جاء الليل ينشر خيمته رويدا رويدا فوق النهار، فيصيب الأشياء كلها بظلمته، ويبعث للناس بساعة المغرب اللذيذة ونسيمها. فخرج حامد من مخبئه وهو حيران لا يدري ماذا يصنع، ولا أي طريق من طرق الحياة يسلك!
وبعد ذلك بأيام ترك قريته الصغيرة المحبوبة إلى العاصمة الكبيرة، وعنده أمل أن يجد في هذا التغيير ما يريح باله، ويهدأ معه ضميره، ويدخل إلى حياة طيبة ساكنة.
2
بعد شهر من سفر حامد إلى القاهرة رجع إخوته يوما إلى الدار فلم يجدوه، وانتظروا عسى أن يحضر للعشاء فلم يحضر، ومضى الليل واليوم الثاني على غير جدوى. فعلاهم القلق، وأرسلوا إلى أبيهم يخبرونه الخبر، فأسرع إليهم، واستفسرهم عن أمر أخيهم، ولكنهم لا يعلمون من أمره شيئا، فدق الرجل يدا بيد، ودخل غرفة ابنه وقد اغرورقت عيناه بالدموع، وجلس مكتئبا حزينا يندب الحظ المنكود الذي اختطف منه أعز أبنائه.. ياترى أين هو اليوم؟ انتحر؟ ولكن لماذا؟ لا سبب يدعوه للانتحار! وكيف يترك إخوته وأهله من غير كلمة ولغير شيء؟..
وأظلمت الدنيا في وجه هذا الأب، وفاضت بالحزن نفسه. وتلفت فإذا عن يمينه صورة ولده تنظر إليه بعين مطمئنة ساكنة، ولا يروعها هلعه ولا يؤثر فيها أساه. فقام نحوها ووقف يحدق إليها، ثم لم يتمالك نفسه أن أخذها من مكانها وقبلها وضمها لصدره، ثم سقط باكيا على مقعد إلى جانبه.
لكن الحزن والبكاء لا يجديان، ولا بد أن يبحث عن حامد، فإما وجده حيا أو ميتا. وقبل أن يخبر أي إنسان بالأمر جعل يفتش في أوراق ولده فإذا بينها غلاف مكتوب عليه:
إلى والدى المحترم
فلم يكن بأسرع من أن فضه وقرأه فإذا فيه:
إلى أبي وأمي. إلى إخوتي وأهلي
من أيام مضت كشفت عن نفسي لشيخ سوء من مشايخ الطرق، اعتقدت أن أجد فيما يدعيه من القدسية ما يريح ضميري فلم أزد إلا عناء وألما. وهأنذا أفتح قلبي لكم لأنكم الذين أحب، وحتي تعذروا بائسا أضنته الفكرة فخرج هائما على وجهه لا يعرف سبيله، وقد ترونه بعد اليوم وقد تكون هذه الكلمة آخر أثر عندكم عنه.
ناپیژندل شوی مخ