فتنفس التلميذ الصعداء، وعلم أنها غضبة ليست من غضبات الجفاء والنقمة، وقال وهو يتلعثم: لقد علمت ما لم أسأل عنه، فما أسعدني بقربك أيها الحكيم سائلا وغير سائل، وسترى أيها الحكيم أنني لن أسألك إلا عما هو في علمك ولن أطلب منك إلا ما هو عندك. فهل أحسب الشيخ آذنا في هذه الساعة بسؤال، أو أعفيه حتى يأذن ويستريح إلى الجواب.
فتبسم أبو العلاء وقد راجع نفسه واسترجع حلمه وأناته، والتفت إلى تلميذه ملاطفا وهو يقول: إن كنت قد تعودت مني ما رأيت وفهمت أنني لا أغضب منك ولا عليك فنحن على وفاق. ولك إذن أن تسأل ولي أن أجيبك أو أغضب كما غضبت منذ هنيهة، ولا حرج علينا معا في هذا ولا في ذاك.
قال التلميذ: جزاء الله خيرا يا مولاي في غضبك ورضاك، فما قول الأستاذ في اقتراح لا يشق عليه أن يجيبه؟ ما قوله في رحلة بين آفاق الأرض ثم تعود إلى قريته العزيزة في موعد الوفود؟
فاعتدل أبو العلاء في مجلسه وهو يقول: أوتدعوني إلى الرحلة وما فرغنا بعد من الكلام على الوطن والقبوع فيه؟ إنك لا تضيع فرصتك يا بني، وإنك لسريع الهجوم.
فلم يحجم التلميذ ولم يتردد، بل راح يقول: إن يومك يا مولاي غير أمسك، وإن المعرة اليوم لعلى مسافة ساعات من بغداد، وإن الأرض كلها لتطوى الآن في أيام معدودات. فلو لم يكن في السفر إلا تجربة هذه العجيبة المستحدثة في زماننا لكان ذلك شفيعي في اقتراحه وشفيع الشيخ حفظه الله في قبوله.
فطال إنصات الشيخ كالمستريب المتوجس، وخطر له أن الفتى يغرر به ولا يصدقه المقال، ثم سأل في صوت خفيض: ماذا تقول؟ المعرة على مسيرة ساعات من بغداد! والأرض كلها تطوى في أيام معدودات؟! هل عادت المعجزات؟ وهل رجع بساط الريح؟ هل أصدقك والعقل أولى بتصديق؟
قال التلميذ: ما على الشيخ إلا أن يقبل الساعة وسيصدقني ويصدق العقل معا بعد ساعات.
قال الشيخ: قبلت، فأين بساط الريح؟ وأين سليمان بن داود؟
ثم مضى التلميذ يشرح للشيخ ما يريده، والشيخ مقبل عليه ظاهر العجب من كلامه، حتى فرغ من شرحه وهما على اتفاق أن يجوبا بقاع الأرض في مشرقها ومغربها، وأن يشهدا الأجيال التي لم يشهدها أبو العلاء ولم يسمع بخبرها، وأن يتعلم كلاهما من صاحبه ما عنده من علم، ويتخذه دليلا له فيما يجهل؛ فلا حرج من سؤال ولا حرج من جواب، وسنسمع - بعد - ما قال أبو العلاء وما قيل له في كل مكان وصلا إليه.
حكم السيف
Неизвестная страница