وكانت لجاكسون حاسة غريبة ينفذ بها في سرعة ودقة إلى رغبة جمهور الناس، فإذا عمل فإنما يعمل بوحي منهم، وإنه ليظهر للناس أنه هو الذي يوحي إليهم فيوجههم الوجهة التي يريد، وهذه فيما نرى خلة من ألزم ما ينبغي من خلال لقائد شعبي. وهو بعد يفضل الإخلاص على المقدرة، ويضع القلوب إذا اختار الرجال قبل العقول.
وتتجلى سيادة الشعب في انتخاب جاكسون أكثر مما تجلت في انتخاب من سبقوه؛ فإن الهيئة الانتخابية التي تختار الرئيس كان يختارها أعضاء المجالس التشريعية في الولايات، ولكن الناس في الولايات - ما عدا كارولينا الجنوبية - هم الذين انتخبوا هذه الهيئة، فجاءت وليدة إرادتهم لا وليدة المجالس التشريعية، فكانت بذلك ممثلة للرغبة العامة. وعد جاكسون مرشح الشعب الأمريكي لا مرشح العلية من الساسة، وجاء نجاحه على الرغم من مجهودات مخالفيه من الزعماء تأكيدا لسيطرة الشعب لا سيطرة فريق من صفوته، فكان ذلك أول مظهر من مظاهر الديمقراطية في وضعها الجديد، كما كانت هذه الخطوة من جانبه - أعني الالتجاء إلى الرأي العام وإغفال مجالس الولايات - ثورة ديمقراطية في سبيل سيادة الشعب.
وكانت أول خطوة خطاها الرئيس الجديد هي اختيار من يعاونونه من رجال الحكومة من الموالين له وصرف من لا يرى التعاون معهم، لا في مناصب الوزراء فحسب، ولكن في المناصب الهامة جميعا. وفعل جاكسون ذلك غير مبال بصيحات خصومه، والحق أن واشنطون قد سبقه إلى مثل هذا ولكن في مجال ضيق، أما هو فقد توسع فيه حتى أصبح هذا الإجراء المظهر الثاني لديمقراطيته، ولقد أصبح فيما بعد تقليدا يحتذيه الرؤساء. قال جاكسون يرد على منتقديه: «لقد انبعث ضجيج شديد حول هذا. إن الأمر سوف يعرض على الكونجرس، وستوضح أسبابه ... إن كل رجل يلي منصبا بضع سنين يعتقد أن له أمره مدى الحياة كحق يكتسب، فإذا وليه عشرين عاما أو أكثر فإنه لا ينظر إليه كحق له فحسب، بل كشيء يرثه أبناؤه، فإن لم يكن له أبناء فأقرب ذوي قرابته. ليس هذا مبدأ حكومتي ... إن تغيير أصحاب المناصب هو الذي يضمن للحرية الدوام.» وواضح من كلامه هذا أنه كان يخشى أن تقوم طبقة معينة بالحكم يرثها أبناؤها فيه، وهذه هي الأرستقراطية.
وألفى جاكسون نفسه محاطا بخصوم أقوياء مثل هنري كليي وكالهون، وغيرهما ممن كان كثير من الموظفين من صنع أيديهم، فكانوا بذلك خير وسائل نفوذهم، وكان كالهون نائب الرئيس، وكانت بينه أول الأمر وبين جاكسون محبة واحترام متبادلين، بيد أنه حدث أن جرت إشاعة سوء حول زوجة أحد الوزراء الموالين، غضب لها الرئيس أشد الغضب؛ لأن زوجة الوزير كانت تحظى بثقة زوجته التي طواها الموت، وكان الرئيس شديد المحبة والإخلاص لتلك الزوجة الذاهبة؛ ومن ثم كان يعز كل صديقاتها، وهو لم ينس أن زوجه التي يكبر ذكراها لم تسلم هي كذلك من أحاديث الإفك وإشاعات السوء. ونمى إلى الرئيس أن كالهون هو مدبر الإشاعة ليسيء إلى الوزير الذي يخلص له الولاء، كما أنه ما لبث أن اكتشف أن كالهون - وكان وزيرا للحرب في عهد منرو - هو الذي حمل ذلك الرئيس يومئذ على إساءة الظن به وكرهه؛ فلهذا اشتد البغض بين الرجلين وتقاطعا وقد كانا صديقين.
ويعنينا أمر هذا الخلاف لعلاقته بمشكلة دقيقة امتحن فيها ثبات جاكسون وابتليت عزيمته؛ وذلك أن ولاية كارولينا الجنوبية موطن كالهون قد عادت تنادي بحرية الولايات في العمل وتنذر الاتحاد بعاصفة جديدة، وبيان ذلك أن الحكومة - جريا على سياسة الحماية الجمركية التي اتجه الرأي إليها حرصا على الصناعات الجديدة التي نشأت إبان الحرب سنة 1812 - قد قررت على الواردات ضريبة عالية سنة 1828، فغضبت لذلك الولايات الجنوبية مصدرة القطن ومؤيدة مبدأ حرية التجارة، وأعلنت كارولينا الجنوبية إنكارها دستورية هذه الضريبة، ولكن المحكمة العليا خذلتها فيما ادعت، فلجأت إلى قاعدة أخرى أذاعتها مؤداها أن لكل ولاية في الأمور الخارجية مثل ما لأي دولة مستقلة لا ترتبط إلا بما تقضي به معاهدة الاتحاد، وعلى ذلك فهي تتصرف في موقفها من هذه الضريبة دون مراعاة لأية سلطة مركزية؛ ونتيجة لهذا أعلنت إلغاء الضريبة الجمركية من موانيها.
ووضعت كارولينا بذلك أساس قاعدة خطيرة؛ هي حق كل ولاية في إلغاء ما لا توافق عليه مما تفرضه حكومة الاتحاد، وفي ذلك زلزلة للاتحاد في كل وقت.
وبات الموقف بالغ الحرج؛ فإن جاكسون من أهل الجنوب بمولده وإن كان من أصقاع الحدود الغربية بنشأته، وإنه يدين بنجاحه ومكانته للجنوبيين أكثر مما يدين لغيرهم، وإن له خصوما يتربصون به، وقد اعتزل كالهون منصبه وبات في أهل كارولينا ، زعيمهم الذي لا يمل، ولسانهم الذي لا يكل.
والرئيس جاكسون حريص على الاتحاد ما وسعه الحرص، وعنده أن فصم عروته هي الكارثة التي لا تعظم عنها كارثة، ولكنه في الوقت نفسه ديمقراطي مثل جفرسون، وهو لم ينس موقف جفرسون وأنه صاحب قرارات كنطكي.
وتهيأت فرصة لتسمع البلاد رأي جاكسون، وكان الرئيس قد مال إلى ضريبة معتدلة ليجمع بين الرأيين، وأغضبه أن خصومه لم يرضوا حتى بهذا، فلما كان عيد ميلاد جفرسون اجتمع عدد كبير من السياسيين، وألقوا الخطب، وشربوا الأكواب، وكانت معظم الخطب في جانب حرية الولايات في العمل، ونهض جاكسون وشرب كوب الاتحاد قائلا في عزيمة وصرامة: «إتحادنا! إنه يجب أن نحفظه.» ونهض كالهون فحاول أن يخفف من وقع كلمة جاكسون فقال: «اتحادنا هو أعز شيء لدينا بعد حريتنا.» وفهم الناس مغزى كلمة الرئيس؛ فلم تكن إلا إعلان الحرب.
وأخذ الرئيس يعد عدته، فكتب إلى الكونجرس يطلب أن يمنحه حق القضاء على المؤتمرين في كارولينا بقوة السلاح، وأفضى إلى وزرائه بتصريح خطير، جاء فيه أنه إن لم يوافق الكونجرس فلن يعدم حيلة! إنه سيدعو البلاد لإرسال متطوعين لحماية الاتحاد، ثم يزحف على رأسهم فيغزو الولاية الثائرة، ويقبض على رءوس الفتنة فيها. وهال أهل كارولينا تصريح الرئيس المصمم، وحار خصوم الرئيس من أعضاء الكونجرس في أمرهم حيرة شديدة.
Неизвестная страница