بقيت النسوة تنصت إلى صوت شهيق وزفير حميدة ممزوجا بالألم .. وصوت مروان وهو يقول لها بصوت متذبذب: اصبري قليلا .. ثم انتقلن إلى مشهد آخر حين كان مروان يرفع صوته للأذان، ويتلو القرآن في الكتاب وهو في الثانية عشرة من العمر. ثم شاهدنه وهو في السابعة من العمر يرعى قطيعا من الغنم، فضحكن على تيس وهو يمارس غريزته مع النعاج. استغربت سناء. قالت: إنه يمارس اللقاء كما شاهدناك مع زوجتك!
11
حزنت النسوة حين شاهدن مروان وهو يمشي حافيا، يلبس ثوبا قصيرا، يلعب في قريته الصغيرة مع بعض أصدقاء الطفولة على ضفة واد، وأبوه الراعي ناجي مدهش وهو يلطمه، وهو في عمر ثلاث سنوات، يدعوه بغضب: «يا زنوة، يا ابن الحرام ...» وتشاجر مع أمه حين أتت لتدافع عنه، وأبوه يقول لها بغضب: يا غصون، أنت سمراء، وأنا كما ترين أسمر. كيف هذا الولد جاء أبيض اللون؟!
كانت غصون تقول له: لا أدري، لكنه ابنك! - إنه يشبه الرجل الغريب، الذي كان ذات يوم في بيتنا.
بكى مروان أمام النسوة، وغطى وجهه بكفيه حين تفاجأ بهذا الخبر، شعر بالخزي والحزن، حينها عرف لماذا كان أبوه ناجي الراعي يضربه دون سبب ، ويناديه بابن الحرام.
ساد مروان الحزن حين عرف أنه ابن ظل، يسرح بفكره إلى أن قالت فرضانا: «أنت الآن يا مروان ابن هذا العالم. إنسان آخر.» بينما النساء كانت تشاهد يوم مولده لحظن حزنه، فرحن يعطرنه بعطر السعادة، وعاد يضحك يقبل تلك ويحضن تلك.
كان هذا اليوم هو يوم الجمعة الخامس والعشرين من يونيو. أربعة أشهر مرت على مروان وهو يمرح في عالم السعادة، بينما أمه غصون تعيش في عالم التعاسة، هي الوحيدة التي تمكث بجواره طوال اليوم، رغم تلك الرائحة التي تفوح من تقرحات جسده التي تزداد يوما بعد يوم. عملت بنصيحة الشيخ قارئ القرآن، وأحضرت ساحرا يفتش في البيت، إلى أن أظهر ورقة طويلة مطوية، وقال لغصون: «ابنك مسحور، ولا بد من فك السحر. عليكم بذبح تيس أسود، وإذا لم ينفك السحر، فلا بد من محضر أرواح، وطرد الروح الشريرة التي سكنت جسده، ولن تجدي محضر الأرواح الجيد إلا في الحبشة. وراحت غصون ترجوه بأن يحضره.»
اجتمعت الجدة بالأولاد، أخبرتهم عن ضرورة حضور «محضر الأرواح» من الحبشة. لم يوافق الأبناء، فغضبت وأخبرتهم بأنهم لا يريدون أن يدفعوا المال لعلاج أبيهم، ولم يعودوا يرون أن المال ما زال ملكه. قال علي: يا جدة، هذه شعوذة! - المستشفى ما قدرش يعالج ابني، والذي يقرأ القرآن ما قدرش، والساحر ما قدرش .. ما عاد في إلا محضر الأرواح. هو شيعرف أيش من روح شيطانية سكنت ابني. كل هذه الفلوس التي معكم هي فلوس ابني.
12
كانت غصون تبحث عن وسيلة لشفاء ابنها، وفي الوقت نفسه كانت مريانا في عالم مروان الآخر تخفف عنه حزنا طرأ عليه. تخبره أنه الآن في الجنة حسب ما يرى والسعادة من حوله، ولا مكان للأحزان في الجنة، ففي هذا العالم لا شيء فيه يحزننا، نحن نعيش في سعادة دائمة، حتى من يموت لا نبكي عليه؛ فقد عاش سعيدا، غير محروم من أي شيء، عاش جنته في حياته محبا للغير، الحب هو جزء من الجنة. أما في زمانه فعاش الإنسان عالم المادة، لم يعش عالم الروح، عاش بأقنعة عديدة مصابا بانفصام الشخصية والأمراض، لم يجد الهدوء والاستقرار الداخلي، كانت تسوده ثقافة الكراهية. في هذا العصر استطاع الإنسان أن يوفق بين رغبة الجسد والروح، وجعل كلا منهما يعشق الآخر، ووصل إلى «العالم الفاضل». كان بروسي يشاهد معهن. ابتسم وقال: لقد بدلوا عقل كريم، الجسد جسد كريم، لكن العقل ليس عقله!
ناپیژندل شوی مخ