وافترق الاثنان وكلاهما راض بما كان، ولم يكن سرور مريم بما انقلب في تيار حظها أشد من سرور الحاج بما ظنه فوزا في غزوته الأولى، ولكن الفتاة جعلت تفكر في حيلة أخرى تخلصها من مخلصها إلى أن يتم لها ما تريد؛ إلى أن تستلم الوثيقة منه، ولم يضطرها الأمر إلى كثير تفكير؛ لأن خبرتها في باريس تلبي الآن طلبها.
ولما جاء الحاج محيي الدين صباح اليوم الثاني دهش لوجود رجل آخر عند مريم، فطمأنت باله قائلة بعد أن رحبت به: حضرته مدير المقاولات. - صحيح، صحيح، لقد فاتني أمره.
وجلس على الديوان يعد سبحته ويستغفر الله، ثم استخرج من جيبه الوثيقة فقدم منها نسخة إلى مريم لتوقع عليها ففعلت، ثم وقع عليها مدير المقاولات وأعادها إلى محيي الدين، فقدم إليها نسخة أخرى وقد وقع عليها هو وشريكه، وبعد إنجاز العمل جاء الخادم بالقهوة والسكاير، وجلست مريم تحدث زائريها بما رأته من جمال مصر، ثم قال مدير المقاولات وهو ينظر إلى ساعته: إذا أحببت أن أشيعك إلى البنك يا ست مريم فالوقت قد حان، تفضلي. - قد فاتني ذلك، أشكرك لتذكيرك إياي، ولكني لا أكلفك ...
فقاطعها المدير قائلا: ليس في الأمر ثقلة، فإن مكتبي في تلك الناحية والعربة تنتظرني. - لا تؤاخذني يا سيدي محيي الدين، يظهر أن حاجة في البنك بهذه البلد لا تقضى بيوم أو بيومين، وقد وعدت المدير أن أقابله اليوم أيضا.
ولبست مريم قبعتها وعمدت إلى شمسيتها تتكئ عليها وتقول:الأمر هام جدا يا سيدي، ولا أعلم كيف أكفر عن سوء أدبي، يا للفضيحة ويا للعار! عذرا أرجوك، فالعذر من شيم الكرام، وغدا أقابلك إن شاء الله.
فاضطرب الحاج محيي الدين ولم يفه بكلمة جوابا، ولكنه أخذ يد مريم الممدودة إليها فصافحها، وأحس بنظرة من نظراتها تخرق كالشرارة فؤاده، فزادت بنار وجده اضطراما.
وفي ذاك الأسبوع كانت تذهب مريم إلى الكازينو كل يوم لتتمرن على الرقص، وكانت تلجأ إلى أدق الحيل لتتخلص من أشراك الحاج محيي الدين، أما عاطف بك فأحسن معاملتها وبالغ بإكرامها، وأشار عليها أن تغير اسمها؛ لأن مريم اسم عادي، بل اسم مسيحي، ولا يستوقف الأنظار، ولا يليق براقصة، فاقترح عليها اسم «غصن البان» فقبلت مريم الاقتراح.
وبينا هي عائدة إلى منزلها بعد ظهورها على مسرح الكازينو الليلة الأولى، لاح لها قرب بابها شخص، تحققت من عمامته الخضراء ورأسه الكبير أنه الحاج محيي الدين، وكان قد سبقها إلى منزلها تلك الليلة ولبث ينتظر قدومها، فأمرت الحوذي من ساعتها أن يستمر سائقا، فمرت العربة مسرعة أمام بابها وهي متوارية فيها يحجب «الكبوت» وجهها، فلم يرها الحاج المطارد، وظل ينتظر في قهوة قرب ذاك المنزل حتى الساعة الأولى بعد نصف الليل، فعاد بعدئذ إلى بيته يصر أسنانه غيظا ويقول: أبنت بنت الكلب تخدعني؟ أتصدني وترغب بغيري؟ أتتفلت من يدي فتعلق على دبق الأوغاد؟ فلا شك أنها في إحدى الحانات الآن تشارب وتداعب أجلاف جيش الاحتلال، بنت ستين كلب! ستندم والله على فعلتها! ستندم ولا ينفعها الندم.
أما مريم وإن أزعجتها مباغتة الحاج فلم ترعها، ولا اعترضت سرعة خاطرها، ولا أفسدت عليها صفاء نفس ذاقت لأول مرة لذة الفوز في سعيها. ولما سألها الحوذي: إلى أين يا ست؟ بعد أن اجتازت العربة الشارع المقيمة فيه أجابته على الفور: إلى الجيزة، إلى الأهرام.
ورضيت بعد الفكرة ببداهتها؛ لأن الليلة وإن لم تكن مقمرة فقد كانت ناعمة منعشة، خفيف ظلها، عليل هواؤها. فراح الحوذي يحث بالسوط خيله، ومريم تقول في نفسها: نزهة ساعة فيفرجها الله.
ناپیژندل شوی مخ