحسيني الإسحاقي بخط القاضي السيد الجليل أبي الحسن علي بن أبي جرادة وكان متفننًا في تعليق له قال: إن اسم حلب عربي لا شك فيه وهو لقب لتل القلعة. قال: كان إبراهيم عم إذا اشتمل من الأرض المقدسة ينتهي إلى هذا التل فيضع فيه أثقاله ويبثّ رعاءه إلى نهر معهم من الأغنام والمعز والبقر. وكان الضعفاء إذا سمعوا بمقدمة أتوه من كلّ وجه من بلاد الشمال فيجتمعون مع من اتّبعه من الأرض المقدّسة لينالوا من بِرّهِ. فكان يأمر الرعاء بحلب ما معهم طرفي النهار ويأمر ولده وعبيده باتّخاذ الطعام فإذا فُرغ له منه أمر بحمله إلى الطرق المختلفة بإزاء التلّ فيتنادى الضعفاء إبراهيم حَلَبَ فيتنادرون إليه. فغلبت هذه اللفظة لطول الزمان على التلّ كما غلب غيرها من الأسماء على ما هو مسمّى به فصار علَمًا له بالغلبة.
فصل. وتُلقَّب بالشهباء والبيضاء وذلك لبياض أرضها لأنّ غالب أرضها من الحجارة الحوّارة وترابها يضرب إلى البياض وإذا أضرف عليها الإنسان ظهرت له بيضاء.
الباب الرابع في
ذكر صفة عمارتها
1 / 6
الكلام في سورها: كان مبينًا بالحجارة من بناء الروم أوّلًا ولمّا وصل كسرى أنو شروان إلى حلب وحاصرها تشعثت أسوارها وكان ملك حلب إذ ذاك يوسطينيانوس ملك الروم ولمّا استولى عليها أنو شروان وملكها رمّ ما كان هُدم من أسوارها وبناها بالآجرّ الفارسيّ. وشاهدنا منه في الأسوار التي ما بين باب الجنان وباب إنطاكية. وفي أسوارها أبرجة عديدة جدّدها ملوك الإسلام بعد الفتوح مثل بني أميّة وبني صالح لمّا كانوا ولاةً عليها من قِبَل بني العبّاس وعلى الخصوص صالح بن عليّ وعبد الملك ولده.
ولمّا خربت بمحاصرة نقفور ملك الروم لها في ذي القعدة سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة وخرج منها سيف الدولة هاربًا واستولى عليها نقفور وقتل جميع من كان بها ثمّ رجع إليها سيف الدولة وجدّد سورها سنة ثلاث وخمسين وثلاثمائة واسمه مكتوب على بعض الأربجة ولحقتُ منها برجًا كان إلى جانب باب قنّسرين من جهة الغرب.
وكذلك جدّد فيها سعد الدولة بن حمدان ولد سيف الدولة أبرجةً وأتقن سورها في سنة سبع وستين مثلثمائة وبنى بنو مرداس لمّا ملكوها فإن معز الدولة أباعُلوان ثِمال بن مرداس بنى بها أبرجةً بعد سنة عشرين وأربعمائة وبقيت إلى أن خربت بأيدي التتر. وكذلك غيرهم من الملوك الّذين أسماؤهم مكتوبة عليها مثل قسيم الدلة آق سُنْقُر وولده عماد الدين زنكي الأتابك.
وبنى نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي الأتابك فصيلًا على مواضع من باب الصغير إلى باب العراق ومن قلعة الشريف إلى باب قنّسرين إلى باب إنطاكية ومن باب الجنان إلى باب أربعين جعل ظلك سرًا ثانيًا قصيرًا بين يدي السور الكبير. وعّمر أسوار باب العراق وكان ابتداء العمارة في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة.
ولما ملك الملك الظاهر غياث الدين غازي حلب أمر بإنشاء سور من باب الجنان إلى برج الثعابين وفتح الباب المستجدّ وأمر أيضًا بحفر الخنادق وذلك في سنة اثنين وتسعين وخمسمائة. وفي هذه السنة أمر برفع الفصيل الذي بناه نور الدين وجدّد السور والأبرجة وجعلها على علوّ السور الأول.
ولمّا عزم على بناء الأبرجة عين لكلّ أمير من أمرائه برجًا يتولى عمارته إلى أن انتهت وكتب كلّ أمير اسمه على برجه.
وبنى أبرجةً من باب الجنان إلى باب النصر وبنى سورًا من ش رقي البلد على دار العدل وفتح له بابًا من جهة الشرق والشمال على حافة الخندق يُسمى الباب الصغير وكان يخرج منها إذا ركب.
وبنى دار العدل لجلوسسه العامّ بين السورَيْن الجديد الّذي جدده إلى جانب الميدان والسور العتيق الّذي بناه نور الدين وكان الشروع في بنائها في سنة خمس وثمانين وخمسمائة.
واهتم الملك الظاهر أيضًا بتحرير خْندق الروم وسُمي بخندق الروم لأن الروم لما حفروه لمّا نازلوا حلب أيّام سيف الدولة بن حمدان وهو من قلعة الشريف إلى الباب الّذي يُخْرَج منه إلى المقام ويُعرَف بباب نفيس. ثم يستمر خندق الروم من ذلك من ذلك الباب المذكور شرقًا إلى باب النَيْرَب ثمَ يأخذ شمالًا إلى أن يصل باب القناة خارج باب أربعين ثمّ يأخذ غربًا من شماليّ الجُبَيل إلى أن يتَصل بخندق المدينة. وأمر الملك الظاهر برفع التراب وإلقائه على شفير هذا الخندق ممّا يلي المدينة فارتفع ذلك المكان وعلا وسُفّح إلى الخندق وبُني عليه سور من اللبن في أيام الملك العزيز محمّد بن الملك الظاهر رحمهما تع.
وبنى الأتابك شهاب الدين طُغريل برجًا عظيمًا فيما بين باب النصر وبرج الثعابين مقابل أتونات الكلس ومقالر اليهود من شماليّ حلب وذلك بعد العشرين وستمائة وأمر الأتابك طُغريل المذكور الحجّارين بقطع الأحجار من الحّوارة من خندق الروم قصدًا في توسعته فعمق واتّسع وازداد البلد به حصانةً.
1 / 7
وأمّا قلعة الشريف فلم تكن قلعةً بل كان السور محيطًا بالمدينة وهي مبنيّة على الجبل الملاصق للمدينة وسورها دائر مع سور المدينة على ما هي عليه الآن. وكان الشريف أبو الحسن هبة الله الحُتَيتي الهاشمي مقدّم الأجداث بحلب وهو رئيس المدينة فتمكّن وقويت يده وسلّم المدينة لأبي المكارم مسلم ابن قريش. فلما قُتل مسلم انفرد بولاية المدينة وسالم بن الملك العُقَيْلي بالقلعة الّتي بحلب فبنى الشريف فلعته هذه في سنة ثمان وسبعين وأربعمائة خوفً إلى نفسه من أهل حلب لئلا يقتلوه واقتطعها عن المدينة وبنى بينها وبين المدينة سورًا واحتفر خَندقًا آثاره باقية إلى الآن. ولما ملك شمس الملوك ألب أرسلان حلب جرى على قاعدة أبيه في أمر الإسماعيلية لأنه قد بنى لهم بحلب دار دعوه فطلبوا منه أن يعطيهم هذه القلعة فأجابهم إلى ذلك فقبّح عليه القاضي أبو الحسن بن الخشّاب فعله فأخرجهم منها بعد أن قتل منهم ثلاثمائة نفس وأسر مائتين وطيف برؤوسهم في البلد وذلك في سنة ثمان وخمسمائة. ثم خرب السور بعد ذلك لما ملك حلب إبغازي بن أُتُق وذلك في سنة عشرة وخمسمائة.
وجدّد الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن الملك العزيز محمد بن الملك الظاهر غياث الدين غازي بن يوسف بن أيّوب بسور حلب أبرجةً كلّ واحد منها يضاهي قلعةً وذلك في سنة اثنين وأربعين وستُمائة وسبب بنائه لها أنّ التتر لمّا نازلوا حلب وناوشوا أهلها ثمّ رحلوا عنها من غير حصول غرض أخذ في الاستعداد وتحصين البلد. فكانت الأبرجة من باب أربعين إلى باب قنّسرين وذلك من شماليّ حلب إلى قبليّها عدّتخا نيّف وعشرون برجًا ارتفاع كلّ برج فوق الأربعين ذراعًا وسعته ما بين الأربعين إلى الخمسين وكلّ برح له رواقات تستر المقاتل من حجارة والمجانيق والنشّاب وكان السور يشتمل على مائة وثمانية وعشرين ذراعًا وسور القلعة ألف وخمسمائة وخمسة وعشرون ذراعًا وعدّة أبرجها تسعة وأربعون برجًا وأبدانها ثمان وأربعون بدنةَ.
الميدان الأخضر طوله سبعمائة وخمسون ذراعًا وعرضه من القبلة خمسون ذراعًا ومن الشمال سبعون ذراعًا. ميدان باب قنّسرين طوله ألف ومائة وخمسون ذراعًا. ميدان باب العراق طوله خمسمائة وعشرون ذراعًا وعرضه من القبلة خمسة وثمانون ذراعًا ومن الشمال مائة وخمسون ذراعًا.
الباب الخامس في
ذكر عدد أبوابها
فأوّلها ممّا يلي القبلة باب قِنّسرين وسُمّي بذلك لأنّه يُخرج منه إلى جهة قنّسرين ويمكن أن يكون من بناء سيف الدولة لأنّه كان إلى جانبه برج عليه اسمه ثمّ جدّده الملك الناصر يوسف بن الملك العزيز محمّد بن الملك الظاهر غازي بن يوسف بن أيّوب في سنة أربع وخمسين وستّمائة. ونقل إلى بنائه الحجارة من الناعورة من برج كان بها من أبرجة القصر الذي بناه سليمان بن عبد الملك فيها ونقل إليه باب الرافقة وهذا الباب كان أوّلًا على سور عمّورية. فلمّا فتحها المعتصم في سنة ثلاث وعشرين ومائتين نقله إلى سرّ من رأى لمّا شرع في بنائها سنة إحدى وعشرين ثم نُقل من سرّ من رأى لمّا خربت إلى الرقّة وبُني على هذا الباب أبرجة محصنة كالقلاع المرّجلة وعُمل فيها طواحين وأفران وجبات للزيت وصهاريج للماء وحُمل إليها السلاح.
ومن عجائب الاتفاقات ما حكاه لي القاضيان الأجلاّن قاضي القضاة كمال الدين أبو بكر أحمد بن قاضي القضاة أبي محمّد عبد الله بن الشيخ الحافظ عبد الرحمان الأسدّي المعروف بابن الأستا وقاضي القضاة مجد الدين عبد الرحمان ابن الصاحب كمال الدين أبي القاسم عمر بن أحمد بن هبة الله بن أبي جرادة المعروف بابن العديم قالا: قصدنا في بعض الأيام زيارة الشيخ الصالح العابد الزاهد العالم العامل شرف الدين أبا عبد الله محمّد بن موسى الحورانيّ بظاهر حلب. فاتّفق عند اجتماعنا به وصول باب الرقة ليُركَّب على باب قنسرين فأجرينا ذكره فقال لنا يوم فروغ هذا الباب: ينزل على المدينة من يأخذها ويخرب هذا الباب وسائر البلد. فجرى الأمر على ما ذكر. ولمّا استولت التتر على حلب كان أوّل ما خرِب منها. ثمّ لمّا أخرجت التتر عنها وملكها الملك الظاهر أبو الفتح بيبرس نُقض حديده المصفّح به ومساميره وحّمل إلى دمشق ومصر.
1 / 8
ثمّ يتلو هذا الباب المصفّح من جهة الشرق باب العراق وسُمّي بذلك لأنّه يُخرج منه إلى ناحية العراق وهو باب قديم مكتوب على بعض أبرحته: " أبو عُلوان ثِمال لن صالح بن مرداس " وكان ثمال بحلب بعد العشرين وأربعمائة. وبين يدي هذا الباب ميدان أنشأه الملك العادل نور الدين محمود بن عماد الدين زنكي في سنة ثلاث وخمسين وخمسمائة وله بابان.
وويلي هذا الباب شرقًا باب دار العدل كان لا يركب منه إلاّ الملك الظاهر غياث الدين غازي وهو الذي بناه.
ويلي هذا الباب شرقًا أيضًا الباب الصغير وهو الباب الذي يُخْرج منه من تحت القلعة من جانب خندقها وخانقاه القصر إلى دار العدل ومن خارجه البابان اللذان جدّدهما الملك الظاهر غازي في السور الّذي جدّده على دار العدل أحدهما يُدعى الباب الصغير أيضًا يفتح على شفير الخندق ويُخرَج منه إلى الميدان المقدّم ذكره والآخر مغلق.
ويلي الباب الصغير الأول باب أربعين وكان قد سُد ثمّ فُتح وله بابان واختُلف في تسميته بهذا الاسم فقيل إنّه خرج منه مرّةً أربعون ألفًا فلم يعودوا فسُمّي بذلك وقيل إنّما سمّي بذلك وقيل إنّما سُمي لأنه كان بالمسجد الّذي داخله أربعون من العبّاد وقيل أربعون محدّثًا وقيل كان به أربعون شريفًا وإلى جانبه أعلى المسجد للأشراف مقبرة.
وهذه الثلاثة أبواب أعني باب العراق والباب الصغير وباب أربعين كان الملك الظاهر غياث الدين غازي قد سفّح بين يدَيْها تلًا من التراب الّذي أخرجه من خندق الروم سمّاه التواثير يحيط بها من شرقيّ قلعة الشريف إلى باب القناة وفتح فيه ثلاثة أبواب ولم يتمّها فأتمها ولده الملك العزيز محمّد وسُمي القبليّ منها باب المقام ويُعرَف الآن بباب نفيس " وهو " رجل كان به إسباسلاّرًا.
ويلي هذا الباب شرقًا باب سمي باب النَيْرَب لأنه يُخرج منه إلى قرية تُسمى بهذا الاسم.
ويلي هذا الباب باب القناة وسُمي بهذا الاسم لأنّ القناة الّتي ساقها الملك الظاهر من حَيْلان إلى المدينة تعبر منه.
ويلي باب أربعين المقدّم ذكره من جهة الشمال باب النصر وكان يُعرَف قديمًا بباب اليهود لأن اليهود تجاوره بدورهم ومنه يخرجون إلى مقابرهم فاستقبح الملك الظاهر وقوع هذا الاسم عليه فسمّاه باب النصر وجعل عليه أربعة أبواب لكل بابين دركاه يُسلَك من إحداهما إلى الأخرى في حنيّه معقودة وبنى عليه أبراجًا محكمة البناء ويُخرج منه على جسر معقود على الخندق وإلى فنادق أمر بإنشائها تُباع فيها الغلاّت كان في مكانها تلال من التراب والرماد.
ويلي هذا الباب باب الفراديس وهو من غربيّ البلد أنشأه الملك الظاهر غياث الدين غازي وبنى عليه أبرجةً عاليةً حصينةً بعد وفاته ولم يزل مسدودًا إلى أن فتحه الملك الناصر ابن ابنه.
ويلي هذا الباب باب الجنان وسُمي بذلك لكونه يُخرَج منه إلى البساتين وله بابان.
ويلي هذا الباب باب إنطاكية وسُمي بذلك لكونه يُخرَج منه إلى جهة إنطاكية وهذا الباب كان قد خربه نقفور لمّا استولى على حلب في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة ثم لمّ عاد إليها سيف الدولة بناه ولم يزل على ما أنشأه إلى أن هدّه الملك الناصر صلاح الدين يوسف وبناه وكان ابتداء عمارته في سنة ثلاث وأربعين وستمائة. وتمّ في سنة خمس وأربعين وبُني عليه برجان عظيمان وعُمل له دركاه وحنايا " ينفذ " بعضها على بعض وله بابان.
ويلي هذا الباب باب السعادة يُخرَج منه إلى ميدان الحصى أنشأه الملك الناصر في سنة خمس وأربعين وبُني عليه أبرجة وله دركاه وبابان. ومن هذا الباب إلى قنسرين. وكان بحلب من الأبواب قديمًا باب يُسمى باب الفرج وهو إلى جانب حمّام القصر المشهور أخربه الملك الظاهر ودرست معالمه وباب على الجسر الّذي على نهر قُرَيْق خارج باب إنطاكية كان من بناء سيما الطويل وسمّاه باب السلامة دثرت معالمه وكانت الروم خربته أيّام سيف الدولة بن حمدان وسنذكره في ذكر المباني القديمة الّتي بحلب.
الباب السادس في
ذكر بناء القلعة الّتي بحلب والقصور القديمة
1 / 9
اعلم أنّ القلعة الّتي قد قيل إنّ أوّل من بناها ميخائيل وقيل سَلُقوس الّذي بنى مدينة حلب وهي على جبل مشرف على المدينة وعليها سور وكان عليها قديمًا بابان أحدهما دون الآخر من حديد وفي وسطها بئر قد حُفر يُنزَل فيه بمائة وخمسة وعشرين مرقاةً قد هُندمت تحت الأرض وجُرفت جروفًا وصُيّرت آزاجًا ينفذ بعضها إلى بعض إلى ذلك الماء وكان فيها دير للنصارى وكانت به امرأة قد سُدّت عليها الباب منذ سبع عشرة سنةً. ثمّ ينحدر السور من جانبَيْ هذه القلعة إلى المدينة.
وقيل لمّا ملك كسرى حلب وبنى سورها كما قدّمنا بنى في القلعة مواضع ولمّا فتح أبو عُبَيْدة مدينة حلب كانت قلعتها مرمَّمة الأسوار بسبب زلزلة كانت أصابتها قبل الفتوح فأخرجت أسوارها البلد وقلعتها ولم يكن ترميمًا محكمًا فنُقض بعض ذلك وبناه وكذلك لبني أميّة ولبني العبّاس فيها آثار. ولمّا استولى نقفور ملك الروم على حلب في إحدى وخمسين وثلاثمائة كما قدّمنا امتنعت القلعة عليه وكان جماعة من العلويّين والهاشميّين قد اعتصموا بها منه فحمتهم ولم يكن لها حينئذ سور عامر لأنّها كانت قد تهدّمت فكانوا يتّقون سهام العدوّ بالأكُفّ والبرذاع. وزحف نقفور عليها فأُلقي على ابن أخته حجر فمات فلمّا رأى نقفور ذلك طلب الصلح فصالحه من كان فيها.
ومن حينئذ اهتّم الملوك بعمارة القلعة وتحصينها فبنى سيف الدولة منها مواضع لمّا بنى سور حلب. ولمّا ولي ابنه سعد الدولة بنى شيئًا آخر وسكنها وذلك لمّا أتمّ ما بناه والده سيف الدولة من الأسوار وكذلك بنى بها بنو مرداس دورًا وجدّدوا سورها. وكذلك من بعدهم من الملوك إلى أن وليها عماد الدين آق سُنْقُر وولده عماد الدين زنكي فحصّناها وأثّرا بها آثارًا حسنةً. وبنى فيها طُغْدَكين برجًا من قبليّها ومخزنًا للذخائر عليه اسمه مكتوب وبنى فيها نور الدين بن عماد الدين زنكي أبنيةً كثيرةً وعمل ميدانًا وخضّره بالحشيش وسُمّي الميدان الأخضر. وكذلك بنى بها ولده الملك الصالح باشورةً كانت قديمةً فجدّدها وكتب عليها اسمه ولم تزل في زيادة عمارة إلى أن ملكها الملك الناصر صلاح الدين يوسف بن أيّوب وأعطاها لأخيه الملك العادل سيف الدين أبي بكر فبنى بها برجًا ودارًا لولده فلك الدين وتُعرَف الآن به.
ولمّا ملك الملك الظاهر غياث الدين غازي حصّنها وحسّنها وبنى بها مصنعًا كبيرًا للماء والمخازن للغلاّت وهدم الباشورة الّتي كانت بها وسفّح وتلّ القلعة وبناه بالحجر الهرقليّ وأعلا بابها إلى مكانه الآن وكان الباب أوّلًا قريبًا من أرض البلد متّصلًا بالباشورة فوقع في سنة ستّمائة وقُتل تحته خلق كثير ومن جملة من مات تحته الأستاذ ثابت بن شقويق الّذي بنى الحائط القبليّ بجامع حلب الّذي في المحراب الأصغر. وعمل الملك الظاهر لهذا الباب جسرًا ممتدًّا منه إلى البلد وبنى على الباب برجَيْن لم يُبْنَ مثلهما قطّ وعمل للقلعة خمس دركاوات بآزاج معقودة وحنايا منضودة وجعل لها ثلاثة أبواب حديد ولكلّ باب منها إسباسلاّر ونقيب وبنى فيها أماكن يجلس بها الجند وأرباب الدولة وكان معلّقًا بها آلات الحرب وفتح في سور القلعة بابًا يُسمّى باب الجبل شرقيّ باب القلعة وعمل له دركاه ولا يفتَح إلاّ له إذا نزل دار العدل. وهذا الأب وما قبله انتهت العمارة فيهما في إحدى عشرة وستّمائة.
1 / 10
وفي سنة عشرة وستّمائة في الرابع والعشرين من رمضان مُهّدت أرض الخندق الملاصق للقلعة فوُجد فيها تسع عشرة لبنةً ذهبًا إبريزًا كان وزنها سبعة وتسعين رطلًا بالحلبيّ والرطل سبعمائة وعشرون درهمًا وبنى فيها ساتورةً للماء محكمةً بدَرج إلى العين يمير بها سائر منازلها وبنى ممشى من شماليّ القلعة إلى باب أربعين وهو طريق بآزاج معقودة لا تُسلَك إلا في الضرورة وكأنّه باب سرّ وزاد في حفر خندق القلعة وأجرى فيه الماء الكثير وأحرق في شفير الخندق ممّا يلي البلد مغائر أعدّها لسكنى الأسارى يكون في كلّ مغارة مقدار خمسين بيتًا وأكثر وبنى فيها دارًا تُعرَف بدار العزّ وكان في موضعها دار للملك العادل نور الدين محمود بن زنكي تُسمّى دار الذهب ودار تُعرَف بدار العواميد ودار الملك رضوان فحازت كلّ معنى غريب وفنّ عجيب. وفيها يقول الرشيد عبد الرحمان بن النابلسيّ من قصيدة مدحه بها في سنة تسع وثمانين وخمسمائة وأنشده إيّاها. فيها:
دارٌ حَكَتْ دارِينَ في طِيبٍ وَلا ... عِطْرٌ بِساحَتِها وَلا عَطَّارُ
رُفِعَتْ سَماءُ عِمادِها فَكَأَنَّها ... قُطْبٌ عَلى فَلَكِ السُعُودِ تُدارُ
وَزَهَتْ رِياضُ نُقُشِها وبَنَفْسَجٌ ... غَضٌّ وَوَرْدٌ يانِعٌ وَبَهارُ
نُورٌ مِنَ الأصْباغِ مُبْتَهِجٌ وَلا ... نُورٌ وَأزْهارٌ وَلا إزْهارُ
ما أيْنَعَتْ مِنْها الصُخُورُ وَأَوْرَقَتْ ... إلاّ وَفيها مِنْ نَداكَ بِحارُ
وَضَحَتْ مَحاسِنُها فَفي غَسَقِ الدُجى ... يُلفى لِصُبْحِ جَبِينِها إِسْفارُ
منها:
فَتَقَرُّ عَيْنُ الشَمْسِ أَنْ يَضْحَى لَها ... بِفِنائِها مُسْتَوْطَنٌ وَقَرارُ
تَرِبَتْ يَدٌ رَفَّت بِها خَيْلًا لَها ... في غَيْرِ مُعْتَرَكِ الوَغَى إِحْضارُ
وَفَوارِسًا شَبَّت لَظَى حَرْبٍ وَما ... دُعِيَتْ نَزالِ وَلَمْ يُشَنَّ مَغارُ
منها:
صُوَرٌ تَرَى لَيْثَ العَرِينِ تِجاهَهُ ... مِنْها وَلا يَخْشَى سَطاهُ صُوارُ
سِلْمٌ إِلى الحَرْبِ القَدِيمِ فآنِسٌ ... بِعَدُوّهِ مَنْ طالَ مِنْهُ نِفارُ
وَمُوَسِّدِينَ عَلى أَسِرَّةِ مُلْكِهِمْ ... سُكْرًا وَلا خَمْرٌ وَلا خَمّارُ
لا يَأتَلي شَدْوُ القِيانِ رَواجِعًا ... فِيهِ وَلا نَغْمٌ وَلا أَوْتارُ
هَذا يُعانِقُ عُودَهُ طَرَبًَا وَذا ... دَأْبًا يَقَبِّلُ ثَغْرَهُ المِزْمارُ
وهي طويلة جدًا فإنّه خرج من هذا إلى ذكر البركة والفوّارة والرخام ثمّ إلى مدح الملك الظاهر فاقتصرتُ منها على ما يُعلَم منه حسن هذه الدار.
وبنى حولها بيوتًا وحجرًا وحمّامات وبستانًا كبيرًا في صدر إيوانها فيه أنواع الأزهار وأصناف الأشجار وبنى على بابها أزجًا يُسْلَك فيه إلى الدركاوات الّتي قدّمنا ذكرها وبنى على بابها أماكن لكتّاب الدرج وكتّاب الجيش.
ولمّا تزوّج في سنة تسع وستّمائة بضَيْفه خاتون ابنة عمّه الملك العادل الّتي حكمت في حلب بعد وفاته وأسكنها بها وقعت نار عقيب العرس فاحترقت وجميع ما كان فيها من الفرش والمصاغ والآلات والأواني واحترقت معها الزردخاناه وكان الحريق في حادي عشر جمادى الأولى من سنة تسع. قمّ جدّد عمارتها وسمّاها دار الشخوص لكثرة ما كان منها في زخرفتها سعتها أربعون ذراعًا في مثلها.
وفي أيام الملك العزيز محمّد بن الملك الظاهر الغازي وقعت من القلعة عشرة أبراج من أبدانها وذلك في سنة اثنتين وعشرين وستّمائة ووافق ذلك زمان البرد وكان تقدير ما وقع خمسمائة ذراع وهو المكان المجاور لدار العدل ووقع بعض الجسر الّذي بناه الملك الظاهر. فاهتمّ الأتابك شهاب الدين طُغْريل بعمارتها فجمع الصنّاع واستشارهم فأشارهم أن يبني من أسفل الخندق على الجبل ويُصعَد بالبناء فإنّها متى لم تُبنَ على ما وصفنا وقع ما يُبنى عاجلًا وطرأ فيها ما طرأ الآن وإن قصدها عدوّ لم يمنعه فرأى الأتابك أنّ ذلك يحتاج إلى مال كثير ومدّة طويلة فعدل عن هذا الرأي وقطع أشجار الزيتون والتوت وترك الأساس والتراب وبنى. ولهذا لمّا نزلتها التتر لم يتمكّنوا من أخذها إلاّ من هذا المكان لتمكّن النقّابين منه.
1 / 11
وفي سنة ثمان وعشرين بنى فيها الملك العزيز دارًا إلى جانب الزردخاناه يستغرق وصفها الإطناب ويقصر عنه الإسهاب مساحتها ثلاثون ذراعًا في مثلها. ولما تسلم التتر القلعة في تاسع شهر ربيع الأوّل سنة ثمان وخمسين وستمائة عمدوا إلى خراب سورها وأحرقوا ما كان بها من الذخائر وازردخاناه والمجانيق ولمّا هزم الملك المظفر التتر على عين جالوت وهرب من كان منهم في حلب ثمّ عادوا إليها مرةً ثانية بعد مقتل الملك المظفر فرأوا في القلعة برجًا قد بُني للحمام بأمر الملك المظفّر قُطُز فأنكروا عليهم " بناءه " وأخربوا القلعة خرابًا شنيعًا وما فيها من الدور والخزائن ولم يبقوا فيها مكانًا للسكنى وذلك في المحرّم سنة تسع وخمسين وبقي الآن سور " القلعة " القديمة يقال فيه قفل خربة.
فصل في ذكر القصور
كانت ملوك حلب تنزل هذه القصور أوّلًا وتسكنها دون القلعة.
منها قصر أنشأه مَسْلَمة بن عبد الملك بالناعور في سنة تسعين من الهجرة كان نازلًا به لمّا كان متوليًا حلب من قِبَل أخيه الوليد ثمّ خرِب ولحقتُ منه برجًا وأثر أبراج وقد تقدّم لنا أنّه بُني بحجارته باب قنّسرين.
ومنها قصر بناه سليمان بن عبد الملك بالحاضر في أيّام ولايته وكان بناؤه في غاية الحسن والزخرفة وإليه يُنسَب الحاضر السليمانيّ.
ولمّا ملك بنو العبّاس أمر السفّاح عبد الله بن محمّد بن علي بإخرابه فخربه.
وبنى عمر بن بن عبد العزيز بخُناصرة من الحَصّ قصرًا كان كثيرًا ما ينزل به.
ومنها قصر بناه صالح بن عليّ بن عبّاس بقرية بِطياس وكان أكثر مقامه به ومنه آثار باقية إلى الآن.
ومنها قصر بناه أولاد صالح يُعرَف بالدارَيْن خارج باب إنطاكية في وسطه قنطرة على نهر قُوَيْق كان عبد الملك بن صالح بناه وبنى حوله ربضًا ولم يتم فأتمّه سيما الطويل لمّا ولي حلب ورمّ ما كان استهدم من القصر وصيّر عليه باب حديد أخذه من قصر لبعض الهاشمييّن بحلب يُسمى قصر البنات. قلتُ: والقصر كان في الدرب المعروف بدرب البنات بحلب. وبشرقيّ الداريّن بستان يُعرف ببستان الدار من شماليّ باب قنّسرين وهو الآن وقف على المدرسة النوريّة الشافعية وهو منسوب إلى أحد الدارَيْن والدار الأخرى المشار إليها أنشأها أيضًا سيما الطويل فلأجل ذلك تُعرف هذه المحلّة بالدارين.
ومنها قصر بناه مرتضى الدولة داخل باب الجنان ومرتضى الدولة هذا هو أبو نصر منصور بن لؤلؤ أحد موالي بني حمدان وكان هذا القصر قد تداعى وخرب وبُني مكانه دور صغار للعامة. فلمّا كانت أيّام العزيز اشترى هذه الأماكن الأمير عَلَم الدين قيصر الظاهري وهدمها وبنى فيها قيساريّةَ وصهاريج للزيت وحوانيت ثمّ انتقلت بعده إلى ورثته ثمّ انتقل بعضها منها إلى مُلك ملك الأمراء بدر الدين الخزندار الظاهريّ في سنة اثنين وسبعين وستمائة.
ومنها قصر بناه سيف الدولة بن حمدان بالحلبة عظيمًا وأجرى إليه نهر قُوَيْق وأطافه به. فلمّا حاصر حلب استولى إلى ما فيه وهدمه وسيأتي ذلك مستوفي في أمراء حلب تحتلّ بهذه القصور إلى أتّام بني مِرْداس فإنهم أوّل من نزلوا القلعة وسكنوها وجعلوها سنَّة لمن أتى بعدهم من الملوك.
الباب السابع في
ذكر ما ورد في فضل حلب
1 / 12
قال القاضي بهاء الدين المعروف بابن شدّاد فيما أجازني به من المنقول عن رسول الله ﷺ إنه قال: لا تقوم الساعة حتّى تنزل الروم بالأعماق وبدابق فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ. فيكون وجه الاستدلال بهذا الحديث على فضل حلب قوله عم: تنزل الروم بالأعماق وبدابق فيخرج إليهم من المدينة من خيار أهل الأرض ذكره بحرف الفاء. وإنّها للتعقيب. والمدينة المذكورة التي يخرج منها الجيش هي حلب لأنها أقرب المدن إلى دابق إذ ليس في تلك الناحية ما يطلق عليه اسم المدينة على الإطلاق غير حلب لا على يثرب كما في قوله تعالى:) وَجاءَ منْ أقْصَى المدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى (وفي قوله تعالى:) وَأَمّا الجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتيمَنِ في اَلمدِينَةِ (حيث انصرف الإطلاق إلى المدينة الّتي يُفْهَم إرادتها عند الإطلاق. قلتُ: ورد في الحديث عن النبيّ ﷺ أنّه لمّا همّ بالهجرة من مكّة دعا الله. فقال: " اللهم إن قومي يُخرِجوني من أحب البقاع إليّ فانقلني إلى أحب البقاع إليك " أو ما في معنى ذلك. فنزل عليه جبرائيل عم وقال له::إن الله تع يخبرك أن تهاجر إلى يثرب أو إلى البحرَيْن أو إلى قنّسرين " وهذا غاية الشرف لحلب. الحديث منقول من المشارق للصغانيّ بل في المصابيح. وممّا رواه فخر الدين أبو منصور ابن عساكر من تأريخ عّمه الحافظ أبي القاسم عن معاذ رصه قال: الأرض المقدسة ما بين العريش إلى الفرات وقد جاء أنّ الرعد والبرق يهاجران إلى مهاجر إبراهيم عم لا يبقى قطرة إلا فيما بين العريش إلى الفرات. وقد تقدّم لنا أحاديث كثيرة في فضل الشام بأسره وإذا اعتبرنا الحال في حلب وجدناها منه الواسطة من العقد والقلب من الصدر والإنسان من العين.
الباب الثامن في
ذكر مسجدها الجامع وما بظاهرها من الجوامع
كان موضع الجامع بستانًا للكنيسة العظمى في أيام الروم وكانت هذه الكنيسة تُنسَب إلى قسطنطين باني القسطنطينية وسنذكر أمرها في ما يأتي عند ذكرنا للمدارس ولما فتح المسلمون حلب صالوا أهلها على موضع المسجد الجامع.
وأخبرني بهاء الدين أبو محمّد الحسن بن إبراهيم بن سعيد بن الخشّاب الحلبيّ قال: أخبرني الشريف أبو جعفر الهاشميّ بسند يرفعه إلى أجداده من بني صالح أنّ الجهة الشمالية من الجامع كانت مقبرةً للكنيسة المذكورة.
وأخبر بهاء الدين أيضًا فيما حكاه عنه كمال الدين بن العديم في كتابه قال: قال الفضل بن الإكليلي الحلبي المنجّم إنّ المصنع الّذي في وسط المسجد الجامع لمّل بُني وجدوا في حفيره صورة أسد من الحجر وقد وُضع مستقبلًا بوجهه القبلة.
وقال كمال الدين: سمعتُ عن القاضي شمس الدين أبي عبد الله محمّد بن يوسف ابن الخضر قال: كان جامع حلب يضاهي جامع دمشق في الزخرفة والرخام والفسيفساء.
وبلغني أن سليمان بن عبد الملك هو الذي بناه وتأنّق في بنائه ليضاهي به ما عمله أخوه الوليد في جامع دمشق. وقيل إنّه من بناء الوليد وإنه نفل إليه آلة كنيسة قورص وكانت هذه الكنيسة من عجائب الدنيا. ويقال إن ملك الروم بذل في ثلاثة أعمدة كانت فيها سبعين ألف دينار فلم يسمح الوليد لهم بها.
ويقال إن بني العبّاس نقلوا ما كان فيه من الرخام والآلات إلى جامع الأنبار لمّا نقضوا آثار بني أميّة من بلاد الشام وعفّوها ولم يزل على هذه الصفة إلى أن دخل نقفور حلب في سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة فأحرقه. ولمّا عاد سيف الدولة إلى حلب رمّ بعض ما تهدّم من الجامع ولمّا مات سيف الدولة وتولى ولده أبو المعالي سعد الدولة شريف بنى فيه. وبنى فيه قرغويه مولى سيف الدولة قبّة الفوّارة في وسطه وطول عمودها سبعة أشبار. وفي هذه القبة جرن رخام أبيض في غاية الكبر والحسن يقال إنه كان مذبحًا لبعض الكنائس التي كانت بحلب وفي دور حافة الجرن مكتوب: " هذا ما أمر به قَرغوية غلام سيف الدولة بن حمدان في سنة أربع وخمسين وثلاثمائة ". وبنى فيه الجهة الشرقيّة القضاة بنوا عمّار الذين كانوا أصحاب أطرابلس الشام.
1 / 13
فلمّا كانت ليلة الأربعاء السابع والعشرين من شوّال سنة أربع وستّين وخمسمائة في أيام الملك العادل نور الدين محمد بت زنكي أحرقته الإسماعيلية وأحرقت الأسواق فبناه نور الدين واجتهد في عمارته فقطع له العمد الصفر من بُعادين ونقل إليه عمدًا من قنّسرين لأنّ العمد الّتي كانت فيه تفطّرت من النار. وكان النصف القبليّ من الشرقيّة الّتي في قبليّ الجامع الآن الملاصقة لسوق البرّ عن يمين الداخل من الباب القبليّ سوقًا موقوفًا على الجامع ولم يكن المسجد على التربيع. فأحب نور الدين محمود أن يضيف ذلك إلى الجامع فاستفتى في ذلك الفقيه علاء الدين أبا الفتح عبد الرحمان بن محمود الغَزْنَويّ فأتاه بجوازه فنقض السوق وأضافه إلى الجامع واتّسع المسجد وحسن في مرآة العين وشاهدتُ الفتوى بخطّ الغزنويّ. ووقف عليه وقوفًا كثيرةً.
ذكر الصهريج الّذي في الصحن
حكى كمال الدين ابن العديم في تأريخه أنّ والده وعّمه أبا غانم قالا: كان بعض السلف من أهل حلب وأعيانها قال والدي من الأجداد وقال عّمي من الأقارب متولّيًا أوقاف المسجد الجامع بحلب فجاءه إنسان لا يعرفه فطرق عليه الباب ليلًا ودفع إليه ألف دينار وقال: اصرف هذا في وجه بر ومعروف. فأخذها وأفكر في وجه برّ يصرف ذلك المال فيه فوقع له أن يصرفه في عمارة مصنع لخزن الماء من القناة فإن منابيع حلب ماؤها مالح وقد كان العدوّ يطرق مدينة حلب كثيرًا فإن قطع منها ماء قناة حَيلان تضرر أهلها تضررًا عظيمًا فرأى أن يعمل مصنعًا في صحن الجامع مدفونًا تحت أرضه وأن يوسعه بحيث أن يكون فيه ماء كثير فشرع في ذلك وحفر حفرةً عظيمةً واشترى الحجارة والكلس وعقد المصنع. وفرغ الذهب الّذي حمل إليه ولم يتمّ المصنع فضاق صدره وتقسّم فكرة الطريق الّذي يتوصل به إلى إتمام المصنع. فطرق عليه طارق في الليل فخرج إليه فوجد ذلك الإنسان بعينه فدفع إليه ألف دينار أخرى وقال: أتمم عملك بهذه. فأخذها وتمّم بها عمل ذلك المصنع فجاء في غاية السعة والركانة فيقال إنّه منذ عمل لم يُعرَف أنّه فرغ ماءه ويستعمل منه السقّاءون والناس.
قال: فجعل أهل حلب يطعنون على المولّي للوقف ويقولون: ضيع أموال الجامع. ويسعون فيه إلى صاحب حلب ويقولون: إنه أضاع مال الوقف وأنفق منه في عمارة مصنع جملةً وافرةً. فطالبه بحساب وقف الجامع فرفعه إليه فتأمل فلم يجد ذكر درهم واحدًا مماّ غرم المصنع. فقال له صاحب حلب: الغرامة التي غرمتَ على هذا المصنع ما أرى لها ذكرًا. فقال: والله ما غرمتُ من مال الجامع عليه شيئًا أصلًا وإنّما هذا ممّن قصد وجه الله تع بما فعل. وقصّ عليه القصَّة. وذكر غير والد الصاحب كمال الدين وغير عمّه أنّ صاحب الواقعة هو ابن الأيسر وأنّه كان يتولّى أوقاف المسجد الجامع يومئذ.
ذكر المنارة
أخبرني بهاء الدين أبو محمّد الحسن بن أبي الظاهر إبراهيم بن أبي البركات سعيد بن يحيى بن محمّد بن أحمد بن الحسن بن عيسى بن الخشّاب أنّ عنّ أبيه القاضي الإمام فخر الدين أبا الحسن محمّد بن يحيى أتمّ عمارة منارة المسجد الجامع بحلب في سنة اثنتين وثمانين وأربعمائة.
وحكى كمال الدين بن العديم في تأريخه قال: أنبأنا شيخنا العلاّمة أبو اليُمْن زيد بن الحسن الكنديّ عن أبي عبد الله محمّد بن عليّ العظيميّ قال في حوادث سنة اثنين وثمانين وأربعمائة: فيها أسّست منارة جامع حلب وعُمرت على يد القاضي أبي الحسن محمّد بن يحيى بن مجمّد بت الخشاب. وكان بحلب معبد للنار قديم العمارة وقد تحوّل إلى أن صار أتّون حمّام فاضطُرّ القاضي إلى أخذ حجارته لعمارة هذه المنارة. فوشى بعض حساد القاضي خبره إلى الأمير قسيم الدولة فاستحضره وقال: هدمت موضعًا وهولي وملكي. فقال: أيّها الأمير هذا معبد للنار وقد صار أتّونًا وقد أخذتُ حجارته عمّرتُ بها معًا للإسلام يذكَرُ الله عليها وحده لا شريك له وكتبتُ اسمك عليه وجعلتُ الثواب لك. فإن رسمتَ لي أن أغرم ثمنه لك " فعلتُ " ويكون الثواب لي. فأعجب الأمير كلامه واستصوب رأيه وقال: بل الثواب لي وافعل أنتَ ما تريد. وكتب ابن العديم في الحاشية أنّ الواشي أبو نصر بن النحّاس ناظر حلب.
1 / 14
وقرأت في تاريخ منتجب الدين يحيى بن أبي طيّ النجّار الحلبي قال: أُسست المنارة في زمان سابق بن محمود بن صالح على يد القاضي أبي الحسن ابن الخشّاب وكان الّذي عمّرها رجل من سَرْمين. وبلغ بأساسها الماء وعقد حجارتها بالكلاليب الحديد والرصاص وأتمها في أيّام قسيم الدولة آق سُنْقُر. وطول هذه المنارة إلى الدرابزين بذراع اليد سبعة وتسعون ذراعًا وعدد مراقيها مائه وستون درجةً.
وأخبرني زيت الدين عبد الملك بن عبد الله بن عبد الرحيم بن العجميّ الحليّ أنّ والده حكى له أنّه لمّا جاءت الزلزلة بمدينة حلب وهدمت أكثر دورها وأهلكت جماعةً من أهلها وكانت ليلة الاثنين ثامن عشر شوال سنة خمس وستين وخمسمائة حركت المنارة فدفعت هلالًا كان على رأسها مقدار ستمائة قدم وتشقّقت.
وهذا القاضي أبو الحسن كان جده القاضي عيسى الناقل إلى حلب من حصن الأكراد في أيّام سيف الدولة عليّ بن حمدان ولم يزل لأسلافه مكان عند الملوك المشارة إليهم في الدول ولم يتعلّق أحد منهم بولاية لأحد من ملوك حلب وكانت نفوسهم تأبى ذلك لشرفها وعزّتها. وهو الذي أنشأ مسجد جرن الأصفر وحمل إليه الجرن من مكان بعيد وبنى التربة الملاصقة لدور أهل بيته وهي من البناء العجيب لأنّها من الدور الهرقليّة وذلك في سنة ثمان وخمسمائة. ووقف عليها حقل الحمّام البيلونة وهذا موقف يصرف فيما رُتّب لها ومهما بقي يُصرَف في الفقراء من بيت بني الخشّاب. وكانت الفرنج تكثر قصد حلب فكان إبن الخشّاب أبو الحسن هذا يواسي ضعفاء المحاصرين بها ويقوم بهم من ماله وقُتل قريبًا من داره ليلًا سنة تسع عشرة وقام بالرئاسة بعده ولده أبو الحسن يحيى فسدّ مكانه وشيّد أركانه.
ومن أخبار لما توجه الأتابك عماد الدين زنكي لحصار قلعة شَهَرزُور ترك بحلب رئيسها صفي الدين عليّ البالسيّ وأمره أن يأخذ من أهلها ما لًا يصرفه في رجال تقاتل معه فاجتمعوا وقصدوا القاضي أبا الحسن وشكوا إليه ما نزل بهم واستغاثوا به فركب إلى الجامع في يوم الجمعة واحضر الرئيس وأنكر عليه فقال: أنا أعطي نصف ما ُطلب منهم وأَنت وسائر كبراء حلب النصف الباقي. فكتب صفيّ الدين إلى عماد الدين يُرفه بمنع القاضي له من استخلاص ما أمره به فأسرّها في نفسه ولم يُبْديها له فيما بعد. فلمّا قدم حلب ثّم أراد الخروج منها إلى الموصل أستصحب معه القاضي أبا الحسن بن الخشّاب ولما وصل إلى الموصل أنزله في دار أعدها له وأمر كبراء دولته بالتردّد إليه وزوّجه أحد سراريه فولدت له القاضي أبا الفضل المنعوت فخر الدين. فأقام بها إلى أن قُتل الأتابك على قلعة جعبر فعاد إلى حلب وبالغ الملك العادل في إكرامه لّما قدمها وترجّل للسلام عليه فترجل له الملك العادل نور الدين.
ذكر ما آل إليه أمر المسجد الجامع في عصرنا
ولمّا استولى التتر المخذولون على مدينة حلب يوم الأحد العاشر من صفر سنة ثمان وخمسين وستّمائة دخل إلى الجامع صاحب سيس وقتل به خلقًا كثيرًا وأحرق الحائط القبليّ منه وأخذ الحريق غربًا وقبلةً إلى المدرسة الحلاّويّة واحترق سوق البزّازين. فعرّف عماد الدين القَزْونِيّ ما اعتمده السيسيّون من الإحراق للجامع وإعفائهم كنائس النصارى هُولاكُو فأمر برفع ذلك وإطفاء النار وقتل السيسييّن فقُتل منهم خلق ولم يُقدَر على إطفاء النار فأرسل الله تع مطرًا عظيماٍ فأطفأه. ثمّ اعتنى نور الدين يوسف بن أبى بكر بن عبد الرحمان السلماسيّ الصوفيّ بتنظيف الجامع ودفن ما كان به من قتلى المسلين في جباب كانت للجامع للغلّة في شماليّه. ولمّا مات عزّ الدين أحمد أحد الكتبجية ومعناه الكاتب خرج عن ماله جميعه فقبضه أخوه وتصدّق ببعضه وعمّر حائط الّذي بُني وعقد الجملون على الحائط القبليّ والحائط الغربي من جهة الصحن وعمل له سقفًا متقنًا.
ذكر ما مُدح به هذا المسجد
ولأبي بكر الصَنَوْبَريّ قصيدة مدح بها حلب وذكر فيها المسجد الجامع وهي:
حَلَبٌ بَدْرُ دُجَي أَنْ ... جُمُها الزُهْرُ قُراها
حَبَذا جامِعُها الجا ... مِعُ لِلنَفْسِ تُقاها
مَوْطَنٌ يُرْسي ذَوو البِ ... رِّ بِمَرْساهُ حُباها
شَهَواتُ الطَرْفِ فِيهِ ... فَوْقَ ما كانَ اشْتهاها
قِبْلَةٌ كَرَّمَها الل ... هُ بِنُورٍ وَحَباها
1 / 15
وَرآها ذَهَبًا في ... لازَوَرْدٍ مَنْ رآها
وَمَراقي مِنْبَرٍ أَعْ ... ظَمُ شَيءٍ مَنْ رَقاها
وَسَوارٍ فاتَ إِذْ فا ... تَ مَدَى الطَرْفِ مَداها
وَذُرَى مِئْذَنَةٍ طا ... لَتْ ذُرَى النَجْمِ ذُراها
وَلِفَوّارَتِهِ ما ... لا يَراهُ لِسِواها
قَصْعَةٌ ما عَدَتِ الكَعْ ... بَ وَلا الكَعْبُ عَداها
أَبَدًا تَسْتَقبِلُ السُحْ ... بَ بِسُحْبٍ مِنْ حَشاها
فَهْيَ تَسْقِي الغَيْثَ إِنْ لَمْ ... يَسْقِها وَإِنْ سَقاها
كَنَّفَتْها قُبَّةٌ يَضْ ... حَكُ عَنْها كَنَفاها
قُبَّةٌ أَبْدَعُ باِني ... ها بِناءً إِذْ بَناها
ضاهَتِ الوَشْيَ نُقُوشًا ... فَحَكَتْهُ وَحَكاها
لَوْ رآها مُبْتَني قُبَّ ... ةِ كِسْرَى ما ابتَناها
" و" َ هَذا الجامِعُ سِرًّا ... يَتَباهى مَنْ تَباها
حَيّا السارِيَةَ الخَضْ ... رآءَ مِنْهُ حَيّياها
قُبْلَةُ المُسْتَشْرِفِ الأَعْ ... لَى إِذا قَابَلْتُماها
حَيْثُ يَأْتِي حَلْقَة الآ ... دابِ مِنًا مَنْ أَتاها
مِنْ رِجالاتِ حُبيً لَمْ ... يَحْلُلِ الجَهْلُ حُباها
مَنْ رآهُمْ مِنْ سَفِيهٍ ... باعَ بالجَهْلِ السَفاها
هذه السارية الخضراء كان يجتمع فيها المشتغلون بالأدب يقرءونه عندها وذهبت في الحريق وما زالت حلق الأدب لقراءة النحو واللغة معقودةً بجامع حلب وكذلك لقراءة القرآن العزيز وما فتئ على هذه الحالة وكان مسروق العابد يُقريء فيه الفقه على مذهب الإمام أبي حنيفة رضه وذلك قبل أن تُبنَى المدارس بحلب.
ذكر ما بظاهر حلب من الجوامع
الجامع الّذي بالحاضر السليمانيّ أنشأه أسد الدين شِيرْكُوه بن شادي بن مروان بن يعقوب صاحب حمصٍ ووسّع بناءه الأمير سيف الدين عليّ بن عَلَم الدين سليمان لن جَنْدر وبنى إلى جانبه مدرسةً وتربةً ودُفن بها تُقام به الخطبة.
وفي الرمادة جامع تُقام به الخطبة يُعرف بالبَخْتيّ.
وفي بانَقُوسًا جامع تُقام فيه الخطبة يُعرَف بعيسى الكردي الهكَّاريّ كان شحنة الشرطة بحلب.
ذكر جامع القلعة كنيستان إحداهما كانت قبل أن تُبنى مذبحًا لإبراهيم الخليل صلع وكان به صخرة يجلس عليها لحلب المواشي. ثمّ بُنِي مسجدًا جامعًا في أيّام بني مرداس وكان يُعرَف بمقام إبراهيم الأعلى وبه تُقام الخطبة وهو موضع مبارك يُزار. وذكر ابن بُطلان في بعض رسائله أنّه كان بقلعة حلب المذبح الّذي قرّب عليه إبراهيم الخليل صلع فغُيّر يعد ذلك مسجدًا في أيّام بني مرداس.
وذكر ابن العظيميّ في تأريخه قال: في سنة خمس وثلاثين وأربعمائة ظهر ببعلبكّ في حجر منقور رأس يحيى بن زكريّاء عم فنُقِل إلى حمص ثمّ نُقل إلى مدينة حلب في هذه السنة ودُفن بهذا المقام المذكور في جرن من الرخام الأبيض ووُضع في خزانة إلى جانب المحراب وأُغلقت ووُضع عليها ستر يصونها.
وذكر كمال الدين بن العديم في تأريخه أنّ الملك العادل نور الدين بن عماد الدين زنكي جدّد عمارته. ووفي سنة تسع وستّمائة في أيّام الملك الظاهر غياث الدين غازي احترق بنار وقعت فيه وكان به من الخيم والسلاح وآلات الحرب ولم يحترق الجرن ودفع الله سبحانه عنه النار وهذا يدلّ على أنّ الرأس التي أُضيفت إلى يحيى به لأنّ النار لم تصل إليه وحُمي منها. وذكر كمال الدين أيضًا أنّ أبا الحسن عليّ بن أبي بكر الهرويّ أخبره قال: بقلعة حلب في مقام إبراهيم صلع صندوق فيه قطعة من رأس يحيى بن زكريّاء عم ظهر في سنة خمس وثلاثين وأربعمائة.
وأمّا الكنيسة الأخرى فهي المقام الأسفل الّذي كان لإبراهيم الخليل عم وبه صخرة لطيفة تُزار. ويقال إنّ إبراهيم الخليل عم كان يجلس عليها أيضًا. ولم يُحقَّق من أَنشأ هذا المقام من ملوك الملّة الإسلاميّة والّذي تحقّق أنّ الملك العادل نور الدين محمود بن زنكي جدّده أيضًا وزخرفه وكان كثير الصلاة والتعبّد فيه وبُني به صهريج مرصَّص يملأ في كل سنة ووقف عليه وقفًا بظاهر حلب حصّةً في أرحاء بالغربيّة.
1 / 16
ولمّا تسلّم التتر قلعة حلب صلحًا على ما سيأتي ذكره في موضعه من هذا الكتاب فأخربوها أحرقوا الجامع المذكور مع أماكن أخر وذلك في تاسع ربيه الأوّل سنة ثمان وخمسين. ولمّا عادت التتر إلى حلب في المرّة الثانية وجدوا أهل حلب قد بنوا بالقلعة برجًا للحمام فأنكروا عليهم بناءه وأخربوا القلعة حتّى لم يُبقوا بها أثرًا وأحرقوا المقامَيْن حريقًا لا يمكن جبره وذلك في أحد الربيعَيْن من سنة تسع وخمسين وستّمائة.
ولمّا أُحرق المقام الّذي هو الجامع عمد سيف الدين أبو بكر بن إيلبا الشحنة بالقلعة المذكورة على الذخائر وشرف الدين أبو حامد بن النجيب الدمشقيّ الأصل الحلبيّ المولد إلى رأس يحيى بن زكريّاء عم فنقلاه من القلعة إلى المسجد الجامع بحلب فدفناه غربيّ المنبر وعُمل له مقصورة وهو يُزار.
وكان بهذه القلعة جرس كالتنّور العظيم معلّق على برج من أبراجها الّتي من غربيّها كانت الحرّاس تحرّكه ثلاث دفعات في الليل دفعة في أوّله الانقطاع الرجل عن السعي وأخرى في وسطه للبديل وأخرى في آخره للإعلام بالفجر وعُلّق هذا الجرس على القلعة في سنة ستّ وتسعين وأربعمائة والسبب في تعلقه ما حكاه منتجب الدين يحيى بن أبي طيء النجّار الحلبيّ في تأريخه أنّ الفرنج لمّا ملكوا أنطاكية في سنة إحدى وتسعين وأربعمائة طمعوا في بلاد حلب فخرجوا إليها وعاثوا في بلادها وملكوا معرّة النعمان وقتلوا من فيها فخافهم الملك رضوان بن تاج الدولة تُتُش لعجزه عن دفعهم عن البلاد ومنعهم فاضطُرّ إلى مصالحتهم فاقترحوا عليه أشياء كثيرةً من جملتها أن يحمل إليهم في كلّ سنه قطيعةً من مال وخيل وأن يتعلّق بقلعة حلب هذا الجرس ويضع صليبًا على منارة الجامع وقبّح عليه ذلك. فراجع الفرنج في أمر الصليب إلى أن أذنوا له في وضعه على الكنيسة العظمى التي بنتها هيلاني أمّ قسطنطين فلم يزل عليها إلى أن حاصرت الفرنج حلب ابن الخشّاب المذكور أربع كنائس وصيّرها مساجد من جملتها الكنيسة العظمى ورمى بالصليب.
وأمّا الجرس فإنّه لم يزل معلّقًا إلى أن ورد حلب الشيخ الصالح أبو عبد الله ابن حسّان المغربيّ فسمع حركة الجرس وهو مجتاز تحت القلعة فالتفت إلى من كان معه وقال: ما هذا الّذي قد سمعتُ من المنكر في بلدكم؟ هذا شعار الفرنج. فقيل له: هذه عادة البلدة من قديم الزمان. فازداد إنكاره وجعل أصبعَيْه في أذنَيْه وقعد إلى الأرض وقال: الله أكبر الله أكبر. وإذا بوجبة عظيمة قد وقعت في البلد فانجلت عن وقوع الجرس إلى الخندق وكسره وذلك في سنة سبع وثمانين وخمسمائة. فجُدّد بعد ذلك وعُلّق مرةً ثانيةً فانقطع لوقته وانكسر وبطل من ذلك اليوم.
قال كمال الدين أبو القاسم عمر المعروف بابن العديم في ترجمة هذا الرجل محمّد بن حسّان بن محمّد أبو عبد الله وأبو بكر المغربيّ الزاهد رجل فاضل مقرئ محدّث وليّ من أولياء الله تع: قدم حلب ونزل بدار الضيافة بالقرب من تحت القلعة وكان من الموسرين المتسوّلين ببلاد المغرب فترك ذلك جميعه وخرج على قدم التجريد وحجّ إلى بيت الله الحرام ثمّ قدم حلب ورحل منها إلى جبل لُبنان وساح فيه وقيل إنّه مات فيه ولم يُذكَر وقت وفاته ﵀.
الباب التاسع في
ذكر المزارات الّتي في باطن حلب وظاهرها
من ذلك مشهد بسوق الحدّادين يُعرَف بعليّ عم رُؤي في النوم يصلّي فيه مرارًا ويديم التردّد إليه وهو موضع يستجاب فيه الدعاء.
1 / 17
ومن ذلك أيضًا مسجد غَوْث. ذكر كمال الدين بن العديم في تأريخه قال: قال لي عليّ بن أبي بكر الهرويّ فيما ذكره من الزيارات بحلب: " وبها داخل باب العراق مسجد غَوْث به حجر عليه كتابة زعموا أنّها خطّ عليّ بن أبي طالب عم وله حكاية ". وهي أنّ أتابك زنكي لمّا أخذ الحديثة وعاد إلى الشام فأتفق أنّه مرّ في صفّين فاعترضته حمّى حادّة منعته القرار ثمّ زالت عنه في آخر الليل فنام فرأى في النوم كان عليًّا رضه يصف له دواء للحمّى ودلّه على حجر هناك فلمّا أصبح استعمل الصفة وسأل عن الحجر فدُلّ عليه وسأل عن قصّته. فذكروا أنّ عليًّا عم لمَّا نزل الرّقة شكا إليه أهلها ما يلقون من السباع وكثرتها فجاء إلى هذا الحجر وكتب عليه شيئًا ووضعه خارج الرقّة فأمر أتابك بحمل الحجر إلى مدينة حلب وكتب عليه شيئًا ووضعه خارج الرقّة فأمر أتابك بحمل الحجر إلى مدينة حلب فحُمِل على ناقة فلمّا وصلت به حلب أرادوا رفعه إلى القلعة فادخلوا الناقة من باب العراق وأخذوا بها في الطريق المعروف بالرمي فبركت قريبًا من رأسه فأثاروها فلم تقم فضربوها فعويت وامتنعت من القيام فطرحوا عنها الحجر فأمر الأتابك بعمارة مسجد هناك ووضع الحجر فيه في بيت في غربيّه وذلك في سنة ستّ وثلاثين وخمسمائة.
ومنها مسجد النور وهو بالقرب من باب قنّسرين في برج من أسوار حلب. ذكروا إِنّما سُمّي بذلك لأنّه رُؤي النور ينزل عليه مرارًا وكان ابن أبي نُمَيْر العابد يتعبّد فيه فاتّفق أنّ ملك الروم نزل على حلب محاصرًا لها في سنة إحدى وعشرين وأربعمائة واسمه أرمانوس فجاء الحلبيّون إلى أبن أبي نمير ومعهم ابن الخشّاب وكان مقيمًا في البرج المذكور وسألوه الدعاء. قال فسجد على ترس كان عنده وسأل الله تع دفع العدوّ عن حلب. فرأى ملك الروم أرمانوس المسيح عم مهدّدًا وهو يقول له: " تحاول أخذ هذه المدينة وفيها الساجد على الترس " فأشار إلى البرج الّذي هو فيه فلّما أصبح ملك الروم طلب من يخرج إليه فخرج إليه جماعة فأمرهم بالركوب وأوقفهم على ما أحدث في السور من النقوب الّتي أشرف بها على أخذه ثمّ قال لهم: إنّي راحل عنكم لا عن عجز لأنّ المسيح أمرني بذلك لأجل هذا الراهب الّذي في هذا البرج. وأشار إلى المكان الّذي فيه ابن أبي نُمَير ورحل عنها عن صلح قترّر بينه وبين أهلها ووقفتُ على هذه الحكاية في كتاب تأريخ حلب الصغير لكمال الدين فذكر أنّ اسم ابن أبي نُمير عبد الرزّاق بن عبد السلام وذكر عنه أنّه كان من الأولياء الزهّاد والمحدّثين العلماء وتوفيّ بحلب سنة خمس وعشرين وأربعمائة وقبره خارج باب قنّسرين. وذكر له أيضًا حكايةً مثل هذه مع الفرنج أيضًا في وقعة اشتدّ بهم الحصار في حلب باتوا على السور وفيهم ابن أبي نُمَيْر يصلّي على السور وسجد في آخر الليل فنام وهو ساجد فرأى في منامه عليًّا عم راكبًا ولباسه أخضر وبيده رمح وهو يقول: ارفع رأسك يا شيخ فقد قضيتُ حاجتك. فانتبه بقوله فحكى للناس ذلك فتباشروا به. وحُكي عن مرتضى الدولة أنّه قال: استدعاني أرمانوس في آخر تلك الليلة الّتي رأى ابن أبي نُمير الرؤيا فيها. فقال لي: لكم بحلب راهب. فعلمتُ أنّه يعني ابن أبي نمير. فقلتُ: نعم. فقال: صفه لي. فوصفتُه له. فقال لي: رأيتُ هذا الرجل بعينه في هذه الساعة وكأنّي قد أشرفتُ على سور هذه المدينة وهو قائم عليه يوميء إليّ بيده ويقول " " ارجع فما تصل إلى هذا البلد " ولا أرى أنّه يتمّ لي شيء. فلّما كانت صبيحة تلك الليلة وقعت بينه وبين المسلمين وقعة انهزم فيها وقُتل من كان معه من العساكر وكان جيشًا عظيمًا فيه ملك البُلغار وملك الروس وملك لبخَزَر وملك بَجنَاك. قال كمال الدين: سمعتُ أنّ القاضي الأكرم أبا الحسن عليّ بن يوسف القِفْطيّ وزير حلب كان يقول: مشهد النور تعتقد فيه النُصَيْريّة اعتقادًا عظيمًا ويحجّون إليه وينذرون له.
1 / 18
ومسجد الغضائريّ ويُعرف الآن بمسجد شُعَيب وهو أوّل مسجد اختطّه المسلمون. نقلتُ من تأريخ محمّد بن عليّ العظيميّ قال: لمّا فتح المسلمون حلب دخلوها من باب إنطاكية ووقفوا داخل البلد ووضعوا تراسهم في مكان بُني به هذا المسجد وعُرف أوّلًا بأبي الحسن عليّ بن عبد الحميد الغضائريّ أحد الأولياء من أصحاب سَرِيّ السقطيّ ﵀ وحجّ من حلب ماشيًا أربعين حجةً ثمّ عُرف ثانيًا بمسجد شُعَيب وهو شعيب بن أبي الحسن بن حسين بن أحمد الأندلسيّ الفقيه كان من الفقهاء والزهّاد. وكان نور الدين محمود بن زنكي يعتقد فيه ويتردّد إليه فوقف على هذا المسجد وقفًا ورتّب فيه شعيب المذكور مدرّسًا على مذهب الإمام الشافعيّ رضه.
ذكر ما كانت الأمم السالفة تعظّمه من أماكن بمدينة حلب
يقال إنّه كان بحلب نيّف وسبعون هيكلًا للنصارى منها الهيكل المعظّم عندهم الّذي بنته هيلاني أمّ قسطنطينيّة وهي التي بنت كنائس الشام كلّها والبيت المقدّس وهذا الهيكل كان في الكنيسة معظّمةً عندهم ولم تزل على ذلك إلى أن حاصرت الفرنج حلب في سنة ثماني عشرة وخمسمائة وملكها يومئذ إيلغازي بن أُرْتُق صاحب ماردين فهرب منها وقام بأمر البلد ومن فيه القاضي أبو الحسن محمّد بن يحيى بن محمّد بن أحمد بن الخشّاب فعمد الفرنج إلى قبور المسلمين فنبشوها. فلمّا بلغ القاضي ذلك أخذ من كنائس النصارى التي كانت بحلب أربعًا وجعل فيها محاريب منها هذه الكنيسة التي قدّمنا ذكرها فجعلها مسجدًا فاستمرّت على ذلك إلى أن ملك الملك العادل نور الدين حلب فجدّد فيها إيوانًا وبيوتًا وجعلها مدرسةً لتدريس مذهب أبي حنيفة ووقف عليها وقفًا. وأمّا الباقيات فإحداها كانت في الحدّادين فلمّا ملك الملك الناصر صلاح الدين حلب جعلها حسام الدين لاجين ابن أخته مدرسةً للحنفيّة والثانية في درب الحطّابين جعلها عبد الملك المقدّم مدرسةً للحنفيّة والثالثة على ما يغلب عليه ظنّي هي المسجد الّذي هو قريب من حمّام موغان وكان بموضع الحمّام والدار بيت المذبح للكنيسة الّتي قلنا إنّها صارت المدرسة الحلاويّة وبينها وبينه ساباط معقود البناء تحت الأرض يخرج منها من الهيكل إلى المذبح وكان النصارى يعظّمون هذا المذبح ويقصدونه من سائر البلاد وكانت حمّام موغان حمّامًا للهيكل وكان حوله قريبًا من مائتَيْ قلاّية تنظر إليه وكان في وسطه كرسيّ ارتفاعه أحد عشر ذراعًا من الرخام الملكيّ الأبيض.
وذكر ابن شرارة النصرانيّ في تأريخه أنّ عيسى عم جلس عليه وقيل جلس موضعه لمّا دخل إلى حلب. وذكروا أيضًا أنّ جماعة الحواريّين دخلوا هذا الهيكل وكان في ابتداء الزمان معبدًا لعبّاد النار ثمّ صار إلى اليهود فكانوا يزورونه ثمّ صار إلى النصارى ثمّ صار إلى المسلمين. وذكروا أيضًا أنّه كان بهذا الهيكل قسّ يقال له بَرْسوما تعظّمه النصارى وتحمل إليه الصدقات من سائر الأقاليم يُذْكَر في سبب تعظيمهم له أنّه أصاب أهل حلب وباء في أيّام الروم فلم يسلم منهم غيره.
ذكر ما بظاهرها من المزارات
من ذلك مقام إبراهيم عم وهو خارج المدينة ممّا يلي القبلة وحوله الآن جبّانة وهو مشهد مقصود من كلّ الأقطار في محرابة حجر يقال أنّ إبراهيم عم كان يجلس عليه. وفي الرواق القبليّ. منه ممَّا يلي الصحن صخرة مرتفعة فيها نقرة قيل إنّه كان يحلب فيها غنمه.
ومنها مشهد الخضر عم وهو بناء قديم قيل أنّه قبل الملّة الإسلامية يُذكَر أنّ جماعة من صالحي حلب اجتمعوا به فيه وهذا الموضع مقصود.
1 / 19
ومنها في شرقيّ المدينة مشهد قَرَنْبِيا أنشأه عماد الدين آق سُنْقُر قسيم الدولة صاحب حلب وكان هذا الموضع قديمًا يُعْرف بمقر الأنبياء فحرّفته العامة وسبب بناء قسيم الدولة لهذا المشهد أنّ شيخًا من أهل منبج رأى في حلب عدّة مرار كأنّ علي بن أبي طالب عم يصلّي فيه وأنّه قال: قل لآق سُنْقُر يبني على قَرَنْبيا مشهًا وقرنبيا اسم الربوة. فقال الشيخ لعليّ عم: ما علامة ذلك فقال: أن تكشف الأرض فإنها أرض معمولة بفصّ المرمر والرخام وفيها محراب مؤسّس وقبر على جانب المحراب في بعض ولدي. فلّما تكرّرت هذه الرؤيا على الشيخ شاور جماعةً من أصحابه فأشاروا عليه أن يتعرض له فخرج إليه في جماعة فلمّا رآهم أنفذ إليهم حاجبه وسألهم ما حاجتهم فأخبروه برؤيا الشيخ فأمر وزيره بكشف الموضع فكشفه ورأى الإمارات على ما حكاه من الرؤيا. فبناه ووقف عليه وقفًا وكان يتردّد إليه. هذا ما حكاه يحيى بت أبي ط] ّ. إنه رُؤي النبي ﷺ يصلي فيه وجماعة من الأنبياء. مرارًا فبناه قسيم الدولة.
ويقال إنّ بظاهر باب أربعين قبر بلال بن حمامة وهو لا يُعْرَف والمؤرّخون يقولون أنه مات بحلب.
ومنها في شماليّ البلد خارج باب النصر مشهد قديم يُعْرَف بمشهد الدعاء. وقد جُرّب لإجابة الدعاء..
ومنها بجانب باب الجنان ملاصق له مشهد قديم يُعْرَف بمشهد علي عم. ذكر يحيى بن أبي طيّ. أن في سنة اثنتين وعشرين وخمسمائة ظهر مشهد عليّ عم الّذي على باب الجنان. قال: وكان مكان يُباع فيه الخمر واتّفق أن بعض أهل حلب رأى في النوم وكان مريضًا بحُمّى في مدّة طويلة كأنّه في ذلك المكان وكأنّ رجلًا يقول له: أي شيء تشكو؟ فقال: الحمّى. فمدّ يده إلى تراب من ذلك المكان وقال: خذه وعلّقه عليك فإنك تبرأ وقل للناس يعمّرون هاهنا مشهدًا فقال: يا مولاي لا يقبلون مني. فقال: يحفرون هاهنا فإنهم يجدون صخرةً جميع ما حولها من التراب يكون فيه رائحة المسك. فقال له من أنت؟ قال: أنا عليّ بن أبي طالب. فاستيقظ الرجل وقد زالت الحمّى عنه. فحدّث لأهله بذلك وأصبح وخرج إلى المكان ووقف يحثّث الناس وكان بحلب رجل يقال له شُقَيْر السواديّ يحمل السواد إلى البساتين وكان فيمن حضر فنبشوا المكان فكان التراب يخرج كأنه المسك فتطيّبت به الناس وتاب شُقَيْر عن أمور كان يعتمدها في الفساد وتوّلى عمارة المكان.
ومنها على باب أربعين مشهد الثلج يقال إنّ عمر بن الخطاّب رضه رُؤي يصلي فيه.
ومنها عند جسر الروّاس مشهد يونس عم يقال إنّ يونس كان نازلًا بمكانه.
ومنها مشهد الدكَة وهو في غربيّ حلب وسُمي بهذا الاسم لأنّ سيف الدولة كانت له دكّة على الجبل المطلّ على المشهد يجلس عليها للنظر إلى حلبة السبّاق فإنها كانت تجري بين يديه في ذلك الوطاء الّذي فيه المشهد.
قال يحيى بن أبي طيّ في تأريخه: وفي السنة - يعني سنة إحدى وخمسين وثلاثمائة - ظهر مشهد الدكة. وكان سبب ظهوره أن سيف الدولة عليّ ابن حمدان كان في أحد مناظره بداره الّتي ظاهر المدينة فرأى نورًا ينزل على المكان الّذي فيه المشهد عدّة مرّات. فلمّا أصبح ركب بنفسه إلى ذلك المكان وحفره فوجد حجرًا عليه كتابة: " هذا " قبر " المحسن بن الحسين بن علي بن أبي طالب ". فجمع سيف الدولة العلويّين وسألهم هل كان للحسين ولد اسمه المحسّن. فقال بعضهم: ما بلغنا ذلك وإنما بلغنا أنّ فاطمة عم كانت حاملًا فقال لها النبيّ ﷺ: في بطنك محسّن. فلمّا كان يوم البيعة هجموا عليها في بيتها لإخراج عليّ عم إلى البيعة فأخْدجت. وقال بعضهم: يُحتمل أنّ سبيّ نساء الحسين لمّا وردوا هذا المكان طرح بعض نسائه هذا الولد. فإنا نروي عن آبائنا أن هذا المكان سُمّي بجَوْشَن لأنّ شُمر ابن ذي الجَوْشَن نزل عليه بالسبي والرؤوس وأنّه معدنًا يُعمَل فيه الصفر وأن أهل المعدن فرحوا بالسبي فدعت عليهم زينب بنت الحسين ففسد المعدن من يومئذ.
وقال بعضهم: إنّ هذه الكتابة ألّي على الحجر قديمة وأثر هذا المكان قديم وإن هذا الطِرْح الّذي زعموا لم يفسد وبقاؤه دليل على أنّه ابن الحسين. فشاع بين الناس هذه المفاوضة الّتي جرت وخرجوا إلى هذا المكان وأرادوا عمارته فقال سيف الدولة: هذا موضع قد أذن الله تع لي في عمارته على اسم أهل البيت.
1 / 20