الإهداء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الإهداء
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
زينب
زينب
مناظر وأخلاق ريفية
تأليف
الدكتور محمد حسين هيكل
الإهداء
إلى مصر..
إلى هذه الطبيعة الهادئة المتشابهة اللذيذة ... إلى هؤلاء الذين أحببت وأحب ... إلى بلاد بها ولها عشت وأموت ... إلى مهبط وحي الشعر والحكمة أول الأزل.
إليك يا مصر، ولأختي، أهدي هذه الرواية. من أجلك كتبتها، وكانت عزائي عن الألم. ولأكتبها عشت، ولولاها لقضيت على حياة ما أغناني عنها. فهل أنت تقبلين هذه الهدية الضئيلة من ابن معذب، عيشه مملوء بالهموم، ولكنه يحبه حبا فيك؟
وأنت يا أخت: أنت أول من أحببت من شباب مصر. ولمن أحب أهدي هذا القسم من نفسي، والذي احتل سني شبابي الأولى، أهديها لك بعد أن أهديتها لمصر. ولعلك أنت الأخرى تقبلينها فتبعثين في الأمل وحب المزيد.
ولمصر نفسي ووجودي ... ولأختي قلبي وروحي.
هيكل
مقدمة1
بقلم محمد حسين هيكل
نشرت هذه القصة للمرة الأولى في سنة 1914 على أنها بقلم مصري فلاح، نشرتها بعد تردد غير قليل في نشرها وفي وضع اسمي عليها، فلقد بدأت كتابتها بباريس في أبريل سنة 1910، وفرغت منها في مارس سنة 1911، وكان حظ قسم منها أن كتب بلندن، كما كتب قسم آخر بجنيف أثناء عطلة الجامعة في أشهر الصيف، وكنت فخورا بها حين كتبتها وبعد إتمامها، معتقدا أني فتحت بها في الأدب المصري فتحا جديدا، وظل ذلك رأيي فيها طوال مدة وجودي طالبا للحصول على دكتوراه الحقوق بباريس. فلما عدت إلى مصر في منتصف سنة 1912، ثم لما بدأت أشتغل بالمحاماة في الشهر الأخير من تلك السنة، بدأت أتردد في النشر، وكنت كلما مضت الشهور في عملي الجديد ازددت ترددا خشية ما قد تجني صفة الكاتب القصصي على اسم المحامي. لكن حبي الفتي لهذه الثمرة من ثمرات الشباب انتهى بالتغلب عل ترددي، ودفع بي لأقدم الرواية إلى مطبعة «الجريدة» كي تنشرها، وإن أرجأت نشر اسم الرواية ومؤلفها وإهدائها إلى ما بعد الفراغ من طبعها. واستغرق الطبع أشهرا غلبت فيها صفة المحامي ما سواها، وجعلتني لذلك أكتفي بوضع كلمتي «مصري فلاح» بديلا من اسمي.
ولقد دفعني لاختيار هاتين الكلمتين شعور شباب لا يخلو من غرابة، وهو هذا الشعور الذي جعلني أقدم كلمة «مصري» حتى لا تكون صفة للفلاح إذا هي أخرت فصارت «فلاح مصري». ذلك أني إلى ما قبل الحرب كنت أحس - كما يحس غيري من المصريين، من الفلاحين بصفة خاصة - بأن أبناء الذوات وغيرهم ممن يزعمون لأنفسهم حق حكم مصر ينظرون إلينا جماعة المصريين وجماعة الفلاحيين بغير ما يجب من الاحترام. فأردت أن أستظهر على غلاف الرواية التي قدمتها للجمهور يومئذ، والتي قصصت فيها صورا لمناظر ريف مصر وأخلاق أهله، أن المصري الفلاح يشعر في أعماق نفسه بمكانته، وبما هو أهل له من الاحترام، وأنه لا يأنف أن يجعل المصرية والفلاحة شعارا له يتقدم به للجمهور، يتيه به ويطالب الغير بإجلاله واحترامه. •••
وظهرت طبعة «زينب» الأولى قبل الحرب، وتناولها الكتاب بالنقد زمنا، ونسبوها إلي، ورآها بعضهم جديرة بالاعتبار والتقدير، ثم أنست الحرب الناس ما سواها، وأنستني أنا أيضا قصتي. فلما انتهت الحرب وقامت الحركة الوطنية وظهرت فكرة «المصرية» واضحة محترمة كما صورت لنفسي على غلاف «زينب». ثم لما تركت المحاماة إلى الصحافة، وشغلت بالتحرير وبالكتابة، طلب جماعة من أصدقائي إلي أن أعيد طبع «زينب» ليطلع عليها ناشئة هذا الجيل الجديد، وليروا فيها قصة مصرية تصف لهم ناحية من حياة بلادهم، وتدلهم على صور من الجمال فيها لم يسبق الكتاب إلى وصفها. وترددت في إجابة طلب أصحابي كما ترددت أول مرة في تقديم القصة لطبعتها الأولى، حتى إذا رأيت الأستاذ محمد كريم يطلب إلي إخراجها على لوحة السينما، ثم رأيت بعد ذلك عنايته بهذا الإخراج، لم يبق للتردد في إعادة الطبع محل. كما لم يبق سبب لمحو اسمي من الرواية بعد أن كتبت الصحف وعرف الناس جميعا أنها لي. •••
ولا أريد أن أحكم اليوم على قصة كتبتها في صدر شبابي بأكثر من أني ما أزال أراها تمثل شبابي تمثيلا صحيحا ، وأن فيها لذلك كثيرا مما أحب، سواء لأنه دخل عالم الذكرى حتى لأعجز إن حاولت استعادته، أو لأنه يمثل أحلام الشباب وخيالاته مما أبسم اليوم له كما أبسم لما أسمع من خيالات وأحلام لشبان هم اليوم في مثل سني يومئذ، ولأنه بعض عزم الشباب ومضائه، هذا العزم الذي لا يعرف المستحيل، بل يعرف كيف يتغلب على كل مشقة، ويذلل كل عقبة، ويستسهل كل صعب، ويحقق كل خيال، أو لأنه يشدو بموسيقى الصبا الحلوة العذبة المنبعثة من كل موجود في الأرض أو في السماء، والتي تتغنى بأهازيج الحب والوجد كما يعرفها الصبا، خالية من كل ما يفجع، طائرة على أجنحة من الأمل إلى جنات فيحاء كل ما فيها ورد وريحان وحور عين. بل إن لفجائع الشباب لشعرا له روعته وموسيقاه. هذا وغيره من صور الصبا المرسومة في زينب يمثل شبابي، ولذلك أحن اليوم إليه حنين القلب إلى مثوى محبوب ذهب ولن يعود.
ولعل الحنين وحده هو الذي دفع بي لكتابة هذه القصة. ولولا هذا الحنين ما خط قلمي فيها حرفا، ولا رأت هي نور الوجود. فلقد كنت في باريس طالب علم - كما ذكرت من قبل - يوم بدأت أكتبها. وكنت ما أفتأ أعيد أمام نفسي ذكرى ما خلفت في مصر مما لا تقع عيني هناك على مثله. فيعاودني للوطن حنين فيه عذوبة لذاعة لا تخلو من حنان، ولا تخلو من لوعة. وكنت ولوعا يومئذ بالأدب الفرنسي أشد ولع، فلم أكن أعرف منه إلا قليلا يوم غادرت مصر وبضاعتي من الفرنسية لا تتجاوز الكلمات عدا. فلما أكببت على دراسة تلك اللغة وآدابها رأيت فيها غير ما رأيت من قبل في الآداب الإنكليزية وفي الآداب العربية. رأيت سلاسة وسهولة وسيلا، ورأيت مع هذا كله قصدا ودقة في التعبير والوصف وبساطة في العبارة لا تواتي إلا الذين يحبون ما يرون التعبير عنه أكثر من حبهم ألفاظ عبارتهم. واختلط في نفسي ولعي بهذا الأدب الجديد عندي بحنيني العظيم إلى وطني، وكان من ذلك أن هممت بتصوير ما في النفس من ذكريات لأماكن وحوادث وصور مصرية. وبعد محاولات غير كثيرة انطلقت أكتب «زينب». وبدأتها وأنا أحسب أني سأقف منها عند أقصوصة صغيرة كغيرها من الأقاصيص التي كتبت يومئذ. لكني رأيت نفسي أفسح أمامها مجالها، ورأيت مصر تطوى وتنشر أمام خيالي مناظرها، ورأيتني أشعر بلذة دونها كل لذة كلما سطرت صورة من صور هذا الوطن الذي أحن إليه، ثم راجعتها فرأيتها تترجم عن الحقيقة المرتسمة في نفسي. ولم تمض أسابيع على بدئي الرواية حتى رأيتني اعتزمت إتمامها كما تمت، لأصور فيها حياة الريف المصري أصدق تصوير كنت أستطيعه. والعجيب أن شهوة ملكتني لم أكن أستطيع تفسيرها. ذلك أني كنت أفضل الكتابة في القصة في ساعات الصباح على أثر يقظتي، وكنت إذا بدأت أكتب أسدلت أستار نوافذي فحجبت ضوء النهار، وأضأت مصابيح الكهربا، كأنما أريد أن أنقطع عن حياة باريس لأرى في وحدتي وانقطاعي حياة مصر مرسومة في ذاكرتي وخيالي. أما حين كنت في سويسرا فكثيرا ما كنت - إذا بهرني منظر من مناظرها الساحرة - أسرع إلى كراسة زينب، فأنسى إلى جانبها منظر الجبل والبحيرة والأشجار تتسرب من خلال أوراقها وغصونها أشعة الشمس أو القمر، لتتلاعب بموج الماء أو لتداعبه، وأستعيد مناظر ريفنا المصري وجمال خضرته الناضرة، فإذا بهري بهذا الريف المرتسم في خيالي لا يقل عن بهري بمناظر سويسرا التي كانت مرتسمة أمام ناظري، وإذا بي أسطر ما يمليه علي خيالي قبل أن أكتب شيئا عما رأيته وكان له في نفسي وفي مشاعري الأثر البالغ. ••• «زينب» إذن ثمرة حنين للوطن وما فيه، صورها قلم مقيم في باريس مملوء مع حنينه لمصر إعجابا بباريس وبالأدب الفرنسي. وهي ثمرة الصبا بما للصبا وللشباب من قوة وضعف، وتوثب واندفاع، وشعور سام لا يحده مدى، ومخاوف وآمال لا تزال تخالطها آثار السنين الناعمة الأولى، والصبا والحنين للوطن مقدسان.. لذلك رأيت فرضا علي أن أترك «زينب» في طبعتها الثالثة كما هي يوم كتبت ويوم نشرت طبعتها الأولى ثم الثانية إلا ما كان من خطأ مطبعي أو ما هو في حكمه. ولعلي لو حاولت فيها تحويرا لما استطعت إلا أن أستطيع استعادة الصبا والحنين. وأنى للصبا أن يعود؟! وأنى للحنين الأول أن يعاود النفس مثله حنين؟!
الفصل الأول
1
في هاته الساعة من النهار حين تبدأ الموجودات ترجع لصوابها، ويقطع الصمت المطلق الذي يحكم على قرى الفلاحين طول الليل أذان المؤذن وصوت الديكة ويقظة الحيوانات جميعا من راحتها، وحين تتلاشى الظلمة ويظهر الصباح رويدا رويدا من وراء الحجب - في هاته الساعة كانت زينب تتمطى في مرقدها، وترسل في الجو الساكن الهادئ تنهدات القائم من نومه. وعن جانبيها أختها وأخوها ما يزالان نائمين. فانسحبت هي من بينهما. وبعيون ما يزال فيها أثر النوم نظرت لكل ما حولها. ولم يدعها نسيم الصباح تترك مكانها، بل استندت إلى الوسادة وجاهدت أن تنظر لعلها ترى ما في صحن الدار فلم تجد شيئا. وأدارت رأسها فإذا باب الغرفة موصد، ولا صوت حولها إلا ما يتنادى به رسل الإصلاح من أطراف القرية.
بقيت في مكانها هنيهة ساكنة لا تبدي حراكا. ثم فردت ذراعيها من جديد، وأرسلت في الهواء تنهداتها، وتركت نفسها تذهب في أحلام يحييها النسيم، حتى أحست بالباب تفتحه أمها راجعة من أولى أدوار «الملية».
1
هنالك التفتت إلى أختها تهزها لتستيقظ. لكن الصغيرة كانت في نوم عميق فلم تنتبه، وتقلبت كأن بها ضيقا ممن يقلقها في مضجعها.. وأخيرا نادتها أمها: يا زينب..! - نعم..
ولم تزد على هذا الجواب كلمة. وبعد أن استيقظت أختها التفتت إلى أخيها وأيقظته. وحدقت نحو الشرق فإذا الأفق متورد، والشمس في لونها القاني والسماء قد خلعت قميص الليل. هنالك قامت فأوقدت نارا ولدنت فوقها رغيفا لكل منهم، ولم تنس أمها وأباها.
دخل أبوها راجعا من الجامع، وقد قرأ الورد وصلى الفجر، وما كاد يتخطى عتبة الدار حتى نادى: «يا محمد»، وسأله إن كان قد استيقظ بعد، وإن كان قد أعد عمله.
جلست العائلة جميعا حول «المشنة» وأكل كل منهم رغيفه «بحصوة» ملح. ثم قام الرجل وابنه إلى عملهما.
أما زينب فانتظرت مع أختها أن يمر بهما إبراهيم، ليذهبوا جميعا إلى مزرعة السيد محمود لتنقية القطن. وقد كان في أملهم جميعا أن ينتهوا اليوم من بر الترعة الغربي، أو كما يسميه كاتب المالك «نمرة» 20 لينتقلوا في الغد إلى «نمرة» 14.
نزلتا حين رأتا إبراهيم ومن معه مقبلين. وتهادى الكل «صباح الخير»، ثم خرجوا من الحارة إلى سكة البلد، ثم منها إلى سكة الوسط، وهكذا كانوا عند «نمرة» 20 ساعة مرور وابور الصبح. ولم يتمهلوا أن أخذ كل منهم خطه على وجه الترتيب الذي كانوا عليه أمس. فلما لم تجد خضرة القطعة سعدة بجوارها التفتت لزينب عن يمينها تسألها عنها، وهزت هذه الأخيرة أكتافها.
ارتفعت الشمس حين نقوا خطين، وأرسلت بشعاعها تغمر هاته الشجيرات التي ما تزال في مبتدأ حياتها، ومع ذلك يعنى بها الفلاح والمالك أكثر من عنايتهما بأبنائهما. واصطفوا للوجه الثالث بعد أن فصلهم عن الأولين مصرف، فلم ينس إبراهيم أن ينبههم إلى أن هذه الجهة أغلت من سابقتها، وتستحق لذلك عناية أكبر، وأنذرهم أنه سيدقق في مراقبتهم، ومن وجد وراءه شيئا أوراه شغله. •••
جاء الكاتب ساعة العصر يقيد الأسماء، فقيد حماره، ونزل وسط الغيط ليرى الأنفار بنفسه، وأراد بعضهم أن يحضر إليه ليسأله بعض دراهم، فعبس لهم وقطب حاجبيه. وبقي كذلك حتى انتهى من شأنه، ثم أخبرهم أخيرا أن لا دفع قبل يوم السوق.
وفي ليلة السوق كان الكاتب في غرفته، ومعه ولد يبلغ الثانية عشرة من عمره يعينه على عمله، وأمامهما مكتب من الخشب الأبيض قد وضعت عليه الدفاتر. وقام مصباح ضئيل النور - «لمضة» خمس شمعات - يزيد نوره ضعفا ما على زجاجته من التراب. وعن جانب دواة بمقلمتها النحاسية، وعن الآخر زجاجة صغيرة ملأى لنصفها بالحبر. وأحاط بالمكتب جماعة من العمال أمسك «التملية» منهم دفاترهم بيدهم، وانحنى الآخرون يسألون عن عدد أيام شغلهم، وعلى شباك الغرفة وقف أولاد وبنات وشبان يعلوهم الصمت ساعة، ثم يتكلمون جميعا بين أسنانهم، يظهرون حنقهم على هذا الكاتب الذي يضايقهم ساعة أخرى . وبعد أن طال بهم الوقوف صدر قرار بأن الدفع سيكون في السوق.
هنالك عم الاستياء وصرت تسمع من جوانب شتى: واللي مش رايح السوق؟
وتكررت هذه الكلمة وسواها من مثلها. ثم بلغ الاستياء أن صمم بعض العمال على الذهاب إلى المالك نفسه لتقديم شكواهم إليه. وفي تلك اللحظة مر أحد أقاربه المحبوبين عند العمال، ومن لهم بعض الجرأة عليه، فأحاطوا به، وجعل كل يشرح له عذره، فيرضي خاطرهم بكلمات تسرهم ولكنها لا تفيدهم شيئا.
انصرف الأكثرون منهم مقتنعين أنهم في صباح الغد سيقبضون، وآخرون رجعوا إلى الكاتب يسألونه عن قيمة ما لهم، فإذا لخليل أبو جبر ستة أيام، أي ثمانية عشر قرشا. أما عطية أبو فرج فقد أمضى أكثر أيام أسبوعه مريضا، فخرج منه بستة قروش، وهو يعول امرأة وبنتا صغيرة، ويساعد أما له دقتها الأيام، ولم يبق لها من أبنائها من يعينها سواه. بالرغم من الخلق المرقوع الذي يلبس هو وبقية أفراد عائلته فلم يكن من سبيل لغير هذا ما دام الأجر على ما هو عليه من ضعف. وإنه ليحمد الله على كل حال، وعلى أن جاموسته لم تمت كما حصل لجاره مبروك أبو سعيد، فتضطره لأن يبقى في المصيبة شطرا من عمره.
في الصباح حضر الكثيرون منهم من جديد إلى الكاتب. ومن جديد عبس في وجههم قائلا أن ليس معه «فكة». وبالرغم من إلحاح بعضهم وإقرار الآخرين عملهم فقد خرج المالك وهم لا يزالون يناكفون الشيخ علي، والشيخ علي لا يسمع كلامهم. فذهب منهم من يشكو للسيد محمود أمره، وإن كان يعلم أن السيد يعيرهم في الغالب أذنا صماء. ولكنه في هذه المرة نادى كاتبه، وأخذ بنفسه أمر إرضاء هؤلاء المساكين الذين بشت وجوههم، وافترت بالسرور ثغورهم، وجعلوا كلما رأوا الكاتب خارجا من عند السيد ينظرون إليه ويتغامزون. وأنسى الشيخ علي أمرهم ما هو فيه من كرب، إذ أخذ عليه سيده غلطة في الحساب، فهو يعنفه من أجلها. وأخيرا صرف العمال بعد أن صرف لهم أجورهم، وذهب الكثيرون منهم وهم أشد ما يكونون فرحا، خصوصا وأنهم رأوا الكاتب صغيرا أمامهم.
ذهب الكثيرون منهم إلى السوق. ولقد كان هناك أبو زينب منتظرا أن يرى الكاتب فيأخذ منه أجر أبنائه. ولم يبطئ الشيخ علي، بل ما لبث أن تلقى أوامر السيد حتى ذهب هو الآخر للسوق، وصرف لهؤلاء الآخرين استحقاقهم بعد أن حصل على «الفكة». •••
تقضت أيام بعد ذلك وزينب تذهب لنقاوة القطن تحت رياسة إبراهيم، حتى إذا جاء وقت الحصاد انتقلت هي وأختها وأخذ الرياسة عليهم حسين أبو سعيد. فكانتا تذهبان هما والعمال تحت جنح الليل الأمين وينامون في الغيط، تكلؤهم السماء حتى منتصف الليل، ثم يقومون وقد أعطت الرطوبة عيدان الغلة شيئا من اللين بحيث لا تتقصف تحت كل يد لامسة، فيجيئون بشراشرهم على هذه المزرعة الواسعة.
في هاته الليالي الساهرة، هاته الليالي البديعة يموج في جوها نسيم الصيف البليل، وتتلألأ في سمائها الكواكب اللامعة، يقوم جماعة الفلاحين فيعتاضون بها عما يناله المترفون من أسفارهم إلى أجمل بقاع الأرض، وعن دثرهم الناعمة يستعيضون القمر الساهر يكلؤهم بحراسته. وفي جوف الظلمة الصامت الأمين يرسلون بآمالهم وأمانيهم، ويحمل هواؤها الحلو أغانيهم على جناحه، ويملأ بها ما بين السموات والأرض.
في هاته الليالي تجد الكواعب من بنيات الفلاحين مسرح آمالهن، وتجد القوية المتفوقة منهن السبيل إلى الظهور حيث تسبق الآخرين وتضطرهم بذلك للإسراع وراءها - حتى هذه الطوائف الفقيرة أحوج الناس إلى التعاون، تعمل المنافسة في نفوسهم وتسوقهم بذلك للجد والعمل، ولكنها الطبيعة تريد أن تستعبد الإنسان وتستغله، لتزيد الكون حركة وسيرا، فتعمي على الفرد، وتسحره عن نفسه، وتدفعه لإتمام غرضها. فالواحد مهما عمل، ومهما جاهدت المدنية لإظهار شخصه، مسخر للجماعة يخدمها، مسوق لذلك بالرغم منه. وهو مهما كانت نواياه أنانية يعمل غير شاعر لخير الجميع. أليس من خيره أن يغير نواياه؟
وقد أبدعت الطبيعة في زينب وأعطتها بذلك تاجا معترفا به من كل صويحباتها. فإذا ساقك الحظ أيام الصيف، وخرجت في ليل غاب بدره، وتألقت نجومه فخففت من سواد الليل ، وإن لم تقدر على تبديد ظلمته، أو كنت أسعد حظا واتخذك القمر رفيقا، فأدلجت بين تلك المسطوحات الزراعية الكبيرة. لم يكن لك بعد نقطة معينة إلا أن تسير في طريق لا تعرف سببا لسيرك فيه، وتندفع مجذوبا بقوة لا قبل لك على مقاومتها، ويسبق رأسك قدمك، ويسوقك موقفك وذلك الجاذب وهواء الليل الجميل إلى أن تهمهم بين أسنانك، أو تنادي آهة المستحسن الطرب، أو تدعو الليل يجيبك صداه، ولا تزداد في كل ذلك إلا اتباعا لقائدك المحبوب. ثم تصل إلى نقطة تقف عندها، ولا تطاوعك قدمك إلى أية ناحية أردت تحريكها، وتمد عنقك وتسترجعه، يستخفك الجمال ويلعب بقلبك الهوى، وتروح تائها عن كل ما حولك. ثم يرتفع ذلك الصوت الذي جذبك إلى موقفك ثانية، فتصيخ له بأذنك، وتصغي بكليتك، فإذا زينب تحدو والعاملات من بعد ذلك يجبنها.. تلك موسيقى الصيف في ليله البديع، ترسل في أذن الخليقة النائمة نغمة الهوى، وتبعث في قلوب العاملين العزاء عن ليلهم الساهر. وهل هذا الصوت الذي تردده الظلمة الصامتة إلا مهيج في النفس أجمل ما يعزيها عن كل مشقة؟!
فإن أنت تابعت سيرك، واتبعت الصوت حتى صرت على مقربة منه، رأيت في البحر اللجي من شعاع حائر في السماء الأطفال والفتيات وقد انثنوا فقبضوا بشمالهم على سيقان القمح النائم بعضه فوق بعض كأنه نشوان طرب بتلك العوامل الكثيرة التي تبعث إلى قلب المحزون ما يستخفه ويستهويه. وباليمنى على شراشرهم - تلك نصف الدائرة الحديدية التي وعت عهد فرعون وتسللت مع الزمان إلى عصرنا الحاضر.
وتصل عند العمال فإذا زينب بين الجمع في الطليعة، وقد انسدل إلى جانبها جناحان من العاملات، وكلهن في جدهن وعملهن يرددن حداءها بعد أن حمله الهواء على موجاته ونادى به الليل الصامت في كل الأنحاء، والقمر قد انحدر إلى المغيب ينظر إليها نظرة الصب قد ناله الشحوب فهو ذاهل في نشوته. وأحاطت بذلك غيطان القطن الأخضر الذي ما يزال طفلا.
ها هي ذي زينب في تلك السن ترنو إليها الطبيعة وما عليها بعين العاشق، فتغض طرفها حياء، وترفع جفونها قليلا قليلا لترى مبلغ دلها على ذلك الهائم، ثم تخفضها من جديد، وقد أخذت مما حولها ما ملأ قلبها سرورا، وأضاف إلى جمالها جمالا ورقة، فزاد الوجود غراما بها وزادها به تعلقا ووجدا. وهكذا كلما اجتلى أحدهما من صاحبه نظرة ذهبت منه إلى أعماق النفس فانطبع الكل في قلب الفتاة، وتوجت الفتاة حياة الوجود المحيط بها. فهل قنع كل منهما بحظه ورضي نصيبه؟!
أما الوجود فقانع راض أشيب، علمه تعاقب الدهور أن الاسترسال في تحديد الغاية بخطوط الخيال جري إلى حيرة اللا نهاية، وأن كسب الحاضر حتى يحضر المستقبل أوفر الربح. وأما الفتاة فهي في سعادتها حيرى تائهة، وفي حيرتها سعيدة فرحة. أحست في نفسها بمكانتها، ولكنها تريد أن تختص من الكل العظيم غير المحدود روحا إنسانية تختلط مع روحها، ونفسا تسيل مع نفسها، ثم يظل الباقي وبينها وبينه من الصداقة ما يزيد في حظهما من السعادة. ذلك كل حلمها وأملها وإن لم تستعجل به الزمان، ولا خطر ببالها أن في طاقة الحوادث أن تمنع تحقيقه.
فإذا ما تنفس الصبح، وطلعت الشمس وبعثت بنورها على البسيطة، وتلألأ الطل تحت أشعتها، ثم بلغ به الإعجاب بنفسه أن لم يرض بمقامه السفلي، وطار يطلب السماء، فترك عيدان القمح ترجع إليها صلابتها - تعاون العمال جميعا على جمع ما حصدوا وأعدوه أحمالا، وانتظر بعضهم الجمل الذي ينقلها إلى الجرن، في حين يرجع الآخرون أدراجهم إلى دورهم، فيقضون نهارا قليلا نومه مشتغلين بتجريد بهائمهم التي تنتظر أيام الحرث القريبة. وهناك على شواطئ الغدران والترع يقضون ساعات نياما تحت الشجر تعوضهم من كدهم لعمل الليل المقبل.
وتقضت أيام الحصاد هي الأخرى، وانتقلوا لعمل جديد. واستعاضوا بذلك مكان الليل المقمر ونسيمه العذب وآماله وأحلامه نهار الصيف وشمسه المحرقة.. ولكنهم ما كانوا ليحسوا بذلك أو ليألموا له وقد تعودوه كما تعوده آباؤهم من قبلهم. تعودوه من يوم مولدهم، فانتقل إليهم بالوراثة وبالوسط. وتعودوا ذلك الرق الدائم ينحنون لسلطانه من غير شكوى ومن غير أن يدخل إلى نفوسهم قلقا. يعملون دائما ومن غير ملال، ويرقبون بعيونهم نتائج عملهم زاهرة ناضرة، ثم يقطف ثمرتها سيد مالك كم فكر في أن يبيع قطنه بأغلى ثمن، ويؤجر أرضه بأرفع قيمة، وفي الوقت عينه يستغل الفلاح نظير قوته الحقير، ولم يدر بخاطر السيد يوما أن يمد له يد المعونة، أو أن يرفعه من درك الرق الذي يعيش فيه. وكأنه ما علم أن هذا المجموع العامل يكون أكثر نفعا كلما زادت أمامه أسباب المعيشة وتوافرت عنده دواعي الطمع في أن يحيا حياة إنسانية.
لكن السيد المالك لا يهمه شيء من ذلك. وهو الآخر يعيش كما عاش آباؤه، يحافظ على القديم، ولا يفكر في أن يغير من عادات سلفه شيئا. وإذا حدثك عن الماضي حدثك عنه باحترام وتبجيل آسفا أن انتقل أجر النفر الشغال أيام الشتاء من قرش إلى قرشين، وتمنى عودة ذلك الزمن زمن البساطة والرخص، لا لأنه يشكو مما يثقل عاتقه في الحاضر من الواجبات - فإنه يرى الحاضر أحسن كثيرا من هذه الجهة - ولكن لتسقط الأجور إلى مستواها الأول، فيكون هو بذلك أوفر ربحا، ويبقى العامل والفلاح لذلك في ظلمته وفي رقه وشقائه.
2
للسيد محمود رب هاته الضياع عائلة طويلة عريضة، خلفها المرحوم والده الذي توفي عن أربع زوجات غير اثنتين ماتتا في طريق حياته. وبالرغم من الكثيرين جدا من أولاده الذين كانوا يموتون قبل السادسة من عمرهم - وهم خمسة وعشرون فيما يذكر السيد محمود - فقد بقى له يوم مماته اثنا عشر ولدا من ذكور وإناث. ولهذا كانوا يتفاوتون في السن ما بين خمسين سنة لأكبرهم وثلاث لطفل لا يزال في حضن أمه الشابة. وورثوا جميعا شيئا غير كثير. لكن السيد محمود، باعتباره أكبر إخوته الذكور، كان قد جمع من كده وبمعونة والده ثروة غير قليلة، وأصبح هو وارث اسم العائلة، وطبعا الوصي على إخوته القصر. وقد كان من أطيب الناس قلبا، وأصفاهم سريرة، وأحبهم لإخوته، وأحناهم على الصغار منهم. فمع ما هو مجسم في نفوس الإخوة من زوجات مختلفات من عدم ثقة بعضهم ببعض، ومع ما تزرعه أمهاتهم في نفوسهم من معنى الانفصال، فقد كان هذا الرجل يعامل إخوته الصغار معاملة الأبناء. ولعل ذلك جاء فوق طيبة خلقه من وصية أبيه له وهو على سرير موته بصوت واجف وعبرة تنهمل بالرغم منه من مآقيه الفانية ومن تلك العيون التي كانت تودع في نظراتها الأخيرة عالمنا وما عليه: وصيتك إخوتك يا محمود. هم أولادك.
أما أبناء السيد نفسه فهم أبناء زوجة واحدة ويبلغون الثمانية عددا: أربعة بنين وأربع بنات. ولقد عني السيد بهم جميعا وأرسل للتعليم من أبنائه كل من تحتمل سنه ذلك. أما من جهة التربية فقد كان أقرب إلى تركهم لنفوسهم. ولم يكن هو نفسه يدري سبب ذلك. ولا يمكننا أن نعلل هذا الترك من جانبه بسبب مفهوم. الرجل رجل طيب كغيره، وكان من المعقول جدا أن يضع أبناءه تحت مراقبة ضيقة كما هي عادة أمثاله، أو على الأقل أن يجعلهم في حضوره مثال الصمت والسكون كمقتضيات الأدب المصري. صحيح أنه ظاهر الجد إلى أقصى الحدود ساعة حضورهم، ولكنه لم يكن من الرهبوت بالمبلغ الذي عليه أمثاله. ولهذا السبب من جهة، ولأنه من الأعيان الأغنياء المصريين من جهة أخرى، لم نقدر على القول بأن تركه الحرية لأولاده نتيجة نظرية في التربية رآها، أو لأنه من أنصار سبنسر في وجوب جعل الطفل معلم نفسه بقدر الممكن، فلا يتعرض له فيما يعمل إلا عند تحقق الخطر الجسيم منه.
لذلك كنت ترى الكثيرين منهم يقضون أيام مسامحاتهم السنوية في الغيطان، وكثيرا ما يبيتون هناك ليالي الحصاد مسرورين بهواء الليل وغناء العاملات، أو إلى جانب «تابوت» يزن من غير انقطاع. لكن حامدا أكبرهم لم يكن بهذه الطباع. بل كان شديد الميل إلى البقاء بالبلد، وفي دار الضيافة مع الناس. والسبب في ذلك راجع إلى تربيته الأولى حين كان والده متفرغا له، جاعلا إياه شغله، متخذا منه ألعوبة يقلب فيها كما يشاء. يسر بها أحيانا فيغدق عليها من رضاه ومن نفسه، ويلاطف ذلك الطفل الذي يحبه من كل قلبه، والذي يحس به جزءا من نفسه. ويغضب أخرى فيضربه من غير رحمة لولا أن تتدخل جدته وتؤنب ابنها على عمله.
حين بلغ حامد الخامسة من عمره كان طفلا كثير الدلال، كثير البكاء، موضع الإعزاز من جميع من في الدار. وبالرغم من هذه السن كنت كثيرا ما تراه محمولا على أكتاف النساء أو على أعناق الرجال، وكانت أحب الساعات لنفسه الساعات التي يقضيها لعبا مع ابنة عمه عزيزة حين كانت تجيء إلى القرية مع أمها. ومع أنه أكبر منها بسنتين في العمر فقد كان ظاهر التودد في معاملته إياها؛ لذلك لم تبطئ جماعة المحيطات بهما من النسوان أن يجعلن كلا منهما عروس صاحبه.
ذهب به أبوه بعد ذلك للكتاب ثم المدرسة. ومرت السنون وهو دائما موضع الحب من أهله الذين سروا بنجابته ونجاحه. وبقي دائما على عادته من المكث بين جدران البلد في حين كان أعمامه وإخوته يجوبون المزارع. وإذا صادف أن خرج مرة مع أبيه لم يكن يدري أين هو ولا ما يملكون. •••
في ضحى يوم من تلك الأيام المحرقة حين كانت زينب تشتغل مع مثيلاتها بنقاوة القطن خرج حامد مع إخوته إلى المزارع. فلما وصلوا إلى العمال كان حضوره موضع غرابة عند أكثرهم من الذين لم يروه من قبل. أما إخوته فتدفعهم سنهم الصغيرة للنشاط وتوحي إليهم بحب السلطة؛ ولذلك كنت لا تراهم يأنفون أن يشاركوا هؤلاء الذين يكدون لقوتهم سويعات من الزمان، ثم يرجعون وقد سال جبينهم عرقا يحتمون في ظل بعض الأشجار أو يجلسون مستندين إلى جذوعها، ولا يكاد يجف عرقهم حتى يرجع الواحد منهم، وقبل أن يصل إلى العمال يناديهم بأنهم كسالى وأنهم لا يشتغلون. فإذا كان عندهم أحس بشيء في نفسه يمنعه من الإقدام على العمل من جديد، وكأنه يخاف أن يتعب مرة أخرى فلا يقوم بعمله مصداقا لقوله وندائه.
أما حامد فقد بقي يتصفح الوجوه ويلقي من حين لآخر سؤالا يستفهم به من إبراهيم رئيس العمل عما عنده. فلما مضت ساعة على ذلك لم يحتمل البقاء تحت حر الشمس، فالتجأ إلى ظلال الأشجار وبقي مع أخ له يتحدثان.
ثم قام أخوه وبقي وحده، فبعث بنظره إلى ما حوله وإلى هؤلاء العمال على مقربة منه غارقين في النور والنار منكبين على العمل. فإذا رفع أحدهم رأسه ناداه إبراهيم أو أحد من «الأفندية» إخوة حامد وأعمامه. وفي لحظة تاهوا عن باله، وانفرد هو يناجي نفسه، ويذكر الأمس القريب حين سافرت عزيزة من القرية بعد أن قضت فيها أياما. وبعد أن جلسا مرارا يتحدثان ومعها أخوها وعمة حامد وكلهم فرح مسرور. ذكر ذلك الأمس وكأنها لم تزل باقية في نفسه كلمة النساء اللاتي جعلن منهما عروسين من أيام طفولتهما، فنما معه الإحساس بأنه سيملك يوما هاته الفتاة، فيجب أن يحبها. وفي هذا الوسط المصري وبمثل تلك التربية التي نشأ حامد في أحضانها لا يتسنى للشاب أن يصل إلى صورة من حقيقة الحياة، بل هو يعيش في خيال غير محدود، يخلق لنفسه منه السعادة والألم، ويصور على ما يشاء الحاضر والمستقبل، ويستند كثير من الشبان على هذا الخيال في أعمالهم، ويصبغون الأشياء الخارجية بلونه الذي يكذب غالبا في الواقع. وبالرغم من أن الحس يكذب تصورهم فإن سلطان خيالهم عليهم قوي لدرجة يتغلب معها على حواسهم، ويجعلهم لا يعتقدون ما يرون، أو يفسد حكمهم وتقديرهم لما هو أمامهم. فإذا كانت عزيزة شديدة النحول فذلك لدقة في قوامها، وإذا كانت شاحبة اللون فهي أشبه بالقمر الشاحب، ومهما تكن قليلة الجمال فإنها أمام حامد في جمال الزهرة، وإذا كانت نفسها خلوا من المعرفة فتلك طهارة ملاك الحب.. وبهذا الخيال الذي يهيمون وراءه يعتقدون أنهم خلقوا لأنفسهم سعادة المستقبل الذي هو على ما صوروا العالم الجميل المملوء بالمسرات والأفراح، والذي يجلس الواحد منهم فيه مع صاحبته التي يحبها حبا حلالا، لأنها زوجه، فينظران معا لنجوم الليل، ويستمعان صامتين لأصواته.
فإذا جاءتهم الحياة الجد، واضطرهم العمل للنزول عن معظم أوهامهم، دخل اليأس نفوسهم مكان الآمال القديمة الطويلة العريضة.
أما عزيزة فقد علمها أبواها القراءة والكتابة إلى أن بلغت العاشرة من عمرها، حينذاك بعثوا بها إلى معلمة تعلمها الخياطة والتطريز، وبقيت معها سنتين. ثم انقطعت عن ذلك كله، ولبست «حبرتها»، وانقطعت بذلك عن مقابلة الأكثرين من معارفها. وابتدأت حوالي الرابعة عشرة تقرأ روايات كانت تقع تحت يدها. ومع ما كانت تعاني في ذلك من الصعوبة فإن قصص الحب حلو ومحبب لنفس كل شاب وفتاة. وليتها كانت تقرأ شيئا حسنا من أقاصيص الحب، فإن ذلك مع الأسف معدوم. فوق هذا فكل كلام غير اعترافات المحب لحبيبته وغير خلواتهما، وكل ما خرج عن مجرد القصص البسيطة، لم يكن يسترعي نظرها إن لم يضايقها. ولقد كانت ضعيفة الجسم من أيام طفولتها. وليست الحياة الساكنة التي تعيش بداعية قوة أو صحة. لذلك بقي هذا الضعف عندها. وما كادت تختبئ في الدار حتى ابتدأ لونها يزداد ذبولا وجسمها نحولا. ولا يمر عام حتى تحس بحاجة شديدة لتجديد الهواء واستعادة صحتها التي تذهب مدة الشتاء فريسة رطوبة بيتهم الواسع الذي يعيشون فيه، والذي كان من أسوأ الأشياء أثرا عليها بما يزيدها ضعفا على ضعف.
لكن الطبيعة العادلة تعلم أن ذلك ليس ذنبها ولا ذنب مثيلاتها. فإذا أصبحت هي من المخدرات بعثت إلى نفس واحد من أقاربها وبني عمها الذين كانوا يلاطفونها أيام صغرها خيالا محبوبا منها، وجعلته دائم الذكر لها.
بعث حامد بأحلامه وخيالاته، وصور لنفسه عزيزة على ما يشاء. وبقي كذلك حتى آذن الظهر أن يزول وجاء وقت المقيل، ولم يبق للعمال إلا أن «يطلعوا بالوش» الذي معهم. فلما انتهوا منه جاءوا جميعا تحت الأشجار، وفرد كل منهم منديله. وفي الوقت عينه وصل من البلد غداء حامد وإخوته تحمله خادمتهم فجلسوا جميعا وتناولوه في لحظة.
ثم آن لوقت المقيل أن ينقضي، وقام الأولاد والبنات إلى عملهم، وقام وراءهم إخوة حامد، وبقي هو وحده من جديد، فمال إلى ظل الشجرة ونام. وبعد ساعة مر قطار العصر فأزعجه من نومه ، فذهب هو الآخر يرى ما يدور في الغيط. ولقد كانت لإبراهيم عليه دالة، لأنه كان معه أيام المكتب، فلم يكن بينهما من القطيعة ما بين حامد ومعظم العمال من أهل البلد وممن يسرحون إلى مزارعهم. لذلك كان إبراهيم يجيب حامدا عما يسأله ببساطة وعلى ثغره ابتسامة دائمة.
ولما رأى الأولاد من حامد ذلك، وأنه ليس متكبرا لدرجة أن لا أحد يستطيع محادثته، حسب بعضهم أن من أسباب التفوق على أقرانه أن يحادثه، لكن حامدا رده إلى عمله بأن لم يجبه بشيء على حديثه. فانبرى شخص آخر ظن نفسه أقدر على قول يستلفت النظر، فخاب ظنه، وسمع من أحد الأفندية ما لا يرضيه.
وتصفح حامد وجوه الموجودين واحدا بعد آخر، فأخذ بعينه جمال زينب، ولم يستطع أن يمنع نفسه عن السؤال عمن هي وهل تحضر غالب الوقت إلى الغيط؟
وانقضى ذلك النهار، وانصرف الكل إلى دورهم. وما لبث حامد حين صار بين أهله أن نسي كل ما كان فيه. وتعاقبت بعد ذلك الأيام، وتعاقب معها العمل، وما كان لأحد من العمال أن يشكو حر الشمس أو لظى القيظ. هم يسيرون دائما بخطى ثابتة وأقدام قوية، لهم اليوم من الصبر والاحتمال ما كان لأجدادهم في العصور الفائتة: ذلك الجلد الذي يبتدئ مع القدم ويسري في الزمان من فلاح فرعون إلى فلاح إسماعيل، وإلى فلاح اليوم، والذي يجود على هاته الطائفة التعيسة بشيء من السعادة في الحياة، ويجعلها أمام تلك اللا نهاية من الفقر تحتمل مضض الأيام، وعلى وجهها الناشف ابتسامة القانع.
أحست به يمد يده يطوق بها خصرها ويجذبها نحوه.
طابت لحامد المزارع حين رأى ما فيها من جمال؛ فالنبات والشجر والغدران والهواء الحر والعاملات القويات، جعلته يتردد عليها كل يوم أصيل النهار. ونسي عزيزة شيئا فشيئا، وصار من سروره الخاص أن يرجع مع العمال جنبا لجنب. ويزيده سرورا ما يجد في ذلك من الحرية والتحلل من القيود الثقيلة الباردة، قيود العادة. كما أن ما ارتكست فيه بنات طبقته من الحجاب يجعل كل شاب في سنه، سن الحياة والحرية، يبغي عند غيرهن ما تدفع إليه الطبيعة من حنين الرجل للمرأة، ومن ألفة الذكر للأنثى، ليجد كل في صاحبه ما يكمل عليه ناقص حياته. والواقع أن نصيب حامد من الميل البريء إلى جهة الفلاحات العاملات خير جدا من نصيب غيره الذين يندفعون لتضحية إحساساتهم وأنفسهم وأموالهم إرضاء لبغي أو جريا وراء الشهوات. وإذا كنا لا نستطيع أن نحكم على هؤلاء الشبان بأنهم أخطأوا، لأن ما عملوا ليس من ذنبهم وإنما هو ذنب مجتمعهم المصري المبقي على عادة الحجاب، فإنا لا نستطيع أن نحسد حامدا إلا أنه بلغ من الشر أقله.
وأخيرا وقد اعتاد العمال واعتادوه جعل معظم حديثه ومسيره ساعة رجوعه طورا مع إبراهيم وأحيانا إلى جانب زينب. وقد أوحت له ببساطتها عن جمال نفسي لا يقل عن جمالها الجسمي. فكان إذا نظر لعيونها النجل قد تحصنت وراء أهدابها البديعة التنسيق رأى كأنها تشف عن عالم مملوء بالحب والرغبة. وإذا بصر بها وهي تسير بخطاها الثابتة نم له ثوبها عن جسمها الخصب، وزاد عنده في هذا الاعتقاد ما كان يجده في يديها من النعومة بالرغم من أنها تعمل بهما.
واستحكمت في نفسه عادة الذهاب إلى المزارع، وأخذت بنفسه زينب حتى لم يكن ليذر يوما الذهاب إلى حيث تكون. وكأنما ذاقت هي الأخرى السرور بمجيئه، فلم تكن لتنقطع يوما عن العمل، بل كانت تفضله على أعمال البناء في البلد بالرغم من أنها محببة لنفوس بنات الفلاحين جميعا. والواقع أن حامدا كان معها غاية في الرقة كما هي عادة كل شاب يتقرب من فتاة يجدها جميلة. وأيا كانت طبقتها فجمالها يشفع لها. ورقة الشاب وتودده يسبيان الفتاة عن نفسها، ويجعلان منها أسيرة له. ما بالك بأثر هذه الرقة عليها إذا لم تكن تعودتها من قبل، ولا عرف أحد سوى حامد أن يقول لها كلمات تنم عن عطف وهوى. لكنها كانت دائما تنظر له كما ينظر الفلاح العامل للسيد المالك؛ أي نظر الاستسلام والضعف، وفي الوقت عينه نظر التخوف والحذر.
وبينما العمال راجعون من مزرعة بعيدة - وقد سارت زينب إلى جانب حامد وجعلت تحدثه حديثها المعتاد، وهو سعيد تائه في لذته بسماعها، وتائه في تلك الساعة بعد غروب الشمس حين الأشياء أشباح لا تكاد تتميز - أحست به يمد يده يطوق بها خصرها ويجذبها نحوه، فتركت نفسها له لحظة حتى إذا أحست بشفتيه تقابلان شفتيها، وشعرت بكل ما في قبلته من الحرارة، انبرمت مرة واحدة مبتعدة عنه، ثم مالت برأسها نحوه، وقالت: - أختي تشوفنا وبعدين تروح تقول لأبويه..!
لكن حامدا أحس بقشعريرة تسري في كل جسمه، كانت أولا قشعريرة الرغبة، ثم انقلبت مرة واحدة قشعريرة العظمة والترفع. ولقد خيل إليه كأن الماضي الطويل المملوء بالعقائد القومية والعادات يتجمع كله ليسقط بحمله على رأسه. وصعدت إلى وجهه حمرة الخجل، وابتعد عن صاحبته بعض الشيء، وراح في خيالات مبهمة، ولم يعد يعلم إن كانت زينب ساكتة أو هي تتكلم.
فلما ترك العمال عند مدخل البلد ذهب إلى دار الضيافة، فشرب قهوة مع الموجودين، ونسي بذلك ما كان منه.
أما زينب فقد أحدثت هذه القبلة في نفسها سرورا، وجاءت لها بأحلام شتى شغلتها عن حديث حامد طول الطريق. ومهما تكن هاته النفوس الفلاحة تهتز عند ذكر كلمة العرض، فإن النفس الإنسانية وما ركب فيها بالفطرة من حب تخليد النوع أقوى كثيرا من العقائد العامة، ما دام عملها لم يخرج بعد إلى الظهور يكون موضع حكم الناس عليه. فما دام الواحد مع نفسه يحدثها، وينظر في آمالها ورغائبها، فهي تطلب دائما ما تدفعها الطبيعة لطلبه؛ تطلب الطعام ساعة الجوع والماء ساعة العطش وهلم جرا. فإذا جاءت اللحظة التي يقضي لها الواحد فيها رغائبه رجع إلى تقدير آخر غير تقديره الخاص، فلم يبح لنفسه إلا ما يسمح له به الوسط الذي يعيش فيه؛ ولهذا كان الإنسان في نفاق دائم يزيد مقداره وينقص بمقدار الحرية التي يهبها الوسط لإقناع غاياته وأغراضه.
لم ينقطع حامد عن الذهاب إلى المزارع، ولا انقطع عن محادثة زينب والرجوع إلى جانبها. غير أنه كان أحفظ في حديثه وأقل كلاما وهي لم تجد في عمل حامد إلا ما يدعو لقربها منه وقربه منها. فكانت أقل رفعا للكلفة في الحديث، وإن لم يسمح لها حياؤها الشديد وما يوحي إليها جمالها من الأنفة أن تنزل لما يسرع بعض مثيلاتها إلى النزول إليه متى وجدت من مثل حامد سميعا لما تقول. وسمح لنفسه بعد ذلك أن يقبلها مرة ومرة من غير أن يهزه إحساس ما، وهو يقول في نفسه: «أليس طبيعيا أن يقبل شاب ابنة أعجبه جمالها»؟!
3
جاء الخريف، وجاء معه على آخر أيام المسامحة السنوية، وسافر حامد مع إخوته، ودخل مع الأيام في عمله، وشغل به عن كل ما سواه. وجعل ذكر القرية وما فيها ومن فيها يدخل تحت ستار من النسيان، إلا أن يثيره ساعة بعض القادمين من ناحيتها، فيسأل حامد عما فيها وعن مجمل حالها.. فهل بقي لزينب شيء من الذكر عنده؟ وهل أحست زينب من بعده بمعنى الفراق؟ أو أن الحاضر شغلها عن الساعات الماضية؟
ما كان أشبههما كل واحد بصاحبه! غطى النسيان على تلك الأيام، وأصبح كل مشتغلا بنفسه وبعمله وبما يحيط به. فإذا ما خلا حامد بنفسه وجاءت فرصة ذكر فيها الريف وجماله، ارتسمت أمامه المزارع بكلها، وغدرانها الساكنة تشق الأراضي الواسعة، ويقوم عن جانبيها الشجر بكسائه الأخضر البديع، والآلات مشتتة هنا وهناك تدور فتبعث في الهواء نغمتها الحزينة الشاكية، ويعلو ذلك سماء صافية مهيضة بنور الشمس الساطع. فإذا ما جاء المغرب وانتشر الليل تلألأت النجوم في علوها، وسرى النسيم الرقيق فأرسل للخليقة الهادئة أسعد الأحلام. وأحيانا يذكر زينب ومن معها.
أما هي فاستمرت في طريق حياتها، تمر من كل يوم لغده، فتجد بينهما من الشبه؛ إنهما يسيلان هادئين يقطعان في عمر الوجود العتيق، ويحملانها وأحلامها ليسلماها إلى ما بعدهما. وهي تنتظر بآمالها القديمة أن تتحقق. والزمان ينساب أمام عينيها، وهي ترنو إلى المستقبل بأملها، والمستقبل يأتي كذلك فيمر بالخليقة فيزيدها قدما.
جاء الخريف على كل ذي ساق، ولم يبق إلا النبت الأخضر يغطي وجه البسيطة وقد انكشف لمقدم الشتاء. ومزارع البرسيم تذهب أمام البصر إلى اللا نهاية. وأقفرت الأرض من بني آدم، جماعة العمال وأصبحت مرعى للنعم التي شاركتهم أيام نصبهم. وها هي ذي ترتاح أن جادت عليهم الطبيعة ببعض الراحة، فتراها في رعيها وكأنها في شهور عيدها ترفع رأسها ما بين آونة وأخرى، ثم تزعق فتملأ أذن الطبيعة الصامتة. ويجيبها من الجو جماعة الطير من قطاة أو قمرية تصب من علوها أغاريد الشتاء، وتصدح بصوتها الرخيم الهادئ فتملأ أذن الطبيعة بما يذهب روعها ويرد إليها هدأتها. ثم على مرمى النظر ترى عشا من الحطب الناشف أبيض لا غبرة عليه قد غسله المطر والريح. وفي تلك الفتحة الضيقة التي يسمونها بابه تلمح أردية سوداء لا حراك بها، فإذا اقتربت رأيت نارا موقدة قد غطاها التراب، وحولها ومن تحت تلك الدفافي تطل وجوه الفلاحين السمراء وهم يتحدثون إلى جانب ذلك القليل من الحرارة، وقد اتخذوا عشهم درءا من تيار الهواء الشديد في ذلك الفصل من السنة. ثم ما بين ساعة وساعة يقوم صغير من بينهم ليرى أمر هاته الدواب الراتعة في مرعاها. وإذا أرسلت بنظرك على طول الطريق رأيته خاليا إلا ساعات من النهار يسرح فيها الشغالة أو يرجعون. وما سوى ذلك فقل أن تدوس السكة قدم. •••
قبيل الغروب في يوم من أيام ديسمبر، تلك الأيام الباردة التي يلفح البرد فيها الوجوه، ويسمع الواحد صرير أسنان صاحبه، كان يسير على الطريق بين هاته المزارع شخصان منصرفان إلى البلد، وكانا يتحدثان عما ينويان عمله بالليل: - أما أنا فرايح دار عمي سعيد أحضر «الفكة»، ونسقف ونشوف مصطفى وبنت أم السعد وهما بيرقصوا. - لكن يا أخي هو العرس وقتيه؟ أدي الكتاب مكتوب من سنتين وما حدش عارف حيفرحوا امته؟ - سمعت أنه بعد العيد بجمعتين. والعيد أهو فاضل عليه ثلاثة أيام. يعني فاضل على العرس حسبة عشرين يوم.
ذهبا إلى «الفكة» كما ذهب كثير غيرهم، وبقي الكل يترددون عليها. ولما جاء حامد ليقضي أيام العيد بين إخوته وأهله، وسمع بالفكة وما فيها من التطبيل والتصفيق والرقص، استخفته نفسه أن يذهب إليها. فصحب صديقا له وسارا يتضاحكان سلفا في انتظار ما سيريهما هذا الليل العجيب.
جعلا يتغلغلان بين أزقة القرية حتى كانا عند الجامع يقوم بهدوئه وسكونه يذكر بالموت وما بعده. ترن فيه الأصوات مسبحة مقدسة ساعات الصلاة، ذاكرة ما وراء هذه الدنيا الفانية حيث الناس دائمو اللهو مقيمون على الفتك والجنون، ولكنهما بقيا كما كان يضحكان ناسيين في شبابهما الساعة الرهيبة التي تنتظرهما كما تنتظر سواهما. وكل همهما أن يصلا إلى دار عمي سعيد، ليريا ضجة السرور وضوضاء الأفراح، ويسمعا الضحكات العالية يرسلها أولاد الفلاحين، فترن في الهواء تحكي فراغ بالهم وسذاجة نفوسهم.
دخل حامد مع صديقه. وما عتم أن عدى عتبة الدار حتى رأى أمامه جماعة من الفلاحين لا يكاد يكون وسط دائرتهم فتاة واحدة، بل كلهم من الشبان. أما من أردن من الفتيات أن يكن على مقربة فقد بقين حول هذا الجمع غير المنتظم يضم بين جنبيه الواقف والجالس والمتكلم والصامت واليقظ ومن تتلاعب برأسه رسل النوم، ويضيء على الكل مصباح ضئيل النور هو وحده الحزين في هذه الدار الراقصة في سرورها، المنتظرة يوم الفرح الأكبر تستعد له يوما بعد يوم. ويرسل هذا الحزين بأشعته الحمراء على هاته الوجوه التي عمل فيها الشقاء والشمس وبرد الشتاء، فهجرتها النعومة وإن بقيت لها بشاشتها.
ولقد غطى على أصوات المتكلمين، فلا يميزها مميز، صوت «الدربكة» أمسكها بيده من يتقن النقر عليها. وامتدت عيون اليقظى إلى الراقصين وسط حلقتهم.
لما رأى حامد هؤلاء العمال تذكر أيام الصيف، وجعل ينادي من بينهم جماعة الفتيان والفتيات الذين عرف وقتئذ، فيسألهم عن حالهم وما صار إليه أمرهم. ويخبرونه جميعا أنهم يشتغلون كما كانوا من قبل، ولا يكاد يتركهم حتى يرجعوا إلى إخوانهم وينسوا حامدا وكل ما يسأل عنه، ويعطوا أنفسهم لهذا السرور الجم تنهل منه: تلك فرصة لا ينبغي إضاعتها و«ساعة الحظ متتعوضش»..!
وفيما هو يتصفح الوجوه وجد أخت زينب واقفة مستندة إلى الحائط تكلم جارة لها، فسلم عليها وسألها عن أختها. ولكنها لا تعلم إن كانت فوق السطح تتفرج من الدرابزين كعادتها كل ليلة، أو هي قد راحت إلى الدار. فصعد على أمل أن يراها ويسلم عليها. وارتقى السلم بعد أن اخترق هذه الجموع التي لم تترك في المكان شبر فضاء. فلما كان عند الدرابزين فوق السطح الممتد عليه رواق الليل الحالك الظلمة وجد زينب جالسة وحدها، فأخذ مكانا إلى جانبها، ونبهها بحركة لطيفة لوجوده، لكنه دهش لهذه الوحدة التي وضعت الفتاة فيها نفسها تاركة الدار والضجة والضحك، لتبقى منفردة تحت رحمة الشتاء. لذلك لم يزدد دهشة أن رآها حين التفتت إليه بادية الذهول ثابتة العين. وبعد لحظة سألها: ازيك يا زينب..!
ولكن زينب كانت في تيهاء حتى لم تستطع تمييز ما يقوله لها حامد، فحولت نحوه عينيها، وأجابته بنظرة تحوي من الرقة والألم ما ذهب إلى أعماق نفسه. ولو لم يكن ما في المكان من ظلمة ليل الشتاء آخر الشهر لذابت لهذه النظرة نفس الوجود. لكن الحلكة السائدة لم تبق من ثالث يحس مع حامد بما حوته النظرة الأليمة!
وازيك يا زينب..
كرر حامد سؤاله، وأخذ يدها بين يديه، وقبلها على صدغها قبلة أخوية. الواقع أنه أحس كأن الفتاة المسكينة تعاني ألما نفسيا لا يعزيها عنه أحد، فأخذته الرحمة بها. وتقبلت زينب منه ذلك بقنوع وشكر نمت عنه نظراتها. فلما رآها كذلك زاد عطفا عليها، فجذبها وجعل يلاطفها، وهي قد تاهت عن نفسها، ونسيت الماضي والحاضر، واستسلمت للطفه ورقته، وتركت نفسها مستندة عليه. لكنها لم تلبث أن عرتها قشعريرة حين ذكرت أن قلبها ليس بيدها. وفي لحظة غطت عيونها النجل سحابة من الدمع، تنم عما عراها من الحزن وتعبر عن عظيم تقديرها لحامد.
تمر علينا ساعات وقلبنا ملك غيرنا، ولكن لثالث على أنفسنا من السلطان ما نود لو أعطيناه كل حياتنا، فيحزننا الإحساس أنها ليست لنا، وأن أيامنا على الأرض وما تكنه من سعادة وألم وحزن وفرح انتقلت من حوزة يدنا وأصبحت في حيازة غيرنا - في تلك الساعات ونحن ننظر لهذا الثالث تعرونا قشعريرة حين نحس بالعجز دون كل شيء نريد أن نهبه إياه. •••
مد الظلام رواقه على الوجود العظيم، فلم يكن يبدد قوته إلا تلك المصابيح الضعيفة ترسل أشعتها الذهبية في دائرة ضيقة مما حولها، فتظهر كأنها جرح دام في جسم ذلك الجان، أو هي سلاح الفلاح لم يتغير بالقرون يمتشقه كلما خذلته السماء واحتجب عنه نورها. في ذلك الليل حكم بسلطانه القاهر على الموجودات، فخضعت لجبروته، وعنت لحكمه، وتساوت أمام سطوته الحزون والوهاد - نظرات كانت تخترق ظلماته كلها الحيرة خالطها الأسى، ويريد أحد هذين الصامتين - وقد علاهما الذهول - أن يستطلع ما في نفس صاحبه، والآخر في جماله يحوي من الغيب ما يقف أمامه صاحبه حيران عاجزا. في مثل هذا الموقف لم يكن لحامد إلا أن يقطع سكوتهما الطويل بالسؤال عما خلفت الليالي مما غاب عنه. حينذاك تنهدت الفتاة تنهد الرضا، إذ علمت أن في الوجود نفسا تهتم لها، ثم قالت إنها مسرورة، وأن لا شيء قد جاءت به الأيام. ورجع الصمت الأول، حول مل منهما نظره إلى جهة الراقصين والضاحكين.
انساب الوقت هادئا وكل منهما يحس بالسعادة في وجوده إلى جنب الثاني.. ثم نادى بحامد صاحبه الذي جاء معه، فودع زينب وقام. ونزل السلم بالسكون الذي امتلأت به نفسه، فلما صار وسط الدار ووسط الضجة والتصفيق ووسط السرور المجنون أحس بقلبه يهتز، وأحس بتلك القداسة التي كانت تشتمل كل وجوده حين لفه الليل وهو إلى جوار زينب في ردائها كأنها تتطاير، ويحتل مكانه هذا السرور الجم الذي يحيط به. وما لبث إذ صار على الطريق من جديد أن راجعته ابتسامته، وصار يضحك هو وصاحبه، ومرا راجعين بالجامع القائم وسط ظلمة الليل منذرا بالموت والآخرة.
جاء أخو عزيزة بآخر قطار ليمضي هو الآخر أيام العيد بالبلد، فلما رآه حامد أسرع إليه، وسلم عليه، وجلس معه ومع إخوانه، وبقوا في سهرتهم طويلا ما بين حديث ولعب ورق وطاولة. وأخيرا خرجوا ليسمعوا الفقيه القارئ يسمع آي الذكر ويرتلها ترتيلا حسنا.
ثم افترقوا، وذهب كل إلى داره يريدون أن يجدوا ساعة من الراحة قبل موعد السحر. فلما خلا حامد إلى نفسه واضطجع في سريره ذكر ما رأى في ليلته، وهذا السرور العميم الذي يمرح فيه الفلاحون ومن حولهم من البنات وزينب. ثم زينب وحدها وهي جالسة إلى جانبه صامتة لا تتكلم. ثم ذكر أخا عزيزة وسمرهم. وبمناسبته ذكر عزيزة. وهكذا جاء إلى رأسه بخيال أشياء كثيرة اختلط بعضها ببعض، وكادت تتوه كلها عن باله مرة واحدة.
لكن شأن هذه الخيالات أن يأخذ المهم منها شكلا معينا يتجسم به في الذاكرة، ويغطي بذلك على ما سواه. لذلك بقيت تتصفى واحدة بعد أخرى صور الراقصين والضاحكين، وتدخل جميعا في حيز النسيان، وبقيت ظاهرة صورة زينب جالسة أمام الدرابزين صامتة، كأنها تمثال من النحاس لا تكاد تنطق بكلمة. ولقد أخذ حامدا العجب! ما عساه أن يكون أصابها؟ وجعل يسائل نفسه يود لو يقف على سبب لهذه الحال. وأخيرا هز كتفه قائلا: «وأنا مالي؟!»
وأراد أن يسكت كل صوت في نفسه. ثم ما لبث أن عاودته هذه الصورة، ارتكزت أمام عينه مجسمة، وتصور كأنها تنظر له نظرة استرحام. والواقع أن زينب لما قامت بعد انتهاء «الفكة» ونادتها أختها، جلست كذلك تفكر في حامد وفي تلطفه في السؤال عنها، وأحست بهزة ميل نحوه - ربما كان صحيحا أن في النفوس الإنسانية قسما إلهيا مطلعا على ما لا تدركه الحواس، هو الذي يهدينا في آمالنا وميولنا ويرسم لنا طريق الحياة!
تصور كأنها تنظر له نظرة استرحام، فامتلأ قلبه بالرحمة والعطف على ذلك الخيال الجميل المحبوب، وود لو يسأله عن سبب أساه. لقد عرفها ضاحكة السن مستبشرة، فماذا أصابها حتى جعلها أمام هاته الضجة المرحة تفكر وهي الملكة على كل المحيطات بها فيما يؤسي ويحزن؟ هل أصاب أهلها ما كدرها؟.. لكن ماذا عساه يصيبهم وهم فقراء بالأمس، فقراء اليوم، فقراء إلى الأبد ؟.. أم أن أحدا قدم لها إساءة انكمشت لها تلك الليلة؟.. أم ماذا..؟
وبقي في أحلامه حتى جاء من ناداه لطعام السحر. وما كاد ينتهي منه حتى رجع إلى غرفته ورجع إلى أحلامه. لكنها انهالت عليه هذه المرة بقوة لم يقدر أمامها على البقاء بل تقهقر خائفا. وكلما ذكر أنه كان على الطعام مع أخي عزيزة شعر بهزة غريبة. وأخيرا أراحه النوم من عنائه.
لكنه ما إن استيقظ في الصباح حتى عاودته أفكار المساء، ففضل الخروج إلى المزارع، لعله يجد فيها ما يلهيه عن همومه. وانكشفت المزارع أمام نظره تغطي أرضها خضرة البرسيم أو بعض الحبوب من تلك النباتات المملوءة مع لينها حياة، فإذا مر عليها الهواء نامت تحت سلطانه متضامة بعضها إلى بعض، يتماوج سطحها السندسي فتذهب موجاته إلى اللا نهاية، وتضيع أمام النظر قبل خط الأفق إن لم تسقط على مجاوراتها من الجرداء. ولم يذهب بعيدا حتى رأى دخانا هناك قريبا من حلة من حلل الأدرة. فقصده معتقدا أن جماعة من الفلاحين قد أوقدوا نارا اتقاء برد ذلك اليوم العبوس، وليعزيهم منظرها عن بقية هذا النهار الأخير من أيام الصوم.
فلما كان عندهم وجد واحدا من أعمامه معهم، وإذا هم يقلون ذرة على النار التي أمامهم. فبلغ به العجب منهم أن بهت أمام ما يعملون. ولكنهم كانوا جميعا يضحكون مسرورين. وكل منهم يقلب كوزا على النار بدقة وعناية. وكأنهم يحسبون هذا اليوم الأخير - يوم عيد الشباب كما يسمونه - غير واجب الصوم: أما عمه فتناول كوزا ناضجا جميلا وقدمه له باسما.
لم يستطع حامد أن يشاهد هؤلاء الأشخاص، وفي الوقت عينه لم يقدر على أكثر من أن وجه لهم نظرة احتقار على تبجحهم. لو أنهم استتروا لهان ما يعملون. لكنهم يخرجون على الجماعة من غير حساب لإحساس أحد، ويجرؤ عمه على أن يقدم لحامد هذا الكوز وهو يعلم أنه صائم، وكأنه بعمله يريد أن يظهر مبلغ تهاونه بهذا الفرض الذي يؤديه أهله جميعا من سنين ماضية.
تركهم وسار تحيط به خضرة المزارع من كل جانب، فلما وصل إلى شاطئ الغدير ووجده خاليا جافا ينتظر التطهير، وقف فحدق إليه مدة، ثم رفع رأسه، فإذا السحب تنقشع واحدة بعد الأخرى، وتظهر الشمس خلال ذلك لحظة تبعث فيها بأشعتها على الأرض فتغير من عبوسها. ثم تختفي ثانية ويرجع للجو قتامته، وتدخل الموجودات في ذلك الحزن المستسلم الذي هي فيه من الصباح. ويتكرر هذا المنظر، ويتلهى به حامد عن همومه.
ثم رجع أدراجه وقد زال النهار، فوجد إخوته وأخا عزيزة يلعبون الطاولة، فجلس يتفرج عليهم، فسئم ذلك بعد قليل، وقام إلى غرفته، فقابلته أخته في الطريق وفي يدها أوراق ناولته إياها، فإذا هي معايدات له من بعض أصدقائه. ولما أتم قراءتها سأل أخته: هل جاءتها معايدات باسمها هي من صديقاتها؟
ولقد حرضه على ذلك السؤال ما رآه عليها من الجذل، وما حفظت في يدها من البطاقات. كذلك غرامها الخاص بمكاتبته هو حين غيابه وبمكاتبة صديقاتها كلما وجدت لذلك فرصة، وعلمه بأنها تريد أن تريه ما في يدها كما هو شأنها في كثير من الأحوال. فناولته ثلاث بطاقات فضها فوجد إحداها من عزيزته، والأخريين من فتاتين كانتا مع أخته في المدرسة، فأمسك بطاقة عزيزة في يده، وأطال النظر إليها وللقليل المكتوب فيها، وعلته رعشة كان في وسع أخته أن تتبينها لو أنها أقدر على الملاحظة مما كانت. وحدث نفسه أن يأخذ هذه البطاقة لنفسه ويضعها تذكرة بين أوراقه، ولكن تمسك أخته بها وتشددها في طلبها وحرصها على ألا ينقص من معايداتها واحدة جعلته يردها إليها آسفا.
فلما خلا إلى نفسه في غرفته جعل يستعيد أمانيه القديمة الماضية، وود من كل قلبه لو أن عزيزة جاءت مع أخيها لتمضية أيام العيد في البلد. لكنها لم تجيء بل بقيت هناك مع أهلها في مدينتهم الصغيرة، وبقيت بعيدة عنه وهي تعلم ما في قلبه من الشوق لها.
وطالت به هذه الآمال التي تجيء إلى رءوس الشبان في أول شبابهم، وراح في أحلام لذيذة صور لنفسه فيها كل ما يشاء ، ورتب الحياة التي سيكون فيها مع عزيزة دائما جنبا لجنب، ولم ينبهه منها إلا ما أحس به من الحركة الكثيرة في صحن الدار الذي تطل نافذة غرفته عليه، حينذاك نظر إلى الغرب أمامه، فإذا الشمس تنحدر إلى مغيبها كأنها تحس مع هذا العالم الجائع فهي تريد أن تسعده بالقضاء على الساعة الأخيرة من رمضان. ولم يلبث إلا لحظة حتى دق بابه من ناداه للطعام، فإذا أهله جميعا ما بين ناظر إلى الغرب يحدد عينيه يريد أن يتحقق من اختفاء النهار، وآخر ممسك ساعته بيده ينظر إليها من لحظة للحظة نظرة ملأى بالقلق، وثالث مسبل عينيه كأنما يريد أن ينسى هذا الوقت الباقي. ورابع يحدق إلى السقف وأعلى الجدران كأنه يجد جديدا في هذه الأشياء التي رآها من قبل مرات لا عدد لها، وصغيرين لا ترتفع أعينهما عن المائدة وما عليها من الأطباق اللذيذة والحلوى يسيل لها لعابهما.
أخذ مكانه بين الجالسين. وما هي إلا لحظة حتى اعتلى وسط الصمت الأخرس الذي حكم على القرية صوت المؤذن مبشرا برجوع الحرية للناس، فابتسمت له الثغور، ونمت الصدور عن تنهد طويل يشعر بالرضا والسرور. •••
غدا يوم العيد يتزاور فيه الناس ويتبادلون فيه التحيات المعتادة، ويتغير شكل الوجود، فيخرج من صمته وحزنه إلى فرح وضجة، وتبسم ثغور الفلاحين الذين يملأون طرق قريتهم رائحين جائين يصافحون كل من قابلوا، ويرجون له سنة طيبة وعمرا طويلا، ويدخلون بيوت أقاربهم وأصدقائهم يشاركونهم في ذلك الجذل العام، ويضحكون معهم عن نفس طيبة راضية بالحياة. وينساب على الطرقات ما بين حين وآخر نساء وفتيات يحملن على رءوسهن عيد أخواتهن وقريباتهن، وهن في جلابيبهن الحمراء أو سترنها بثوب أسود ينم عنها، وتتبع الواحدة الأخرى أو تسير إلى جانبها، وكلهن يتهادين في مشيتهن، ويتحادثن وعليهن علامات السرور، فإذا قابلن سربا من أمثالهن تواقفن للتهنئة بالعيد، ولكنهن دائما ضنينات أن يرسلن في هواء ذلك اليوم الفرح رنين ضحكاتهن خيفة أن يقال خليعات.
قام مع جماعة من أصحابه يطوف البلد الصغير.
انتبه حامد مبكرا وصلى العيد. ثم بعد أن قابل الناس ممن جاءوا يهنئونه ما بين راج له عمرا طويلا وعجائز القوم ضاحكات يردن له عرسا في حضنه العام القابل، قام مع جماعة من أصحابه يطوف البلد الصغير من أدناه إلى أقصاه يشارك أهله في عيدهم. وكلما مر بقوم حياهم وصافحوه جميعا وتبادلوا معا الكلمات المعتادة، أو نزل عندهم وشرب قهوة ثم تركهم إلى غيرهم. وإن مرت به بعض تلك الأسراب لم ينس أن يقول لهن: «كل سنة وانتو طيبين يا بنات»، ويستمر في سيره إن لم يناد بعضهن باسمها ويسألها عن شأنها، فترد عليه كسيرة الطرف قد سترت وجهها بشاشها الرقيق، بكلمات قليلة تلقيها وهي سائرة في نظامها.
مرت زينب في أحد هاته الأسراب، فنظر لها حامد ولم يخاطبها بشيء. ولكن وجودها بين فتيات كلهن من عائلة واحدة هي الغريبة عنها جذب نظره ونظر بعض أصدقائه الذي لم يصبر أن قال: إن شاء الله يا زينب يودوا عرسك السنة الجاية.
فلم يغير ذلك من جد الفتاة شيئا، بل انسابت مع صويحباتها تنظر أمامها بعيون ثابتة يلمع حدقها الأسود تحت قوس حواجبها الجميلة. ولكن حامدا الذي لم يعلم من أمر زينب شيئا، والذي يريد أن يقف على كل شيء، لم يسكت أن سأل صاحبه: وزينب حاتتجوز؟ - بيقولوا إن عمي خليل عايز يخطبها لابنه حسن، وأظن ده صحيح. وإن كنت عايز الحق ده من بختها.
ولم يستمروا في الكلام، فقد مروا بجماعة حيوهم وجلسوا ليشربوا القهوة معهم. جلسوا جميعا على حصير مفروش على مصطبة قليلة الارتفاع عن الأرض جللها شعاع الشمس التي طلعت ذلك اليوم تزيد الوجوه جمالا وفرحا، وينطرح ضوءها على هدوم الفلاحين البيضاء ادخروها لعيدهم يخرجون فيها من الرق والأسى والنصب الدائم ساعات معدودة من الزمان. وبعد أن أخذوا حظهم من مجلسهم قاموا يكملون دورتهم ليرجعوا إلى بيتهم ساعة النزول، يستريحون قبل أن يجيء العصر، فيجيء معه بزيارات جديدة.
سر حامد بيومه كله حيث رجع إلى حريته بعد قيود أيام الصوم ، ورجع بذلك إلى حياته المرتبة المعتادة، ينام الليل ويقوم النهار. وسر كذلك أن عرف أن زينب ستصل قريبا إلى هناء لا يدركه أمثالها إلا قليلا. وما دامت هذه الطائفة لا يهمها أكثر من السعة النسبية فإن ما ستناله زينب منها فوق ما تتمنى. وكأنه نسي أنه ما دام في النفس الإنسانية ميول وأهواء، وما دام بين الرجل والمرأة هاته العاطفة الأنانية التي يسمونها الحب، فليس ببعيد أن نكون أشقياء وسط السعة!
4
كان لإبراهيم من المكانة في نفوس من يعرفونه، ومن الأثر الحسن وما هو معروف عنه من الجد ما قربه من السيد محمود وإخوته وأبنائه، وجعله عندهم محبوبا يرعونه ويقدمونه على غيره. ونال بذلك ثقة المالك فلم يك عمل إلا أعطاه قياده، وترك له فيه من الحرية ما يجعله أشد احتفاظا به. فبالرغم مما كان يعامل به الأولاد والبنات من اللطف والحسنى، وما كان يمضيه من الوقت في الضحك والمزاح معهم، لم يكن يرضى بالزمن يضيع هدرا، وقد أسلم له المالك مفتاحه، بل كان يحرض من معه ويساعدهم إن أحوجت الحال مساعدة، ويدخل معهم في العمل أحيانا ليكون لهم مثلا. فإذا دعا الأمر ولم يكن بد ظهر على وجهه الهادئ الساكن من أثر القطوب ما لا يحبه جماعة العمال.
وكانت زينب تجد من السعادة في كلام حامد ومحادثاته ما يدخل إلى قلبها الهناء الجم. لكن تلك الحاجة عندها لشخص تعطيه نفسها - ذلك الحب التائه بين الناس وعوامل الخليقة والذي يريد أن يستريح ويريح معه روحها الثائرة بلقيا روح أخرى تختص بها وتهبها حياتها - كانت أبعد الأشياء عن حامد وعن التفكير فيه، فإذا مر بخاطرها في ساعات هيامها كان كأي غريب عن روحها لا يثير من نفسها أقل التفات. وكأن النفس تطمح دائما في بحثها عن محبوبها إلى شخص يعدلها في المكانة، لتجد من الحرية معه ما يضمن لها سعادتها، أو كأنه ذلك الحنين بين أضلعنا إلى النصف الذي نفصل عنا في الأزل يوم خرجت حواء من ضلع آدم يجعلنا ننظر إلى بني طبقتنا وطائفتنا دائما كأنهم إخوان، وبينهم وبيننا من الرابطة ما لا نعرفه قبل الطبقات الأخرى، فنحن لهم وهم لنا، وبين قلوبهم وقلوبنا من أواصر الود ما يدفعنا نحوهم، فمنهم نطلب الصديق والشريك والمحب والزوج؛ لأنهم قبل غيرهم موضع حبنا وثقتنا.
لذلك كان من بين جماعة العمال أمثالها ذلك المحب الذي تريد زينب، وفي صفوفهم كانت تريد أن تقع عليه. ولقد بدأت تحس من زمان أنها عثرت على صاحبها في إبراهيم الذي تراه كل يوم، والذي كان يلحظها من بين جميع العاملات بعين طيبة، لأنها أجملهن وأكثرهن جدا وأولاهن في العمل إتقانا. وصارت إذا ما رأته في الصباح وألقى عليها «صباح الخير» في ابتسامته شعرت بسعادة تحتل وجودها، وبهزة تصيبها من رأسها إلى أخمص قدمها. لكن سرعان ما كانت تفر منه وتذهب إلى أبعد الخطوط عنه، وكأنها في اللحظة التي تريد أن ترتمي بين يديه أشد الناس خوفا منه وحذرا من الوقوع تحت حكمه.
وكل يوم يمر يقر نفس زينب على ذلك الحب الوليد، ويجعلها إذا نظرت إلى إبراهيم لم تحدق إليه تحديقنا إلى جميل يعجبنا، ولكنها تغض جفونها لترى في أعماق قلبها الصورة المرسومة منه - لترى ذلك الخيال الذي خلقته لنفسها، فتهيم به وتهم لترمي بنفسها بين أحضانه. ولكن ذلك الحياء الطبيعي في نفوس الأنثى يوقفها ويصدها عن غرضها.
تجلس أحيانا وحدها تناجي قلبها بسعادتها الجديدة، ثم تسائل نفسها: أهو حقا إبراهيم صاحب ذلك الخيال عندها؟ أهو ملاك الهناء الذي يرفرف بأجنحته فوقها.. إذا كان..
وامتلأ وجودها به، ولم تعد تفكر في أحد سواه. فلم تك ساعة إلا شغل قلبها، وتمثل أمام عينيها وهو يرنو لها باسما يفتح أحضانه يريد أن يضمها إليه، فيعلو الدم إلى خدودها، وتستحي من نفسها أمام خيالاتها. ثم تحس بهزة تسري إلى كل وجودها، وينقلب تورد وجهها احمرارا شديدا، وتدفعها رغبة فظيعة للذهاب إليه وضمه لأحضانها وامتلاكه كله، وتنسى إذ ذاك كل ما حولها وكل ما سوى إبراهيم.. فإذا ما كانت في المزارع تشتغل تحت إمرته أمضت وقتها ساكتة صامتة تجد في عملها منتظرة ساعة الغداء حين تجلس وإياه والآخرين تحت ظل الشجر يتكلمون جميعا من غير كلفة، وترفع نحوه نظراتها من حين لحين، ثم تلقي بها إلى الأرض لترجع إلى عالم أحلامها.
فلما كان في بعض الأيام - وقد عيل صبرها ولم تستطع الاستمرار على كتمان ما في نفسها - صممت على أن تفتح لإبراهيم قلبها حالما تراه وحده. وترقبت الفرصة حتى إذا كانت الظهيرة ولم يبق على كل إلا أن ينتهي من الخط الذي في يده ليخرجوا لمقيلهم، أسرعت هي جهدها وفرغت منه قبلهم جميعا، وراحت مسرعة نحو إبراهيم الذي ابتعد عن العمال لبعض أمره، ولكنها كانت تحس لكل خطوة تقترب بها منه بحياء شديد يداخلها ويدفعها القهقري حتى لم تعد تدري أتسير إليه أم تعرج إلى مكان آخر.
ثم أحست برعشة تستولي عليها، ولم تعد ترى ما أمامها، وتلون الجو بالألوان السبعة، ودارت بها الأرض، فوقفت مكانها، وجعلت تلتفت يمينا ويسارا فلا ترى شيئا. وأخيرا - وقد راجعها صوابها - رأت إبراهيم قائما من بين العمال الجالسين تحت الشجرة مقبلا عليها وقد تبعته أختها، فلما كان عندها وسألها عما أصابها رأى من مآقيها دمعة تنحدر على خدودها، فأخذها من يدها وسار إلى جهة الغدير وأشار إلى أختها أن ترجع، وبقيا كل إلى جانب صاحبه صامتا. فلما كانا إلى جانب الماء سألها من جديد: ماذا أصابها؟ ومن جديد تحدرت دمعة من مآقيها، وكاد يغمى عليها لولا أن أسرع بالماء فوضع يديها فيه. ثم قال: - عايزة إيه يا زينب؟ ... كل اللي عايزاه أنا أعمله.
والعمال هناك لا يعلمون ماذا حل بزينب، ويطيعون أمر إبراهيم أن يبقوا في أماكنهم، وقد استولى عليهم القلق وطال بهم الانتظار. وكلما همت أخت زينب بالقيام أجلسها الباقون. وقطعا للوقت جعلوا يحضرون طعامهم ويضعونه كعادتهم بعضه إلى جانب بعض، ليتناولوه معا جميعا محققين في ذلك أكمل معاني الاشتراكية.
ثابت زينب إلى نفسها بعض الشيء. ولكنها لم تكن تلبث حين ترى إبراهيم أن تنتابها رعشة تردها إلى غيبوبتها. فأمسكها هو بين يديه، وأسندها لكتفه، ورش من ماء الغدير على وجهها، وجعل يحدق بعينيه إلى عينيها المغمضتين. وأخيرا وكأنها قائمة من حلم طويل فتحتهما، فرأت عيني صاحبها الناظر لها وكله الحنان والعطف، فلم تتمالك أن طوقت عنقه بذراعيها، فضمها هو الآخر، وغاب رشدها ثانيا، وبقيا كذلك حتى سمع إبراهيم من يناديه من بين أصحابه الذين ملوا انتظاره، فنبه صاحبته ما استطاع، وقام بها حتى وصل إليهم، وأجلسها إلى جانب شجرة، فالتف الأولاد حولها. غير أن الوقت محدود، والعمل لا يحب إمهالا، فناداهم هو أن يتركوها إلى طعامهم: فرجعوا وبقيت أختها إلى جانبها.
أما زينب فقد أخذتها سنة استغرقت مدة ما تناول الآخرون طعامهم، ثم قامت هادئة، وراجعها الروع فطعمت بعض الشيء مع أختها، ثم قامت مع بقية العمال إلى العمل ولا يزال فؤادها مشتتا، ترسل بنظراتها إلى خضرة الزرع وتسير في عملها سيرا آليا.
من هذا اليوم خرجت زينب من خيالاتها الأولى المطلقة، ورجعت نفسها من جولاتها الواسعة، وأصبحت ترى في إبراهيم كل آمالها وكل جمال الوجود. لم يبق أمامها شمس ولا قمر ولا كواكب ولا مزروعات تنظر إليها وتناجيها، ولكن بقي إبراهيم، تجده وترى صورته في كل هذه الأشياء. فإذا ما رأته هو جاءها حياء المرأة الطبيعي، فأسبلت عينيها، وتمتعت في نفسها بلذة أشبه شيء بالسكر، لذة تتخدر معها الأعصاب، فلا يهتم الإنسان لما حوله ويبقى مستسلما لسرور لا يقدر على تكييفه، وتكون كبرى أمانيه أن يظل كذلك طول حياته.
أما إبراهيم فقد أحس من ساعة أن أمسكها بيده ذاهبا إلى الغدير، ثم أسندها إليه بجوار الماء كأن رعشة تسري منها إليه. فلما شاهدها حين ذهولها، وناجاه وجهها الجميل وقد ذبل لونه لما أصابها، لم يستطع حين طوقت عنقه بيدها إلا أن يضمها إليه شاعرا مع ذلك بأكبر لذة شعر بها في حياته. وكلما رآها بعد ذلك تمثل السعادة منتظرة إلى جوارها، وإنما ينالها إذا هو حل في ذلك الجوار. •••
في هذه الأيام ابتدأت زينب تسمع ما يقال عن أمر تزويجها من حسن، فلم تحفل بما سمعت.. إن الهناء الذي يحيط بها ويفيض عنها لا يدع لها وقتا أن تفكر في شيء آخر غير إبراهيم. هي اليوم في أسعد أيامها، تسعدها الموجودات كلها، وترنو إليها الطبيعة الناضرة بعين العاشق. سماؤها صافية تتلألأ فيها نجوم الأمل، وأحلامها مملوءة لذة وسرورا.. وجدت في كل شيء جمالا أحبته وأحبها، تنتقل من الليل إلى النهار، ومن النهار إلى الليل، وكلها الهناء بمرأى إبراهيم أو بذكراه، وتنتظر الغد باسمة لمقدمه، ويفتح كل منهما ذراعيه يريد أن يضم صاحبه إلى أحضانه. ولكن للغد منافسا من بعده يدفعه إلى الماضي ويأخذ هذا الآخر حظه ثم ينقضي. وزينب تضحك لكلها، وكلها تضحك لزينب، ولا شيء يستطيع أن ينقص من مقدار سعادتها وسرورها.
سمعت ما يقال عن تزويجها من حسن، والخريف يسلم الوجود للشتاء، والليل يقص من أطراف النهار، والعالم كله مستسلم ساكن، وقد انتهت أيام العمل الدائم، وجاء الوقت الذي يسمح للفلاح فيه أن يرجع لنفسه يمتعها بتلك الراحة، ويشغل بآماله المحدودة شيئا من وقته: يفكر الصغير في جلابيبه، والشاب في عرسه، ويمتع الأب نظره بمن حوله من بنيه وقد تجمعوا بعد أن كانوا مشتتين على حصيرة الصيف، فلم تحفل زينب بما سمعت، بل استسلمت بكلها للعاطفة القوية التي امتلكت فؤادها. وهل كان الحب يقبل إلى جانبه شريكا أو منافسا؟ أو أنه لا يهبنا من السعادة ما ننسى معه كل شيء غير المحبوب الجميل؟
وجعلت أيام الشتاء القصيرة تطوى وتنشر، وأحس الناس أن قد ابتدأ النهار يأخذ من الليل بحقه المهضوم كأنما عجز عن احتمال استبداده، فثارت ثائرته شأن كل موجود يطمع في الحياة شريفا. ثم ابتدأت الحركة في المزارع من جديد فقام الفلاح لخدمة القطن، ونادى بدوابه من مراتعها وإن لم يحرمها عليها، وحرث البرسيم، فانقلبت أمامه الأرض ظهرا لبطن، وجعلت بقايا ذلك النبت الأخضر الزاهي مما لم يقض عليه القضاء الأخير تتطلع للشمس مكتئبة كاسفة، ويذوي لونها كل يوم ، وتنحدر الحياة منها كل ساعة حتى تسود أسى ولا تكاد تنتظر «الوش» الثاني للمحراث، بل تموت دونه وكلها الحزن أن ترى ما حولها من بنات جنسها أبقاها الزارع للحصاد والربة، وليأخذ منها تقاويه بعد أن تهرم ويأتي عليها المشيب. وانتهى بذلك وجود اللا نهايات الواسعة من وجه الأرض الأخضر بزروع الشتاء وعريت الجرداء كاشرة كأن بها هما من عريها، أو كأنها حانقة على هذا الإنسان الذي يدوس جمالها سعيا وراء الدرهم يأتيه من أطراف الكون المتنائية، لكن كشرتها لا تبرح أن تزول وتمتد على وجهها قنايات القطن ومصاطبه ثم يتخللها ماء الحياة، وفي أيام تظهر على سطحها الترابي وريقات النبت الجديد، فتتهلل وجوه الملاك والمستأجرين، ويضحك معهم الكون أو منهم. تلك عملية تحدث كل سنة كلما جاء أوانها، ابتدأت قبل أن نعرف الوجود، وسنتركه ونذرها معه.
يتهلل وجه الفلاح لمطلع القطن لأنه يرى فيه القدير على كل شيء، وحلال كل عقدة.. منه يأتيه قرشه فيعمل ما يشاء، ويتم من شأن نفسه وعائلته ما يريد. وكم من معضلة تسير الأيام وهي واقفة تنتظر بيع القطن. كذلك كم من نابتة تبدأ حياتها مع النبات وتنمو وتكبر وتقوى معه ثم يحين جناها متى حان أن يعطي ذلك الشجر جناه. وقل أن يثبت على الوجود أمر يريد أن يقوم بذاته ويقف بعيدا عن سلطان هذا المستبد القاهر فوق عباده من سكان مصر.
سمعت زينب من جديد ما يقال عن زواجها بحسن. سمعته الآن من أهلها والقريبين منها. وكأن هذا النبأ قد بقي مختفيا طول الشتاء حيث لا خصب ولا نماء، فلما قدم الربيع استعاد حياته وظهر وانتشر في الهواء. ومهما يكن من تناسيها إياه في وحدتها، ومن ذكرها الدائم لإبراهيم، ومن تشعشع الحب في نفسها، فلقد كان يملك عليها ساعات يدس فيها سمومه ويفسد عليها طعمها. ثم لا تلبث أن تروح بأحلامها إلى جو مملوء بالحب يسرح فيه خيالها كما يحلو له. وتسير إذ ذاك بين المزارع فرحة بكل ما حولها من جمال الوجود ، وتهيم بالنبات البديع والأشجار الكبيرة قد اتخذها الطير سكنا، فهو يقف على فروعها المورقة هادئا مطمئنا، ويصب من رفعته أغاريده الحلوة كلها الهيام والحب. حينذاك يخيل إلى زينب في سعادتها أن الخليقة إنما وجدت لتطير مع ملاك الحب على جناحيه، وكأنها ما عملت أن يد الإنسان قد غيرت بالقرون ما أبدعت يد الخالق.
وبقيت في هاته الأحلام اللذيذة حتى أزعجها عنها تكرار ما يقال وسماعها إياه كل يوم ومن كل الناس، فداخلها الأسى، وأصبح ذكر إبراهيم يضيف مع مخاوفه آلاما إلى آلامها. ولازمها الوجل، ولم تجد ما تحتمي به إلا الوحدة، لكن الوحدة أشد عذابا للمحزون وتحيي فيه كل جروحه.
وانطلقت في أيام إلى أسى قاتل، وكاد يبلغ منها اليأس، وتطاولت أمامها الساعات السود حتى أصبحت لا ترى إلا مطرقة الرأس كأن قد فقدت أعز عزيز تحب.
فلما كانت في بعض الأيام، وقد سئمت الناس وحديثهم ووجوههم وكل شيء فيهم، وتاقت للوحدة والابتعاد عنهم وعن شرورهم وسموم جمعيتهم، خرجت بعد الظهر هائمة على وجهها تريد الانفراد في أية مزرعة كائنة ما كانت، فلم يبق لها بين بني آدم أنيس.
وقابلتها الحقول لأول ما خرجت قد نما فوقها القطن ولا يزال شجره صغيرا ضئيلا، والأرض مكشوفة قد كستها شمس الربيع ترسل شعاعها وسط الجو الساكن الهادئ، والسماء زرقاء صافية يلمع على سطحها العظيم النور الممتد على الوجود. وعلى مرامي النظر تقوم الأشجار تحف بالمزارع وقد ابتدأت ريح الأصيل تهز أوراقها. فسلكت بينها سكة مدقوقة تركها النور بيضاء سمراء. ولم تك إلا سويعة حتى ابتدأ كل ما يحيط بها تدخله الحياة ويستفيق من غفوة الظهيرة. وابتدأ يقطع صمت الجو الأخرس جماعة الطير تفر من فروع الشجر بعد مقيلها وتصدح بنغماتها العذبة، فتضيف إلى الحياة الوليدة معنى السرور والبهجة، ويحمل الهواء أغاريدها يوقظ بها الخليقة النائمة المحرورة. وهكذا تنبعث الحياة في أجزاء الكون وتسري السعادة في جميعه؛ أرضه، وسمائه، وشجره، وطيره، وهوائه، ولا يبقى تحت السماء مما تحيط به دائرة الأفق بائس محزون إلا قلب تلك السائرة في وحدتها.
وبعثت بخيالاتها في وسط تلك الوحدة.
واتخذت مقعدها إلى ظل جميزة كبيرة استندت عليها، وبعثت بخيالاتها في وسط تلك الوحدة، وهذا الصمت لا يشوبه إلا حفيف الريح بأوراق الشجر، وقد انسحب الماء إلى جانبها مصقولة صفحته ويحدث فيه الهواء موجات صغيرة تتتابع واحدتها وراء الأخرى، ثم تنساب مع التيار حتى تتلاشى أو تموت بين الأعشاب النامية على جرف الترعة. ومن ساعة لساعة يسقط من أعلى الشجرة عصفور يصفر في الجو حتى يقع على مقربة منها فينط ما شاء ثم يطير إلى البر الثاني أو يعتلي الشجرة من جديد.
جلست في مكانها زمنا ليس بالقصير، وذهبت بأحلامها إلى مستقبل لمست بيدها سواده: أحلام داهمة لا تفسير لها حلت من نفسها مكان العقيدة لا تعرف لها معنى ولا سببا، ولكنها تؤمن بها ولا يداخلها فيها الشك ولا الريب. تؤمن بالسوء تحمله معها الأيام الآتية إيمانها بالنار وعذابها، وكأنما دار ذلك الزوج الذي يريدون لها قبر تحتله زبانية الجحيم، وكلهم ينتظرها بعيون براقة يقدها خط من النار ذات اللهب. •••
في تلك الساعة المملوءة بالحزن والألم رفعت زينب رأسها إلى السماء كأنما تريد أن تشكو إلى عدالتها ظلم الكون والإنسانية، أو تبرأ إلى الله من جمعيتها الغاشمة التي تريدها على ما لا تحب. حتى أبوها الذي كانت تعتقده رجل الخير والصلاح يلوح عليه أنه يبتسم لهذه الإشاعة المنكودة. رفعت طرفها وعيناها ممتلئتان بالدمع، وقلبها يجف، وبدنها يرتعد، فإذا الشمس غشتها سحب المغرب بعثت على ما حولها حمرة قانية وهي تنحدر إلى مغيبها كما تنحدر إليه كل يوم تنذرها بإمساء الوقت ووجوب الرجوع إلى الدار. فقامت، وبيد سائبة خائرة نفضت ثوبها الأسود الذي انسدل عليها مستقيما من كتفها إلى كعبها. فبينما هي تهم بالانصراف إذا بوقع حوافر مسرعة تدل على أن الراكب يستحث مطيته قد أحس هو الآخر بمساء الوقت. ولم تكن إلا لحظة حتى تبينته السيد محمود رب هذه الضياع الواسعة يمر بها ليرى ما عمل الزمان بأقطانه وأقطان مستأجريه. فلما رآها وحيدة منفردة في هذا المكان تريث في سيره، وألقى عليها تحية المساء، ردتها مكلفة نفسها إخفاء كل أثر يظهر عليها، ثم سألها عن حالها، فأجابت طبعا أنه طيب. وهكذا سار الحديث يجر بعضه بعضا. وما بين حين وحين يضحك لها المالك المتصرف في أرزاق أهل القرية وأقواتهم، فينسيها ذلك كله بعض أحزانها التي أثقلت صدرها. وسارا يقطعان الطريق يأنس كل واحد منهما بصاحبه. وبعد حديث طويل سألها: ولا اشتغلتيش النهارده؟
فأجابت: «لا».
هذا سؤال يوجه إليها في أي يوم لا تشتغل فيه أجيرة عند بعض الناس، ويجاب عنه بكل بساطة: «كنت بجرد الجاموسة»، أو «كنا بنطحن»، أو بمثل هذه الأجوبة حسبما يلائم فصل السنة. ولكنه جاء في هذا اليوم فلم يجد جوابا من هذا الجنس، وكل ما استطاعت أن ترويه هي كلمة «مفيش»، كأنها أخذت ذلك اليوم للراحة من العمل، فأمضته فيما يصح أن يسمى لا شيء مما يمضي فيه الإنسان أيام راحته.
بلغا منتصف الطريق، فانكشف أمامهما الوجود الذي كانت تحجبه الأشجار، ولمحا القرية من بعيد وقد تدثرت بضباب أخريات النهار، وعلى السكك القريبة منها سلك ملضوم من الفلاحين والدواب رجالا ونساء وأطفالا وجواميس وبقرا وحميرا. ووراء هاته القافلة من أهل القرية وفي ختامها قطيع من الغنم قد زحم السكة يسير بغير انتظام، وتجري حذاءه في المزارع الكلاب الحارسة. والأفق أمام الجميع يضيع تحته كل من وصله من الراجعين إلى دورهم، أما طريقهما فكانت خلاء ليس فيها سواهما صامتة لا يسمع عليها ركز إلا حديثهما. فلما دار الحديث رجع إلى الزرع وشأنه والقطن وخفه، فسألها من جديد: والقطن طيب السنادي؟
وأجابت: «نعم». ولكن تجربته التي جاءته بها السنين وعيونه الحادة الضيقة تحت حواجبه الثقال وما رأت مما تحدث الأيام من الغير في كرها جعلته أقرب للتحرز من أن يضحك فرحا. ثم قال: من يدري ما يجيء به الغد؟
كم يخفي الغد القريب تكاد تلمسه اليد من العظيمات! وكم يكن في ساعاته المعدودة من السعادة والنحس والهناء والشقاء والبأساء والنعماء! كل ذلك مسدول عليه ثوب الليل. إنه ليخفي في طياته الدنيا والآخرة. ينتظره الإنسان آملا فيه خيرا أو متوجسا منه خيفة أو منتظرا أمرا، أو هو يعده كسابقه، فإذا هو يضمر له الويلات ويقدم عليه بالدواهي.
في الغد الموت والحياة والجنة والنار. فيه الحروب تشيب من هولها الإنسانية وتسيل فيها دماء الأبرياء وما أجرموا ولا أرادوها. وفيه السلام يسحب أردانه على الوجود فينعم به الأحرار.
في الغد اليأس والرجاء والأمل والقنوط. فيه تلك الدولة العظيمة يحار أمامها الذهن، ويقصر دونها الخيال، ويقف أمامها الحلم عاجزا: دولة المجهول لا تحكم منها على فتيل ولا تقدر من أمرها على شيء. فيه العدم والوجود والكل ولا شيء!
لذلك الغد يحسب هذا الرجل حسابه وينتظره وما بعده، وهو دائما أسير المستقبل، ولقد علاه الصمت حينما ذكر الغد وما قد يجيء به وكأنما دارت في نفسه ذكرى السنين المنصرمة وما كان في بعضها من الندوات والدودة وآفات الزرع، وفي الأخرى من نضارة ثم ارتفاع السعر وهبوطه، فتحيا بذلك أحلام وتنخسف ظنون. وفي تلك البرهة الصامتة تميزت دقات حوافر الحصان المنتظمة وهو يهز رأسه مع كل واحدة منها، وقد أرخى له راكبه اللجام إلا قليلا. ومن حين لحين ينفخ أو يضرب برجله الأرض والفتاة تسير وراءه إلى جانب الطريق، وقد كادت تنسى ما كان في نفسها.. ثم قال المالك: خير أن ننتظر النتيجة.. •••
وانتقل بموضوع الحديث إلى كلام آخر، ثم إلى غيره وغيره، حتى إذا اقتربا من القرية بعد أن قطعا ذلك الطريق الذي كان مزحوما بقافلة الفلاحين وأمسى خلاء افترقا، فذهب هو من بين المزارع يريد أن يصل إلى الدوار، وسلكت هي سكة ضيقة قامت على جانبيها تلال صغيرة. ولما بلغت البلد قابلتها فتاة من أترابها تبادلت معها مساء الخير، ثم أخرى وثالثة، ودخلت بذلك بين الدور القليلة الارتفاع وهي تهدي كل من قابلها هاته التحية ويهديها إياها، إلا جماعة جلسوا ومن بينهم لابس طربوش وجلابية الكشمير فوقها بالطو، وآخر معمم على طاقية مزهرة وعليه هو الآخر جلابية من الصوف مفتوح صدرها ينم عن صديري أزراره من الحرير، ومن بينهما طاولة مقفلة تدل على أنهما كانا يلعبان حتى الظلام، وجلس حولهما جماعة من أمثالهما، والكل فوق شريط من الحصير ممدود أمام باب مفتوح يرى منه الإنسان قاعة كأنها خالية فيها بعض صناديق من الخشب يضيئها مصباح ضئيل النور في فانوس قد علا التراب ألواحه الزجاجية فبان الضوء من ورائها أحمر يكاد يختنق. تلك دكان جديدة فتحت منذ شهر من الزمان تحتوي - على مظهرها المتواضع - كل شيء من أصناف العطارة والقماش. وقد رأى صاحبها من أجل أن يقدم خدمة للناس الذوق من أهل بلده أن يجيء فيها بما يلزمهم من معدات اللعب. وكما أعد لهم ولغيرهم فيها بعض الحلوى والمرطبات فعنده كذلك ما يلزمهم من المناديل والشرابات، كل ذلك مصفوف على رفوفها المختفية أو موضوع في هاته الصناديق.
مرت بهم ثم صعدت مع الطريق العامر بالمارة حتى انعطفت إلى حارتها. وبعد تحية أهدتها لامرأة واقفة على باب الطاحون التي هناك وخطوات معدودة وصلت إلى باب دارها، فتبادلت أولا «مساء الخير» مع جارتها في الدار المقابلة، ثم فتحت ذلك الباب القليل الارتفاع قد نقشه القدم بظهور عروق الخشب وغور ما بينها، والضبة تلمع لكثرة ما مر عليها من الأيدي، ودخلت صحن الدار المكشوف للسماء، وأصبحت بذلك بين أهلها.
مقابل باب الشارع قاعة هي كل ما في البيت من نوعها، وعن يسارها فرن صغير جاء تحت حنية السلم الذي يصعد إلى السطح لا انحناء فيه، ويصل به الإنسان إلى غرفة من الطوف، إلى جانبها صندوق من الطوف أيضا يخزنون فيه ما عندهم من القمح أو الشعير أو الذرة التي على كيزانها، وأمامها بقية سطح القاعة مكشوف ينامون فوقه أيام الصيف حين لا يكون عندهم حصاد في المزارع.
تناولت طعام العشاء مع أهلها، وبقيت معهم حتى إذا حلكت ظلمة الليل وفرغ الناس من صلاة العشاء ولم يبق إلا أن يناموا تمطت إلى جانب أختها وأخيها على حصير قديم، وفردت عليهم جميعا فوطة من القطن، ونام أبوها إلى الجانب الآخر من القاعة، ولم يكن بأسرع من أن ذهبوا جميعا في نعاسهم إلا هي، فقد بقيت في وسط تلك الظلمة تفتح عيونها وتقفلها وتستعيد أمام ذاكرتها المتعبة حوادث النهار، كما تجيء بخيالات الأيام القديمة الماضية فينساب في سواد القاعة وجوه كثيرة مختلفة تسبب لها حزنا وفرحا، وسرورا وألما. ويتعاقب ذلك سريعا، فتنتقل من اليأس إلى الأمل، ومن الرجاء إلى القنوط في كل نبضة من نبضات قلبها. أليس أبوها النائم إلى جنبها ممن يرجون أن يكمل شقاؤها؟ فأين مزية العيش؟ وأي معنى للحياة بعد هذا؟.. أولا يصح أن تكذب الإشاعة ويصبح الغد بشيرا بعد أن كان في مصبحه بالأمس ناعق السوء؟.. كلا!.. ما الغد بخير من الأمس، وما تلك إلا علالة اليائس يريد أن يسلي بها حزنه.. وليكن ذلك، وليشأ أبوها وكل الناس، أفليس في قولها: لا أريد - ما يحسم كل مشكل؟
إنها لا تريد؛ وفي ذلك الكفاية.
هي لا توافق على ما يطلبون منها، وقولها هو القول الأخير. هل في الزواج إجبار وإرغام؟!
في تلك الساعة تصورت نفسها وهي ترفض ورأسها في السماء، ويد الله ويد الحكومة مع يدها فوق قوة هؤلاء المتحكمين، ثم خذلان جماعة العريس ورجوعهم على أعقابهم، فتعلو الجمع الذي يجيء معهم سحابة الهم، ويسكت الوجود، ويقف الهواء، وتنزل من السماء تغطي البسيطة كسف الليل، ثم ينسى الكون نفسه ساعة من زمان يذهل فيها الناس والأشياء.. وبعد ذلك يطلع القمر وتتحرك الريح ويهب العالم من سباته فتبعث عليه زهور الحقول عطرها الطيب يملأ الجو ما بين الأرض والسماء، وتسري السعادة إلى كل الوجود، فترسم على الثغور ابتسامتها الطيبة الذيذة. ولكن.. أبوها! أبوها! أفلا يغطي وجهه خجلا إن عقته ابنته التي أحب طول حياته؟ وعبرة أمها أفلا تنهمل أمام الحاضرات من نساء البلد ويتقطع قلبها أن تكون ابنتها مثل الشذوذ والخروج عن أمر أبيها؟. ويلاه من موقفها ساعتئذ وهي ما بين قائلة: «عيب يا زينب .. عيب يا ختي»! وشامتة في تلك العائلة الناعمة في فقرها، وناظرة لها بعين الازدراء والإهانة. وهل تحتمل ذلك وقتئذ، وما عرفته من قبل، ولا استطاع أن يواجهها به أحد؟!..
وإن قبلت فماذا؟ تعسها الكبير وشقاؤها الدائم. لكن لم؟ ألم تزوج غيرها من قبل راضية أو غاضبة حتى انقضت أيام الصغرنة والخلاف مع زوجها اتفقا وصارا أحلى من العسل، وانتفى من بينهما كل نزاع وشقاق، وقام كل منهما بدوره في الحياة يشتغل هو في الغيط نهاره، وتعمل هي ما من شأنه أن يعمل في الدار، وترضع الأولاد متى كان لهما أولاد، وتذهب له بالفطوره كل نهار، وتعاونه في عمله كلما احتاج الأمر إلى معونة. وتنصرم هكذا الأيام والشهور والسنون وينقضي العمر؟ فما حزنها هذا الذي تمنت معه الموت؟
وما أجدر «حسن» في الحقيقة بحبها! أليس هو ذلك الفتى الطيب النفس الجاد في عمله، الممدوح بين إخوانه، المحبوب من كل الناس لما هو عليه من جمال العشرة، وما يلوح عليه من مخايل الشهامة، وأنه بقامته المتوسطة ولونه الشديد السمرة وعيونه الحادة الغائرة لأشبه الناس بشجعان الزمن القديم عنترة وأبي زيد. بل إن من يراه ويرى تشيعه للهلالية حتى لتحمله ربابة الشاعر على الجنون بهؤلاء الغزاة الأبطال، وتمنى رجوع عهدهم عهد العزة والتجوال تحت حمى السيف، وتفضيله ذلك على ما مهر فيه بالوراثة عن آبائه وأجداده من الحرث والزرع والسقي وتعهد الأرض - ليظنه من أبناء أولئك الغابرين أجدر به أن يغزو ويفتح. لكن وا أسفاه! فقد قضي عليه بالأسر والأشغال الشاقة، وما تلك المهنة التي يعيش منها ملايين من بني وطنه إلا أشغال شاقة أخرى: بها الأسير المستعبد من الحر العزيز وتلك الخطى البطيئة يقضي فيها الفلاح طول نهاره وراء ثوره تحت حر الشمس يلفح الهجير وجهه ولا يتأفف، يصب الله عليه النار من أعلى السماء فيلقاها صامتا صاغرا يروح ويرجع، ويرجع ويروح، وراء محراثه، أو يحني ظهره الساعات الطويلة في نكش الأرض، أو يسوخ إلى أفخاذه في تلويحها، ويعمل غدا ما عمله اليوم ، وبعد غد ما يعمله في الغد، وإن انتقل فمن شقاء إلى شقاء. ويرجع في المساء - إن رجع - إلى بيته مهدود القوى منهوكا لاغبا، فيطعم زقوما وعلقما، ثم يرتمي على مهاد ليس أقل خشونة من الأرض التي تنام عليها الدواب، وقل أن يجد دثاره، ويحيط به في قاعته الضيقة عن يمينه ويساره وفوق رأسه وتحت رجليه الكثيرون من نتاجه وأهله، ومن فوقهم سقف منخفض تكاد تصل إليه أيديهم وهم نيام إلى أن تفرج عنهم أيام الصيف، فتنبذهم قاعتهم بالعراء. هل هذا كله إلا ذلة شر ذلة؟ ولكنه في ذلك ككل إخوته العمال على ظهر البسيطة. والمصيبة إن تعم تهن. وتقادم العهد يعطي الفاسد طعما تألفه الأجيال أبا عن جد، ويكسو الكذب رداء الحق، والخضوع والخنوع لباس الطاعة والطيبة.
ذلك حسن فما ذنبه عندها؟
لم يكن له بالأمس ذنب. لكنه اليوم - وهو يريد أن يعجل بنزعها من يدي إبراهيم، ويدس بذلك السم في حياتها - هو أبغض الناس إلى نفسها.. نعم، هو أبغضهم اليوم إليها.. إنها الآن تكرهه من كل قلبها، ولا تريد أن ترى وجهه.. ألأن أباه غني ينغص على الناس حياتهم؟!.. كلا لا حياة إلا في أحضان إبراهيم.
نعم، في أحضان إبراهيم السعادة.. سعادة لا حدود لها..
وارتسم في خيال الفتاة النائمة فوق الحصير الناشف خيال عالم لذيذ مملوء بأحلام السعادة والهناء. وسرت مع الخيط الأبيض من نور الأمل الذي بعث إلى قلبها يد طيبة ناعمة أغمضت جفونها وحملتها وآمالها وآلامها إلى عالم السكون والنوم.
5
في تلك الأيام التي تلاعبت فيها الحوادث بزينب ما شاءت، كانت عائلة حسن هادئة ساكنة تقطع في طريق الحياة المعتاد، وليس من بينها إلا قانع مستسلم للقضاء. فإذا جاء أمر زواج ابنه في الكلام قال عمي خليل وهو هادئ النفس مرتاح البال: إن شاء الله، إن شاء الله.. لما نبيع القطن يحلها ربنا.
ثم سكت أو حول الكلام إلى حديث غير هذا.
يقول تلك الكلمة بهدوء وسكون، فيحني حسن رأسه إلى الأرض أمام شيبة أبيه المهيبة ورأسه الكبير قد ابيض شعره، وذقنه الطويل يلمس صدره المفتوح يزينه نصيبه من الشعر الأبيض كذلك، وعمامته على طاقية من صنع ابنته تقوم فوق جبهة مفتوحة خطت عليها الأيام عدة خطوط غائرة ظاهرة، وحواجبه الثقال قد كاد يختفي لونها الذهبي الأصفر تحت غطاء المشيب تسقط قليلا فوق عيونه الغائرة الزرقاء، وشنبه المقصوص تحت أنفه القصير الحاد يغطي شفاهه الرقيقة. وكأن من يرى ذلك الوجه العجوز يحسب فيه شيئا من الدم الغربي. ثم يحمل ذلك كله عنقه الغليظ القصير قام فوق قفص قوي عاش كل هذا العمر وقابل الصعاب والمظالم، وما مرض يوما ولا عرف الألم، ثم ينم عن بطنه الكبير وسيقانه القصيرة المكسوة خير كساء بشعرها؛ ولكنه مع ذلك كله لم يكن بحيث يسمى سمينا، فإن تماسك أعصابه وقوتها وظهور عضلاته التي لا تزال شديدة لا يروعها شيء - جعله هذا كله أقرب للرجل الربعة القصير منه للسمين الغليظ. ومع أنه مستور الحال معدود في بلده من الناس الطيبين، فقد جعلته سنه يثبت على ملبسه وزيه القديم، فيقدم بذلك خير مثل لفلاح إسماعيل والأقدمين. وكل ما هان عليه أن يتنازل عنه هو أن يستعيض عن ثوب القطن ثوبا من البفتة، وإن كان زعبوطه هو الزعبوط لا يعرف ابنه أيان يبتدئ تاريخه.
يحني حسن رأسه أمام أبيه فيجد من أمه الجالسة في ثوبها الأسود، عليها شاشها الأسود، ناشفة طويلة شديدة السمرة، يجد منها مؤمنة على زوجها، منتظرة تلك الأشهر الباقية على أخريات الخريف أن تنقضي فتفرح بابنها ويأتيها في الدار من يقوم بأعبائها ويريحها من عنائها ويلتزم كل أمرها.
في تلك الدار غير حسن وأبويه أخوان وأختان وخادم عندهم له مع العائلة زمن طويل يسمح له أن يكون كبعض أفرادها. ولكن البنات كن صغيرات لم يعرفن بعد عمل البيت الذي وقع كله على أكتاف أمهما بعد أن زوجت بنتها الكبرى منذ سنتين. وذلك بالطبع مما يزيد رغبتها في زواج ابنها الذي أصبح في السابعة عشرة من عمره، فتجد من امرأته من يريحها من رياسة عائلة طويلة عريضة كعائلتهم، وحتى تستريح من طلب مساعدات جاراتها الفقيرات فيما يشق عليها من الأمر، ومن تضطر بعامل المجاملة والحاجة أن تمدهن بشيء من عندها. أضف إلى ذلك أمانيها لابنها وآمالها في أن ترى أولاده وما تدخر لهم في نفسها من المعزة. كل تلك العوامل حركت عندها ما جعلها تسعى جهدها لإتمام هذه المسألة.
وكم من مرة فيما مضى كانت تتحين الفرص لتجد مناسبة تخاطب بها زوجها في هذا الأمر. لكنه كان يحسب الولد لم ينضج بعد، كما أن مسألة الفلوس لم تكن على ما يجب؛ إذ دفع كل ما كان عنده من النقود الحاضرة في خمسة فدادين اشتراها. ولا شيء أكره على نفسه من أن يستدين فيتحمل رذائل الدائنين ومطالباتهم. ثم إذا حصل للقطن شيء - لا سمح الله - عاملوه بما لا يحب وديروا عليه المبلغ بفايظ كبير، أولا يرى بعينيه الشيخ عامر وليس بين بيتيهما إلا خطوات كيف تراكمت عليه الديون من سنة لسنة حتى حار لا يدري ماذا يفعل، واختلط عليه أمره فصار ينقل الرهينة من بنك لبنك، أو يجر من الخواجات بفايظ خمسة عشر وعشرين في شهر أغسطس ليسدد في ديسمبر. وعلى أبو عمر الذي لم يبق له من عمل إلا تسلم المحاضر وتحضير الشهود ورفع دعاوى زور على الفلاحين يطالبهم بإيجار سددوه، ألم يكن من قبل مستريحا مستورا ولم يفضحه إلا الدين. فخير له هو أن ينتظر حتى لا يكون زواج ابنه سبب خراب داره، وليكون مقدم العروسة مقدم خير.
غير أن امرأته لم تكن لتقنع بهاته الحجج أو تسمع لقوله، بل لقد أجابته حين عيل صبرها من محاولاته ومماطلاته: وإذا كنت اشتريت خمس فدادين، بيع فدان من أرض داير البلد ما دام خايف من الدين.
ولكن فكرة بيع أرضه التي يزرعها منذ سنين والتي ورثها عن أبيه لم تكن مما يرزق عنده.
ولئن كان كلام زوجته المتتابع يوما بعد يوم قد كاد يقنعه بوجوب تزويج ابنه حتى يجد من حفدته سلوانا على الشيخوخة إلا أن خوفه الشديد من أن يقع في يد أولئك المفترسين الذين لا يخشون الله ولا يرأفون بالناس ولا يعرفون لهم دينا سوى الكسب من دم المحتاجين وحبه لأرض أبيه لم يجعل المسألة من المسائل السهلة التي يكفي لحلها الإجابة البسيطة. بل ذلك أمر يحتاج إلى التبصر والاحتراس وأن يأخذ الإنسان باله عند كل خطوة يتقدمها. لذلك كان قليل الكلام ما استطاع كلما فتحت له زوجته باب هذه الحكاية المعقدة، وإن كان ضميره غير مرتاح وكأنه يسمع في نفسه صوتا ينادي مع هاته الدائبة في طلبها: إن ما تقوله زوجك حق عليك أن تجيبها إليه.
ولكن كيف يجيبها إليه؟ إن المغامرة من غير روية أكثر ما تنتج الخطأ الذي يأخذ زمنا كبيرا لإصلاحه، بل ربما أدى إلى شر لا يصلح أبدا. وإذن فالخير أن نتوقى أن يكون ما نسعى له اليوم - وكلنا أمل أن يتحقق - مجلبة أسف وألم إن رجوناه وارتكبناه. وليس الإقدام، إن سقناه إلى لجج لا نعرف قرارها، إلا بالغا مبلغ الجهل مؤديا إلى الهلكة والفناء. دار ذلك في نفس خليل وهو على سطح داره والشمس تطوح للغروب، وقد ظهر القمر الكامل قبل اختفائها، والسماء رائقة هادئة صبغتها الشمس بلهبها، وقد غطت الوجود وكأنما يزداد سمكها من حين لحين، أو كأنما يضم إليها المساء ما فوقها من الطباق. والهواء في تلك الساعة بليل يحمل معه رطوبة الليل حتى ليحس بها خليل على صدره العريان. هو ذلك النسيم الذي ينسينا شجوننا ومخاوفنا ليحملنا معه إلى السرور ويذهب بنا إلى عوالم كبيرة تسرح فيها خيالاتنا وأحلامنا كما تشتهي، ونجد كل ما نريد ويتحقق أمامنا كل ما نطلب، إلى عالم بابه طاقة القدر فيه كل ما شئت حاضر موجود.
فلم يستطع خليل أن يقاومه ليبقى في مخاوفه وأوهامه، بل انتقل معه ليحسب في جانب الخير مثل ما قدر في جانب الشر، وليرجو قدر ما خاف ويستقبل في نفسه امرأة ابنه استقبالا حسنا. ثم أبناؤها الصغار أولاد حسن ما أحلاهم حين يملأون الدار بضجتهم وضحكهم، وقد تفرغت لهم جدتهم بما حملته عنها أمهم من الأعمال، فيصبحون ملائك المكان والعزاء عن كل ما يجيء به الزمن!
وجد ذلك العجوز من اللذة في هاته الأحلام ما ذكره الصبا وخف لها قلبه الذي أثقلته الأيام بأحمالها، وارتسمت على وجهه علامات السرور والرضا. فلما جاءته زوجته - وقد انحدرت الشمس واحتجب نصفها، ولم يبق إلا لحظة حتى تجر معها إلى الخفاء بقية ما في النهار، وترسم على جبين الأفق سبيكة الشفق - لم يمهلها أن سألها عما إذا كان حسن قد رجع من عمله؟ فأجابت إنه انحدر إلى الجامع لصلاة المغرب. فقام خليل وكأنما كان - قد تاه في أحلامه عن فريضته، ولم تكن إلا خطوات حتى وصل إلى المسجد والناس يصطفون وراء الإمام، وأكثرهم من الراجعين بعد أن قضوا نهارهم سعيا وكدا ولغوبا. وإلى جانب المنبر عن ناحيتيه وقف شيوخ القرية ممن جاوزوا السبعين، ولم يبق لهم من عمل إلا أن يقضوا بقية حياتهم عبادة وتسبيحا، تراهم يحضرون إلى بيت الله والليل أسود قاتم، فينير لهم ذلك المكان الفسيح فانوس أو اثنان فيهما مصابيح ضئيلة ضعيفة النور، ثم يقرأون الورد، فيرسلون في تلك الساعة النائمة ألذ ساعات الليل ضجتهم وجلبتهم. حتى إذا بدأ الصبح يتنفس هدأت الأصوات وسكت الوجود وساد القرية سكون عميق لا يقطعه إلا نباح الكلاب أو عواؤها أحيانا. ثم يشق عباب الجو ويملأ الفضاء دعاء المؤذن ونداؤه الطويل يضيف إلى آخره: «الصلاة خير من النوم»، ويكررها بصوت جهوري عال يمده مدا، فلا يدع حركة من حركات هاته الكلمات الأربع إلا قلبها في حنجرته على وجوهها المختلفة. فإذا انقضت صلاة الصبح رجع الكل إلى بيوتهم، فمنهم من أكل فيها لقمة وانصرف إلى الغيط، وآخرون يستكملون حقهم من النوم يبقون فيه حتى ضحوة النهار. ومن بعدها يرجع هؤلاء المسنون إلى الجامع يتمطون فيه أو يقعدون يستعيدون حوادث الماضي وظلم إسماعيل، أو يتحدثون عما في قريتهم من حاضر الأمر. فإذا ما توسطت الشمس كبد السماء وآن وقت الفريضة أدوها، ولم يكن بأسرع من أن يأخذ كل منهم مكانه الذي اعتاد كل يوم وينام نوما عميقا يذهب فيه أغلبها إلى الغطيط المزعج. ويتنبهون لصلاة العصر ثم من بعدها منهم من يذهب إلى الزرع يرى ما فعل الله به، ومنهم من ينتظر نسيم المغرب الجميل في المسجد. وعلى هذا النمط يقضي هؤلاء الشيوخ حياتهم هادئة تسيل مع الزمان لا يفكرون في شيء ولا أمل لهم إلا أن يغفر الله لهم ويتقبل صلواتهم ودعاءهم.
دخل خليل وأخذ مكانه الذي تعوده والإمام يرفع أصابعه إزاء أذنيه وينادى: «الله أكبر»، فترتفع من ورائه أصوات المؤمنين تنادي هذا النداء بغير انتظام. فمنها العالي الرفيع حتى ليكون مزعجا، ومن يردد الكلمة مرتين أو ثلاثا كأنه لا يتحقق من قبول الأولى فيشفعها بالثانية، ومنهم من يقطع الكلمة الأولى من وسطها ثم يبدؤها من جديد، وآخرون يخطفونها خطفا، كل ذلك بلا ترتيب ولا نظام، بل هو مجموع أصوات مشوشة لا تملأ هذا الفضاء المهيب الهادئ إلا ساعات الجماعات، ولما رأى الإمام أن قد هدأت الضجة ابتدأ الفاتحة يرتلها، وإن كان يتعجل في القراءة حتى إذا كان في نهايتها، إذا صوت جاء من ناحية الحنفيات: «إن الله مع الصابرين» وتبعه رجل يجري وسط المسجد مكشوف الذراعين، فغطاهما بأكمامه حتى إذا استوى مع الصف ارتفع صوته بعد أن سكن الكل ينبه الإمام أن قد صار معهم. ولكنه ما أتم نداءه حتى جاءت «إن الله مع الصابرين» أخرى استوقفت الجمع لحظة من الزمان. ثم وسط تلك الظلمة التي تدخل الجامع من كل نوافذه فتذر حيطانه وأعمدته البيضاء ملتفة في رداء من الشك يزداد رويدا رويدا، انحنت أقواس هؤلاء العابدين ركعا حتى ليحسبهم الناظر من بعد كأنهم خيالات تموج وسط مساكن الجن، أو هم ملائك مقربون لفتهم السماء ببردها. والليل يسقط من سقف المعبد العالي فينزل بالمصلين على جباههم سجدا حتى ليكادوا يستوون بالأرض خضوعا وخشية. ولا تأتي عليهم الركعة الثانية حتى يكادوا يختفون عن عين الرقيب. وفي سكوتهم تهمس شفاههم بالدعوات يحملها الليل على جناحه فيصعد بها إلى السماء ثم يرجع فيوحي إلى الإمام أن قد سمع الله لمن حمده، فيلقاها الجمع وقلوبهم ملأى من خشية الله، أو هم يحلمون بما سيشترونه من أسواق الخميس، أو يعدون في سرهم الأيام التي اشتغلوها في الأسبوع المنصرم وهم ينتظرون بفارغ الصبر أن ينتهوا من واجبهم الديني ليذهبوا إلى كاتب المالك يحاسبونه على اليوم الذي يريد أن يأكله عليهم. ولا يكاد إمامهم يسمعهم السلام وينتظر لهم من الله الرحمة حتى ينفلتوا لإتمام حسابهم، ولا يبعد أن يوجد الكاتب من بينهم فيأخذوه سوقا إلى مكتبه ليظهر لهم من بين دفاتره حقهم، وما لهم، وما عليهم. •••
صلى خليل معهم ودعا الله أن يوفقه للخير فيما فيه يفكر. ثم لما انتهى انصرف راجعا على عقبه فإذا ابنه قد سبقه إلى الدار، وهناك أخذوا عشاءهم معا والرجل مشغول البال حائر الفكر لا يقرر في نفسه أمرا ولا يجزم بشيء، تدفعه العوامل المتخالفة المتضادة فلا يثبت أمامها، ولا يميل إلى جانب منها، ولا ينهزم دونها. ويزيد في أحلامه وخيالاته النسيم العليل يسري ساكنا هادئا يبعث إلى الكون الغارق في اللجة العظيمة من أشعة البدر سرورا وانتعاشا، ولكنه ما عتم أن صلى العشاء وجاء موعد النوم حتى رأى نفسه مضطرا لأن يترك كل شيء ليذهب إلى مرقده ينتظر فيه الفجر الذي يزعجه منه، وانتهى بذلك هذا الحلم الجميل المخيف الذي أتى عليه النسيان حتى ذكرته امرأته به من جديد.
لم يكن في هذه المرة فيما كان فيه من قبل من الشك، بل سألها عمن تراها تصلح أن تكون زوجا لحسن. وأثار هذا السؤال اختلافا آخر في الاختيار بين أن تكون فتاة من أمثالهم في البلد جماعة ذوي غنى وثروة، أو ما يفضله خليل من ابنة حلال تعرف كيف تقوم بأمر ابنه وبيته ويقدرون عليها فلا تعمل عليهم كل يوم غارة وتقيم لهم مأتما وتغضب كل شهر وتذهب إلى أهلها. وما كان ذلك الخلاف بالذي يأتي عليه حديث ساعة أو يوم، فإنه إن تكن الأم قد أعدت في نفسها من تريدها عروسا لحسن فإنها لم تر من حسن السياسة أن تطلع زوجها على ذلك لأول وهلة، وخصوصا أنها رأت من كلامه ما زعزع اعتقادها فيمن اختارت من قبل، وكأنها اقتنعت بصحة ما يقول، فأرادت أن تصل إلى من توافقها هي وتوافق ابنها وتوافق خليلا زوجها.
أما حسن فلم يكن له في هذه المدة من كلام ولا حديث في الموضوع مع أبيه، وإن كانت أمه تعلم من دخائل نفسه ما يسهل على الولد أن يخبر به أمه، وإن كان يستحيل أن يطلع عليه أباه. إنه لا يرفض الزواج، بل هو يريده ولكنه لا يعرف أكثر من أيهما أي فتاة يخطب.
بعد ذلك بأيام كان في غيطهم المجاور لغيط السيد محمود العامر يوم ذاك بالعاملات، ويتولى الرياسة إبراهيم كعادته. فنادى حسنا ساعة الظهيرة، وقد انتهى الكل من غدائهم، أن يأتي فيلعب معه «طرد طاب»
2
في المدة القصيرة الباقية من مقيلهم جميعا في تلك الأيام الجميلة التي تأتي بعد أكتوبر حين يعتدل الجو أو يميل قليلا نحو الرطوبة، وتبتدئ حياة الفلاح تبشره بمقدم راحته الشتوية، وحين الأشجار العظيمة يتساقط بعض ورقها بعد أن أدى واجبه من كسوتها، وإن كانت لا تضن بظلها على من أراده. وأجاب حسن الدعوة، ونقشوا «سيجتهم»، وأخذ كل منهم معه ولدين من العمال، والتف الباقون حولهم، وأكثرهم كواعب قد أينع عليهن الصبا وكساهن الشباب ذلك الجمال الذي لا يضن به على أحد حتى ولا غير الجميل، وأخذت زينب مقعدها من بينهن إلى جانب صديقات لها وأتراب، وهي لا تكاد ترفع عينها عن إبراهيم. ولم تكن إلا لحظات حتى انتهت كل حركة، وصمت كل صوت، وآن أن يبتدئ اللاعبون طردهم. وإذ ذاك مسك حسن «الطاب» في يده، وبعد الفاتحة المعروفة تبادلها مع إبراهيم: «اذكر على - ذكرناه - وإبليس - لعناه - وجدنا وجدكم - رحمناه - يا أرحم الراحمين يا الله»، سمع صوت الطابات تنفرد على الأرض وما بين حين وآخر يصيح صغير من اللاعبين: الفوز - إنعاز - آه اثنين - الفوز يا طاب. الله. ولكن طقته الثانية لا تكون بأسعد حظا من الطقة الأولى، فيسلمه إلى جاره آسفا. والجلوس حولهم سكوت ينظرون بعيون ثابتة. وما هي إلا دقيقة أو نحوها حتى ابتدأ الطرفان يفوزان، وهذا يجيء بستة خضراء، والآخر بمثلها بيضاء، ثم أخذ العريفان يعدان كل لعبة: داره وواحد اثنين. وواحد اثنين ثلاثة يشيل ده ... وتني. أيوه. في رأسها من قلة ناسها.. ختيمك. آه لبن يا ولد. وانت. إوعه يا طاب.. لاه بقيت بلعبة واحدة. وعند كل تفويزة تبدو على ثغور المتفرجين ابتسامة خفيفة تذهب رويدا رويدا حتى تزول وتعروهم هزة انتعاش تدور فيهم كلهم كأنها رعشة كهرباء، ثم يرجعون إلى حالهم الأولى التي تقرب من الذهول أو الغفلة. ثم انتهوا من طردهم وقد حجب الشمس تعرض الغمام في الجو، ودخل الوجود بذلك في شيء من الظلمة والعبوس. ولم تكن إلا لحظات بعدها حتى سمعوا دويا جاء من بعيد تألفه آذانهم على ما فيه من الإزعاج كما تألف أغاريد الطير الشجية تملأ الكون رنينا وكأنها تدق على أوتار الهواء، وكما تألف خرير الماء الهادئ الدائم أو صوت الضفدع في ليل الصيف يحيي الظلام كلما سكت حداء العاملات - جاء ذلك الدوي إلى آذانهم، فمنهم من التفت إلى اتجاهه وحدد نحوه نظره، ومنهم من تمطى فاردا يديه إلى آخرهما نافخا الهواء بتثاؤبه متأوها من مقدم وابور العصر الذي مر بهم وهم ينظرون إليه يرج الأرض تحته، وينفخ في الجو سحبه تعلو فوق مدخنته التي تخرق الهواء، ثم تتمايل مع الريح وتنساب أجزاؤها ساقطة حتى تتلاشى. وانتهى بذلك مقيلهم ورجعوا إلى عملهم بالصبر القديم الموروث حتى أنقذهم منه أن احمر قرص الشمس مائلا إلى مغيبه منذرا أن لم يبق إلا قليل حتى يودع الأرض للصباح، وتضاءل النور أمام مقتبل الليل، وأمسى الرجوع إلى أوكارهم لا محيض عنه، وبذلك عفا الله، أو كما يقول أحيانا خوليهم لهم «عوافي يا أولاد». وتنادى إبراهيم وحسن من جديد ليرجعا معا، وانساق أمامهم أو تبعهم أولئك العمال والعاملات، وكلهم يجد في المسير ويتحدثون معا، فتفلت ما بين حين وآن ضحكة من الفتيات ينفرط عقدها في مشهد النهار الزائل، وتسيل مع الهواء، ويعقبها صداها لا يكاد يسمع، وكأنه رنين القرص البعيد لامسته البسيطة أو احتك بفروع الشجر، ولم يكن الصاحبان ليشاركا الباقين في ضحكهم، بل لتراهم وهم يهمسون وعلى وجوههم السمراء شيء من أثر الجد، فيصل إلى نفسك أنهم يتكلمون في أمر ذي بال (وهنا أستسمح نفسي وأستسمح قارئي أن أذكر حكاية قولهم كما قالوا): والواقع أنهم من أول خطوة اتخذوها في طريقهم أحسوا أنهم سيقولون اليوم غير ما تعودوا أن يحكوه معا. فبعد كلام وحديث قال إبراهيم: أيوه يا أخي.
قال انت بدك تتجوز؟ - ليه؟ وإيش عرفك؟. يعنى يا أخي شايف البنات اللي بدهم يجوزوا.. - أهم ياخويه بالرمية.. يعني إللي قدامنا دول مش عجبينك وإلا لازم تعمل لي أنت راخر أبو علي تجيب لك واحدة تغضب الصبح والمغرب.
وصحيح أنه قد كان ممن أمامهما أكثر من ثلاث يصلحن زوجات من خيرة الزوجات الفلاحات. بل لقد شاركهن في الطريق من الراجعات إلى دورهن أخريات من بنات الناس الطيبين كن يعملن في مزارعهن، فقدمن أمام حسن مجموعة من عرائس جميلات يصح الاختيار من بينهن. لكن ذلك المشهد أظهر له كذلك فساد قولهم إن بنات العائلات الكبيرة سريعات الغضب والركون إلى الاحتماء بأهلهن؛ إذ جاءت أمامه هؤلاء القادمات بذكرى أمثالهن، كن أحسن الزوجات، وأكثرهن وفاء، وأحفظهن ذمة، وأرعاهن عهدا. فما دام لا يرمي بنظره إلى من هي أغنى منه، أو في درجة غير درجته، فهو واجد من بنات أقرانه خير من تصلح له زوجا، وأكثر من حفظهن الذمام ورعايتهن العهد، هن قد ربين يعرفن قيمة المال، وما يجب من حسن القيام عليه والتصرف في شأنه، ويفقن في ذلك بكثير الفقيرات اللاتي لا يعرفن ما توازي الأرض، ولا ذقن في حياتهن لذة نجاح عملهن، وإنما هن بنات ساعتهن يجرين وراء أجرها، أنتج عملهن فيها أم لم ينتج .
ثم بعد برهة سكتا فيها، قال حسن: «ياخويه بكره يحلها ربنا».
بتلك الإشارة من إبراهيم حصل في نفس صاحبه شيء من معنى وجوب الاختيار، وأصبح يرى أن عليه أن ينتقي من بين هاتيك الكثيرات أمامه من تعجبه، وبعث إلى نفسه اليقين بحريته في ذلك ما يعلمه من يسر حالهم، غير أنه كما يقولون «حيرة تحيره»، وما كان في حياته السابقة كلها يفضل فتاة معينة تنقذه من موقفه هذا الذي يريد فيه شريكة يظن حين يعقد عليها أنه يأخذها شريكة العمر وأم بنيه وبناته الكثيرين على ما يأمل هو ويأمل أهله. ولقد رأى فيمن أمامه هؤلاء القادمات من مزارعهن مثل ما هو راجع من غيط أبيه أشبه به مركزا ويسر حال، ورأى من الأخريات القوية السمحة والجميلة الرزينة، وزينب فوق هذا وذاك.
ثم ابتدأا حديثا آخر يقطعان به بقية الطريق، وكلهم مسرعون يشقون عباب الظلام النازل يختفي تحته كل لون، ولا تميز العين من كل الموجودات التي تأخذ صبغته إلا ما كان أبيض ناصعا، فلما بلغوا السكة النازلة إلى الجامع انفتل الصديقان إليه: حسن في سمرته وحدته، وإبراهيم في رشاقته وخفته، ويكادان يوقنان أن الإمام قد سبقهما. وتفرق الآخرون كل اتخذ طريق داره بعد أن تهادوا التحية جميعا. والبنات تظهرهن غدفهن السوداء حزانى آسفات على شبابهن الغض يقضينه في الأرض وتنقيتها، وإن بعثت ابتسامتهن إلى الظن أنهن قانعات أو شبه قانعات. وانبعثن جميعا وابتعدن عن النظر قليلا في أرديتهن السوداء وكأنهن خيالات تموج في لجة الليل الوليد حتى يختفين ما بين الجدران فيتسللن في الأزقة إلى أوكارهن يقضين فيها ليلا هادئا نائما. •••
وأدى حسن صلاته منفردا هو وصاحبه، وأتماها في لحظة أو أقل، ثم خرج مسرعا إلى بيته، فلما كان في بعض الطريق إذا أبوه مع صاحب له اسمه سلامة، على مصطبة أمام دور هذا الأخير. فسلم عليهما، وتريث في سيره، إذ علم أن ليس هناك ما يدعوه للعجلة في اللحاق بأهله. أما هذان العجوزان اللذان أكل عليهما الدهر ولم يشرب بعد، فكانا أول من خرج من المسجد بعد الصلاة، وجلسا يقصان معا قصص أمثالهما، ويبدي كل منهما رأيه فيما يمر أمامهما: ثور اشتراه الحاج علي من سوق الخميس ودفع فيه اثنين وعشرين جنيها ظناه مع جودته وقوته في الشغل غاليا، وبنت تزوج بها عوض مشعل من البندر رأيا في مشيتها من اللكاعة ما حكما به على نساء البندر أنهن لكليعات.. فلما مرت بهما العاملات قافلات إلى دورهن لم يقل خليل شيئا حتى بادره صاحبه قائلا: وآدي عرايس بلدنا.
ثم بعد برهة قال: من حق يا خليل أنت بدك تجوز حسن؟!..
فأجابه خليل بصوت هادئ: والله يا سلامة بدي لكن مش عارف أجوزه مين؟ ابني ياخويه ما بيحبش البنات اللي كلهم دوشة ويعملوا لهم الصبح غارة والمغرب قتله ويا معجل ما يغضبوا، وأهي حيره يا سلامة ياخويه.
فقال له صاحبه بصوت ملآن أدعى ما يكون للثقة به والاطمئنان إليه: يالله ياخويه بلا كلام ... انت اللي محير روحك من غير حيره.. طيب ولما مش عجبينك دول ما غيرهم كتير. أقول لك أنا على واحدة من اللي فاتوا دول وواحدة والله عليها كلام.. زينب ما لها؟.. حق أوع تقول حاجة.
غير أن خليلا كان يخشى ألا تقبل زوجته لحسن إلا فتاة من أقرانهم في البلدة، وهو يحسب لذلك حسابا كبيرا، لأنه يعرف أن البيت الذي لا ترتاح فيه الأم وامرأة ابنها يبقى معكرا صفاؤه متنازعا بين المرأتين، مركز شقاء دائم بين الآباء والأبناء. وأما إن هي رضيت فإنه يقبل على العين والرأس زينب عروسا لابنه، بل إنه ليعد بذلك نفسه سعيدا.
وما كاد يطلع سلامة على هاته المخاوف حتى قال له هذا الأخير: طيب ياخويه.. روح جوزه بنت علي أبو عمر خلي عيشتكو تصبح شكل من أولها لآخرها.. ويعني الفلاح منا عمره يرضى.
وأخبر خليل زوجته بكل هذا الحديث. وما كانت تعلم عن زينب إلا كل خير. غير أن مطمعها كان أبعد من أن يقع على ابنة عائلة فقيرة تشتغل طول عمرها أجيرة عند أصحاب الأطيان. فلم يرقها اختيار زوجها، ورأى هو ذلك من وجهها، فقال في نفسه: صدق سلامة، وعمر الفلاح ما يرضى. ثم أراد أن يعرف ما ليس يرضيها من هذا الاختيار وما رأيها هي؟ ولكنها لم تبد رأيا.
جاء حسن بعد ذلك فأخبرته فيما بينهما بما يقوله أبوه، ولم يحر هو الآخر جوابا ولا أعطى عن نفسه قولا.
غير أن تلك الأحاديث وهاته الأقوال لم تبق في صدور أصحابها لا تتعداها، بل انتقلت إلى الخارج بشكل أوضح وأكثر إثباتا وتقريرا من الواقع. إذ مع أنهم لم يقطعوا في الأمر بإثبات ولا بنفي، وبالرغم مما تجده الأم في هذا الاختيار من عدم توفيق زوجها إلى ما تحب، فقد جاءت إلى الآذان كأن قد تم كل شيء، واتفق الأبوان وابنهما فيما بينهم على أخذ تلك العروس لحسن، ووصلت إلى زينب بهذا الشكل، فأحدثت عندها ما أسلفنا من قبل ذكره حتى جاءها الأمل بعد يأسها القاتل.
وفي الأيام التي تلاعبت فيها الحوادث بزينب ما شاءت كانت عائلة حسن هادئة ساكنة تقطع طريق الحياة المعتاد وليس من بينها إلا قانع مستسلم للقضاء. وقل أن يرد فيما بينهم أمر زواج حسن إذ أصبح الآن يظن أنه وصل إلى شيء، والأم تقلب في نفسها كلما عاودتها الذكرى صور بعض بنات الناس الطيبين من أهل البلد، فلا تجد من بينهن خيرا من زينب، ولا من تعدلها. والابن في عمله قل أن يرد هذا الأمر على باله، وإن جاء إلى نفسه. جاء معه أن من ورائه من يفكر فيه، أو أمل له بعض الآمال، ثم ما أسرع ما ينساها!
وعلى هذا ظلوا جميعا.. ثم جاء الصيف.
6
جاء الصيف وهدأت الإشاعة، وإن هي إلا ككل مولود على الأرض يحدث ضجة ساعة مبتداه، ثم يصبح شيئا عاديا تراه العين أو تسمع به الأذن فلا تأخذها له لفتة ولا تعيره اهتماما. وجاء مع الصيف أدوار الري مما يفسد على الفلاح نظام حياته ويجعله يعيش بين أهله مدة البطالة، فإذا جاء الدور لزم العمل ليل نهار يدأب فيه ويجد، ولا يجد سبيلا أن ينفس عن نفسه بعض الشيء، ويشاركه في ذلك دوابه حتى تتولاها اللغوب وينالها أكبر الكرب.
جاء الصيف للفلاح بالعمل، ولغيره بأيام الراحة والرياضة. ولم يكد يتنفس عنه الربيع حتى جاء القرية حامد وإخوته بعد أشهر قضوها بين الأوراق والحيطان قل أن يصل نظرهم إلى خط الأفق، أو يتمتعوا يوما بمشهد مشرق الشمس أو مغربها. تلك أشهر عانوا فيها الصعاب يعدون أيامها على أصابعهم عدا، وينتظرون آخرها وهم أشوق ما يكونون إليه، ويريدون أن يأتي اليوم الذي يرجعون فيه من العاصمة الكبيرة ذات العظمة والجلال إلى بلدهم الصغير. وكأنهم في تلك الليلة الأخيرة، وقد أتموا امتحاناتهم، وربطوا عفشهم، ورسم السرور على ثغورهم الباسمة آية الرضا، يهاجرون إلى أشرف بقاع الأرض حيث السعادة والهناء المقيم.. وما نزلوا قريتهم حتى أظهروا ما أعدوه لإجازتهم من كرات ولازماتها؟ ثم بعض أشياء صغيرة لا يستغنون عنها في أول أيامهم يهدونها إلى إخوانهم الصغار الذين يأتون عليها في يوم أو بعض يوم، أو هم يختصون بها أنفسهم ولا يكونون عليها أشد حرصا.
في تلك الليلة الأخيرة يملأ الفرح صدورهم ولا يعرفون أطال الليل أم قصر. ومن بينهم صغير يحلم بمرأى أخيه الأصغر منه فارقه من عام بعد أن عاش معه كل أيام حياته، كما يتشوق أن يجلس إلى جانب أمه بعد غيبة ما كان أطولها عليه! فيحدق إليها ليرى في ذلك الوجه الذي ينم عن الحنان والعطف ما عهده من قبل أن يقضى عليه بفراقها، وكبير اعتاد الغربة وضربت بينه وبين أهله السنون الطوال حجابا من النسيان يندفع السرور إلى نفسه، فلا يعرف له سببا، ويحس معه بشيء من الوحشة لمغادرة البلد الذي قضى فيه أكثر أيام حياته. لا يرد على باله خيال أمه ولا ذكرى عائلته، وإن كان لأخيه الصغير الذي لا تزال تحفه عناية الطفولة الدائمة في النفس ما قد يفسر له معنى السرور الذي أحس به. •••
جلس حامد بعد أن تفرق إخوته إلى مضاجعهم وكلهم ينتظر الصباح. جلس لينظر إلى غرفته نظرة وداع قبل أن يقوم إلى مرقده، فأحاطت عينه بكل ما فيها، واتكأ بيده على مكتبه وسط ذلك الصمت، ورنا نحو مكتبته وما تحويه من بديع الكتب. ثم جاء إلى خياله صورة الليلة القادمة وهو جالس إلى جنب دولاب قل ما يحويه، وأمامه مكتب أجرد لا ورقة عليه. أو يأتي إلى سريره بعد قضاء سهرته مع أهل البلد يقرأون الجرائد التي لا تجيء عمرها بجديد، بل تكرر اليوم ما قالته بالأمس أو منذ شهر أو سنة من الزمان، وستكرره غدا وإلى ما لا نهاية، ويصفقون استحسانا للكاتب البارع الذي يعرف كيف يغير كل يوم مواضع ألفاظه، وليست وظيفته إلا أن يزجي إلى العقول ما في رأسه من أربع كلمات أو خمس يذيلها بتافه الحوادث التي ينفخ فيها ليظهرها عظيمة حتى يصل يوما ما إلى تعميم ما يعتقد من واجبه أنه يعممه.
ذكر حامد ذلك في غرفته في تلك الساعة الهادئة من الليل، فكاد يأسى على فراق مصر. ولكن هون عليه أن ذكر إلى جانب ذلك هذه المزارع الواسعة على خطوتين من البلد يسرح فيها ببصره، ويذهب بخياله إلى غايات لا يحيط بها في غرفته هذه، والليالي الساهرة يقضيها في الغيطان، يرقب البدر في سماء الصيف الصافية وتألق النجوم إلى جانبه، في تلك اللجة تضيع أمام العين ولا أفق لها، وسكون الليل يقطعه نقيق الضفدع وصفير الصرصور أو زن التابوت يسكت كل تلك العجماوات الناطقة، وتسعده سلامية الفلاح الساهر في عمله ترن في الوجود، ويحملها هواء الليل يهيج لها الكون طربا. وذكر ذلك كله فتعزى عن غرفته ومكتبه.
لكنه ما لبث أن سمع في نفسه صوتا يناجيه: ... صحيح. كل ذلك جميل وفيه عزاء. ولكن أليس هناك عزاء أكبر في مرأى أمي وأبي والجلوس إليهما والحديث معهما؟ فهل يبلغ بي العقوق أن أنساهما حين أذكر الليل وروعته والفلاح وقيثارته؟ هل تدفعني الأنانية أن أسمع صفير أصوات الظلمة قبل أن أسمع صوت أمي في تحية استقبالي؟ يارب غفرانك وعفوك.. ألا يعدو وجودي معهم كتبي ومكتبتي؟ أولا أجد عزاء فيهم لأفر إلى الطبيعة وسلوانها؟ ما الطبيعة وجمالها؟ وما الكون وحركته إذا خلا ذلك من قلب يحب الإنسان ويحس معه؟! فإن وجد هذا القلب أفلا يكون هو صاحب الذكرى الدائمة، والصورة المطبوعة في الصدر؟
اللهم تعلم ما عن قصد أجرمت! أنت تعلم مقدار حبي لأمي وأبي، فاعف اللهم عن زلتي! ألا هل يبلغ النأي أن ينسينا من نحب؟ وهل تقضي الأيام على عواطفنا حتى لا نكاد نحس بها؟ نعم هي تلك السنين الطوال التي قضيت بعيدا عنهم أدخلت إلى نفسي الأثرة والأنانية.
والواقع أن الغربة والبعد عنهم هو الذي جعله ينسى الدار وما فيها. وما شأنك بإنسان صرف الشطر الأكبر من حياته بين خلان المدرسة، ويرجع أيام الصيف فلا يجد في البلد إلا جمودا وسكونا؟.. أقوام لا تبين عليهم علامات الارتباط، ولا يظهر من شكلهم أنهم يعيشون معا، بل كل في ناحية يفكر وحده ويجلس منفردا إلا إذا ساقته الضرورة ساعات الطعام للوجود مع أهله، وهنالك يعلو الجميع سكوت كأنهم في مأتم بين أهل الميت ومحبيه. حينذاك يحس أن بينه وبين رفقة المدرسة من الود وعدم التكلف ما ليس بينه وبين أهله. وليس عجبا أن ينتج التفريق ما أنتج في نفس حامد، ويدع القلب أشد شوقا للطبيعة وذكرا لآثارها التي تصحبه حيث حل وأينما كان منه لجماعة كل صلة بينه وبينهم في تلك الأيام التي يبدأ القلب فيها يتفتح ليعرف الوجود أنهم يقدمون له ماديات العيش، وبشكل لا يظهر له فيه منهم أثر ...
وأصبحوا جميعا في بلدهم الصغير المحبوب يحيط بهم أفقه، ويمرحون أحرارا تحت شمسه الشديدة وسمائه الصافية. والمزارع يقوم عليها القطن قد ظهر وسواسه يبسم بشيرا بما يكن من اللوز ويغطي اللا نهايات الواسعة تنطبق الأرض والسماء دونها، أو هي حصيد لم يبق عليها إلا بقايا ناشفة من جذور الغلال تلوحها الشمس طول النهار فتساعد بشقوقها الواسعة تقدح حرورا كأنها عين الشيطان، حر الصيف الشديد، وإن لم يكن لها على لياليه الساهرة الرائعة من سلطان.
فلما تنسم حامد ريح القرية، وقد انتقل فجأة من ضجة العاصمة إلى هدأة الريف وسكونه، ومن العمل المستمر بين الأوراق والكراسات والكتب إلى الفراغ يشغله ما بين نوم وحديث مع بعض إخوانه في ذكرى المدرسة، شعر بما في هاته الحياة الجديدة المتشابهة - ينطبق كل يوم فيها على ما بعده وعلى ما قبله - من المضايقة، إلا أن يخلق الإنسان لنفسه شيئا من لا شيء، وواجبات يؤديها لتنويع طعم العيش.
غير أن كل شيء يكسب بالزمان حقا في الوجود، والعادة تذهب عن النفس الاشمئزاز مما يدعو إلى اشمئزازها لأول ما تلقاه، والفراغ على ثقله لمن لم يعوده يصبح لذيذا في أيام معدودة، ويسمح للإنسان بالراحة والتمتع بإرسال خيالاته وأحلامه إلى ما لا حدود له. هنالك يختص بعالم عظيم لا يزحمه فيه أحد، ولا يجد فيه منافسا، بل يسرح ويمرح كما يحلو له، وكما يصور له هواه، فلا يجد إلا هواء معطرا أو سماء صافية وأماني تتحقق أيا ما تكن. وهيهات لمن دخل هذا العالم الجميل أن يلاقيه إلا السعادات والمسرات.
ذلك كان شأن حامد: خرج من تلك الأيام التي كان يجد نفسه فيها مسوقا إلى خلق عمل يعمله تجنبا للملال، ودخل جنة الخيال والحلم. يقضي نهاره على أي شكل يكون، فإذا تطوحت الشمس نحو مغربها ترك البلد إلى المزارع، وبعث حوله إلى الأفق أحلى الأماني. يسير الهوينا غير قاصد مكانا، ويتخذ من الطرق ما يقابله، فينساب بتلك الخطوة الثقيلة الهادئة بين الغيطان، لا يعرف موضع قدمه ولا يئوب إلى نفسه إلا حين يزعجه بعض المارة بتحيات متكررة.
وعلى هاته المزارع التي تمتد على جانبيه وتمد له في أحلامه، كان كثيرا ما يرى جماعة من العمال أو العاملات الذين عرف من قبل فيهديهم تحياته، وقد يقف معهم قليلا. فلما كان في بعض الأيام إذا إبراهيم كعادته على رأس عصابة يخفون القطن. فذهب إليهم ووقف معهم، وجعل يسأل كلا منهم عن حاله ، ومن بينهم صغير باش الوجه طلق المحيا ذلق اللسان خفيف الروح جاء من عمله يشارك حامدا وإبراهيم الحديث، فسأله حامد عن أخته فاطمة ولم لا تحضر إلى الخف، ولكن الصغير لم يلبث أن سمع ذلك حتى ضحك ملء أشداقه وأجابه أنها تزوجت في بلدة غير بلدهم. وأخيرا أمره إبراهيم أن يذهب إلى عمله، واستحث الجميع، ورجع إلي حامد يجيبه عما يسأل عنه.
بجوار هذا الصغير كانت تشتغل أخت زينب، فسألها حامد عنها، وعلم أنها اليوم قد ذهبت لتطحن. ثم سأل من بعد أخريات عن أنفسهن وأخواتهن؛ وبقي معهن حتى ابتدأت السماء يتغير لونها. هنالك تركهم وسار في طريقه يفكر في أمرهم وفيما عساه يكون مصيرهم. ثم جاء إلى نفسه ذكر زينب، وارتسم أمامه خيالها الجميل، وعيناها الناعستان، وقوامها تحت ثياب العاملة البسيطة. لكن تلك الشهور الطوال لم يرها فيها واعتقاده القديم أن لن يقدر على أن يحبها جعل نفسه بدل أن تهتاج وتأخذها الرعدة تحس لتلك الذكرى العذبة بنشوة تدخل إلى قلب حامد، وسرور يخالط وجوده وينسيه ذلك العالم الذي حوله، وتمثل أمام ناظره أيام الصيف القديمة وتلك الساعات يرجعان فيها والليل يلقي على النهار سدوله ويرفرف على الوجود بجناحه، وهما صامتان ساكتان، يشعر كل واحد بالسعادة تفيض عنه وتلفه في ثوبها مع صاحبه.
والأيام تتعاقب، وتعاوده الذكرى كلما وجد الخلوة وسط صمت الطبيعة. ويزيده تعاقبها ذكرا للحوادث والكلمات والحركات والأماكن، ولكن أثبتها في نفسه أثرا وأعلقها بخاطره ذكرى ذلك اليوم الذي شعر فيه بأنه مفارقها عن قريب، وأنه لم يبق إلا أيام معدودات حتى يهجر القرية. •••
كان ذلك أول الخريف والبنات في قفولهن يتحدثن عن الجلاليب التي أعددن أو يعددن لجمع القطن، ويحكين حكايات عن هاته الأيام الجميلة التي مضت حين كن يشتغلن باليومية ويتسلين بالغناء عن تعب العمل، فترتفع أصواتهن العالية المرتبة يحيط بها ضوء الشمس، ثم تنتشر في الهواء، وتهتز أشجار القطن المتوجة بثمرها الناضج الناصع البياض يعطي المزرعة الواسعة معنى المشيب، وكأنها في اهتزازها قد أثار هذا الصوت شجنها فطربت وبعث إليها وهي في منتهى حياتها سرورا لم تعرفه من قبل.
كان ذلك أول الخريف، والوجود يسلم إلى الماضي أيام النشوة الفرح، ويأخذ عدته لصمت الشتاء. وحامد يرسل على الأراضي وإلى الناس نظرات الوداع، ويسير جنبا لجنب مع زينب، وقد تحركت نفسه وارتاع جنانه، وثارت كل حواسه أن ذكر فراقه القريب لتلك الأماكن المقدسة، وتلك الطبيعة وبناتها، ولم يملك لسانه أن يقول: وأنا مسافر بعد أسبوع..!
وتلا ذلك نظرة تجلت فيها كل إحساساته وما يجيش بصدره، أرسل بها إلى الفتاة التي لم تجب بكلمة، بل أسبلت عيونها وكلها الأسى والحزن لذلك الفراق العاجل. وكأنما أحست بهذا اليوم القريب حين تصبح كغيرها من الفتيات ولا حامد إلى جنبها. وحامد يفتش في ذاكرته عن شيء لا يدري ما هو، وتكاد نفسه تفيض من غير سبب يعلمه، ويقرب من زينب حتى يزحمها على سعة الطريق، ثم يتباعدان، وتظهر عليه علامات القلق كأنه ينتظر أمرا، وساعة المغرب تبعث بالظلام يغطي الكون، فلا يزيده إلا قلقا.
فلما انعطفا إلى طريق القرية - وقد سبقا الآخرين وخلا بهما المكان - مالا إلى مرتفع من الأرض مختف فجلسا فوقه. وبعد برهة أمسك حامد بيد زينب، ثم ضم أصابعها ضما شديدا. ولكنها بدل أن تتألم أو تتأوه أو تسحب يدها طوت هي الأخرى أصابعها على يده وضمتها. وحينذاك مال برأسه نحوها وفي شبه الظلمة المحيطة بهما وضع قبلة على خدها، فما إن أحست بها حتى عرتها الرعدة، وتلفتت يمينا وشمالا. فلم يفهم حامد من هذا شيئا، وجذبها نحوه فطوقها بذراعيه، وجعل يقبلها في صدغها وخدها وعنقها وعلى القليل الظاهر من شعرها. والبنت كأنما أصابتها جنة قد أستسلمت إليه، وتضمه من حين لحين وتقبله. ثم وضعت فمها على فمه، وأسبلت عينيها وكاد يغيب رشدها. وأحس حامد في تخدره كأنما يرشف من لسانها الشهد المذاب. وفي هاته الضمة الكبرى تاه رشدهما، وبقيا كذلك حينا من الزمن. وما كادت تفترق شفاههما حتى ضمها إليه، وألصق جسمها بجسمه، وصدرها قام فوقه نهداها المتقدان يرتعشان من قوة النار الكامنة في كل وجودها، والدم قد علا إلى أصداغها تركها في يد حامد تائهة لا تعي.
ذكر حامد ذلك في وحدته ثم سأل نفسه: هل عند الأيام من الجود أن تسمح له بمثل هذه الساعة من جديد؟ وخيل إليه أن يذهب لوقته فيبحث عن زينب ويجدها أينما تكن. ولو علم ما شغل بالها اليوم، وما تكن من الحب لإبراهيم، لعرف ما بينه وبينها الآن من حجاب. وهل حجاب أقوى من الحب ينسي صاحبه الأشياء والناس إلا محبوبه وما في القلب من ذكرى هذا المحبوب. لكن حامدا لا يعلم شيئا مما في قلبها، وكل ما يعتقده حائلا بينهما أنها ستتزوج عما قريب بحسن. لولا أنه يحترم هاته الصلات الشرعية بين الجنسين لكان أول همه أن يصل إلى قلب تلك الفتاة ليختص به نفسه. وأي إنسان يزهدها وقد حوت في بديع خلقها أبدع ما جادت به يد الخالق؟!
7
جاءت عزيزة إلى القرية كعادتها كل عام. هذه أيام صيف يهجر الناس فيها المدن. وإذا كانت ستجد مكان الحيطان حيطانا فعلى كل حال في الانتقال تغيير هواء، كما أنها تخرج في بعض الليالي المقمرة مع أهل البيت يخفرهن رجال من أهلهن. فلما علم حامد بمجيئها ترك التفكير في كل شيء سوى أن يذهب إليها، فيسلم عليها، ويجلس إلى جانبها يسألها عن حالها.. ما أحلى هاته البنية أيام كانت صغيرة خفيفة سريعة الحركة كثيرة الضحك، أيام كانا يلعبان معا منفردين فلا يسألان عما يفعلان!
ومع يسر الوسيلة له كان يحس دائما كأن عليه ألف رقيب، وكأن الناس جميعا مطلعون على خفايا ما في نفسه وكل ما يكنه صدره، ويجول في فؤاده، فيتردد دون الذهاب ولا يقدر عليه. لكنه أحس أخيرا بدافع شديد لم يستطع مغالبته يحثه على إطراح كل ذلك من وراء ظهره والإقدام إلى حيث ملاكه الذي أعطاه من الخيالات والصور، ورسم له أمام نفسه تمثال الشباب والحب، وإن كان لم ير صاحبته من أربع سنين مضت ، أي من يوم كانت تؤمن على حياتها ووجودها، ثم نزل أهلها عن الثقة بها، وظنوا في صعودها للكمال والجمال سعيا نحو الشيطان وغوايته.
لم يرها من ذلك اليوم البعيد. ولكنها دون شك ككل الفتيات اللائي يرى تحت الشمس، متى جلست على عرش الشباب أخذت بأسباب الجمال، وكملت في كل شيء، وظهرت أمام العين زينة للناظرين.
ولم تطل مدة تردده. فلما كان أصيل اليوم الثاني ليوم حضورها أخذ بعضه وسار حتى وصل إلى باب منزلها وقلبه يجف، وفؤاده يرتعد، وقد جاشت نفسه. ودخل فإذا هي بين أقاربها وأقاربه. وقاموا جميعا فسلموا عليه، وقبلته كبيراتهم ما بين عينيه، ثم تقدم ليسلم عليها، وجلس على مقعد إلى جانبهم، ورجع القوم جميعا إلى حديثهم. وفيما بين ساعة وأخرى تسأله واحدة من القاعدات عن حاله وكيف هو؟ ولم لا يتردد عليهم؟ ويجيب بالأجوبة المعتادة المحفوظة. ثم يسكت ولا يأخذ في الحديث بنصيب، ويلقي ببصره إلى الأرض إلا أن يرفعه أحيانا فيجيله في الحجرة التي هم فيها. ومع ما كانوا يصلون إليه في حديثهم من الضحك العالي على بعض حكايات يقولها أحدهم، فإنه لم يزد على الابتسام. وفي تلك اللحظة التي يعلو فيها الفرح الوجوه كان يرسل النظرات إلى تلك التي شاركته بخيالها في أحلامه زمنا ليس بالقصير، وشغلت من حياته موضع آمال كبار، يريد أن يرى ذلك الوجه الذي عرفه صغيرا وقد استكمل خلقه، ويجتلي من ذلك الثغر الجميل ابتسامته، ثم يرجع إلى نفسه يسائلها عن إحساس الفتاة نحوه فلا يشك لحظة في أنها شريكته، وأنها تحبه كما يحبها.
وكأنما خشي أن يطلع أحد على ما في نفسه، فلم يطل مدة مكثه، واستأذن للانصراف. وبالرغم مما طلبه إليه القوم ليبقى معهم تمسك برأيه، وزعم أن عنده موعدا لا بد أن يوفيه. وما كان في تلك اللحظة أكثر ارتياحا وطمأنينة! بل لقد خيل إليه أن عيونا ترقبه من سقف المكان وتطلع على خبايا فؤاده، وأن لم يبق إلا قليل حتى ينفضح مكنون سره، ويبين للجميع ما دعاه للتعجيل بفراقهم. وخرج من بينهم وهو لا يملك دقات قلبه ولا اضطراب نفسه، وولى هاربا من الناس إلى حديقة قريبة ارتمى تحت شجرة من أشجارها إلى جانب الممشى، وقد سال الماء في قناة عن يمينه. وتمر مع التيار ما بين حين وآخر ورقة من أوراق الشجر الذابل، أو ضفدع انساب مع الماء عائما. وبعد مدة مكثها ذاهلا تائه الرشد ابتدأ يقذف إلى الماء بحصى رفيع وجده إلى جانبه. وما بين هنيهة وهنيهة يسكت ويستعيد قواه. فلما عاوده هدوءه، وراجعه التفكير في الحياة وشأنها، وتلك الفتاة وهي تنظر إليه خفية، كما كان ينظر إليها خفية، انتقل إلى أحلام السعادة التي تحيط بالمحبين، وبكل من يخالط الحب نفسه ولو مجونا. انتقل لتقدير حساب المستقبل السعيد وهو إلى جانبها وحده، وهي في حيرتها قد جاءته لموعد ينتظرها فيه.. ثم الحديث الذي يدور بينهما وهو أحلى من الشهد يقدر كلماته تقديرا، وهما في زاوية من الكون هادئة لا حركة فيها إلا أن ينعشها الهواء البليل بهبوبه، والطير بشجي نغماته، وتبعث عليها الطبيعة آثار النعمة والسرور، ويغرقان في ذلك إلى الأبد. ما أحلى تلك الساعات وأهنأها على قلبه، ولكأنه يلمسها بيده ويراها تتحقق! •••
ولما كان اليوم الثاني، وعاوده التفكير في الذهاب ليراها، خشي أن يعد عليه من معها ذلك، ويلاحظوا تكرار زيارته، فأراد أن يغالب نفسه ويقف دون إرادته، لكن محاولته ذهبت هباء، ومغالبته لم تجد نفعا، وانحنى أمام إحساسه. وفي مثل الساعة التي ذهب لأمسه ذهب فيها ذلك اليوم الثاني، ووجد الأشخاص هم هم لم يزد عليهم أحد، ويحكون حكاياتهم على طريقة الأمس. أما هو فأحس في ذلك اليوم كأن نفسه تثور، وحواسه كلها تأخذها الرعدة، حتى كادت تبدو عليه علامات القلق، فلم يتمهل أن انصرف بحجة أكثر وهنا من حجته بالأمس. وخرج هائما إلى المزارع يسير على غير انتظام، فيتمهل أحيانا حتى يكاد يقف في مسيره، ثم يسرع، ثم يتمهل وكأنه يريد أن يرجع على أعقابه. وتوترت أعصابه، وكان يقطب حاجبيه ما بين حين وحين ... ليت شعري أي شيء عرا ذلك الإنسان الهادئ حتى يقيم نفسه ويقعدها، ويرسل به إلى حدود الجنون؟ وأي قضاء من السماء حل به من أجل جرمه الذي قارف في إسلام نفسه للحب؟ وهل إرسالنا النفس تتمتع بأول عاطفة شريفة في الحياة يجر عليها الويلات؟ أو ماذا عساه يكون قد أصاب حامدا حتى جعله يكاد يهذي؟
وانساب المسكين بين المزارع ينهبها نهبا حتى جاء إلى شط الترعة، وهناك أخذ مقعده في ظل توتة كبيرة، وجلس كأن به مسا من الجن، يسأل نفسه: هل في المستطاع إخراج تلك الفتاة من بين هؤلاء المحيطين بها، ليجلس إليها جنبا لجنب، ولتحدثه، وليضمها إليه، ولتكون ملكه؟
ومكث بقية النهار في حساباته هذه، ثم قضى كل ليلته لا ينام إلا غرارا. وما كادت تهتك يد الصبح ستار الليل حتى نبا به مضجعه، وصاحبه القلق، فانحدر إلى الجامع، وما عهده به في تلك الساعة التي عرفها ساعة هجود وهمود. وانساب وسط ظلمات يتسلل فيها النور كما يتسلل الأمل إلى قلب اليائس، والسماء لم تميز بعد قد «بهت» عليها حجاب الليل الهزيم، والنجوم تتقلص واحدة بعد الأخرى، والسكوت الأخرس يحكم على الوجود، فلا تسمع هسيسا إلا أن يقطعه من حين لآخر صوت الديكة تتجاوب من جوانب القرية، ثم أذان المؤذن بالفجر يشق عباب الجو إلى السموات. ولما صلى حامد ركعتيه مع الجماعة خرج إلى جهة المزارع التي لا تزال خالية من كل حي، وهواء تلك الساعة خالطته الرطوبة يزيد في نشاطه، وكل شيء يخرج قليلا قليلا من دثار الخفاء، والأفق يتجلى عند مرمى النظر، فتنكشف أمام العين المزروعات بعد أن أخذت نصيبها من الطل. ثم احمرت السماء إلى المشرق، وطلعت الشمس تلامس الأرض وتحيي الموجودات تحية الصباح، ثم تعلو وترتفع، وينقلب لون القرص الأحمر الهادئ الباسم في مطلعه، ويرسل بأشعته فتتلألأ تحتها قطع الطل على أوراق الشجيرات والحشائش النابتة على المروى، فتطوق المزرعة الهائلة بقلادة تزينها، وحامد بين هاته الموجودات يمشي مفكرا يطرق أحيانا ويتطلع إلى ما حوله أحيانا أخرى.
ثم ابتدأ الفلاحون يفدون إلى عملهم فرادى، كل ييمم نحو مزرعته الصغيرة التي يملك، ورثها عن أبيه عن جده، أو جاد بها الحظ وأعطته إياها المصادفة التي لا ينتظر، ومعه بقرته أو جاموسته، أو هو قد اكتفى بفأسه، فإذا مر بحامد ألقى عليه تحية الصباح، ثم استمر في سيره مندهشا.. ما شأن هذا الإنسان هنا في تلك الساعة من النهار؟
وحامد يفكر كيف يتسنى له أن يكون إلى جانب عزيزة وليس عليهما من رقيب، وأن يبثها ما في نفسه ليسمع منها أنها تحبه؟
يريد أن يسمع تلك الكلمة من فمها، فهل لذلك من سبيل؟
واستولى ذلك على كل جوارحه، وملك كل عواطفه حتى جعله ينظر لأهله المحيطين بها نظرة الغضاضة. وما كان ليقدر على إطلاع غيره على حبه، وهو يعلم ما تكنه النفس المصرية لذلك الإحساس من الضحك منه والاستهزاء به، تلك النفس القاسية التي تنظر لكل جمال في الوجود أو الإحساس به ساخرة، لأنها لا تفهم منه شيئا، وتحسب أن الحياة الجد هي التي يقضيها صاحبها بين العمل والتسبيح، وكأن الوجود لم يك إلا طاحونا نقطع فيه أعمارنا لاهثين لغوبا ونصبا، مغمضين أعيننا عن كل حسن، واجبنا أن نرضى بحظنا، ونقنع بما يقدم لنا بعد كل علفة من العلف، وإلا كان جزاؤنا ما يصيبنا من سخط الناس علينا، وانهيالهم بما لا يقل عن سياط السائق إيلاما ووخزا. أو كأن النفس الإنسانية من الخسة والميل للشر بحيث يجب الوقوف أمام كل إراداتها ومعارضتها في أغراضها وتقييدها بما قيدتنا به العادات العتيقة البالية، وكأن الحواس لا تتطلع إلا للنقائص. فالعين لا تنظر إلا لتنتهك الحرمات، والأذن لا تسمع إلا لتمهد السبيل إلى أخس الإحساسات. ألا إن الحياة الحق هي التي يعرف فيها صاحبها أن الوجود إنما خلق ليسعد بعضه بعضا، وإن في قرارة النفس وفي أعماق حبة القلب إحساسا دقيقا إن قتلناه قتلنا معه الحياة، وخرجنا إلى عالم خسيس كله المادة والسعي وراءها والخضوع لسلطان أصحابها ، وإن نحن أطعناه واتبعناه أسلمنا إلى السعادة نمرح في جوها، وعرفنا من طريقه المروءة والشجاعة والحرية والإخلاص.. ذلك الإحساس هو: الحب!
وأخذت حامد الرعدة، وكاد يستولي عليه الذهول، وكأنه قد تاه عن الوجود المحيط، ونسي الشمس التي تعتلي متن السماء سريعا سريعا، وتزداد حرارتها ما بين لحظة ولحظة، والمارة من السارحين الذين يؤمون مزارعهم متزايدين يسيرون جماعات أحيانا، وأحيانا أفرادا. وكثر تتابعهم حتى أقلقوه من موقفه بسلامهم وتحياتهم، فلم يجد بدا من الرجوع إلى الدار حتى يتخلص من مضايقاتهم وإزعاجهم، وليخلو إلى نفسه في غرفته. لكنه ما وصل إليها حتى كان من فيها أيقاظا جميعا، وقد أخذوا أماكنهم للإفطار، فنادوه، وأخذ مكانه من بينهم. وما كان ذلك ليقطع أحلامه ومخاوفه، فما كنت تسمع إلا جرس الملاعق أو رنين الأكواب. والكل على ما بينهم من الأطفال الذين لم يبلغوا التاسعة من عمرهم سكوت كأن في بال كل ما يشغله ويستدعي أعمق تفكيره. فإن بدرت من أحدهم كلمة أو إشارة تستدعي الضحك ابتسم له من جاوره أو من قابله، فينظر له ثالث مقطبا كأنما ينبهه لهفوته التي ارتكب مما لا يجوز لمثله أن يقترف، وإن سأل أحدهم عن شيء أجيب بكلمة أو كلمتين وقنع بهما. لذلك بقي حامد من بينهم يفكر صامتا، ويأخذ طعامه ببطء حتى كان ينسى نفسه أحيانا فيظل ساكتا مدة يرجع إليه بعدها صوابه ويعود إلى نفسه. وما كان ليلحظ ذلك عليه أحد ممن حوله، حتى أفرغهم فؤادا من مظاهر الجد والتفكير فيما فيه حامد.
قضى حامد طول نهاره قلقا يحدث نفسه عما يعمل، وهل يذهب في مثل موعده ليرى صاحبته؟ لكن ما كان يحس به من الغضاضة للمحيطين بها جعل الفكرة لا تروقه لأول ما عرضها على نفسه. وعاود الكرة يبحث عن الوسيلة التي ينفرد فيها بتلك التي ملكت عنانه ليناجيها خاشعا، ويلثم يدها، ويضرع إليها.. ألا يكون سعيدا في تلك الساعة؟ أولا يكون سلطان الوجود؟ بل ألا يكون أسعد إذا جلس إلى جانبها وطوق عنقها بيده، ووضع رأسها على صدره، ثم قبل جبينها وثغرها، وهي ترنو له بعيون ناعسة، وتبسم عن بال مرتاح وقلب سعيد، ثم تجيبه أنها تحبه كلما قال لها إنني أحبك، وأعبدك؟ إن تلك اللحظات التي تمر سراعا لتعدل الحياة، وتبعث السعادة تملأ بها جوانح أشقى الناس وأتعسهم، وإنها لحامد كل ما يريد، وما أحلاها ساعة يتجلى فيها ملاكه دون رقيب!
وذهب بأحلامه إلى أقصى حدود السعادة، وتصور تلك الجنان يمرح فيها إلى جانب صاحبته، وتعلوهما سماوات من ذهب، ويسيران فوق أرض مفروشة بالورد، وتظللهما أغصان الشجر يصدح الطير عليها بنغماته الشجية، فيبعث فيما يحيط بهما روح النشوة والطرب.
لكن الوقت الذي ينبهه دائما إلى أن الساعة حانت ليراها كان يقطع عليه طريق هاته الأحلام ويزعجه عن خيالاته. ولم يجد بدا من الإذعان لذلك الداعي المجد في دعوته لا يمل، فقام نحو دارها، لكنه ما كاد يخطو خطوة حتى عاوده التردد، وقامت في نفسه الموانع ما بين إباء أن يراها مع من هي بينهم، وغضاضة يحملها لهؤلاء الآخرين، وخجل من تكرار زياراته. فإذا راجع السير عرته هزة من رأسه إلى أخمصه، ووقف أكثر حيرة وترددا من ذي قبل.
والوقت يسير دائما، والنهار قد انحدرت شمسه لم يبق منه إلا قليل، وحامد مكروب لا يدري ماذا يعمل.
وأخيرا صمم عزمه وسار وعلى جبينه شيء من أثر القطوب، حتى بلغ الدار، فإذا هي على غير ما يعهد تموج بمن فيها، وكلهم من إخوانه التلاميذ وذوي قرابته من الشبان؛ ذاك أن أخا عزيزة قد جاء ليقضي مدة مسامحته كذلك بعيدا عن ضجة المدن وضوضائها في هدأة الريف وصمته، وليمتع نفسه بالفضاء الواسع يمتد أمام النظر، تزينه الجداول والترع، وتطوق جيده آفاق تنضدها الأشجار اتخذها الطير سكنا، والشمس في عنفوانها تحيي النهار قبل أن يأخذ الليل حظه من الحياة، ولا تغيب إلا لتدع للناس ليلا ساهرا عاملا يحمل هواؤه أصوات الطبيعة وصوت الإنسان إلى آذان الوجود يهيج بها في نفسه ذكرى السعادة. فأقبل حامد على صديقه القديم وتعانقا ، ثم جلس معه يتحدثون جميعا في شئونهم وأحوالهم وأيام الدرس وحكايات المدرسين - عادة كل أخوين من طائفة المتعلمين يتقابلان بعد فراق طويل. وابتدأ الظلام يقدم عليهم، والموجودون ينصرفون واحدا بعد الآخر. ولما جاء دور حامد ألح عليه صاحبه أن يبقى للعشاء معه، وقبل حامد الدعوة، وقضيا معا شطرا كبيرا من الليل يحدث كل صاحبه في أمره وشأنه، ولا يأخذهما ملل أو يأتي عليهما ضيق من مجلسهما. حتى إذا أمست الساعة لم يبق لحامد بد من أن ينصرف إلى بيته، وما رأى عزيزة ولا سمع حديثها، غير أنه لم يكن يفكر في هذا حتى وصل إلى غرفته وأخذ مضجعه. هنالك بدأت تعاوده أفكاره وأحلامه، ولكن الوقت الممسي لم يجعل أمدها طويلا، بل أتى عليها، وحمل صاحبها إلى نوم عميق هادئ.
وتتابعت الأيام، وكان يذهب كل يوم لصاحبه، ويرى عزيزة تحادث أخاها أحيانا، فلا يجسر على مخاطبتها بأكثر من التحية المعتادة، وكان قد قنع من حظه بذلك وبما ظنه من أنها ليست أهدأ بالا منه.
وكيف لا تكون هي الأخرى مشتغلة النفس مشتتة البال، وهي في تلك السن الزاهرة، سن الشباب والنضارة، تلك السن التي لا يستطيع الإنسان فيها أن يمنع عن نفسه خواطر الحب وهواجس العشق. بعد أن أسلمته إليها سنون كره من جرائها التفكير فيما دون هذا الإحساس من خواطر الشهوات ولذائذ المادة، تلك السن التي يرق فيها الشعور ويتفتح القلب يريد أن يضم إليه كل جمال في الكون، وتحس النفس بالحاجة إلى نفس أخرى، حاجة مطلقة يكون العيش دونها آلاما وشقاء، والحياة حملا ثقيلا يريد صاحبها التخلص منها؟!
غير أن قلبها الحبيس دائما، ونظرها الذي لا يجتلي السماء إلا من نوافذ الدار، وسمعها الذي لم يذق شجو الأغاريد وإن لم يغب عنه نوح الحمام، ووجودها كله الذي يحس بالجمال العظيم في الكون كأن بينهما وحيا ونجوى، ثم لا يقدر على استطلاعه وتذوق ساعات الوحدة والخلوة كل ذلك شتت نفسها وبعث فؤادها في تيهاء لا يعثر فيها بسعادة ولا بشقاء ، وإن أحس بالراحة والرضا إلا أن تزعجه نار الحب تأجج بين ضلوعها، فتبعثها تجوب تلك التيهاء من جديد، ثم تعاودها هدأتها، وهكذا هي بين حيطانها الأربعة أشد حيرة من الدمعة في عين المحزون، تجد السلوان في أحلامها للمستقبل البعيد، وأمانيها لأيام الزواج السعيدة، وتصور في نفسها الزوج الذي تهبه قلبها من اليوم، ثم تهم تبحث عن شخص ذلك الزوج العزيز المحبوب وترجع إما فارغة اليد ينغص الأسى أحلامها أو راضية إن عثرت بمن عرفته أو سمعت به.
وحامد من بين هؤلاء الأشخاص الذين تعرف، فكان يرد إلى خاطرها أحيانا، وتجد فيه موضع أحلام وآمال كبار تقضي فيها ساعتها، ولكنه لم يكن المنفرد بتلك النفس الدائمة التنقل لا تستقر على حال. وتعرض أمامها كل يوم صور أشخاص ممن عرفت في الماضي، أو من سمعت عنه من غيرها أنه رجل الجمال والشهامة. لذلك لم تكن نظرات حامد لها تلك النظرات التي تذهب للقلب وتدخل أعماق النفس فتصادف هواها. وما كان تخفيضها جفنها إلا حياء مما عند كل فتاة. وإن تك قد أحست نحوه بشيء أثناء تلك المدة القصيرة فما هو ببالغ إلا قليلا إلى جنب ما يحس هو به نحوها.
والأيام تسير، ونفس كل تجد من المشاغل ما تقضي فيه نهارها، وحامد يكثر التردد إلى المزارع وإلى بيت صاحبه ليراه ويفكر في أمر ذلك الحب الذي خالط فؤاده، وامتلأت به جوانحه، تفكيرا يذهب به إلى ثورة اليأس، ثم يعاوده الرجاء، ويحسب في الإمكان انتزاع فتاته من خدرها، وبث ما يكنه لها من الوجد، وما برح به من الهوى، وينتظر سماع اعترافها بأنها تحبه، ويمرحان بذلك معا في جو السعادة.. ويذهب بأحلامه إلى عالم خيالي جميل لذيذ يتمتع فيه بما حرمه من عالم الواقع. فإذا رجع إلى الوجود لمس الحقائق القاسية وأحس بآلام الحرمان، حتى يكاد يصل إلى الجمود والنظر إلى العالم كله بعين الخائف الحذر.
وقابل زينب في عملها مع صويحباتها، وهن يغنين مسرورات، وهي صامتة ساكتة، فراعه أمرها، لكن ما تتقلب عليه نفسه وما يدور في رأسه كفى ليشغله عنها، غير أن الأيام القديمة وذكراها، وذلك الجمال الصامت بين متحركات الحياة، أحدث عنده هزة ضعف عن مقاومتها، وجاءت بذكرى الحوادث الماضية. وفي كل يوم يرى فيه زينب ويلقي عليها تحيته كان لا يستطيع أن يمنع نفسه من التفكير في شأنها وما يحزنها.
وقضى على هذا النحو كل المدة التي أقامتها صاحبته في الريف، وهو يتلمس أثرها من بعيد، ويذهب إلى حيث تكون، يمتع نفسه بنظرتها أو يجتلي ابتسامتها. وما كان ليقنع بهذا، ولكنه لم يكن ليصل إلى أكثر منه، حتى أسلمته أيامه الأخيرة إلى شيء من الرجوع إلى هدأته وامتلاك حواسه، والنظر إلى عزيزة بشيء من اليأس أن يقدر يوما على مفاتحتها بأمر الحب، أو محادثتها فيما يدور بين المحبين من لذيذ الحديث. ورجع بذلك يأنس بإخوته وأهله، ويصرف عن نفسه ما حملته من قبل من الآلام والآمال، فإذا عاودته الذكرى في ساعات خلوته قنع منها بلذتها، وتنسم عبيرها، ثم انتقل بعدها إلى زينب وشأنها، ثم إلى المستقبل البعيد وما يرجوه فيه من السعادات، أو ترك نفسه يلعب بها الهواء الجميل، وحواسه تتمتع بما يحيط بها من نعم الوجود وآثاره. وهكذا دخل في نوع من إهمال كل ما حوله وعدم الاهتمام به والسير كما يسير غيره، وإن كان قلبه الكليم بهاته الأيام الطويلة ينزع إلى عصيانه أحيانا، وتأخذه الثورة ويتولاه الهياج، يريد من الوجود من يضمه إليه ويشاركه كل حياته.
وليالي الصيف الساهرة - يقضيها الفلاح يلف في طنبور أو يسوق ساقيته ويتعهد سقي القطن أو ري الشراقي - تعزي حامدا عن كثير من همه، فيخرج والقمر حائر في لجة السماء، وخياله أشد حيرة في لجج الماء، والتلال تمتد مع العين حتى يضيع النظر في لجة الليل، ولا يجيء منها إلا على قليل، والنجوم منثورة تحيط بالبدر، ويرقبها الفلاح ليقيس عليها وقته، وينتظر مطلعها واحدة بعد الأخرى، فإذا هو رأى نجمة الصبح ترنح كأنه طرب لمقدم الفجر يصليه شاكرا أنعم ربه، ثم يرجع إلى عمله طول النهار إلا ساعات يسرقها ليغمض فيها عينه.
وفي أيام ظهر نبات الذرة الجديدة بذلك اللون الأخضر الباسم، ولم يبق من الأرض جرداء إلا القليل الذي أبقاه الفلاح للبرسيم السواد، ولبست الطبيعة بذلك لباس زينتها، وأخذت زخرفها، وابتدأ الفلاح يحس نسيم السرور يجيء إلى نفسه، وانتهت الليالي الكثيرة الضجة والجلبة، ليالي الري، وصار يقنع من السهر بالقليل يسقي فيه القطن، كما ينتظر بفارغ الصبر انتهاء الإدارة والبطالة وذلك الترتيب الذي يقصم ظهره، وينظر للماء الطامي «الأحمر» نظرة الرضا والقنوع، ويعد ما بقي على أيام الراحة عدا.
وبعدها ابتدأ خف الذرة يفرح له الفلاح وتبدأ به الدواب ربيعها، والعمال والعاملات قد خرجوا من أيام الحرث والتلقيط تحت حر الشمس ومواساة الأرض مواساة الطفل خيفة أن «تطلع» وذهب منهم من ذهب إلى «الطفي والسقي» وآخرون إلى الخف، وانتقلوا بذلك عن عناء إلى عناء، وإن كان هذا الآخر بما يحيط به من أسباب السرور أحب للنفس وأكثر عندها قبولا.
وزينب تنتقل مع المنتقلين، وعليها سيما السكون والسكوت، والأيام تقص من عمر الصيف ونهاره الطويل، وكل شيء على الأرض ينمو سريعا، وحامد قد غرق بعد سفر صاحبته في أفكار شتى، وآمال لا آخر لها، وأحلام يسعد بها ساعة ويشقى بها أخرى، وإن وجد في إخوانه وفي الكون البديع بما عليه عزاء وسلوانا.
8
كان حسن منذ علم بما أعد له أبوه في نفسه من أمر زواجه أشغل من أمه بالا، يبحث هو أيضا عن فتاة من بنات أمثالهم الناس الطيبين. ولئن كان عمله المتواصل ليل نهار في المزارع يشغله عن التفكير الطويل في هاته المسألة، إلا أن أيام الصيف الحارة ولياليه الرائعة البديعة لا تتثنى عن إيقاظ عوامل الحياة في النفس وتنبيهها إلى ما يلازم طبيعة الإنسان وما يجول في خاطره دائما من التعلق بموجود ذي جمال يجد فيه عزاء عن آلام الحياة ومشقاتها، ويخلد معه نفسه ونوعه.
وكانت زينب إذا راجعها أمر ذلك الخبر قابلته بصبر، وأملت أن يكون في الغد ما يفرج همها أو يزيل كربتها.. أو لعل الأيام التي فجعتها بعد هناءتها وأشقتها بعد سعادتها، ترد لها ما حرمتها إياه، ويعود لها من الصفاء ما يلذ معه طعم العيش.
وحامد كثير الذكر لصاحبته إن وجد الوحدة والخلوة، قانع بالإخوان كلما اجتمع بهم، يشتد به الهيام أحيانا فيحمله إلى الفضاء في الساعات الصامتة حين يتنفس الصبح وتطلع الشمس تتهادى من مرقدها، ثم يعاوده السلوان فيه أياما.
وكل شيء ينمو سريعا، ولم تكن إلا أيام معدودات حتى أصبحت الأرض كلها إلا قليلا مغطاة بالقطن والذرة، وكلاهما عال يكاد يختفي السائر بين أشجاره وعيدانه.
وكلما تقدم الصيف في أيامه تقدمت هاته المزروعات في نضجها، وأحس الفلاح بالسرور يدخل إلى نفسه، وإن كان منهم من يرى في ذلك ما يزيد همه، ويكثر من شجنه، حين يفكر في الوسيلة التي يدفع بها قسط الدين الذي عليه، فيجد الحال غير ما يحب، ويرى أن كل يوم يمر يقرب أجل المحضرين وزياراتهم اليومية الثقيلة، ويحضر في رأسه الطرق التي يجيء منها بالنقود. فإما أن يحتال على زوجه فيرهن أرضها على دين جديد يقترضه، أو يبيع من فدادينها القليلة ما يسد منه قسطه، أو يلجأ إلى بيع منقولاته ومنقولاتها، أو هو يخرج عن دائرة بيته ليضايق من له علاقة به من الفلاحين والمزارعين ليبتز منهم ما يستطيع أن يحصل عليه مهما قل.. وإلى جانب هؤلاء جماعة القانعين من العيش بأقل من الكفاف، الفرحين لقدوم مياه النيل تملأ الترع فتتهادى بها بين ما ينمو على جرفها من الحشائش وما يقوم على جانبها من الزرع، والسرور ملء صدور هؤلاء القوم الذين لا يتكلفون من أجل سقي مزارعهم إلا أن يرفعوا صمام فتحات الراحة فينساب الماء يغطي الأرض المشتاقة له بما يحمله من الثروة التي أرسلتها البلاد القاصية. ثم يقف ذلك القانع إلى جانب الطريق الساعات الطويلة متكئا على فأسه، يلقى الشمس دون أن يعبأ بها، وتتحرك الأكوان وهو رابض مكانه، ثابت لا يتحول إلا أن يدير الماء من فردة لفردة ، ومن مكسر لمكسر، حتى إذا صلبت الشمس في وسط السماء مال إلى ظل شجرة وأخذ غداءه تحتها، ثم تمطى في غفوة ما أقصر أمدها! ويقضي بعد الظهر مثل ما قضى قبله.
جاء الخريف، وأصبح جني القطن موضع حديث الملاك والعمال والنساء والرجال وكل سكان هاته البلاد. ولم يك إلا أيام حتى أصبحت المزارع تموج بالجماعين، وأكثرهم أطفال لا يزيدون على العاشرة من عمرهم، ولا يكادون يظهرون من خطوطهم، ويحكم الصمت عليهم جميعا، كل يريد أن يجني أكثر ما يمكن، أو يغنون أحيانا في المزارع التي يشتغلون فيها باليومية. وسط هذه المزارع وبين هؤلاء العمال تجد زينب في كل برج تجنيه ساعة تدنيها من زواجها، وتود لو ترتمي بين أحضان إبراهيم فتبوح له بمكنون حبها.
ولقد عيل صبرها، ولم يبق عندها من قوة للسكوت أمام قلب يكاد ينفطر. إن في مرأى إبراهيم الذي ترى كل ساعة وعند كل لفتاتها ما يرسل إليها قشعريرة تأخذ بكل جسمها وتتوه معها عن عملها. فإذا جاءت إلى نفسها من جديد ذكرى الزواج الذي يشيعون انقبض صدرها، وهان عليها أن تصرخ مستنجدة هذا الواقف إلى جانبها.
وإبراهيم ليس أقل منها اشتغالا، يجاهد ما استطاع لحكم نفسه، ويعمل لكتم كل ما يجول فيها، وإن غض بصره كلما مرت به، وأخيرا عزم على مفاتحتها بحبه متى استطاع الخلوة بها، فلم يعد في قوس صبره هو الآخر منزع.
ولكنه يعلم أن حسنا سيتزوجها عما قريب، وحسن صديقه وأخوه، فماذا عساه يعمل؟ لو أن في وسعه أن يأخذها لما فضل على ذلك شيئا، ولكنه يخسر حسنا في الوقت الذي يخسر فيه زينب. لو أنه ذهب إلى أبيها ليخطبها فهل يرضى هذا الأخير وهو يعلم ما أعده الحظ الطيب لابنته؟ وإن أراد أن يحافظ على المظاهر وأغلى له مهرها أفلا يساوي ذلك رده ورفضه؟ ولكن لم؟ ألا يستطيع من أجلها أن يحصل على كل مهر مطلوب؟ هل على زينب من غالية في الوجود؟ ألا إنه ليعمل من أجلها كل شيء ويأتي بكل ما يطلبه أبوها.. إنه يبيع جاموستهم، ثم يقترض ما يقوم بسداده من مرتبه في عام أو عامين.. إنه يعمل كل شيء آخر غير هذا.. إنه يسرق إن أحوجت الحال.
نعم، لا بد أن يذهب إلى أبيها ويطلبها منه!.. يا كرم السماء. كم تكون الحياة إلى جوارها لذيذة طيبة! وكم يكون العيش ناعما! وكلما جلست إلى جانبه في دارهم وتحادثا في أمر الأرض التي يستأجرها من السيد محمود ويزرعها هو وهي أفلا يكونان مسرورين معا أكبر السرور، سعيدين أكبر السعادة؟
أصبح الغيط شقين؛ فالذي جمعت غلته غبرة قد اسود وجهه، أما الآخر فبقي تتوج هامته الكبيرة أبراجه البيضاء الناصعة.
وانحدرت الشمس إلى المغرب، وعفا الله، وجعل كل يجاهد في تحميل ما جمع. فلما انتهوا انفلتت زينب وسط المزارع لبعض شأنها، وراح إبراهيم للمصلى يقضي فريضة العصر قبل فواتها، وسيقت الدواب يحيط بها الجمع الكبير، وكل يسير إلى جانب ما جنى.
ولما رجعت هي ورأت إبراهيم جالسا وحده عرتها حيرة في أمرها ولم تجد سبيلا لتنفيذ ما شغلها طول النهار. ثم قام راجعا وسار إلى جانبها وكلاهما ثائر النفس، والبدر الشاحب في السماء يتبعهما في سيرهما، وكأنه يتسمع على نفسيهما ويريهما في نحوله ما تصل إليه حال المحبين، أو هو يرنو إليهما بطرف مريض يصل ما بين قلبيهما، وغطاء السماء يزداد كثافة من حين لحين، فيزدهي القمر وتبين الكائنات في شعاعه وجميعها عاشقة، عمل الحب في وجودها وغير من لونها.
وصلا إلى مصلى على الطريق، فسألها إبراهيم أن تنتظره حتى يخطف ركعات المغرب. فلما اختتمها طلب إليها إن شاءت أن تجلس قليلا حتى يستريحا، فأجابت طلبه بعد شيء من التردد، ولكنهما كانا أكثر صمتا وأشد قلقا من قبل.
وبعد برهة عاودته فيها الرعشة مرات تجاسر فأمسك بيديها. وفوق هاته البقعة الطاهرة المحرمة وتحت عين الله وعين البدر قال لها لأول مرة: - أحبك يا زينب.. ... كل ما في الأرض والسماء من سعادة لا يبلغ ذرة مما تفيض به نفسها هاته الساعة. إن القمر والكواكب والموجودات كلها في عرس كبير، وذلك النسيم العذب الساري في الجو يحمل معه الهناءة. هل تستطيع زينب أن تتكلم الآن؟ وهل يسعدها لسانها؟ كلا! كلا! لقد غلب عليها الفرح فهي واجمة حيرى ثابتة في مكانها ترنو لإبراهيم ولكل ما حولها. ثم بحركة لم يفهمها ارتمت نحوه مسلمة نفسها بين يديه ملقية برأسها، فضمها هو إليه، وراح ذاهلا بتلك النشوة التي يوحي بها جسمها، ولكنها لم تك إلا لحظة حتى عاودتها هزة شديدة، وجاهدت نفسها تريد الخلاص منه والفرار من وجهه والهيام على وجهها لا تدري إلى أين!! وإبراهيم كمن أسقط في يده؛ خانته قواه، فنظر إليها نظرة المستعطف اليائس ولم ينطق بكلمة بل وجم ساكتا، وكاد يغشى عليه. فلما وقفت تريد الذهاب لم تطعها قدماها بل ألقت هي الأخرى نظراتها عليه، وبقيت كذلك لا تدري أهي سكرى بهنائها أم أذهلها الأسف عن كل شيء؟ وصاحبها جاث تحت قدميها رافع رأسه إليها لم يستطع أن يكرر من جديد اعترافه لها أنه يحبها.
وأخيرا، وقد أمسى الوقت، واتشح الأفق بوشاحه الأسود، وراحت المزروعات هامدة مستريحة، يوحي إليها النسيم ألذ الأحلام، قام فسار وسارت إلى جانبه حتى إذا كانا على مقربة من البلد، وآن لهما أن يفترقا، أخذ يدها فقبلها ثم تركها ولم ينبس واحد منهما ببنت شفة.
وذهبت بعد ذلك توا إلى الدار، فأخذت عشاءها، وطلعت فوق السطح أمام الغرفة، وجلست وحدها وهي لا تستطيع أن تقدر مبلغ سعادتها. ثم صعد أخوها وأختها، وجلس الصغير إلى جانبها، ومال برأسه فوضعها على ركبتها، وبقيت هي سارحة تحدق إلى القمر حتى راح الصغير في نومه. وجاء أبوها بعد صلاة العشاء، ونقلوا الولد إلى الغرفة، وناموا جميعا كعادتهم. ولكن زينب لا يحالف النوم عينيها، ولا تستطيع البقاء في مرقدها. فبقيت متيقظة لم تطعم النوم إلا قليلا من الليل، وتعاودها فكرة أن تقوم فتذهب إلى حيث إبراهيم، لتجلس إلى جانبه، وليضمها إليه كما ضمها ساعة رجوعها.
كانت لذيذة تلك الساعة الملائكية الجميلة، وكم تود لو تستعيدها! ولكن أبويها النائمين إلى جهة الباب توقظهما أقل حركة.
وأخيرا جاءها النوم، وتيقظت في غدها مبكرة كعادتها، وذهبت للجمع وهي تسرع، تود لو ترى إبراهيم فتقف تنظر إليه طول نهارها، ولكنها ما إن كانت بين أخواتها حتى راجعها حياؤها القديم، وصارت تخالسه النظرات، فإذا وقعت عينها على عينه عرتها قشعريرة، وودت لو ساخت في الأرض أو تاهت بين الأشجار. فلما كان المغرب ترك هو ما جمعت ليحمله آخر القطن. ولكن المطايا لم تكف وبقي معها ينتظر أن ترجع إليهما مطية تحمله، فلما انفردا جلس إلى جانب المروى وأجلسها إلى جنبه حتى إذا استوت قال: - فاكره يا زينب لما كنا في الغيط اللي جار أبويا خليل ودختي انتي ساعة الغدا ورحت أرش على وشك ميه؟
فاحمر وجهها ساعة ذكرها أول أيام حبها، ورمت ببصرها إلى الأرض، وأمسكت بيدها عودا تنكت به التراب أمامها. لكنه أخذ بيديه يديها كما فعل بالأمس ثم قال: من نهارها أنا أحبك!
فتنهدت ولم تحر جوابا.
هيه.. من ذلك اليوم الذي أحبته، هو يشاركها في حبها وهي لا تعلم.. كم يأتي كل يوم جديد بسعادة يهديها إياها! ولم لم يبح لها إبراهيم بحبه من ذلك اليوم، وتركها تعاني ما عانته؟ فلما رآها ساكتة كأنها خجلة كرر من جديد: من نهارها أنا أحبك..
فقالت هي من بعده: ومن نهارها أنا أحبك..!
فصرخ الفتى، وضمها إليه، وبقي كل منهما تاركا نفسه لصاحبه غارقين في لجة من السعادة لا شاطئ لها. ثم جلسا حتى رجع الغلام والمطية، وسارا جنبا لجنب وتواعدا للملتقى بعد العشاء.
وبعد العشاء انسحبت من بين أهلها بحجة أن لها في الخارج أمرا تريد قضاءه، وخرجت عن البلد حتى إذا كانت في أول طريق الترعة وجدت إبراهيم ينتظرها. ولما رآها مقبلة مشى نحوها، وأخذ يدها وقبلها، ثم رنا إليها بعين قانعة عذبة كأنما يريد أن يقول لها: ها أنت ذي من جديد.
وبين المزارع الواسعة يترنح فوقها نور القمر في سماواته، سارا الهوينا يخاصر كل منهما صاحبه، وينظران بعيون حيرى في لجج الفضاء، وقد طوقت ثغريهما ابتسامة راضية، وفاضت عنهما السعادة لا يقدرانها، وشعرا بهناءة لم يقطعاها بحديث بل تركا أنفسهما تطير في ذلك العالم الحلو سكرى بلذته، والكون حولهما ساكن إلا من أحلام الطبيعة يوحي بها الصرصار والضفدع، والليل شيبه الغرام أرسل بذوائبه البيضاء على المسطوحات الهائلة، والبدر صديقهما الحميم يسير معهما، أو حاسدا زينب يتبع خطاها ويتأثرها بنظرات الحانق سقط في يده. ... أين أنت يا قمر السماء من جمال زينب ولم أعرك لفتة وهي إلى جانبي؟ إن في تلك النظرات التي تبعث هي بها إليك لسحر الشباب الذي فقدته أنت من قرون القرون، وتلك الابتسامة السعيدة التي تطوق ثغرها تهزأ بخطوط المشيب البادية على وجهك. ولكن أحلامه قطعها قول زينب يا سلام! القمر حلو. - إنت أحلى يا زينب.
وطوق خصرها بذراعه وقبلها في جبهتها، ثم في صدغها، ومن جديد نظر معها إلى القمر.
ولكن تلك القبلات أثارت من نفسها شجونا فلم تتمالك أن رمت برأسها على كتف صاحبها الذي أحس بعد برهة بشديد الخفقان الذي أصابها فاستدار برأسه إليها وقبل صدغها ثم سألها: ما لك يا زينب؟
وزينب تبكي ولا تجيب بكلمة. فأمسك بيدها وسألها من جديد فأجابته في بكائها: بعد شوية أيام مش حانشوف بعض ... أجوز أنا وأروح دار جوزي، والساعة دي متنعادشي.
وتنهدت من قلب كليم، ثم استندت إلى المصلى وراءها، ومسحت دموعها، وبقيا هكذا صامتين بقية الليلة.
وبعد أيام تقابلا، فأحست بالهناءة كلها، وسارت تجد في كل نظرة من نظرات إبراهيم أكبر السعادة.
وبقيا بعد ذلك يسترقان الساعات فيتحدثان ويتعانقان، وقد أحست أنها ستفارقه عاجلا وإلى الأبد تريد أن تفنى في شخصه قبل أن يغتصبها منه مغتصب. •••
وأسرعت الأيام، وانتهى موسم جمع القطن، وارتفعت الأسعار، فباع خليل من عنده ما حصل به المال. ثم أخذ أصحابه وانحدروا جميعا يريد أن يخطب زينب إلى أبيها زوجا لحسن. انحدروا ثمانية والشمس قد تقلص ظلها، والسماء تلتحف رداء الليل، والنور يهجر الوجود إلى وجود آخر بعيد، والأصوات تخرس ليحل محلها السكوت والصمت، وبلغوا الدار الحقيرة، والرجل كأنه على موعد منهم، أو كأنه جاءه الوحي بخبرهم، فلم يكادوا يطرقون بابه حتى فرشت لهم امرأته الحصير، وأعدت لهم القهوة، أو هي تلك العادة قد خالطت نفس هؤلاء الريفيين من إكرام كل وافد والترحيب بكل من يحل ناديهم وإحسان لقياه يجعلهم دون تكلف ولا عناء يبالغون ما استطاعوا في تحية من ينزل بهم.
وجلس الرجل من بينهم محتفيا بهم مظهرا مقدار سروره بتشريفهم ومؤانستهم وأنهم نوروا داره، وظلوا يتهادون التحيات حتى دارت عليهم القهوة، وصاروا جميعاوكأن بينهم رابطة ود وإخلاص. هنالك قال خليل: والله طالبين القرب منك يا بو محمد. - يا تلتميت مرحبة يا بو حسن.. واحنا قد المقام. - الله يحفظك. - ويعني إحنا حدانا حد يستحق الجواز؟ - والله بدنا زينب لحسن. - إحنا والله ما نعز عليك حاجة يا خليل ... لكن انت عارف البنت صغيرة من ناحية، وهي اللي بتقضيلنا الحاجة من ناحية ... كمان يا خويه سنتين والا ثلاثة لما تكبر هي وتكون أختها بقيت لايجة للشغل.
هنالك انبرى من بين القوم رجل ذو وجاهة، عريض الصدر، عظيم الهيئة، هو شيخ البلد وقال: حاكم انت يا بو محمد! ... صغيرة إيه يا خويه ... عمرنا بنجوز البنات وهم أصغر منها ... والله إني جوزت ديك السنة بنت أبو سميه ده. أبو عامر لعلي أبو إبراهيم وهي أصغر خالص من زينب.. يا راجل بلا كلام.
ثم تلاه آخر يظهر عليه أنه من الأعيان، وقال موجها الكلام لشيخ البلد: ومنتاش فاكر يا مصطفى بنت مسعودة لما جوزناها؟ حقه والله كانت يا عيني قد.. قد إيه.. مافيش خالص، شوية وكبرت وبقت عال.. لكن زينب باسم الله ما شاء الله كبيرة وحلوة ولوحدها تقوم بعيلة (ثم وجه الكلام لأبي الفتاة) صغيرة إيه يا راجل ماتقولش الكلام ده.
وأخذ المأذون الكلام من بعده فقال: المسائل دي بتعاديل الله.. ما دام القسمة تدل وربنا يريد العدل والله ما يبقى أحسن منها. حقه يا خوانا تفتكروش من خمستاشر سنة في عزبة سعد الدين لما جوزنا خضره أم إبراهيم لحسنين مقلد. قعدوا أهلها يقولوا معرف إيه ومدري إيه، وكانت يام رايحة تقوم ليلتها قتله، وكتبنا الكتاب والذي منه، وجابوا أولاد.. ربنا يكتر بسم الله ما شاء الله أحسن من كده مايبقاش.
وتكلم من بعده آخر وخامس وسادس وأبو محمد قد علته سحابة الهم، وعاودت نفسه الإحساسات المختلفة. لا يعرف ما هي ولا يقدر على فهمها، كلا، ولا يعلم سببا لذلك الذي داخله من الأسى ... وعلاه صمت عميق بين محادثات هؤلاء المترافعين أمامه، فهو يسمعهم ولا يقدر ما يقولون.. والليل جن أو كاد، والمصباح الذي يضيء لهم يلعب به الهواء الساكن الهادئ، وزينب تسمعهم من أعلى السطح ويكاد يتوه رشدها ويضيع صوابها، وأمها إلى جانبها قلقة تنتظر آخر هذا الحديث الذي طالما حادثت زوجها في أمره من قبل، وكانت قد عرفت أنه يود تحقيقه. لكن الساعة التي يجد الإنسان نفسه فيها مقدما على اقتحام خطوة يفتح بها السبيل لإتمام ما تمنى من زمان بعيد، لها من الرهبة والمهابة ما يبعث إلى النفس الهم والحيرة، فإذا هو اقتحمها وأصبح في طريقه لم يعد يبالي إلا بأن يصل إلى غايته.
هي تلك الساعة بعثت إلى العائلة السعيدة في فقرها ما أرسل إلى نفوسهم جميعا ذلك الصمت الذي علاهم، ولم يبق من متكلم من بينهم. وظلمة الليل تهبط فتزيد صمت الكون ويمسي الوجود كله تائها في آماله ومخاوفه.
وزينب كاد يتيه رشدها؛ تفكر في إبراهيم الذي كانت معه من ساعة من الزمان، وفي الأيام المقبلة ما عساه يكون أمرها فيها. هل في هاته الليلة يقضى على سعادتها، ويرجع إليها الشقاء الدائم الذي كانت تتوقع من قبل؟ وهل هؤلاء الذين حضروا يريدون جميعا - وليس منهم من يحس بجريمته - أن يقضوا على حظها في الوجود ويجعلوا بقية أيامها آلاما وأحزانا؟
وإبراهيم في بيته، عرف ما يدور الساعة في دار صاحبته، فأخذه الضيق، وركبه الهم، واستولى عليه اليأس، وتولاه الأسى، وبقي محزونا مكمودا ينعي في نفسه نفسه.
وأبو الفتاة قد انتهى القوم بإقناعه وكاد يقبل، وابتدأوا بذلك يقدرون المهر، وانقسموا بعضهم على بعض في التقدير، ثم تراضوا جميعا ولم يبق إلا كتب الكتاب، وأن يروح لذلك من يجيء من زينب بتوكيل أبيها في عقد زواجها.
ها هو ذا الأب قد تصرف في يد ابنته برأيه وباعها مساومة، وبقي أن تجيز هي عمل شخص أعطته الطبيعة من السلطان أنه أبوها، فهل تقدر الفتاة من بعد ذلك على رد ما عمل؟ هل ترضى هي بفعلته هاته وقد عدتها من قبل باب نحسها وشقائها، وتعطيه عن طيب نفس ذلك التوكيل الذي يطلب أو هي واقفة دون ذلك؟
عرفت زينب أن سيطلب توكيلها، فكأنما سقطت عليها هموم السماوات، واستولت عليها الأحزان من أعماق الأرضين، وأصبح ذلك السواد النازل من علو مصائب هابطة وأهوالا وشقاء، أو كأنما يرسل النسيم إلى قلبها بسهام الويل والتعس، بدل أن يحيي منها أملا يقضي عليه أبوها ووافقته في قضائه أمها.
لكن القوم لم يكتبوا الكتاب في ذلك اليوم بل اكتفوا بقراءة الفاتحة وأجلوا إتمام العقد لشهر من الزمان. •••
مضى شهر من الزمان كانت زينب فيه إما تسمع ما تكرره لها أمها من الكلام، أو هي بين يدي إبراهيم تذرف الدمع، فيضمها إليه وقلبه ينفطر حزنا، ويقبل صدغها فيجد في تلك القبلات ما يزيد في وجده وأساه. وكل يوم يمر يزيد ما بنفسيهما حتى لتفكر من جديد أن تهب كل وجودها له لينجوا معا إلى حيث لا يعلم الناس: إلى مجاهل قاصية يقضيان فيها حياة عاملة كحياتها اليوم، وتخلص بذلك من عذابها الأليم. ليأخذها إبراهيم حيث يشاء فهي لا تريد غيره.
فإذا هي خلت إلى نفسها تقطعت نياط قلبها أسى، وداخلها اليأس، وتحدرت دموعها، ثم تراها أمها فتلومها على ما هي فيه وتعمل لعزائها، ولكن أنى لها أن تتعزى؟ إنها لتود أن تخرج هائمة على وجهها تتقاذفها الأكوان وتتناولها يد القدر، فإنها مهما تكن قاسية في معاملة الفقير فهي ألين من يد أبويها وأحنى عليها منهما . وهل هي واجدة إلا شقاء بشقاء، ونصبا بنصب؟!
ويضمها إبراهيم لصدره كلما جلست إليه، ثم يجاهد هو الآخر لعزائها فلا تجد في ذلك إلا تشديدا لآلامها وإحلالا لليأس موضع كل رجاء من قلبها، وكادت تذهب بها أحزانها إلى الجنون، وتخرجها من بين الناس إلى حيث لا يعلم بأمرها أحد.. بل لقد همت بذلك أكثر من مرة فتنفرد في المزارع طول نهارها تنتقل من غيط إلى غيط وتجلس كلما أثقلها الهم، ثم يثور كل وجودها فلا تستطيع إلا أن تهيم، فإذا أمسى الوقت وتطوحت الشمس داميا قرصها إلي الغيابات النائية، والتهب الغرب بحمرة الشفق، لم تستطع إلا أن ترجع إلى تلك الدار التي ضمتها كل أيامها ثم تريد أن تقذف بها عما قريب.
ترجع فتجد أهلها وعليهم أثر الرضا والسرور، فإذا انفردت بها أمها لم تن عن أن تعيب عليها ذلك الذي تراها فيه من الوحشة وإظهار الأسى، وتحكي لها حكايات من زوجهن أبوهن وهن لا يعلمن من أمر ذلك بشيء، وكيف أصبحن من بعد زواجهن سعيدات، وأن الأب ليس إلا باحثا عن خير ولده موفقا بما عنده من المعرفة إلى ما يبغي! •••
مضى شهر من الزمان، وجاء خليل وحسن والمأذون وأصحابهم. وجلسوا جميعا بين تحيات أبي محمد وإكراماته. كذلك كان عند زينب وأمها جارات من أصحابهن جئن يشاركن العائلة في سرورها. وهل بعد كل هاته الضجة القائمة يبقى لزينب من كلام؟ لذلك لم تجب بكلمة ما حين جاء القوم يطلبون توكيلها أباها في عقد زواجها، بل بقيت صامتة لا تنطق بكلمة ولا تنبس بحرف ... ثم كان أن أخذتها نفسها فلم تقدر أن تمنع دموعها التي سالت على خدها.. واستبطأ الأب رسوله فنادى به واحد ممن حوله، ولما علموا أنها تبكي قال المأذون، وهو يهز رأسه وعمامته الكبيرة: حيث إنها دموع باردة فهي دموع الفرح!
ثم بالصيغة التي يحفظها عن ظهر قلبه، والدعوات التي يتلوها في مثل موقفه، وضع يد العروس في يد وكيل عرسه واستتلاهما من بعده الكلمات التي تزوج .
وفي مساء الغد انتقلت زينب من دار أبيها، وأصبحت فردا من أفراد عائلة زوجها حسن، بعد أن ذرفت دمعات الوداع للدار التي قضت فيها أيام صباها وآمالها.
الفصل الثاني
1
في العاصمة الكبيرة لمقدم الشتاء..
الشمس ينتظرها النهار لتبدد بقية الظلام وتسمح للناس أن ينالوا من الدفء ما يزيل رعشتهم، والطرق يتسابق فيها الذاهبون إلى عملهم، والمدينة تستيقظ كلها بعد الليل الطويل قضاه الكثير من أحيائها تحت السواد، لا يخفف من وطأته نجم ولا مصباح، ولا يقطع من صمته إلا صوت الخفير يزعق به الوقت بعد الوقت، فيتسلل وسط الأزقة لمن بعده ومن بعده، ويعلن في هاته الظلمات الدامسة الأمن والسلام - في تلك الساعة التي تدخل الحياة فيها مع النور إلى الوجود يستيقظ حامد من نومه الهادئ لا تشوبه أحلام ولا يعتاده إلا السكون. ثم بكل تؤدة يرتدي لباسه ويخرج لعمله غير مفكر فيما سوى ذلك العمل يجد فيه سعيدا به، فإذا جاء الليل قضى سمره مع إخوته يتحدثون في شتى المسائل تأتي تباعا ولا رابطة بينها، يقولونها ويسمعونها من غير تكلف، ويضحكون مسرورين باجتماعهم سعيدين بحياتهم، ثم إذا راح إلى مرقده جاءت إلى رأسه خيالات وأفكار شتى لا صلة تجمعها، وتخيل أمامه في ظلام الليل وجوه معارف يتصور في بعضها من السماحة وفي الأخرى من الجد وفي غيرها من الجمال أو المهابة أو ما تنم عنه من الإخلاص أو الذكاء. ثم بين هذا الجمع الكبير يذهب إلى نوم هادئ هنيء يقضي فيه كل ليلة. وتأتي أحيانا بين هاته الأحلام التي تساوره فكرة الزواج.. وما كان يدري لم وهو في سن لا يسمح لنفسه فيها أن تشتغل بمسألة ما أبعد أوان تحقيقها بعد. لكنه لم يكن يجد وسيلة أخرى يرضي بها قلبه ويستحضر بها إلى رأسه خيالات الحب والسعادة التي تلازم الشباب، كما أنه كان كذلك يصور في السواد الذي أمامه صورة صاحبته التي يحب، ويضم هاته الصورة أحيانا إلى صدره. وما كان ليقدم على ذلك لولا أن قدر فيها الزوجة المستقبلة.
لكن الأيام المملوءة بالعمل الجد، وأحلامه الطويلة للمستقبل، جعلت تقضي على هذه الفكرة رويدا رويدا، وأصبح الوجود الذي كان يتخيله من قبل معطرا بالزهور وبسكرات الحب وجودا هادئا ساكنا ألذ ما فيه العمل والفكر، وانهمك بكله في مطالعات مختلفة بلغت منه وأخذت فؤاده. وصار للأشخاص والأفكار والأماكن التي يعيش بينها مكان من خياله احتل مكان الصور القديمة الأولى، وقرأ فيما قرأ كتبا عن المرأة والزواج بعثت إلى نفسه عقيدة جديدة تخالف وتضاد العقيدة الأولى، فأصبح يرى أيام الزوجية أياما ذابلة لا طعم لها ولا لون، وأن حمقا من الناس أن يقدروا لها أية سعادة أو لذة.
وصار يقلب في رأسه لعله يجد زوجين ممن يعرف أعطتهما الصلة الرسمية من الهناءة ما كانا يريدان من قبل، فلا يجد إلا ما يزيد اعتقاده قوة، ولا يرى في تلك الرابطة إلا قيدا من قيود العادة يضع الناس أنفسهم فيه، لأنهم يرون غيرهم يسبقونهم إليه: آباءهم وأجدادهم ومعاصريهم الأغنياء والفقراء والعلماء والجهال، ويتوارثون هاته العادة، وقد أعطاها طول الزمن من القداسة ما يعطي كل قديم، وأصبح الناس من البله بحيث يظنونها حسنة من الحسنات.
لهذا أصبح ذكر حامد لعزيزة ينقص من يوم ليوم، فإن جاءت إلى حلمه لم يجد إلى جانبها ما يثير حواسه أو يعيد أمامه ساعة ماضية.. لم يجد إلا فضاء يتوه فيه، وحيرة تعتريه، فيداخل نفسه شيء من الهم ولكنه يقنعها بالنسيان ويرضيها بلا شيء. وإن ذكر زينب ذكر معها تلك الخلوات اللذيذة وسط الطبيعة العظيمة تحيطهما بشجرها وغدرانها، ويسعدهما الطير بنغماته العاشقة كلها الغرام والصبابة تصل ما بينهما وتزيد معنى حياتهما. •••
رجع حامد من عمله يوما، وترك ملابسه ولبس جلابية بيضاء وطاقية بيضاء كذلك، فتلك عادته ما دام في الدار وبينما هو جالس يفكر ويشرب قهوة جاءه بها خادمه إذا جماعة من إخوانه يدخلون وكلهم يضحكون مرة واحدة.. وفي نفس واحد قالوا معا: السلام عليكم. - عليكم السلام.. خيرا.. جرى إيه.. يا ولد اعمل كمان قهوة. - تعرف احنا تقابلنا احنا الأربعة بالمصادفة.. فقلنا والله لازم نشوف حامد نضايقه شوية. يا أخي انت الأيام دي فيلسوف. تحب تفضل وحدك. لا تشوف حد ولا حد يشوفك.. على إيه ده كله.. اسمع.. مدرتش.. أسعد أفندي حايجوز بكره.. تجي معانا الفرح؟ - حايجوز بكره؟ ليه؟ مسكين! - نعم.. اتفلسف يا سيدي.. ليه؟. والله يا بخته.
ولم تك إلا لحظة حتى دخل الولد بصينية القهوة عليها خمسة فناجين فأخذ كل من الأصحاب فنجانا، وأخرج علي أفندي سيجارة من جيبه وأشعلها، فطلب الشيخ خليل أن يدخن هو الآخر، فلم يكد علي أفندي يمد إليه يده بصندوق السجاير حتى اختطفه منه حسنين وقال: أعوذ بالله! المشايخ دول طول عمرهم شحاتين.. يا شيخ خليل انت مالك ومال الدخان؟.. روح اتنشق!
فهاجت هذه الكلمة الشيخ الذي أخذ يدافع عن النشوق بكل قواه، وأطلق لبلاغته العنان، فلم يترك تشبيها يصح أن يشبه به هذا المسحوق الأسود حتى جاء به، ولا مجازا ولا استعارة ولا كناية حتى استعملها.. وليبرهن لهم بعمله على صدق قوله ضرب بيده في جيبه وأخرج علبة صغيرة سوداء دق على غطائها بسبابته ثلاثا، ثم فتحها بتؤدة وسكينة، وأخذ قليلا بين أصبعيه، ثم أمال رأسه قليلا، وبوسطى أصابعه أقفل إحدى طاقتي أنفه واستنشق بالأخرى، فشد النشوق إلى خياشيمه. وبعد أن أعطى الطاقة الثانية حظها رد العلبة إلى مكمنها، ثم استخرج منديلا أزرق أمسكه بين يديه وأعده ليستعمله عند الحاجة إليه.
ولقد كان حامد ساكتا تلك المدة ملقيا ببصره للأرض، فلما أحس بالسكينة ترجع إلى القوم، لم يستطع إلا تكرار تلك الفكرة التي ملأت رأسه: إذن سيتزوج صديقنا أسعد غدا.. مسكين..
فقاطعه علي أفندي قائلا: وأي سبب يجعلك تعده مسكينا؟
وتنحنح الشيخ خليل ثم قال: قال عليه الصلاة والسلام: «تناكحوا تناسلوا فإني مباه بكم الأمم يوم القيامة»..
هنالك كأنما أطلق حامد من عقال. قال: لماذا يتزوج الناس؟ لأنهم يبتغون السعادة في الزواج.. يجدون حياة الوحدة ثقيلة على نفوسهم، فيريدون أن يستبدلوا بها حياة أخرى، ويظنون أن حياتهم الجديدة ستكون خيرا لهم . فإذا مضت الأيام الأولى حين يكونون تحت تأثير الوهم، وتجلت حقيقة ما صنعوا ندموا ولات ساعة مندم.
لقد فتشت فلم أجد فيمن أعرف من نال من الزواج ما كان يحلم به من سعادة. وكل ما يعمل الشريكان إهباط السعداء من ملكوت سعادتهم إلى شقاء لا محيص منه.. لو رأيت الأبناء وهم يعانون أنواع الآلام من يوم يولدون أفلا ترحمهم وتنعي مولدهم؟! ثم هم ليسوا بعد ذلك أقل شقاء.. يخبرنا آباؤنا والمسنون أن أيامنا خير الأيام، وأن الشباب ربيع الحياة. فإذا كنت أنا في ربيع الحياة، وفي عيشي من المرارة ما أقاسي، فبالله كم أكون تعسا في أيامي المقبلة؟ وإذا كان يأتي على الشباب ساعات يتمنى فيها الفناء أفلا تكون أيام الكبير ولياليه مملوءة كلها بهاته الأمنية؟ أم هم يقولون لنا هذا لنعترف لهم بالشجاعة ونحمدهم عليها؟
قال حامد ذلك بنغمة محزونة تفيض أسى وألما. فكان أسرع الحاضرين إجابة حسنين. قال: يظهر لي يا صديقي أننا نحن الذين أفسدنا على أنفسنا طعم العيش، وقلبنا كل السعادات التي على الأرض شقاء وبؤسا، بل إني لأحسب أنك تستطيع أن تكون سعيدا من أول أيامك إلى آخرها إذا كنت في قوم لهم من الإحساس ويدينون بعادات غير ما يدين به قومنا من التخلي عن الوجود وإهمال كل شيء والنظر إلى ما حولنا بعين جامدة لا تتأثر، وبقلب بارد لا يأخذه الجمال أيا كان إلى الهيام به. نعيش بعيدين عن كل شيء ونخشى كل شيء فننكمش عن اجتلاء ما يحيط بنا وتبقى نفوسنا تتآكل أجزاؤها ويرسم ذلك على وجوهنا البائسة علامات الحزن والشقاء. ثم نحن مع ذلك نرى فيما سوى هذا خروجا إلى دائرة الغي والضلال.
قد أكون معك في أن الزواج عندنا غير منتج سعادة نحلم بها. ولكن لكل على ما أعتقد أن ينزع إلى غير ما يراه قومه متى ثبت عنده أنه على الحق. ولو كان الناس يبقون على سنة من قبلهم، فهل ترى العالم يتقدم خطوة إلى الأمام؟
على أن ذلك لا يمنعني أن أقول لك إني على غير رأيك، وأحسب صحيحا ما يعتقده الناس في الزواج من أنه عماد السعادة، وأحسن ما أنتجت عقولنا لحفظ النوع في أضمن ما نرجو له من الهناءة.
تصور تلك الحال التي تريد أن ترى الناس فيها! تصور أبناء ضعافا لا يعرفون آباءهم، ونساء لا يجدن من يعولهن أيام ضعفهن المطلق وسط مدنيتنا الحاضرة الكثيرة الحاجات والمطالب! تصور كذلك الرجل اللاهث راجعا من عمله يريد عزاء في كلمة صديق أو محب فلا يجد إلا أمثاله المكدودين اللاغبين والنسوة في الجانب الآخر من الجمعية مشغولات بالعمل لعيشهن ولعيش أبنائهن! وإني لأحسبك بعد ذلك قائلا معي أن لا سعادة للرجل من غير امرأة تحبه وتكون إلى جانبه، ولا سعادة لها هي الأخرى إلا في جوار رجل يحبها ويصطفيها.
وإن ما وصلت إليه الإنسانية لا يسمح لها بشيء من ذلك التغير الذي تطلبون.. وموقفها اليوم عمل قرون وقرون. عمل ملايين فائتة من السنين.. ولن تقدروا على إنكار ما لذلك الماضي بصوابه وأغلاطه من الأثر كما لا تقدرون منه على شيء.. وكل ما في يدنا اليوم أن نعمل لتغيير بعض عاداتنا فندخل للصلة بين الرجل والمرأة الهناء الذي ينقصها.
ذلك هو الصحيح وهو الممكن. وكم يجد الناس في العائلة من الهناءة لو عقلوا معناها! وكم تقدم لهم يومئذ من السرور والسعادة مما لا يتصورونه اليوم.. ألأن هذا المعنى مفقود عندنا تظن يا صديقي أن كل عائلة كعائلتنا ظاهرة التخاذل والبؤس..
العيش عندنا شقاء ومرارة، ولكن ذلك لفساد تربيتنا.. هل تحسب الشاب الذي يشغل نفسه بكبير الأمر وهو في السادسة عشرة من عمره إلا عجوزا في العشرين! فإذا ما جاءته زوجة طفلة لا تعرف من الوجود إلا حيطان دارها، لم يكن بينهما عن الصلة إلا ما يقضي به الحديث «تناكحوا تناسلوا».
العائلة العائلة! لو تحقق معناها للمسنا السعادة بأيدينا ورتعنا في سعة منها كل أيامنا.. ولكن وا أسفا فأنى هي؟!
ليحب جماعة الشبان، وليعبدوا من يحبون، ولا يعطوا أنفسهم لتوافه يكبرون أمرها، فالمستقبل الطويل ينتظرهم بأثقال من العمل لا يعرفون في شبابهم مبلغها.. وإنهم من بعد ذلك لواجدون في تلك الأيام المملوءة بالمتاعب والأعمال ما يخففها عنهم وينسيهم ألمها ...
علي أفندي: سيتزوج أسعد أفندي غدا كما تزوج آلاف من قبله وكما ستتزوجان أنتما يوما ما. صورا كما تشاءان الزوجة التي يريد كل منكما! اجعلاها مثال الكمال والجمال! اخلقا منها أمامكما ملكا كريما! هي ستكون امرأة كالأخريات، وستكونان بعد زواجكما لا سعداء ولا أشقياء ... ستكونان ككل الناس.. وإذا قصرتما بعض الشيء من أجنحة خيالات الشباب وعشتما في عالم الواقع رأيتما صحة ما أقول ... عرفت في الزمن الماضي ابنة كانت خادمة في أحد المطاعم في فرنسا.. وبعد شهور غبتها ورجعت لم أجد هذه الخادمة.. فلما سألت عنها قيل لي إنها تزوجت بفتى كان خادما في قهوة.. وماذا كان سبب زواجهما؟ أنهما ضما ما وفر كل واحد منهما، وتمكنا بذلك من فتح دكان كانا يشتغلان فيه مستقلين وبربح أكثر.. وفي أريافنا يتزوج الناس كل يوم لا ليعيشوا سعداء ولكن لتكون مع الرجل امرأة تعينه في حياته وتشاطره متاعبه، ويهون بذلك كل على صاحبه قسما من هذه المتاعب.. ومن الخطأ أن تعتقدا أن أهل الطبقات الأخرى ينالون من الزواج أكثر من هذا.. وإذا شاءت المصادفة مرة أن أحدهم أحب زوجته وأحبته وعاشا بذلك في النعم فهذا استثناء وقل أن يدوم..
في تلك الساعة، وقد ابتدأ الليل يدخل من حيث كانت تدخل الشمس، والغرفة يهجرها الضوء قليلا قليلا، والمآذن يكسوها الضباب قد ارتقى جوفها المؤذنون، ثم في لحظات ارتفع صوتهم يقطع الصمت والسكون، رفع حامد حاجبيه وبنغمة محزونة هادئة قال: وهل أحلام الحب أكثر تحقيقا من أحلام السعادة في الزواج؟ •••
بعد ذلك الحديث ودع حامد أصدقاءه إلى الباب، ورجع مهموما مثقل الصدر مشتت الخاطر، وجلس يحدق إلى لوحات في غرفته تمثل الأهرام وغيرها من الآثار العتيقة الخالدة تعاقبت عليها الأجيال وهي جديدة أمام عين كل جيل جديد.
بقي محدقا إليها وإن اشتغلت أفكاره بعيدا عنها ، ثم ألقى برأسه فأسنده على يده وراح في نسيان طويل أخرجه منه أن نودي للطعام.
وجاءت ساعة نومه، فتمطى في مضجعه، وذهب خياله إلى أحلام لا حدود لها، وأقفل عينيه يريد النوم، فلم يجد إلى النوم سبيلا، بل فتحهما واسعتين تحدقان وسط الظلمة الحالكة. وطال به الوقت كذلك، فقام ففتح ستار النافذة، فأطل منها وسط حندس الليل الدامس إلى سماء لا نجم فيها تزيد الليل دجنة، وألواح الزجاج الباردة لا تنم عن شيء مما وراءها، فأسند إليها جبينه المحترق، ووقف يفكر ويستعيد أمام نظره ماضيه الطويل.
وسمع في ذلك السكون حركة الهواء تتزايد في الخارج، ثم سقط المطر تدفعه الريح فيسمع على الزجاج صوته المنتظم يهدأ آونة حتى يكاد يكون همسا، ثم تسوقه ريح عاصفة فترتفع نقراته المتوالية.. والظلام حالك دائما.
جعل يسمع كل تلك الحركات الدائرة في الخارج، قطعت عليه أحلامه لحظة، ثم عاوده هاجس من أيام الزمن القديم والسعادة التي قضاها قبل يأسه يسبح منها في بحر لا شاطئ له، وتلك الساعات التي نعم فيها بجوار زينب أو بخيال صاحبته.. ولو تحقق الخيال أفلا يكون أسعد في لقياه بهاته الثانية منه بلقيا تلك العاملة الجميلة، وتكون خلواتهما كلها سرورا وهناء؟ ألا إنهما ليكونان سعيدين كل السعادة.. ولكن هل لذلك من سبيل؟
بقي هكذا يناجي نفسه أمام سواد الليل العظيم يشتمل في دجنته الكون النائم الهادئ، والمطر متتابع لا ينقطع تتسلى به آذان ذلك الساهر في أحلامه، وحوله في الغرف المجاورة كل مرتاح البال ذاهب في نومه. ثم بعد أن أفرغت السماء جعبتها تبين حامد من الزجاج شعاعا ينساب في الظلمة الدامسة.. ثم تقشع السحاب بطيئا بطيئا، وأسفر عن القمر مريضا ناحلا، ظهرت تحت نوره المحيطات القريبة والسطوح يلمع عليها ماء المطر. وعاود السكون كل شيء فلم يعد يسمع صوتا ولا يميز حركة. وكأن ذلك أحدث وحشة في نفس حامد، فانقلب إلى مرقده، وقضى بقية ليله بين أحلام لا تنتهى.
وأصبح وقد نسى ذلك كله، وراح إلى عمله على عادته ، ورجع منه في موعد رجوعه. وهكذا تقلبت الأيام واحدا بعد واحد، والشتاء يتقلص يوما بعد يوم، وساعات النهار بدأت تأخذ بحقها من الليل والجو المعتدل دائما يبعث إلى النفس النشاط والسرور، فحيث تكون ترى وجوها ضاحكة قانعة وحركة كبيرة دائمة. والوجود يتقدم نحو الربيع، فبدأ يزول عنه القطوب، والأشجار الكبيرة تقوم في بعض شوارع العاصمة الهائلة ارتفع فيها ماء الحياة! وتستعد لكسائها الجميل الجديد، وحامد يعاوده الذكر للأيام القديمة أحيانا، ثم ينسى ذلك كله، ولا يبقى له في نفسه من أثر.
ولما تزوجت زينب وبلغه ذلك دعا لها في نجواه بالتوفيق لما تحب وترضى، وأمل لها سعادة تتعزى بها عن الأيام وطولها، عن تلك الحياة المتشابهة، حياة مصبحها كممساها تسيل خرساء عليها أثر العفاء، وإن هي إلا أطلال أيام الشباب المملوءة بالقوة والجمال والحب والخيال والأحلام اللذيذة والولوع بكل شيء والغرام بما يحيط بنا وما يدور حولنا ننتقل منها إلى هدوء وسكون وما يسمونه رزانة وعقلا، ثم يخالط وجودنا في أعماقه شيء من الحزن الساكن، ونستسلم للقضاء، وننظر بعيون «باهتة» إلى الزمان الذي يمر أمامنا نرتب ساعاته حتى يهون علينا قطعها، ونبقى هكذا دائما حتى يأتي اليوم الذي لا تكون الحياة فيه إلا غرفة انتظار ننتقل منها فوق طائر يحملنا على جناحه إلى غيب الفناء.
تذكر حامد تلك الفتاة ونظراتها، وتمنى لها السعادة والهناء.
وجاء الربيع، وضحك الكون، وطال النهار، وازين الشجر، والشمس قويت بعد ضعف الشتاء، وأصبح يدخل إلى كل شيء سرور ينعشه ويجعله باسما بعد القترة التي كانت علته، والزهور يفوح عطرها، ويرسل في الهواء موجات الطيب، ويبعث إلى الصدور تلك الرائحة الزكية التي لا نقدر أمامها دون أن نذهب في سكرات السعادة فرحين بما يحيط بنا، ويلفنا من الحب بعذب نسيمه كل ما تنبت الأرض أو يتحرك في الجو.. وجعل حامد يخرج إلى الضواحي حيث الطبيعة نظمتها يد الإنسان فأعطتها رواء وبهجة حرمتها تلك الوحشة اللذيدة التي توجد في البكر من الأشياء، فيسير إلى جانب النهر الكبير تنقلب موجاته هادئة ساكنة تتبع مع التيار سابقاتها جئن جميعا من هناك، من الأبعاد القاصية النائية نسمع عنها، ثم ينسبن حتى يضعن في المالح العظيم. وإلى جانبه على الشاطئ تمتد الحدائق وأرضها الخضراء وأشجارها اليانعة.
قابل حامد مرة أحد أصدقائه، وبقيا يسيران يتمتعان بعطر هذه الجزيرة البديعة نظمتها يد الظلم أيام الاستبداد، ثم تمتعنا بها نحن حفدة المظلومين. سارا يتحدثان وسحرهما الحديث عن وقتهما. وبقيا كذلك حتى مالت الشمس نحو المغرب، فألهبت زجاج النوافذ المقابلة، وتغطى النهر بلون وردي جميل. ومن الجهة الثانية تبين الشفق يطوق الأفق، والقرص الذهبي وسط ذلك ينحدر مسرعا إلى مغيبه، ئم أضيئت من بعد ذلك الأنوار ترقص على سطح الماء جذلة بهواء تلك الساعة حين تتمخض الطبيعة عن الليل وتهبط من بوادر الظلام لجة عظيمة تتوه فيها المودات ويسري النسيم إلى الصدور وتنتعش به القلوب والنفوس والأرواح، وتحس بالسرور والطرب يداخلها وترتسم على الثغور ابتسامة الرضا والنعيم.
هنالك رجعا على أعقابهما وهما أشد ما يكونان جذلا وقد وقر في نفس حامد أن في جمال الطبيعة ما يسلي عن كل جمال، وإن أذكى الربيع في نفسه غرضها من الوجود مع محبوب تفنى فيه ويفنى فيها.
2
كانت زينب في دار زوجها تقطع من عمر الزمان، تتجاذبها العوامل، وتلعب بنفسها الوجدانات، ويتنازعها الإحساس والواجب. وهي تلتمس بتلك النفس البسيطة العاملة هدى في طريق الحياة الجديدة تتخبط فيه على غير علم. والتمست غير سبيلها الأول فلم تجده أحسن من سابقه ولا ألين ملمسا.
انتقلت من دار أبيها إلى دار زوجها، ووجدت نفسها وسط هاته العائلة التي تخالف الأولى في طبقتها ووجودها ومعيشتها كل المخالفة، وألقيت عليها الأحمال التي كانت تحملها أم حسن، وأصبحت بين عشية وضحاها ربة بيت طويل عريض هي القائمة بالأمر فيه تدبر وترى من شأنه، وأختا زوجها تساعدانها كما كانتا تساعدان أمهما من قبل، وإن أصبحتا تريان في زينب من تعتمدان عليها في كثير ومن تستطيعان إلى جانبها أن تتذوقا من الراحة ما لم يكن يسمح لهما به من قبل.
وأحست بالوحشة لأول يوم حين وجدت نفسها غريبة بين متعارفين، عندهم من العقائد العائلية القديمة والأوهام، ويحفظون من الحوادث والحكايات، ويذكرون جميعا أياما يعدونها ذات أثر أو مبدأ تاريخ، ما يزيد في وجوه الشبه يينهم، ويربطهم معا برباط العائلية. لذلك كان خادمهم أقرب إليهم من العروس الجديدة. فإذا جلسوا يتحادثون اضطرت هي أن تلزم الصمت، وإن تكلمت فبأوجب الواجب، وإن رجعت إلى وحدتها راجعها من آلامها ما يزيد حزنها.
وإذا خلا بها حسن وجعل يخاطبها فيما يخاطب به الشاب الفتاة أو الزوج زوجه وجدت كلامهما ذابلا باهتا. وجدته كلاما مصنوعا يجيء به موقفهما، ولا توحي به القلوب أو تدفع إليه الإحساسات الهائجة التي تريد أن تظهر ولا يمكن حبسها. ولكنها مضطرة أن تجيب على القول بمثله، وترد على كل ما تسأل عنه بما حفظته من الناس.
غير أنها شعرت أن موقفا كهذا لا ينتج إلا الشقاء والبؤس، وأن الواجب أن تنسى الماضي الذي قضته قبل زواجها، وتتعزى عنه بكل ما يحيط بها. يجب أن تحب زوجها وتدعوه بذلك ليحبها ويعيشا في سعادة لا تقل عن سعادتها أيام كانت ترى إبراهيم وتجد فيه رسول الهناء، وإلا فهي باقية بين أيدي الضيق غير بالغة في حياتها سوى الأسى والألم. ومهما بقي في صدرها لإبراهيم من الحب فقد قدرت أن خير ما ينفعها أن تتناساه حتى يجيء يوم يصبح حبهما صداقة لا يأخذها عليهما أحد. •••
وانخرطت في أعمال العائلة الكبيرة وأخذت القسم الأكبر منها على عاتقها. فهي تقوم حين تبدأ السماء يقظتها فتجهز بعض أمرها، ثم تخرج مع أوليات النور والنسيم البليل وبتلك الخطى الهادئة المرتبة تقطع طريقها إلى «الموردة» فتملأ جرتها وترجع لمرة ثانية وثالثة. ويكون ذلك شأنها ما دام الصيف يسعدها بغدرانه المترعة بالماء وسحره البديع وشمسه المنعشة تحبو من مرقدها تطرد الظلام والفجر، فإذا ما انعكست آية الوجود وحكم الشتاء وبرده القارس وليله الطويل وغاض الماء انقلب ترتيبها إلى آخر قد يكون أكثر من الأول راحة وسعادة.
وانقضت شهور من أوائل أيام زواجها نجحت مدتها في تناسي حبها. فلما آن للربيع أن يتنفس عن الصيف، وطال النهار، رجع الفلاح يقضي نهاره بين زروعه عاملا، ويذهب له بالغداء بعض أهله - أمه أو أخته أو زوجه إن لم يكن قد جاء معه به في الصباح - وتجيء معه القيلولة التي يرتاحون فيها تحت ظل وارف الشجر الكبير. وجعلت زينب على عاتقها أن تذهب كل نهار بغداء حسن، وتجلس معه قليلا بعد أن يتناوله، ثم ترجع هي إلى الدار وهو إلى عمله. غير أن النشوة التي داخلت كل الوجود ورفعت من نفس الكائنات والأشخاص ابتدأت تهيج من نفسها السواكن، وتثير لواعج أشواقها. فلما تقدم الربيع وجاء شهر الحب والهيام والجنون: الشهر الذي تلبس فيه كل الموجودات جدد ثيابها الزاهية، وتلمع الشمس على الورق الأخضر، وتبعث من شعاعها إلى القلوب والنفوس والأفئدة ما يخرجها من الجمود والاستكانة التي كانت تغمرها أيام الشتاء، وتقدم الطبيعة ما فيها وما عليها أمام الناظر مما يصبح معه محتاجا إلى الحبيب حاجته إلى الحياة؛ في ذلك الفصل العاشق - لما جاء شهر مايو وزينب تقطع طريقها بين الخضرة والزهو، ونبت القطن كله الحياة النضرة يفتح أوراقه الجديدة ويضم إليه الهواء والنور والشمس والليل والنجوم - لم تستطع هي الأخرى أن تبقي على ذلك العهد القديم، وأن يكون قلبها أصم دون أصوات تناديه طالما أعرض عنها فجاءت له من الربيع بشفيع يرققه ويفتحه لقبولها.
ولكنها جاهدت وجاهدت بكل قواها ضد كل ما يهجس بنفسها، وأرادت أن تقنع من بين الموجودات بحسن. بذلك الذي أعطاه الله إياها وأعطاها إياه، وأقامت حربا عوانا على ما يمكن أن يثنيها عما تريد، وأملت فيها نصرا وفوزا.
وحسن في كل تلك المدة أملك لنفسه زماما يعيش معها كما يعيش كل الأزواج مع زوجاتهم، ويحس لها في نفسه بالميل، وإن لم يخل من الأثرة وحب السلطان عليها مما جاءه بالوراثة عن آبائه وأجداده، وبما أعطاه القانون والشرع من القيام عليها. وإن لم تكن النعومة النسائية وتلك الفطرة الرقيقة التي جبل عليها الجنس الناعم وما يسيل في خلقهن من اللطف مهما تكن تربيتهن لها عليه ما لها على الرجال جميعا من سلطان يستعبدهم أمامها.. وأكثر من هذا فإن حياة الزوجية المتشابهة الفاقدة كل شهية، الناقصة من جميع نواحيها. جعلته جامدا في كل ما بينهما. وتعاقب الأيام يزيد حياتهما تشابها، ويبعث إلى نفسه هدوءا واستكانة، ويدخله إلى دائرة كل أمثاله من بني طائفته، يبيتون مسرورين ما داموا يجدون في زوجاتهم الخادم المطيع لهم، والعامل الدائب في عائلاتهم، ويلقونها - كما يقولون - تحت أرجلهم قائمة بشأن الدار والغيط معا.
وأمه قد وجدت في زينب محقق آمالها التي طالما طوت ونشرت أمام خليل، ومن رفعت عن عاتقها أحمال أعمال ما كان أكثرها مضايقة لها في سنها المتقدمة. وزاد سرورها أن رأت في زوج ابنها ما تريد من طيبة وطاعة، وانتقلت بأمانيها خطوة إلى الأمام، فصارت تقدر لحفدتها وتنتظرهم، وتحلم بذلك اليوم حين تحمل ابن حسن على كتفها وتغني له حتى ينام، كم تجد من السرور أن ترجع مع طفلها إلى الطفولة التي هجرت من زمان، وكم لتلك الكلمة التي تقولها بملء قلبها - هوه - وتمدها وتكررها لتذهب بالصغير البريء إلى عالم الراحة والسكون، كم لها عندها من القيمة وكم تأملها وتتمناها!
وخليل مسرور كل السرور، لأنه رتب حسابه بحيث لا يكون عليه دين مطلقا، ومن غير أن يبيع شيئا من أرض داير البلد، ويعد في نفسه أن قد أتم عملا كبيرا سهل الله له فيه أحسن السبيل.
3
جاء الربيع، وجاء معه بأحلام كثيرة تناوبت نفس زينب، وجعلتها شديدة الإحساس بوحدتها في هذه الحياة الجديدة، حياة الزوجية المتشابهة. فكلما مرت تحت الأشجار اليانعة بأوراقها الزاهية وزهورها الجميلة، وسمعت أغاريد الطير الفرح سمعت دائبا في قلبها صوتا يناديها ويذكرها بماضي أيامها.. لكنها تحس بنفسها اليوم أسيرة خرجت من حريتها الأولى، ولم يبق لها أن تتصرف في قلبها، ولا أن تصرفه عن زوجها. غير أن القلب أعظم من أن تملكه، وهو حر بالرغم منا يعطي نفسه لمن يشاء، ثم يتركها لذلك الموهوب ولا يرجع مهما ناديناه ومهما تضرعنا له. وأخيرا نرضى بعجزنا ونقنع بالحياة التي أراد لنا، وتجيئنا مع هذا الرضا سعادة عظمى نمرح منها في جو عظيم.
وكادت زينب تصل إلى هذا الموقف أمام نفسها، وترجع باحثة عن إبراهيم الذي كان يبحث عنها فتفر منه، ترجع إليه فترمي بنفسها بين ذراعيه، ويرجعان معا إلى السعادة التي كانا فيها قبل زواجها. وما دمنا نصل من الحياة إلى السعادة فمن الجنون أن نبقى حيث نحن خيفة اعتقاد قديم أو عادة عامة. إذ ما دامت السعادة أقصى ما يأمل الفرد في الحياة، وما دام قد وصل إليها، وما دام هو الذي يتمتع ببقائها ويتألم إن حرم منها - وغيره ليس له شيء من ذلك كله - فما أجدره بأن يحتفظ بكل ذرة من الهناءة يصل إليها برغم أنف أي إنسان!
هذا ما يملي به العقل الأناني الأثر. لكننا أكثر الأحيان ترانا مضطرين إلى ألا نسمع لقوله. وبالرغم منا يتسرب كلام الناس إلى نفوسنا فيفسد علينا سعادتنا ويقلبها شقاء، ويضطرنا لترك أسبابها.
خشيت زينب ذلك، وجعلت تتقلب في نفسها إحساسات مضطربة تهزها.. هل تذهب لإبراهيم تحت جناح الخفاء فتستسمحه عما سبق من هجرها إياه؟.. نعم نعم. يجب أن تفعل. لم يبق على ما تحملت من الشقاء صبر.. لكن كيف يمكن أن تفكر في هذا وفيه من الغدر بزوجها ونكث ما تحمل له من العهد وهي زوجة، وتلك الخطوة التي دخلت بها داره على هذا الاعتقاد وضعت في عنقها من الواجبات ما إن حاولت التخلص منه حاولت القضاء على شرفها وعرضها. وما كانت لتقدم على احتمال فظاعة ذلك الجرم وتميت من ضميرها كل حياة، وتقضي فيه على كل إحساس! .. ألا ما أقسى أباها! سلك بها ذلك المسلك الخشن واضطرها لموقفها الحاضر تكاد تصعق دونه!.. وهل لمكره كلمة أو عليه واجب أو حملت ذمته عهدا؟! فإذا كانت قد جاءت لحسن كرها فهي بريئة من كل عهد، ولا بأس في خلوتها بإبراهيم تضم صدرها لصدره يقبلها وتقبله، وتدخل إلى حياتها التعسة لحظات هناءة تسترقها خفية من الأيام التي ترقبها. وليت شعري إذا كنا نقضي كل أيامنا تحت حكم الزمان القاهر وظلمه وحمقه، ونحسب لكل دقيقة أكبر الحساب، ونؤنب نفوسنا ونقرعها لغير سبب، فهل للحياة مع ذلك من طعم؟ وهل تستحق أن تعاش!؟
في تلك الساعة التي تجتمع فيها بصاحبها القديم وتبثه كامن أشواقها وتحكي له عناءها الطويل الذي قاست من يوم زواجها كم يكون تأثرهما؟ وهل يغيب صوابهما ويفقدان رشدهما متعانقين ويضيعان معا في عالم كبير بين السعادة الحاضرة وذكرى ألم الهجران؟!.. .. ولكن هاته العين الكبيرة التي ترقبهما من السماء أهي مباركة لهما في هنائهما أو ساخطة إن خانا عقدة كانت فيها يد الله، غاضبة عليهما منتظرة بهما تلك الأيام القصيرة على الأرض لتحاسبهما يوم تجزى كل نفس بما كسبت؟ هاته العين المحيطة بالوجود لا تخفى عليها خافية، ولا تغفل عما في السماوات وما في الأرضين، أتراها ساهية عنهما، تاركة لهما العنان يمرحان في حين صاحب زينب يجد ليطعم نفسه ويطعمها عاملا لسعادتهما معا؟ .. ولكن هذا الإله العادل الرحيم يعلم شقاءها الذي احتل نفسها، ولم يبق لها من أثر السعادة التي كانت ترجو في الزواج. هو العليم بماضي أحلامها وآمالها، فإذا كانت الأيام قد خيبت ظنونها وقضت على تلك الخيالات التي كانت تملأ رأسها، فهل تلقى جزاء ذلك؟!
وهكذا بقي قلبها الرقيق يتقلب مع إحساساتها المتخالفة؛ فطورا يبحث عن السعادة يبتغيها في قلب آخر عزيز عنده محبب إليه يكن لزينب من الهوى مقدار ما تكن له، ويحوي من نار الوجد ما يقيمه ويقعده، وتارة يدخل عالم الاعتقاد والتسليم حيث رسم القدر خطة الحياة للناس إلى لا نهايات الزمان البعيدة - إلى ذلك الوقت الذي لا نكيفه حين يصبح كل شيء كأول خلقه. وأخيرا رأت أن الحياة الكالحة التي تعيش اليوم غير ممكنة الاحتمال، ورأت سوء ما عملت حين صمت أذنها دون كل نداء من إبراهيم. ومرت أيام وهذا الرأي يقوى في نفسها حتى كان يوم السوق، وقد خرجت كعادتها مع أخت زوجها، ورأت إبراهيم هناك يشتري بعض ما يلزمه، ففاتحته التحية، وسلمت عليه بيدها. فلما أعطاها يده ضغطتها حتى علته الدهشة من هذا السلوك الذي لم يكن منتظرا ... لم تمد يدها تسلم عليه؟ ليست هذه عادتها معه ولا هي عادتها مع أحد. ولم تضغط يده؟
هنالك نظر لها يريد أن يسترحمها، فأجابته بنظرة نمت عن كل أحلامها وما دار في الأيام الأخيرة في نفسها.
رجع إبراهيم معهما، وجعل يكلمهما طول الطريق بحديث معتاد مبتذل، ويحكي لهما أقاصيص لا يعجز عن أن يدخل بينها ما يفهم به زينب مقدار شوقه لها والانفراد بها. وزينب تحدق إليه أحيانا كأنها تريد أن تلتهمه بعيونها تارة، وتصعد الزفرات أخرى كأنما تتحسر على حاضر حياتها وتجيبه بكلمات تنم عن عميق ألمها وشديد تعسها.
وأخت زوجها لا تفهم شيئا من كل ما يفهمانه.
وقطعوا القسم الأكبر من الطريق، ثم مروا بمزرعة من مزارع السيد محمود، هنالك قال إبراهيم: وبكره نشتغل هنا..
واستمر الثلاثة في طريقهم، وأخذوا بأهداب الحديث، والمتحابان يتذاكران خلسة ماضي حياتهما، ويتمنيان خلسة كذلك وقتا آخر مثله. فلما اقتربوا من البلد افترقوا، واتخذ إبراهيم طريقه لداره وهو أسعد ما يكون يهنئ نفسه برجوع زينب إليه، وينتظر أن يراها غدا عند هاته المزرعة التي سيشتغل فيها، وتكون وحدها، ويبثها شوقه، ويرجع لها وترجع له بالرغم من حسن الذي خان صداقته.
أما هي فرجعت إلى الدار حيرى تنظر لكل ما حولها ولا تدري أي لون يتخذ أمام عينها. أهو ذلك اللون الضاحك البديع الذي عرفت أيام أحلامها الأولى حين كان الوجود يعشقها وكانت تعشق الوجود؟ أم أنه اللون الكالح الذي أقذى عيونها أيام آلامها؟ ولم يحل لها من بعد أن تبقى مع أهلها تحدثهم عما رأت في السوق وما عملت، بل فضلت أن تنفرد في غرفتها علها تجد في الوحدة ملجأ من حيرتها. لكن الوحدة في أغلب الأحيان تزيدنا حيرة وتبعث إلى نفوسنا قلقا ووجلا. لذلك لم يكد يجيء العصر حتى نزلت تفتش عن جرتها لتتخذها حجة تخرج بها لتذهب فتفتش عن إبراهيم حيث يكون، ولتستعيد معه سعادة حرمتها من قبل على نفسها، ثم أذكى الربيع نارها في صدرها ودفعها إلى طلبها من جديد. .. نعم، تجده وتعطيه نفسها، وتذوق وإياه تلك اللذة التي ذاقت من قبل. ولذة الهوى والاستسلام للمحب ما أحلاها! .. نعم، زينب ما أحلاها لخلي لا زوج له. لمن يملك بيده كل نفسه يعطيها لمن يشاء. ولا جنة تحوي اللذة التي يحويها الحب والاستسلام للمحب. ولكنها خيانة وغدر من زوجة يثق بها زوجها.
نزلت وهذه الأفكار تردد نفسها في صدرها. ومرت بالجامع يعمره مصلو العصر، ثم بوسط البلد، ثم اختطت بعد ذلك سكة الترعة قد ابتدأ يعمرها النساء كما زادها حركة الراجعون من السوق فرادى وجماعات من بلدها ومن البلاد المجاورة، وهم ما بين شاب من شبان الفلاحين فارغ اليد، وآخر محمل حماره من عزاله ولوازم غيطه، وثالث من تجار السوق وقد وضع خرجه فوق بغله وأمسك عمود الخيمة بيده واعتلى الدابة وحملها.. وقلائل من النساء اضطرهن كساد سلعهن للبقاء طويلا حتى يبعنها، وملأت زينب أدوارها والوقت لا يزال نيرا، ثم رجعت إلى الدار ولم تتم شيئا مما دار بأحلامها، وبدأت ترتب للعشاء وتنتظر مجيء خليل من الجامع، وحسن من الغيط حيث كان ينكش مع «التملي».
أما خليل فلم يبطئ في رجوعه إذ ما لبث الإمام أن سلم حتى قام إلى باب الجامع وارتكن قليلا ليرتاح ثم خرج ولا يزال الضوء بين الأثر، والأشجار تلعب الريح بأوراقها لم يجلل رأسها السواد بعد، والآفاق البعيدة كأنما تموج بسكان الأرض، والسماء قد تدثرت بغطاء الليل النازل وإن لم تخف عن النظر في تلك البقية من رسم النهار اختط العجوز طريقه جادا في التسبيح حتى لقي صاحبا من أمثاله عجنوا الدهر وخبزوه، والآخر آت من الغيط يريد أن يقضي ركعات المغرب في المسجد قبل عشائه. لم يستطع الرفيقان إطالة الكلام في أمر الدودة وما يسمعانه من ظهور آثارها في بلاد المركز، والاستعاذة بالله من شرها وأذاها، لذلك كان خليل في داره قبل عادته، وحسن قد وجد ساعة غطست الشمس، أنه لم يبق أمامه إلا ستة خطوط فلم يرض أن يتركها ليرجع مرة أخرى في الغد، وبالرغم من ضجر «التملي» معه لم يستطع هذا الأخير أن يترك صاحبه وحده، فاضطر للجد معه حتى انتهيا منها وآية الليل تكاد تكون محت كل أثر للنهار. فلما فرغا أدلجا ما بين المزارع السوداء التي تنتظر القمر المختبئ وراء الستار لم يجيء دوره بعد، وقد سبقته النجوم واحدا بعد الآخر يأخذ كل مكانه، وهما يتحدثان بصوت خافت وقد ذكراهما الآخران ما سمعا عن أخبار الدودة، وجعلا يأسفان على من أصابتهم بشرها. فقال حسن: ومتى انتشرت لا تنفع فيها نقاوة ولا شيء أبدا. كل يوم يزيد عن يوم. إياك يا شيخ ربنا يبعث يومين حر يهلكوها ويريحوا الناس من أذيتها.
وبعبارات تشف عن الألم لما يصيب الناس من هاته الآفة اللعينة جعل يذكر مع صاحبه أضرارها ورذائلها. وقطعا الطريق الطويل في هذا الكلام وأمثاله، والليل قد انتشر على الأرض، والسكة ساكتة لا حركة عليها تأخذ راحتها بعد ما حملت ساعة المغرب من الراجعين لدورهم أناسا ودواب وأشياء يحملها هؤلاء وأولئك، والهواء الجميل ينعش صدريهما ويتمتعان بلذته ورقته. فلما وصلا كانا أقرب للعشاء منهما إلى المغرب، وخليل جالس ينتظرهما تائها في أفكاره، قد غاب عن الوقت المسرع في مسيره. فسلما عليه وقصا عليه سبب تأخرهما، ونادوا بالطعام فجيء لهم به، فأكلوا جميعا طعامهم البسيط، ثم أخذوا من بعده بعض ما اشترته زينب من السوق من الفاكهة، فلما فرغوا منه سأل حسن زوجه عما قضت فيه نهارها، فسكتت مبهوتة لهذا السؤال على غير العادة ثم أجابت: أهو زي كل سوق..!
حقا ذلك شيء يستدعي الدهشة والاستغراب! أي جديد يمكن أن يعلم هو بحصوله حتى يسألها اليوم عما لم يسألها عنه من قبل؟ وهل تغير على الأرض من أمر أو حدث من حادث؟ أو أنه يعلم خافية الأنفس واطلع على الغيب فعرف ما دار بينها وبين إبراهم؟ وماذا دار بينهما؟ إن هو إلا بعض معروف القول مما تخاطب به أي إنسان تقابله! وهل حسن يعلم ما في نفسها؟ وإن كان يعلم فلم غدر بإبراهيم في طلب يدها والسعي لزواجها؟ هل تلك عهود الإخوان وما يجمل أن يكون بينهم من الرابطة؟ أما كان الأجمل به أن يسعى جهده في ضمها لإبراهيم حتى تذوق شيئا من السعادة إن كان في الحياة سعادة!
ذلك السؤال لم يقصد حسن به شيئا إلا استفهاما عاديا لا يهمه بم أجيب عليه، حل من نفس زوجه مكانا وأعطته من الأهمية ما لم يقصد هو أقلها. لذلك لم يعبأ بتلك الدهشة التي أجابت بها، وكل ما ظنه أنها متهيجة الأعصاب لبعض أمر المنزل، أو لتأخره في رجوعه، أو سوى ذلك مما لا يقلقه ولا يستدعي منه التفاتا، وجعل يتكلم في أشياء أخرى، ثم يرتب مع تمليهم ما سيعملانه في الغد بعد أن انتهيا من سقية القطن ونكش الجانب الذي لم يشرب منه.
غريب أمر هذا الوجود المملوء بالأسرار والخفايا لا نطلع منه على قليل، ولا نعرف من مكنونه يسيرا، ومع ذلك نحسب أنا نلم بكل ما يدور فيه، ونعتقد أن قد أوتينا من العلم حتى نرى ما يجول بالخواطر ويجيش بالصدور. وبرغم إقرارنا كل يوم بعجزنا أمام خفاياه فلا يمنعنا ذلك من تقدير ظهورها واضحة أمامنا، فنبني على هذا الظن النتائج ونرتب الأعمال ونشكل المستقبل بما يهدينا له حدسنا، فإن أخطأ ما حسبنا قلنا من جديد إن الغيب لا يدلنا عليه، وإن أسعدتنا المصادفة وأصبنا كما تفعل كثيرا مع حسني البخت قلنا هذا عليم بذات الصدور.. ذلك شأن زينب.. حسبت في سكوت حسن بعد جوابها المقتضب وتحويله الكلام إلى شيء آخر دليلا على علمه بكل شيء واطلاعه على ما جل ودق من أجزاء نفسها، وأنه لم يبق إلا مداراته والسلوك معه سلوك السائر في قفر خطر يعمل لكل خطوة تقديرا أن تقع به في مهلكة. وتحول ظنها يقينا في قليل من الزمان، وآمنت أن كل ما تراه حق، وأن غير ما رسمت لنفسها من السبيل مؤد لا محالة إلى ما لا تحمد ولا تحب.
وأمسى الليل وجاءت ساعة النوم، واختلى بها حسن في غرفتهما، فجعل يحادثها ويضاحكها، فلا ترد عليه إلا بكلمات معدودة. وفاتت مدة على هذا والمصباح في الركن يضيء المكان بنور قليل تتميز فيه الأشياء والأشخاص، وتترك وراءها خيالات متعددة، وفي الركن الثاني السحارة محملة بهدومها تجعل ركنها دائم الظلمة إن بالليل أو في النهار، فلما فرغ صبره من سكونها وما عليها من علامات الجد. قال: انت يا بت مبوزه كده ليه؟
وارتمى عليها بكله، وجرها نحوه، ووضع رأسها على ركبته، ومال يقبلها! وجعل يدللها ويلاطفها، ثم أجلسها إلى جانبه، وضمها إليه، وهي في كل ذلك مستسلمة أعطته زمامها مطيعة كل حركاته لا تعارضه في كل شيء ولا تتمنع عليه، فإن هو تركها لنفسها رجعت لذلك السكون الذي كانت فيه، وبقيت في ذلك التبلد الذي ينتابنا حين نفقد الثقة بذي سلطان علينا. فانقلب حاله هو الآخر مرة واحدة وعلاه دهش واستغراب مما قد أصابها.
مرت الأيام مسرعة بعد ذلك وكلها تحمل لزينب في طياتها آلاما ومخاوف شتى، وهي لا تنتظر في الغد إلا وجها كاشرا عبوسا، زوجها خارج إلى عمله من غير تحية يلقي بها إليها، وأخواته يسرن معها فتحس كأنهن يردن استراق قلبها وما يدب في صدرها، وأمه تكلفها بشيء فتظن أنها إنما فعلت ذلك لإرهاقها، وخليل الرجل الطيب يرجع من الجامع ينادي لطعامه ثم يعاود النداء إن أبطأ فتحسب في ذلك إيلاما لها وتنغيصا لعيشتها. وهكذا صارت ترى في كل موجود أنه عدوها الدائب للانتقام منها.
والأيام غريبة الشأن تضيف للمصاب آلاما على آلامه، ولا تدع له يوما من غير أن تزيد في اعتقاده بنحس طالعه.
نسيت زينب من جراء أساها ما كان يعاودها من حب مقابلة إبراهيم، ولم يبق لها إلا أن تفكر في ذلك البلاء المحيط بها وترمي به السماء على رأسها من الويل، وجعلها ذلك أشد حيرة في أمرها، وداخلها من الحزن العميق ما رسم على جبينها سيما اليأس، وصارت تذهب في أحلام سوداء الساعات الطوال، لا تحس بما يحيط بها، ولا تنتبه إلى شيء من أمرها. فلما كان في بعض الأيام وقد استيقظت مع الفجر لترى أمر بيتها، وأخذت جرتها إلى الموردة وظلمة السماء لم «تبهت» إلا قليلا، وتسللت إلى طريقها وحيدة لم تمس السكة قبلها قدم، وسارت بين المزارع لا تزال نائمة نحت غطاء من الطل والسواد الذي يغادرها رويدا رويدا كلما تقدمت هي إلى غايتها، ووصلت إلى الترعة المترعة بالماء أيام البطالة يتقلب بعضه فوق بعض، ويحرك منه النسيم موجات صغيرة أحيانا، والشجر الكبير قائم على بريها تنسرق الظلمة من بين أوراقه لتترك مكانها النور الوليد، هنالك غسلت الآنية التي معها، ثم ملأتها وأوقفتها على الشط، وارتكنت على الشجرة تنتظر أول قادم لتسأله أن يعين عليها. ولم تمكث طويلا حتى مر سار أهدى تحيته وهو مسرع، ثم آخر عليه علامات الاستعجال نادى هو الآخر صباح الخير، وثالث عدى القنطرة وعليه «بشته» لم يقل شيئا. ولكن أين هي تلك المدة لتنادي بواحد منهم؟ أو هي غلبها النعاس فلم توقظها تحيات السارحين؟ أم كسلانة تريد أن تبقى مكانها حتى حين؟ لا هذا ولا ذاك، ولكنها سارحة في لجة بعيدة القرار، راحلة عن هذا الكون إلى كون ثان تلتمس فيه ماضيها القريب مجسما ومضافا إليه ما تحمل روحها الساذجة من الويلات والأهوال.
صلى حسن الفجر وخرج قاصدا عمله، فمر بها وهي في ذلك الذهول، فسألها ماذا تنتظر؟ ثم أعانها بعد أن علم أنها غير منتظرة شيئا، ورجعت إلى الدار والأشياء قد بدأت تتميز، والسكة يعمرها السارحون والرائحات للملية. والنهار يطارد الليل العنيد لا يفيده عناده تلك الساعة شيئا فيطرده ويأخذ مكانه رويدا رويدا: ثم رجعت لدورها الثاني وقد «بهت» الشرق مبشرا بإلاهة النار والنور باعثا على مجاورات الأفق قبلة الصباح. وكلما تقدمت هي في خطواتها استضاءت السماء، ثم بزغ القرص في لونه الأرجواني الذي ودع به البسيطة في أمسه الدابر متهاديا يتسلق العرش العظيم ويرسل على المزارع الهائلة التي تحيط به من كل صوب جلبابا جديدا يظهر فيه بهاؤها ورونقها، فغيطان القطن تزهو بخضرتها وزهرها الذي ينضد بساطها السندسي الهائل، وأراضي الغلة في لونها الذهبي البديع اللامع تجعل في الفضاء دفقات النور تزداد سطوعا كلما ارتقت الشمس في دارتها، والحصيد بشقوقه الواسعة مبهوت أن يرى نفسه أجرد بعد أن كان بالأمس موطن النبات الجميل، وانتظم على الطريق سلك طويل من الأشباح السوداء تعلوها مخروطات الفخار وهن جميعا يسرعن وعليهن سيما الهدوء والسكينة وجسومهن المصقولة تنساب في جو الصبح الهادئ الذي يموج فيه النسيم، فيبعث إلى رؤوسهن النائمة عالما كبيرا من خيالات لا تنتهي. فإذا وصلن إلى الموردة غسلن جراتهن فملأنها ثم نزلن بعد ذلك ليغسلن أرجلهن، فيكشفن عن سيقان قوية بديعة يخالط لونها الأسمر شيء من التورد وهي ملساء ناعمة.. وهن في حركاتهن وحديثهن ومذاكراتهن أخبار الليل والأمس أقرب إلى الكسالى الراتعات في سعة سعادتهن، منهن العاملات الفقيرات. وهل على تلك الأرض الغنية الكريمة، أرض مصر، من فقيرة يؤلمها فقرها؟
وهكذا كانت زينب كل صباح تستعيد أمام ذاكرتها كل الحوادث التي انتابتها أخيرا فتتألم ويزيدها كل ما حولها ألما.
ثم بدت علامات ذلك كله عليها، ونم وجهها عما يداخل نفسها، وأصبحت تلك الزهرة التي كانت تجلوها تذبل قليلا قليلا، وثغرها الباسم يخبر بابتسامته عن الاستهزاء بالحياة، وتنظر من تحت جفونها الناعسة نظرة المفجوع إلى الناس والأشياء، وجبينها ذاهل مستغرق في أحلامه.
فلما رأى حسن ذلك منها عرته الحيرة واشتد به الألم.
زوجان يقطعان معا طريق الحياة المخوف، أحدهما تتقاذفه الأنواء وتلعب به الريح ويعاوده اليأس والأمل، والآخر متعلق به محس معه مشرد البال والخاطر لكل ما يصيبه.
هل في طوق ذلك العامل الذي ظل سعيدا مع زينب من يوم زواجه أن يأخذها معه في دار السعادة، ويقضيا أياما لذيذة ممتعين مما في العيش من مسرات؟ هل يستطيع أن يروح معها إلى حيث لا نشعر بمر الأيام ولا ننظر للوقت إلا مبهوتين لسرعة مسيره ونغيب بروحنا وبجسمنا عن العالم وضجته وجلبته؟
كلا، إنه لا يقدر! هي التي نقلته معها مما كان يتخيل نفسه فيه من السرور إلى حزن مستسلم لا يعرف قراره، وجاءت به معها في عالم المخاوف والآلام ...
كان بالأمس يوم السوق مرة أخرى: يوم فرح، كل ينادي فيه بملء صوته ويتغنى في ندائه، وآخرون يسيرون وعليهم علامات الرضا أن أحسوا في جيوبهم ببعض القروش، والسماء ترد النور فتملأ به الجو يرن بضجة هؤلاء الناس، والشمس تبعث بأشعتها على الشجر وتسطع على الأرض الحارة التي يمشي فوقها الفلاحون بأقدام ثابتة لا تعرف كيف تتململ.
وكان هناك إبراهيم. ورأته زينب. فلما رجعت عاودتها حيرة. ماذا تعمل؟ هل بقي للعهد الذي بينها وبين حسن من قيمة بعد الذي قدموه لها؟ ثم إن كان زوجها يظن بها السوء لشيء ولغير شيء فأي تغيير على الأرض أو في السماء يحصل إن هي ألقت بنفسها بين يدي إبراهيم فخففت همها؟!.. هي إنما امتنعت من قبل لإرضاء حسن، فإذا كان هو لا يرضى بشكل ما، فما الذي يمنعها من استعادة الماضي اللذيذ القديم؟ ... واليوم ساعة المساء رجع حسن بعد المغرب من عمله وتناول عشاءه، ثم خرج مرة أخرى وعاد فإذا هي في الغرفة جالسة وحدها تنظر من المنور إلى السماء ترقب فيها النجوم لا قمر بينها، وعيونها تائهة لا تحقق شيئا مما أمامها، وظلمة الغرفة يخفف منها قليلا المصباح قد وضعته بعيدا عنها، ولم تبق من نوره، إلا أثرا، فجلس هو إلى جانبها وأمسك يدها بين يديه.. ثم سألها: - إنتي مالك يا زينب؟
سألها سؤال صديق يتألم لما فيه صديقه من الأسى، وكلماته الملجلجة قد خرجت من أعماق قلبه تدل على مبلغ تأثره.
أما هي فبقيت لا تتحرك، وكأنها لم تحس بدخوله. بقيت تبعث بنظرة حيرى إلى الليل أمامها وإلى النجوم اللامعة البعيدة، وتقدر للغد الذي سترى فيه إبراهيم. - انت مالك يا زينب؟.. بس قولي لي يا أختي مالك.. أمي كلمتك.. حد زعلك.. عشان إيه امال مضايقه ومحمله روحك هم الدنيا والآخرة.. إنت عايزة حاجة.. والا تكوني زعلانه مني أنا، إن كان كده يبقى الحق عليه ميت نوبة ... يا زينب! بقول إنت مش زي النسوان.. بدنا نرجع نزعل من مفيش.. مش عيب.. إن كان حد كلمك.. أمي، أخواتي.. أنا.. أي حد، يبقى الحق عليه ومعلهش..
ثم أخذ يدها وقبلها مرتين، واستمر يحدثها مسترضيا وكله عطف واسترحام، وفي لهجته تلك الرقة التي تأخذ بنفوسنا وتخضع أمامها القلوب القاسية، وهو يظهر ما يكنه لها في نفسه من الميل لها والثقة بها.
إنه من يوم تزوجها سعيد راض يعتقد أنه حاز الدرة الغالية من بنات البلد، وضم إليه الجمال والرزانة والجد والأمانة.. وما كانت إلا لتزيده اغتباطا بحسن حظه، فماذا جد حتى يكدر عليه صفوه ويقلق باله؟
ليت شعري أي حادث على الزمان يكون ذلك الذي غير نفس زينب وقلبها! ألم يعاهد هو نفسه من يوم بنى بها أن يكون لها محبا وبها واثقا؟ أولم يحفظ ذلك العهد كأوفى ما تحفظ العهود؟ ثم ألم يكن بينهما ذلك الاحترام المتبادل بين شخصين يحترم كل منهما ذاته؟ فما أصل غضبها..
فجلس إلى جانبها وأمسك يدها بين يديه.. ثم سألها: أنت مالك يا زينب؟
وزينب قد ترقرقت في عينيها دمعة تريد أن تنحدر فتمنعها إباء وعزة، وقلبها داخله حزن قاس، ذلك الحزن الذي يعاودنا حين نحس في لحظة واحدة بآلام شتى وبالأسف على جريمة وقعنا فيها ولا نقدر على التكفير عنها.. وزاد في صدرها على حزنه القديم أسى جديد جاء به اعتراف قلبها بما قارفت أمام زوج هذا مبلغ حبه لها وثقته بها. إنه كان حسن النية في كل هذه الأيام الماضية، وهي وحدها الأثيمة الجانية!!
إنها وحدها التي جعلت تنتحل مبررات لما تريد الإقدام عليه، وهذا الزوج البريء الطيب لا يعلم من ذلك شيئا ولا يظن وجوده، فلم يبق عليها مع هذا إلا أن ترتمي على قدميه طالبة المغفرة، مقرة له بذنبها، معترفة أمامه بكل شيء.
يا الله! ما أرقه وأحناه من إنسان! كم في عبارته ما يشف عن بياض قلبه وصفاء باطنه!.. هو الرجل القادر، بيده كل أمرها، ويملك عليها كل شيء، ويقدر بكلمة منه أن يوقعها في شقاء كبير. ومع ذلك هو يستسمحها ويقر لها عليه إن كان ثمة شيء منه أو من غيره: يقر به عن غير جدال ولا أخذ ولا رد.. أليس من الخيانة والغدر أن تصرف زينب قلبها عنه؟ أليس عارا كبيرا عليها أن تفكر في حب غيره؟.. ألا إنه لكاف أن يمحو كل زلة، ولمستوجب للصفح عن كل هفوة ذلك الذي عمل في موقفه هذا! فإذا لم تك هناك زلة ولا هفوة وكان كل ما في الأمر سوء فهم منها جرها إليه خطؤها وما في نفسها من الشرود أفلا يكون واجبها أن تنصرف لحبه والخضوع له؟ أم تكون من القسوة بحيث لا تسمع لكلماته؟
وبمثل هذه الأفكار ذهبت زينب إلى مرقدها بعد أن أطفأت النور، ولم يبق في الغرفة إلا السواد الحالك. وكلما تمثلت في نفسها ذلك الصوت الدائب أحست بحسن يتقلب قلقا كأنه غير مستريح البال هو الآخر، فعاودتها الهواجس ونخسها ضميرها. فلما لم تر للنوم من سبيل عليها فتحت باب الغرفة خارجة، فسألها زوجها إلى أين تذهبين؟ وعلم أن حر المكان لا تطيق النوم معه، وهكذا قضت ليلها تحت السماء تفتح عيونها للنجوم المشردة لا تدري مقرها وسط تلك الظلمة، ثم تقفلهما فتتخيل أمامها عالما كبيرا مرسومة فيه صفحات الماضي تتوه بينها.
4
جاء حامد مع إخوته إلى القرية لقضاء إجازة الصيف بعد أن أمضى سنته بين أعماله وأحلامه محاطا دائما بالحيطان القريبة. وكان يخرج أيام الربيع إما إلى شاطئ النهر الكبير يفرج همه أن يرى المناظر البديعة التي تحيط بالجانبين، أو يأخذ فوق ظهر الماء قاربا إذا هو رأى الوقت جميلا، أو يذهب إلى الهليوبوليس يرى فيها الأفق البعيد نازلا فوق التلال أو مطوقا الرمل الأصفر بقبته الزرقاء، والهواء الناشف يهب لذيذا يفتح له صدره ويقف ليرى تلك الآفاق البعيدة من الصحراء المحيطة بالواحة الناضرة، ثم يرجع على الطرق «المسفلتة»، وتمر به الغيد تحت حبراتهن السوداء تبين منها أذرعهن الملفوفة الناعمة، وبراقعهن الشفافة تنم عن أذقانهن الدقيقة أحيانا، وخدودهن المتوردة في لونهن القمحي الجميل، وعيونهن النجل قوست فوقها حواجب سوداء تعلوها جباه نقية. ويسير حالما ذاهبا في خيالاته إلا أن يستلفته جمال ما حوله أو الهواء يهب فيرفع من أطراف رؤوس الحبر فتصيح بعض الفتيات متلفتة تريد أن تتقي هذا المتحسس.
ويجلس أحيانا على «الطاولات» الموضوعة إلى جانب الطريق، أو هو يذهب إلى القهوة ينتظر بها، ولا يبعد أن يرى بعض أصحابه فيتحادثون، ويجر الحديث ذيوله من موضوع لآخر، ويستنفد الوقت ويضطر الصديقان للرجوع.
وكثيرا ما كان ذهابه في أحلامه لا يدع له أن يرى كل ما يحيط به. ولقد كان مولعا بتلك الطبيعة الناشفة التي تحيط بالواحة الناضرة حتى لقد كان يذهب إليها مرات متوالية آخر العام قبل أن يهجر العاصمة، فيمتع نفسه منها ومن المناظر المدنية التي تحويها ومن تلك الأشكال النسائية المحكمة تنسدل ثيابها دقيقة مع كل أجزاء الجسم قبل أن يذهب إلى المناظر الريفية وثياب الفلاحات المسدولة المستقيمة يظهر من تحتها جلال صاحباتها، ثم ليرجع نحو الساعة العاشرة من المساء و(الترامواي) يشق به الخلاء، والهواء يسري وسط الظلمة ومن تحت نور الكهرباء إلى العربات تكاد تطير في سرعتها. .. جاء حامد مع إخوته إلى القرية ومكث بها الأسابيع الأولى يذهب أخريات النهار وحده أو مع بعض خلانه إلى المزارع يرى ما فيها، ثم إذا جاء الليل وطلع القمر اصطحب صديقا له إلى بعض الترع يجلسان على شاطئها في مصلى مفروش بالحلفاء يهب فوقه النسيم. فإذا ما أخذا حظهما من الجلوس رجعا أدراجهما بتلك الخطى البطيئة اللذيذة فوجدا جرائد المساء قد جاءت وصار الناس ما بين آسف لحادث حدث، أو متألم من ظلم الحكومة وتعسفها قصدا، أو ضاحك بين أسنانه أن قرئ أمامه تصريح وزير ما أكثر ما صرح . أو متهيج ساخط لما ارتكبه بعض الموظفين الإنكليز من الحماقات، أو متحادثين ينتصر أحدهما لصحفي والثاني لآخر، فيأخذ حامد جريدة يمر عليها بنظره، ولا يبعد أن يطلب بعض الحاضرين إليه أن يقرأ لهم الافتتاحية أو يأخذ رأيه فيما كانوا فيه يختلفون.
فلما كان في بعض الليالي وقد رجع مع مطلع القمر وجد القوم سكوتا ليس من بينهم إلا من يقص حكاية عما في الغيط ومقدار ما أضر العطش القطن في هاته الأيام الأخيرة. - والمهندس الله يضره ماسك الميه بيده.. تفتح له إيده تجي الميه تجري. - أنا والله مش عارف الناس دول ذمتهم إيه. - هو يا شيخ الناس عاد عندهم ذمة ولا دين، أصحى الكلب بتاع مركزنا ده، واخد دك النهار لما هو طافحه، وأهو طول الدور ده الميه ناشفة. - لأ.. والمسألة كلها بايظه من مهندس لباش مهندس لمفتش كله خبص في خبص.. يعني أول أول إمبارح انبعث كام تلغراف وكام عريضة وراحوا قابلوا المفتش بالذات.. ولا شيء.. ولا حياة لمن تنادي. - والله ما يجيب العاتي إلا الفلوس، إحنا عارفين أهل بلادنا ويعني بس ليه.. كان ولا تلغرافات ولا مقابلات والقرشين اللى راحوا فده انحطوا على كمان قرشين وانحطوا في ايد المهندس ودورنا في الدور وفي البطالة زي ما يعجبنا.
قطع حديث القوم دخول السيد محمود، فوقفوا جميعا، ثم جلسوا وتبادلوا التحية معه، ودخل الخادم بعد ذلك ومعه الجرائد، وتناولها منه حامد ووضعها على «ترابيزه» أمامه، ثم نودي بقهوة فجاءت، وتناولوا الحديث من جديد، فسألوا السيد عن أمر الماء فأجابهم أنه سيصلهم هذه الليلة، وعلى العادة فتحوا الجرائد وقرأوا ما فيها مسرعين.
أما السيد محمود الذي كان مشغولا طول نهاره مع المهندس وجاء منه بوعد وبتصريح كتابي ليديروا مدة البطالة، فلم يهدأ خاطره أن يبيت في منزله مستريحا بعد عناء يوم قضاه ما بين سفر ومناهدة طويلة مع ذلك المستخدم الذي هو من أشد طوائف المستخدمين تعلقا بالحكومة وخدمتها حيث يخيل إليه أن لا عمل من الأعمال الحرة في حاجة إليه ، وهو مع ذلك أجرؤهم على العبث بقوانينها ولوائحها.
لم يهدأ خاطره أن يبيت في منزله بل أخذ معه صديقا له وقاما ذاهبين إلى المزارع العطاش المسكينة، فقام حامد معهما وساروا مع القمر حتى وصلوا فوجدوا جماعة المستأجرين نياما على شاطئ الترعة ينتظرون قضاء الله وقضاء الحكومة في أرزاقهم وفي عيشهم، وكأنما الآفات الكثيرة التي تنهال عليهم من غير حساب تقذف بها السماء الرحيمة ليست كافية لشقائهم فتتقاضاهم الحكومة الضرائب لتزيدهم شقاء. والبائسون يحسون بتعسهم هذا، والمسنون يأسفون على الزمن القديم قليل الحاجات قليل المتاعب، والقمر الناحل في سمائه يبسط عليهم شعاعه الذي طالما التحفوه.. التحفوه من يوم كان عمرهم سبع سنين يحضرون للحصاد، ومن قبلها تجيء بهم أمهاتهم معهن أطفالا فينزلن لعملهن ويدعنهم لرحمة الرؤوف الرحيم.
فلما مروا بأول تابوت إذا بصاحبه جاثم إلى جانبه مكوم في دفيته فناداه السيد: سالخير يا بو محرم.. اصحى الميه جايه.
فقام أبو محرم العجوز حتى أيس من الحياة وسلم على القادمين يدا بيد ثم قال: يخي مية ايه عاد.. القطن بقي يا رحمن يا رحيم.. والله كانوا الناس زمان مبسوطين.. كنا نستنى النيلية لما تجي وبعدين نبدر وخلاص تطلع الغلة تتلتل.. حقه وفي التصفية كنا نصيد سمك.. سمك ايه، الدنيا، وليامدي الواحد ينشف ريقه على ما يحصلوه حبة منه ... اللي فات باين ما يرجعش..
ثم أعاد حكاية الماضي حين كانوا ينالون كثيرا من الخير من غير ما نصب ولا لغوب، ولم يتسخط إلا على الكرباج وتشدد الحكام في الضرائب، وكأن هذا الفاني سيودع الأرض في أيام معدودة يهزأ في لهجة الجاد من دعوى الحكومة الحاضرة إصلاح الحال وتنظيم الري وإسعاد الفقير.
هكذا سار السيد محمود يوقظ الناس واحدا بعد واحد، فإذا فتحوا عيونهم ورأوا قرار الترعة لا تزال شقوقه واسعة انبهتوا لم يوقظهم المالك في تلك الساعة من الليل، ولكنه لا يلبث أن يخبرهم أن يستعدوا فالماء على وشك أن يصل إليهم.. فلما بلغوا أحد كبار المستأجرين جلسوا عنده وشربوا قهوة معه ولم يتركوه حتى جاءت تباشير الماء تتقلب على الطمي الناشف وتتسرب في الشقوق ثم تسمع بعيدا بعيدا.
تركوه إلى قطعة من زراعة السيد محمود نفسه، فيها أرز لم يظهر سنبله بعد. وقد يبست أوراقه من العطش، فلم يجدوا بها أحدا فنادوا بعامل وبالبهائم من عزبة قريبة، وانتظروا معه حتى مطلع الصبح، وحامد يسير في الغيط من جانب لآخر، ويرى ذلك النبات المائي تنحدر منه الحياة، وتفقد أوراقه الخضراء لونها البديع الزاهي، فتصبح ذابلة باهتة ثم تتحول ناشفة وتسقط إلى الأرض.
فلما أشرقت الشمس أراد السيد أن يرجع إلى البيت وقد اطمأن على الماء وعلى الزرع، ففضل حامد أن يبقى في المزرعة إلى جانب التابوت يزن بنغمات متشابهة دائمة تضيع ساعات النهار وسط ضوضاء الوجود، فإذا ما أقبل الليل ودخل الكون إلى سكونه وجدت نفسها، وتقلبت مع النسيم يسمعها المدلج وسط اللا نهائية الهائلة من الأرض المستترة بثوبها الأسود، فيطمئن على البهيمة المجدة في سيرها.
وجاء وقت الظهيرة وقد حميت الشمس وأرسلت على الأرض نارها، وحامد يلعب النوم برأسه الساهر طول ليله قد انزوى في عش هنالك بقي فيه نائما مرتاحا.. ثم فتح عينه فإذا الشمس ساقطة إلى مغربها قد احمر قرصها في آخر السماء الصافية، فلون ما حولها ببعض لونه.. والترعة الصغيرة إلى جانبه يعلو فيها الماء ثانية بعد أن كان قد هبط قبيل الظهر.
تلفت حوله فإذا العامل الذي معه ليس موجودا، وإلى مسافات بعيدة لا تلمح العين شبحا، والثور الذي في التابوت يضج مبطئا، والشمس مسرعة إلى مكمنها، والسماء يقتم لونها رويدا رويدا.. وكأن الجو إذ يظلم قليلا تتسرب فيه عفاريت المساء والجن الساكنة هذا الفضاء الكبير من الأرض. ثم لمع في السواد بعض النجوم، ولكن الليل المقدم يأتي ولا قمر معه يجعل اللمع غير ذي جدوى، والشياطين تجري في الهواء أمام عيون هذا الوحيد المستوحش، وكأنها تريد أن تدخل العش معه، وينظر فلا يرى إنسا، ثم وقف الثور وسكت كل صوت حوله، وابتدأ الوجود الأخرس يدوي والصراصير تصفر فتملأ الفراغ بصراخها، والليل يقدم دائما.
أمام كل ذلك تثاءب حامد تثاؤبا طويلا دمعت معه عيناه اللتان لا يزال بهما أثر النوم، فأخذ حصاة حذف بها الثور، ثم تمطى مكانه من جديد.
وعاد ذلك الزن المتشابه المتماوت يحيي شيئا من هذا السكون والموت، والماء ينصب في الحوض يلمع في الظلمة أمام عين المتناوم من غير نوم، والسماء تزداد عبوسا، والنجوم تنظر في لمعانها بعيون ثابتة، والأشباح تزداد تميزا، والليل يقدم دائما.
جاءت لحامد في ذلك الوقت كل الأحلام الفظيعة التي يجيء بها هذا الموقف لمثله، أليس من الممكن أن يفاجئه في هاته الوحدة بعض الذئاب فيناوئه، وينغص عليه سكونه؟ ثم إن جاء شيء من هذا أفيمكن أن يفترس إحدى البهائم التي عنده؟.. وماذا يعمل الآن للتحفظ من كل هذا؟ لا شيء في الإمكان عمله.
استمرت معه تلك الأفكار مدة ظهرت له طويلة لا يعرف مقدار طولها، وهو يجاهد ما استطاع لطردها، ويشجع نفسه. فلما طال به المقام ورأى أن علقة الثور استحقت، وليس هناك من يغير عنه، قام هو لتلك العملية البسيطة، وسار حتى وصل «الطوالة» ليجيء بالثور الثاني فإذا شبح فيها، إذا نائم ذاهب في نومه قد غطى وجهه بمنديل، إذا العامل الذي معه استرق لحظة ليريح رأسه فيها، ولم يجد سريرا أمهد ولا مكانا أخفى وأبعد عن الرجل من الطوالة ما دام لا يريد أن يضايق النائم في العش.
أيقظه حامد بيد خفيفة، فسأله صاحبه: هل أخذ عشاءه بعد؟ إذ جيء به من البلد وهو هناك في الركن.. لكن حامد كان مشتغلا عن هذا بما هو فيه من أحلام فظيعة وما يبصر أمام عينه من أرواح خبيثة، فلما وجد ثانيا يؤنسه تبدد ذلك كله وراح يتناول طعامه بعد أن دعا الآخر ليأخذ لقمة معه.
وبعد العشاء ذهب ثانية إلى نومه غير مستطيع أن يثبت أمام ذلك النسيم اللذيذ العذب يدخل إلى القلب والنفس فيحملهما إلى غير عالمنا، ويترك الإنسان سكران خادرا. وبقي ممتعا بتلك الراحة الكاملة تحت سقف العش الصغير أقيم له حائطان في جانبي الشمس، وترك الشمال وما حاذاه مفتوحين إلى الخلاء الواسع العظيم. وبقي ممتعا بتلك الراحة التي نروح فيها بكلنا ونغيب معها عن الضجات مهما عظمت حين نكون منهوكين لاغبين، وأي لغوب أكثر من معاناة الشمس المحرقة تشوي الجلود ثم الساعة المخيفة التي مرت به واقشعر لها بدنه.
فلما نال حظه الكامل من النوم استيقظ رائق البال منشرحا، وقام فجلس إلى جانب التابوت الدائم الزن تحيط به الظلمة التي تغطي كل شيء، وخيمة الليل مبذورة فيها النجوم لا تزال بلونها الذي تركها به ساعة العشاء. وبدأ حديثه مع العامل الواضع «بشته»
1
فوق رأسه المغمض عينه يسارق النوم وتأخذه سنة يبقى فيها ما دام الثور دائرا، فإذا هو وقف طارت سنته ونادى به أن يسير، ثم رجع لها من جديد. بدأ معه حديثا استمر بضع دقائق، ثم راح العامل في دنيا غير الدنيا، وإن بقي أحيانا يؤمن على قول حامد ب (هه) ينطقها من غير ما علم ولا إدراك.
والسماء تلمع بكواكبها قد ابتدأت «تبهت» لمشرق القمر الذي ظهر نصفه ناحلا متورد اللون كأنه خجل من تأخره، ثم تجلى رويدا رويدا، وانجلت طلعته فبعث على البسيطة بشيء من شبه النور لمعت تحته المزروعات القريبة بعد أن كانت سوداء قاتمة، والنسيم يتهادى في الفضاء الهائل فتنام تحته النباتات سكرى بلذاته وبالماء يجري تحتها، والحيوان الدائر في التابوت يستمر بلا انقطاع ويدع لصاحبه الراحة في سنته. وتبقى هذه الموسيقى المتشابهة التي تملأ آذان الليل تتبعه في مسيره ودوراته. وحامد في صمته مستأنس بكل تلك الموجودات يتلفت يمنة ويسرة، فيرى الآفاق القريبة والترعة قد انطرح على مائها النور الجديد تتقلب موجاته الضئيلة سائرة مع التيار. •••
طال به السكون، فابتدأ يفكر فيما حوله: كم وراء الأفق من عجائب يحار دونها الذهن! كم هناك من حيوانات وأشياء لا عدد لها هو على قربه منها جاهل أمرها كل الجهل! والتوابيت البعيدة لا يكاد يتميز صوتها لبعدها. ماذا يعمل الناس عندها؟ أهم سكوت ذاهبون في أحلامهم؟ أم يعملون مجدين لإحياء زرعهم؟ لا بد أن يكون في يد كل منهم طنبور صغير يديره فيساعد به صديقه الحيوان ويضاعف العمل ويربح الوقت، والوقت من ذهب..
وهناك قريبا منه أشياء لا يعرفها، موجودات تتمتع بالنسيم والماء وبهدأة الليل وستاره مثلما يتمتع. ثم عوالم السماء!.. ما أغرب هاته النجوم اللامعة تبسم لنا عن نفس طيبة؟ هل هاته الأشياء الصغيرة شهدت مبدأ الخلق وتبقى إلى آباد لا نهاية لها، في حين نمر نحن في فترة من الزمن قصير أجلها؟ ومع هذا العمر الطويل هي متواضعة لطيفة، وكأنما علمها تعاقب الأيام أن من الحمق تعاظم من يسير تحت سلطان كل ما حوله من صغيرة وكبيرة!.. أليس عجبا أن تمسك نفسها هكذا في الفضاء وهي ثابتة غير ذات حركة، أم تتهادى مبطئة مبطئة؟!
ثم ماذا تحت الأرضين؟ من يدري؟ تحتها أجداث الأموات وحفر الأحياء تحتها جذور الشجر وأصول النبات! تحتها سكون الموت وضجة البراكين! تحتها ما لا نعلم.
والقمر ما أشد نحوله! لا بد أن يكون صحيحا أنه مسكون بأحياء، وأن يكون هؤلاء كلهم عشاقا مغرمين، وأن يكونوا من الهيام بمن يحبون بحيث يصبحون أشباحا فانية ويبعثون على كوكبهم ذلك النحول الذي يعلوه.
وبقي بعد ذلك محدقا بعيون ثابتة إلى الكوكب المضيء يناجيه ويسائله، وهذا الأخير يتخطى في السماء خطاه البطيئة الهادئة.
ثم «بهتت» السماء مرة أخرى وكادت تغيب النجوم، فعلم حامد أن الصبح صار قريبا، فقام يسير وسط المزرعة يرى مقدار ما سقاه الماء منها. ووصل إلى حد الشارب من الأرز، فوقف ونظر إلى ما أمامه وإلى ما خلفه ثم إلى السماء فإذا هي تظلم من جديد. تظلم تلك الظلمة التي تجيء لحظة ما بين الفجرين. ثم انجلت فرجع هو إلى عشه ونادى بالعامل معه أن يوقد نارا يسخنون عليها بعض ما عندهما من العيش ليتناولا لقمة الصباح.
وهناك بعيدا عند الأفق ابتدأت الشمس تبعث برسلها. وهما قد انتقلا للمصلى وجلسا فيه ساكتين لا يتكلمان. وحامد محدق لذلك الشرق البديع تسيل سماؤه ذهبا ويعانق بكله النباتات التي عنده. ثم ظهر القرص كبيرا يتهادى بين الأرض والسماء كأنه في مهده تهزه الملائكة ولا يزال عليه غطاؤه المتورد. وجعل ينكشف رويدا رويدا، ويعتلي الطبقات مسرعا أولا ثم على مهل، ويرسل حوله من ناره ونوره ما يذيب كل ما يحيط به، ويبدلها بدفقات من النور تبيض لها زرقة السماء.
وهكذا جاء النهار بضجته وصياحه وتقدم حتى إذا أذن وقت الزوال انزوى حامد في عشه وأخذ راحته، ولم يستيقظ إلا عند المغيب.
مرت ليلته كما مرت الأولى، وكل الفرق بينها أن القمر تأخر نصف ساعة عن مشرقه بالأمس.
وليال وأيام تمر وحامد كلما اختلى بالليل وضمه لصدره نسيمه العذب بخيالاته وأحلامه إلى أشياء عدة: فمرة للسماوات والأرضين وأخرى للناس البعيدين عنه وراء، الأفق، وثالثة للعجماوات الخرساء وما تكنه في صمتها وسكوتها من السر العجيب. وقد اعتاد زن التابوت أن يحيي بعض الشيء الموت المحيط به، يرن في جوف الليل القاتم، فيؤنس الجالسين حوله، كما ألف الوحدة والبعد عن الناس.
فلما كان في بعض تلك الليالى، والقمر قد صار في ربعه الأخير وهو يحدق إليه، ويرى ذلك النير البديع ذاهبا إلى فنائه، ثم ينتظر من بعده هلالا جديدا، إذا نغمة عذبة تشق الهواء لتطرب أذنه، رنة محزونة تسري على موجات النسيم إلى مسمعه، صوت رخيم يمتد فيملأ الخليقة النائمة أحلاما: إذا «سلامية»
2
يقلب عليها إبراهيم أصابعه هناك عند التابوت البعيد، وكأنه يشكو للقمر وجده.
كم في تلك النغمة المحزونة من المعنى! وكم تكن من الجوى والشكوى!.. إن في رأس صاحبها تلك اللحظة لعالما كبيرا أجمل كثيرا من عالمنا ينادي إليه صاحبته، عالما طاهرا تطير فيه الأرواح أزواجا يتضام كل اثنين منها بعضهما إلى بعض ويتعانقان؛ عالما فيه تلك اللذة الملائكية السامية نصل إليها حين نرقى إلى علو، كما نجيء بها إلى جانب اللذائذ الأرضية الأخرى حين نريد أن نستكمل كل الشهوات.. لذة القبلات.
نعم هي القبلة، علم الإخلاص ودليل الود.. معها تسيل الروح تنضم للروح ، هي صوت القلب والنغمة الثائرة من بين أوتاره؛ هي تلك اللحظة التي ننسى فيها أنفسنا من أجل محبوب جميل. بالله أي شيء ذلك الإحساس الذي يعرونا حين يصعد الدم إلى خدود الحسناء التي نحب ساعة نقبلها، وكأنها تقول في استسلامها بين أيدينا: أنا لك.. ألا أكون أنا الآخر لها؟ ألا أسجد أمامها؟ ألا أموت من أجلها؟.. قبلة الحب هي اللذة.. هي السعادة.. هي الحياة!..
لما سمع حامد هاته النغمة أنصت طويلا، وقد تاه عن وجوده، وغابت عنه أحلامه، وراح يهتز تحت أثرها، وتلعب نفسه فتنقلها من الأسى إلى الاستسلام إلى اليأس، ثم إلى الأمل الطويل العريض.. وبقي هكذا حتى بدت تباشير النهار.
وبعد أيام أصبح الماء بالراحة، وامتلأ به الرز وترعرع واخضر وتكاثر وصار من اللازم خفه.
جاءت البنات والأولاد للخف، جاءوا جميعا مع وابور الصبح ومع كل شرشرته، فكشفوا عن سوقهم، ونزلوا هم الآخرون بين البنات، وابتدأوا عملهم سكوتا، وحامد يتبعهم بعينه أو يذهب سائرا وراءهم فرحا بتلك الخضرة الجميلة العزيزة عنده وقد سهر عليها ليالي تباعا، ثم تقدم الوقت قليلا، وقد ابتدأوا يتكلمون، واستحث العامل المكلف بهم إحدى البنات فنظرت إليه متعجبة منكرة قوله وأجابت: «هو أنا ساكتة».
ومرة أخرى استحث غيرها، وابتدأ بعد ذلك يضحك منهم ومعهم، وهكذا جاءهم السرور الذي يلازم هاته الجماعات دائما عند العمل. وحامد - وإن لم يوغل معهم فيه - لم يكن على الحياد تماما، بل كان يجيء مع أحد الطرفين فيعينه على صاحبه. وكم كان يحس ذلك المنصور في نفسه من الفرح لا لأنه انتصر على صاحبه - وذلك في الواقع لا قيمة له عنده - ولكن لأن «سي حامد» جاء في جانبه! وتقضى أول يوم على هذا، ولم يكن فيه ما يستحق الذكر، إلا أنهم ساعة المقيل جعلوا إحدى البنات ترقص أمامهم.
وفي اليوم الثاني كانوا أصرح في حديثهم وأقرب لما تمليه عليهم إحساساتهم، يضحكون عن قلب طيب ونفس خالصة. بل لم تكن إحدى البنات - وقد أحست في نفسها أنها أجملهن لتدع حامدا يضحك منها من غير أن تجيبه بشيء أو ببعض شيء. فلما كانوا في ظهر اليوم الثالث وقد جلسوا بعد طعامهم وجلس حامد مرتكنا في الطوالة يحدثهم، قام بعض الفتيات وجلسن في الجانب الآخر من ذلك المكان الظليل. وقامت تلك الفتاة فجلست إلى جانب حامد كتفا لكتف، وجعلت تكلمه وتضاحكه والبنات يرمقنها شزرا ويتهامسن. فلاحظهن حامد في همسهن، وقدر ما دار في نفوسهن، فمال إلى جارته وقبلها، فنظرت إليه مختلطة كأنما تسأله ما هذا؟.. والبنات كلهن حدقن إلى الاثنين وقد علاهن الاستغراب.. فلم يمهلها هو في تلفتها حتى قبلها في خدها الثاني.. فدفعت به بعيدا منكرة عليه عمله، وضحك كل من حولهما. فلما رجع إلى مكانه وعاوده سكونه ارتمت هي عليه مدعية أنها تجازيه فضمها إليه وقبلها ثالثة.. وكلما تركها جاءت نحوه تجره بيديها وتميل عليه تريد أن تناله بجزائها، وقد علا الدم إلى خدودها فأعطى سمرتها القمحية ذلك اللون الوردي العاشق المعشوق.. وحامد مثلها قد تغير لونه لا يني حين ميلها عليه عن تقبيلها أو ضمها لصدره.. ثم البنت يكاد يضيع رشدها في يده قد استسلمت له وإن ادعت أنها تدفعه.
وأخيرا جاء موعد العمل، وقام كل منتظما في صفه وبيده شرشرته، وتبعهم حامد خطوات، ثم وقف بعيدا عنهم، ورجع إلى نفسه يسائلها: أي جنون ذلك الذي أصابه؟!
وجاءت عليهم ساعة كانوا فيها جميعا أشد صمتا من العالم الأخرس الذي يحيط بهم. وتلك الفتاة خادرة خائرة مفككة الأجزاء غائبة الرشد، تائهة عما حولها، تعمل في الخف غير محسة بعملها ولا ترى شيئا من تلك النظرات، يوجهها لها المحيطون بها، مصحوبة بابتسامة حقد من البعض واستهزاء من الآخرين واتقدت غيرة في صدور الفتيات وتخفضت جفونهن.. والجميع سكوت في صمت.
أي شيء ذلك الذي عرى حامد؟ وأي جنة أصابته؟ هل هو ذلك الإنسان العاقل القوي الإرادة؟ ومهما يكن في تلك السذاجة الريفية التي تجعل الفلاحة في بساطتها ذات جمال أمام العين والحواس وتعطيها في حركاتها الوحشية ما يلفت النظر، مهما يكن فيها من الجذب فهل من مقامه أن ينزل إلى ما نزل إليه؟.. ما المرأة إلا شيطان رجيم وحبالة منصوبة يتهافت عليها الرجال المساكين وهم عنها عمون! هي الشر المحض، وكامن فيها السوء كمون الكهرباء في الأجسام متى لامسها الرجل أثارت حولهما هي وهو ما لا يعرف فرمت به الأرض وحطت من كبريائه وعظمته.
جاءت هاته الأفكار إلى نفس صاحبنا وهو في طريقه إلى البلد بعد أن قضى أسابيع تحت السماء الصافية، أو في عشه الصغير، وقد ترك الغيط بمن فيه بعد ساعة من انتهاء المقيل، وجاشت نفسه وهانت عليه دمعته يريد أن يكفر عن خطيئته. إنه عاش السنين وكل أحلامه طاهرة نقية. أفينقضها في لحظة ويأتي عليها من غير ما روية ولا تفكير؟ أينزل من تلك السماء العالية، سماء العفة حيث الملائكة الأبرار إلى مستوى الناس الذين لا يفكرون؟ وهل يكذب ما يعرف الناس جميعا عنه من الاستقامة والدين في ساعة من زمان ومن غير ما سبب؟ ثم كل ذلك مع من؟! مع فتاة عاملة بسيطة! ويل له من مجازف إلى حتفه رام بنفسه إلى التهلكة.. وويل للنساء جميعا يقذفن بنا من حالق عزتنا وعظمتنا ثم لا نكسب معهن إلا ضياع قوتنا وأنفتنا ومالنا! بل ويل للوجود الذي رتب العالم بهذا الترتيب المنكود!
فلما وصل إلى ترعة في طريقه رمى بملابسه إلى البر ونزل إليها يطهر من رجسه ويستغفر الله من زلته ويرمي عن نفسه ذلك الدنس الكبير.. وكلما رأى امرأة سائرة استعاذ بالله من شرها، واستنجد الملائكة الأبرار ضدها، وكلم السماء بصوت عال يصعد إليها وسط سكوت الهواء وسكونه.
وقضى بقية نهاره بين أهله المشتاقين إليه ينظرون إلى وجهه وعليه لون الشمس وإلى أذرعه سمراء مفتولة ويسألونه كيف طعم الفضاء فيجيبهم وباله مشتغل ونفسه قلقة لا يدري أية وسيلة يكفر بها عما عمل.
ثم أقبل الليل وراح إلى سريره فإذا أمامه ظلمة حالكة وهواء مختنق! إذا هو لا يجد ذلك الفضاء العظيم يسري فيه النسيم تنتعش له النفوس والأرواح، ولا تلك السماء ونجومها تتلألأ أمام عينه فيحدق إليها طويلا وكأنه يجد فيها وحيا ونجوى. ثم القمر لا يملك منه إلا شعاعا يسري له من النافذة وذلك الصب العاشق مختبئ وراء الحيطان لا يرنو له ولا يكلمه وكل المكان خبيث الطعم ثقيل على نفسه.
أين الترعة وماؤها الجاري؟ أين الآفاق البعيدة شبه المظلمة مع نور القمر؟.. غاب عنه كل ذلك وغاب ما فيه من جمال وسر.
ولم يستطع النوم فجعل يفكر في يومه المدبر آسفا. ثم انقضت بعد ذلك أيام وهو يذهب إلى المزرعة ساعة الأصيل ويرجع عند الغروب. فلما راجعه الهدوء والسكينة، وجادت عليه تلك الوحدة المطلقة والابتعاد عن عوالم الكون وعن كل الموجودات بما سمح له أن يكون بعيدا عن كل مؤثر قال في نفسه: ساعة رجعت من الغيط وقد أخذت غدائي هناك كان في البيت هنا فاكهة لذيذة وحلوى فجلست آكل وإن كنت شبعان، وما كان أحلى ذلك الطعام وألذه! ثم شربت من بعدها مرطبات عن غير عطش. وذهب لأقول لعماتي وخالاتي «عواف» بعد غيبتي الطويلة عنهن جميعا، وعزمن علي بحلو مما عندهن فأطعتهن ووجدته لذيذا. ولما سهرنا وكان معنا الشيخ سعد وغنى بصوته الحلو وسمعته وجدته لذيذا. قاتله الله ذلك الرجل! كم هو متقن! وكم ذكرني الشيخ سلامة حجازي حين كانت تتشنج أعصابي وأجلس ساكنا والناس كلهم مثلي حتى يفرغ الشيخ من دوره وقد عرت الأبدان قشعريرة الطرب مرات فلا يقدرون على أن يحبسوا أنفاسهم دون أن يصيحوا استحسانا.. كل ذلك كان لذيذا وحلوا ولكنه لم يكن بألذ من تلك السويعة التي قضيتها مستوحشا مع البنت تتعلق بعنقي وتضمني إليها وأضمها إلي أقبلها من خدودها المتوردة. كم كان لهاته الساعة من لذة لولا ما تلاها من الأسى! وأدفعها عني فتقبل علي وتلصق جسمها بجسمي وهي حلوة الروح، والرائحة، تكاد تأخذني إليها وتفنى في أو أفنى فيها. ثم نحن جميعا ثملان بسكرة لذيذة ما أحبها إلينا! وثدياها ناهدان كأن بهما نارا تتقد، ويرتعشان. وكل ما حولها تفوح منه تلك الرائحة المنعشة المخدرة. ثم ساعة تدني ثغرها إلي تدعي أنها تعضني وتقبلني قبلة لا صوت لها، وجسمها كله في تحلله كأنه يموج فيقلب معه عوالم خفية أحس بها كلي من أطراف قدمي إلى شعر رأسي وتسري لها في رعشة أكاد أتوه معها.. كل هذا كم كان لذيذا! هو ألذ من كل تلك الأشياء ثم هم علينا يحرمونه. إنني لم أوذ بذلك شخصا ولا اعتديت على أحد، وإنما تمتعت به متاعي بما سواه مما أبيح ولا حاجة لي به سوى التلذذ والتنعم.. حقا لقد كانت ساعة في العمر لا ينسيها إلا مثلها.. ثم يقال هي عليكم حرام!.. ... نعم يا ضلال الشيطان! في أى شر تريد أن توقعني وإلى أي وهدة تريد أن تقذف بي.. كل تلك لذائذ فانية لا طعم لها. نحن بنو آدم بين الملائكة والبهائم، فإما نزلنا لهذه وقنعنا من الوجود بمقنعها، وإما ارتفعنا لمقام تلك ورضينا أن نحرم من الصغائر. وما كنت، وقد بلغت إلى اليوم ما بلغت، لأنهار من أجل فتاة عاملة، مهما بلغ جمالها، أنحط إلى أسفل الدركات.
بعد ساعة قضاها بين أسى وألم راح في نومه هادئا لا يعي. وتوالت الأيام وهو يبيت في الدار محتملا ضيق تلك الظلمة الكالحة حيث لا ترى عينه نجما ولا قمرا. وكلما دخل إلى نفسه يحاسبها كان معها الشديد العنيد.
وما كان ليلحظ ذلك عليه أحد وقد عرف الناس عنه دائما كل ما يطلب من مثله: الجد والاستقامة والدين. حقيقة إنه لم يكن يصلي ولكن ذلك لا يدخل في التقدير العام لأولاد المدارس.
لكن الأيام ينسخ بعضها بعضا، والغد يحجب الأمس بأكثف الحجب. بذا راجع حامد سكونه الأول المسدول على حياته يتخطى تحت ثوبه الرقيق من كل يوم لغده يين أحلام وآمال وخيالات لا حد لها. ولم يبق أخيرا ما يضايقه إلا الليل وسواده الكالح الديجوري وسكونه العميق الأخرس فكان دائم الإحساس بثقل ظل ما يحيط به؛ إن الظلمة العابسة أو الحيطان أو السقف أو السرير أو ما سوى ذلك مما ينغص عليه أحلامه وأفكاره.
ثم لم يطب له إلا أن يرجع إلى تلك الحياة الطبيعية الحلوة، وصار ينام عند مزرعة من مزارع القطن مرتفعة أرضها لا يصعد إليها ماء الراحة إلا نادرا فتسقى بطنبور من طنابير البهائم. رجع وليل الصيف دائما هو ذلك الليل اللذيذ ذو النسيم العطر والنجوم اللامعة والبدر في زهوته والترعة الصغيرة إلى جانبه يزحم فيها الماء بعضه بعضا ويعكس نور الساهر من آباد الآباد. واستعاد بذلك عهده القريب وإن لم يتمتع بزن التابوت فقد بقي له بدلا منه رج الطنبور تسمعه ما دمت إلى جانبه، فإن أنت ابتعدت قليلا غاب عنك وخرس صوت الليل ولم يبق لك فيه من أنيس.
فإذا ما تنفس الصبح رجع إلى أهله بعض ساعة ثم راح إلى الفتيات في خف الرز يتبعهن، وكأن له من وراء تلك الزرعة مغنما. وبعد أن انقضى نصف الغيط خفا إذا أخت زينب من بين العاملات، تقول إنها لم تحضر من قبل لأنها كانت مشتغلة في بناية في البلد. فلما كان الظهر أخذها حامد إلى جانب يسألها عن أختها وحالها وهل هي مبسوطة في عيشتها وحياتها الجديدة، فتذكرت الفتاة أختها والأيام التي كانت تقضيها معها جنبا لجنب في مثل تلك الساعة من النهار وتأخذان غداءهما معا ثم الوحدة التي هي فيها اليوم وكيف تخرج من الدار منفردة، فعراها هم وأسفت على نفسها وعلى الماضي اللذيذ الفائت.
أما هو فاستعاد ذكرى الساعات الحلوة التي قضاها مع تلك الفتاة البديعة التكوين، وراجعه الأسى من أجلها. كم كان لقلبها من التعلق به! وكم كان يحبها! إن ذلك اليوم البعيد صار هناك في ظلمات الفناء، ساعة جلسا إلى جانب الطريق متعانقين، ليوم خالد الذكر دائم الأثر، وليلة رآها حزينة فأصابه القلق والهم من أجلها! يا ترى ما حالها اليوم وما ذكره عندها؟
كم لهاتيك الريفيات المستوحشات تحت سمائهن الرائقة وبين تلك الآفاق الواسعة من الزروع الخضراء النضرة من البهاء والجلال! وكم من سحر للجميلة منهن مفتولة الجسم بارزة النهدين ثابتة الخطى يتهادى جسمها مائجا في مشيتها ويلعب الهواء بثوبها الأسود الصافي، وكم تكن من معنى بديع! ثم هن ربات تلك السذاجة الفطرية الحلوة الطعم تعطيهن مع قوتهن جمالا وتجعل من سذاجتهن رقة وظرفا.
كذب تلك الحياة الجد التي يقولون عنها حياة الفضيلة.. هي الموت لا مفر منه يأتينا أول ما نتذوق طعم العيش ويجعلنا نصدق أن الوجود فظيع خير ما نعمل فيه أن نتبتل مبتعدين عنه. ما أنا على ما نشأت عليه؟ وما تلك الحياة التي أقضي إلا حياة راهب طلق الدنيا وطلقته، ثم أدعي مع ذلك أني أتمتع بالعيش ومسراته، بتلك التي يسمونها لذائذ طاهرة.
ترى كيف أنت الساعة يا زينب؟ أتستقبلين الغد مستبشرة به فرحة لمقدمه ويضع زوجك مع الشمس قبلة على باسم ثغرك، أم أنتما تعيشان تلك الحياة الباهتة المتشابهة حياة الزوجية؟ ألا إني لأخشى أن تكوني محزونة بين آلام وشقاء.
أيام قضيناها في أحلام وملذات وإن حرمنا من أحسنها تبتلنا. ألا تزال عيناك تحوي ذلك السحر الذي عرفته فيهما، وابتسامتك بين الموجودات الضاحكة تزيد صاحبك سرورا وسعادة؟!
يالزوجها من فرح سعيد! هو وحده المتمتع بذلك الكون البديع حيث كل شيء جميل، ويضيف إلى سروره ولذته سرورا ولذة..! هل من مرة أخرى أرى فيها زينب وأعانقها وأقبلها فأعيد حلم الماضي الذي دخل دولة الفناء؟!
هل يأسف ويأسى إذا رأى زينب وعانقها وقبلها؟ هل يذهب كالمحموم ينزل في الماء ليطهر من رجسه ويصيبه من أجل ذلك ألم يتقطع له نياط قلبه حزنا على ماضيه المثلوم؟.. كلا.. كلا. إنه ليود من أعماق روحه تلك القبلة التي تثير الماضي الطويل ليس عليهما فيه من شهيد إلا الله وإلا نفساهما!
من يدري، قد تكون نسيتني زينب اليوم وأصبحت عني في شغل! قد لا تعرفني إذا رأتني أكثر مما تعرف أي إنسان في البلد!.. وهل كان بيني وبينها أكثر مما بين أي أحد من إخوتي وبينها. إنها جميلة وفتية وتستحق إعجاب الجميع، فإذا كنت أعجبت بها أكثر من غيري فما كان ذلك ليدعها أن تحسب في صديقا أو محبا؟! كنت دائما إزاءها المسيطر المالك، واليوم أنا غريب عنها وكل كلام مني فيه شبهة ويمس زوجيتها.
يا أسفا على الأيام الماضية! هل لنا في العيش بعد من مزية؟ وهل مع هاته الآلام التي تحيط بنا أو على الأقل ذلك التخلي عن كل شيء وغض النظر عن كل شيء من سبب للوجود؟
ما أقسى هاته الفضيلة التي يحببون إلى قلوبنا! إنها لأقسى من الموت العنيد لا محيص منه.
هأنذا إلى اليوم لم أذق للحياة إلا ذلك الطعم العادي لا هو بالمر تنقبض له النفس ولا بالحلو تسر منه وتفرح له. وما بعد اليوم شر وأضل سبيلا. أيام باهتة متشابهة تنقضي تحت تصريف الزمان القاسي ثم حفرة تنام فيها النوم الهادئ الطويل.
لقد ودعت الدنيا من يوم ولدت، وما أنا اليوم إلا بعض ذلك الجماد أثارته عاصفة من الأرض ثم يرجع لها ويركز فيها وقد انتقل من سكون إلى سكون ولم يتذوق شيئا. •••
في ذلك الحلم الطويل كان حامد ينظر في الفراغ الهائل أمامه يموج بالنور الساطع على السماوات المبيضة تذهب أمام عينيه إلى حيث لا يدري، والهواء لا حراك به يترك الأشجار البعيدة في سكونها المطلق، وأمامه معتدلة قناة الماء تسير وسط الزرع الأخضر تنحدر مع تيارها السريع عيدان الرز الساقطة من الخف، ويلمع عليها شعاع الشمس المحرقة في تلك الساعة من النهار. ثم يتوه الكل عند مسافة قريبة لا يتصورها حامد إلا الفضاء العظيم المخوف.
والعمال والعاملات يجدون في عملهم ويتحادثون أحيانا ويضحكون، فتموت أصواتهم حولهم ولا يرددها مردد.
ثم راح فاستند إلى العش، ووقف يحدق إلى كل ما حوله وهو مشتت الفكر لا يفكر في شيء ولا يعرف شيئا، مبهوتة نفسه ... وأخيرا صمم أن يرجع إلى البلد في تلك الساعة.
ورنا ببصره فإذا الجميع بعيدون عنه في آخر المزرعة من الجهة الأخرى، وبعضهم قد جلس على الجسر، فعمد نحوهم، فإذا هم انتهوا من ذلك الجانب وسيذهبون للجانب الآخر، فتركهم وأخذ طريقه إلى البلد بعد أن أوصى أخت زينب قائلا في ابتسامته: لما تشوفي أختك سلمي لي عليها.
وبين المزارع المنقطعة لا أحد بها، ولا يسمع فيها حسيس، سار على سكة يظللها الشجر القائم إلى جانب الترعة، فاتقى بظله حر الهجير، ثم اتخذ أقرب الطرق إلى البلد الغارق في ضوء الشمس تظهر البيوت البيضاء القليلة التي به وسط دوره الترابية اللون وكأنها جميعا أطلال بعض المدن القديمة ... ووصل إليه والناس لا يزالون في سنة الظهيرة، ووقف عند الباب ونادى الخادم باسمه فأجابه آخر إنه قد ذهب إلى المحطة، وما كان ليهمه أي شخص يجيب.. إنه يريد قهوة يشربها ليسلي همه سويعة من زمان حتى يقابل بعض إخوته ويجلسون للحديث معا.. فلما جاءت القهوة إذا بعضهم قد حضر، وكانوا عند الترعة يرقبون النجار يضع التوابيت الجديدة وقد انتهى منها.. بذلك نبهوا على الخادم أن يملأ الكنكة الكبيرة وتناولوا الحديث في أخبار شتى عن البلد وما فيه وكيف يبحث المدينون في هذه الأيام عن وسائل السداد، ثم الفدادين التي ستباع، وانتقلوا من هذا لغيره ولغيره، وأخيرا تركوا حامدا مكانه وقاموا كلهم فدخلوا الدار ليروا ما فيها.
أما هو فبقي في مكانه يفكر ساعة في شأنه هو، وأخرى في أمر أهل البلد المساكين لا يقدرون فظائع الدين ورذائله، ولا يفهمون المصائب التي تحيق بهم من وراء ذلك الربا الفاحش الذي يستدينون به.
والشمس لا تزال حارة محرقة في الخارج وإن ابتدأ الهواء يتحرك والأشياء تمد ظلها يلجأ إليه من لا عمل لهم من العاطلين يجلسون فيه يقصون الحكايات ويلعبون الطاولة بقية النهار، والأشجار تتمايل فروعها قليلا قليلا، وماء البرك الواسعة قد بقي طول الظهيرة يترقرق ويلمع عليه النور الساطع جاءته موجات خفيفة تتقلب على ظهره. وكلما تقدم الوقت حل الانتعاش محل الموت، ودخلت الحياة جسم الكون، وراجع الوجود شيء من ابتسامته بعد ذلك العبوس الذي يعروه منتصف النهار طول أيام الصيف. وكلما نظر حامد ورأى الأشجار تزداد حركة والنخيل يهتز جريده استبشر بالساعة البديعة ساعة الغروب.
ثم تبين على الطريق بعيدا بعيدا راكبا يلوح عليه أو يسير مبطئا، فاجتهد أن يتعرف من ذا فلم يقدر.. هذا شكل جديد غير الذي يرى كل يوم.. هذه سيدة ملتفة في حبرتها يسبق الفرس ممسكا بلجامها خادمهم. من عساها تكون هاته القادمة؟ لعلها بعض معارفهم جاءت لزيارة البيت وتبقى يوما أو بعض يوم ثم ترجع.
والحبرة مسدولة على أذرعها بانتظام لا يبين من تحتها إلا يداها الممسكتان بالسرع وتلمعان تحت النور الساطع المتلألئ به الفضاء، والفرس تدق الأرض بخطوات مرتبة يهتز معها جسم الراكبة متمايلا فوق السرج. وتقترب رويدا رويدا من الدار، وكلما اقتربت زادت تميزا هي ومن عليها.. ثم صارتا على قيد باع وحامد لا يزال غير عارف من هذه. فلما نزلت وجاء الخادم سأله عنها فإذا بها عزيزة!!
5
عزيزتي
بقية أمل أضعها بين يديك، ولك الحكم. إما حققتها فجعلت في عيشي سعادة الحياة، وإما أهملتها فحاق بي البؤس. بين يديك روح تصرفينها بكلمة منك فتدفعين بها إن شئت إلى عالم الراضين، أو يقذف بها في سعير الشقاء.. روح طالما تقلبت بين آمال وآلام من أحلامها، وتريد أن تخرج من نومها الطويل إلى اليقظة، فإما متعتها بآمالها، وإما أن تبقى تئن تحت آلامها.
نعم حبيبة! كم ليال قضيتها مع خيالك الكريم يرنو إلي بعينه ويبسم ويعانقني، ونبيت معا سعيدين، حتى إذا تركني قلت هل من ساعة في نهار الحقيقة أعرف فيها طعم هذه الخيالات؟! ومن يدري؟ هل أنالها؟
وتنقضي الشهور الطويلة وأنا في انتظار ذلك اليوم المأمول، نجلس فيه جنبا لجنب لا ثالث معنا. إنني أحبك يا عزيزة، ولكني محروم بائس.
هل أخبرك ما عانيت في حبك؟ هل أذكر لك خفقان النفس واضطراب الفؤاد؟ هل أذكرك بالأيام القديمة حين كنا صغيرين إلى جانب بعضنا؟.. وهأنذا اليوم أحرم مما كنت أنال صغيرا؟
إنني في انتظار كلمتك وأنت عليمة بمرارة الانتظار. وأقدم لك يا عزيزة حبي وإخلاصي.
حامد
لم يبق لحامد بعد أن رأى صاحبته إلا أن يؤنب نفسه على نسيانه لها كل تلك المدة الأخيرة، ويفكر من جديد في أن ينفرد بها ويفتح لها قلبه. ولم يجد وسيلة إلا أن يكتب كلمة يلقي بها في يدها. فكتب السطور المتقدمة، ووضعها في جيبه منتظرا أن يراها ليعطيها إياها.
وفي الصباح بعد أن أخذ فطوره مع إخوته قام إلى حيث هي، ودخل بعد أن استجمع كل قواه، وصمم في نفسه أن يعمل كل ما يمكنه للوصول إلى تلك الغاية التي يريد من زمان - من عام أو أكثر - فينفرد بالفتاة ويحدثها ويقص لها حكاياته الطوال التي تملأ رأسه. ونسي أوائل الربيع حين ضمه لصدره الكون وجماله، وتلك الزهوة التي تلبس كل شيء ويزين بها كل شيء. نسي ذلك وراجعه عهده القديم وهواه، ولم يعد يستطيع الصبر على وحدته في حين يتقطع قلبه كل يوم وكل ساعة وكلما ذكرها. وكم سيجد فيها من العزاء عن الأيام وشقائها؟!..
فلما ابتدأ يسلم على الحاضرات بدرته أولاهن ساعة وضع يده في يدها قائلة: أهلا بفلاحنا..
وجلس فسألته أن يقص عليهن حديثه في الغيط وشغفه به. ألم يك من قبل ذلك المستوكر في الدار لا يعرف عن الزروع والمزارع شيئا! ثم صار يزورها كما يزورها غيره من إخوته. فما تلك الغية الجديدة من المقام بها واتخاذها سكنا؟..
أي جواب يجيب به حامد في تلك الساعة؟ أيقول لهن عن وحي النجوم ونجوى القمر؟ أيخبرهن بلذة الفضاء الهائل العظيم؟ أيحكي لهن ما يدور في النفس من آمال وأحلام حين تطلع العين مطمئنة إلى ظلمة ليل الصيف ويسري النسيم ينعش الصدور يحمل معه أصوات الوجود الساكت؟ أيبين عن اللذة الكبيرة التي ينالها الإنسان حين يرى نفسه حرا من غير قيد؟.. إنهن لا يعرفن من ذلك شيئا. وإن كن قد طعمنه في الصغر فقد أنساهن إياه الزمان!.. أيسكت وهو أمام صاحبته ويعتقد أنها تحبه وتنتظر أن تسمع كلماته؟.. أم ماذا؟.. فقص عليهن تلك الليلة حين قام من نومه ولم يجد أحدا حوله، وطفق يرمي ببصره إلى كل ما يقدر أن يرى فلا يجد مؤنسا سوى الحيوانات التي عنده، ثم كيف وجد العامل الذي معه نائما في الطوالة.. فدارت على الثغور ابتسامة سرور، ورأى عزيزة تضحك. ثم قالت السيدة التي طالبته من قبل بالقصص: مسكين يا حامد..
وابتدأن جميعا يخرجن من أعماق ذاكرتهن مثل هاته الحادثة مما حصل لهن أو بعض أصحابهن.. وجئن بعد ذلك على مسائل شتى اعتراهن الخوف فيها وانتقلن لحكايات العفاريت: - وعلى رأي المثل «اللي يخاف من العفريت يطلع له» - قال ديك السنة لما الحاجة مسعده نزلت في الليل لقت في صحن الدار خروف قرونه كبار وفضل يكبر يكبر - يعلى لما سد قدامها السكة.. ولما صبحنا الصبح أتبيه خروف أولاد حسنين. - وما فضلوا يقولوا لما الواحد يفوت قدام زربية أولاد أم السعد تطلع له العفاريت، وهم لا عادوا بيطلعوا ولا ينزلوا.
وهكذا جعلن يقصصن تواريخ شتى، وحين ظهر العفريت لعمي جاد حارس النخل في هيئة حمار حصاوي ملجم مبردع فركبه العجوز وغرز مسلة في كتفه ثم زار عليه الأسياد في مصر وطنطا والمنصورة. وانتقلن إلى أشكال أخرى من الجن كالنداهة تنادي الناس بأسمائهم فإذا ذهبوا إليها أخذتهم ونزلت بهم في بئر ساقية مهجورة أو نحوها إلا إذا قرأوا عليها «قل هو الله أحد».
واحتل من بعد ذلك موضوع الحديث عفريت الزار - ذلك العفريت النظك تقدم له أبدع الهدايا من أرق السيدات - وشاركت هنا صاحبة حامد الأخريات في الكلام وهو ساكت كل المدة إلا أنه كن يبدي علامات الاستغراب ما بين حين وآخر.
وتقضى وقت طويل في حديثهن هذا، وأراد حامد أن يتركهن فسلم عليهن وخرج وهو مرتاح البال قانع بأن رأى عزيزة تضحك عن طيب نفس، وتحول نظرها نحوه أحيانا، فإذا ما تقابلت عيونهما خفض هو من نظره واعتقد أنها هي الأخرى يضطرب قلبها وتطوق ثغرها ابتسامة خفية تصحب تلك الرعشة التي تعرونا حين تتقابل نظرتنا مع من نحب أمام ثالث يخيل إلينا أنه عليم بما في نفوسنا دائم الرقابة علينا.
ولكنه لم يعطها الجواب الذي كتب .
أحس به في جيبه بعد خروجه فجلس من جديد يقدر الذي به. أيستطيع أن يعطيها إياه. لكنه حسب أن من العبث محاولة ذلك بنفسه. كيف يمكنه وهي دائما مع من هي معهن ويسلم عليها أمامهن جميعا؟ وإذا كان أكثرهن لا يقرأن فسيثير عمله في نفوسهن شبهات، ويعملن لتعرف ما في هذا المكتوب، ويتساءلن طويلا عما يحويه..
ولكن ليس من السهل كذلك أن يسلمه لأحد يعطيها إياه، إذ يقع بذلك في مثل هذا الذي خاف ويفتضح أمره. يعلم الناس أنه يحب. سبة شر سبة وعار كبير. ... حياة كلها ضيق وهم من أولها إلى آخرها إن لم تحطها بكثير من أحلام وخيالات لا وجود لها في الواقع كانت الحنظل الصديد. وخطوة إلى عالم الحوادث تخرجنا من سعادتنا وتقذف بنا في شقاء لا محيص منه.
مثلي أحرى به أن يعيش في عالم غير الذي يعيش فيه الناس. قضيت كل أيامي في أمان وآمال، وهأنذا أريد أن أحقق أحدها فيسقط في يدي. كم أحببت هاته الفتاة! وكم صاحبني ذكرها أياما طويلة وشهورا! وهأنذا لا أجدها ساعة معي وهي مني بمثابة أختي.
ويل للوجود من مرير كله البؤس والأسى! إذا كانت آمال الشباب ضائعة فهل نكسب من آمال المشيب غير الموت الذي يريحنا! غير ذلك الداء الأخير نرجع معه إلى العدم الذي خرجنا منه: عدم الأبدية الخالد.
ولم الجري وراء هاته الأكاذيب؟! لم ذلك الحزن من غير ما سبب؟ إذا كنا حرمنا التمتع بالحب وملذاته - بذلك الأمل الواسع الكبير - فإن لنا في غيره عزاء. إن لنا في العاملات السافرات يحببننا من كل قلوبهن لكلمة نمن بها عليهن أو قبلة نضعها على ورد خدودهن لنعم العوض عن القصيات عنا، المتحجبات حتى عن حبنا، المتمنعات أن يقلن لواهب قلبه: «إني أحبك».
حقا، أليس في بنت الطبيعة العذبة المفتولة الجسم القوية تنفذ بساذج نظراتها المستعطفة إلى سواد القلب ما ينسينا هاتيك المصونات في خدورهن؟ جهل بجهل، والأولى عركت الأيام وعركتها، ونضارة بدل ذلك الشحوب الذي يصيب ربات الخدور ، وكرم وحلاوة نفس، وإلى جانب ذلك كله العفة الموروثة عن الأجيال السالفة إلى ما قبل التاريخ.
وخيل لحامد في تلك الساعة أن يذهب من غير مهل إلى الغيط ينتظر المقيل ويضحك الفتيات كلهن حتى ينتقم لنفسه من كل المحجبات.
ولكن ما ذنب صاحبته أمامه؟ هل هي التي حجبت نفسها؟ هل رضيت الذلة التي رميت بها مع كل بنات جنسها إلا بعد أن مهدت لها من يوم ميلادها؟ كم هي في نظراتها له ملئت حبا ورقة ذات بهاء يأخذ بنفسه! وإنها لتود كل ما يوده هو من التفرد به، وأن تمسك بيديها يديه وتنظر له طويلا من غير أن يقولا كلمة واحدة. تنظر له تلك النظرة الطويلة التي تحكي كل ما في النفس ولا تصورها الكلمات.
إنها إن تحدق إليه تعله رعدة وتأخذه الرعشة. إنه ذلك الخائن ودها، الناكث عهدها، الذاهب يغازل العاملات ويضع أنفته تحت رحماتهن. هو لا يستحق ذلك الإحساس الشريف يملأ القلب عظمة وعفة وقد دنس قلبه وجسمه.
أحر به بدل أن ينقم على بريئة شريفة أن يعتزل الناس وينقطع في صومعة حتى يكفر عن خطيئته ويغفر الله زلته ويستعيد شرفه المثلوم. وليست كل الفتيات تلك العاملة التي تعطيه نفسها وهي مرتاحة لذلك فرحة به. إن من الناس من لا يزال يعرف كيف يحفظ مقامه ويحافظ عل شرفه.
كل ذلك يعني ماذا؟.. أيعني أن هؤلاء المدعين الكرامة لا يخطئون؟! اللهم إن خطأهم أفظع كثيرا من خطأ غيرهم وأشنع من كل ما يتصور العقل! وإنما هم قد مهروا في المحافظة على الظواهر وإخفاء ما في نفوسهم، وبرعوا في النفاق أمام الله وأمام الناس، بل أمام أنفسهم، ولو كشفت عن قلوبهم لوجدت العار والخزي دفينا في أعماقها. أيتها الأيام الظالمة! أما يكفي إيقاعك الفقير في مخالب عدمه وألمه حتى تظهريه كذلك الشقي المجرم.
إنسانية ظالمة أروج ما فيها الأكاذيب! إن المصائب يجر بعضها بعضا، فإذا نزلت بشخص لم تبق منه إلا ألما وأسى، والناس يزيدونها وطأة ينظرون للمصائب نظرهم للمجرم ، ويتأففون من عمله وهو خادمهم والساعد الذي به يستندون في مجالسهم القديمة حيث يقضون ساعات هنائهم لا يفكرون.
هي هاته الطائفة العاملة، وإليها نهرع جماعة الشبان، في دعتها ووداعتها ما يغنينا عن ذلك التمنع الذي منيت به السيدات حتى عن أشرف الإحساسات. إنهن هاتيك البنات الساذجات لا يزلن الذكر الخالد للطبيعة الطفلة القديمة حين الناس لا يعملون جهدهم لإخفاء ما يريدون، وإن في قلب الشاب صراحة لا تتفق مع ذلك التكتم المخيف الذي يظن جماعة الأغنياء أن فيه متاعا، وعنده إقداما لا يسير مع إحجام الطبقات العالية وتقاعدها.
الشباب أيام الحرية وعدم المسئولية، فإن أضاعها صاحبها صريعا بخرافات أيام العجائز، قاعدا عن أن ينال منها كل ما فيها، ضاع عليه عمره، وقضى على الأرض حياة مكتئبة فاسدة، حياة محملة بهموم من أولها إلى آخرها، حياة خير منها موت عاجل. ... ولكن أنى يجد الشاب هذا المتاع في مصر؟ أنى يحل له أن يجد السعادة؟ إنه لمسكين بائس. هو بين اثنين كلاهما شر: إما أن يبقى في ذلك الموت الذي تأتي به لا شك الحياة الموروثة قواعدها المطلوبة منه ومن كل المسنين، وإما أن يرتمي في أحضان الفضلات الفاسدة التي رميت بها هاته البلاد المسكينة من الغرب السعيد المجرم.
نعم. في الأولى موت لا مفر منه. وهل ذلك التبتل الذي تطالب به كل شيء إلا موت. وفي الثانية فساد وضياع.
ويل لك يا حامد!.. أي قضاء رمى بك تلك الرمية العمياء؟ وما كان خيرا لك إن بقيت سعيدا بحياتك الهادئة الأولى؟! وموت في الصغر وموت في الكبر متساويان.. حقا!.. خير لي لو بقيت في صومعتي ويقدر الوجود أني لم أولد.
غير أن حامدا يحب عزيزة ويود أن ينفرد بها. .. ولم لا يبعث بجوابه ضمن أشياء مما تقدم لها في يدها، وهي لا شك متى وجدته تحرزت أن يعلم به أحد. وما دامت تحبه فستكتب له وتعين له موعدا، ومن بعد ذلك يسهل أن يتقابلا ولا يبقى للحرمان الذي يعيش هو وتعيش هي فيه إلا أثر كلما تقادم عهده قلت غضاضته ثم يصبح يوما لذيذا يحسان لذكراه بسكرة المقابلة الأولى بعده حين كشف كل منهما لصاحبه عما يكنه له قلبه. •••
وفي غده نفذ عزمه، ومع بعض ما يرسل لها وضع جوابه، وأخذ الكل صغير من الخدم عندهم لا يعلم طبعا بشيء مما فيه ووضعه بين يديها. فلما وجدت الورقة أخذتها حتى إذا كانت في بعض خلواتها قرأتها.
كم كان لهذا القراءة عندها من اللذة! وكم وجدت فيها من العذوبة! وأعادت النظر في الجواب مرات، وهي كلما طوته لم تطاوعها نفسها أن تدعه في جيبها فتخرجه وتقرأه من جديد فتهتز نفسها عند آخره، ويأخذ قلبها ذلك الخفقان الذي يصيبنا حين يملأ الطرب جوانحنا كلما جاءت للسطر الأخير.
إنني في انتظار كلمتك، وأنت عليمة بمرارة الانتظار. واقبلي يا عزيزة حبي وإخلاصي.
حامد
لم تأخذ في حياتها جوابا حلوا كهذا الجواب، وهل يصل إليها إلا جوابات أختها وكرتات معايدة من بعض صاحباتها.
يا سلام! هل في الوجود ما يسع فرحها. لا. أبدا، أبدا. ونسيت الناس وكل شيء ولم يبق لها إلا ذلك السرور الذي امتلأ به كل وجودها، ولم يبق لها من أمنية إلا أن ترى حامدا وتقبل ما بين عينيه.
ظلت كذلك أمدا لم يزعجها عنه إلا من ناداها يسألها عن بعض ما في البيت، أو أن تكون مع الستات. وراحت عندهن وهن يحكين حكاياتهن التي لا تنتهي، ويضحكن فتضحك هي الأخرى من كل قلبها تلك الضحكة القانعة الراضية، وقد احتل السرور كل روحها وجسمها وأسلمت له نفسها، وكثيرا ما كانت تتوه في أحلام سعادتها عما يقلنه، وهي مع ذلك تضحك كلما رأتهن يضحكن غير مبقية للغد شيئا.
فلما راجعها هدوءها وسكونها ووجدت نفسها في خلوة من جديد فكرت فيما عسى أن تجيب به حامدا، وأي شيء تكتب له. وعرتها حيرة طويلة لم تستطع معها أن تجد شيئا.
ومن نافذة الغرفة العالية جدا عن الطريق حتى لا يستطيع المارة أن يروا شيئا مما في داخل الدار تبينت شمس العصر تنحدر متمهلة وتجلل بنورها فسيحا من الأرض يفصل ذلك القسم من القرية عن القسم الآخر، وتغطي الأشجار الكبيرة تلعب فروعها مع الهواء، وتبعث على الأرض بظلها الكبير. وعلى مرمى العين تبين المزارع يغطيها الذرة والقطن، وتنساب بينها الطرق المدقوقة العامرة بالفلاحات تلك الساعة ذاهبات للملية وخيالاتهن السوداء تموج في لجة النور بين خضرة الزرع، ويتتابعن في سلك طويل منتظم، وعلى رؤوسهن جرات الفخار إما نائمة في ذهابهن أو هي في جيئتهن معتدلة يلمع الضوء على سطحها المبلول. وهناك من الشباك الثاني يرى الإنسان جماعة المدريين وقد ملأوا الجو بعفارهم وتبنهم حتى سد الفضاء ولم يبق في طوق الناظر أن يتعرف وراءه شيئا. وعزيزة تحدق مبهوتة إلى تلك الموجودات تائهة عنها ولا تعرف ما ستكتب.
ثم أخذت ورقة وقلما تريد أن تحبر بعض كلمات مما في بالها:
أخي حامد:
إنك لا تعلم مبلغ السرور والفرح الذي جاءني به جوابك. وأود لو أراك ونكون وحدنا..
ولكنها رأت ذلك غير كاف للتعبير عن السرور الذي خالجها. هل كلمة بسيطة كهذه تقوم بأداء صورة نفسها زمنا غير قليل. صورتها مملوءة حبورا وطربا وكل وجودها فرح سعيد. وأخيرا كتبت:
أخي حامد
لا أقدر أن أصف لك مبلغ السرور والفرح الذي جاءني به كتابك. تصور أكبر درجاتهما، فكنت أكثر من ذلك سرورا وفرحا. وأود أن أراك ونكون وحدنا. وأنت تعلم ما في ذلك من الصعوبة إذ أنا محاطة دائما بالستات. وإنها كلماتك انتزعتني سويعة من بينهن، ورجعت إلى نفسي فكنت في مجلسي معهن تائهة عنهن بعيدة أفكر في كلماتك المحبوبة. وانتزعتني بذلك من الألم الدائم الذي يثقلني.
هل تظن يا أخي حامد أنا معشر البنات سعيدات في ذلك السجن العتيق؟ إنكم تحسبوننا دائما راضيات، ولكن الله يعلم علقم ذلك الوجود المر الذي نحتمله مرغمين ثم نعود عليه قليلا قليلا كما يعود المريض مرضه وفراشه.
أي فتاة لا تذكر اليوم الأخير من أيام حريتها من غير حسرة إلا جامدة القلب. ألا إنه اليوم العزيز عندي، ما ذكرته إلا وأسفت له. وتلك الساعة الأخيرة من حياتي الحرة الشريفة وأنا أودع أبناء عمي هنا في القرية لأرجع إلى المدينة وأجد قماش حبرتي جاهزا ينتظرني في البيت! ذلك الثوب الأسود ثوب الحزن والأسى.
ولكني أحمد القدر أن بقي لي في الوجود قلب يحس معي ويحبني. وإنا نحن الضعيفات كما يسموننا في حاجة لما نقوى به. ولنا من ذلك الأمل في الله وفي حب المحبين.
اعذرني إن أطلعتك من خبايا نفسي على ما أنت في غنى عنه. وإنما جرأني على ذلك أخوة ما بيننا وحبي لك وإخلاصك لي.
عزيزة
ياعزيزتي
نعم، إنني أريد أن أراك ونكون وحدنا. تلك أحلامي من عام فائت أريد تحقيقها ويمنعني موقفك عن أن أصل إلى شيء من أملي. وها أنت ذي اليوم عليمة بما في صدري من قلب مملوء بحبك، وأود من كل نفسي تلك الساعة التي نكون فيها معا ولا ثالث لنا.
لقد أوقعتني بخطابك في حيرة ما أعظمها. كنت ككل الناس أعتقد هناء المحجبات في دورهن، القاعدات لا يعملن شيئا أو توافه من الأمر لا قيمة لها ويحكين طول نهارهن مثل تلك الأحاديث التي أسمعها أحيانا منهن. وها أنت ذي تقولين لي إنكن إنما تعودنه كما يعود المريض مرضه.
حقا لا بد أن يكون للحساسة من السيدات غصة بسجنها. وإني لآسف معها أكبر الأسف على ظلم حل بها من غير ما سبب. وأسائل نفسي ما هذا القضاء الذي حكم عليهن هذا الحكم القاسي فأرتد على أعقابي غير قادر على جواب أجيب به نفسي.
لتكن إرادة الله ولنعمل معا للوصول لتلك المقابلة التي نرجو، وطوع أمرك قلبي صرفيه كما تشائين.
حامد
أخي حامد
أخذت مكتوبك. يفكر الستات في الخروج بعد الغد مساء مع عمي إلى الغيط، وإن أنت حضرت اليوم عندنا فهن لا شك داعوك، فهل تجعل من صحبتك أنيسا لي، ولعل جنح الليل الأمين يساعدنا ويسعدنا. أبحث عن الوسيلة التي تمكننا من غرضنا، وأحسبني واصلة إليها قريبا. وكل أملي أن السماء التي أعتقدها راضية عما في نفسينا تكون في ذلك نعم المعين.
دعني الساعة في هنائي بالحاضر وحلو كلامك العذب. لا تذكرني الحجاب فذكراه تفسد طعم العيش. ما جلست مرة أفكر إلا عاودتني آلام لا قبل لي بها. لذلك عودت نفسي أن لا أفكر فأقبل قضاء الأيام كما هو من غير ما بحث فيه. إلا أنني أذكر ساعة تقطع فيها قلبى أسى حين استعدت أمامي السبب الذي من أجله يحجبوننا. وقد دخلت خادمتي متهللة فرحة راجعة من الهواء العظيم في المزارع الواسعة وتقول في ابتسامتها: (كم كان حلوا غروب الشمس هاته اللية). ما لي أنا يا بنية وغروب الشمس وشروقها! قد وجد أهلي في نقوش الحيطان ما يكفيني. يا عدالة السماء؛ هل من أجل هؤلاء السذج خلقت غروب الشمس.. لا لنا؟!
لأترك كل هذا الساعة فذكراه تؤلمني وأنا لا أريد. إن سعادتي بك تمنعني أن أفكر في الألم. والحمد لله قد عودنا عيشا وأصبحنا أمامه جمودا!
آه يا حامد! لو تعرف الوحدة التي نشعر بها ونحن بين أهلنا وحيطان دارنا وقلوبنا تتأجج بالنار في صدورنا ونضطر لكتمها وإخمادها حتى تموت، وقد تأكل من وجودنا أعزه وأحلاه!
تعال سريعا، أو فاكتب لي، فكلماتك الدواء لابنة عم إن أنت تركتها تولاها اليأس.
عزيزة
عزيزتي
بالله لا يدخلن لنفسك شيء من الحزن فذلك يحزنني. كوني سعيدة مقدار ما تشائين. وإني لك الدائم العهد ومن أجلك أعمل المحال لتنفيذ ما تريدين. وأجرؤ هاته المرة فأضع قبلة على ثغرك الجميل.
حامد
أحست عزيزة بتلك القبلة اللذيذة وعراها الذهول، وخيل إليها أن حامدا أمامها ممسك بيديه يديها ويقبلها. ما أحلى ذلك الحلم الذي حلمته من قبل مرات لأشخاص محبين لا تعرف لهم أسماء ولا أين هم! ذلك الحلم الذي يشغل كل فتاة في وحدتها حين ترى أنها منفردة مهمومة وتريد أن تضم إلى قلبها ولو من الخيال قلبا يسليه ويعزيه.
ولما فاتت ساعة الظهيرة ذهب حامد إلى حيث صاحبته وسلم. وجلس فأخبره بعض السيدات بفسحتهم التي يريدونها ودعونه أن يكون معهم، فقبل الدعوة متهللا.
خرجوا جميعا بعد الغد، حامد وعمه والسيدات، وسار هو إلى جانب جماعة منهن، وعمه إلى جانب، والكل سكوت أو يهمسون بين شفاههم ببعض الكلمات، ويخبرون عزيزة ببعض مساكن البلد وأصحابها. فلما صاروا بعيدا عن جدران القرية ابتدأوا يتكلمون بحرية! وصغيرة من بينهم تسير مع كل من الجماعتين قليلا. والقمر يخطر في السماء كأنه عروس تجلى، ويرسل وسط هواء الليل الساكن الحلو بلجة النور العظيمة يغرق فيها كل موجود. وعلى مقربة تبين الأشجار تحت ضوئه مخوفة قد مدت ظلها الهائل على الأرض فغطت به قطعة ليست قليلة من شجر القطن تحسبه سكران بلذة هاته الساعة البديعة خائرا تحت سلطان جمالها. والسكة عن جانبيها المصرفان تذهب ممتدة مع البصر حتى يقصر دونها.
ثم افترقوا جماعات فسار عمه مع سيدتين من أخواته، وسيدتان أخريان سارتا وحدهما، وحامد وعزيزة وخالته والبنت الصغيرة معا. أما عمه فجعل يرى من معه حدود الغيطان وأسماء الملاك والمستأجرين منه. وهما فرحتان جدا كلما رأت عيناهما زروع أخيهما وإيجاراته. أما السيدتان الأخريان فكانتا تتحدثان في حديث طويل: - قال وأم السعد جايه النهاردة تقول إن جوزها كان بيقاتل حسنين أبو مخيمر، قام حسنين ضربه لما طفحه الدم، وعايز حبة مورد علشان يطيب. ياخويه الناس دول حايفضله عبط لإمته! وهو المورد بيطيب الجروح؟ - والنبي يا زمزم يا أختي الناس دول مساكين. ربنا ما يفرجش عليهم بحاجة يكلوها وإلا يشربوها إلا لما يطفحوها دم صبيب لقدام. بالك يا أم أحمد اللي زي ده لو ما كنش ينضرب عمره ما يعرف المورد ده يتاكل والا ينشرب!
ولما رأت خالة حامد أنهم جميعا سكوت انضمت إلى الست أم أحمد وصاحبتها وسألتهما: - مين منكم سمع صريخ مراة حسنين أبو مخيمر الليلة. - حسنين أبو مخيمر! ليه؟ - يوه؟ دا مسك مراته فضل يضرب فيها هيه هيه لما قال بس.. قال يا ستي متقاتل ويا جوز أم السعد وبيقول (والله إلا هلكته الكلب.. بس إياك عاد هو يفتح حنكه) هي ردت عليه وقالت: (ليه يا شيخ. الطب أحسن) هو سمع كده وعفاريته طلعت (وأنت رخره يا بنت ال.. جايه وياهم) وشال ايده في الهوا وراح سافخها كف نزلت في الأرض روحها سارقة. وهو من شطارته ينط في بطنها بالرجل ويقول لها (قومي يا بنت ال.. بلا مكر) قول وبعدين أبصر مين دخل ورشوا على وشها ميه لما صحيت مبهدلة مسكينة بصت له وقالت (طيب يا حسنين برضه معلهش كتر خيرك) ويا عيني خذتها نفسها راحت معيطة. صاحبنا إلا يشيل ايده في الهوا من تاني ويقول لها (برضه بتعيطي يا مره يالايده) وراح سافخها بالكف ومن الناحية التانية وكمان كف ما لحقوا الناس يحوشوا إلا بعد هي ما دبت بالصوت وراحت مرمية خالصة زي اللى حاتموت، وبعدين خدت بنتها وراحت على دار أبوها. ولازم حايقدم بلاغ في حق الراجل أبو مخيمر. يبقى مقدم بلاغين في حقه في ليلة. - أعوذ بالله. يا اخواتي الناس دول وحوش. لاه. إخص. •••
وتخلص حامد من الفتاة الصغيرة التي كانت معهما وصار وحده إلى جانب عزيزة، ولكن ماذا عساه يفعل؟ إنه لا يدري ما يقول، وكل ما قدر عليه أن أخذ في يده يدها وقد علته حيرة شديدة، أما الفتاة فلم تفهم لتلك الوحدة من طعم، وودت لو رجع إليها من يغيثها منها. أليسا هما اللذين طلبا ذلك، وتفاهما عليه؟ فهل يتركان المصادفة تمر وهما حانقان عليها.
ولكنهما معذوران. إنهما لم يحبا من قبل إلا في الأحلام، ولا عرفا تلك النظرات التي بين المحبين إلا أن يكونا قرآ عنها في بعض الروايات التي تترجم لهما. وإنما يعرفان الحياة الباردة، حياة الجماعة حيث ينقضي الوقت في الهواء، أو حياة الوحدة حياة الخيال حياة الشعر. خير حياة بعد حياة الحب.
بالرغم من ذلك الإحساس في نفوسهما تريثا في مشيتهما حتى بعدا عن الجماعة. وما كان حامد ليترك الوقت يمر وأن يكون التبلد أو الجمود هو كل ما يوحي به الليل الجميل وهواؤه العذب منفردا إلى جانب محبوبته ممسكا يدها ، فرفع إلى فمه اليد العزيزة ووضع عليها قبلة هادئة ساكنة وقال: إحنا يا عزيزة مش حانعرف نكلم بعض.
فأطرقت هي إلى الأرض لا تحير جوابا، وكأنها تفتش في كل وجودها عن داعية ذلك الانفراد الذي يبغيانه من زمان فلا ترى له سببا، ثم نادى بهم عمه فلحقه الباقون وخفف عنها حين جلسوا جميعا على جسر الترعة مسطوحا تحت النور، وبينه وبين الماء الذي ينساب وتتلوى على سطحه موجاته - لامعا عليها عاشق السماوات ببديع صورته - يقوم الحشيش الأخضر نائما بعضه على بعض في جوف الليل ومستحما بالماء تحته والنور من فوقه. جلسوا يتحادثون وفردوا أمامهم بعض فاكهة وحلوى مما يأكلون، والكون من حولهم ساكن أخرس لا صوت فيه ولا رنين، وكل شيء ممتع بتلك الساعة الهامدة ران بعينيه لعين القمر.
قضوا زمنهم في معروف القول، ثم قاموا والسيدات آسفات على الساعات اللذيذة سريعة المر يرين فيها تحت جناح الليل الموجودات التي لا يعرفن ويسرن بين المزروعات الناضرة لحظات لتضمهن الجدران أشهرا. وهكذا رجعوا إلى منازلهم والوقت أمسى متأخرا عن عادتهن.
فلما كان الصباح، وقد قامت عزيزة من مضجعها قضت فيه ليلة ساكنة، ونوما هادئا جلست تستعيد لنفسها الليلة الماضية وتلك الساعة التي انفرد بها حامد، وقبلته التي وضعها على يدها لا على ثغرها كما وعد في آخر جواباته. ثم ذلك الذهول الذي كان يصيبها حتى عدت في نفاد تلك اللحظة نجاة من ورطة كبيرة. وبعد أن بقيت مدة ليست بالقصيرة تتأمل في ذلك كتبت لحامد:
أخي حامد
أبعد ليلة الأمس لا تزال تحبني؟ إن قلبي يوحي إلي بمقدار ما بعث به لنفسك سكوتي إلى حد التألم ساعة انفرادنا. وأحس الساعة أني لا أستحق حبك. ما لنا جماعة الدفينات وللحب! إنما نحن في ظلام نتلذذ منه بخيالات لا وجود لها.. وأنا الأخرى لا أريد أن يبقى لي من ذكر عندك. كلا! لا أستطيع أن أحتمل ذلك وأحملك به. إنها لخطيئة أن تحب من ذهب بها أهلوها للدير، ولسنا أقل تبتلا من هاتيك الراهبات وإن كنا أقل عبادة.
انسني يا حامد إلى الأبد، إنه جنون قام برأسي فكتبت لك في خطاباتي الأولى ما كتبت عن غير قصد من غير أن أفهم ما كنت أقول. لكم جمال الوجود، لكم السماء والزرع والماء والليل والقمر، فاحيوا ممتعين بهاته الأشياء وذرونا في صوامعنا وسجوننا.
إني يا أخي بحياتي قانعة راضية أو مضطرة لأن أكون.. فدعني دعني.. لست للحب وليس الحب لي.
إليك يا الله أضرع. أنت وحدك الذي تقبل التوبة من التائب. أنت سند الضعيف، وأنا في حاجة اليوم إلى سندك، فاملأ قلبي من حبك أنت وحدك.
ما هذا؟ أي صوت أسمع؟ إن للشيطان الذي وسوس لحواء لسلطانا على نفس بناتها وإنما يحتمين منه في كنف الرجال.. يالغواية الشيطان! كلا يا رب كلا. إنني لا أريد سواك.
ذرني يا حامد أبكي شبابي لعل ذلك يطهرني عند ربي. إن لنا على صغرنا خطيئات ما أكبرها! فاللهم غفرانك وعفوك.
انسني يا حامد.. انسني.
أختك
عزيزة
عزيزتي
ما هذا الذي أقرأ؟ لم كل هذا الأسى؟ ما كنت أحسب أن سيبلغ بك الأمر إلى هذا الحد وأن تعدي في ليلة الأمس داعية لشيء ما. إنما كان سكوتنا من أثر سحر الجمال المحيط بنا يذكي في نفوسنا حبها فلا نقدر على شيء غير السكوت.
تطلبين إلي محالا يا عزيزة، وأنا على المحال غير قدير. أيوم أرى أحلامي تتحقق تريدين أنت أن تقضميها قضما؟ كلا، بل لننس كل شيء يقف في طريق قلبينا.
الحب أقوى مما كنت أتصور. ليس هو تلك اللذة نتذوقها إن شئنا ونصدف عنها حين نريد، ولكنه سعادة تحتل كل وجودنا فنكون معها ضعيفين لا نقدر من أمرنا على شيء.
إن شئت أنت نسياني فما أنا لأنساك ما بقيت. أنت عندي كل الوجود، ومحال أن ينسى الإنسان كل الوجود.
وكل قبلاتي الحارة على خدك وصدغك، وآمل مغفرتك خطأ الزمان، فأكون معه لك من الشاكرين.
حامد
وبعد أسابيع وصل إلى حامد من مدينة.. حيث مقام عزيزة بعد سفرها هذا الكتاب .
أخي حامد
وداعي الأخير.. يقولون إنهم يحضرون في زواجي ب ... وبالرغم من أني لا أريد هذا الزواج وعن ذكري الدائم لك فأنا موقنة أن إرادتهم ستنفذ رضيت أنا أم غضبت. كنت بالأمس أسكب الدمع على شبابي الحاضر أريد أن أهبه لله، واليوم أسكبه على شبابي الذاهب تتخطفه يد الشيطان.
عزيزة
نوته
كل هذه الخطابات منقولة من مذكرات حامد.
6 - لما تشوفي أختك سلمي لي عليها.
هذه هي الكلمة التي قالها حامد لأخت زينب ساعة أراد أن يرجع إلى البلد. والبنت بكل أمانة أدت الرسالة لأول مرة رأت فيها أختها بعد ذلك.
ما أبعد عهد زينب بحامد الساعة! وما كان أحلى أيامها معه! تذكرت وهي في ألمها وأسفها من يوم خاطبها زوجها بلهجة المستعطف لها أياما ماضية قضتها في لذة وهناء إلى جانب أحسن الناس وأحبهم إليها ومن تهبه قلبها راضية لو لم يكن ذلك القلب البسيط الساذج لا يستحق أن يهدى لحامد.
خرجت ذات يوم كعادتها ذاهبة بعشاء حسن الذي يسهر هاته الأيام عند القطن وهي أخلى ما تكون بالا، وكأن الهموم والآلام والذكر القديم إذا تراكم كله ترك الفؤاد فارغا، وراحت والشمس في أول توردها والهواء في سكونه يتهادى وسط فضاء الجو والطير تصفر في السماوات. فلما ابتدأ الوقت يمسي والليل يحل محل النهار أخذت بعضها وقامت راجعة إلى البلد.
من يوم أن تسلم حامد رسالة عزيزة تخبره فيها بشأن زواجها وأنها لن تقدر من الأمر على شيء، تولاه الحزن أولا، ولكن ما أسرع ما أحس بريح النسيان تهب فتمحو من قلبه كل أثر! من أيام قريبة كان المولع بها يكتب إليها آيات الود ورسائل الحب. وها هو ذا يتركها من خياله كل الترك دون تشبث ولا انتظار ومن غير ما ألم. ولقد وجد هو نفسه من الغرابة في ذلك ما دهش له. لكن دهشته لم تكن أعلق بنفسه من حزنه. ولعل الأحزان الفائقة تثيرها حادثة من الحوادث ويكون لها من الأثر في ماضينا ما يجعلنا نظنها حقا، تندثر سريعا وينطفئ وهجها متى انتهت تلك الحادثة. كذلك لعل حب حامد الذي كاد يتلاشى أوائل الربيع الماضي ثم بعثه حضور عزيزة من موته رجع إلى أحضان ذلك الموت من بعد سفرها.
بينما حامد راجع من المزرعة وبيده قيثارة يقلب عليها أصابعه أحيانا ويدعها ليسلم نفسه لأحلامه أحيانا أخرى لحق زينب وهي ذاهبة إلى البلد من بعد أن أودعت عشاء زوجها عنده. فلما كان إلى جانبها التفت وعرفها.. إنه من زمان بعيد لم يرها، من نحو سنة إلا قليلا. كانت ذلك اليوم في ملابس البنات وغدفتها تترك للعيون اجتلاء محياها الجميل. أما الآن فهي في ذلك الشكل الذي يحبه حامد، والذي يعطي سذاجة البنت الريفية حلاوة لا تقدر. هي في ثياب أوسع، وبرقعها المرفوع هذه الساعة فوق رأسها وشاشها الطويل كل ذلك يعطيها مهابة يداخلها شيء من الحزن. فلما تميزها مد يده ليضعها في يدها وقال: أهلا. سالخير يا زينب. إزيك. - ازيك أنت. سلمات إن شالله تسلم. - مش مبسوطة كده. إزاي الحال؟ - حال لبن. كتر خيرك.
يا للغرابة! ما هذه الأجوبة الساكتة المسكتة. ما عهده بزينب كذلك تتجنب حديثه. ولكن لعل في الأمر شيئا.
وكلما تقدما في سيرهما تقضت باقيات النهار والبدر مستدير قد زاد لمعه في السماء، وإن كان الجو المشغول بجنود النور والليل لا يدع لأشعته أن تلامس الأرض. ولبست الأشجار حلتها السوداء فوق ورقها الأخضر، وتدثرت الأشياء بلباسها الأمين، والسائران قد سكتا لا يقولان كلمة ولا ينبسان بحرف، والهواء يحيط بهما عذبا سائغا.
ثم من قلب أحاط به الهم وفاض عنه أرسلت زينب بتنهداتها في الهواء لم يصبر معها حامد أن يسألها عن شأنها: إيه؟.. مالك يا زينب؟ - مفيش!
كيف! وهل من الممكن أن يكون ذلك التنهد الصادر عن قلب محزون ونفس كليمة دليل لا شيء؟!! أو أنه الهم يعرونا أحيانا لغير سبب نعلمه فنحس في قرارة نفوسنا بالألم ويشعر وجودنا كله كأن به ما ينغصه ويفسد عليه لذته! حقا لقد يكون في جوار حامد لزينب ما جعلها تأسى لغير شيء ... وإذن ألا يكون من واجبه أن يذرها إلى وحدتها حتى يراجعها سكونها؟
والليل يتقدم ونور القمر يتجلى رويدا رويدا على السكة والكون يزيد سكونا وصمتا.
وصلا إلى ترعة في الطريق امتدت فوقها قنطرة، وعلى جانب القنطرة مصلى محاط بالطوف، فسألها إن كانت تنتظره حتى يغسل يديه مما عليهما من أثر الغبار، وأن تريح نفسها قليلا فتجلس حتى ينتهي.. فكانت أطوع له من يده، وبقيت ثابتة تنظر إلى السماء وتحدد نظراتها نحو القمر، كأنما تريد أن تفهم ما يكنه ذلك الساهر من الآباد البعيدة، وما ينم عنه ذلك الوجه الشاحب، وراحت بخيالها في العالم غير المحدود حيث يظهر كل شيء أمامنا تحيط به سحب شفافة نلهو بها عما تحويه. وما كانت لتفهم أكثر من أي إنسان معنى ما يجول بنفسها، ولا لتعرف غاية خيالاتها، بل هي تجول في عالم واسع تسري فيه أشباح لا تميزها ولا تسمع فيه حسيسا.
وانتهى حامد من عمله، وقام فوجد زينب في تيهائها تضرب في بيداء أحلامها، فمن غير حركة تنبهها وببطء شديد جلس إلى جانبها، ولف ذراعه حول خصرها، ووضع قبلة على خدها، ثم ضمها إليه وسألها من جديد: أنت مالك يا زينب؟
ولكن زينب اليوم ليست زينب القديمة. ليست هي تلك الطفلة الحلوة تحس في كل شيء بلذة الحياة، وتبعث لمن يسألها هذا السؤال نظرات العطف والثقة. ليست الفتاة العذراء تدفع من يضمها بيديها لترجع إليه وتعانقه من جديد. ليست البكر الحيية ناعسة الطرف، ثم المعطية نفسها لمحب يريد أن تكون معه في عالم سعيد غير عالمنا!.. ولكنها الزوج المحملة بالمسئولية الناظرة إلى الحياة بعين اليأس المتألم.. هي المرأة المحسة بواجبها نحو رجل ائتمنها..
تخلصت من يده، وبنظرة باردة دعته أن يسيرا معا في طريقهما، فالوقت ممس وهي لا تحب كذلك أن يراهما في مكانهما أحد.
فتنهد حامد وقال: انت يا زينب نسيتيني ونسيت أيامنا اللي فاتت؟ - لا، ما نسيتش. لكن أنا اتجوزت. هه. الأيام اللي فاتت فاتت! يالله نروح.
ثم تنهدت من أعماق قلبها تنهدا طويلا، وقامت، فسارا معا حتى افترقا عند مدخل القرية، وقد لزما السكوت طول الطريق.
فلما وجدت نفسها منفردة عاودها الأسف على الأيام الماضية، أيام كانت بنتا لا تعرف المسئولية التي تنوء بحملها. أيام كانت ترى في ابتسامة حامد سعادة لا تعادلها سعادة، وتحس كأنه يحمل لها معه هناء يملأ به قلبها كلما قدم عليها آتيا من البلد.
كذلك ألا تقضي عليها واجبات الزوجية ألا تكلم إبراهيم إلا كما تكلم كل أجنبي عنها؟ ألا تضطرها أن تنساه من قلبها؟ وألا تجعل لوجوده من أثر في حياتها؟ ولكن أنى لها ذلك وما ذكرته إلا أخذها الشوق إلى عوالم تتوه فيها بين آمال وآلام؟!.. ما كانت تحسب الزواج من قبل فظيعا إلى هذا الحد لمن يريد أن يقوم بواجبه.
والبدر في السماء يبعث من نافذة الغرفة اللجة الفضية تنطرح على الحصيرة، وزينب محدقة إليه وهو ران لها، عراه الشحوب ويصب من رفعته نظرته الرقيقة العذبة إلى قلب الوالهة المسكينة.
فى الرداء الكبير من شعاع القمر التفت زينب رائحة في عالم أحلامها وخيالاتها سارحة بعيدا عن كوننا وضجته، وقد جاءت على ثغرها ابتسامة كأنها وجدت إبراهيم في ذلك الكون الآخر ينتظرها.
ورجع حامد إلى الدار فكان أول ما وقع عليه نظره كتاب عزيزة الأخير مفتتحا بوداعها، فوقف يحدق إلى حروفه مبهوتا ويكرر قراءته كأن به من مكنون المعنى ما لا ينم عنه لفظه، وبعد أن قلب أوراقه مرارا وضعه مكانه، ثم ارتمى على مقعده، وأخذ كتابا جعل ينظر في كل صفحة من صفحاته هنيهة ثم يتعداها إلى ما بعدها. وأخيرا تركه ووقف عند الشارع ينظر إلى المحيطات ويطيل التحديق وسط ظلمة الليل كأنما يناجي الجمادات مما حوله. ولما لم يطق الصبر خرج من جديد، فوجد والده وإخوته ينتظرونه، فأخذ مقعده بينهم وتناول طعامه معهم.
انتهت سهرتهم حوالي الساعة الحادية عشرة على عادتهم بعد أن قرأوا الجرائد وناقشوا ما فيها، فدخل كل إلى غرفة نومه، وراح إلى سريره إلا حامد فقد أمسك من جديد بخطاب عزيزة يحدق إليه، وعليه علامات الأسى والأسف، ويطيل النظر لسطوره من غير أن يقرأ منها كلمة، ثم يرفع رأسه نحو القمر، ويضم المكتوب إلى صدره وعينه كلها الاستعطاف، كأن للقمر من السلطان ما يمكنه من أمله وينيله غرضه، ثم وضع الكتاب أمامه وألقى برأسه بين يديه جالسا القرفصاء، ووسط ذلك السكوت الأخرس الذي حوله تحدرت من مآقيه دمعة سقطت على ثيابه.
هذه الورقة آخر العهد بعزيزة والليلة آخر العهد بزينب.
كل شيء انتهى في الوجود. كل سعادة غادرت حامد. كل خير يفر من أمامه. مصادفة منحوسة وبخت مائل!
لم يا رب كل هذا؟ أي ذنب جناه المسكين حتى يقضي عليه هذا القضاء القاسي؟ إنه رضي بقليل، وقنع أن تكون محبوبته فتاة ساذجة كل عملها القراءة والكتابة وكل خبرتها الصبر على الويلات والخضوع للقوة، وأعجب بجمال خلقته أمام عينه فتاه في عبادته.
ورفع حامد رأسه وأخذ في يده الورقة مرة أخرى، وتنهد من أعماق نفسه، ثم قام إلى سريره وأطفأ النور، وجعل يعالج النوم، ولكن هيهات أن يطاوع النوم محزونا. إن هذا السلطان القادر إله السكون والهجود، والرب العدل تتساوى أمامه حظوظ كل من دخل في ملكه يضعف دون الفؤاد المشتت المهموم ولا يصل منه ولا إلى عزائه.
في هذه الغرفة السوداء ظلام كالقار، كل شيء صامت ساكن، وقلب حامد خفاق وفؤاده مضطرب، كل شيء ممتع تحت ستار الحلكة ونفس حامد معذبة مسكينة. وكلما تقدم الوقت وزاد الوجود هموما زاد حامد قلقا وكبر همه ولم يستطع إغماض عينيه. فلما يئس من أن ينام قام ففتح نافذة الغرفة، فاستند إلى حافتها، وبقي من جديد يحدق إلى النجوم اللامعة في ثوب الليل، وقد اختفى القمر وراء المنازل القاصية وهو من حين لحين يمسك ساعته بيده ليرى الوقت فيها، فعلم أن قد بقي على الفجر ساعتان.
ساعتان في مثل هذه الوحدة طويلتان. والملال الذي يصحب الضيق قد أخذ بخناقه، فماذا عساه يفعل؟ أضاء المصباح وجعل يروح ويجيء وسط المكان الضيق فلم يجده ذلك نفعا، فهو لا يفكر في شيء، ولكنه مثقل بهموم لا قبل له بها، راح إلى سريره ثانية فلم يسعده الحظ هاته المرة، ولا بمقدار ما أسعده في المرة الأولى، أراد أن يقرأ فلم تطاوعه نفسه أن يفتح كتابا مما أمامه. أخيرا فتح بابه وخرج، ولم يسر إلا قليلا حتى رأى الخفراء على مصطبتهم ممددين قد وضع كل بندقيته تحت رأسه وتغطى بدفيته أو ببشته، وأحدهم جالسا مستندا على نبوت قد ركزه، فيممهم منتظرا من يسأله: «مين؟» حتى يجيبه، ولكنهم كانوا جميعا في لجة القمر غرقى ذهابا في نومهم، وهذا الجالس يحسبه الإنسان يقظا وهو أسعدهم بأحلامه وأهنؤهم نعاسا.
جلس حامد فيما بينهم وأخذ مكانه، فشعر به رئيسهم وقام مذعورا خيفة أن يكون بعض رجال الدورية، فلما لم يتميز له اللبس العسكري هدأ باله، وفتح عيونه فعرفه ثم نادى: قم يا محمد انت وفرج دوروا في البلد.
فقام فرج مستندا على نبوته، وسار وصاحبه الثقيل النوم. وقام حامد يدور البلد معهما.
تقدموا في سيرهم إلى جانب المباني، وقد مدت ظلها وإن بقيت سطوحها يلمع على أحطابها الضوء وهم سكوت، فلما وصلوا إلى حوشة نخل تفرق الخفيران عن صاحبهما قائلين: يا لله نشت النخيل.. لازم موقع طيب دلوقت.
فتبعهما حامد وراح هو الآخر يبحث عن البلح الساقط على الأرض، فلم يكد يرى شيئا، والخفيران انتهيا من مهمتهما فرجعا إليه وأعطياه مما جمعا؛ وسار ثلاثتهم يأكلون ويتحدثون بصوت خافت، ويحكون عن الخفارة أيام الشتاء فرحين، يوقدون النار أمامهم، وينسل واحد إلى بعض المزارع أو الحلل القريبة فيستل منها كيزان الذرة يشوونها ويبيتون في مثل هذا وليس عليهم رقيب.
ووصلوا إلى مقثأة، فاتفق الخفيران أن يذهبا إليها فإن كان عندها أحد سألاه منها، وإلا أخذا (زرين) من جنب السكة. ووجدا عندها من أجاب طلبهما (علشان خاطر سي حامد) الذي شرفهم في مثل هذه الساعة من الليل، وهكذا بقوا عنده نحو نصف ساعة ثم رجعوا إلى دورتهم فأكملوها، وكانوا عند المصطبة، والنهار يعبث بظلمة الأفق، والفجر مؤذن أن يلوح، وتركهم حامد إلى غرفته وإلى سريره، وراح في نوم بقي فيه إلى ما قبل الظهر.
استيقظ وقام إلى مكتبه فرأى مرة أخرى كتاب عزيزة.
ألم ينس هاته الفتاة مرات ثم يأتي الدهر يعاكسه بها؟ وها قد أصبح واجبا ألا يبقي لها في باله من ذكر، ومع ذلك يبعث كتابها لنفسه ألما، ويوقظ همومه وأحزانه! ما باله بها متعلقا في حين كل جديد من الفتيات ينافسها في نفسه مكانتها؟ ألأنهم كانوا يقولون له وهو صغير: إنه سيتزوجها، يبقى إلى هذه السن وفي رأسه مثل ذلك الجنون، ويحفظ لها عهدا وموثقا؟ كم من صغيرات كن معه أيام طفولته ومنهن الجميلات! آه.. ولكنهن فلاحات.. «وداعي الأخير يا حامد».. ووداعي الأخير ياعزيزة.
وزينب هي الأخرى تركت حامد. •••
جلس حامد مع أبيه وإخوته لطعام الغداء، وظلوا من بعده، يتحادثون حتى ساعة الأصيل، ثم تفرقوا، فقام منهم من كان قاصدا المزارع، وآخرون راحوا يلعبون النرد. وحامد لم ير وسيلة يفرج بها همومه إلا أن يركب هو أيضا إلى الغيط على أن يكون وحده، فأمر بحصان أسرج له ثم ركبه وسار.
وصل إلى مزرعة بعيدة استغرق ذهابه إليها ساعة من الزمن، وقد ابتدأت الشمس تضعف، والهواء العذب يحرك القلوب ويبعث إلى الموجودات حياة ونشاطا، والطرق الضيقة تنساب بين الأقطان ثم تضيق قريبا أمام العين حتى ليخيل للناظر أن تلك اللجة الخضراء لا حدود لها مطلوسة بالشجر ليس فيها فرجة أو بينها فاصل. ومن السماء الصافية يهبط سكون هائل يتوج الوجود العظيم.
نزل من فوق جواده، ثم سار أمامه، فتبعه الجواد مطيعا وديعا، وبخطى بطيئة تمشى بين الأقطان ينظر إلى ثمرها وهو على وشك أن ينضج، ثم لم تك إلا لحظات حتى نسي القطن ولوزاته ووسواسه الأصفر الجميل، وذهب في أحلام متشعبة.
والشمس بعيدة تهبط مسرعة علتها حمرة الغروب، وقد توجت السماء والأرض بذهبها، وبعثت للسائر قبلة الوداع. وحامد وحيد على هذا المستوى العظيم من الوجود تحده الآفاق ابتدأ يقربها الظلام منه ، وهو مشتت يفكر فيما لا يعرف: في أشياء وأشخاص وأشباح. في عوالم كثيرة فيها حركات وسكون، في موجودات لا يتصور ما هي، ولا يفهم مما فيها قليلا ولا كثيرا، وهو يسير والحيوان يتبعه يشد لجامه أحيانا، ويدق الأرض برجله أحيانا. فلما أفاق حامد لما حوله ورأى مقدم الليل استوى على ظهر الجواد من جديد واستحثه مرة، ثم ترك له العنان.
ولم يبق للنهار من أثر، والجو قطب جبينه، والسماء اختبأت تحت حجاب الليل المقدم، والبدر في وسطها يبعث بنظراته الوالهة إلى العالم التائه في تلك الساعة حين لا نهار ولا ليل ولا نور ولا ظلمة ولا شيء يمكن تمييزه. نظرات تسيل هياما وعشقا لولا قسوة قلب الكون لسال من أجلها أسى وحزنا.
ذهب حامد في أحلامه، ومد في بساطها ما يحيط به من الهدوء وما يبعث الهواء العذب إلى قلبه، وراح بنفسه سابحا على موجات النسيم إلى عالم غير محدود حيث نضيع بكلنا ولا نمسك منه بيدنا فتيلا.
هكذا قضى طريقه في أحلامه، حتى إذا ما وصل وقابله هواء القرية بما فيه من الخمول والكسل، وما يشغله من ضجة الناس، لم يلبث فيه إلا قليلا حتى تناول عشاءه، ثم انقلب راجعا إلى مزرعة القطن ذات طنبور البهائم، وفي يده قيثارته يتسلى بها إذا وجد الضيق إلى نفسه سبيلا.
وصل إليها فوجد عندها واحدا من فلاحيهم، وإلى جانبه صغير من أبناء المستأجرين الساهرين هم أيضا لسقي أقطانهم في الجانب الثاني من الترعة، وما لبث حامد أن جلس حتى قام هذا الصغير ميمما مزرعته وعلى كتفه بشته يتقي به برد الليل.
لكن فلاحهم متعهد بتابوت آخر غير الطنبور قريب منهم يسمع زنه، قد استعانوا به هذا الدور حتى ينتهوا من سقي القطن قبل البطالة ولا يضطر المالك لمرضاة المهندس بعد احتمال متاعبه، فمد حامد بساطا ينام فوقه حين يحوجه النوم، وسمح للفلاح أن يرقب التابوت وينظر في ترتيب الماء ويترك له الطنبور، وسيناديه ساعة يريد أن ينام.
والمزرعة كلها تموج بنور القمر ، والكون ساكن إلا من أحلام الليل. زن التوابيت وما يحيط بها من الحركة.
جلس حامد منفردا يحدق إلى ما حوله وما يحيط به، ينظر إلى الماء يسيل هادئا في الغدير، والنسيم العذب يحمله إلى خيالات حلوة، ويلبس كل شيء من الموجودات عنده شيئا من البهاء والجمال، والبدر في السماء يهديه تحيته، ولكن حامدا عنه لاه لا يلتفت، والفضاء أمامه هائل عظيم.
ثم بعد ساعة قضاها مطرقا تعاوده أحلامه رفع رأسه إلى البدر الذي لا يزال في عليائه محدقا إليه، فرنا له حامد طويلا يناجيه ويستعطفه ويسائله، والكوكب العاشق لا ينفك يرسل بنظراته الهائمة التي تبيت الخليقة تحتها والهة تشكو الجوى والوجد.
إيه ملك الليل وزينة السماء! يا مسعد الساهر يقلب في دجى الليل أحلامه، ويرجو في هدأة العوالم ما يسكن شجنه فلا يزداد إلا ألما. إيه يا ساهر الآباد تبسم للمحبين وتبعث من نظراتك العاشقة ما يزيدهم صبابة ووجدا، ومن قبلاتك الحلوة ما ينسيهم الكون هياما ولوعة. إيه يا صديق المنفرد وعزاء الوحيد المستوحش. لم أنت هكذا شاحب وسط ملكك العظيم! أضناك السهر؟ أم كدك الوجود والهوى؟
يا بدر.. يا بدر.. ما أحلى طلعتك! ما أحبك لنفسي! يا معشوقي العظيم!.. كم رنوت بعينك إلى عشاق عبدوك في وحدتك، وبعثت لهم من خدرك الرفيع قبلات وصلك فباتوا بلذتها سكارى! كم من زروع باتت في لجتك بليل هنيء هادئ، تميل أحيانا مع النسيم فتتضام وتتعانق وأنت عليها رقيب، والماء في الغدير ينساب إلى جانبها ساه عنها بنعمتك التي أسديتها إياه، واللجين مددته على بساطه.
يا بدر..
ها هم أولاء الأغنياء في نومهم، والفقراء في عملهم، وأنا وأنت وحدنا نتناجى وأستمع وحيك. وها أنت ذا مطلع على قلب يحيط به اليأس من كل جانب، ولم يبق في الوجود من يملؤه ويسعده. يا شفيع المحبين، هل لك في الشفاعة لبائس شقي؟!
وأنت يا ليل، بستارك أستتر. في صمتك أعلن وجدي وشكواي فلا يسمعني سميع. هجرني الناس فهل لي في الأشياء من صديق؟!
خفف عنك يا حامد، فالخطب أهون من أن يبلغ بك اليأس.. إن فيما حولك من الجماد ما يعزي عن بني آدم، وهاته الصوامت أحنى من قلوب الناس القاسية.
بقي حامد بعد ذلك محدقا إلى السماء، ثم أمسك بيده قيثارته، وفي نغمة محزونة - انصبت في جوف الليل المهول - قلب عليها أصابعه، ونفسه وكل وجوده يسيل مع الصوت ويهتز بطيئا بطيئا. وعلى هذا النحو قضى ساعة، كل انتباهه تائه هناك في غيابات الوجود المختفي تحت القمر حيث ترن أصداء نغمته أو هو يستعيد في صفيره بعض الأغاني والمواويل يوقعها وهو رائح بكله في تلك الساعة ناسيا كل ما سواها..وأخيرا وضع قيثارته إلى جانبه وحول نظره إلى الماء جنبه يقدر في ما تحت طيات موجاته، أو هو يفكر في تلك القطيعة بينه وبين عزيزة وزينب معا، وما أرادها منهم أحد.
كان هناك في الجهة الثانية، مستندا إلى جذع شجرة، العامل الذي مع حامد، وقد بقي نائما من ساعة ابتدأ حامد تسليمه. فلما انتهى منه وسكت كل شيء، صادف ذلك وقوف الثور في التابوت، فانتبه الولد شأن أكثر الناس يبقون في طمأنينتهم وهدوئهم ما دامت المحيطات بهم على ما هي عليه، فإذا ما تغير شيء من شأنها انزعجوا مبهوتين، ولو كان ذلك التغير في صالحهم. انتبه فقام فذهب إلى جهة الطنبور فوجده دائرا، ووجد حامدا على مقربة منه جالسا، فرجع أدراجه من غير أن يزعج السارح في غيابات أحلامه.
والقمر قد ابتدأ ينحدر نحو مغيبه بمقترب الفجر.
لما طال بحامد الجلوس قام فجلس فوق الطنبور، ومن جديد جعل يقلب على قيثارته أصابعه. ومن جديد رجع إلى سكوته، ثم أسند رأسه إلى عمود الطنبور بجانبه، وفي سويعة مملوءة بالأحلام ذهب إلى سكون النوم.
تقضت بعد ذلك أيام. ففي مثل هذا اليوم من الأسبوع الذي بعده بينا حامد داخل في المضيفة إلى غرفة الكتابة إذا الكاتب مهتم يكتب وواحد يملي عليه، ولما سأله عن ذلك، عرف أنه كشف أنفار القرعة. فأخذه في يده وتصفحه. فوجد عليه اسم إبراهيم، ولكنه منفصل بعض الشيء عن أسماء الآخرين، فاستفهم عن سبب ذلك، فعلم أن إبراهيم ذاهب للقبول واللبس.
إذن بعد أيام سيترك إبراهيم البلد إلى حيث لا يعلم. إلى العاصمة أولا، ثم من بعد ذلك إلى مجاهل السودان وخط الاستواء.
جلس حامد في المساء مع الساهرين ينتظرون الجرائد، فإذا شيخ البلد جالس من بينهم يحكي عن أنفار القرعة. فلما تكلم عن إبراهيم أسف له، لأنه الوحيد الطالع هذه السنة، مع أنه لم يخرج أحد من تسع سنين مضت. وبتجربته الطويلة حكم أن سيكون هذا الشاب في فرقة البيادة.
هناك في مجاهيل السودان وخط الاستواء، سيزور إبراهيم جهنم، لا غازيا ولا فاتحا، ولكن خادما مطيعا، هناك سيقضي أياما حلوة من عمره ثم يرجع ولا فخر له.
عما قريب سيترك قريته التي يحب وأهله الذين يحبونه.. سيذر تلك الأراضي الواسعة تغطيها الزروع، يقوم هو بينها ليل الصيف، ويقف مستندا إلى فأسه يرقب البدر العاشق وسط السماوات. سيخلف وراءه هذه الطرق تنساب إلى ما لا نهاية له، والغدران الصغيرة المتقلبة الأمواج أيام الإدارة، الناشفة أيام الجفاف.. وسيترك وراءه قلبا داميا باكيا! روحا كل بقائها على الأرض آمال فيه! فؤادا كليما ونفسا والهة. سيذر زينب تبكيه. سيذر كل ذلك إلى الصحاري القاحلة المجدبة، ونار تصبها السماء من علوها تشوي بها الجلود.. إلى عذاب شديد وما هو في ذلك بالغازي ولا الفاتح ولكنه الخادم المطيع!
7 - أنا مسافر مثل النهارده.
هاته هي الكلمة التي قدر إبراهيم أن يقولها لزينب ساعة قابلها راجعة من الموردة تحمل جرتها مملوءة بالماء. وهاته الكلمة كادت تصعق لها زينب وتقع مغشيا عليها.
رجعت إلى الدار متمهلة في طريقها يكاد يغيب رشدها كلما استعادت أمام نفسها هاته الكلمة. ولكنها بالرغم مما عراها من الألم استمرت حتى انتهت من أدوارها المعتادة، ثم رجعت بجرتها فارغة والوقت مؤذن بالمغيب، فركنتها عند حرف الترعة، ونزلت وسط المزرعة حتى قابلت إبراهيم، وهناك سارا معا حتى جلسا إلى جذع شجرة عند التابوت، واحتجبا بها عن أنظار المارة ، وبقيا إلى جانبها سكوتا هما الاثنان، لا يستطيع أحدهما أن يفتتح الكلام ولا أن ينظر إلى الآخر.
ثم من أعماق قلبه تنهد تنهدا طويلا وأخذ في يده يد زينب، ثم أعاد لها كلمته: أنا مسافر مثل النهارده.
لم يبق لهما إلا أسبوع، وبعد ذلك يفترقان إلى أمد طويل، من يدري فقد يكون إلى الأبد. فهل يجعلانه أسبوع سرور ولذة أو هما يقضيانه أسبوع دموع حارة وآلام قاتلة.
ما أبطأ الليل في نزول ستاره. ها هي ذي الشمس قد تركت وراءها نورا لم يتقلص بعد، والسماء لا تزال زرقتها تلمع أمام العيون.
وسط الكون الأخرس المحيط بهما انحدرت من عين زينب دمعة حارة سقطت على يد إبراهيم الذي لم يتمالك أن طوق بيده عنقها ثم سألها بنغمة محزونة باكية: مالك يا زينب؟
ما لزينب اليوم؟.. ودعها إبراهيم! فأملها في الحياة يتقلص! كم تفعل في نفوسنا الحوادث! وكم يهيج مثل هذا الفراق من الحواس ويضيف إلى ما عندنا أضعاف أضعافه! إنها أحبت إبراهيم كل هاته المدة الطويلة، ومع ذلك جاهدت بكل قواها، وحفظت على نفسها شرفها وعفافها، وقامت بواجب الزوجية مقدار ما استطاعت، ولكنها لا تقدر اليوم أن تبتعد عن إبراهيم. كلا! إنها تريد أن تأخذ منه كل ما تقدر في هذا الأسبوع الباقي. تريد أن تضمه إلى قلبها وتبكي معه. ما أقسى القضاء الذي يجور على فتاة حساسة كزينب، فيعاكسها في كل آمالها، ويقلب عليها الحوادث كلها، ويذرها هكذا بائسة تعيسة ولا يجود عليها بشيء ما، ولا بشعاع من أمنية سعيدة تجعل في عيشها من اللذة ما يحرضها على البقاء.. والليل وحده شهيد على دموعها!
ولكنهما لا يستطيعان البقاء في مكانهما طويلا، وزينب مضطرة أن تكون في الدار لترى أمر العشاء، فقامت وملأت جرتها ورجعت إلى جانب إبراهيم، والسكة خالية، واتفقا معا على أن يتقابلا في صباح الغد.
بالرغم من أنه لم يبق لإبراهيم إلا أسبوع على السفر فهو لا يزال يعمل في المزارع أجيرا كعادته، وإن كان قد انقطع عن سهر الليل. لذلك فموعده مع زينب في الصباح تحت هذه الشجرة التي كانا عندها.
قضت زينب ليلتها ما بين أحلام وآلام، فلما كان الصباح وقابلته قصت عليه بعض ما رأت. رأته في البراري سائرا وحده مطرقا برأسه والليل نازل وقد لبس كسوته السوداء، ثم يحدق إلى ما حوله فإذا هو بعبد أسود عظيم مقبل عليه يحمل له ورقة، فلما رجع بها إلى العساكر وقرأها بعضهم له جعل يبكي ويطيل البكاء، ثم رأت نفسها كذلك مضطجعة وإلى جانبها أمها وأختها وحماتها وحسن وهي في بكاء تضرع إليهم طالبة أن يأتوها بإبراهيم. وكل من حولها هم الآخرون عليهم آثار الجزع. وبعد زمان إذا بها وحدها ليس معها أحد تتلفت فلا تسمع حسيسا. وأخيرا راحت في سكون لم تعد تفقه معه شيئا.
وكلما سمع إبراهيم كلام زينب وصور أمام نفسه مصيره هناك في مجاهل البلاد الجهنمية حيث لا يعرف ما سيلاقي وحيث لا يفهم سببا لوجوده إلا أنه عبد مأمور.. تهيجت نفسه مشمئزة متألمة وحنق ألا يجد بدلا نقديا يدفعه عن هاته العبودية من غير ما معنى ولا ضرورة! لا يجد ما يشتري به حريته كما يشتريها غيره ممن يملكون النقد.
هكذا يفهم الناس معنى العدالة. من أجل أني غني أعفى من الخدمة العسكرية عندنا، ولأن آخر فقير يساق برغم أنفه ليقاسي عذابها ويصلى نارها ويرجع منها موسوما بطابعها.
وظلا معا حتى اعتلت الشمس السماء، ورجعت زينب للدار حتى تذهب لحسن بغدائه. فلما كان الأصيل وقد ابتدأت النساء الملية، إذا حامد سائر وحده عليه أثر التفكير العميق، فلما رأى إبراهيم قريبا سلم عليه، ثم وقف وسأله عن حاله وماذا عساه يفكر في سفره، فأجاب الآخر: والله آهو شغل بشغل، ولكن اللى مضايقني إني مش عارف رايح أعمل إيه: يعني يا سي حامد حانفتح بلاد الغرب ولا نخش تونس في الضهر الأحمر. أهو إن كان هناك وإلا هنا الانجليز فوق أكتافنا وهم الحكام.
فقال له حامد: ما علهش أهم شوية أيام وترجع.
ثم تركه وسار، وقد أعجبه جواب هذا الفلاح الساذج. لو أنه ذاهب لغزو وفتح لذهب مسرورا منتظرا أن يرجع أوبة الفاتح المنتصر، ويحدث بأعماله وأعمال من معه، ويفتخر بقواد جيشه وضباطه، لكن الحال أنه ذاهب ليقوم بصغائر الخدم تحت إمرة المتحكمين في بلاده.. فما أشد ذلك إيلاما له! وما أقوى وقعه على نفسه!
ثم جاء إلى فكر حامد أن إبراهيم مخطئ في تقديره قصير النظر فيه. حقا إنه اليوم ذاهب لأعمال دنيئة لا معنى لها، ولكنه يمثل على كل حال أمته وجيشها. وإذا لم يكن من الشرف اليوم أن يكون جنديا فسيحفظ له الزمان أنه كان الصلة ما بين عظمة هذا الجيش القديمة وعظمته المأمولة المقبلة. لكن إبراهيم الفلاح البسيط لا يفهم من ذلك شيئا ولا يستطيع أن يفهمه.
وفي سيره المتمهل غاب عن نظر إبراهيم الذي وقف مكانه يرقب الذاهبات والراجعات وينتظر أن يملأ الماء الفردة التي هو بها، ويرسل على كل ما حوله نظرات الوداع الأخيرة، على تلك الأشياء العزيزة عنده والتي ستغيب عنه زمانا طويلا.
وكل يوم يلاقي زينب، ويتحالفان أن يبقيا على عهدهما إلى الأبد، أن تحفظ له في قلبها ذلك الحب الذي يملؤه مهما جاءت به الحوادث، وأن يذكرها هو الآخر ولو بين دوي المدافع وأنياب الموت الأحمر. ثم يبقيان معا في صمت وتستعبر عيونهما وكل يحدق إلى صاحبه حتى يفترقا.
غدا يسافر إبراهيم. لذلك أعد له أصدقاؤه ليلة يقضونها معا ما بين حديث ولعب. فلم يكد الغروب يجيء حتى ابتدأت ساحة الدار التي انتخبوها لذلك تضوي بالشبان والفتيات أتوا جميعا يحيون صديقهم القديم تحية الوداع، وجاء في مقدمتهم حسن، وعامر، وحسين، وإخوانهم. وبعد أن جلسوا برهة يتحدثون وصل عطية ومعه دربكته فهاص الموجودون، وأفسحوا له مكانا. ثم استمروا في حديثهم، والليل يغطي بستاره السماء والأرض، ويبعث في الجو بنسيمه العذب، والإخوان كلهم عليهم أمارات السرور والرضا.
والوقت يجري لمستقر له، وهم قد ابتدأوا ينقرون على دربكتهم ويصفقون ويرقصون كأنهم يستقبلون وافد خير. فلما تقدمت السهرة ابتدأوا يرجعون واحدا بعد واحد من بعد كلم الوداع لصديقهم المحبوب. وبدل تلك الضجة التي كانوا فيها خيم على المكان صمت بعثت به هيبة تلك الساعة القدسية حين ينخلع القلب إذ يشعر بما سيكون في الغد، وأكثر إخوانه تعلقا به قد بقوا حتى الآخر وجلسوا مدة يتذاكرون قديما، وينتظرون رجوعه في القريب ثم جاء موعد الفراق فتركوه على أن يروه غدا على المحطة.
أما حسن فلم يتركه تلك الليلة بل بات معه، وكلما ذكر الواحد أو الآخر من الصديقين الفرقة القريبة الداهمة تحدرت من مآقيه وسط الظلمة الدامسة المحيطة بهما دمعة حارة تنطق وسط الليل الساكن بما يعانيه قلبه. ويفتح إبراهيم عينه يحدق إلى السماء السوداء يشكو لها ما رمته فيه من فقر وما قضت عليه من فراق، ولكن هيهات للسماء في تلك الساعة أن تسمع الشكوى!
إنه فقير، لذلك هو لا يستطيع أن يمسك بيده حريته. لا يمكنه أن يكون مع غيره على بساط من المساواة أو قليل من العدالة. ليست عنده الحرية التي يمسك معها غايته بيده، بل هو مسوق شاء أو أبى إلى موقف هو في أكثر الأمم عز وشرف، ولكنه في بعضها صغار وذل. هو في الأكثر دفاع عن الأمة وحريتها ورفع لمقامها أن تمسه يد، وفي البعض خضوع لمتحكم أجنبى وخروج على أهله وتسلط فوقهم من غير أن يريدوا عليهم سلطانا.
ولكن.. هل في الأرض أو في السماء عدالة ما دام الكون قائما وحركته دائمة، وما دام فوقه غني وفقير وقوي وضعيف؟! إذن فعبث أن يطلب الإنسان العدالة أو يتألم مما يحيق به من الظلم، فهو واقع به ما دام لا يقدر على دفعه، وإنما يتخلص منه في ذلك اليوم الذي تمكنه قوته من الاستعلاء على ظالمه.
عبث إذن آلام إبراهيم وشكواه، وليس له إلا أن يصبر تحت تصريف الأقوياء والأغنياء في حياته ورزقه حتى يجد من بني طائفته الفقراء العمال من يتعاون معه على دفع بلوى المجموع والأخذ بالثأر من حكام الجمعية الغاشمين. ليس له إلا أن يبقى ساكتا حتى يأتي اليوم الذي لا تضيع فيه كلمته من غير أن يسمعها أحد بل تكون حين ينطقها ذات رنين يقرع آذان المتحكمين في رزقه ورزق أمثاله والقابضين على حريتهم جميعا، يقرعها فتفزع لقرعه وتتجه نحو الصوت فتفهم ما يريد وتجيبه إلى ما يطلب.
ألأن إبراهيم فقير يقضى عليه بالنفي والإبعاد عن أمه العجوز قد مات زوجها، وهجرها أكبر أبنائها اكتفاء عنها بزوجته؟ وعن أصحابه الذين يعبدون منه لطفه ورقته؟ وعن زينب التي ترسل الدمع من قبل أن تفارقه، وعن المزارع الخضراء وقطنها وبرسيمها وأشجارها وجداولها؟.. عن تلك اللا نهايات اليانعة ليقذف به في لا نهايات جهنمية من صحراء قفر لا نبات بها وبين قوم وحوش. ولو ملك عشرين جنيها لوفر على نفسه كل ذلك. أي ظلم أكبر من هذا الظلم؟! بل أي عدوان يعادل هذا العدوان؟!
لكن القضاء النازل لا محيص منه، وخير ما يعزى عنه الرضا به ونسيان محنته، كما أنه لا فائدة من التسخط عليه. لذلك مهد إبراهيم نفسه للعسكرية، وجعل يحلم بما قد يكون فيها من محاسن، وحين يرى البلاد الجديدة وما تقدم بأشكالها المختلفة أمام العين من الفروق الدقيقة ثم طباع هؤلاء المجهولين الذين تحكى عنهم حكايات تكاد تكون حديث خرافة. وتعلم ضرب النار والخروج مع إخوانه وبلدييه بكسوتهم المنتظمة، كل ذلك هون على نفسه بعض الشيء وجعله ينام قبيل الفجر.
وفي صباح الغد اصطحبه حسن إلى داره فودع عمي خليل وزوجته وبناته في حين ذهب حسن ليغير بعض ثيابه ويصلح من أمره. وطلعت زينب مع زوجها للغرفة ثم تركته ونزلت مسرعة وكلها تهتز ولا تكاد تملك نفسها ويكاد البكاء يخنقها، وشعرت بمقدار مرارة تلك الساعة القاتلة، ساعة الفراق بين المحبين.
لم يعد سبيل لمرآه بعد هذه اللحظة. لذلك نادت به إلى قاعة في الدار كأنما تريد أن تحدثه في بعض أمرها، وما إن انفردت معه حتى أخذته إليها تعانقه وقد انهلت دمعتها وأحس في وجودها بهزة الحزن، وراح هو الآخر إلى عالم الآلام. هل يفترقان إلى الأبد!؟ ما أشد تلك الساعة على نفسيهما! وهذا العناق بينهما، عناق الوداع حيث يذهب أحدهما إلى فلوات كلها المخاوف والآخر إلى ما لا يدري، إلى الأبدية والفناء.
خارت كل قواهما فأسند كل رأسه على ركبته ودمعهما يسيل ولا ينطقان. وفي تلك الساعة الأخيرة تجسمت قداسة الوداع وهيبة اللقاء الأخير.. وبقيا على ذلك حتى سمعا صوت حسن نازلا من فوق فعانقته ثانية وقبلته، وبصوت مختنق يجهش بالبكاء المر قالت له الكلمة الأخيرة: مع السلامة.
ثم بقيت في القاعة والباب مقفل عليها، وحولها ظلمة المكان تترك أحزانها مطلقة العنان، فراحت بكلها تائهة منقبضة الصدر قد أثقلها أسى من ذلك الذي يعتادنا حين تتناوبنا هموم كثيرة لا ندري من أين أتت لأنها آتية من كل مكان!
وأخيرا، وقد بلغ منها اليأس مبلغه، هزت رأسها ونظرت بعيونها الملأى بالدمع إلى ما حولها كأنما تريد أن ترى ذلك الأثر الذي خلف إبراهيم مكانه، تلك البقعة الطاهرة المحبوبة التي كان جالسا فيها لآخر ساعاته معها. ذلك التراب الميمون الذي كان يلامس. فرأت منديلا محلاويا كبيرا قد وقع منه فانحنت إليه وأخذته فمسحت به دموعها، ثم قبلته مرات ووضعته على قلبها الآسي الحزين.
ومن محاجرها الجميلة تحت حواجبها الدقيقة تساقط الدمع مرة أخرى. ولو أنها نظرت إلى وجهها هاته الساعة في المرآة لأصابها الذهول لما أظهره الألم عليه من الشحوب، وما غادر خدها الأسيل من تورده البديع. لكن أنى لها أن تفكر في هاته الساعة في المرآة أو في نفسها أو جمالها؟ إنها نسيت كل شيء إلا آلامها القاتلة.
أما حسن وإبراهيم فقد سارا معا إلى المحطة حيث وجدا كثيرين ينتظرونهما. وفي تلك اللحظة الباقية على مغادرة صديقه لهم جعلوا يحدثونه، وكلهم آمال طيبة من أجله، ويرجون عودته سالما. فلما أحسوا جميعا بالقطار آتيا من بعيد سلموا عليه وعانقه بعضهم، وضمه حسن إليه طويلا. ثم إذا شيخ البلد قد أتى فأخذ نفر القرعة في يده وصعد معه في عربة السكة الحديد فازدحم الجمع على نافذتها. فلما أعلنت القاطرة بصفيرها قيامها ودعوه جميعا بكلمتهم الأخيرة، وأرسل هو على هاته الأراضي المقدسة المحبوبة نظرة الوداع مملوءة آلاما وآمالا.
الفصل الثالث
1
ما أحلى ليالي الصيف! وما أسرعها مرا! تسري بنا فتنسينا الحياة والوجود، وتبعث لنفوسنا بطيبها أكبر الهناء. ولو أن الأماني تجاب لكانت كبراها استدامة هاته الليالي الزاهرة حيث كل شيء جميل ذاهب في أحلامه، وحيث البدر يحبو في السماء تائها هو الآخر في خيالات حبه، والطبيعة الصامتة توحي بأصواتها نجوى الغرام إلى القلب، والفلاح الساهر يرسل في سلاميته في جوف الكون نغمة رقيقة كلها الوجد والجوى.
ولكن الأيام لا تقف عند أمنية، ولا يستحثها قلق الساهر الشيق يشكو آلامه، بل هي هي الدائمة السير المتشابهة الخالدة تجري بنا على غير ما نريد، فتطوي وقت السعيد حتى لا يحس به، وتتمطى أمام البائس فتزيد بؤسه مضاضة وإيلاما.
سافر إبراهيم لمنفاه، وكل ذنبه أنه فقير. وجاء الخريف لزينب بالهموم، وودت بعد ذلك الفراق لو أنها أعطت إبراهيم نفسها حتى يكون لها من ذكرى ذلك عزاء عن لوعتها، ولكنها اليوم تعاني الحسرات من غير عزاء.
أما حامد فقد انتهى بدفن كتاب عزيزة الذي شغله أياما، وابتدأ النسيان يجيء على كل أثر لها في نفسه، ولكنه بمقدار ذلك النسيان كان يحس بفراغ في قلبه يزداد كل يوم، ويشعره بالحاجة المطلقة إلى سد هذا الفراغ.. فإذا ما رأى فتاة عليها مسحة من الجمال اجتهد ليتقرب منها، وعد فيها محبوبا جديدا، وإذا جاء الغد بأخرى نسي تلك وتعلق بهذه. ويتنقل قلبه من واحدة لأخرى كما تتنقل النحلة من زهرة لزهرة، ولا يدري أيا يحب وأيا يترك، حتى تقلب على أكثر من عشر. أخيرا رأى فتاة أخذ بلبه حسنها، فعاهد نفسه ألا ما ثبت على الولاء لها، وكل يوم يمر يزيده تعلقا بها، وثقة من قلبه وتقربا منها. ثم انقلب عنده الظن يقينا أن أكبر السعادات هو الاجتماع بها، وأن تكون له شريكة الحياة.
ثم غابت عنه أياما كان في خلالها الوامق الكثير الذكر القائم الليل يناجي الكواكب، ويسائل البدر عنها، ويرجو السماء ألا ما جمعته بها. فلما تلاقيا شعر ببرد يسري في جسمه ويصيبه من أوله إلى آخره، ورأى كأن قد كان من قبل في حلم كاذب. هنالك شعر بأكبر الألم.
أليست هي هاته التي أحبها وهام بها؟ فأي شيء غيره عليها وقد كانت إلى آخر يوم من فراقهما أحب الناس إليه؟ ولكن القلوب قلب، والشباب أيام حب من أوله إلى آخره. فإذا ما هامت الروح ورجعت فلم تجد حبيبها إلى جنبها فكثيرا ما تلجئها الحاجة إلى أن تستبدل به غيره.
ثم جاء على حامد بعد ذلك جمود على كل شيء، وأمام كل شيء، وأصبح الكون أمامه باهتا، وصار كأن لا قلب له. تمر الحوادث والناس والأشياء فلا يعبأ بها، ولا يهتم بما تكنه. كل همه أن يبقى مستريحا ساكنا، ينام ملء جفنه، ويعمل ما يريد. ويترك ما يريده، ولا يسأله إنسان حسابا. تطلع الشمس وتغيب وهو قد قضى نهاره متنقلا من بيته إلى بيت بعض أصحابه أو سارحا فيما لا حدود له من تيهاء الخيال. ويجيء الليل معه بأخبار المساء وجرائده، فلا يكاد ينتهي الناس من قصص أمور الزرع والماء وأسعار القطن ومن باع ومن لم يبع حتى تنقلهم الجرائد إلى الأخبار العامة. فبعد أن يقرأ قارئ أسعار الكنتراتات الأخيرة يجيء إلى الحوادث المحلية وأخبار اليوم، ثم تتلى أمامهم مقالات من أقلام كتاب يمجدون، ثم يذهب هو إلى نومه ليقضي الغد كما قضى الأمس. وهكذا جعلت الأيام تمر ولا يزيده مرورها إلا همودا.
يقلب في ضميره عله يجد ما يؤاخذ نفسه به، فلا يجد شيئا، ويعمل ما كان يأنف منه من قبل فلا يجد الأسف إلى نفسه سبيلا، ولو أن الكون دكت قوائمه، والقيامة قامت، وجاء النشور، وتجلى الخالق وعلا حتى بلغ الصراط لهب النار، وأسمعت من قصور الجنة مسمعات الغواني لما كان أمام ذلك كله إلا هازا رأسه مستغربا ما يأخذ الناس من الوجل.
ولقد علاه الدهش لتلك الحال التي هو فيها، دهش ممزوج بشيء من الأسى العذب والحزن الهادئ الذي يصيبنا ساعة لا نفهم أنفسنا أو ما يحيط بنا. فإذا جلس وحده وحدق بعينه إلى الفضاء الهائل أمامه غاب فيه، وعلى ثغره الذاهل معنى الاستسلام المطلق، وكأنه يرى غريبا وجوده على الأرض؛ وإن هو سار ذاهبا إلى المزارع صاحبه ذلك الذهول عينه، فمشى بخطوة بطيئة رتيبة متخذا أكثر الطرق انفرادا ووحدة، وإن صادف وجوده على طريق عامرة راح منها إلى الناحية التي لا يسلكها إنسان. وإذا كلم أحدا كلمة وكله السكينة والهدوء.
ها هو ذا عيشي طيب راض، والحياة أمامي سهلة هينة، ولا أسف عندي على ماض ولا حاضر. ها هي ذي الأيام تنساب أمامي هادئة ساكنة متشابهة، وها هو ذا الوجود من أوله إلى آخره لا يثير مني ذكرا ولا يحي عندي شجنا. اللهم لا أمنية أطلب، ولا ذنب أستغفر عنه، ولا حاجة لي إلا أن تبقى الحال كما هي حتى تجيء الساعة التي أترك فيها الأرض وإني لا أستعجلها ولا أراها تسرع نحوي. هي ككل الساعات التي تمر والتي يموت فيها أناس ويولد آخرون وتملؤها الضجة الدائمة التي تحيط بي.
الأمس واليوم والغد كلها واحدة، والسابق منها دليل اللاحق. ومهما يكن في المستقبل من الغيب فما هو إلا كالذي تقدمه والذي كان غيبا مثله، وإنما لك الساعة التي أنت فيها.
نعم لنا الساعة التي نحن فيها، وخير ما نقضيها فيه أن نرقبها تمر، ونكون أهدأ منها بالا. لم يشغل الناس أنفسهم بأشياء لا ثبات لها أكثر مما تشغل هي نفسها بها؟ وهل يعتقدون أن اهتمامهم بها وعملهم فيها يزيد حظهم سعادة أو رضا؟ كلا! وإنما هي الحياة تسحرهم بمشاغلها وتشغلهم حتى لا يروا حقيقة أمرها وشكلها الفظيع.
أما أنا فراض اليوم، لا حبا في الحياة، ولا طمعا في الاستزادة منها، ولكن لأن الفرح بها لا يزيدني سعادة، والغضب عليها لا يخيفها مني، ولا يجعلها تقدم لي شيئا جديدا.
أنا راض بها وهي الأخرى راضية بي . وما دمنا على وفاق فإنا نسير معا حتى تجيء الساعة التي يمل أحدنا صاحبه فيرفضه، وينفصل الآخر عنه، وأروح أنا إلى عالم آخر ساكن لا ضجة فيه ولا حركة ولا حساب فأكون أكثر هدوءا مني اليوم، وتنتقل حياة هذه الأرض إلى غدها وبعد غدها لينفصل عنها قوم وينضم إلى حزبها آخرون.
بقي حامد على هذه الحال من عدم الاهتمام بما حوله والجمود أمام كل شيء أياما طوالا كانت عنده أيام لذة وهناءة حقيقية، لذة غير هاته التي نخلقها لأنفسنا بما نهيجه فيها من العواطف ونثيره من الإحساسات، أو بما ننيلها فيها من لذات الخيال التي تصورها لنا أحلامنا، ثم تنقلنا إليها لتخفف بعض الشيء من بؤسنا ويأسنا، بل لذة تلمسها اليد وتجيء إليه تلفه هي في ردائها، فيشعر معها بالرضا والنعيم ولكنها لا تهمه أكثر مما يهمه أي شيء آخر.
كان يخرج أحيانا إلى المزارع ساعات الأصيل، وشمس الخريف مريضة ترنو للكون الذاهل في ذبوله ومشيبه بعين جمعت مع العطف والاسترحام، ومع الإشفاق الوجل، ويسير بين زروع القطن الأجرد الأسود والذرة قد خلع أوراقها من يريدها طعاما لأنعامه، أو هي تدلت إلى جانبه قد أتى عليها الموت، ويسلك طرقا كانت محببة إليه، ولها عنده من الذكرى ما لا ينساه حياته، فلا يهيج ذلك من نفسه شيئا، ولا يحدث عنده أثرا.
ولكن هذه الحال ليس من طبعها أن تستمر. ومهما جلبت لنا من السكينة فإنا لا نرضى البقاء الدائم فيها كأنا نساعد الوجود على مضايقتنا. أو أن المرء لا يستطيع أن يعيش من غير آلام وآمال يملأ بها حياته.
أحس حامد كأن أيامه فارغة خيالية، وأن عيشا كل أمرنا فيه أن نبقى كذلك سكوتا أحرى به أن يهجر إلى السكون الأكبر الخالد، سكون الفناء. وبذلك بدأ يجاهد ليخلق لنفسه مشاغل شتي يتسلى بها عن ضيقه، فهو يذهب للمزارع ويراقب العمال ويرى الزرع، ثم يرجع إلى الدار فيبدي لناظرهم ملاحظاته، وينبهه إلى مواضع الخطأ في العمل، وصار يجد في ذلك من السرور ما لم يكن يعرف من قبل. فلما كان في بعض الأيام - وقد ترك البلد لساعتين بعد الزوال، وسار مع أخ له سارحا إلى المزرعة، والشمس إذ ذاك قوية يتنزل شعاعها تصهر به الأرض - رأى عن بعد امرأة راجعة، وعلى يدها ما بقي من غداء صاحبها العامل، فسأل أخاه أيعرفها؟ وحددا نظريهما نحوها حتى تبيناها زينب راجعة بعد غداء حسن، فشعر حامد كأن شيئا يهزه، وتمهل في خطاه إلى أن تلاقيا، فأهدته هي التحية مستمرة في طريقها، وردها عنه أخوه، ثم سارا كما كانا من قبل حتي وصلا صامتين ساكتين.
ثم التفت أخوه نحوه وقال: فاكر يا حامد من قبل زينب متتجوز يا أخي البنت دى زي اللى بترفع وكل البنات لما بيتجوزوا بيتخنوا.
وصلا إلى غايتهما، وجلسا تحت شجرة قائمة على شاطئ الترعة، وجاءهما العامل القائم يسقي هاته الأراضي يعدها للبرسيم، فسلم عليهما، وسألاه إن كان ينتهي من عمله ذلك النهار، فأجابهما إيجابا، ثم راح لعمله، وبقيا يتحدثان وينظران للماء ينساب إلى جانبهما، والسماء الصافية منشورة فوقهما، وبعض العصافير تنط أو تطير حولهما. ثم جاء عليهما سكوت ذهب كل منهما فيه إلى أحلامه وخيالاته. «فاكر يا حامد زينب قبل ما تتجوز» - هذه هي الكلمة التي عادت مرارا إلى نفس حامد، ولم يستطع معها أن يفسر ما تحويه من قديم الذكر، أو ما يجول بصدره من الإحساسات. ولم يقدر على البقاء طويلا بالمزرعة، لأن سكونها واستسلامها يكاد يقتله. فطلب إلى أخيه أن يرجعا حتى إذا كانا في الدار صعد إلى غرفته وأغلق بابها عليه.
زينب متزوجة اليوم، وبهذا تحتج كلما ذكرها بالماضي. ولكن ماذا يهمه لو كانت متزوجة. لا بد أن يأخذها بين ذراعيه، ويضمها لصدره، ويقبل كل موضع في جسمها. كلا. إنه لا يستطيع البقاء بعيدا عنها، وليس في طوقه أن يعيش من غيرها.
إن حياتى مستحيلة إذا لم أحس بها بين يدي. كفى خيالاتي وآمالي الماضية التي لم أخرج منها بشيء، ولا بد أن أعمل جهدي لمقابلتها وحيدة ، ثم أمسكها وأضمها إلى وآخذها لنفسي. ما دمت أحبها وهي تحبني فأنا لها وهي لي.
وما الذي يبعدها عنه، أو يمسكه عنها؟ ألأن بينها وبين حسن عقدا يقال إنه يربط أحدهما بالآخر؟ وهل تستطيع العقود مهما تكن أن تحرم الشخص من التصرف في قلبه، وأن يتركه حرا يذهب لمن يشاء؟ وما دامت الطبيعة قد كونت اثنين ليكونا معا فإن عبثا وحمقا أن ينظرا لغير ذلك الاجتماع، أو يهتما بما يكون من نظر غيرهما له، أو أن يعوقهما عن إتمامه عقد لا قيمة له في الواقع، وإن احترمه الناس وقدسوه! وظل زمنا في غرفته متهيج الأعصاب، مضطرب النفس، يصمم في كل لحظة على مقابلة زينب، وعلى أن يفتح لها قلبه، ويعترف لها بما يقاسي من أجلها فتقر هي الأخرى بحبها له، ثم يتعانقان ويبكيان، وهكذا يبقيان.. •••
انحدرت الشمس، وابتدأت السماء تعد نفسها لرداء الليل، وجعل كل شيء يدخل عالم الظلام رويدا رويدا، ثم سمع حامد من ينقر على بابه وينبهه للعشاء. ولكن أي طعام ذلك الذي يأخذه؟ وهل يستطيع أن يأكل أو يشرب قبل أن يحقق كل أمانيه؟
ثم سمع والده يسأل عنه، فهدأ من نفسه حتى لا يظهر عليه أثر، وخرج فحيا الموجودين، وجلس على المائدة وهو لا يكاد يأكل شيئا. فلما انتهوا من طعامهم انكفأ خارج الدار هائما، فأنذره الليل أن تلك ساعة هجود للعمال المتعبين طول نهارهم، وأن زينب هذه اللحظة في أحضان زوجها.
في أحضان زوجها؟! ما أقساك يا ليل! زينب في أحضان زوجها، وفي أحضاني أنا الأسى والألم؟! لم يارب جعلت يوم رأيتها بعض أيام حياتي؟! وهل من طريق الآن إليها؟
لا طريق في هذا الليل إلا أن ننتظر صبحه. فلما بزغت الشمس كان حامد نائما في مرقده بعد ليل أكده وجاء على قواه، ولم يقم إلا والنهار في ساعة الزوال أو يكاد. فأخذ طعامه وحده، ثم خرج إلى جهة المزارع حتى إذا كان على مقربة من أرض أبويا خليل جلس إلى ظل شجرة ينتظر أن تمر زينب كعادتها. جلس ولا تصميم عنده ولا عزم على شيء. ولو أنه رآها هاته اللحظة أمامه لما زاد معها على إلقاء التحية أو ردها، ثم يتبعها بنظره مدة من الزمان. ولكن السكون المطلق المحيط به وتحديقه إلى الجهة التي تجيء منها سمح له لأول ما رآها قادمة من بعيد أن يثبت على شيء، فقام متمهلا يروح ويجيء في ظل الأشجار حتى إذا كانت عنده، وألقت عليه تحيتها، سار إلى جانبها، ولم يمهلها أن فاتحها الحديث: انت نسيتي يا زينب أيام زمان؟
الله! ما هذا الذي لا تنتظر؟ وأي جديد حدث حتى جاء بحامد هنا يكرر لها هذا الكلام بعد أن تركها الزمان الطويل؟ أو لم يسألها مثل هذا السؤال مرة من قبل؟ وماذا عساه يريد منها؟
ثم أجابته: لا ما نسيتش لكن أنا اجوزت.
وقبل أن ينطق حامد بكلمة أخرى أحس بالمضاضة والذلة التي تصيبه من أي اعتراف أمامها بما في قلبه. بل ألا يكون ذلك خبلا وجنونا؟ ثم هل يحتمل ما يقول الناس عنه وما يلفقون من الأكاذيب؟
ومن غير انتظار، وبلا سبب تعلمه زينب، وقف وأمسك يدها كأنه يسلم عليها وقال لها: اقعدي بالعافية يا زينب. وإن شاء الله تكوني مبسوطة مع حسن.
ثم انحرف إلى طريق آخر راجعا إلى الدار، ودخل غرفته من جديد. ولكن هذه المرة دخل وهم يحس بحزن وسرور في آن واحد، لأنه صمم على ترك كل هذه الإحساسات الفارغة التي تنتابه من ورائها الآلام، ليعيش في نفسه ولنفسه، وأن يكفر عن كل ما فات بكل طريقة ممكنة.
إنه قضى سنيه الأخيرة بين آمال وأحلام كاذبة مشوبة بأطماع أحرى بمثله أن يكون أكبر منها. وهل إنسان يبلغ به الأمر أن يكون أكبر غاياته مقابلة فتاة أو الجلوس إليها ومحادثتها لأنها أعجبته إلا إنسان صغير النفس والعقل معا؟ وأدهى من هذا وأمر أنه يتنقل كل يوم من واحدة لصاحبتها، وينسى الأولى لمرأى الأخرى، فإذا غابت رجع إليها، وإن رأى غيرهما من بنات جنسهما هان عليه أن يرتمي في أحضانها ويسلم وجوده إليها.
تأتي عزيزة إلى البلد فيعد لقاءها أكبر الأماني، ويتغنى بذكراها ويأتي على محاسنها، ثم يكتب إليها خطابات كلها الحب، ويشكو ما عنده من الجوى واللوعة. فإذا هي تركت البلد رجع إلى زينب والتغزل بها ومقابلتها وسؤالها عن الأيام القديمة. وإذا قابلته في العاصمة فتاة حسب فيها محبوبا جديدا، فتمشي إلى صدره هواها، ووجد من العذوبة في سماع ألفاظها وفي النظر إليها ما ينسيه كل شجن... ما هذا كله؟ وأي قلب قلبه الذي يسع حب كل هاتيك الفتيات الناضرات والزهرات اليانعات أمام عينيه؟ أم أن لكل شهر من شهور السنة، بل لكل يوم من أيامها من الأثر فيه ما يوجه إحساسه إلى جهة جديدة؟.. كلا. ذلك مرض عالق به متأصلة جذوره في نفسه. وأعماله تلك مظهر من مظاهر مرضه العضال. ... أو أن عاطفة الحب التي تتمشى في صدور الشبان والشابات، ولا تني عن إقلاقهم جميعا، وعن أن تدفعهم للبحث عن تلك الروح التي كانت أخت روحهم في الأزل ثم فارقتها أول الخليقة، وتبحث عنها هي الأخرى من غير كلل ولا ملال، هي التي تعذب هذا الشاب المسكين أغلقت أخت روحه وراء الحجب لتنال نصيبها من العذاب في سجنها.. نعم هو هذا!.. إذ أن شخصا كحامد، هادئ الطبع ميال إلى السكون ثابت رزين، لا يمكن أن تعبث بنفسه الدوافع وتتلاعب بها الأهواء إلا إذا كانت عاصفة قوية. وعاصف الحب أقوى الرياح التي تثير القلوب وتلهب الصدور، وتخفق معها الأفئدة بين الجوانح. هو العاصف الوحيد الذي يملك على الشاب حياته، فإما بعث إليها الهناء والسرور يحملها المحبوب في كفه الناعمة وفي الابتسامة الطاهرة التي تطوق ثغره وفي نظراته البريئة كلها الحنان والعشق، وإما جعلها عذابا ونقمة بأن يكون بحثها عن المحبوب غير ذي جدوى.
لكن حامدا لم يسائل نفسه عن سبب قلقها، ولا هو أراد أن يلتمس لها هذه المرة عذرا كفى ما فات حتى يستطيع أن يكفر عنه. وإلا فإذا كان يزيد في كفة ذنوبه ، ويندفع مع تيار غيه، فليودع من الساعة ماضيه وعمله، وليستعد لمستقبل مخجل مخز يقضي فيه حياته على مثال من النذالة والضياع، ويكون فيه كالح الوجه ميت الضمير مقفل القلب، حتى إذا أتى عليه الموت أتى على شخص ضئيل القيمة عاش ومات ولم يعمل شيئا. ولا شيء أشد إيلاما لنفس حامد وأصعب وقعا عليها من أن يتصور نفسه خارجا من باب الحياة وحيدا منفردا لا ينظر إليه أحد ولا يعلم بأمره إنسان، بل مر بهذا الوجود الأرضي من طرف لطرف واختفى في التراب ولم يترك بعده أثرا.
والواقع أن أحلام حامد وآماله في المستقبل كانت كبيرة جدا، ومهما يكن مخلصا في قوله أحيانا إن خير عملنا أن نغنم الحاضر، فإن قضية المستقبل كانت تشغل باله وتهاوده في أوقات مختلفة، وكأنه كان يدين بمذهب أستاذه قاسم أمين: «اللذة التي تجعل للحياة قيمة هي أن يكون الإنسان قوة عاملة ذات أثر خالد في العالم». فلم يكن يمر به وقت ييأس فيه من المستقبل، بل كان هو الشيء الوحيد الذي يجعله يستبقي حياته. فإذا كان قد أسقط في يده أحيانا حين أراد أن يحب، وإذا كانت قد مرت به ساعات سوداء نغصت عليه أحلامه، وجعلته يسائل نفسه عن معنى الحياة، وعما يدفعنا لأن نعيش، فإن ما كان ينتظره من السنين الآتية، وأنها ستعوض عليه كل هذا، كان يجعله يحتمل مضض الحاضر وآلامه.
لم يسائل نفسه اليوم عن سبب قلقها، بل كان ما أراد أن يعرف هو الطريقة التي يكفر بها عما سلف... أيصلي ويبتهل إلى الله ويطلب غفرانه؟ ولكن لم وأي جريمة اقترف؟.. وهل ذنبه أن أودع الخالق في نفسه إحساس الحب كما أودعه في نفس كل شاب؟! وإذا كانت الطبيعة قد اقترفت هذه الخطيئة من إغراء الشبان فهي وحدها المسئولة عن عملها، وأن تكفر عن خطيئتها. وإن كان ذلك من أمر الله لطفا بخلقه فالله لا يسأل عما يفعل.
ولكنه كان يحس أن خطيئته أكبر من ساعة لساعة، وأن أعماله الماضية كلها اجتمعت حملا فوق أكتافه... وفي هذه اللحظة أحس بضعف عظيم وحاجة متناهية إلى المعونة، وأحس كأن دافعا يدفعه للابتهال إلى الله، فرفع إلى السماء نظراته، وبعيون حزينة يكاد يتساقط منها الدمع رنا للقبة الزرقاء الهائلة في صفائها، ثم لم يتمالك أن جثا على قدميه، وطلب بكل خضوع وخشوع أن يغفر له ربه زلته. وفتح كفيه حتى إذا انتهى من دعاءه رفعهما إلى وجهه كأنما يحمل إليه رحمة الله وعزاءه للمصاب المحزون.
ما أعجب الإنسان في أطواره وأحواله!.. يسير رزينا ثابتا في عمله، ويعمل كل شيء يوحي له به عقله، حتى إذا ما جاءه الضعف، وتناوبه الحزن، وخارت عزيمته، وانحطت قواه، وشعر كأن خطرا محدقا به، نادى طالبا العون من خالق السماء والأرض، ومن كل ما يصوره له خياله. ويستمر ساجدا أمام هاته القوة معترفا بعجزه المتناهي ما دام الضعف مستحوذا عليه غير سامح لقواه أن تتوازن وترجع إلى معتادها. فإذا ما انقضت تلك الساعة وعاوده صوابه نسي كل ذلك، أو على الأقل خزنه إلى جانب حتى تأتي فرصة أخرى تحوجه إليه.
جثا حامد أمام السماء، وحدق إليها، كأنه يرى فيها ملجأ اليائس، ومستقر من جنحت به سفينة الحياة، وإن هي إلا حاوية بعض السر الهائل الكامن حولنا في كل موجود. جثا خاشع القلب كسير الطرف خجلا من خطيئته، ثم رفع يديه يريد أن يعترف بكل ما جنى، ويتوب إلى الله عما تقدم من ذنبه وما تأخر، ويسترشد سبيلا في تلك الحلكة المظلمة أمامه حيث كل شيء أشد سوادا من القار.
ولكن السماء زرقاء كما هي لا يؤثر فيها دعاؤه ولا يرققها أساه، والبنيان القائم أمام نافذته هو هو كما يراه كل يوم ولا شيء جاءت عليه الغير. وإن المتغير هو القلب، والإنسان يرى الأشياء كل يوم كما تصورها أمامه حواسه، فهي إما ضاحكة فرحة إن كان هو ضاحكا فرحا، وإما قائمة حزينة إن كان الحزن قد وجد إلى نفسه السبيل. والحقيقة أنها لا تبسم ولا تعبس بل هي تسير في دورتها الدائمة متفاعلة يؤثر بعضها في بعضها الآخر، والإنسان يسير عليها يعمل فيها وتعمل فيه وإن ظن أن له عليها السلطان وأن بيده تصريفها.
في اليوم الثاني جاء إلى القرية الشيخ مسعود، أحد أشراف المديرية ومن مشايخ الطرق المعدودين فيها. جاء وفي انتظاره أبناؤه الكثيرون، وكلهم فرح بمجيء عمه، منتظر أن يقبل يده الطاهرة، وإن كان متوجسا خيفة أن يكاشفه هذا الولي الصالح المقرب إلى ربه المستنير القلب، ببعض ما فرط في واجبه. وقد عزمه الشيخ عامر أحد أعيان البلد الموسرين ومن الآخذين عليه الحافظين عهده المتعصبين له ضد كل شيخ آخر، وأعد له وليمة فاخرة جاء فيها بذبح عظيم، وطلب الطباخ من بعض المدن القريبة ليطهي طعام الشيخ الداعي إلى الله الزاهد في دنياه الفانية. وما لبث أن نزل في المندرة الكبيرة من دار الشيخ عامر المبنية حديثا بالطوب الأحمر، والمنقوشة حيطانها وسقفها بأنواع النقوش، والملأى بالكنبات والكراسي حتى التف حوله جمع عظيم جلسوا باحترام، وظلوا يتوافدون تباعا، فيلثمون يد الشيخ ثم يأخذون مجالسهم، حتى لم يبق في المكان مجلس. بل لقد وقف كثيرون في الأركان وإلى جانب الباب ليمتعوا طرفهم بمرأى الشيخ الذي بقي ساكتا أو يسار بعض جيرانه تاركا يده متاعا لمن يلثمها، مملسا أحيانا على بعض المسلمين عليه، داعيا للجميع دعوات الخير والبركة.
مدت الموائد، ووضعت أمام الشيخ ومن حوله من الناس الطيبين صينية قدم عليها أشهى الأصناف. وصاحب الدار قد أخذ مكانه إلى جنب ضيفه المقدس يقدم له من كل طبق، ويسأله ما بين حين وآخر أن يبارك من حوله بدعواته الصالحة، ويظهر له عظيم امتنانه وكبير سروره بمقدم الشيخ الطاهر.. والشيخ يجيب عن ذلك كله بتواضع يليق بمكانته وعظمته، ويرفع عينه فيرى قريبا منهم مائدة أخرى معتادة، لا شيء يجذب النظر مما عليها وقد التف حولها جماعة من أبنائه الفقراء والفلاحين. ولو أن له نفسا بين جنبيه، أو ضميرا يحس، لكلله الخجل أن يرى نفسه وهو الداعي إلى الله ونعيم الآخرة وإلى الزهد في هذه الدنيا الفانية جالسا في مقعد وثير وعلى طعام شهي في حين يجلس هؤلاء العمال الطيبو القلوب على حصير ناشف يأكلون الرديء مما لم يقدم له، ولازداد خجلا أن يعلم أنه عاطل لا عمل له إلا هذا الطواف في البلاد لا لغرض إلا أن يأكل ويشرب وينطق بكلمات لا قيمة لها، وهم عمال يجدون ليل نهار ليطعموا الناس بفضل عملهم... ولكن أي ضمير يسكن قلب مدع لا تربية له ولا أصل عنده، وإنما اتخذ هذه طريقة احتيال يعيش من ورائها. وهل الشيخ مسعود إلا ذلك الرجل الذي صرف بين جدران الأزهر عشر سنين لم يعرف فيها شيئا، فلما يئس من النجاح، ووجد أباه قد قصر عن أن يمده بمعونة، ترك العلم لمن يفقه العلم، وخرج هائما على وجهه، فلبس ما يشبه المسوح، وأرخى شعره واستوحش؟! ولكن هذه الحرفة لم تجده شيئا، فنظف نفسه بعض الشيء، ولبس فوق رأسه عقالا، وراح بعد ذلك مدعيا العمومة يعطي عهودا للمساكين الذين يعتقدون أن «من لا عم له عمه الشيطان»!
وبعد العشاء نصبت حلقة ذكر في ميدان أمام دار العمدة، والتف الناس حول شيخهم، وابتدأوا يهتزون ببطء يمينا ويسارا. ومن بينهم منشد يرفع صوته بشيء لا هو بالغناء ولا بالحداء ولكنه مرتب يتفق مع حركات الذاكرين. ويكررون جميعا وسط هدأة الليل وفي لجة نور القمر اسم الله، يقولونه ببطء مقدار بطئهم في اهتزازهم. ويسرعون بعد ذلك قليلا حتى يأتي وقت لا تتميز كلماتهم، ويعرو بعضهم ذهول، ويدور رأسه فهو يميل كالثمل لا يكاد يعي ما يقول، ولا يعرف ما يعمل، ولكنه مسوق وسط هذه الضجة ليقلد من حوله من غير عقل ولا تفكر. ويصبح ذكر اسم الله أنفاسا تتصعد في الجو مقذوفة بقوة وحنق كأنما هم يقذفون بها في وجوه أعدائهم. وتزداد حركتهم حتى ليقول عنهم من لا يفهم أمرهم إنهم جمع من المجانين أو سكارى يرقصون غير واعين. وصوت المنشد يرن على جنبات الليل من غير انقطاع، ويحرض هؤلاء الثملين على الاستمرار في جنتهم . فإذا ما خرج بعضهم عن صوابه صاح ببعض كلمات متقطعة لا معنى لها، ونطق إذ ذاك بلسان الحال، ثم يتبعه آخر وآخر، فيهدئهم الشيخ بصيحات من جانبه. والقمر فوق الجميع ينظر إليهم بعينه الهادئة كأنه يبتسم ساخرا منهم هازئا من جنونهم. والليل الصامت يردد تلك الزفرات التي يصعدونها. وهم جميعا ينادون الله حتى يبح صوتهم فلا تجيبهم السماء ولا الأرض ويروح تعبهم سدى.
فإذا ما أحس الشيخ أن قد نهكت قواهم أمرهم بالسكوت، ثم ألقى إليهم اسما آخر من أسماء الله الحسنى، فيأخذونه ويصيحون به من جديد حتى تجف حلوقهم ويضيع صوابهم، فيلقي إليهم اسما ثالثا ثم رابعا. فإذا انتهى الليل من غير جدوى انصرفوا شاكرين منتظرين أن يعيدوا الكرة علهم يصلون يوما إلى ما يطلبون.
كان حامد جالسا في السلملك ساعة الذكر. ولقد أحس بدافع يدفعه إلى الانضمام والصياح مع الصائحين عله بذلك يكفر عن ذنبه. وإذا كان قد اعتقد قبل اليوم أن عمل هؤلاء الناس وأتباعهم لشيخهم المخرف جنون في جنون، فإن الضعف الذي استولى عليه، والحزن والهم اللذين ركباه تركاه قابلا للإيمان بكل شيء والتصديق بما لايصدق به عاقل. بل إنه ليذهب غدا ليرى الشيخ، ويلثم هو الآخر يده، وينضم إلى حزبه، ويعترف إليه بكل ما في نفسه ليخفف بذلك بعض ألمه. نعم. غدا يأخذ هو الآخر عهدا، ويصبح أخا لهؤلاء الذين يخافون أن يكون عمهم الشيطان!
فلما كان الغد ذهب إلى مستقر الرجل الصالح، فقدمه الشيخ عامر إليه، وبإشارة عمه ترك الشاب معه وانصرف. فابتدأ حامد معه حديثا طويلا يقص به حكايته وما دفعه للمجيء إليه والإنضمام لحزبه: - لي ابنة عم قيل وأنا لا أزال في السادسة من عمري إني سأتزوجها متى كبرت. وعلى هذا كنت أحس في نفسي لها بعاطفة غير التي أحس بها نحو بنات عمي الأخريات. فأقاسمها ما بيدي، وأحنو عليها، وأدافع عنها. فلما جاء اليوم الذي افترقنا فيه تركتها وكلي شوق للمستقبل القريب الذي نرجع فيه لنعيش معا دائما. وبقيت تعاودني ذكراها ، وأشعر معها بعذوبة وهناء يسريان إلى أعماق قلبي. ولما بلغت السادسة عشرة من عمري ابتدأت أحس بغير هذا الإحساس القديم نحوها، وازداد شوقي لها، وقضيت الليالي الطوال يصحبني خيالها. في هاته الأيام قابلتني فتاة ريفية أظن سيدي الشيخ يعافيني من ذكر اسمها أو أى شيء عن شخصها. - نعم، نعم. - قابلتني، فأخذ بعيني جمالها، وبهرني منها عيون نجل، وخدود متوردة في لون قمحي جذاب، وجسم خصب، وقوام غض، وخصر دقيق، وبنان رخص، ومنطق عذب، ونظرات تسيل لها النفس. لكن هيهات لفتاة أيا تكن أن تصل لفؤاد مقفل كفؤادي يومئذ حين كنت لا أعرف إلا الفضيلة المجردة. غير أني كنت أشعر بقلق كلما طالت غيبتي عنها، وأحس بدافع لا قبل لي في دفعه يجعلني أذهب إلى المزرعة التي تكون فيها، وأن أساعدها في عملها، ثم أن أرجع معها جنبا لجنب نتحدث في كل شيء وفي لا شيء. وجاء اليوم الذي زوجت فيه هذه الفتاة والذي عاهدت نفسي فيه أن أنساها إلى الأبد إذ مادامت لغيري فمن الغدر الذي لا يليق بي أن أفكر فيها مجرد تفكير. ورجعت بذلك لابنة عمي التي وعدت، وجعلت أتخيل لها كل شيء حسن، وتبادلت معها كلمات قليلة. ولكنها انتهت هي الأخرى بأن تزوجت فعراني لذلك حزن عظيم. ثم سرعان ما سقطت عن كتفي أحماله حتي لقد عرتني الغرابة كيف يمكن أن يكون ذلك شأني. ورحت بعدها في شيء من عدم الإهتمام بكل ما حولي أو الأسف على كل شيء حصل أو التفكير فيما سيكون. ولكن ذلك على ما كان من لذته لم يستمر طويلا بل غادرني وأسلمني بعده إلى نوبة فظيعة هي التي دفعتني إليك. نوبة أحسست معها بالحاجة المطلقة أن أملك هاته الفتاة الريفية رغما عن أنها متزوجة، ورغما عن كل ما سيقوله أو يتقوله الناس عنا. لكن الله سلم، واستطعت أن أملك نفسي في الساعة التي كنت سأضيع فيها. - نعم ... - وهأنذا قد قصصت عليك كل شيء وأريد أن آخذ عليك عهدا. - نعم ...
وهنا سكت حامد فمد له الشيخ يده واستتلاه من بعده الكلمات التي يصبح معها عمه. ثم ودعه حامد وكله سرور والاقتناع بأن سيجيء له ذلك بالخير الجم. ودخل توا غرفته، وجلس أمام النافذة، وعلى ثغره ابتسامة من أطلق سراح آلامه، وبقي زمنا لا يفكر في شيء ولا يسأل عن شيء.
ولكن ما كاد يتقلص ظل النهار حتى راجع حامدا كل الألم الذي كان عنده، وفوقه ألم جديد أنه اعترف بها لمن لا يفهمها، ومن لا يجيبه عنها إلا بكلمة «نعم»، ولا يقدر له على شيء. ثم أليس عارا أن يتعهد لإنسان مثل هذا الأبله بأن يعمل خيرا؟ أو لم يدس في ذلك شرف نفسه وضميره؟! أف لهذا الرجل الأبكم الكذاب!.. وبلغ به الحنق ضد الشيخ مسعود، فلو أنه كان واقفا أمامه لهان عليه أن يقتله، ولكنه رجع فهدأ من حدته وعاد باللائمة على نفسه.
أصاب حامدا ما أصابه، واعتراه من الهم ما ضاق به صدره. ومع ذلك فقلبه لا يزال شابا، ويريد القلب الذي يضمه إليه، وشفتاه المتقدتان بنار الحب تبحثان في الهواء عن الشفتين وعن الخد وعن الصدغ الذي يقبلان.. ورغما عن موت الأشياء الذي يجيء به الخريف، فإن الشمس النازلة وما تبعث به على السماء من لونها الوردى البديع جعلت حامدا يبحث عن قبلات الحب وعناقه. وإذا كان رأسه كله ملآن بالأسف على الماضي وحب التكفير عن ذنوبه فإن إحساساته كلها تتقد تريد المحبوب الذي يقدم لها سعادتها. وحيث يقتتل الإحساس والتفكير يكون النصر لأيهما ساعدته الطبيعة.
جاء الليل ينشر خيمته رويدا رويدا فوق النهار، فيصيب الأشياء كلها بظلمته، ويبعث للناس بساعة المغرب اللذيذة ونسيمها. فخرج حامد من مخبئه وهو حيران لا يدري ماذا يصنع، ولا أي طريق من طرق الحياة يسلك!
وبعد ذلك بأيام ترك قريته الصغيرة المحبوبة إلى العاصمة الكبيرة، وعنده أمل أن يجد في هذا التغيير ما يريح باله، ويهدأ معه ضميره، ويدخل إلى حياة طيبة ساكنة.
2
بعد شهر من سفر حامد إلى القاهرة رجع إخوته يوما إلى الدار فلم يجدوه، وانتظروا عسى أن يحضر للعشاء فلم يحضر، ومضى الليل واليوم الثاني على غير جدوى. فعلاهم القلق، وأرسلوا إلى أبيهم يخبرونه الخبر، فأسرع إليهم، واستفسرهم عن أمر أخيهم، ولكنهم لا يعلمون من أمره شيئا، فدق الرجل يدا بيد، ودخل غرفة ابنه وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وجلس مكتئبا حزينا يندب الحظ المنكود الذي اختطف منه أعز أبنائه.. ياترى أين هو اليوم؟ انتحر؟ ولكن لماذا؟ لا سبب يدعوه للانتحار! وكيف يترك إخوته وأهله من غير كلمة ولغير شيء؟..
وأظلمت الدنيا في وجه هذا الأب، وفاضت بالحزن نفسه. وتلفت فإذا عن يمينه صورة ولده تنظر إليه بعين مطمئنة ساكنة، ولا يروعها هلعه ولا يؤثر فيها أساه. فقام نحوها ووقف يحدق إليها، ثم لم يتمالك نفسه أن أخذها من مكانها وقبلها وضمها لصدره، ثم سقط باكيا على مقعد إلى جانبه.
لكن الحزن والبكاء لا يجديان، ولا بد أن يبحث عن حامد، فإما وجده حيا أو ميتا. وقبل أن يخبر أي إنسان بالأمر جعل يفتش في أوراق ولده فإذا بينها غلاف مكتوب عليه:
إلى والدى المحترم
فلم يكن بأسرع من أن فضه وقرأه فإذا فيه:
إلى أبي وأمي. إلى إخوتي وأهلي
من أيام مضت كشفت عن نفسي لشيخ سوء من مشايخ الطرق، اعتقدت أن أجد فيما يدعيه من القدسية ما يريح ضميري فلم أزد إلا عناء وألما. وهأنذا أفتح قلبي لكم لأنكم الذين أحب، وحتي تعذروا بائسا أضنته الفكرة فخرج هائما على وجهه لا يعرف سبيله، وقد ترونه بعد اليوم وقد تكون هذه الكلمة آخر أثر عندكم عنه.
من سنتين مضتا أحسست كأن صوتا دائبا في قلبي يحدثني عن الحب ولذته، ويصور لي جنته اليانعة وطيورها المغردة، ولا يكاد يجد فرصة يبين لي عن جمال المرأة والسعادة التي تمسك بيدها إلا خاطبني بلسان عذب فصيح يملك علي قواي، وأظهر لي أن حياة لا حب فيها حياة باهتة لا قيمة لها. فشرد لبي يبحث عن الملاك الذي عنده سعادتي؛ وحلقت آمالي في الجو علها تجد المحبوب الذي يكن بين جوانحه سر الهناء ومعنى الوجود، ولكن ما كانت عيني تقع إلا على بلقع خربة متنائية الأطراف أحار فيها، ثم أرجع بخفي حنين. وأخيرا في ركن منها هناك لا تصل إليه الشمس ولا الهواء رأيت كأن فتاة واقفة حيرى هي الأخرى لا تدري لنفسها سبيلا في الصحراء الهائلة أمامها، فترفع طرفها نحوي أحيانا وكلها الحياء والخجل. ثم حدقت إليها أتثبتها فإذا هي ابنة عم لي قذف بها القضاء الذي قذف بي في بيداء الحياة، وتبحث من ركنها عمن تهبه روحها وقلبها. فلما عرفتها قلت: وحيدان يؤنس كل منهما صاحبه. لكن هيهات! وأنا محلق في الجو وهي مختبئة في كنها. غير أني قنعت من بحثي بما وصلت إليه، وكنت كلما رحت إلى عالم الخيال نضدت لها معي فيه آمال الهناء ومددت لها بسط السعادة.
وبينما أنا في بلدنا الصغير بين العمال والعاملات قابلتني ريفية منهن كأنما أرسلت بها السماء في وقت صفوها إلى الأرض رسول الحب. وهل رأيت في حياتي كعينيها تقوس فوقهما حاجبان أشد نفاذا من السهم. وعلى صدرها ثديان يوحيان رغما عن الثوب الذي يسترهما بكل ما تكنه فتاة في ثدييها من الشباب والرغبة، وخصر رقيق فوق أرداف تزين عبل ساقيها، ومع ذلك نظرات تشف عن قلب طاهر مليء حبا. فأخذ بعينى جمالها، وودت أن أجدها لجانبي كل ساعة. بل وددت أن آخذها لنفسي، وأن أجعلها موضع سرورى. وبقي إعجابي بها يزداد يوما عن يوم، فبدل أن كنت أذهب للمزارع بطريق المصادفة أحسست بعدها كأن شيئا يدفعني نحوها وإلى حيث توجد تلك الفتاة.
كنت أجدها في عملها ساعة أصل، فأذهب فأقف إلى جانبها بعد أن أهدي الآخرين تحيتي. وكانوا في هذه الأيام ينقلون طوبا أخضر من مفارشه فيضعونه فوق بعضه. واتخذوا لذلك وسيلة سهلة أن يقف شخصان أو ثلاثة مابين المفرش والطوب المكوم ويقذف جار المفرش القالب ليلقفه من بعده ومن بعده حتى يصل إلى مكانه سالما، فكان من أكبر سروري أن أقف بعدها لألقف القالب الذي تقذف، وأن أبقى كذلك حتى ينتهي النهار أو حتى يكدني التعب. ولم أدر السبب الذي كنت أحب من أجله هذا العمل: ألأن يدها لامست هذا القالب يصبح عزيزا إلى ومحببا عندي؟ أم لأنها أخذته إلى صدرها ساعة رفعته فأودعت فيه من حرارة جسمها ما يصل إلي، وأجد من اللذة أن أضمه أنا الآخر إلى صدري؟ أم لسبب غير هذين؟ لا أعلم. إلا أن هذا الإحساس الذي أحسست به لابنة عمي، وكنت أسميه الحب، لم يكن يجول في صدري لهذه الفتاة، وكان منتهى ما أريد منها إلى جانبي فأمسك بيدها أو أقبلها أو أضمها لصدري. وإذا ما رجعت إلى البلد واختلطت بإخوتي وأهلي نسيت ذلك ونسيت كل شيء من مثله.
ثم جاءت الأيام بابنة عمي، فأنساني مجيئها المزارع والعاملات، وبقيت أحتال لأجد ساعة أكون أنا وإياها وحيدين، فلم تسمح لي بذلك فرصة، وبقيت أقضي وقتي بين جنات الأمل ونيران اليأس منتظرا من غير جدوى.
كان أكبر أماني من يوم فكرت في الحب ومن ساعة عثرت على ابنة عمي أن أتزوج بها. فجعلت في أوقات فراغي أنضد الآمال لحياتنا المقبلة، وأخلق من أحلامي عالما أرتب فيه سعادتنا. وكنت أحسب هذا الزواج أمرا مقضيا، لأني وعدت أن أزوج هاته البنية وأنا لا أزال صغيرا.
وكان لذلك من الأثر علي أن كنت أعاملها وهي طفلة بحنان وعطف زائدين.. فلما رأيتها ورأيت إخفاقي في أن أجد الفرصة لأحادثها منفردين أتى لنفسي ضيق شديد، وصرت أشد حنقا على الجمعية وعاداتها ممن ذاقوا ألم عقوباتها. فرفضت كل ما وضعت، ونفيت كل ما أثبتت، وجعلت فكرة الزواج التي يتباهى بها الخلف عن سلفهم ويدعونها أحسن ما أظهرت على الأرض عقول بني آدم موضع النقد المر. (ولا أنكر إلى اليوم أني أعدها نقصا، خصوصا على ما هي عليه، وأعد الزواج الذي لم يبن على الحب ويستمر مع الحب زواجا خسيسا).
مرت الأيام وأنا أتقلب على مهاد أليم من أفكار سوداء وأحلام فظيعة. ثم جاء النسيان على كل شيء، وهل في الوجود شيء لا يجيء عليه النسيان؟!
أقبل الربيع يحيي القلوب ويبعث الشباب إلى كل موجود، فنبه قلبي من غفلته. وذكرت ريفيتي التي تزوجت أيام الشتاء فتمنيت لها الهناء. ثم راجعني ذكر ابنة عمي واستولى على نفسي وكل حواسي، وصرت لا أعرف غيرها ولا أحب إلا هي ولا مطمع لي إلا أن تكون معي، ففكرت بعد عام مضى على آمالي الأولى أن أقابلها. وتبادلنا كلمات جاءت بعدها الساعة التي نرجو، ولكنها كانت أشد الساعات صمتا في جوف الليل الأخرس.
وتزوجت ابنة عمي هي الأخرى، وأرسلت لي ورقة تودعني بها، فعراني حزن كبير، ثم ما أسرع أن استولت صاحبتي الفلاحة على فؤادي، وأخذت بمجامع قلبي، ومازجت كل نفسي، وكادت تخرجني عن صوابي، وصممت أن أراها وآخذها لصدري وأعانقها وأقبلها، وأفعل كل الجنات التي يفعلها محب واله.
ولكن شيئا من ذلك لم يكن. قابلتها وذكرتها القديم. فكفى ليبعدني عنها أن ذكرتني هي أنها متزوجة.
أحسست بعد هذه المقابلة الأخيرة مع فتاتي وجوابها لي أنها متزوجة، بشيء من الألم يعمل في قلبي وينوء به صدري. ألم شديد لم أقدر على تكييفه ولا على فهم سببه. وأوقعني هذا الألم في حزن أسود قلب على الخير شرا، والسعادة بؤسا، والأمل يأسا. ولو أني وجدت في تلك اللحظة أحضانا مفتوحة ألجأ إليها وأحتمي بها لفعلت. لكني لم أجد عزاء إلا في نفسي، وأنا أكتم ما يداخلني من الهم عن كل الناس مهما كلفني هذا من مضاعفة ألمي وزيادة شقائي. غير أن الساعات كانت تزيد همي وتجعلني أشد إحساسا به من لحظة للحظة. فلما نفد صبرى وحلك ما أمامي ولم يبق سبيل لرؤية شعاع من نور الأمل يخرق هذه الظلمات بدأت أيأس من الحياة.
جاء إلى بلدنا الشيخ مسعود، شيخ الطريق، بعد مقابلتي الفتاة، وأنا أقطع نفسي هما وأسفا، ونصب مجلس ذكره، وجلست أرقب هؤلاء الناس الكثيرين اللذين يصيحون في جوف الليل ينادون ربهم تضرعا وخشية. فراق في عيني منظرهم وقلت في سري: لئن كان هذا الرجل يخفف الهموم لأكونن أول تابع له. ولم أتمهل أن قابلته بعد الظهر وكلمته، وأخبرته بمجمل من حالي فأقرأني بعده الكلمات التي يقرؤها كل من يأخذ عليه عهدا، وخرجت من عنده مسرورا. ولكن لم تكد تطوح شمس النهار حتى ضاعف هذا العمل بقية آلامي على وأحياها، لأني أحسست بالجناية التي ارتكبت.. وبعد أيام جئت هنا إلى العاصمة.
من يومها وأنا أفكر في حالي والحوادث التي وقعت لي في حبي، وانتهى تفكيري وحوادث جديدة حصلت بأن أغادر إخوتي وأهلي محملا بالألم لفراقهم وبالشفقة عليهم ساعة لا يجدونني.. من أجل هذا كتبت كلمتي هذه لك يا سيدي الوالد علك تجد فيها عزاء. ولأقوم إلى النهاية بوظيفتي فإني ذاكر حالي الفكرية والحوادث التي جرت في هذه المدة الأخيرة التي انتجت هجرتي إلى حيث لا أعلم.
تركت البلد إلى العاصمة وأنا حامل هموما يعلم الله شدة وقعها، فكنت أجاهد طول النهار لأجد من العمل ما ينسيني كل ما سوى العمل. ولكن ما إن يشتملني الليل حتى يجد الذكر سبيله إلى نفسي، وأرى أمامي عالما كبيرا من دولة الماضي مرسوما كله بعضه مع بعض من غير ترتيب في الزمان. وكان هذا الذاكر نتيجة ما أوقعني فيه الحب من اليأس، وما جائتني به حالي الجديدة من اللوعة. وليقدر أي انسان مقدار ما يخالط نفس شاب من سني حين يجد أنه أسقط في يده في كل ما أراد، سواء في ابنة عمه أو العاملة الفلاحة أو كل ما يسلي القلب ويزيل الغمة، ليقدر كم تكون حال هذا الشاب التعس! وعلى أي شوك تتقلب نفسه؟!.. غير أن آخر الهم المبرح إن لم يقتلنا فهو حري أن يرد إلينا شيئا من صوابنا ويدع لنا بعض الحرية في التفكير، فأعملت ذهني قصد أن اقف على دقائق حبي وإخفاقي فيه.
وأول ما سألت نفسي: لم احببت ابنة عمي؟ إنني عرفتها في صغرها، وكنا معا طول وقتنا، ثم افترقنا للمرة الأخيرة حين قدر عليها أن تلبس السواد. ثم بعد ذلك وفي لحظة لم نكن فيها معا ولا جاءت مناسبة خاصة، إذا بي أحببتها. أذلك لما توحي الذكرى الناعمة، ذكرى الطفولة من رقيق المعنى وعذب الأثر؟ أم أني قدرت لها من الجمال أن تكون بحيث أحبها حبا يجعل خيالها شريكي الدائم؟ أم أن ذلك لما كان يكرر أمامي وأنا صغير من أني سأتزوجها؟!.. لا يمكنني أن أجزم لأي هذه الأسباب أحببتها، وقد يكون لكل منها في ذلك الحب أثر.
ولكن الذي لاحظته أني بعد الشهور الأولى نسيتها كل النسيان، فلم يكن يراجعني حبها إلا عند حدوث حادثة معينة كأن تذكر أمامي، أو أن تأتي أيام الصيف إلى القرية.. وما أظن أن قلبا سريع التأثر والتقلب إلى هذا الحد يكون قد بلغ منه الحب مبلغا عظيما. بل إني أشك الآن كل الشك فيما لو كان لقلبي دخل في هذه المسألة، وأحسب ذلك مجرد خيال كان يجيئني لأني كنت محتاجا إليه.. ولكن.. أليس الحب في ذاته خيالا يجعلنا نتصور امرأة بشكل نعتقده الجمال كله، ونود لو تكون لنا، ونعيش سعيدين معا؟ وذلك كل الذي كنت أتمنى أن أصل إليه من ابنة عمي فلم لا يكون حبا؟ ولكن! لو أنه كان حبا حقيقيا ومتينا فلم انحلت عراه اليوم، وأصبحت لا أحس معه بشيء؟! أم الأمر على غير هذا، وأني كنت مسوقا بدافع من دوافع الطبيعة إلى جهة المرأة التي تستطيع معي أن تخلد النوع وتحسنه؟ وكانت تلك المرأة في تلك الساعة هي ابنة عمي! وإذا كنت قد تغيرت اليوم فلأني لم أعد أصلح للقيام معها بهذه الوظيفة الطبيعية من تخليد النوع وتحسينه؟.
وردت هذه الأفكار إلى نفسي ولم أستطع معها أن أجيب بشيء عن سؤالي: لم احببت ابنة عمي؟ فانتقلت أريد أن أعلم اى شيء كان ذلك الإحساس الذي شعرت به نحو الفلاحة الجميلة التي أخذت بناظري، وملكت جوارحي، فجعلتني أهاجر إلى حيث تقيم، لأمتع النفس بمشاهدتها والحديث معها، ومصاحبتها ساعة رجوعها إلى الدار. ليت شعري! هل كان ذلك هو الآخر حبا مني لها ؟ أو أنها صيحة الجيل المقبل في أحشاء جيلنا الحاضر يريد أن يخرج إلى الوجود؟ لو كان حبا لما نسيتها ونسيت المزارع التي هي فيها لمجرد حضور ابنة عمي إلى البلد. وإن كان الجيل المقبل ودافع الطبيعة لتخليد النوع هو الذي دفعني نحوها، فإني لم أشعر يوما بالحاجة ولا بالرغبة في أن تكون لي معها علائق تناسلية مطلقا كلا! بل أنا لا أشعر به اليوم.. وإنما كان غرضي أن أحادثها أو أنفرد بها أو أقبلها، وأن أجد من جانبها ما يقابل العطف الذي أحس به عندي لها.. إذن ماذا؟!
عرتني هنا كذلك حيرة كالأولى، ولم أستطع أن أفهم ما كان في نفسي لواحدة من هاتين الفتاتين.. وبعد زمن بقيته مستسلما لآلامي جائتني فكرة ارتعدت لها، فشعرت أولا كأني أستجمع قواي لأمر ذي بال وأهيء نفسي لعمل خطير.. ولا أرى بدا من أن أذكر هنا مقدار مراجعتي لنفسي حين شعرت منها بالتصميم على الإقدام مراجعة تبلغ أقصى درجات التخوف والحذر.. وبعد أن ثبت منها ومن يقينها بما ستقول تركت لها العنان لتذهب من جديد في تفكيرها وأحلامها.
نعم كانت كل غايتي أن أحادث تلك العاملة وأكون معها وحيدين، أو أن أقبلها. ولكن لم كل هذا؟ وأية نتيجة بعده كنت أبغي؟ أليس أن أبلغ أكثر من هذا فأقع في أحبولة الطبيعة، وأصل بخداع نفسي ومراوغتها إلى تخليد النوع وتحسينه؟! نعم، هو هذا. إنها فتاة بديعة الخلق والتكوين، قوية الجسم يفوح منها شذا الشباب؛ فالابن الذي ينتج من بيننا لا بد أن يجمع هذه الصفات ويضيف إليها غيرها ويرقى بالجمعية الإنسانية درجة في سلم التقدم.
هنا جاءتني الرعشة وشعرت كأن كل وجودي يصرخ في وجه عقلي يريد أن يقف عند حدوده: كفى من هذه الفلسفة التي يقذفنا بها مفكرو الإفرنج والألمان، ولنبق عند ما خلفه لنا آباؤنا لنسير فيه بالخطى المتمهلة التي نضمن معها ثباته. هل تريد أن أخرق سياج القانون والعادة وأستمع لهوى نفسي وأتبع في الحياة العملية ما توحي به النظريات، والأولى مرتبة من قبل متبعة والثانية لا تزال في حيز الفكر؟!
رغما من هذه الصيحة فإن عقلي انتصر على اعتقاداتي التي كسبت من التربية والوسط، وراح يفكر حرا مطلقا ضاحكا من الأشياء التي تعوقه ضحكة جمعت ما بين الإغضاء عنها وعدم العناية بها ومرارة الأسف عليها والأسى من أجل ما فيها من فساد، واستمر في طريقه غير هياب ولا وجل.
وفي الوقت عينه استلفته إلى مسألة كان فكر فيها قديما - مسألة الزواج والعائلة - ولم يقف لها على حل أن غطى عليه إحساسي المتأثر يومئذ ضد ظلامات الجمعية. فبدأ اليوم يريد حلها بعيدا عما يهيجه أو يفسد عليه عمله.
والواقع أن هاته المسألة شغلتني طويلا أي من أيام جاءني الشباب وبدأت أفكر فيمن أحب. وكان من أشد ما ساعد هذا التفكير الوسط الذي عشت فيه، والذي يرى كل صلة بين الرجل والمرأة فيما عدا الزواج أو ما ينتج الزواج صلة خسيسة سافلة. لتكن أيا ما تكون! لتكن حبا طاهرا أو مجرد صداقة أو إعجابا، فهي مادامت خارجة عن دائرة الزواج وما يستتبعه مقرونة بفكرة سيئة من الناس.
ساعدني ذلك الوسط لأن فساده ظاهر، من السهل اكتشافه خصوصا إذا كان الناظر فيه مثلي يومئذ من جماعة الذين يحتقرون الصلات التناسلية بين الرجل والمرأة، ويعدون كل ما خرج عن سرور القلب ولذة الروح من حب طاهر أو قبلات متبادلة، تدل علي عظيم صلة ما بين شخصين تدنيا إلى الحيوانية. وإجراما ضد الأبرياء الذين ننزلهم من أجل قضاء شهواتنا من أوج سعادتهم وسرورهم. فقلت حينذاك: إنما يجري الناس وراء الزواج لقضاء مطامعهم الشهوانية الصرفة.
أما هذه المرة الأخيرة فكان تفكيري غير هذا حيث أخرجته من أن يكون نظريا صرفا ليطابق العالم الخارجي ويسير فيه.
الكون عجلة تدور لا ندري أين أولها. وكل نقطة في المحيط ليست إلا جزءا تكميليا في هذه العجلة. كذلك ليس الجيل الحاضر إلا تكميليا في محيط الكون الأزلي الخالد لا نعرف متى ابتدأ ولا نتصور كيف ينتهي. من أجل الوصول إلى هذا الخلود ركبت في طبيعة الإنسان، كما ركبت في طبيعة كل حيوان آخر، بل في أصل كل موجود، عملية التوالد. ودفعته لها القدرة القاهرة السائر على نظامها كوننا. من أجل هذا رتبها الناس على الشكل الذي يحفظون به مصلحتهم الشخصية، كما أنهم يقدمون به للطبيعة غرضها الأول من تخليد النوع. وأحسب العائلة كانت في الأيام القديمة أكثر قياما بواجبها نحو الفرد ونحو المجموع مما هي اليوم. إذ أن العبودية السائدة يومئذ كانت تسمح للشخص العظيم ذي الجاه، والذي كان بطبيعة تلك الأيام من الأشداء في الحرب والقوة البدنية، وبالتالي من القديرين على إخراج أفراد أقوياء للجمعية، أن يشتري من الموالي من تعجبه. وإذا كان هذا الشكل من التشريع لا يساعد على نماء الحب المتين المتبادل بين رجل وامرأة فإنه كان يسد حاجة الأغلبية ذات الحب المتنقل. ولولا ما بهذه الطريقة من الخسف بحق المرأة لقلت إنها أقرب الطرق للطبيعة وللحق في آن واحد. أما اليوم - مع ما يدعي الناس من الإصلاح - فليست الحالة أقل بلاء إن لم تكن أشد ضررا، شاب يزوج من فتاة لا يعرفها ولا تعرفه ليعيشا معا طول الحياة.
ولما وصلت بتفكيري إلى هنا انحلت أمامي المسألة الأولى، مسألة حبي لابنة عمي. أنا مسوق بفطرتي للحب من أجل أن أسعد نفسي إن كان في الحياة سعادة، ولأن أخلد النوع بما أتركه من الخلف، كما أن الطبيعة تعمل جهدها لتجعلني أقع على من تستطيع بإجتماعها بي أن تكون معي أم أحسن أولاد تقدم للجمعية. وكل ركن من هذه الأركان قائم بنفسه مستقل بذاته. وأنا أميل دائما لمن تجتمع فيها شروط أكثر من غيرها، فإذا لم أحصل على من جمعت ثلاثة هذه الأركان لجأت إلى من كان عندها الأولان. ولذا ترى الشخص أول ما يطلب من الفتاة أن تكون مقبولة الطعم عنده، ثم أن تكون ولودا وذات نتاج حسن. فإن لم يكن هناك موضع للاختيار وقعت النفس على أول من تجد من الأشخاص الذين يقفون معها على سلم واحد من طبقات الجمعية. وذلك لأن ما أصبح بين الطبقات من الفروق صار فظيعا لدرجة أن يعد الكثيرون من دونهم من جنس أحط، ومن فوقهم من جنس أرقى. هذه كانت حالتي في اختيار ابنة عمي.
صحيح أنني إلى يوم اخترتها لم أكن خالطت من دوني من الطبقات، ولا كلفت نفسي مخالطة من يحسبون أعلى مني. ولكني أقر اليوم، وأنا خجل من إقراري، بأني - بالرغم من كل ما وجدته في الوسط الذي أنا منه من العيوب الكثيرة - لا أزال أنظر للطبقات التي ظلمنا نظرة تعاظم فارغ. وإذا كنت قد رأيت من بين الفلاحين من أعجبني شكله وحديثه وخفة نفسه، ومن الفلاحات من هن أفضل بلا شك جمالا وعقلا وأدبا من أكثر فتيات الطبقات الأخرى، فإني اليوم أحس بأن بين الطبقات المختلفة فواصل صعبة الاجتياز (اللهم إلا إذا أردنا أن نتخذ من هذه الطبقات محلا للهونا. هناك نلتصق جسما ونكون وإياهم على مستوى واحد فيما نعمل، ثم نحن مع هذا وفي هذه اللحظة نحتقرهم دائما).
وقع اختياري على ابنة عمي، لأنها من بين من أعرف أصلح من تستطيع أن تجلب لي السعادة، وأن تقوم معي بوفاء غرض الطبيعة. ثم عرفت تلك الفلاحة التي أعجبتني، وحملت نفسي من أجلها عناء، فنازعت الأولى مركزها، وأصبحت هي أقرب للذكر منها إلا إذا ألجأني الوسط إلى أن أرجع إلى فكرة الزواج.
هنا بدأت أفهم شيئا من ماهية الصلة التي كانت تربطني بصاحبتي الفلاحة، أنا لم أكن مسوقا نحوها بدافع طلب الاقتران بها والمعيشة معها ولكن بدوافع أخرى: أولها الإعجاب بها وذلك هو الذي كان يسوقني نحوها ولمجاراتها، وحب التمتع بالنظر إليها أطول زمن ممكن، فكنت في ذلك أعدها تمثالا حيا محكم الصنع. وإذا كنت قد أعجبت بصورة لأنها جميلة، وحرصت على أن أراها أكثر ما يمكن فلا بدع إذا بلغ بي الإعجاب بفتاة أن يدفعني نحوها كل هذا الطريق الذي كنت أقطع بين القرية والمزرعة.
والثاني لذتي الشخصية في أن أنال منها قبلة أو أضمها لصدري، والسعادة الوقتية التي أجد في استسلامها لي، والسرور الذي يجيئني به أن أرى الدم يصعد إلى خدودها وعيونها المستعطفة العذبة النظرات، وشفاهها المرتعشة كأنها تهمهم بشيء لا تجد القوة كي تقوله علنا. أما ثالث هذه الدوافع فأحسبه إتمام غرض الطبيعة من تخليد النوع، حقا إنني لم أفكر في شيء من هذا مطلقا، ولكن سبب ذلك أني جعلت الفكرة فيه مقرونة عندي بفكرة الزواج. ولما كانت الطبيعة لا تهتم بكل هاته الوسائل التي أقمنا لحفظ كيان العائلة والجمعية كما يقال، بل هي تهزأ بها، أرادت أن تعمي على فتدفعني لكل المقدمات وتجعلني أجد فيها ما يحرضني عليها ثم هي توقعني حتما في شباكها، وتبتز مني ومن هاته الفتاة الابن الذي تريد أن يكون الجيل المقبل.
في هاته الساعات التي كنت أقترب فيها من صاحبتي كان يقتتل في داخلي عاملان من غير أن أحس بقتالهما: الطبيعة وأغراضها، والوسط وما يوحي به من الأنانية. وبرغم أن الطبيعة سارت في طريقها إلى حد شاسع فإنها لم تبلغ النتيجة التي كانت تطلب، لأني لم أتزوج الفتاة حتى أكون انسكبت في القالب الذي يريده الوسط، ولا أنا أرخيت لنفسي العنان خشية أن يمس ذلك أنانيتي بسوء.
بعد أن وصلت إلى هذا الحد من التفكير تجلى أمامي أنه لا ابنة عمي ولا صاحبتي الفلاحة كانت تنفع زوجة أو محبوبة لي... وإن تكن الثانية أحق من الأولى، لأنها حازت إعجابي، وكانت موضع اختياري. ولذا يجب أن أبحث عن غيرهما.
من حين خطر في فكري أن أبحث عن غيرهما بدأت أفكر في الانفراد بنفسي وترك الناس والتجوال حتى أقع على بغيتي، ولكني لم أتم ذلك إلا بعد عناء أيامي الفائتة. إذ رأيت كأن وجودي كله يصرخ: لم تبحث عن زوج؟ أولا تجد فيمن أعجبتك الرفيقة التي تسعدك وتسعد الجنس بأبناء أقوياء أصحاء... ولكني شعرت في اللحظة عينها بما في تلك الصيحة من معنى الاستهزاء بالزواج الذي تقدس على الزمان. كيف يصح وفي أي شرع يسوغ لي أن ارافق فتاة لم أتعاقد معها على الزواج، ولا نحن أمضينا صيغة العقد أمام المأذون؟ أليس في ذلك هدم العائلة والقضاء على شرف هذه الصلة؟
هدم العائلة! وما العائلة؟ وما معناها؟ ألا أستطيع أن أتزوج اليوم وأطلق بعد شهر، ثم أتزوج أخرى وأخرى، ويولد لي من جميع زوجاتي أولاد؟ فما هي العائلة التي بنيت والتي يخشى أن تهدم؟ كما أني لو شئت أن أقيم عائلة فليس بضائري شيئا أن تكون شريكتي في إقامتها فلاحة عاملة، وإذا كانت الفلاحة وغيرها كلهن متساويات في الجهالة فالعائلة التي تقوم على أساس حسن من الحب لا شك هي أحسن من غيرها. كما أنه متى خرجت المرأة من دار أبيها إلى دار زوجها أصبحت امرأة فلان تعلو بعلوه، وينالها من العظمة ما يناله. تكون هي معه شيئا واحدا يصيبه مايصيب النصف الآخر.
لكل ذلك أرى أنه لم يكن من عيب علي أن أتزوج بالفلاحة التي أعجبتني! ولكني لم أتزوج بها، وتزوج بها غيري ورأيت أنا من الأمانة أن أذرها من فكري، وحافظت هي الأخرى على عهدها لزوجها بأحسن ما تحافظ به زوجة.
واليوم ماذا عساني أعمل؟ ها أنا حرمت من ابنة عمي ومن الأخرى، ولم يبق لي منهما نصيب، فماذا عسى أن أعمل؟ هذا هو السؤال الذي سألته نفسي بعد تفكير طويل لم ينتج كثيرا ... .. ماذا أعمل؟ رباه! إنك تعلم ما بنفسي من الألم، لأني أعتقد أن حياة لا يخالطها الحب من أولها إلى آخرها حياة ضائعة. فإذا هي فقدت هاته العاطفة في الشباب أيام الربيع حيث القلب متقد والوجود أمامنا ناضر فهل نستعيض عنها شيئا بعد؟
اللهم هداك وسط هاته الظلمات الحالكة التي تحيط بي! لم يبق من سبيل للمقام مع أهلي الذين أعز. ويلاه! ويلاه!! يجب من أجل أن أعثر على المحبوب أن أذر ورائي كل شيء وأهيم حتى أجده. وبذلك يمكنني أن أعيش سعيدا.
إنني أحب أبوي وأهلي، ولكن أخشى أن يكون بقائي بينهم - بعد الخوالج التي أراها قائمة بنفسي وذلك التقزز من الحياة الذي أصابني - هما في هم وحزنا لي ولهم، فخير أن أنزع إلى الوحدة فإما بلغت غايتي ووجدت المحبوب الذي يسعدني وأرجع به يوما ما بين يدي لنعيش جميعا مع أبي وأمي، وإما لم أجده فأرفض الحياة رفض النواة غير آسف عليها، لأن الحياة التي لا تحوي السعادة لشخصينا أولى بها أن ترفض.
أنا عليم بصعوبة العمل الذي أخذت على عاتقي، ولكني إنما احتملته بعد أن سئمت العيش ورغبت عنه. بل لم يكن تصميمي هذا إلا تخفبفا من حكم هو أشد وقعا وأقسى على نفس كل من يحبني.
وهنا أودعك والدي وأودع أمي وإخوتي وأهلي. وكل ما أطلب إليهم ألا يصيبهم جزع من أجلي، فإن الحياة أقصر من أن نقضيها في آلام وأحزان. ولكم جميعا الاعتراف بسابغ فضلكم على. والسلام.
حامد •••
لم يكد السيد محمود يتم قراءة هذا الخطاب حتى عراه الذهول، وحدق إلى ما حوله مبهوتا لا يفهم شيئا. وشمس العصر الضعيفة في هذه الأيام يتلألأ نورها على حافات النوافذ وتنساب بعض أشعتها على أرض الغرفة، وكلما هبطت من علوها زادت أشعتها امتدادا، واندلع بعضها إلى المكتبة كأنها تشير للأب اليائس إلى غريمه، وتخبره عن سبب أسى ولده. إنه قد صرف همه إلى قراءة أشعار العشاق فأخذت بنفسه رقتها، ورشقت قلبه عذوبتها، فأصابت منه الفؤاد، وأدمت الجوارح، واحتلت النفس وتمكنت من كل وجوده. ثم تأثر قصصهم وأخبارهم، ومن يموت منهم إلى جوار محبوبته، ومن يموت من أجلها، فتجلى أمامه سخف الحياة الباهتة القليلة القيمة التي يقضيها الكثيرون وهمهم منها كفاية بطنهم وسد مطامعهم المادية، وتجلى له جمال تلك الحياة العاشقة تقضى بين الخيالات والأحلام وإلى جوار المحبوب الذي يملك بيده سعادتنا. ولكن الأب منصرف بهمومه عن الشمس وعن المكتبة، يطرق ساعة، ويرمي بنظره إلى السماء أخرى، ينتظر أن يفتح الله عليه بأمر أو يرد إليه ولده. وبقي في مقامه حتى ولى النهار، واحتل الليل أرجاء السماوات والأرض، وجاء أولاده الذين تأخروا في المدرسة يتفرجون على لعب الكرة، ونادوا بالعشاء فجلس السيد محمود من بينهم مشتت النفس حائر الفكر لا يطعم شيئا ولا ينبس ببنت شفة.
وبعد أيام كان فيها حائرا لا يدرى ماذا يعمل وصل إليه من حامد الكتاب الآتي:
والدي المحترم
إني أحس الساعة بمقدار ما سببته لك من الألم. ولكن بالله إلا ما خففت عن نفسك وأزلت همك، وتركت جانبا التفكير في أمري. إنني أعيش اليوم عيشا رغدا، وأعمل فأجني من جبيني ما يقيم حياتي، ولا أفتر ساعة عن شكركم على ما قدمتم لي. وإني كبير الأمل أن يجيء اليوم الذي ألقي بنفسي فيه بين أحضانك وأحضان أمي. وهل الفرق بين الأمس واليوم إلا أنكم كنتم من قبل تعرفون مستقري وأنتم اليوم لا تعرفونه.
ألوم نفسي حين أعتقد أنكم محزونون من أجلي، ولكني لا أزال على قيد الحياة، ناعم العيش.. وإلى ملتقى قريب أو بعيد أهديكم جميعا تحياتي.
حامد
ولكن أنى لأب أن يتعزى بكلمة كهذه من ولده، بل لقد زادته أسى على أساه وشجنا على شجنه. ولو علم أن ابنه ترك الحياة لاعتراه اليأس، واليأس إحدى الراحتين، ولكنه يعلم أن حامدا بين الأحياء هائم لا صديق له يكد لمعيشته. ولا شيء أشد على نفس والده من هذا.
حامد اليوم بين الأحياء يريد من يحب فلا يجد، وقد ضرب دونه ودون كل فتاة حجاب. وأبوه في الدار كمد من أجله يتلقى قسوة القضاء، وهو ما بين الجزع والصبر تتناوبه هموم الخطوب من كل جانب. والجمعية الظالمة حولهما في شغل عن الأب وابنه لا تحس بما في نفسيهما، ولا يهمها أمات الأول هياما أم قضى الثاني نحبه ألما. وفي الخدور من هي أشد وجدا من حامد، ولكنها لا تجد إقدامه، ولا تستطيع - وقد ربيت في النعيم، أن تذر دار أبيها لتبحث هي الأخرى عمن تحب، فيطفئان بحبهما لوعة قاتلة، ويحييان عاطفة شريفة، ويمدان أمامهما من آمال السعادة مايهون عليهما حياتهما وما فيها من مصائب ومتاعب.
3
بعد ثلاثة أيام من سفر إبراهيم جلست زينب في القاعة التي ودعته فيها، وأمسكت بيدها المنديل الذي وجدته بعد خروجه، ثم نظرت إليه، وجاء إلى نفسها أن محبوبها الساعة في أبعاد نائية لا يعرف أحد مقره، فانهملت على خدها تلك الدمعة الحارة التي تسيل هادئة من عيونها من غير أن نحس بها والتي تحكي الآلام المحتلة كل وجودنا.
ومن ثلاثة أيام لا يكاد النوم يعرف إلى عيونها سبيلا. فكلما أرخى الليل سدوله أحيت هي موته وظلمته بدموعها المنسجمة وتنهدات يكاد ينشق معها صدرها، وبقيت في مرقدها تعاني الآلام أنواعا وضروبا. فإذا صادف أن سألها حسن عن سبب ألمها شكت دوخة أو مغصا تنتظر أن ينقضي مع الصباح. والصباح - ومعه ضجة الكون - يعزيها بعض الشيء عن مصابها وينسيها حزنها، وإن كانت تجد أحيانا في ساعات الوحدة ما يكاد يقتلها ألما.
جاء حسن وتناول الطعام كعادته، وصعد إلى الغرفة في حين بقيت هي في القاعة تحدق إلى منديل إبراهيم. فلما استبطأها سأل أمه عنها. ولكن أمه لا تعرف أين هي، فعلته غرابة! أين عساها تكون في هذه الساعة من الليل، وقد صلى الناس العشاء، ورجعوا إلى دورهم؟ وانقلبت الغرابة قلقا في وقت قصير، وبقي مكانه حيران لا يفهم من ذلك الأمر شيئا.
ثم زاده قلقا وحيرة أن صعدت زينب إلى الغرفة، فلما سألها لم تجبه بشيء لأنها لم ترد أن يعرف أين تقضي ساعات ذكراها وألمها. فألح في مسألته وطلب إليها إلا ما أخبرته من أين هي آتية. وكلما زادت إصرارا على سكوتها زاد هو إلحاحا وظهر على صوته شيء من أثر الحنق والغيظ. وأخيرا وقد ملكه الغضب صاح في وجهها: - لازم تقولي إنت كنت فين.. أني ما عرفش كدب النسوان الفارغ ده.. قولي لي كنت فين الليلة دي وإلا كل حي يعرف شغله.
ولكن ماذا عساها تقول له؟ إنها كانت في القاعة كل هذا الزمن الطويل! وإن سأل عما كانت تعمل فماذا تجيب؟ أتخترع من عقلها شيئا تداري به ما كانت فيه من ألم وحزن؟! أي أنها تكذب غير كذب النسوان الذي يقول حسن!. إنها بذلك تريحه من التفكير ومن اتهامها. ولكن ألا يصح أن يتخذ من كلامها دليلا على المراوغة وقول الباطل؟ ولم لا تقول له إنها كانت في القاعة تبكي؟ وإن سألها لم تبكين؟ وهل أساء إليها أحد؟
وأخيرا فضلت الصمت المطلق، وأن تترك له أن يظن بها ما يشاء، فما دامت هي مرتاحة الضمير فلا شيء عليها.
لكن أنى لها راحة الضمير؟!.. إنها ما عتمت أن تمطت في فراشها حتى راجعتها أحلام كل ليلة بشكل أفظع. ولم تستطع إمساك البكاء في قلبها بل علا بالشهيق صوتها. وذلك الألم الذي يخنقها كل ليلة وتعمل لبقائه مكتوما ظهر ووصل إلى سمع زوجها، فأطار من عينه النوم الذي كان قد بدأ يناوشه، وجعله يتسمع إلى تلك التنهدات التي تتمشى في صدر زوجته. وبعد أن كان ذلك الرجل الغضوب القاسي صار قلبه يلين، كأنما تصب عليه زينب من دمعها ما يخمد نار غضبه، أم كأنما يسري إليه وسط الظلمة الحالكة المحيطة به شعاع من رحمة الله. وأمست كل زفرة تبوح بها زينب سكينا تقد بها مهجته فلم يقدر على السكوت عن أن يسألها: مالك يا زينب؟
وما كاد ينطق بهذه الكلمة حتى أسلمت زينب نفسها للبكاء كأنها رضيع فقد أمه. بكاء ينهل من عينيها، ويودع في جوف الليل أحزانها ومخاوفها. ثم علا صوتها بالنحيب يتخلله أحيانا أنين مؤلم يصل إلى القلب ويحرق الفؤاد. فقام حسن من مرقده وأوقد المصباح وجاء إلى جانبها يملس عليها كما تملس الأم على صغيرها، ويسألها عما أصابها، ويتودد لها يحسب أن قد أثرت فيها شدته، فعزت عليها نفسها، أن رأته يغلظ لها القول، وما عرف عنها إلا الرزانة والوقار، ولا سمع من سيرتها إلا الحشمة والقيام بالواجب.
مع ما في الاعتراف بالخطأ من الصعوبة بحيث نلجأ أغلب الأحيان إلى إصلاحه بكل وسيلة من غير أن نقر أن قد وقعنا فيه، فإن من الأشخاص من لهم علينا من الأثر وفي نفوسنا من المنزلة ما يسهل معه أن نبالغ في هذا الإقرار. بل لقد يبلغ حبنا لهم أن نتهم أنفسنا بأمر لم نجنه ما دمنا نعلم أن في ذلك رضاهم. كان هذا الموقف الأخير موقف حسن يوم رجعت زينب من السوق وسألها عما قضت فيه نهارها. وها هو ذا الآن في الموقف الأول يقر لها بخشونته فيما قال، ويعتذر لها عما قدم، ويطلب عفوها، فلا يزيدها بذلك إلا إيلاما، لأنه يزيد مركزها حرجا، ويجعلها تضيف على أسفها لفراق إبراهيم أسفا آخر كبيرا أن لم تستطع أن تهب قلبها لزوج طيب حليم.
ليه مالك يا زينب؟. إحنا حا نفضل صغار كده نعيط من كلمه ونعيط من مفيش.. علشان إيه بس بتعيطي يا أختي.. الحق علي أنا يا زينب، وإن كان كلامي زعلك ما بقتش أعيده أبدا. انت مش عارفه إن الواحد يقلق لما بتغيبي بيخاف تكوني رحتي الغيط والا هنا والا هنا والأيام دي الدنيا بتبقى سقعة في الليل.. ما تعيطيش أمال.
هيه!.. إنه يخشى عليها برد الليل، ويؤلمه أن يراها تبكي.. لم يارب حين أردت أن تهبها حسن لم تهيء قلبها لحبه؟ ولم تضعه في طريقها حين بدأت تجد في كل إنسان محبوبها، لعله كانت تجد فيه من يملأ وجودها ويكون معها سعيدا في هذه اللحظات، فبدل أن تذرف الدمع ويبقى هو بين يدي الألم يكونان في هناء ورغد؟. وهل بعد جهادها العنيف الذي عملت لتعطي ما تستطيع أن تتصرف فيه من وجودها إلى الشخص الذي يعد نفسه وتعده هي ويعده الناس صاحبها الشرعي، هل بقي عليها من لوم، أو هل لأحد أن يتهمها بشيء، أو أن يسدي إليها غير كلمات الإعجاب بثباتها؟! وإذا كانت قد جاهدت طاقتها لتعطي زوجها قلبها، فإذا هذا القلب في ملك غيرها من قبل، هل ينبغي إلا أن نعذرها أكبر العذر ونلقي التبعة على الزمان القاسي؟!
لو أن إنسانا رأى في هذه الساعة من الليل وجه هذه المحزونة البائسة، أو سمع تنهداتها تشق السكون والصمت المحيطين بها، لأخذته الرحمة بها وبكى معها. ولو أنه دخل إلى قلبها ورأى فيه مبلغ ما يتشاجر الإحساس والواجب لعدها من كبار المجاهدات إزاء قوى الطبيعة العاتية. لذلك لم يستطع حسن البقاء إلى جانبها من غير أن تنهل من عينيه دمعة ليست أقل حرارة من دموع زوجته.
بقي الزوجان كذلك: أحدهما يبكي في صمت جزعا على صاحبه، وصاحبه تتجاذبه العوامل فلا يجد في طريق الحياة رشدا، ويذرف الدمع على حيرته وضيعته.
ثم مد حسن يده إلى كتفي زينب فأجلسها، وطوقها من بعد ذلك بذراعه، وضمها إليه ضمة كلها الحنان والعطف، وجعل يلاطفها ويداعبها كما تلاطف الأم المحزونة ولدها المريض، ويتودد إليها بكلامه الرقيق: برضه تزعلي مني أنا يا زينب؟! دا مش كان عشمي.. ولو كنت عارف إنك حاتخدي على خاطرك من كلمة والا اتنين كنت عملت زي الناس اللي يفضلوا يخزنوا لما تيجي عبارة كده ولا كده يطلعوا خلقهم على نسوانهم. ولكن أنا قلت علشان عارف إنك عاقله وتفهمي أن كلامي ده خايف عليكي وبدي لما تروحي هنا والا هنا في الليل تبقي تقولي لي.
وصل هذا الكلام إلى أعماق نفس زينب، وأحست بموقفها أمام زوجها، وأنها وحدها الأثيمة الخاطئة. غير أن ما ركب في الإنسان من حب تبرير عمله والدفاع عنه وخوفها السكوت الذي يزيد حسن ألما دفعها إلى أن تجيب: وإذا كنت قاعده في القاعة من ساعة العشا لساعة ما طلعت.
فنظر إليها حسن، وهي لا تزال تبكي، وقد علاه لجوابها الدهش والاستغراب!.. في القاعة؟! ولم لم تقل؟ وماذا كانت تعمل هناك؟ ولكن ثقته المتناهية بزوجته جعلته يغضي عن كل هذه الأسئلة وكثير مما ورد إلى خاطره، وبقي يعاتبها على سكوتها المطلق الذي لزمته أولا، ثم يضمها إليه ضمة كلها الاقتناع والارتياح.
وبقي إلى جانبها يحادثها ويلاطفها حتى عاد إليها سكونها، ثم أطفأ النور من جديد، واضطجع في مرقده قريبا منها، وجعل يسألها في أمور بسيطة لا قيمة لها، وكل أمله أن يذهب بها النوم إلى هدوئها. ولكن لم تكن إلا لحظة حتى غلبه التعب من عمل النهار وانقطع حديثه ونام. أما هي فلم تغمض عينا، بل باتت بحال أشد من حالها من ثلاثة أيام، وهي تلوم نفسها آونة على إيلام زوجها ببكائها، وأخرى تريد أن تهب له قلبها. وتجاهد لتقطع بكلمة أخيرة من إرادة ثابتة كل صلة بينها وبين إبراهيم، فتسمع كأن صوتا داخليا يسألها: «وهل تستطيعين؟»، وتتصور حبيبها واقفا إلى جانبها يبسم لها عن قلب طيب، ويرسل يده حول خصرها النحيل، ويقول لها: «أنا أحبك».
ما أكبر سلطان خيال المحبوب على النفس! يجعلنا ننسى كل شيء سواه، وننسى همومنا وأحزاننا، وننسى العالم وما فيه فلا يبقى إلا هو وابتساماته وكلماته، وإذا كان وجود من نحب إلى جانبنا، يعانقنا ونعانقه ويرشف ثغرنا ونقبله في درر وجناته، سعادة ليس بعدها سعادة، فإن خياله وذكراه، وذكر ما عمل وما قال، حلم هو ألذ الأحلام.
ارتفعت زينب من مضجعها متكئة على رسغيها كأنما تريد أن تأخذ إلى صدرها هذا الخيال العزيز إلى جانبها، وتجيء به معها تحت غطاء واحد تعانقه وتقبله. وبقيت كذلك حتى لم تعد رسغاها قادرتين على حملها، فوضعت رأسها من جديد على وسادتها، وهامت روحها في عالم غير محدود، وداخل جسمها همود، وراحت بكلها في نوم هادئ عميق.
لكن نومها هذا لم يطل أمده. إذ ما لبث الديك أن صاح على شرفة الدار، فانتبهت كعادتها وكلها النشاط والعزيمة، فكأن هاته الأحلام المحسنة التي قضت فيها أكثر ليلها أعطتها من الراحة ما عوضها عن قصر ليلها. وفي الساعة عينها قام حسن فذهب إلى الجامع لصلاة الفجر، فوجد أباه قد سبقه إليه ليقرأ الورد مع إخوانه الفانين. ولم يكد ينتهي من الوضوء حتى سمع المؤذن ينادي من أعلى الجامع أذانه، ويدعو لبيت الله جماعة عباده، فتنشر الظلمة صداه في كل الأنحاء. وبعد أن أسمع النوام أن الصلاة خير من النوم انحدر من عليته وسط سلم المئذنة الضيق، ولولا اعتياده رقيه وهبوطه لما سلم رأسه مما يصيبه. ثم أم جماعة المتقين لركعتي الفرض، وخرج إلى بيته آملا أن يجد لقمة ساخنة يأكلها لتغيير ريقه ليذهب من بعد ذلك إلى الكتاب لتعليم الأولاد. وخرج من جماعة الفلاحين من انصرف إلى داره، وبقي آخرون يسبحون بحمد ربهم ويقدسونه. وكان حسن مع الأولين قد خرج وذهب إلى الدار، فوجد زينب قد أعدت له لقمة الصباح ثم راحت «للملية». •••
راحت للملية والنهار يجاهد الليل ويطوي خيمته العظيمة، والطرق مختفية تحت رداء من الطل لا تزال وسنى يبين عليها أثر الكرى، والسماء بعث عليها النور الوليد لباسها الأزرق تطوق المزارع يقوم فوقها شجر الذرة، وهو أشد ما يكون همودا وسكوتا، والجو رطب عذب ينعش النفس ويبعث للقلب السرور، وكأنه يلاطف الموجودات كلها لتقوم من نومها. وكلها في صمتها سعيدة بما نالته من الراحة والهدوء.
سلكت زينب طريقها وحيدة منفردة، فلما انتصف أمامها ابتدأت تستعيد ما حصل ليلة الأمس بينها وبين حسن، فما كادت تذكر ذلك حتى أحست في نفسها بحاجة إلى رؤيته، كأن دافعا يدفعها للإسراع إليه، فأسرعت حتى وصلت إلى الترعة وملأت جرتها ورجعت عجلى ولا تدرى لذلك سببا. فلما بلغت الدار وجدته قد سرح وأخذ التملي معه، فأفرغت جرتها وأخذتها لترجع للدور الثاني، ولكنها دهشت حين سألت نفسها: لم تريد أن ترى حسنا؟ وماذا كانت ستقول له لو أنها وجدته؟ حقيقة ليس هناك من جديد يدعوها لذلك، لكنها النفس الإنسانية تتنبه فيها أحيانا عواطف غريبة لا يفهمها الإنسان، ويظنها نزعات غير مسببة في حين أنها نتيجة لحوادث سابقة كانت كلها سببا لها.
ووجدت الطريق قد ابتدأ يعمره السارحون والذاهبات للملية، فقابلت بعضهن سارحات والآخرين سارحين، وكان من بين هؤلاء أم السعد وقشطة أم إبراهيم ونفيسة أم أحمد ذاهبات جميعا لدورهن الأول، وهن يمشين على مهل. فلما مرت بهن زينب، وأهدتهن صباح الخير، استوقفنها، وقصصن عليها حديثا سمعنه بالأمس أن الشيخ مسعودا طالع للحج هذا العام، وسألنها: هل حقا أن عمي خليل طالع معه؟ أما هي فلم تكن تعلم عن هذا الأمر شيئا ولا سمعت أحدا عندهم يطلب عمل زوادة أو غيرها، على أنه إن صح هذا الخبر فالوقت لا يزال بعيدا على السفر.
وبينما هن في حديثهن إذ سمعن من ورائهن: صباح الخير يا بنات ثم رأين الحاجة زهرة إلى صفهن. واستمر الكلام، فلما علمت أنه دائر حول الحجاز راجعتها عادة جميع العجائز اللاتي يحججن، لا يكدن يجدن الفرصة حتى يخرجن من أعماق حافظتهن الحوادث والأماكن التي رأت عيونهن، ويضفن إلى ذلك من واسع خيالهن ما بذلك تظن نفسك في بلاد السحر بين قوم كل كلامهم إلهام وكل ما عندهم خيرات تنزل من السماء.
حكت لهم عن حجها، وعن عمود النور الذي رأته فوق المدينة المنورة، وعن العرب، وعن المطوفين. حكت ذلك من غير ترتيب، وجاءت بأحاديثها التي تقص عند كل مناسبة. والبنات مبهوتات يرددن من حين لآخر (يابخت من زار النبي) وينصتن إنصات مستفيد لخيالات الحاجة زهرة، وهكذا قطعن طريقهن، ونسيت زينب ما كان يشغل بالها.
طلع قرص الشمس في الشرق، فأدخل الحياة واليقظة إلى الكون، وتورد لمطلعه الشفق، ووصل صاحباتنا والترعة يسيل ماؤها هادئا، وقد انطرح عليها غطاء خفيف من نور النهار الجديد، وقامت إلى جانبها الأشجار أنذرها الخريف فهي كاسفة حزينة، وغيرهن يملأن أوعيتهن، وأخريات يغسلن أثوابهن، ويمر من حين لآخر فلاح معه بقرته أو جاموسته.
لما رجعت زينب لآخر أدوارها كان النهار قد عم نوره الأنحاء، والشمس تسبح في الجو العظيم، وتبعث على عيدان الحشيش وأوراق الذرة من أشعتها يتلألأ تحتها الطل الباقي من أثر الليل، وتسطع بأشعتها فوق سطح الماء الهاديء الساكن. وبينا هي تغسل الإناء بعد أن ملأته إذا هي تسمع خوار ثور طالما سمعت خواره من قبل. والتفتت فإذا الحيوان نائم تحت الشجرة التي كان يربطه تحتها إبراهيم أيام كان عنتر صديقه وصاحبه، متى ابتدأ علقته في التابوت لا يقف أبدا بالرغم من مشيته البطيئة، وإن هو علقه إلى جانب ثور آخر في المحراث لم يناكف ولم يتعبه. فلما رأته خيل إليها أنه في ندائه يسألها عن صاحبه فأرادت أن تجري نحوه لتقبله، ولتجد فيه من أثر المحبوب ما يهدئ نفسها التي هاجت لهذا النداء. ثم رنقت النظر إلى الشجرة العزيزة التي طالما جلسا تحتها قبل وداعه، وهي الأخرى تصفر أوراقها حزنا على فراقه وأسى من أجله. والبقعة التي كانا يجلسان فوقها، وشجيرة التوت الصغيرة التي عندها، وعيدان الغاب المحيطة بها!.. ألا تندب هذه الأشياء صديقا كإبراهيم؟ حقا كل هذه الأشياء غارقة في أسى كالذي أصاب زينب، ولولا ذلك لما كلمتها جميعها وكلها الرقة والحزن.
وجعلت هذه الهموم تعتاد زينب كلما وجدت أثرا من آثار محبوبها، فيعروها الأسى وتظهر على وجهها علامات الحزن وتنقبض نفسها فتنقطع عن الطعام، وتلزم الوحدة، وتطيل التفكير، ويشتد بها الحال من حين لحين، فيحنق قلبها، ويرتعد بدنها، ويذهب لونها، ثم تترقرق ما بين محاجرها دمعة تسيل على خدها ولا يبصرها أحد.
تتابعت الأيام تفنى واحدا بعد الآخر، وكل يوم يمر يزيدها شجنا وتطلبا للوحدة. فإذا ما خلت إلى نفسها أسلمتها للبكاء حتى تذهل عن نفسها وعن الوجود، وبدأت تحس بوحدة فظيعة تزداد من يوم ليوم، ولا تجد في مخلوق مؤنسا. بل لكأن سكون الكون أو نداء الحيوان آنس لها من كلام الناس وجلبتهم.
تقدم الخريف، وظهرت على الأشياء وحشة. فكنت ترى مزارع القطن ولم يبق على أشجارها ورقة، تمتد سوداء فوق أرض لا نبات فيها ولا شجر. والذرة جاء عليه الهرم، وقد خلع كل أثوابه، وبقي واقفا منكمشا ينتظر الموت القريب. والترع غاض ماؤها، ولم يبق بقاعها الناشف إلا وشل ينهل منه الناس والدواب. والشمس يؤذن مطلعها بمغيبها القريب، وينتظرها الناس وكلهم الشوق لها بعد ليلهم الطويل البارد. والهواء يهب من الشمال فترتعد له أجسام المترفين، ويستقبله من الفلاحين عاري الصدر عاري الساقين فرح بما يجيء وراءه من أيام الراحة. وكل شيء يؤذن بالأقوال أم بسنته السنوية يأخذها أيام الشتاء حين لا سعي ولا عمل.
وكلما قطب الوجود ازدادت زينب حزنا وأسى، وظهر عليها من أثر ذلك ما يكاد يميزه من رآها من قبل.
اعتقدت أن قد أصابها البرد حين أحست بسعال يناوشها من حين لحين ، ومع ذلك لم ترض أن تلزم الدار وتحتفظ بنفسها وتطلب الدفء، لأنها كانت تعلم ما في ذلك من حرمانها مشاهدة آثار إبراهيم وما خلف، والشجرة الشهيدة على ما كان بينهما. وبالرغم من ريح الصباح القارسة التي تهز الأبدان وترعد الأسنان كانت تذهب إلى الترعة لأول خيط تبعثه الشمس من شعاعها على البسيطة متخذة لذلك حجة أيا ما كانت. فلما غيض الماء ولم يبق للملية من سبيل إلا أن يذهب الناس ظهر النهار لمحطة السكة الحديد ينالون مما يحمله الوابور معه، كانت تذهب لترى بعض أمر يخص أبويها وأختها، وإذا ما جاء الظهر لم تنس أن تروح إلى المحطة لترسل هي الأخرى لأسود الوجه فاحم القلب الذي أبعد عنها محبوبها نظرة حقد وكراهية.
وكلما رأت الشجرة أو الوابور أو أي أثر من آثار محبوبها انتشر في جو أفكارها سحاب من الهم ولم تستطع إلا أن تستسلم للتنهد ثم للبكاء المر. وفي وسط بكائها يعاودها السعال فيرج صدرها ويهزها جميعا، ثم يرسل إلى خدها الشاحب الناحل ما يرد إليه بعض تورده الذي لا يلبث أن يغادرها بعد لحظة. وتدخل الدار فتحبس نفسها في الغرفة أو القاعة، وتبقى هناك الساعات الطوال المتوالية. وكلما سألها حسن عما تعالج من الحزن أجابت أن أصابها برد وسعال لا ينفكان يضايقانها.
انقضى العام وجاء يناير وفصل الشتاء معه، وعمل الفلاحون لتقطيع الهندي والشامي، وأصبحت المزارع مسطوحة تقوم عليها النباتات الصغيرة إن فولا أو برسيما أو غلالا، فإذا ما أرسلت بنظرك راحت أمامك الأرض خضراء حتى يقصمها الأفق. والترع فيما بينها ناشفة تنتظر التطهير في هذه الأيام أيام الجفاف، وقد بدا عليها من الضعف والاستسلام ما يجذب القلب نحوها. والدواب الراتعة في مرابعها تزعق أحيانا فتملأ الجو الساكن بزعيقها. وعلى مقربة منها انتشرت فوق البساط السندسي جماعة القبرات تصفر وتنط، فتبعث شيئا من الفرح إلى جو الشتاء الحزين.
كانت أم زينب تراها من حين لآخر، وكثيرا ما تصادفها عند الموردة ساعات الملية فتسألها عن حالها مع حسن ومع حماتها كذلك. كانت تذهب عندهم في الدار ومعها بعض الشيء من سمك أو خيار أو نحوه حسب فصل السنة. ولا تفتأ - كلما وجدت من زينب ما تحسبه يؤخذ على مثلها - تكرر لها النصيحة. ثم إذا رجعت إلى دارهم ورأت زوجها قصت عليه، وكلها السرور والرضا، مبلغ حب أم حسن لزينب وإعزاز أخواته وميلهم جميعا لها. حتى خليل كان كلما رآها سألها عن شأنها ثم طمأنها على ابنتها وسيرها ومدحها أمامها بما هي أهل له، وأكد لها أنه في كلامه غير مغال ولا مبالغ.
فلما رأتها في هذه الأيام الأخيرة وقد ظهرت عليها علامات الألم بهتها شحوب ابنتها وذهولها، وجعلت تسأل نفسها: ماذا عساه قد أصابها. وهذا السعال وإن يك بسيطا فإن تقدمه كل يوم عن الذي قبله جعلها تقلق بعض الشيء على صحتها. لذلك رأت من الواجب عليها أن تنبهها حتى لا تخرج إلا محتاطة لنفسها من البرد... ولكن هيهات أن ينفع التنبيه بعد أن استحكم الداء من صدر الفتاة، ولم يبق إلا القليل حتى تظهر عليها كل آثار السل القاتل.
4
بهي الشيم أخينا المحترم حسن أبو خليل دام بقاه آمين
بعد إهداء مزيد السلام على حضرتكم نخبركم أننا هذه الأيام في أم درمان، ونحن طيبون بخير، ولا نسأل إلا عن صحة سلامتكم التي هي غاية المراد من رب العباد. وفي تاريخه أخبرني الشاويش أنه ستقوم أورطة إلى جهة سواكن ولا أعلم إذا كان منها بلكنا. وإن شاء الله متى قامت نخبركم إن كنا منها ونبعث لكم بجواب من سواكن. ولا تؤاخذنا في تأخير الخطابات إلى الآن، فإنهم نقلوني كثيرا فما كنت أعرف إذا كنا سنبقى أو سنرسل. ولكن هنا في أم درمان يمكن دائما إرسال جوابات باسمي فأستلمها، وإذا ذهبت إلى سواكن يبعثوها لي. قد قابلت هنا أحمد أبو خضر وهو من بلدياتنا ابن أبو خضر أبو اسماعيل وهو يهديك السلام. وقابلت سعد البرهمتوشي وهو يهديك السلام. وقابلت خليل أبو عوض الله وسعد الدين الحبشي وعلي أبو محجوب وكلهم يهدوك السلام. ثم تسلم لنا على أبوي خليل وعلى حسين أبو مسعود وعلي أبو أحمد وعلى والدتنا وعلى والدتكم وإخوانكم، وتسلم لنا على الحاج هنداوي أبو عطية وعلى إبراهيم أبو سعيد ثم تسلم لنا على جميع من بطرفكم وجميع من يسأل عنا ودمتم.
حاشية:
تسلم لنا على جميع عائلتكم ودمتم.
إبراهيم أحمد
من يوم أن سافر إبراهيم لم يقف له أحد على خبر. فلما وصلت هذه الرسالة إلى حسن، وعلم منها أن صديقه ممتع بالصحة، وأن كل آماله أن يكون جميع معارفه مسرورين أصحاء، سارع فأبلغ الخبر إلى والدة إبراهيم التي لم تلبث حين سمعته، أن طوقته بذراعيها الناشفتين، وجعلت تقبله من غير حساب، وقد عرتها رعدة عصبية، وانهلت من عينها دمعة لم يدر حسن إن كانت دمعة فرح على صحة ابنها أو دمعة حزن وألم على فراقه. والواقع أنها لما ذكرته وذكرت منفاه البعيد عاودها الحزن الذي استولى عليها من يوم سفره! لكنها في الوقت عينه سرت بالخبر الطيب الذي يحمله إليها صديقه، وحمدت الله على صحة ابنها المحبوب. وبين هذين العاملين - وقد ارتفع قلبها في صدرها، وعاودتها القشعريرة مرات تهز جسمها النحيف البالي - هملت دمعتها على وجهها الأسمر قد عملت فيه الأيام فتركت فيه آثار التجعد الظاهر.
هذه أول كلمة بلغتها بعد ستة أشهر عن إبراهيم الذي قام من بلده إلى بندر المديرية ثم القاهرة حيث أقام بعض شهور بقشلاقات العباسية ومنها انتقل مع إخوانه وبلدياته إلى السودان ومجاهله إلى تلك البلاد القفر التي بابها فوهة القبر والعذاب والجحيم ينال فيها كل فقير صحيح البدن حظه من الشقاء. ثم هو يرد إلى بلاده وكل ما كسبه أنه لبس طربوشا ثلث متر في الطول وسترة وبنطلونا تجعله يزدهي على أقرانه أياما بعد رجوعه، ثم يصبح من الأعطال الذين يقضون حياتهم نوما وحديثا ويلبسون مركوبا أو بلغة وجلابية بيضاء وعمامة ملفوفة على طاقية مزهرة، أو تلجئه الحاجة إلى أن يرجع إلى صف العمال الفقراء التعساء فيعمل كما كان ويأكل من عرق جبينه.
بلغ حسن الخبر لأم إبراهيم لساعة ما وصله الكتاب، وقرأه عليه بعض من كان حاضرا في دار العمدة. ثم رجع إلى بيتهم وقص عليهم الحديث، وأخبرهم بما لا يزال عالقا في ذهنه منه، وأن إبراهيم يسلم عليهم جميعا. فتشوقت زينب أن تسمع كلماته، وتمنت لو وجد من يقرؤه أمامهم. ولكنها لم تستطع التصريح بما في نفسها لما تحيطها به من الحذر دائما ومن أن حسن مطلع على خفايا قلبها وأنه ينتظر منها كلمة كهذه ليبرق لها ويرعد ويظهر لها مخبوء ما في نفسه.
ترى ماذا يقول عنها إبراهيم في جوابه وهل ذكر اسمها؟.. رباه! وهل يتذكرها وهو بعيد لا يعرف شيئا من أمرها ولا ما يدور في نفسها؟ أو أنه قد نسيها وراحت من باله كما راحت البارحة؟ ألا يوجد أحد يقترح على حسن أن يقرأ الجواب! عمي خليل.. أمي جازية.. أحد أيا كان؟.. انقضت الأيام التي كان يجلس فيها إبراهيم تحت الشجرة ينتظر مجيء زينب!.. لكن كيف ينساها؟.. ومن يدري؟.. قد يكون نسي كل شيء.. إذن أفلا أحد يريد أن يسمع جواب إبراهيم؟..؟.. آه.. أمي جازية لا تريد هي الأخرى ...
بعد برهة من سكونهم جميعا سأل عمي خليل: هو مش مبسوط كده.. إبراهيم أبو أحمد. - دا مبسوط خالص.. وبيقول يمكن يروح سواكن ويمكن ما يروحش لسه ما هوش عارف إن كان بلوكهم مسافر والا لأ. - هيه.. بلا سواكن بلا طوكر.. إياك دنه قاعد. كتر التنقل يلخبط اللي ما يتلخبطش.
وفيما هم في حديثهم دخل عليهم صغير من أولاد جيرانهم يسأل إن كانت أمه هناك، لأنها ليست عندهم وهو خائف أن يبقى وحده فقالت له أمي جازية: اقعد وكمان شويه هي تجيء تسأل عليك.
ولما جلس سألوه عما يعمل في المكتب هذه الأيام. ومن أجل أن يعرفوا قوته في المطالعة أخرج إليه حسن جواب إبراهيم ليقرأ وأنصتوا جميعا له. أما زينب فاقتربت منه بقدر ما يسمح لها به المكان، ووجهت إليه كل سمعها. ومن لحظة لأخرى يرده حسن في بعض الكلمات التي يلحن في النطق بها بعد ما سمعها صحيحة من قارئ المضيفة.
في وسط الجواب دخلت أم الغلام تسأل عنه، فلما رأته يقرأ وقفت هي الأخرى ساكنة تسمع، وقد امتلأ صدرها بالسرور والإعجاب الذي ينال الأم أن تعتقد نفسها أنجبت. فلما قرأ كاتبه إبراهيم أحمد بذلك الصوت المسموع الذي اعتاد أن يقرأ به القرآن في مكتبه وسكت، عندها أحست زينب كأن قلبها يتمشى في صدرها أن سمعت كل هذا ولم تجد لاسمها بين من ذكر إبراهيم أثرا، فطلب إلى حسن أن يسلم حتى على أخواته، ولم يدر في باله أن يقول وعلى زينب أيضا. لكن الغلام قطع عليها طريق أحلامها أن أدار الصحيفة في يده ثم قرأ الحاشية التي لم تتعز بها زينب كثيرا. وحينذاك أخذته أمه وخرجت راجعة إلى دارهم.
وذهب بعد ذلك كل إلى مكان نومه. فلما دخلا معا قاعتهما، وفتحا بابها أحسا بالدفء يقابلهما آتيا من فرنها المتقد تحميه زينب أصيل كل نهار. ثم راح حسن إلى مضجعه ونشر فوقه عباءته ونام، واضطجعت هي قريبا منه بعد أن أطفأت النور، وبقيت هي الأخرى لا تبوح بنفس إلا أن يهزها السعال أحيانا وتتنهد بعده لما تحس به من الحرقان يشرخ صدرها. لكن ذلك كله لم يكن ليقطع على زوجها طريق نومه، إذ أنه قد اعتاده من نحو شهرين مضيا، كما أن تعبه المفرط طول النهار كان يجعله متى توسد فرشه لا يقيمه إلا الصباح. •••
من شهرين مضيا كان ذلك أول ما اعتاد السعال زينب، وكانت لا تكاد تحس من ورائه بألم، ولا يعقبه إلا ما يعقب السعال البسيط من بلغم تقذفه فتخفف به عن صدرها. وبعد أسابيع من ذلك أحست من السعال بشيء من التعب العام وانحطاط القوى، فإذا عملت عملا أحست بعده كأنها مجهودة لاغبة. وابتدأت مع ذلك تحس بشيء من الألم يصحب السعال، وغادر وجهها تورده، فأصبحت بعد أن كانت خمرية اللون تكاد تكون شاحبة. وظهر على وجهها من أثر الحزن، وفي نظراتها من معنى الشجن، ما جعلها جذابة تنال ميل كل من رآها، وهذا الضعف الذي كان يزداد يوما بعد يوم يذر الناظر إليها المأخوذ بحسنها يعتقدها مكسالا نؤوم الضحى.. لكنها جاهدت ما استطاعت لتمحو أثر كل هذا من أعمالها، فهى تقوم بكل شيء، كما كانت تقوم به من قبل، مهما كلفها ذلك من الجهد واللغوب.
وسط ظلمة القاعة الدافئة جعلت زينب تفكر في خطاب إبراهيم، وكيف لم يذكر اسمها في حين ذكر الآخرين. أليس هو النسيان الأكبر أن يجيء إلى باله أبو حسن وأمه وإخوته وتكون هي نسيا منسيا؟ لقد وجد في هذه البلاد الجديدة ما شغله عنها، ومن فتياتها من أعطاها قلبه، ولم يبق عنده منها حتى ولا مجرد الذكر!.. ألا.. إنه.. إنه..
لكن زينب لا تستطيع ذكر اسمه أمام زوجها، فلم تطالبه هو بذكر اسمها؟ ألا يكون سكوته أنه دائم الاشتغال بذكرها يخشى ماتخشاه من أن يطلع أحد على ما في ضميره؟ أو لم يذكر في السطر الذي قرأه الولد حين قلب الجواب، والسلام على عائلتكم، بعد أن قال من قبل السلام على من بطرفكم؟.. ألا يمكن مع هذا أن يكون دائم الذكر حافظ العهد؟..
أهو في سواكن الآن أم في أم درمان؟.. ترى متى يرجع فيتمتعا معا بهناء الحب، ويتلاقيا كل يوم، ويذكرا هذه الأيام أيام الفراق، وما لاقيا فيها من أسى ولوعة؟!.. ثم تصورت إبراهيم بعد رجوعه ومقابلته لها بالحضن ودموع الفرح التي ستفيض بها عيون كل منهما، ثم حين يذهبان تحت شجرتهما المباركة يستعيدان اللحظات الفائتة وما فيها من لذة وسعادة.
جاءتها هذه الأفكار الطيبة فأبدلت حزنها وهمها سرورا. وبين جنات أحلامها نسيت الألم ونسيت الوجود.
لكنها في الأيام التالية لم تكن حسنة الظن بهذا المقدار، بل كان يراجعها الخوف من حين لحين. وتأتي معه ساعات سوداء ملأى بالأحزان والهموم، فتخلو زينب إلى نفسها، وتجلس إلى مكان أرسلت عليه شمس الشتاء من ضعيف أشعتها ما أطار شديد برده. ثم تذكر إبراهيم وجوابه، وتألم لهذا الفراق الأليم القاسي . فإذا ما أرادت أن تقوم أحست بهمود وتعب واعتراها ضعف تكاد تسقط معه إلى مكانها من جديد. وكثيرا ما كان يعاودها السعال في هاته الساعات المتعبة يهز كل جسمها وتشعر معه بشيء يتمشى في صدرها.
أخيرا وقد أحس حسن من زوجه هذا الضعف، ولاحظ عندها هذا السعال، رأى ألا تخرج إلا عند الحاجة الماسة، وأن تلزم السكن والدفء حتى لا يزيد البرد في آلامها، وحرم عليها أن تذهب للملية لما في هذه المسافة البعيدة مما يجهدها ويتعبها خصوصا بعد أن نضبت الترعة ولم يبق من سبيل إلا الذهاب لمحطة السكة الحديد. وكل ما سمح به لها أن تخرج في البلد إن أرادت، وإن كان هو يفضل بقاءها المطلق في الدار.
لكن هذه الآراء لم ترق زينب في شيء.. صحيح أنها تحس بالتعب، وتألم حين يأتيها السعال فتبصق الدم بعده، كما أنها تشعر بانحطاط قواها هذا الانحطاط السريع، غير أنها تريد أن ترى دائما الأماكن التي تقدس وتحب، وتريد أن تجلس عندها كلما سمح بذلك وقتها، فعارضت جهدها قائلة إنها لا تريد أن تزيد من نصيب أختى حسن من العمل، فما عندهما يكفيهما. لكن حسن متمسك برأيه، ويريد أن ينفذه لا بد. وإن أحوجت الحال وكان حقا أن أختيه لا تستطيعان القيام بالعمل فأية أجيرة تقدر على القيام به وأن تحل محلها حتى يأتيها الشفاء.
بقيت بعد هذا الأمر لا تبرح الدار أسبوعا من الزمان. لكن تلك الأماكن لم تغب عن خاطرها بل كانت تحس دائما كأن دافعا يدفعها نحوها، أو كأن هاته الجمادات تناديها بأعلى صوتها تريد منها أن تشاركها في إقامة ذكر صاحبها. وكم جاهدت أم جازية لتسري عن خاطرها كل هم، ولتجعلها تضحك، فذهب جهادها هباء، واضطرت أن تلجأ إلى السكوت حين رأت أن الابتسامة التي تسمح زينب بها لنفسها أحيانا تزيد منظرها حزنا، وكأن القضاء المخيم عليها والذي يلعب بروحها يوحي لها أن هاته الأشياء المحيطة بها ستنفصل عنها قريبا.
نفد صبرها آخر هذا الأسبوع، فبعد أن تناولت طعام الغذاء مع حماتها وأخوات حسن خرجت من غير أن تخبر أحدا إلى أين تذهب. خرجت من بين جدران القرية، فانبسطت أمامها المزارع الواسعة يفرشها النبات الأخضر من برسيم وغلة وفول يزينها زهره الجميل وما ينط فوقها من القبرات والعصافير وأبي فصادة. وبعيدا تقوم الأشجار وعليها شيء من الحزن الذي يعلو الطبيعة في فصل الشتاء. واتخذت طريقها المعتاد إلى الموردة، وهناك وجدت الترعة ناشفا قاعها وطمي النيلية يكاد يملؤه، وعن يسارها قريبا الشجرة وتحتها المدود ينط على حافته ثلاث فصادات وعصفور. وقريب من المدود التابوت قد غطيت علبته بعيدان القنيش وأميل كبيره ليستريح راحته الطويلة، وحول ذلك كله تمتد الغيطان الواسعة.
وقفت وحدقت بالشجرة فوجدتها سوداء حزينة أشد اكتئابا من غيرها، وحولها صمت مهيب كأنه صمت الموت. وكل الأشياء كاسفة حزينة.
ولم تطق الوقوف طويلا، بل اعتراها التعب وخانتها رجلاها، فراحت إلى مكانها وارتمت فيه هامدة، وجلست تستنطق هذه الأشياء عما بقي عندها من الذكر لإبراهيم. وفيما هي نائمة في أحلامها نط العصفور حذرا يقترب منها رويدا حتى إذا كان إلى جانبها نقر في الأرض والتقط بمنقاره دودة وطار فوقع حيث كان. ولما أكلها واستقرت في جوفه نط من جديد حتى وصل عندها ثم رف جناحه رفة كان بها فوق ركبتها. وحين رآها لا تسأله زايلة ذلك الخوف الذي يعتاد كل هذه الأحياء الصغيرة حذر أن يفتك بها من تقع تحت يده، وجعل يرفع رأسه ويحدق بعينيه الصغيرتين لها. وبعد لحظة أخرى طار إلى كتفها، ومن فوقه انتقل إلى يدها، فلما أحست به لم ترتع له بل أدنته منها، وبنظرات مراض كلها العطف والرحمة رمقت هذا الذي جاء إليها يسألها عن حزنها وضناها. أدنته من فمها تريد أن تقبل جبينه. لكن العصفور طار إلى المدود من جديد وقد تركته الفصادات له.
حجبت السحب الشمس في السماء، وانقطعت حركة الهواء، وداخل الجو من الظلمة ما جعله أشد مهابة وأكثر عبوسا، واعترى النباتات الخضراء من أثر ذلك أن قتم لونها وسكنت حركتها وأصبحت جامدة في مكانها كأنما تنتظر أمرا. ووافق ذلك كله ما في نفس زينب من الحزن، ووجدت فيه عزاء ومسرحا لأفكارها.
ترى متى يعود إبراهيم؟ ومتى يتلاقيان؟ ويوم يرجع ويصل في قطار قبيل الغروب، ثم يدخل البلد محاطا بإخوانه، يجاهد للتخلص منهم ثم يجيء إليها ويرتمي بين أحضانها، ما أسعد تلك الساعة! وما أشدهما فيها هناء! ثم يأتيان إلى هذه الشجرة من جديد، ويجلسان، فيقص عليها حديث أيام العسكرية ورحلة سواكن، ويحكي لها عن أم درمان وما فيها.. وهنا تخيلت المكان الذي يقيم فيه الآن محبوبها، وما يحيط به من الناس والأشياء، وتصورته في ردائه العسكرى واقفا مع صديق من بلدياته يحدثه، ثم يجيء نحوهما آخر، ويتذاكرون من تركوا وراءهم، فتكون هي ذكر إبراهيم والإنسان الذي لا ينسى.
من بضعة أشهر كانا معا تحت هذه الشجرة ينظران معا لهاته الأشياء التي حولها، وهى الآن تنظر إليها وحدها فتجدها عابسة حزينة. وبدل ما كان يقوم فوق الأرض من الذرة والقطن أصبحت تكسوها النباتات الصغيرة، نباتات الشتاء، والأشجار التي كانت مكللة بالورق أصبحت قطوبا جرداء.
وفيما هي في أفكارها اكفهر الجو، وتراكم الغمام، وكاد النهار يظلم، ثم ابتدأ يتساقط الرذاذ خفيفا، والهواء الساكن قد ابتدأ يغادره سكونه، فاهتزت تحته عيدان النباتات التي استقبلت المطر وكلها الشوق له.. ثم تزايد الريح والمطر، وصار يقع فوق هاته اللا نهايات الخضراء من الأرض، وقد نام نبتها بعضه فوق بعض، والسماء تسح من غير انقطاع، والجو دائم الاكفهرار، والغمام متراكم لا يتحول من مكانه، وزينب قد جاءت وراء الشجرة تتقي بها بعض هذا الماء الهتون. لكن الريح التي كانت تتقلب من ناحية ومن أخرى لم تدع لها من الحظ أن تبقى من غير أن ينالها نصيبها من المطر، وبقيت كذلك ربع ساعة، ثم ابتدأ الجو تنفرج غمته والسحب تتبدد، والنهار يأخذ حكمه. ومن بين كسف السحاب المتسابقة في السماء كانت الشمس تنتهز كل فرصة فتبعث بشعاعها على الأرض، وينساب من نورها على المزارع والطرق لجة تكسوها حياة وجمالا. لكنها لا تلبث أن تحتجب ثانية ويرجع كل شيء مستسلما إلى ما كان فيه من الحزن، وتبقى وقد زادها المطر سوادا كأنها لابسة ثوب حزن وألم. •••
وأخيرا رجع كل شيء إلى ما كان عليه من قبل، وصفت السماء فصارت صحيفة زرقاء، ولمعت الشمس فوق المزارع، وعاد الكون إلى حالته الطبيعية، فأخذت زينب طريقها إلى الدار من جديد وثيابها مبلولة، وهي أشد حزنا وسكونا من ذي قبل. وفيما هي سائرة ثارت إحدى ثوائر الريح فارتعدت هي أمامها وراجعها سعالها، ثم وصلت إلى الدار وأسرعت إلى القاعة لتبدل ما عليها.
دخلت فإذا حسن جالس ينظر من الباب المفتوح أمامه وهو مبهوت لمرأى زوجته وما هي عليه من سوء الحال. ولم يمهلها حين دخلت أن سألها أين كانت؟ فأجابته أنها كانت «برا». ورغما عن إلحاحه في المسألة ليعلم منها المكان الذي كانت فيه، أو ما عساها كانت تعمل هناك، فقد ذهب تعبه هباء، فهز كتفه علامة العجز، وهز رأسه علامة الاستغراب، ثم سكت. أما هي فعراها انقباض شديد أمام هذه الأسئلة اهتز لها كل جسمها حتى لم تتمالك أن تقاوم السعال الذي جاءها. وجاءتها نوبة استمرت زمنا احمر فيه صدغها وعيناها، وكانت في كل هزة من هزات جسمها مثار الألم لمن يراها. ثم لما انتهت من هذا أعقبه أن بصقت دما. فنظر إليها حسن بعين ترقرقت فيها الدمعة أو كادت، وثغر يطوقه ألم ظاهر، ووجه جمع في شبابه بين الحزن والحنان وقال: انت مش شايفه يازينب البرد عامل وياك إيه. يعني إذا كنت يا أختي تسمعي الكلام وتفضلي في الدار اليومين اللي انت عيانه فيهم مش أحسن. والا يعني انت عايزاني أحبسك. لأ.. أنا عارف انك ما تحبيش كده، وعارف إن الحبس والتستيت والكلام الفارغ ده مايجيش من وراه حاجة طيبة. لكن بس تقعدي على ما تفوقي من البرد والسعلة.
وزينب أيضا كانت تعتقد أن ما أصابها من السعال والتحول نتيجة البرد. ولكنهما كانا مخطئين جميعا. إنه داء ينخر في صدر الفتاة أشد وأقوى من كل ما يتصوران.. إنه سل فظيع يناوشها الحياة.
في هاته القرى المصرية حيث الهواء الطلق والشمس الدائمة والحياة الهادئة قل أن يتصور إنسان مرضا كالسل. وغاية ما يصل إليه خيالهم أن يحسبوا المصاب به محسودا من عين خبيثة، أو ناله برد أو نحو ذلك. ويزيدهم بعدا عن تصور هذا المرض ندرته حتى لا يكاد يرى. كما أن ترك المصاب به حتى آخر ساعاته، أو حتى يموت من غير أن يراه طبيب أو يعرف أمره أحد، يزيدهم به جهلا. من أجل هذا لم يتصور حسن، ولم تتصور زينب نفسها، أن ما بها شيء سوى البرد ونظرة خبيثة، فكانا يعزوان ما هي فيه من ضعف ومن نحول إلى حسد حاسد. ومن وقت لآخر كانت أم جازية تبخر زينب، وتضع لها في النار قطعة من الشبة، فتحترق وتتحول إلى شكل آخر يتصورون فيه إنسانا ممن يعرفون، ويعتقدون أنه الحاسد اللعين، ومن أجل أن تبطلا حسده تتفلان عليه، لكن ذلك كله لم يكن يجدي، والمرض الذي وقعت فيه زينب نتيجة أشجانها الطويلة وأحزانها، وبعد أن قضت الليالي الطوال ساهرة بين يدى الألم، واستمر يحل في قواها ويفت في أعصابها ويزيدها ضعفا يوما بعد يوم.
في آخر نهار، وقد كانتا معا، دخل عمي خليل داره وهو مهموم عليه شيء من أثر الحزن، فأسرعت إليه امرأته، تاركة زينب، تسأله عما هنالك. ولما أجابها أن الحاج سعيد شيخ البلد متأخر، وقد يموت هذه الليلة، سرى عنها وعاودها هدوءها أن علمت أن لا شيء يمسهم عن قرب. لكنها لم تنس أن تحسب للمأتم والقروة، وأن ترجع لزينب فتكلمها في هذا الشأن غير منتبهة لصحة زوج ابنها إلا فيما يتعلق بمقدرتها على القيام بالطبخ والخدمة. وفيما هما يتحادثان دخل حسن، وسمع ما تقولان، وأخبرهما أن بعض من قد رأى في الجامع يقول إن الحاج سعيد يرسل آخر أنفاسه.
ولما أتموا العشاء إذا صراخ علا في جو القرية الساكن آتيا من جهة دار شيخ البلد : صريخ متقطع ترسل به امرأته وهي محروقة القلب على فقده. وفي أثناء صراخها عوت الكلاب من أعالي السطوح عواء محزون كأنما تحس هي الأخرى بفراق ذلك الراحل إلى ربه. ثم انقطع الصوت وعرا البلدة صمت الموت، كأنما نشر عزرائيل فوقها جناحه. وتكلم حسن وأهله، وعلى كلامهم أثر الخشوع والخشية، وكأنما ذكروا الساعة التي سيرحلون جميعا فيها.. الساعة التي يذرون فيها ظهر الأرض ليسكنوا بطنها.. الساعة التي يخرجون فيها من عالمنا المحسوس حيث نعرف ما يحل بنا إلى فناء مظلم لا نهاية له، أو إلى عالم آخر مملوء بالمخاوف والأحلام.
والسماء يلمع فيها قليل من النجوم، والليل الأخرس يزيد ذكرى الموت مهابة، ويبعث إلى النفوس ما يهزها ويرعدها.
ثم في جوف الظلمة علا الصوت من جديد، وقد صحبته أصوات أخرى. ثم تلا ذلك صمت أصم.
جعلت أم جازية تسائل عن كل شيء مما هو لازم في الصباح. ولما علمت أنهم يحتاجون إلى شيء من عيش القمح يخرجونه في صنيتهم طلبت إلى بناتها وزوج ابنها أن يقمن بتجهيز هذا، ثم أن يبادر حسن من الصباح إلى دار عوض الله الجزار ليحجز لهم من البقرة التي ستذبح ما يكفيهم. وطلبت إلى التملي أن يقوم مبكرا فيذهب مع صغرى الفتيات يجمع لها خضار الغيط. وعلى هذا صارت مطمئنة معتقدة أنها في الغد ستكون منتظمة الحال.
ودارت في الدار حركة كبيرة، فصعد «تمليهم» إلى أعلى السطح يرمي حطبا، ونزلت الفتاتان تجهزان الماء والدقيق، ثم ذهبت زينب بعد أن جهزوا ذلك كله تقدح الفرن. لكن ما كانت تحس به من الجهد والتعب لكل حركة تأتيها، والسعال الذي يعاودها دائبا، جعلها تطلب معونة أخوات زوجها. وانتهوا من عملهم، وذهبوا إلى مضاجعهم، فلم يمكنها السعال من النوم، وبقيت تفكر في أمر هذا الميت بقي على الأرض حتى عمر، ثم هو غادرها كما غادرها غيره من قبله. وهي الأخرى ستقضي قبل أن ترى إبراهيم وتنسى بذلك إلى الأبد.
ولما كان الصباح عادت الحركة، وقامت زينب مضناة مكدودة شاحبة اللون قد تغير منها كل شيء، وعيناها المتعبتان قد اتسعتا بعد هذا النحول الذي أصابها، تنظر إلى الدار كأنها مبهوتة أو كأن الأشياء التي ترى ليست هي أشياء كل يوم. وجلست إلى جانب النار ترى أمر هذه القروة في حين نزل حسن وأبوه ليسيرا في المشهد الذي مر طويلا بطيئا حتى وصل إلى الجامع حيث صلى عليه، ثم سار إلى الجبانة حيث ووري الميت التراب.
خرجت «الطبالي» قليلة ساعة الظهر، لكنك كنت ترى ساعة المغرب قريبا من الخيمة المنصوبة جيشا عرمرما من النساء والفتيات وكل تحمل طبليتها أو صنيتها على رأسها. وصاحبات الصواني قد حملن في أيديهن كراسي العشاء، وبقين جميعا ينتظرن أن تخرج صواني جماعة الميت. وفي الخيمة الصامتة يتميز صوت قارئ القرآن يرتله ويتغنى به، فيرسل مع كل آية يقرأ ما يزيد الناس شعورا بالحزن المحيط بهم. ولما اختتم سورته جاءت الصواني، وتسابق النسوة بما معهن إلى الخيمة داخلات كأنهن للسيل المنهمر، ومن بينهم دخلت كبرى أخوات حسن تحمل صنيتهم.
ولكن ما إن انتهت أيام المأتم حتى شعرت زينب بحمى شديدة ترعدها اضطرت معها لأم تلزم مرقدها. وزاد ضعفها تأثرا بهذا الطارئ، فهي لا تزال في قشعريرة مستمرة تحس بالبرودة والسخونة تتعاورانها. وإذا ما خف أثر ذلك جاءها السعال يهز جسمها النحيل، فكان منظرها أشد المناظر إيلاما. وما عتمت أمها أن سمعت بخبرها حتى هرولت مسرعة إليها، فجلست إلى جانبها، وجعلت تسألها عن أمرها. ولكن ماذا عساها تعرف؟ وهل هو إلا هذا السعال المستمر يقلقها ويكاد يقتلها؟
جلست أمها إلى جانبها وقد أحرقت البخور والشبة مرات لم تنتفع من ورائها بشيء، وهي في كل لحظة عرضة لآلام لا قبل لها بها. فإذا ما رأت زينب تبصق بعد السعال دما يخالطه شيء من الصديد نظرت إلى هذا الوجه الناحل اليوم وذكرت ما كانت عليه ابنتها من صحة وجمال من قبل. ثم وسط القاعة المظلمة التي هم فيها أرسلت مع زفراتها الدمعات الحارة مخفية وجهها بين يديها مجاهدة ألا يعلم بأمرها أحد.
وكل يوم تشعر بانحطاط قوى ابنتها أكثر من اليوم الذي قبله فتزداد حزنا وألما. وابنتها لا تجيب بشيء عما عساه يكون سبب مرضها إلا تنهدات وزفرات تصعدها. وإذا ما أحست بشيء من السكون والقوة، خرجت إلى صحن الدار وبيدها منديل محلاوي تضعه على فمها من حين لحين وتقبله حين تعلم أن ليس عليها من رقيب، فتجد فيه من أثر إبراهيم ما يزيدها لوعة، ثم يزيدها حزنا أنها تود لو تقف من أخباره على شيء فلا تجد إلى ذلك من سبيل ولا يعلم بما يدور في نفسها أحد.
5
كانت أم زينب تقضي أكثر الوقت إلى جانبها، فلا تتركها إلا لقضاء أمور منزلهم، وأبوها يتعرف الأخبار من زوجته، ويذهب إليها أحيانا يسألها عن صحتها. فإذا ما رأته لم تستطع دون أن توجه إليه نظرة فيها من الألم والعتاب ما يصل إلى قلبه ويكاد يفهمه. وجازية قد انقطعت عن كل شيء إلا العناية بزينب، فلا تتركها إلا ساعات الفرض حين تذهب للصلاة في غرفتها، ثم ساعات الليل حين يبيت حسن إلى جنب زوجته ويغنيها عن كل من سواه.
ولقد ظهرت على الدار غبرة من الحزن، فلا تلمح خارجا منها ولا داخلا إليها إلا عليه سيما الأسى. وتبعث الشمس إليها بلجة أشعتها فتظهر بلونها الترابي كاسفة كأنما تحس بما تحويه من قلوب جازعة. وشجر السنط الذي أمامها دائم السواد، فإذا هزته الريح أحيانا تحركت أغصانه حركة المفجوع الذي يهز رأسه آسفا.
كان يعود زينب أحيانا صاحبات لها خلع عليهم الشباب والربيع من حلته ما يزهين به، فإذا ما رأتهن تذكرت أيامها الخالية، وما أمرها على النفس أن نرى في أيام سقوطنا وضعفنا ما يذكرنا قوتنا السالفة وجمالنا! لذلك كن متى فارقنها خلفن ورائهن لوعة، وبقيت بعدهن تذرف من عيونها الواسعة على خدودها المصفرة دمعات يرسلها الحزن والأسى.
وكل يوم يعاودها سعالها وتزداد ضعفا حتى بلغ بها النحول أن كانت متى دخلت فرشها لا تكاد ترى لولا أن ينم عنها وجهها.
فلما بلغ بحسن اليأس، ولم يعد يرى في الجو المحيط به إلا ألما، ذهب إلى دار العمدة فوجده وقص عليه الخبر فأنكر عليه العمدة أن تركها حتى الساعة من غير أن يراها طبيب. لكن الذنب في ذلك ذنب أبويه اللذين كانا يكرران كلما أشار حسن إلى هذا: «الحكيم ربنا.. ربنا يشفي» وتطلق العجوز بخورها وتحرق شبتها وتقنع نفسها والآخرين أن البنت محسودة وأن ذلك سيزول قريبا إن شاء الله.
لكن الله لم يشأ. وبقيت زينب في ضعفها حتى لم يبق لحسن إلا أن يلجأ للعمدة، وأن يشكو إليه استبداد أبويه. ولم يتمهل العمدة، بل أمر كاتب التليفون أن يطلب طبيب المركز أن يحضر، ووعد حسن متى حضر الطبيب أن يبعث إليه من يناديه.
جاء الطبيب في أقرب قطار أمكنه اللحاق به، ووصل إلى البلدة والشمس لا تزال في الربع الأخير من حياتها، فقابله العمدة مرحبا به، ونادى بالخادم أن يأتيهم بالقهوة، وجعل يحييه ويسأله عن حاله ويمزح معه. والدكتور لطيف خفيف قد أعطاه الشباب من ذلك ما حببه إلى نفوس أهل المركز فحيث حل يلقاه الناس بالترحيب والبشر ووجوه طلقة وثغور باسمة. ولما أتما واجب التحية، وشربوا القهوة، ابتدءوا حديثهم في السياسة حديثا طويلا، ووافق كل صاحبه في المذهب الذي يتعصب له، والجريدة التي يقدس، والأشخاص الذين يعتقدهم معصومين. فجعلوا يمدحون هؤلاء ويقصون أصغر الحكايات عنهم، ويضيفون لقصصهم كلمات الإعجاب والإطراء، ثم يذكرون آخر المقالات التي كتب، وأخذت بنفوسهم، وأنحوا على الآخرين من سياسي البلد باللائمة، وتدرجوا إلى الحكم عليهم بأنهم مخطئون، ثم حكموا عليهم بالجنون: - وإلا لو كان في دماغ أى واحد منهم شوية عقل كان خلوا مقالة أول امبارح تظهر.. دول جماعة شاطرين في التهييص الفارغ. - لأ.. وكل عبارة يفضلوا يزعقوا لها ليحيى وليسقط لما يدوشوا دماغهم ودماغ الناس معاهم. والإنجليز قاعدين والخديو فاضل زي ما هوه.
وهكذا استمروا في حديث طويل، انتقلوا معه من رؤساء الأحزاب إلى نظار الحكومة، ثم إلى الموظفين، وخصوصا موظفي الإدارة. وهنا قص الدكتور من أخبار المأمور الذي معه ومن نفاقه للمدير ما أطرب العمدة حتى جعله يقوم إلى الطبيب وينحني عليه ويقبله. أولا يعد ذلك أقل جزاء له على انتقاصه من شأن هذا الفاجر الذي يضطر العمدة في جمعياته إلى دفع إعانات لا معنى لها، وشراء كتب لا يحتاجون إليها، والاشتراك في جرائد هم أشد الناس احتقارا لها. وإذا كان أحدهم لا يستطيع إلا الرضا بحكم سعادة المأمور وقبول قوله فإنه على الأقل يجد في الطعن عليه ما يخفف بعض لوعته. لذلك جعل يتبادل القصص مع صديقه الدكتور ويتناوبان الحكايات واحدا بعد الآخر. فلما شفوا من ذلك غلتهم سأل الطبيب عن سبب استدعاءه لأنه على عجل، ويريد أن يقوم بقطار الساعة الثامنة، فنادى العمدة بخفير من عنده ليستدعي إليه حسن أبو خليل.
تدلى قرص الشمس في السماء، ولا يكاد يمسك نفسه، فهو يهبط سريعا، والهواء يهز أغصان الشجر وفروع النخل فيسمع من بعد حفيفها؛ والبركة تتتابع فيها الموجات الصغيرة التي تكبر كلما اقتربت من الشاطئ حتى تفنى عنده. والطرق حتى مرمى العين خالية أو تكاد إلا سكة الوسط المشغولة بالذاهبات والآتيات يحملن على رؤوسهن بلاليصهن، ويمشين بتؤدة وتأن يهتز مع كل خطوة جسمهن ويتثنى قوامهن، فإذا ما ابتعدن لفهن الشك في ردائه وأظهرهن كأنهن ملكات هذا الفضاء العظيم يتهادين فوقه، والسكون الذي يلزم الأرياف شامل القرية تحت حكمه. •••
جاء حسن بعد أن بقي ساعات يتلظى على جمر من الصبر، وهو مطرق الرأس كاسف البال ظاهر عليه من أثر الحزن ما ذهب إلى أعماق نفس العمدة والطبيب، ووقف بينهما ينظر لكل نظرة، فإذا ما وقعت عينه على الطبيب امتلأت من الاستنجاد والأمل ما يترك هذا الأخير وكله الرحمة بهذا البائس أمامه. وطلب إليه العمدة أن يجلس، وأن يقص على الدكتور أمره. لكن أي أمر يقص؟ وأي شيء يقول؟ إن زينب مريضة، وحالها يرثى له، ومنظرها يستدر العين ويبكي القلب، وإنها تضعف كل يوم عما قبله، وصارت تلك التي كانت علم الصحة والقوة والجمال مستنزل الضعف والمرض والنحول!. تلك كل قصته، وذلك ما يبكيه ويبكي أهل بيته. فهل في يد هذا الجالس يلعب بأصابعه وينظر إليه نظرة مشفق عليه أن يخفف من أوصابها، ويعيد إلى نفوسهم جميعا من السكون الذي هجرها ما يستطيعون معه أن يطعموا العيش وأن يجدوا للحياة معنى؟!
قام الطبيب معه فذهبا إلى المريضة وقد هجرها كل من كان عندها إلا أم زينب بقيت إلى جانبها، فكان أول ما سألها عنه: أكان من أهلها من أصيب بهذا المرض من قبل؟ ولكن أمها أمامه قوية صحيحة، وأبوها ليس أقل قوة ولا أضعف صحة. وسألها عما تريد فأجابت: لا شيء. وعن أشياء أخرى كثيرة لم يأخذ عنها ردا مقنعا. وأخيرا طلب إلى من معها أن يتركوه وإياها وحيدين، وجعل يضاحكها كما تضحك الأم طفلها يريد أن يقف منها على شيء من خفي أمرها. لكنه كان أبعد من أن يقنع بما تجيبه به. والواقع أنه كان يتطلب منها فوق طاقتها. إذ مهما يكن من ثقتنا بالطبيب وطبه فلسنا نرضى أن نذيع عن أنفسنا شيئا يأخذه علينا أحد مهما قوي يقيننا أن لن يطلع عليه غيره.
ولما يئس من جوابها سألها أن تكح. ولم تكد تحرك نفسها لإجابة أمره حتى جاءتها نوبة السعال كأشد ما تكون.. ورأى الطبيب بعده الصديد الذي تبصق، فرفع حاجبيه وهز كتفه كأنما يريد أن يقول: لا ضرورة لعلاج وقد بلغ الحال أشده. ولكنما عرته للحال رعشة أن رأى هذا الشخص ولا تزال بقاياه تنم عن قديم جماله الباهر، وهو يذبل إلى الموت ويسري مسرعا نحوه.
ثم نظر إليها متعطفا شارحا أن الأمل في الشفاء لا يزال كبيرا بعد، ولكن ذلك متوقف على أن تخبره بما يدور في نفسها، وخفي ما يجيش بصدرها. فتنهدت زينب ونظرت إليه هي الأخرى وقد جمعت في عيونها الواسعة من الاستغاثة به والاعتماد عليه ما رق هو له. ثم ابتدأت تريد أن تقص له من حديثها ما يريد، لكنها رجعت فترددت، كأنما ترى في قصتها من القداسة ما لا يجوز معه أن يطلع عليها إنسان. وفهم الطبيب ما في نفسها من التردد، فجعل يشجعها بكل ما يستطيع حتى رضيت أن تقص عليه أطرافا من قصتها. ولم يك محتاجا لكثير، فطمأنها على نفسها، وأذن لأهلها أن يرجعوا، وخرج وتبعه حسن، وقطع الفسيح من الأرض الذي يفصل دار العمدة عن بقية دور البلد، وقد غابت عنه الشمس، فأرسلت إليه المباني ظلالها. والسماء قد ابتدأ الليل يرسل إليها طلائعه، فبدت لا تزال زرقتها صافية بديعة، والبركة عن يمينهم تعكس ما فوقها وتتابع موجاتها يلعب بها النسيم.
دخلا دار العمدة، فلما استقر بهما المقام أخرج الطبيب من جيبه أوراقه وقلمه وكتب تذكرته وأعطاها حسنا، ثم طلب إليه أن يجعل زوجته تخرج كل يوم قبل مغيب الشمس بساعتين وأن تتبع بالدقة النظام الذي كتبه لها، ثم أن يذهب من غده ليشتري من الأجزاخانة الأدوية اللازمة.
تركها حسن وخرج، فلما كانا وحدهما سأله العمدة عن حال مريضته فأجابه: والله يصح أنها تطيب.. لكن.. يصح أنها لا تطيب.
ثم انتقلا إلى حديث آخر حتى جاء موعد القطار ورجع الطبيب إلى مركزه.
تحرى حسن أن تأخذ زوجه الدواء على نص ما قرر الحكيم، وأن تخرج كل يوم بعد الغداء حتى ساعة العصر. ومع كثرة الأماكن وتنوعها فقد كانت مزرعتهم المكان الأفضل أمام نظرهم جميعا. فلما خرجت زينب لأول يوم خرجت قبيل الظهر تسير مع أخت حسن التي حملت غداءه، ووصلتا وحسن جالس تحت الشجرة بعد أن قضى نصف النهار حرثا يجهز الأرض للقطن، وعلى مقربة منه ثوراه يأكلان علفهما، والمزرعة قائم فوقها المحراث يفصل ما بين القسم الأيمن لا يزال بلاطا، والأيسر مفروش بالحرث لا يزال يخبر عن أن ما عمل حسن إنما هو الوش الأول. وجلستا إلى جانبه حتى أخذ طعامه وتركته أخته راجعة إلى الدار، وقام هو إلى عمله، وبقيت زينب وحدها تتلفت إلى ما حولها. فلما رأت مزرعة السيد محمود إلى جانبها تذكرت اليوم الأول وهي لا تزال بنتا حين أغمي عليها، وجاء إبراهيم يرش الماء على وجهها ويسندها بين ذراعيه. ثم تخيلته سائرا هناك يتلفت يمينا ويسارا ثم راكزا فأسه في الأرض كعادته وينظر إليها وكأنه يناديها إليه.
وفي الجهة الثانية يسوق حسن محراثه يقد به بطن الأرض الناشفة ويناوش ثوريه بفرقلته من حين لحين. والأعجمان يجران بكل قوتهما، ويتبعهما سلاح المحراث ينثر القلقيل حوله. فإذا ما وصل إلى آخر الخط رفع العامل محراثه وأقامه على جانبه وأداره إلى الخط الذي بعده. ويبقى كذلك طول نهاره يذهب إلى آخر المزرعة ويرجع والشمس متسلطة فوق رأسه تصبغ وجهه سوادا.
بعد زمن قامت زينب وقد ضايقها محلها وضايقتها الوحدة وتولاها الهم، فلما رآها حسن أقبل عليها يسألها عما تريد، فأخبرته أنها تريد أن ترجع، وبذلك اختطت طريقها وحيدة إلى البلد.
لكنها ما كادت تبعد حتى أحست كأن شيئا يدفع بها ثانية نحو الغيط، فارتكنت إلى ظل شجرة ورمت بنظراتها إلى جهته. فلم تستطع الوقوف طويلا، واستولى عليها الهمود الذي يعاودها لأقل عمل تجاهده، فجلست إلى الظل وبقيت محدقة بمزرعة السيد محمود مرسلة بخيالها إلى الماضي وأيام كانت بنتا، تلك الأيام اللذيذة حين يسرح القلب حرا كما يشاء، ويتنقل من شخص لآخر حتى يجد محبوبه الأزلي الأبدي، فإذا ما وقع عليه فني فيه وعدم كل لذة في الحياة من دونه، وخيل إليه أن العالم أفظع من كل شيء ما دام هو ليس قريبا.
نعم الأيام الأولى هذه حين كانت زينب مالكة نفسها تعطيها من يدلها عليه قلبها، كانت أياما سعيدة. أما اليوم وقد نأى المحب، ولم يبق من بين الناس من تقول له كلمة أو تبوح له بمكنون سرها. فنجم حياتها يأفل، ويدعها بين يدي الذكرى تتعزى بها مرة، وتجد فيها الألم القاتل أخرى. ولو أن أبويها لم يكونا من الطمع بحيث يضحيان بإرادتها وبكل شيء في سبيل الحصول على حسن لكانت اليوم بين يدي الصحة والسعادة. وإن الطبيعة بوحيها لتهدينا طريق الخير فتأبى بصائرنا العمياء إلا أن تحيد عنه.
استأنفت سيرها حين مر بها سارح سألها عن سبب جلوسها. فلما بلغت الترعة في الطريق ورأت أن وقت الملية جاء أو كاد راحت من جديد فاستندت إلى جذع شجرة قائمة على مقربة من الموردة. ومن الحصى الذي حولها جعلت تحذف في الماء واحدة بعد أخرى ببطء وتمهل، والماء كاس لون السماء ينساب رائقا، ولا يزال الجرفان عن جانبيه أملسين من أثر التطهير فلا حشيش عليهما ولا خضرة، والشمس تبعث على الأشياء بشعاعها فتذرها ممتدة الظل بما يكاد يكون مثليها، والنسيم يهز «الربة» قليلا حتى لا يرى اهتزازها.
جاءت مقدمة المالئات، فلما غسلت جرتها وملأتها طلبت إلى زينب أن تعين عليها. وهذه الأخرى رجعت إلى راحتها، فقامت فأعانت عليها، ثم رجعت مكانها، فلم يستقر بها المقام حتى جاءها السعال قاتلا يكاد يخنقها، فدمعت عيناها وانتفخت أوداجها، وأحست بما على صدرها فقذفته صديدا ودما. والأخريات اللاتي جئن للملية قد أحطن بها يسألنها عما أصابها. وهي دامعة العين من هول ما حل بها، دامية القلب لما تفكر فيه لا تجد شيئا تجيب به إلا «مفيش». ولما رأت أن لا مفر من أسئلتهن ما دامت عندهن قامت فسارت مع إحداهن قاصدة الدار. وهناك وجدت أمها جالسة على عتبة الباب الكبير وبيدها هون تدق به الفلفل وتترسم الطريق من حين لآخر كأنما تنتظرها، وهي مثل كل يوم لا تزال متعبة، كل شيء يجهدها ويجيء على آخر قواها، كما أن السعال الفظيع لا يفتأ يناوئها من حين لحين. •••
ودخلتا معا حتى كانتا على السطح أمام الغرفة، فاستندت زينب إلى حائطها، وجلست إلى جانبها أمها. ونظرت هذه الأخيرة في عين ابنتها وكلها الحنان فوجدت تلك النظرات التي عرفتها جاذبة فتاكة قد استحالت نظرات استعطاف واسترحام، وكما كانت تصل إلى القلب فتذره أسيرا مكبلا كذلك هي الآن تنظر إليه فيرق دون نظراتها ولا يستطيع إلا أن يجيبها لكل ما تطلب. ولقد أحست الأم أمامها بضعف حتى كادت تستغفر ابنتها عن غير ذنب تعلمه. وبعد مدة صامتة رجعت فسألتها عن حالها.
فاض عن قلب زينب ما تكن لذلك الغائب في مجاهل السودان، وأرادت أن تبوح بما تكن لأمها. لكن ما تخيلته في ذلك من موضع للوم أدخل التردد إلى نفسها. لا بد لأمها متى سمعتها تقول مثل هذا الكلام أن تجيبها عليه بتقريع لا تحب أن تواجه به، وإذا كان الموت القريب ينتظرها فلتنتظره هي الأخرى هادئة مطمئنة حتى يجيء فينقلها إلى عالم لا عذاب فيه ولا حزن، بل كله سكون وهمود وفناء أخير. ولكن! أليس على أبويها الذنب في زواجها هذا ويجب أن تبين لهما عنه.
وبعد هذا التردد شجعت نفسها وأجابت أمها حين سألتها مرة ثانية عن حالها: حالي زي ما انت شايفة ... بدي أموت قريب وكله من تحت ايديكو. فضلت أعيط وأقولك يا أمه ما بديش أجوز تقولي لي كل الناس أبوهم بيجوزهم على غير كيفهم وبعدين يصبحوا ويا جيزانهم زي العسل. أديني ويا جوزي زي العسل ما قلتش حاجة. ولكن أديني حاموت وتخلص العيشة اللي بينا وبين بعض.. بكره والا بعده حاموت يامه ووصيتكو إخواتي لما تيجوا تجوزوا حد منهم ماتجوزهمش غصب عنهم لحسن دا حرام.
ثم لم تستطع الاستمرار في القول، إذ خنقتها العبرة، وامتلأت بالدمع عيناها، وأمها إلى جانبها ترى وتسمع فينفذ إلى قلبها من الألم سهم تتقد له ضلوعها ولا تطيق أن تنطق بكلمة أو أن تحير جوابا. وهكذا سكتت المرأتان، وظل المكان حولهما تتمشى فيه آيات الحزن الصامته فتزيده عبوسا وحزنا.
ارتعدت زينب، وعاودها السعال الذي أصبح يشق صدرها فتخر مما يأتيها به الألم كأنها فاقدة الصواب، وبذلك انتبهت أمها مما كانت فيه من تيهاء الأحزان، وأسندت ابنتها بيدها. وهاته الأخيرة لم تعد تفقه شيئا مما أمامها، قد وضعت يدها الناحلة على صدرها، وعلا وجهها الشاحب ما رد إليه بعض قديم لونه. ثم ارتمت بعد سعالها منهوكة خائرة.
جاءت الظهيرة وأرادت زينب أن تخرج رغما عما بها من الضعف، فصحبتها أمها وسارتا. وزينب تتخذ غير الطرق التي تصل إلى مزرعة عمي خليل، فتندهش أمها وتعلوها الغرابة ، لكنها لا تستطيع أن تعارضها في شيء. والضعف الذي يعتاد الآباء أمام أبنائهم المصابين عاودها، فلو أن ابنتها طلبت إليها المحال لسعت إليه. والربيع يعلن نفسه في كل النواحي، ويمد رواقه على كل الأشياء، وشمسه تتلألأ أشعتها فوق أوراق الشجر الناضرة، والترع انتهت من فصل التطهير وابتدأ الماء يتخذ سبيله إليها، والقبرات والعصافير والطيور الصغيرة تنط على الجسور وتطير على مقربة من الأرض. ومن حين لآخر يمر سرب الحمام مرتفعا في الجو فرحا بالشمس وبالربيع.
سارتا تتبع الأم ابنتها حتى وصلتا قريبا من الموردة، ثم وقفت زينب مرة واحدة وعلاها شيء من التردد رأته أمها على وجهها، فوقفت هي الأخرى، ولم تقل شيئا. ثم مشت لما مشت ابنتها حتى الموردة، ثم انعطفتا إلى اليسار، فلما صارتا عند الشجرة ارتمت تحتها زينب تائهة مغمي عليها.
والشجرة قد أخذت هي الأخرى حظها من زخرف الربيع، وازينت، ومدت ظلها إلى ما يجاورها. وكل شيء قد جاءته جدة الزمان بلباس جديد إلا البرسيم المتروك للربة قد بدأ يذبل وينتظر موته القريب.
بقيت أم زينب تعالج أن تفيقها. فطورا تهزها كأنها تحسبها نائمة، فهي تريد أن توقظها، وتارة ترش على وجهها الماء. والبنت مطروحة فوق الحصى لا تعي شيئا مما تفعله أمها بها. وأخيرا بعد أن تمشى اليأس إلى نفس الأم، وجعلت تذرف في تنهدها دمعات تجود بها مآقيها الناشفة، ارتمت فوق ابنتها تطوقها بيديها وتبكي كأنها الطفل، وقد نسيت سنها من أجل هاته العزيزة عليها تودع عالمنا الأرضي في نضارة العمر وريعان الشباب.
ثم جاءت إلى نفسها كلمات زينب حين لامتهم على تزويجها، وجعلت تندب حظ هذه الفتاة البائسة وتضرع إلى السماء ألا كانت على شيء من الرحمة فلا تفجع العائلتين في محبوبتهما! وبقيت كذلك زمنا لم تعرف مقداره حتى ذهب بكل أفكارها أن أحست بزينب تتحرك تحت يديها، فجعلت تلاطفها كأيام كانت صغيرة في مهدها، وتسألها تريد أن تسمع منها كلمة لتطمئن على أنها حية ترزق.
تنهدت زينب كأنما خف عنها حمل كان يثقلها ، ثم فتحت عينيها وجاهدت أن تقوم، فساعدتها أمها حتى أسندتها إلى الشجرة. فلما استقرت نفسها بعد ذلك الإغماء لم تعلم إن كان نوما هادئا أو حلما فظيعا مرت بنظرتها على الموجودات أمامها ثم تنهدت وألقت برأسها إلى الأرض.
أما أمها فلم تجد ما تقول، وكلما أرادت أن تسأل عن شيء أحست بمانع يصدها عن الكلام. وأخيرا سألت: عايزاش حاجة يا زينب؟
فلم تجب زينب بحلوة ولا بمرة، وبقيت مطرقة كأنما تفكر. ولكن الذي أصابها تركها مهدودة القوى ضعيفة لا تستطيع شيئا حتى الكلام، فوجدت في هذا السكوت المطلق من اللذة ما يجده الخادر الذاهل قد عمل فيه الألم، وأنهكه ثم لم يعد يحس به ولا بشيء مما حوله.
وأخيرا استعادت بعض قوتها ثم قالت: يا امه أنا رايحه أموت.
ما هذه الفكرة الملازمة تكررها زينب من حين لحين؟ لم تذكر الموت كل يوم وكل ساعة؟.. ألا تني عن إيلام أمها لحظة من الزمان؟.. وأي سلطان تخضع لحكمه يجعلها دائمة الترداد لذكر الموت؟. لكنها في كل مرة كانت تقول ذلك، كانت تحس بشيء يوقفها عن الاستمرار دون ما تريد أن تخبر به أمها، وتأخذها رعشة تخاف أمها عليها عاقبتها. فكم رأتها بعد أمثال هذه الرعشات فريسة حمى شديدة تهز كل وجودها وتكاد تجيء على حياتها..
ولم يكن تخوفها ليكذب إلا قليلا ... لذلك استعجلت بزينب بعد هذا الإنذار بالموت الذي سمعته أن تقوما، فقامتا تريدان الدار خشية أن تجد في المزرعة ما يزيد حمى ابنتها فظاعة وقسوة. لكن زينب لا تحملها رجلاها ولا تستطيع أن تسير.. هنالك ساءلت أمها نفسها: هل تحملها على كتفها كما كانت تحملها طفلة؟ أو هل تنتظر أن يمر من معه مطية يعطيها إياها.. ولم لا تحملها؟ وهل هي بعد هذا النحول الذي أصابها وهذا الموت المسرع نحوها بأثقل وزنا منها أيام الطفولة؟.. ولكن ماذا عساه يقول من يراها كذلك!.. وهل في هذه الحال حال الفناء الأخير يتساءل الناس أن حملت أم ابنتها؟! وفيما هي في هذا التفكير وما يشبهه مر بها راجع معه حمارته فلما رأته نادت به ورجعت إلى جانبه حتى دخلتا بزينب الدار.
ولم تصل إلى غرفتها حتى عاودها السعال محملا صديدا ودما، ثم انتابتها حمى ذهلت فيها عن نفسها، وجعلت من حين لآخر تهذي بكلام متقطع. ثم ارتعدت أمها أن سمعتها تصيح بكل قواها تنادي: يا إبراهيم! وعلاها بعد ذلك سكون أخرس لم تسمع فيه أمها حتى ولا تردد أنفاسها. وأمسكت بيدها فإذا هي باردة، وإذا عيناها مقفلتان، ووجها ناحل، وعليها كل علامات الموت الذي رددت زينب اسمه في يوميها الأخيرين مرات. وأمام هذا المنظر المريع أبرقت عينا الأم ولمعتا بشيء من اليأس، ثم انقضت ممسكة بيدي ابنتها صارخة: زينب.. يا زينب؟.. ثم خرت إلى جانبها كالجبل المنهد!.. وفي وحدتها إلى جانب الغارقة في لجج الفناء همست: خلاص!
دخلت في تلك الساعة ابنتها الثانية راجعة من عمل النهار، فلما رأت ما فيه أمها من اليأس جلست إلى جانب الحائط خائفة ترتعش، وفي لحظة انسلت من مكانها، ولم تخرج إلى الفضاء حتى علا صوتها بالبكاء. وفي وسط السلم قابلتها أم جازية فعلمت أن في الأمر شيئا، وأسرعت إلى الغرفة، وعند الباب قابلها حسن راجعا مع أبيه من الجامع، فأمسكها بيده، ولكنها تخلصت منه وسارت حتى بلغت دارهم، فلما رآها أبوها سألها عما أصابها فأجابت في بكائها: أمي بتعيط عند زينب.
ولم يكد الرجل يسمع ذلك حتى خر صريعا كأنما أرسل عليه الموت صاعقته. ثم قام إلى دار خليل فوجد العجوز وحده فنظر إليه نظرة المفجوع في ولده ثم سأله: هي ماتت يا خليل؟!
ولكن خليل لا يدري..
وفي غرفة الموت جلس العجوزان إلى جانبي الفانية التي قلبت طرفها، فردت على أمها أن ستبقي ابنتها لحظة على الأرض بعد. وعلى الباب جلس حسن ممسكا بيديه رأسه تنهمل دمعة اليأس من عينيه، وما عرفت إليها قبل اليوم سبيلا.
ثم طلبت زينب إلى أمها أن تأتيها بمنديل محلاوي موضوع في صندوقها، وأخذته بيدها فوضعته على فمها، ثم على قلبها. وكانت آخر كلمة لها أن يوضع المنديل معها في قبرها. وفي وسط الليل أقفلت عينيها وراحت إلى أعماق سكونها، وارتفع صراخ العجوزين يعلن في الفضاء موتها.
ناپیژندل شوی مخ