إذا كنت رفيع الحسب فكن سعيدا؛ فقد فزت بثقة الجماعة دون أن يوصي بك أحد، وإن كنت وضيع النسب فكن سعيدا؛ لأنه خير لك أن تكون مؤسس عيلتك، ورافع عمادها الذي تعرف به، وتفاخر بذكراه، من أن تكون أحد أبنائها المرغمين بطبيعة الحال على حمل اسمهم، ولا فضل لهم بإعلائه.
إذا كنت كثير الأصدقاء فكن سعيدا؛ لأن ذاتك ترتسم في ذات كل منهم، والنجاح مع الصداقة أبهر ظهورا، والإخفاق أقل مرارة، وجمع القلوب حولك يستلزم صفات وقدرات لا توجد في غير النفوس ذات الوزن الكبير، أهمها الخروج من حصن أنانيتك لاستكشاف ما عند الآخرين من نبل ولطف وذكاء، وإذا كنت كثير الأعداء فكن سعيدا؛ لأن الأعداء سلم الارتقاء، وهم أضمن شهادة بخطورتك، وكلما زادت منهم المقاومة والتحامل، وتنوع الاغتياب والنميمة، زدت شعورا بأهميتك، فاتعظت بالصائب من النقد الذي هو كالسم يريدونه فتاكا، ولكنك تأخذه بكميات قليلة، فيكون لك أعظم المقويات، وتعرض عما بقي، وكان مصدره الكيد والعجز، إعراضا رشيقا. وهل يهتم النسر المحلق في قصي الآفاق بما تتآمر له خنافس الغبراء؟
إذا كنت صحيحا فكن سعيدا؛ فقد استبان فيك توازن الناموس الكلي وانسجامه، وأهلت لمعالجة المصاعب ودحر العقبات، وإن كنت عليلا فكن سعيدا؛ لأنك مسرح تتقاتل فيه قوتا الكون العظيمتان، فالغلبة لما تختار منهما، والشفاء موقوف على ما تريد.
إذا كنت عبقريا فكن سعيدا؛ فقد تجلى فيك شعاع ألمعي من المقام الأسنى، ورمقك الرحمن بنظرة انعكست صورتها على جبهتك فكرا، وفي عينيك طلسما، وفي صوتك سحرا، والألفاظ التي هي عند الآخرين أصوات ونبرات ومقاطع، صارت بين شفتيك وتحت لمسك نارا ونورا تلذع وتضيء، وتحرق وتهنأ، وتخجل وتكبر، وتذل وتنشط، وتوجع وتلطف، وتسخط وتدهش، وتقول للمعنى «كن!» فيكون. وإن كنت خاملا فكن سعيدا؛ لأن الألسنة لا ترهف حدها لتذكرك، والأنظار لا يستعر فيها لهيب التفحص وحب المنافسة إذ تتجه إليك. هاك القمة فاقتحمها إن كنت كفؤا، وإلا فاقنع بأنك جزء مهم من أجزاء الكون تستعملك الكفاءة وقودا؛ فالإيوانات الباذخة لا تقوم بغير الحجارة الصغيرة، وأنت متمتع براحة لا ينعم بها من لا ترتوي شفتاه بغير ماء الحياة، ولا تغتسل روحه بغير سيول الإلهام.
إذا كان صاحبك وفيا فكن سعيدا؛ لأن الأيام حبتك بكنز من أثمن كنوزها، وإن كان خائنا فكن سعيدا؛ لأنه لم يكن على استعداد لاستماع أمثولة خفية تلقيها عليه نفسك، ولا يغادر امرؤ حظيرة المحبة إلا ليفسح مكانا لمن هو خير منه وأجدر.
إذا كنت حرا فكن سعيدا؛ ففي الحرية تتمرن القوى، وتتشدد الملكات، وتتسع الممكنات، وإن كنت مستعبدا فكن سعيدا؛ لأن العبودية أفضل مدرسة تتعلم فيها دروس الحرية، وتقف على ما يصيرك لها أهلا.
إذا عشت في وسط يفهمك ويقدرك فكن سعيدا! فهناك اكتسبت كل يوم شبابا جديدا، وقوة جديدة، ونمت روحك ثم نمت حتى أذهلتك منها الآفاق والبحار، وإن عشت في وسط متقهقر منحط، أيها التعس، فكن سعيدا؛ لأنك في حل من أن تخلق لك جناحين تطير بهما فوقه؛ إلى حيث تبدع من أشباح روحك عالما حوى قوتا لجوع فكرك، وشرابا لظمأ جنانك.
إذا كنت محبا محبوبا فكن سعيدا؛ فقد دللتك الحياة، وضمتك إلى أبنائها المختارين، وأرتك الألوهية عطفها في تبادل القلوب، واجتمع النصفان التائهان في المجاهل المدلهمة، فتجلت لهما بدائع الفجر، وهنأتهما الشموس بما لم تهتد بعد إليه في دورتها بين الأفلاك، وأفضى إليهما الأثير بمكنون أسراره؛ لذلك هما يتأملان حيث يتصابى الخالي، ويصمتان حيث يتكلم، ويمزحان حيث يجد، ويتفرسان في خطوط البقاء حيث لا يلمح هو خيالا.
وإن كنت محبا غير محبوب فكن سعيدا؛ لأن النابذ يحب المنبوذ في أعلى طبقات كيانه، حبا لا يدانيه افتتانه بمن يهوى، والهجران حالة جمة المعاني والألغاز ترقق ما ضخم من الرغبات، وتصفي ما عكر من الانفعالات، حتى يغدو الفؤاد شفافا نورانيا متلألئا كآنية تتناول فيها الآلهة كوثر الخلود.
ولسوف تفوز بمن تريد إن لم يكن في تلك الصورة الأنسية المتباعدة ففي سواها. تهيأ للحب مهما أثقلتك المشاعر؛ لأن للحب هبات وسكنات، وأنت لا تعرف ساعة مروره. كن عظيما ليختارك الحب العظيم، وإلا فنصيبك حب يسف التراب، ويتمرغ في الأوحال، فتظل على ما أنت أو تهبط به، بدلا من أن تسمو إلى أبراج لم ترها عين، ولم تخطر عجائبها على قلب بشر؛ لأن هياكل مطالبنا إنما تقام على خرائط وهمية وضعتها منا الأشواق.
ناپیژندل شوی مخ