«ولما كان التبليغ عن الله سبحانه يعتمد العلمَ بما يبلغ والصدقَ فيه، لم تصلح مرتبة التبليغ بالرواية والفتيا إلا لمن اتصف بالعلم والصدق؛ فيكون عالمًا بما يبلِّغ، صادقًا فيه. ويكون مع ذلك حسن الطريقة، مرضيَّ السيرة، عدلًا في أقواله وأفعاله، متشابه السرِّ والعلانية في مدخله ومخرجه وأحواله. وإذا كان منصب التوقيع عن الملوك بالمحلِّ الذي لا يُنكَر فضله، ولا يُجهَل قدرُه، وهو من أعلى المراتب السنيَّات، فكيف بمنصب التوقيع عن ربِّ الأرض والسماوات؟ ... وَلْيعلم المفتي عمن ينوب في فتواه، وَلْيوقن أنه مسؤول غدًا وموقوف بين يدي الله».
وقال في آخر الكتاب في الفائدة الثامنة عشرة من الفوائد المتعلقة بالفتوى (٥/ ٥٩): «فخطرُ المفتي عظيم، فإنه موقِّع عن الله ورسوله، زاعم أن الله أمر بكذا، وحرّم كذا، وأوجب كذا».
نصوص المؤلف هذه صريحة في أن المقصود بالموقِّعين عن ربِّ العالمين في عنوان الكتاب: الفقهاء والمفتون. وإذا دخل فيهم القضاة، فإنما يدخلون للنسبة المذكورة بين قلمهم وقلم المفتين.
فإذا ألقينا نظرة خاطفة على المطالب العظيمة التي دار عليها الكتاب، مثل تحريم الإفتاء في دين الله بغير علم وبالرأي المخالف للنص، وأقسام الرأي والاستصحاب والقياس، وبيان أنه ليس في الشريعة ما يخالف القياس، وشمول النصوص للأحكام، وشرح كتاب عمر إلى أبي موسى الأشعري، وتفصيل القول في التقليد، وتغير الفتوى واختلافها بحسب تغير الأزمنة وغيرها، وسدّ الذرائع، والكلام على الحيل وغيرذلك، ثم ختم الكتاب بفوائد بلغ عددها تسعين فائدة تتعلق بالفتوى والمفتي، ثم أورد
المقدمة / 14