يد الأطفال عجيبة حلوة كابتسامتهم. أخذت يد روبرت أقرأ فيها ما خطته يد الأقدار: يد مربعة كبيرة الإبهام، وفيها كل من خطوط الحياة والعقل والقلب واضح جلي، وتل المريخ يرتفع في تلك الكف الصغيرة متهددا متواعدا ...
فنظرت إليه وخاطبته همسا: «هذه اليد التي تنقل إشاراتها اليوم ما حفظته من إشارات الملائكة. هذه اليد التي لا تمتد إلا لمداعبة الندى ولمس الأزاهير. هذه اليد الصغيرة الطرية سوف تصير يد جندي، سوف تقبض على السيف والحربة، وتطلق النيران من أفواه المدافع، سوف تفتك بحياة البشر أشرارا كانوا أم أبرارا ...!»
قال روبرت وهو يضرب أديم الحديقة بقدميه: «أنا عسكري مثل بابا؟»
قلت: «نعم يا روبرت، عندما تبلغ سن التجند تصبح جنديا، وستكون جميلا في ثوبك العسكري، ستكون جميلا جدا، لكن أقل جمالا منك اليوم وأنت بأثواب الطفولة. سوف تبسم لك النساء لأنهن يملن إلى الجنود، ومذهب الأكمام والصدور يسير بهن إلى عالم الأحلام. وهذه اليد الصغيرة الضعيفة سوف تكون كبيرة قادرة تؤلم وتشقي وتميت، سوف تلمس آلات التدمير والهلاك بعزم وثبات! وعيناك الجميلتان سوف تكونان عيني جلاد يرى الدماء والدموع دون أن يلين أو يرحم ... وقلبك، ترى كيف يكون قلبك الذي لا يدرك اليوم ولا يشعر إلا قليلا ...؟
أتكون من الكثيرين الذين لا يحسبون للعواطف في الحياة حسابا، فيلعبون ويضحكون ويتمتعون ويحزنون دون استبقاء أثر لما يختبرون، بل تمر الأفراح والأتراح على نفوسهم كما تسقط دموع الغيوم على صفحة الزجاج فلا تترك عليها سوى ما لا يلبث أن يزول ... أم تكون من أولئك الذين يشعرون بقوة وحدة، ويتظاهرون بعكس ذلك كبرا وخجلا؟ ... هل تضربك يوما يد امرأة فتضع في عينيك للحب دموعا، وتغمد في فؤادك من اليأس خنجرا؟ «غدا، يا روبرت، تنمو جسدا ونفسا، غدا تقف على أحوال البشر، فتجد ذاتك وحيدا في معترك الحياة، غدا تعذبك المسئولية، وتضنيك المجاهدة، ويلذعك لهيب الفكر، وتذيبك نار الهيام. غدا تذوق ظمأ الروح، غدا تصير إنسانا. يا لهول الكلمة! غدا تصير إنسانا؛ أي حيوانا وإلها معا! ...» صمت طويلا.
وفي ذلك الهدوء الشامل في حضن الطبيعة تصاعدت نغمة حلوة من أطراف الحديقة، وانتشر تموجها على أنفاس الأزهار، وكان ذلك صوت المؤذن يردد في الظهيرة ما أنشده في الفجر وما سيعيده عند الغروب.
فسألت: «هل سمعت الصوت، يا روبرت؟»
أجاب:
Yes .
قلت: «عما قريب تعرف ما هي الميثولوجية، وما هي النصرانية، وما هو الإسلام، عما قريب تفهم ما هو التعصب الديني والجنسي والعلمي والعائلي والفردي، عما قريب تعلم أن الأنسجة التي تخاط منها أثواب العرس تصنع منها أكفان الشهداء، عما قريب ترى الأقوام يفتكون بالأقوام لأنهم محتشدون حول قطعة نسيج صبغت بلون غير لون نسيجهم، عما قريب ترى كل هذا، يا روبرت، وتشترك فيه؛ لأنك عسكري مثل بابا!» •••
ناپیژندل شوی مخ