جاء الطبيب في أقرب قطار أمكنه اللحاق به، ووصل إلى البلدة والشمس لا تزال في الربع الأخير من حياتها، فقابله العمدة مرحبا به، ونادى بالخادم أن يأتيهم بالقهوة، وجعل يحييه ويسأله عن حاله ويمزح معه. والدكتور لطيف خفيف قد أعطاه الشباب من ذلك ما حببه إلى نفوس أهل المركز فحيث حل يلقاه الناس بالترحيب والبشر ووجوه طلقة وثغور باسمة. ولما أتما واجب التحية، وشربوا القهوة، ابتدءوا حديثهم في السياسة حديثا طويلا، ووافق كل صاحبه في المذهب الذي يتعصب له، والجريدة التي يقدس، والأشخاص الذين يعتقدهم معصومين. فجعلوا يمدحون هؤلاء ويقصون أصغر الحكايات عنهم، ويضيفون لقصصهم كلمات الإعجاب والإطراء، ثم يذكرون آخر المقالات التي كتب، وأخذت بنفوسهم، وأنحوا على الآخرين من سياسي البلد باللائمة، وتدرجوا إلى الحكم عليهم بأنهم مخطئون، ثم حكموا عليهم بالجنون: - وإلا لو كان في دماغ أى واحد منهم شوية عقل كان خلوا مقالة أول امبارح تظهر.. دول جماعة شاطرين في التهييص الفارغ. - لأ.. وكل عبارة يفضلوا يزعقوا لها ليحيى وليسقط لما يدوشوا دماغهم ودماغ الناس معاهم. والإنجليز قاعدين والخديو فاضل زي ما هوه.
وهكذا استمروا في حديث طويل، انتقلوا معه من رؤساء الأحزاب إلى نظار الحكومة، ثم إلى الموظفين، وخصوصا موظفي الإدارة. وهنا قص الدكتور من أخبار المأمور الذي معه ومن نفاقه للمدير ما أطرب العمدة حتى جعله يقوم إلى الطبيب وينحني عليه ويقبله. أولا يعد ذلك أقل جزاء له على انتقاصه من شأن هذا الفاجر الذي يضطر العمدة في جمعياته إلى دفع إعانات لا معنى لها، وشراء كتب لا يحتاجون إليها، والاشتراك في جرائد هم أشد الناس احتقارا لها. وإذا كان أحدهم لا يستطيع إلا الرضا بحكم سعادة المأمور وقبول قوله فإنه على الأقل يجد في الطعن عليه ما يخفف بعض لوعته. لذلك جعل يتبادل القصص مع صديقه الدكتور ويتناوبان الحكايات واحدا بعد الآخر. فلما شفوا من ذلك غلتهم سأل الطبيب عن سبب استدعاءه لأنه على عجل، ويريد أن يقوم بقطار الساعة الثامنة، فنادى العمدة بخفير من عنده ليستدعي إليه حسن أبو خليل.
تدلى قرص الشمس في السماء، ولا يكاد يمسك نفسه، فهو يهبط سريعا، والهواء يهز أغصان الشجر وفروع النخل فيسمع من بعد حفيفها؛ والبركة تتتابع فيها الموجات الصغيرة التي تكبر كلما اقتربت من الشاطئ حتى تفنى عنده. والطرق حتى مرمى العين خالية أو تكاد إلا سكة الوسط المشغولة بالذاهبات والآتيات يحملن على رؤوسهن بلاليصهن، ويمشين بتؤدة وتأن يهتز مع كل خطوة جسمهن ويتثنى قوامهن، فإذا ما ابتعدن لفهن الشك في ردائه وأظهرهن كأنهن ملكات هذا الفضاء العظيم يتهادين فوقه، والسكون الذي يلزم الأرياف شامل القرية تحت حكمه. •••
جاء حسن بعد أن بقي ساعات يتلظى على جمر من الصبر، وهو مطرق الرأس كاسف البال ظاهر عليه من أثر الحزن ما ذهب إلى أعماق نفس العمدة والطبيب، ووقف بينهما ينظر لكل نظرة، فإذا ما وقعت عينه على الطبيب امتلأت من الاستنجاد والأمل ما يترك هذا الأخير وكله الرحمة بهذا البائس أمامه. وطلب إليه العمدة أن يجلس، وأن يقص على الدكتور أمره. لكن أي أمر يقص؟ وأي شيء يقول؟ إن زينب مريضة، وحالها يرثى له، ومنظرها يستدر العين ويبكي القلب، وإنها تضعف كل يوم عما قبله، وصارت تلك التي كانت علم الصحة والقوة والجمال مستنزل الضعف والمرض والنحول!. تلك كل قصته، وذلك ما يبكيه ويبكي أهل بيته. فهل في يد هذا الجالس يلعب بأصابعه وينظر إليه نظرة مشفق عليه أن يخفف من أوصابها، ويعيد إلى نفوسهم جميعا من السكون الذي هجرها ما يستطيعون معه أن يطعموا العيش وأن يجدوا للحياة معنى؟!
قام الطبيب معه فذهبا إلى المريضة وقد هجرها كل من كان عندها إلا أم زينب بقيت إلى جانبها، فكان أول ما سألها عنه: أكان من أهلها من أصيب بهذا المرض من قبل؟ ولكن أمها أمامه قوية صحيحة، وأبوها ليس أقل قوة ولا أضعف صحة. وسألها عما تريد فأجابت: لا شيء. وعن أشياء أخرى كثيرة لم يأخذ عنها ردا مقنعا. وأخيرا طلب إلى من معها أن يتركوه وإياها وحيدين، وجعل يضاحكها كما تضحك الأم طفلها يريد أن يقف منها على شيء من خفي أمرها. لكنه كان أبعد من أن يقنع بما تجيبه به. والواقع أنه كان يتطلب منها فوق طاقتها. إذ مهما يكن من ثقتنا بالطبيب وطبه فلسنا نرضى أن نذيع عن أنفسنا شيئا يأخذه علينا أحد مهما قوي يقيننا أن لن يطلع عليه غيره.
ولما يئس من جوابها سألها أن تكح. ولم تكد تحرك نفسها لإجابة أمره حتى جاءتها نوبة السعال كأشد ما تكون.. ورأى الطبيب بعده الصديد الذي تبصق، فرفع حاجبيه وهز كتفه كأنما يريد أن يقول: لا ضرورة لعلاج وقد بلغ الحال أشده. ولكنما عرته للحال رعشة أن رأى هذا الشخص ولا تزال بقاياه تنم عن قديم جماله الباهر، وهو يذبل إلى الموت ويسري مسرعا نحوه.
ثم نظر إليها متعطفا شارحا أن الأمل في الشفاء لا يزال كبيرا بعد، ولكن ذلك متوقف على أن تخبره بما يدور في نفسها، وخفي ما يجيش بصدرها. فتنهدت زينب ونظرت إليه هي الأخرى وقد جمعت في عيونها الواسعة من الاستغاثة به والاعتماد عليه ما رق هو له. ثم ابتدأت تريد أن تقص له من حديثها ما يريد، لكنها رجعت فترددت، كأنما ترى في قصتها من القداسة ما لا يجوز معه أن يطلع عليها إنسان. وفهم الطبيب ما في نفسها من التردد، فجعل يشجعها بكل ما يستطيع حتى رضيت أن تقص عليه أطرافا من قصتها. ولم يك محتاجا لكثير، فطمأنها على نفسها، وأذن لأهلها أن يرجعوا، وخرج وتبعه حسن، وقطع الفسيح من الأرض الذي يفصل دار العمدة عن بقية دور البلد، وقد غابت عنه الشمس، فأرسلت إليه المباني ظلالها. والسماء قد ابتدأ الليل يرسل إليها طلائعه، فبدت لا تزال زرقتها صافية بديعة، والبركة عن يمينهم تعكس ما فوقها وتتابع موجاتها يلعب بها النسيم.
دخلا دار العمدة، فلما استقر بهما المقام أخرج الطبيب من جيبه أوراقه وقلمه وكتب تذكرته وأعطاها حسنا، ثم طلب إليه أن يجعل زوجته تخرج كل يوم قبل مغيب الشمس بساعتين وأن تتبع بالدقة النظام الذي كتبه لها، ثم أن يذهب من غده ليشتري من الأجزاخانة الأدوية اللازمة.
تركها حسن وخرج، فلما كانا وحدهما سأله العمدة عن حال مريضته فأجابه: والله يصح أنها تطيب.. لكن.. يصح أنها لا تطيب.
ثم انتقلا إلى حديث آخر حتى جاء موعد القطار ورجع الطبيب إلى مركزه.
ناپیژندل شوی مخ