من كوة الحياة
أنا والطفل
بين عامين
نشيد نهر الصفا
الساعة المفقودة
يا سيدة البحار
بكاء الطفل
دمعة على المغرد الصامت
نحو مرقص الحياة (1)
نحو مرقص الحياة (2)
ناپیژندل شوی مخ
الذكرى الجديدة
العيون
الحكيم ومطالب الحكمة
ليلة عيد النصر
الطبيعة المعمرة المدمرة
يوم الموتى
في مرقص الحياة
كن سعيدا
السهرات الراقصات
الموضوع التائه
ناپیژندل شوی مخ
أنت أيها الغريب
قرب منعطف السبيل
أين وطني؟
عند قدمي أبي الهول
من كوة الحياة
أنا والطفل
بين عامين
نشيد نهر الصفا
الساعة المفقودة
يا سيدة البحار
ناپیژندل شوی مخ
بكاء الطفل
دمعة على المغرد الصامت
نحو مرقص الحياة (1)
نحو مرقص الحياة (2)
الذكرى الجديدة
العيون
الحكيم ومطالب الحكمة
ليلة عيد النصر
الطبيعة المعمرة المدمرة
يوم الموتى
ناپیژندل شوی مخ
في مرقص الحياة
كن سعيدا
السهرات الراقصات
الموضوع التائه
أنت أيها الغريب
قرب منعطف السبيل
أين وطني؟
عند قدمي أبي الهول
ظلمات وأشعة
ظلمات وأشعة
ناپیژندل شوی مخ
تأليف
مي زيادة
من كوة الحياة
... وقفت عند كوة الحياة لا أدري لماذا أقف ومن ذا أوقفني هناك. وإذ بالناس في السبيل يمرون، فأخذت أتفحص الوجوه منهم والحركات؛ لعلي أعثر على ما يجعلني مختلفة عنهم وهم مختلفين عني، ولعلي أدرك ما هذا الذي يطلب مني رغم حداثتي وحيرتي وجهلي وقلة اختباري، فصرت أعجب بالناس وأغبطهم على ما لديهم وليس لي أن أفوز بمثله، وأتعزى بمظاهر الكآبة عندهم؛ لتكون تلك المظاهر صلة، ولو واهية، بيني وبينهم، على أني لم أزدد إلا شعورا بحيرتي وعجزي، لم أزدد إلا شعورا بأني خيال لا ضرورة له إزاء تلك الأقوام الفرحة الضاحكة - مع أن هذا الخيال يطلب منه شيء كثير لا يدري ما هو، فظننت لحظة أني وصلت إلى قرارة اليأس، وأني شربت كأس المرارة حتى الثمالة، ثم أوحي إلي بأن هناك وجودا غير ملموس يدعى السعادة، وشعرت باحتياج محرق إلى التعرف إليها، والتمتع بها، ففهمت أنه ليس أقسى على النفوس في انفرادها وسكوتها وعجزها من تلقي ذلك الوحي العنيف، والشعور بذلك الاجتياح العميق ...
أنا والطفل
هناك بعيدا عن المدينة وضوضائها، في الطريق المؤدية إلى قصر كان بالأمس للخديوي إسماعيل ولم يعد له، على شط معبود المصريين ومرضع سهول إيزيس، على شط النيل النائح في سيره على رفات العذارى المبعثر في أعماقه؛ هناك روضة غناء مفتوحة لجميع الداخلين، وقد حفظ جوها أحلام زائريها المتأملين.
قصدت إلى الحديقة في صباح يوم منير. نبذت عني عادات المدنية فافترشت الثرى كما يفترش سكان البادية رمال الصحراء، وتمددت على العشب الأخضر في فيء شجيرة عند قدمي أحد التماثيل المنصوبة هنالك.
لم أر حولي سوى سيدتين إنجليزيتين مع إحداهما ثلاثة أطفال، وإن هي إلا دقائق حتى اقترب مني أحد هؤلاء، وهو صبي في الرابعة من سنواته، فناديته قائلة: «تعال إلي أيها الصغير!»
فدنا واجفا باسما، فسألته: «ألا تجلس على ركبتي؟» فجلس صامتا.
ولما شعرت بثقل جسده الصغير ذكرت أخي الوحيد الميت، ووثب قلبي إلى شفتي، وجالت الدموع بين أجفاني، فملت إلى الطفل امتص من حلاوة وجنته، لاهية بتلك القبلة عن كآبتي المتصاعدة من فؤادي كما يتصاعد الغيم من أطراف البحار.
ناپیژندل شوی مخ
ما أعذب قبلة الأطفال! وما أطيب طعم ابتسامهم!
ثم سألت الطفل: «ما اسمك؟»
قال: «روبرت.»
نظرت في وجهه فإذا به آية من آيات الجمال الإنجليزي: وجه شفاف كأنما هو عصير ورد وياسمين تجمد فنحت وجها بشريا، وفم كزر الورد لطفا وانكماشا، وجبهة كبيرة عالية يخفيها شعر ذهبي مسدول عليها، وعينان لهما زرقة عميقة كزرقة البحار بعيد الغروب، وهما كبعض العيون الإنجليزية في جمودهما الظاهري، وحرارتهما الخفية، وحلاوتهما وتلاعبهما. نظرت في جميع هذه الملامح متمعنة، فقلت للطفل: «من أين أتيت بعينيك، يا روبرت؟ ومن أعطاك زرقتهما؟»
أجاب، ولم يفهم غير كلمتي «من أعطاك»: «ماما.»
قلت: «قرت عينا أمك بك! وأي عمل يعمل أبوك؟»
قال ولثغاته اللطيفة تتدحرج على لسانه متعثرة بشفتيه: «بابا ضابط، وأنا عسكري مثل بابا.»
قلت: «أنت جميل، وأنا أحبك يا روبرت. هات يدك.»
قال:
Yes, Thank you .
ناپیژندل شوی مخ
يد الأطفال عجيبة حلوة كابتسامتهم. أخذت يد روبرت أقرأ فيها ما خطته يد الأقدار: يد مربعة كبيرة الإبهام، وفيها كل من خطوط الحياة والعقل والقلب واضح جلي، وتل المريخ يرتفع في تلك الكف الصغيرة متهددا متواعدا ...
فنظرت إليه وخاطبته همسا: «هذه اليد التي تنقل إشاراتها اليوم ما حفظته من إشارات الملائكة. هذه اليد التي لا تمتد إلا لمداعبة الندى ولمس الأزاهير. هذه اليد الصغيرة الطرية سوف تصير يد جندي، سوف تقبض على السيف والحربة، وتطلق النيران من أفواه المدافع، سوف تفتك بحياة البشر أشرارا كانوا أم أبرارا ...!»
قال روبرت وهو يضرب أديم الحديقة بقدميه: «أنا عسكري مثل بابا؟»
قلت: «نعم يا روبرت، عندما تبلغ سن التجند تصبح جنديا، وستكون جميلا في ثوبك العسكري، ستكون جميلا جدا، لكن أقل جمالا منك اليوم وأنت بأثواب الطفولة. سوف تبسم لك النساء لأنهن يملن إلى الجنود، ومذهب الأكمام والصدور يسير بهن إلى عالم الأحلام. وهذه اليد الصغيرة الضعيفة سوف تكون كبيرة قادرة تؤلم وتشقي وتميت، سوف تلمس آلات التدمير والهلاك بعزم وثبات! وعيناك الجميلتان سوف تكونان عيني جلاد يرى الدماء والدموع دون أن يلين أو يرحم ... وقلبك، ترى كيف يكون قلبك الذي لا يدرك اليوم ولا يشعر إلا قليلا ...؟
أتكون من الكثيرين الذين لا يحسبون للعواطف في الحياة حسابا، فيلعبون ويضحكون ويتمتعون ويحزنون دون استبقاء أثر لما يختبرون، بل تمر الأفراح والأتراح على نفوسهم كما تسقط دموع الغيوم على صفحة الزجاج فلا تترك عليها سوى ما لا يلبث أن يزول ... أم تكون من أولئك الذين يشعرون بقوة وحدة، ويتظاهرون بعكس ذلك كبرا وخجلا؟ ... هل تضربك يوما يد امرأة فتضع في عينيك للحب دموعا، وتغمد في فؤادك من اليأس خنجرا؟ «غدا، يا روبرت، تنمو جسدا ونفسا، غدا تقف على أحوال البشر، فتجد ذاتك وحيدا في معترك الحياة، غدا تعذبك المسئولية، وتضنيك المجاهدة، ويلذعك لهيب الفكر، وتذيبك نار الهيام. غدا تذوق ظمأ الروح، غدا تصير إنسانا. يا لهول الكلمة! غدا تصير إنسانا؛ أي حيوانا وإلها معا! ...» صمت طويلا.
وفي ذلك الهدوء الشامل في حضن الطبيعة تصاعدت نغمة حلوة من أطراف الحديقة، وانتشر تموجها على أنفاس الأزهار، وكان ذلك صوت المؤذن يردد في الظهيرة ما أنشده في الفجر وما سيعيده عند الغروب.
فسألت: «هل سمعت الصوت، يا روبرت؟»
أجاب:
Yes .
قلت: «عما قريب تعرف ما هي الميثولوجية، وما هي النصرانية، وما هو الإسلام، عما قريب تفهم ما هو التعصب الديني والجنسي والعلمي والعائلي والفردي، عما قريب تعلم أن الأنسجة التي تخاط منها أثواب العرس تصنع منها أكفان الشهداء، عما قريب ترى الأقوام يفتكون بالأقوام لأنهم محتشدون حول قطعة نسيج صبغت بلون غير لون نسيجهم، عما قريب ترى كل هذا، يا روبرت، وتشترك فيه؛ لأنك عسكري مثل بابا!» •••
ناپیژندل شوی مخ
انفصلت عن روبرت بلا قبلة ولا تحية. أنا لم أقبله لأني وقفت متهيبة أمام رجل الغد منه، وهو لم يقبلني لأني لم أعطه كعكا ولا حلواء ...
بين عامين
بين شطي الماضي والمستقبل يجري نهر الحياة ثملا بعقيقه الفخم؛ ليصب في بحر الأبدية حيث لا جديد ولا قديم؛ وخيالات البشر تتهادى بين جماجم الموت وأغراس الحياة مخفية طي ضلوعها كثيرا من الآمال، وكثيرا من الكلوم.
فإلى بحر الأبدية، أيها العام الراحل!
وأنت أيها العام الجديد، إلينا! •••
وطئت الأرض طفلا جميلا، فنبهت في قلوب الشيوخ الحنان، وكنت صلة حب بين أرواح الخلصان.
امتزجت نسيماتك بدقائق الأثير فأصبح مغردا لامعا، وامتشقت حسام الصبح ضاربا أعناق جيوش الظلام، فسالت منها الدماء في المشرق، وملأت كتائب النور الأرض والسماء.
وداست أعقابك على هام الأيام، فأفنت قديمها، وغدا اليأس أملا، والنواح تهليلا.
هي الإنسانية طفلة في هرمها كلما ذاقت عذابا رجت حظا، ولئن مزقت أحشاءها الضغائن والأحقاد، فموجات الحب العظيم ما برحت غامرة فؤادها.
فاسمع هتافها متخللا أصوات الصباح: رحماك، أيها العام، رحماك!
ناپیژندل شوی مخ
لقد كتبت اسمك يد الزمان على باب الوجود، فساعدنا لننقش أسماءنا على باب السعادة!
كنا بالأمس نلمس الأوتار فتسيل عليها الدموع مرخية قواها، فما تسمعنا سوى شكوى المذلة وأنين العبودية. أما اليوم، فنريد أن ننعش أرواح العيدان لنوقع أسمى المبادئ على أعذب الألحان.
رحماك أيها العام الجديد! الإنسانية تتألم؛ فارفق بها! •••
رحماك، أيها الطفل الحبيب!
تعال نعطك القبلات السنوية الثلاث ؛ فعلى جبهتك قبلة الرجاء، وعلى ابتسامتك قبلة الوداد، وعلى يديك قبلة الالتماس والتوسل.
جبهتك مستودع الأفكار، وابتسامتك عبير الأزهار، ويداك رمز القوة المنتقلة أبدية من أدهار إلى أدهار.
هذه أمانينا نلقي بها عند قدميك؛ فلا تدسها فتلاشينا، بل ضمها إليك فتحيينا.
نشيد نهر الصفا
عين زحلتا قرية لطيفة يعرفها الذين اعتادوا الاصطياف في جبال لبنان، وألطف من القرية نفسها غابات الصنوبر التي تحيط بها، وأجمل من هذه وتلك منظر نهر الصفا المتدفق عند قدم الجبل، وعلى بعد أمتار قليلة منه يركن نهر القاعة.
كل من النهرين يسرد حكايته الأبدية على الأشجار المصغية إليهما بحللها السندسية. ويظل النهران في اندفاع وشكوى، وروح الوادي تئن في أثرهما إلى أن تلثم مياههما مياه البحر العظيم.
ناپیژندل شوی مخ
هنا سالت صور الكون الهيولية وذابت ذرات الأثير.
هنا اجتمعت بلابل أرفيوس لتعيد ذكرى أوريديس ذات القلب الكسير.
هنا تنهدت العطور تنهداتها الغرامية، وتحولت الورود إلى أشعة سحرية.
هنا اغتسل قوس قزح؛ فترك في الماء من ألوانه ألحانا فضية.
ومن دماء الأحلام المتجمدة استخرج قوس قزح ألوانه السرمدية.
هنا بعث بأسراره إلى الأرض مع خيوط من الأثير ذهبية.
هنا نامت الأشباح بين أجفان بنات المياه، فامتزج النور بالظلام، وتلاشت اليقظة بالمنام.
هنا ناحت حمائم الشعر، وغنت أطيار الأنغام.
هنا لثمات النسيم شوق وهيام.
ومداعبة الموجة للموجة تبادل نظرة وابتسام.
ناپیژندل شوی مخ
وجمود الشاطئ حقد على فتور الليالي ومعاكسات الأيام.
هنا ارتعاش الأوراق على الغصون تحية همت من مقل الكواكب وسلام وتمايل الأفنان ودلالها نجوى ملك الوحي والإلهام.
هنا ليلة أنوار، وفجر ظلام، وألغاز ملامس وألوان وأنغام.
حينما يمر الفجر على قمم الجبال يرى صورته في هذه المرآة البلورية، يرى رمز الشبيبة مع ما يتبعها من الآمال النضرة كالأزهار، والميول المتنقلة كالأطيار، ثم يأتي الغروب ساكبا في أعماقها مرارة أحزانه، مع ما يرافقها من النظرات المتحولة، والابتسامات المتغيبة، والجباه الكئيبة، والشفاه المتحركة بالصلوات، الساكنة بالتأملات.
هنا عيدان الأشجان تبكي، تبكي بقلب جريح، وفي كل لحظة يخيل أنها تسلم نفسها الأخير، بشهيق فيه من اللوعة والكتمان والتجلد بقدر ما فيه من المجد والعظمة، من البسالة وعزة النفس الأبية.
لكن المياه لا تموت ولا تحيا، بل تعيد ذكرى الماضي، وتهمس بنبوءتها في المستقبل، وتكرر أصوات الأفراح، وتردد آهات الأتراح.
هنا لغز من ألغاز الحياة، وليلة من ليالي الزمان، وأنا لغز أمام هذا اللغز، وليلة إزاء هذه الليلة. أهيم وحيدة على الشاطئ الحزين، أنظر ولا أرى، أسمع ولا أفهم، أبحث ولا أجد، أستعلم ولا أعلم ... فؤادي يخفق مع فؤاد النهر الخفي، ونفسي قيثارة الأحلام والألحان، لكني لغز حي تائه في ظل الغصون، ينظر مستفسرا إلى لغر آخر فلا يجد فيه إلا صورته، فيود تمزيقها وسحقها وإن أحبها! •••
عند احتضار النهار، ذهبت إلي رأس النبع وجلست على صخرة قائمة في وسط المياه المتسلسلة من صدر الصخرة الكبيرة. جلست وأرواح الخيال تتنشق الأريج العطري المعانق شعور بنات المياه، وآلهة الألوهية الأربع يتلاعبون بدقائق الشفق سابحين على أمواج الظلام، وحول أشباحهم تلتف أكاليل البنفسج وقلائد الياسمين، وفي ثغورهم يلمع فتيت النجوم، بينا أبكار الشعر تسر لأخواتها خفايا اليأس والرجاء تحت أشجار الصنوبر، وعذارى الطرب تستخرج من عناقيد «باخوس» خمرا تسكر به الآلهة، ومن سكر الآلهة يولد الشعراء والأنبياء.
وعلى هذه الصخرة حيث أنا أحلم ثملة بما شربته مشاعري من رحيق الخيال العلوي، كان يجلس الأمير بشير الشهابي الكبير. كثيرون بعده وقبلي جلسوا هنا وفؤاد كل منهم منقبض تهيبا وخشوعا أمام أنفاس الطبيعة وأصوات الخلود، وما يجول بخاطري الآن كان يجول بخاطرهم؛ لأن الأفكار تتشابه في المصدر، وفي النتيجة، رغم تشعبها وتفرعها، والرغائب الكثيرة اللاصقة في أعماق النفس البشرية هي هي في كل آن ومكان.
جميعنا طرح السؤال الذي ألقيه الآن على المياه المتراكضة: هو سر الأسرار الغامضة الذي يرجعه صدى الهياكل المشادة في قدس أقداس البشرية: من أين وإلى أين؟ من أين وإلى أين؟
ناپیژندل شوی مخ
من أين تأتين أيتها المياه؟ وإلى أين تذهبين؟
من أين أتينا وإلى أين نذهب؟ ...
المياه تتدفق إثر المياه مهللة مكبرة، وقد رفعت أصواتها في الغناء والنحيب، ودمدمت العناصر فيها أسرار الفيض الإلهي، ورفرفت على جوانبها أجنحة الخلود ...
من أين وإلى أين ...؟
ثقل دماغي بأفكار لا أدركها، وضاق مني الصدر لهموم لا أعرف ماهيتها، فنزعت عن ساعدي ساعة وضعت في أسورة ذهبية، ونظرت إليها قائلة: «أيتها الساعة، أنت رمز الوقت الجاري في نهر الزمان، فيسير قاصدا بحر الأبدية. ها أنا أغطسك في هذه المياه ... عسى أن تحفظي في حياتك المعدنية أثرا لرموز معنوية.» ثم جمعت بعض الحصى الملونة الجميلة الراكدة في أعماق النهر، قائلة: «أيتها الجواهر، سأحملك معي إلى وادي النيل لتذكريني بالعواطف الكثيرة التي تلاطمت في فؤادي أمام نهر الصفا ... أنت ذكر الأبدية التي حييت فيها لحظة.»
وإذ رفعت عيني إلى الأفق رأيت مقلة الزهرة ترقب يد ملك الظلام الراسمة على رداء الليل صور الهيئات السماوية.
فغادرت رأس النبع مرددة: أنهر الصفا! من وأين وإلى أين؟ •••
أنهر الصفا! جئتك تعبة الروح والجسد معا.
قرأت خلاصة الأحوال الحاضرة فدوى في مخيلتي هدير المدافع، وتمثلت لناظري صور الحرب المخيفة، ثم قصدت الاجتماعات فملأ أذني ضجيجها التافه، وضجرت نفسي من معانيها السطحية ومراميها الخبيثة. عجبت لبلاهة الإنسان، وركاكة ميوله، وفتور همته! إذ ذاك سمعت اسمك الموسيقي فأحببته؛ لأن فيه جمالا وعذوبة وسلاما.
لقد أحرقت قدمي الرمال الحارة، ومزقت يدي أشواك الحياة، فجئت أستخلص من أعشابك بلسما لجروحي، تعلق بأهدابي غبار المادة محاولا إخفاء الجمال المعنوي عن عيني، فأتيت أغسل أهدابي بمياهك المقدسة.
ناپیژندل شوی مخ
جئت لأرطب يدي وعيني برضابك العذب.
ثقل فؤادي علي، فأسرعت لأبعث به معك إلى روح البحر العظيم الذي يناديك من عمق أعماق زرقته البعيدة.
أنت ابن الغيوم، وألعوبة الحرارة الهوائية، وضحكة المادة الدائمة، وقهقهة الجو بين الهضاب والأودية. أنت قبلة الشمس للبحر. أنت أنشودة الجبل في الوادي. أنت الروح الصغيرة المسرعة إلى أحضان الروح الكبيرة.
أنت عميق كأسرار الجنان، عذب كنظرات الولهان، وفي اسمك ألوان وألحان.
أنت تهلمم
1
بي، أيها النهر، فخذني معك بعيدا عن الحياة وضوضائها، خذني معك ... لكن ما هي نسبتي إليك ؟
أنت مجموع سوائل لا وجدان لها، ولا قلب يخفق بين أجزائها، وأنا ... أنا شيء آخر. أنت لغز بين البحار والآفاق، وأنا لغز بين الحياة واللانهاية. أنا أعرف أني لا أفهمك، وأشعر بجهل الإنسان وشقائه، أما أنت ... ما لنا ولك؟
سيري، أيتها المياه، سيري واتركيني. اسقي النباتات والأعشاب، ضعي لآلئ في ثغور الورد، رطبي صدر الأرض الملتهب، ترنمي في وحدة الوادي، أسردي حكايتك التي لا تنتهي. اندبي هللي، اصرخي اهمسي، أنشدي انحبي، اطربي احزني. كل هذا ننسبه إليك. نحن أبناء النشوة والكآبة.
سيري أيتها المياه ودعيني أبكي. لقد تلبد جو فكري بالغيوم القاتمة. وقلبي - ما لك وله! - منفرد حزين ...
ناپیژندل شوی مخ
الساعة المفقودة
جعلها أرباب التجارة حلية نسائية، وأتقن الجوهري وضعها في سوار ذهبي، فكانت نصيبي في الشراء.
صورة مصغرة للكون، كذلك كانت ساعتي: مساحتها رمز للفضاء، دورتها مسرح اللانهاية، حدودها حدود اللامكان، علامتها مقاطع الوقت الذي رتبه الإنسان، ساعاتها مقياس الأعمال، دقائقها خوف من هجوم الرزايا وترقب لوفود الآمال، ثوانيها دقات القلب ... من الثواني يتألف الزمان، ومن نبضات القلب تنسج الحياة نسجا.
فيا لهول ثواني الزمان! ويا لهول نبضات قلب الإنسان! بين ثانية وثانية يلتقي العدوان في أحشاء الثرى: الماء والنار، فتميد الأرض بمن عليها، وتتفطر أساساتها فتقذف البراكين مقذوفاتها الجهنمية وسوائلها النارية، وتزفر الطبيعة زفرتها القتالة فتلتهم صروح العمران، وتفتح صدرها مرحبة فيتدحرجون إلى الهاوية التي ليس فيها من يعود على وجه البسيطة مخبرا.
بين ثانية وثانية يتلاقى الجيشان في ساحات الوغى فتدوي رعود المدافع في الفضاء، وتختطف بروق السيوف غالي الأرواح. ولأجل كلمة غالب أو مغلوب تندك عروش، وتنتصب عروش، تدمر ممالك ويعمر سواها، تخرب مدائن ويشاد غيرها، يتجندل أفراد وتفنى مجاميع، فترتدي الأقوام سواد الألوان وفي نفوسهم لوعة الفقدان وسواد الأحزان.
بين ثانية وثانية يموت أمل ويحيا يأس، تبتسم شفة وتدمع عين، يخون صديق ويخلص عدو، بين الثانية والثانية!
وبين نبضة ونبضة هناك سر الأسرار؛ دماء منبعثة إلى القلب ودماء منبعثة منه، تتهافت عليه جراثيم الموت فتخرج مطهرة حيوية . بين النبضة والنبضة تأثيرات تهتز لها أسس العمر، وانفعالات تشخص لمرورها ذرات الكيان. اشتعال الفكر وخمود العاطفة، ظفر البلاهة وتقهقر النبوغ، لذعات الغرام والحسرات العظام، قنوط ورجاء، سعادة وشقاء، هتاف الروح المسلمة ولهاث الروح المودعة. •••
يا ابنة أبيك! يغدرنا الزمان ساعة الرجاء، ويخوننا يوم الصفاء، ويهجرنا حين اللقاء؛ فأنت غادرة خائنة هاجرة كالزمان، يا ابنة الزمان!
كم من ساع طيبات وقعت مرورهن على دوران عقربيك وفكري يناجيك بأحاديث هداه وضلاله! أبتسم لك عند السرور فأتخيلك صامتة تبتسمين، وأتنهد حيالك يوم الأسى فأحسبك تتنهدين وتحزنين، وكأن عقربيك ذراعان يمتدان نحو العلاء مستغيثين متوسلين.
لما أفنت قلبي وحدة القلب ضغطت بك على ساعدي قائلة: «أنت الصديقة التي لا تخون.» ولما مزقت سمعي أكاذيب الناس وأحاديثهم المؤذية خاطبتك قائلة: «أنت لا تؤذين لأنك لا تتكلمين.» ولما أذابني الجهل بدعواه، والغرور بسخافته، نظرت إليك قائلة: «أنت عالمة لذلك تصمتين.»
ناپیژندل شوی مخ
وكنت تعزيتي.
وكنت زماني، يا ابنة الزمان!
وعلى هذا ما كان أطول إعراضك عني، وأقل اهتمامك بي! في النهار، كنت تطوقين ساعدي فيوجعه أثر سلسلتك، وأجيب أنا على هذا العنف بلمسة التلطيف. وفي المساء، كنت تستريحين بجوار وسادتي، فأوقع على موسيقاك الساهية ألحان أحلامي وآمالي، وفي المساء، كنت أول عين أشاهدها، وأول روح أستجوبها.
كل ذلك وأنت لا تنتبهين.
وها قد هجرتني. فقدتك وفقدتني، فسيري بحراسة الله وانسيني!
ولكن انتخبي اليد التي ستطوقينها!
فإذا وقعت في يد شرير وقصد استعمالك ليؤذي أخا له، فانقلبي أفعى لساعة ولا تبرحي مفرغة فيه سمك حتى تصرعيه قتيلا. ... لكن لا! لا، ليس الأشرار إلا ضحايا البشر وضحايا نفوسهم لو كنت تعلمين، وهم أخلق بالرحمة من الأخيار الصالحين؛ فلا تتحولي حية ولا تؤذي شريرا، بل غادري تلك اليد المسكينة، واسقطي في طريق أب فقير صالح؛ لتكوني نصيب فتاة لم تلبس في حياتها حلية. زيني يدا شوهت خشونة الخدمة جمالها، ونامي على زند الفتاة الغريبة بدلال القبلة والتحبب! نامي هناك وأسعدي، ولو ساعة، قلبا بائسا يحسب السعادة في الغنى!
نامي هناك وانسيني، ولكن!
إن كان لديك ذاكرة تذكر، يا ساعتي الصغيرة المحبوبة، اذكري لحظة ما شهدته معي من المسرات واللهفات، اذكري واحفظي ما تعرفين.
ولكن ألست ابنة الزمان الذي ننسب إليه في ضعفنا كل شيء، وهو في قوته لا يبالي بشيء؟ ترى بأي حافظة تذكرين، وبأي ذهن تتأملين؟ إنما علاماتك مداد قد تحجر، وعقربك أصبع يشير إلى علامة يجهل منها المعنى، وأنت آلة ليس إلا، وإن كنت آلة الآلات المثلى.
ناپیژندل شوی مخ
أنت ابنة الزمان الناسي.
وأنت مثله لا تذكرين!
يا سيدة البحار
أسمعت ما طيرته عنك البروق وما قالته فيك الأنباء؟ لوزيتانيا! أبلغك ما بلغنا وتعرفت ما يكتبون؟
قولي!
أتمردت أرواح الكهرباء في الفضاء، وثارت قوات العناصر في أعماق السماء! أم هجمت أسد البحر على الأسلاك الممدودة تحت الماء طالبة من معارف البشر لداء خفي شافي الدواء؟
قولي! أسمعت بما أذاعته عنك الأنباء؟
لوزيتانيا، أجيبي!
أنت التي خضعت لها رقاب الأمواج أعواما، ولثمت المياه موطئ قدمها شهورا وأياما، أنت التي ذاب لحر أنفاسها جليد البحار القاصيات، وابتسمت لقدومها شموس السواحل الدانيات، أيتها الهازئة بهيجان العواصف، وثورات اللجج، وغضب البراكين، يا صلة العمران النشيطة بين العالمين!
يقال إنك غارقة يا ذات الدلال السائر، ويذاع أنك مندحرة يا قاهرة العنصر القاهر، أصحيح ما يقولون وما هم مذيعون؟ تقعين صريعة نيران الجبار العنيد؟ تتضاءل منك القوى إزاء بطشه فيذوب منك حتى صلب الحديد؟
ناپیژندل شوی مخ
أنت التي قطعت المسافات الشاسعات ببسالة باسمة، وملأت وحشة البحار الواسعات بزفرات الإنسان وأصواته، أنت الآملة بكل شيء لأنك يائسة من كل شيء، أيتها المرأة المتنمرة، كيف لم تجيبي على صواعق الإنسان بصواعقك المنتقمة؟
ألا تذكرين يوم غادرت العالم الجديد تحملين للأجسام طعاما، وتنقلين للنفوس غذاء، وتمثال الحرية يحييك بقبسه المحيي ويتمنى لك سفرا سعيدا؟ يوم شيعتك أنظار وقلوب وقد أودعتك أموالا وأسرارا وأرواحا غاليات، ألا تذكرين؟ كيف لم تصوني وديعتك سائرة بها إلى مرفأ الأمان سالمة؟ كيف لم تحرصي على ما ضممت إلى قلبك، أيتها العاشقة الصامتة؟
لوزيتانيا! لوزيتانيا! لقد ذقت رعشة الموت، يا ضحية الحياة! وعرفت معنى الأبدية، يا أثر الفكر الزمني!
في أحضان المياه الدامسة حيث لا شموس ولا كواكب ولا أقمار، حيث يتموج من العناصر الاسوداد والاخضرار، حيث لا كلام سوى دمدمة العواصف الهائجة على صفحة الماء، ولا صوت غير صدى الصواعق المنبثقة من جبين الأفق لتخترق وجنة الغبراء؛ حيث تمر أفكار البشر على الأسلاك البحرية صامتة؛ حيث لا أنين ولا نواح ولا إنشاد، في أحضان المياه الغدافية،
1
في الهاوية المرعبة هناك تندثرين، تندثرين في كهوف نبتون السائلة، وفيها متلاشية تقطنين. هناك تحتضنين وديعتك التي لم تستطيعي صيانتها في الحياة، فتكونين في الردى لها من الصائنين.
هل من دمعة تصل إليك مخترقة مياه البحار؟ هل من قبلة تهبط نحوك مداعبة ما لديك من الأسرار؟ لكن قد كفنك السكوت الدائم والجمود المتحرك الذي لا قبلات لديه، ولا دعابة، ولا عبرات.
لوزيتانيا! لوزيتانيا!
سوف ينتقم لك البشر من البشر، سوف يقيم التاريخ لك ولأخواتك جميل الآثار، سوف تنظم لك الأناشيد، ويعزف لذكرك طروب الآلات.
وإذا سئلت في أعماق الهاوية عن الإنسان الذي أبدعك واستخدمك قولي إنه ما زال كبير المطامع، موفور الغرور، إنه في غروره قد أحبك وبكاك، وإذا سألتك روح الهاوية مذهولة: إذن كيف فتك بك؟ أجيبي بما يقولونه في ربوعنا من أن الذي قضى عليك ليس التحالف الملقب بالإنساني، بل المبطاش المنعوت بالجرماني ...
ناپیژندل شوی مخ
بكاء الطفل
سمعت الطفل يضحك فاختلجت روحي الأثيرية في جسدي الترابي. إن صوت هذا الرضيع ليرجع صدى أصوات الملائكة، وضحكته البريئة المطربة لتحث المفكر على اكتناه الأسرار الأزلية الغامضة.
ثم سمعت الطفل يبكي فهلع قلبي فرقا، وشعرت بشيء كبير يذوب فيه. أواه من بكاء الأطفال! إنه أشد إيلاما من بكاء الرجال!
سمعت الطفل يبكي، ورأيت العبرات تتحدر على وجنتيه الورديتين، فكانت تلك اللآلئ الذائبة جمرات نار تكويني.
ظل الطفل يبكي ودلائل العجز واليأس بادية على محياه الوسيم. ظل يبكي بكاء متروك منفرد لا يحبه في الدنيا أحد. الطفل الحبيب يبكي، فكيف أعيد التألق إلى عينيه ؟ كيف أسمع في ضحكته صدى أصوات الملائكة مرة أخرى؟ •••
فدنوت منه متوسلة، وضممته إلي بذراعي التي لم تضم يوما أخا أو أختا صغيرة، وأجلسته على ركبتي حيث لا يجلس سوى الأطفال الغرباء، ورفعت عقارب شعره عن جبهته الظاهرة بيد ترتجف كأنما هي تلمس شيئا مقدسا. ... ثم وضعت على تلك الجبهة شفتي ساكبة في قبلة كل ما يحوم في جناني من شفقة وانعطاف. ترى من ذا ينبه الانعطاف والشفقة بمقدار ما يفعل الطفل الباكي؟
صمت الطفل حائرا لأنه شعر بأن روحا تناجي روحه. صمت هنيهة، ثم عاد فحدق في بعينين ملؤهما الحزن والتعنيف معا. أتعرفون كيف تحزن عيون الأطفال؟ أتعلمون كيف تعنف أحداق الصغار؟ حدق في سائلا عن أعز عزيز لديه وقال بصوت هادئ كأصوات الحكماء: ماما، ماما! •••
صغيرك يناديك فلماذا لا تجيبين، يا أم الصغير؟ لست بالعليلة؛ لأني رأيتك منذ حين تميسين بقدك تحت قبعتك، والجواهر تطوق العنق منك. أنت صحيحة الجسم، فلماذا لا تسرعين؟ ألا تحرقك دموع الطفل الذي لا ترين؟ ألا يوجعك الشهيق الذي لا تسمعين؟
عودي من نزهاتك الطويلة، وزياراتك العديدة، وأحاديثك السخيفة، عودي واركعي أمام الصغير واستميحيه عفوا.
لقد خلقت امرأة قبل أن تكوني حسناء، وكيفتك الطبيعة أما قبل أن يجعلك الاجتماع زائرة.
ناپیژندل شوی مخ
تعالي واسجدي أمام السرير، سرير الصغير!
اسجدي أمام هذا المهد الذي لعبت بين ستائره طفلة، وحلمت به فتاة، وانتظرته زوجة، فما خجلت أن تهمليه أما.
اسجدي أمام المهد؛ فإن المهد محجتك القصوى!
اسجدي أمام السرير، ولا تدعي رب السرير يبكي لئلا تملأ قلبه مرارة الوحدة، حتى إذا ما شب رجلا تحولت المرارة كرها وصرامة.
اسجدي أمام السرير وناغي الصغير! إن دموع الأطفال لأشد إيلاما من دموع الرجال.
دمعة على المغرد الصامت
ما أسرع ما تتمزق أثواب الورود! وما أتعس القلوب الشديدة التأثر!
يمر النسيم العليل على الأزهار النضرة فتتشقق بوطئه جلابيبها، وتنتثر وريقاتها. كذلك تكفي ملامسة الألم النفس المنفردة ليثير منها الأشجان، ويستقطر من محاجرها العبرات.
من الرجال من يكتفون بالمجد والوجاهة والفخر ، ومن النساء من لا يفهمن الحياة إلا بالزينة والغنى وارتفاع القدر.
أما أنا فلا هذه العطايا تغرني، ولا تلك المواهب تستهويني. شيء واحد تام الجمال، في تقديري، هو ما يشترك في تركيبه قسم كبير من الفكر وقسم أكبر من القلب، شيء واحد ينبه إعجابي، وهو ما كان مترفعا عن الصغائر والدنايا؛ هو زهرة نادرة المثال، شمس الذكاء والمعرفة تحييها، ومياه العواطف العذبة ترويها.
ناپیژندل شوی مخ