تقدم الخريف، وظهرت على الأشياء وحشة. فكنت ترى مزارع القطن ولم يبق على أشجارها ورقة، تمتد سوداء فوق أرض لا نبات فيها ولا شجر. والذرة جاء عليه الهرم، وقد خلع كل أثوابه، وبقي واقفا منكمشا ينتظر الموت القريب. والترع غاض ماؤها، ولم يبق بقاعها الناشف إلا وشل ينهل منه الناس والدواب. والشمس يؤذن مطلعها بمغيبها القريب، وينتظرها الناس وكلهم الشوق لها بعد ليلهم الطويل البارد. والهواء يهب من الشمال فترتعد له أجسام المترفين، ويستقبله من الفلاحين عاري الصدر عاري الساقين فرح بما يجيء وراءه من أيام الراحة. وكل شيء يؤذن بالأقوال أم بسنته السنوية يأخذها أيام الشتاء حين لا سعي ولا عمل.
وكلما قطب الوجود ازدادت زينب حزنا وأسى، وظهر عليها من أثر ذلك ما يكاد يميزه من رآها من قبل.
اعتقدت أن قد أصابها البرد حين أحست بسعال يناوشها من حين لحين ، ومع ذلك لم ترض أن تلزم الدار وتحتفظ بنفسها وتطلب الدفء، لأنها كانت تعلم ما في ذلك من حرمانها مشاهدة آثار إبراهيم وما خلف، والشجرة الشهيدة على ما كان بينهما. وبالرغم من ريح الصباح القارسة التي تهز الأبدان وترعد الأسنان كانت تذهب إلى الترعة لأول خيط تبعثه الشمس من شعاعها على البسيطة متخذة لذلك حجة أيا ما كانت. فلما غيض الماء ولم يبق للملية من سبيل إلا أن يذهب الناس ظهر النهار لمحطة السكة الحديد ينالون مما يحمله الوابور معه، كانت تذهب لترى بعض أمر يخص أبويها وأختها، وإذا ما جاء الظهر لم تنس أن تروح إلى المحطة لترسل هي الأخرى لأسود الوجه فاحم القلب الذي أبعد عنها محبوبها نظرة حقد وكراهية.
وكلما رأت الشجرة أو الوابور أو أي أثر من آثار محبوبها انتشر في جو أفكارها سحاب من الهم ولم تستطع إلا أن تستسلم للتنهد ثم للبكاء المر. وفي وسط بكائها يعاودها السعال فيرج صدرها ويهزها جميعا، ثم يرسل إلى خدها الشاحب الناحل ما يرد إليه بعض تورده الذي لا يلبث أن يغادرها بعد لحظة. وتدخل الدار فتحبس نفسها في الغرفة أو القاعة، وتبقى هناك الساعات الطوال المتوالية. وكلما سألها حسن عما تعالج من الحزن أجابت أن أصابها برد وسعال لا ينفكان يضايقانها.
انقضى العام وجاء يناير وفصل الشتاء معه، وعمل الفلاحون لتقطيع الهندي والشامي، وأصبحت المزارع مسطوحة تقوم عليها النباتات الصغيرة إن فولا أو برسيما أو غلالا، فإذا ما أرسلت بنظرك راحت أمامك الأرض خضراء حتى يقصمها الأفق. والترع فيما بينها ناشفة تنتظر التطهير في هذه الأيام أيام الجفاف، وقد بدا عليها من الضعف والاستسلام ما يجذب القلب نحوها. والدواب الراتعة في مرابعها تزعق أحيانا فتملأ الجو الساكن بزعيقها. وعلى مقربة منها انتشرت فوق البساط السندسي جماعة القبرات تصفر وتنط، فتبعث شيئا من الفرح إلى جو الشتاء الحزين.
كانت أم زينب تراها من حين لآخر، وكثيرا ما تصادفها عند الموردة ساعات الملية فتسألها عن حالها مع حسن ومع حماتها كذلك. كانت تذهب عندهم في الدار ومعها بعض الشيء من سمك أو خيار أو نحوه حسب فصل السنة. ولا تفتأ - كلما وجدت من زينب ما تحسبه يؤخذ على مثلها - تكرر لها النصيحة. ثم إذا رجعت إلى دارهم ورأت زوجها قصت عليه، وكلها السرور والرضا، مبلغ حب أم حسن لزينب وإعزاز أخواته وميلهم جميعا لها. حتى خليل كان كلما رآها سألها عن شأنها ثم طمأنها على ابنتها وسيرها ومدحها أمامها بما هي أهل له، وأكد لها أنه في كلامه غير مغال ولا مبالغ.
فلما رأتها في هذه الأيام الأخيرة وقد ظهرت عليها علامات الألم بهتها شحوب ابنتها وذهولها، وجعلت تسأل نفسها: ماذا عساه قد أصابها. وهذا السعال وإن يك بسيطا فإن تقدمه كل يوم عن الذي قبله جعلها تقلق بعض الشيء على صحتها. لذلك رأت من الواجب عليها أن تنبهها حتى لا تخرج إلا محتاطة لنفسها من البرد... ولكن هيهات أن ينفع التنبيه بعد أن استحكم الداء من صدر الفتاة، ولم يبق إلا القليل حتى تظهر عليها كل آثار السل القاتل.
4
بهي الشيم أخينا المحترم حسن أبو خليل دام بقاه آمين
بعد إهداء مزيد السلام على حضرتكم نخبركم أننا هذه الأيام في أم درمان، ونحن طيبون بخير، ولا نسأل إلا عن صحة سلامتكم التي هي غاية المراد من رب العباد. وفي تاريخه أخبرني الشاويش أنه ستقوم أورطة إلى جهة سواكن ولا أعلم إذا كان منها بلكنا. وإن شاء الله متى قامت نخبركم إن كنا منها ونبعث لكم بجواب من سواكن. ولا تؤاخذنا في تأخير الخطابات إلى الآن، فإنهم نقلوني كثيرا فما كنت أعرف إذا كنا سنبقى أو سنرسل. ولكن هنا في أم درمان يمكن دائما إرسال جوابات باسمي فأستلمها، وإذا ذهبت إلى سواكن يبعثوها لي. قد قابلت هنا أحمد أبو خضر وهو من بلدياتنا ابن أبو خضر أبو اسماعيل وهو يهديك السلام. وقابلت سعد البرهمتوشي وهو يهديك السلام. وقابلت خليل أبو عوض الله وسعد الدين الحبشي وعلي أبو محجوب وكلهم يهدوك السلام. ثم تسلم لنا على أبوي خليل وعلى حسين أبو مسعود وعلي أبو أحمد وعلى والدتنا وعلى والدتكم وإخوانكم، وتسلم لنا على الحاج هنداوي أبو عطية وعلى إبراهيم أبو سعيد ثم تسلم لنا على جميع من بطرفكم وجميع من يسأل عنا ودمتم.
ناپیژندل شوی مخ