ولكن بعد أن اجتازت العربة كبري النيل ملكها وهم مخيف؛ لعلمها أنها وحدها، وفكرت بما احتالت به على الحاج محيي الدين، فظنت أنه رآها لما مرت أمام بابها وأنه الآن يقتفي أثرها، فسألت الحوذي خائفة: أترى عربة وراءنا؟ فقال: لا. فقالت: قف قليلا.
وأصغت ثم قالت: إن عربة وراءنا قريبة منا، أسرع، أسرع.
فامتثل الحوذي أمرها، ودخلت العربة مسرعة في طريق الأهرام الجميلة بين صفين من شجر السنط والكينا تحت قناطر من أغصانها المتعانقة، ولا صوت يزعج سكينة الليل غير صوت حوافر الخيل العادية.
وما هي إلا برهة حتى رفع إلى مريم خيال الهرم الأسود، كأنه قبع الخفاء على رأس الصحراء، فأوقفت الحوذي ثانية وهي لم تزل أسيرة الرعب والأوهام وسألته: وهل من مبيت عند الأهرام؟ - هناك نزل جميل يا ستي. - حسن، أسرع، أسرع!
وبعد قليل وقفت العربة قدام النزل على حدود البادية فترجلت مريم والخوف والجرأة يتناوبانها، فإذا هي لأول مرة أمام الهرم الكبير الواقف كطود من الظلمة في بحر من الرمل راقدة أمواجه، تحت سماء هجرتها نجومها، بل هو قلب الليل وقد جسمه الزمان، فهالها خياله، وهالها ظلامه، وهالتها الوحشة المخيمة حوله وفوقه؛ وحشة البادية، ووحشة الليالي، ووحشة الأجيال والأزمنة.
ومع ذلك فقد أحبت مريم أن تشاهده قريبا في تلك الساعة، فسألت الحوذي أن يرافقها، فتردد خائفا. - ما بالك؟ - ما لنا وله يا ست، الهرم يتكلم في الليل، وربي الموتى فيه ينهضون ليلا ليتنزهوا على الرمال وحق النبي! - كلام صبيان، امش معي، امش قدامي.
فخجل الحوذي ومشى مترددا في الطريق التي توصل إلى الهرم الكبير وهو حائر في أمر هذه السيدة معجب بشجاعتها وإقدامها، وبينا هو صاعد في الدرجات تعثر بشيء صرخ بين قدميه فهلع قلبه ورجع أدراجه، فنهض الحمار الذي كان نائما هناك مذعورا ينادي رفيقه حمارا آخر نائما قربه، يدعى: محيي الدين. - يا محيي الدين، يا محيي الدين.
فوقفت مريم مبهوتة لاستماع هذا الاسم هناك وعادت تسارع إلى العربة، وتسائل نفسها قائلة: كيف سبقنا اللعين؟ كيف سبقنا إلى الأهرام؟ ثم أمرت الحوذي أن يعود إلى البلد مسرعا. - قلت لك يا ست: إن الهرم يتكلم وإن الموتى فيه يخرجون ليلا للنزهة، وحق النبي إن من تعثرت به منهم.
وسقط بسوطه على الخيل يستعيذ بالله من الشيطان الرجيم.
ومريم قد أخذتها الرعبة، وملكها مما توهمته الخوف باتت تلك الليلة وطيف مخيف، طيف الحاج محيي الدين يلازمها في يقظتها ويطاردها في نومها.
ناپیژندل شوی مخ