في وسط الجواب دخلت أم الغلام تسأل عنه، فلما رأته يقرأ وقفت هي الأخرى ساكنة تسمع، وقد امتلأ صدرها بالسرور والإعجاب الذي ينال الأم أن تعتقد نفسها أنجبت. فلما قرأ كاتبه إبراهيم أحمد بذلك الصوت المسموع الذي اعتاد أن يقرأ به القرآن في مكتبه وسكت، عندها أحست زينب كأن قلبها يتمشى في صدرها أن سمعت كل هذا ولم تجد لاسمها بين من ذكر إبراهيم أثرا، فطلب إلى حسن أن يسلم حتى على أخواته، ولم يدر في باله أن يقول وعلى زينب أيضا. لكن الغلام قطع عليها طريق أحلامها أن أدار الصحيفة في يده ثم قرأ الحاشية التي لم تتعز بها زينب كثيرا. وحينذاك أخذته أمه وخرجت راجعة إلى دارهم.
وذهب بعد ذلك كل إلى مكان نومه. فلما دخلا معا قاعتهما، وفتحا بابها أحسا بالدفء يقابلهما آتيا من فرنها المتقد تحميه زينب أصيل كل نهار. ثم راح حسن إلى مضجعه ونشر فوقه عباءته ونام، واضطجعت هي قريبا منه بعد أن أطفأت النور، وبقيت هي الأخرى لا تبوح بنفس إلا أن يهزها السعال أحيانا وتتنهد بعده لما تحس به من الحرقان يشرخ صدرها. لكن ذلك كله لم يكن ليقطع على زوجها طريق نومه، إذ أنه قد اعتاده من نحو شهرين مضيا، كما أن تعبه المفرط طول النهار كان يجعله متى توسد فرشه لا يقيمه إلا الصباح. •••
من شهرين مضيا كان ذلك أول ما اعتاد السعال زينب، وكانت لا تكاد تحس من ورائه بألم، ولا يعقبه إلا ما يعقب السعال البسيط من بلغم تقذفه فتخفف به عن صدرها. وبعد أسابيع من ذلك أحست من السعال بشيء من التعب العام وانحطاط القوى، فإذا عملت عملا أحست بعده كأنها مجهودة لاغبة. وابتدأت مع ذلك تحس بشيء من الألم يصحب السعال، وغادر وجهها تورده، فأصبحت بعد أن كانت خمرية اللون تكاد تكون شاحبة. وظهر على وجهها من أثر الحزن، وفي نظراتها من معنى الشجن، ما جعلها جذابة تنال ميل كل من رآها، وهذا الضعف الذي كان يزداد يوما بعد يوم يذر الناظر إليها المأخوذ بحسنها يعتقدها مكسالا نؤوم الضحى.. لكنها جاهدت ما استطاعت لتمحو أثر كل هذا من أعمالها، فهى تقوم بكل شيء، كما كانت تقوم به من قبل، مهما كلفها ذلك من الجهد واللغوب.
وسط ظلمة القاعة الدافئة جعلت زينب تفكر في خطاب إبراهيم، وكيف لم يذكر اسمها في حين ذكر الآخرين. أليس هو النسيان الأكبر أن يجيء إلى باله أبو حسن وأمه وإخوته وتكون هي نسيا منسيا؟ لقد وجد في هذه البلاد الجديدة ما شغله عنها، ومن فتياتها من أعطاها قلبه، ولم يبق عنده منها حتى ولا مجرد الذكر!.. ألا.. إنه.. إنه..
لكن زينب لا تستطيع ذكر اسمه أمام زوجها، فلم تطالبه هو بذكر اسمها؟ ألا يكون سكوته أنه دائم الاشتغال بذكرها يخشى ماتخشاه من أن يطلع أحد على ما في ضميره؟ أو لم يذكر في السطر الذي قرأه الولد حين قلب الجواب، والسلام على عائلتكم، بعد أن قال من قبل السلام على من بطرفكم؟.. ألا يمكن مع هذا أن يكون دائم الذكر حافظ العهد؟..
أهو في سواكن الآن أم في أم درمان؟.. ترى متى يرجع فيتمتعا معا بهناء الحب، ويتلاقيا كل يوم، ويذكرا هذه الأيام أيام الفراق، وما لاقيا فيها من أسى ولوعة؟!.. ثم تصورت إبراهيم بعد رجوعه ومقابلته لها بالحضن ودموع الفرح التي ستفيض بها عيون كل منهما، ثم حين يذهبان تحت شجرتهما المباركة يستعيدان اللحظات الفائتة وما فيها من لذة وسعادة.
جاءتها هذه الأفكار الطيبة فأبدلت حزنها وهمها سرورا. وبين جنات أحلامها نسيت الألم ونسيت الوجود.
لكنها في الأيام التالية لم تكن حسنة الظن بهذا المقدار، بل كان يراجعها الخوف من حين لحين. وتأتي معه ساعات سوداء ملأى بالأحزان والهموم، فتخلو زينب إلى نفسها، وتجلس إلى مكان أرسلت عليه شمس الشتاء من ضعيف أشعتها ما أطار شديد برده. ثم تذكر إبراهيم وجوابه، وتألم لهذا الفراق الأليم القاسي . فإذا ما أرادت أن تقوم أحست بهمود وتعب واعتراها ضعف تكاد تسقط معه إلى مكانها من جديد. وكثيرا ما كان يعاودها السعال في هاته الساعات المتعبة يهز كل جسمها وتشعر معه بشيء يتمشى في صدرها.
أخيرا وقد أحس حسن من زوجه هذا الضعف، ولاحظ عندها هذا السعال، رأى ألا تخرج إلا عند الحاجة الماسة، وأن تلزم السكن والدفء حتى لا يزيد البرد في آلامها، وحرم عليها أن تذهب للملية لما في هذه المسافة البعيدة مما يجهدها ويتعبها خصوصا بعد أن نضبت الترعة ولم يبق من سبيل إلا الذهاب لمحطة السكة الحديد. وكل ما سمح به لها أن تخرج في البلد إن أرادت، وإن كان هو يفضل بقاءها المطلق في الدار.
لكن هذه الآراء لم ترق زينب في شيء.. صحيح أنها تحس بالتعب، وتألم حين يأتيها السعال فتبصق الدم بعده، كما أنها تشعر بانحطاط قواها هذا الانحطاط السريع، غير أنها تريد أن ترى دائما الأماكن التي تقدس وتحب، وتريد أن تجلس عندها كلما سمح بذلك وقتها، فعارضت جهدها قائلة إنها لا تريد أن تزيد من نصيب أختى حسن من العمل، فما عندهما يكفيهما. لكن حسن متمسك برأيه، ويريد أن ينفذه لا بد. وإن أحوجت الحال وكان حقا أن أختيه لا تستطيعان القيام بالعمل فأية أجيرة تقدر على القيام به وأن تحل محلها حتى يأتيها الشفاء.
ناپیژندل شوی مخ