فإن أنت تابعت سيرك، واتبعت الصوت حتى صرت على مقربة منه، رأيت في البحر اللجي من شعاع حائر في السماء الأطفال والفتيات وقد انثنوا فقبضوا بشمالهم على سيقان القمح النائم بعضه فوق بعض كأنه نشوان طرب بتلك العوامل الكثيرة التي تبعث إلى قلب المحزون ما يستخفه ويستهويه. وباليمنى على شراشرهم - تلك نصف الدائرة الحديدية التي وعت عهد فرعون وتسللت مع الزمان إلى عصرنا الحاضر.
وتصل عند العمال فإذا زينب بين الجمع في الطليعة، وقد انسدل إلى جانبها جناحان من العاملات، وكلهن في جدهن وعملهن يرددن حداءها بعد أن حمله الهواء على موجاته ونادى به الليل الصامت في كل الأنحاء، والقمر قد انحدر إلى المغيب ينظر إليها نظرة الصب قد ناله الشحوب فهو ذاهل في نشوته. وأحاطت بذلك غيطان القطن الأخضر الذي ما يزال طفلا.
ها هي ذي زينب في تلك السن ترنو إليها الطبيعة وما عليها بعين العاشق، فتغض طرفها حياء، وترفع جفونها قليلا قليلا لترى مبلغ دلها على ذلك الهائم، ثم تخفضها من جديد، وقد أخذت مما حولها ما ملأ قلبها سرورا، وأضاف إلى جمالها جمالا ورقة، فزاد الوجود غراما بها وزادها به تعلقا ووجدا. وهكذا كلما اجتلى أحدهما من صاحبه نظرة ذهبت منه إلى أعماق النفس فانطبع الكل في قلب الفتاة، وتوجت الفتاة حياة الوجود المحيط بها. فهل قنع كل منهما بحظه ورضي نصيبه؟!
أما الوجود فقانع راض أشيب، علمه تعاقب الدهور أن الاسترسال في تحديد الغاية بخطوط الخيال جري إلى حيرة اللا نهاية، وأن كسب الحاضر حتى يحضر المستقبل أوفر الربح. وأما الفتاة فهي في سعادتها حيرى تائهة، وفي حيرتها سعيدة فرحة. أحست في نفسها بمكانتها، ولكنها تريد أن تختص من الكل العظيم غير المحدود روحا إنسانية تختلط مع روحها، ونفسا تسيل مع نفسها، ثم يظل الباقي وبينها وبينه من الصداقة ما يزيد في حظهما من السعادة. ذلك كل حلمها وأملها وإن لم تستعجل به الزمان، ولا خطر ببالها أن في طاقة الحوادث أن تمنع تحقيقه.
فإذا ما تنفس الصبح، وطلعت الشمس وبعثت بنورها على البسيطة، وتلألأ الطل تحت أشعتها، ثم بلغ به الإعجاب بنفسه أن لم يرض بمقامه السفلي، وطار يطلب السماء، فترك عيدان القمح ترجع إليها صلابتها - تعاون العمال جميعا على جمع ما حصدوا وأعدوه أحمالا، وانتظر بعضهم الجمل الذي ينقلها إلى الجرن، في حين يرجع الآخرون أدراجهم إلى دورهم، فيقضون نهارا قليلا نومه مشتغلين بتجريد بهائمهم التي تنتظر أيام الحرث القريبة. وهناك على شواطئ الغدران والترع يقضون ساعات نياما تحت الشجر تعوضهم من كدهم لعمل الليل المقبل.
وتقضت أيام الحصاد هي الأخرى، وانتقلوا لعمل جديد. واستعاضوا بذلك مكان الليل المقمر ونسيمه العذب وآماله وأحلامه نهار الصيف وشمسه المحرقة.. ولكنهم ما كانوا ليحسوا بذلك أو ليألموا له وقد تعودوه كما تعوده آباؤهم من قبلهم. تعودوه من يوم مولدهم، فانتقل إليهم بالوراثة وبالوسط. وتعودوا ذلك الرق الدائم ينحنون لسلطانه من غير شكوى ومن غير أن يدخل إلى نفوسهم قلقا. يعملون دائما ومن غير ملال، ويرقبون بعيونهم نتائج عملهم زاهرة ناضرة، ثم يقطف ثمرتها سيد مالك كم فكر في أن يبيع قطنه بأغلى ثمن، ويؤجر أرضه بأرفع قيمة، وفي الوقت عينه يستغل الفلاح نظير قوته الحقير، ولم يدر بخاطر السيد يوما أن يمد له يد المعونة، أو أن يرفعه من درك الرق الذي يعيش فيه. وكأنه ما علم أن هذا المجموع العامل يكون أكثر نفعا كلما زادت أمامه أسباب المعيشة وتوافرت عنده دواعي الطمع في أن يحيا حياة إنسانية.
لكن السيد المالك لا يهمه شيء من ذلك. وهو الآخر يعيش كما عاش آباؤه، يحافظ على القديم، ولا يفكر في أن يغير من عادات سلفه شيئا. وإذا حدثك عن الماضي حدثك عنه باحترام وتبجيل آسفا أن انتقل أجر النفر الشغال أيام الشتاء من قرش إلى قرشين، وتمنى عودة ذلك الزمن زمن البساطة والرخص، لا لأنه يشكو مما يثقل عاتقه في الحاضر من الواجبات - فإنه يرى الحاضر أحسن كثيرا من هذه الجهة - ولكن لتسقط الأجور إلى مستواها الأول، فيكون هو بذلك أوفر ربحا، ويبقى العامل والفلاح لذلك في ظلمته وفي رقه وشقائه.
2
للسيد محمود رب هاته الضياع عائلة طويلة عريضة، خلفها المرحوم والده الذي توفي عن أربع زوجات غير اثنتين ماتتا في طريق حياته. وبالرغم من الكثيرين جدا من أولاده الذين كانوا يموتون قبل السادسة من عمرهم - وهم خمسة وعشرون فيما يذكر السيد محمود - فقد بقى له يوم مماته اثنا عشر ولدا من ذكور وإناث. ولهذا كانوا يتفاوتون في السن ما بين خمسين سنة لأكبرهم وثلاث لطفل لا يزال في حضن أمه الشابة. وورثوا جميعا شيئا غير كثير. لكن السيد محمود، باعتباره أكبر إخوته الذكور، كان قد جمع من كده وبمعونة والده ثروة غير قليلة، وأصبح هو وارث اسم العائلة، وطبعا الوصي على إخوته القصر. وقد كان من أطيب الناس قلبا، وأصفاهم سريرة، وأحبهم لإخوته، وأحناهم على الصغار منهم. فمع ما هو مجسم في نفوس الإخوة من زوجات مختلفات من عدم ثقة بعضهم ببعض، ومع ما تزرعه أمهاتهم في نفوسهم من معنى الانفصال، فقد كان هذا الرجل يعامل إخوته الصغار معاملة الأبناء. ولعل ذلك جاء فوق طيبة خلقه من وصية أبيه له وهو على سرير موته بصوت واجف وعبرة تنهمل بالرغم منه من مآقيه الفانية ومن تلك العيون التي كانت تودع في نظراتها الأخيرة عالمنا وما عليه: وصيتك إخوتك يا محمود. هم أولادك.
أما أبناء السيد نفسه فهم أبناء زوجة واحدة ويبلغون الثمانية عددا: أربعة بنين وأربع بنات. ولقد عني السيد بهم جميعا وأرسل للتعليم من أبنائه كل من تحتمل سنه ذلك. أما من جهة التربية فقد كان أقرب إلى تركهم لنفوسهم. ولم يكن هو نفسه يدري سبب ذلك. ولا يمكننا أن نعلل هذا الترك من جانبه بسبب مفهوم. الرجل رجل طيب كغيره، وكان من المعقول جدا أن يضع أبناءه تحت مراقبة ضيقة كما هي عادة أمثاله، أو على الأقل أن يجعلهم في حضوره مثال الصمت والسكون كمقتضيات الأدب المصري. صحيح أنه ظاهر الجد إلى أقصى الحدود ساعة حضورهم، ولكنه لم يكن من الرهبوت بالمبلغ الذي عليه أمثاله. ولهذا السبب من جهة، ولأنه من الأعيان الأغنياء المصريين من جهة أخرى، لم نقدر على القول بأن تركه الحرية لأولاده نتيجة نظرية في التربية رآها، أو لأنه من أنصار سبنسر في وجوب جعل الطفل معلم نفسه بقدر الممكن، فلا يتعرض له فيما يعمل إلا عند تحقق الخطر الجسيم منه.
ناپیژندل شوی مخ