الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الشكر الجزيل
الفصل الأول
الفصل الثاني
الفصل الثالث
الفصل الرابع
الفصل الخامس
الفصل السادس
الشكر الجزيل
يوم مات الشيطان
يوم مات الشيطان
تأليف
أحمد قاسم العريقي
الإنسان الكامل هو الجامع لجميع العوالم الإلهية وجميع المراتب. أنشأ الله صورته الظاهرة من حقائق العالم وصوره، وأنشأ صورته الباطنة على صورته تعالى، ولذلك قال فيه: «كنت سمعه وبصره.» وعلى الإنسان الكامل أن يمر بمراحل عدة؛ كي يصل إلى التنوير ونكران الذات، وعندها يصير للبشر قلب واحد وفكر واحد، اسمه «الرجل الواحد».
الشيخ عبد الكريم بن إبراهيم الجيلي
766-805 هجرية
الفصل الأول
خلق الله الماضي والحاضر والمستقبل معا، لكل له بعده الخاص، إلا أننا نرى البعد الذي نعيش فيه فقط.
1
كان الجو صحوا في المدينة، الساعة تشير إلى العاشرة والنصف صباحا، سرب من النسور يحلق في السماء على ارتفاع شاهق. حينها كان مروان ناجي الراعي في منزله، الكائن في حي عطان، لا يزال مستلقيا على فراشه، لم يصح من نوم.
سقطت قنبلة مرعبة بالقرب من منزله، وأخذته من عالم الجحيم إلى عالم الفردوس (عالم الإنسان الكامل). وجد نفسه في ذلك العالم يقلب بصره في دهشة فيما حوله، ينظر إلى أشجار تتدلى منها فواكه مخالفة. يحدث نفسه: «ترى هل أنا في الجنة؟!» نهض بصعوبة من مكانه وهو مستلق على سجادة من العشب الأخضر؛ ليقطف برتقالا. تفاجأ أن يده تغوص في الفاكهة، وهو يحاول الإمساك بها. حاول مرة أخرى أن يقطف ثمرة جوافة، أيضا لم يستطع! نظر إلى جسده العاري، حدث نفسه: «هذه يدي، لماذا لا أستطيع أن ألتقط الفاكهة؟ ترى أي جسد أملك، هل أنا شبح؟! أم هكذا نبعث يوم القيامة وتتشكل أجسادنا فيما بعد؟» لم يستغرب من عريه؛ فالمرء كما قيل له «يبعث على ما كان عليه عند موته»، وهو كان قبل لحظة عاريا في غرفة نومه.
جلس مذهولا ينظر فيما حوله! والفاكهة تتدلى من أشجار لم ير مثلها في حياته، كل منها تثمر عدة أنواع من الفاكهة؛ تفاحا، رمانا، برتقالا، جوافة .. استلقى على الأرض والرائحة العطرية تشبه رائحة الريحان. نظر نحو الشمس، فرآها تقترب من كبد السماء، مخلوقات في الجو تشبه الإنسان تطير بأجنحة رقيقة كأجنحة الخفاش. حدث نفسه: «إنهم الملائكة. نعم، أنا في الجنة. حقا من مات قامت قيامته! ترى، هل صورهم جميلة كما قيل لنا؟! كم اشتقت لمعرفة ذلك! تساءل أين حور العين؟ لماذا لا يستقبلنني؟! أين أهل الجنة؟ لماذا أنا وحيد؟!» شاهد خلية نحل على شجرة، والعسل يقطر من أقراصها. مشى مسافة، فإذا به يرى شجرة يتدلى منها خوخ، أناناس، مانجو. قال: «سبحان الله، هكذا الجنة، فيها فاكهة الشتاء والصيف معا!»
طاف ببصره فيما حوله بدهشة، فشاهد سبع نساء جميلات يقتربن نحوه، يتدلى شعرهن حتى الأرداف، يبدو من وجوههن أنهن من جنسيات مختلفة. ابتهج فرحا، وقال لنفسه: «ها قد أقبلن حور العين أخيرا؛ ليأخذنني إلى قصري.» تساءل: «لماذا يلبسن ملابس رجالية؟! كنت أظن أن الحور يلبسن فساتين الفرح.» توارى خلف شجرة ليستر عريه، وهو يراقب النسوة، يحدث نفسه: «سبحان الله حور الجنة يشبهن نساء الدنيا، ترى، هل نساء الأرض يتحولن إلى حور في الجنة؟!» تشجع ونادى الفتيات: هيه .. أنتن، أريد لباسا، أرجوكن أريد لباسا!
كان يشاهدهن وهن يقتربن نحوه أكثر، وصاح عاليا: أريد ثوبا، أنا عرياااان! .. هل أنتن حور العين؟ أليست هذه هي الجنة؟
سمعهن يتحدثن بلغة غريبة، لم يفهم منها شيئا. غطى منطقته الحساسة بكفيه، وظهر أمامهن وهتف: هيه .. أنتن ألا تسمعنني؟! ألا ترينني؟ هييييه، أنتن، انظرنني!
تقدم نحوهن أكثر، وهو يهتف بصوت مرتفع .. لكنهن لم يلتفتن نحوه، وهن يعتنين بأشجار الفاكهة. تراخت يداه ذهولا عن منطقته الحساسة. عرف أن جسده لا يراه الغير، وليس له صوت! هكذا وجد نفسه روحا دون جسد لا يراه سوى نفسه.
2
حزن مروان على حاله، وهو يرى نفسه في الجنة روحا دون جسد. حدث نفسه: «ما الفائدة من الجنة يا مروان، وأنت فيها روح دون جسد؟» وراح يندب حظه، إنه عذاب من نوع آخر.
تتبع النسوة وهن يقمن بالعناية بخلايا النحل وأشجار الفاكهة، يضحكن بدلال فيما بينهن. جلس إلى جوار شجرة عطرية عالية، وجدها تشبه شجيرة الريحان الصغيرة التي على سطح منزله. وضع يده على خده بحزن، وهو يشاهد الحسن الراجل أمامه. يتساءل: «هل سأبقى روحا هائمة؟ ولماذا الجنة لا تبدو كما وصفت لي في الدنيا؟ ترى، هل يمكن أن أكون في الأعراف؟
1
حين أدخل الجنة ستحل الروح في جسدي؟!» أسئلة كثيرة عصفت به. ثم نظر نحو السماء وهتف: «أين أنا يا رب؟!»
جلست النساء يسترحن؛ فإذ به يشاهد ما يؤكد له أنه في الجنة وليس في الأعراف؛ شاهد أكوابا من العصير توضع أمام كل فتاة، وفاكهة لم ير مثلها في حياته، ولم ير ثمة أحدا يقدم ذلك. لم يستطع أن يسيطر على نفسه، وهو يشاهد الحسناوات أمامه، فاقترب منهن والتصق بإحداهن فلم تشعر به، وهو كذلك لم يشعر بإحساس اللمس! ابتعد عنهن، ثم صاح بأعلى صوته، وهو يقلب وجهه في السماء: «لماذا أرسلتني يا رب إلى الجنة روحا دون جسد؟!»
مشى أمامهن بتوتر ذهابا وإيابا، يتفرج على حسنهن الخلاب، وهن يقمن بعملهن بهمة ونشاط. قبل غروب الشمس سمع أصغر الفتيات تقول: «لقد أكملنا عملنا اليوم.» وإذ بمركبة دائرية غريبة تهبط أمامهن فجأة، كأنها تكثفت من الهواء. ركبن جميعا، وانطلقت تلك المركبة بسرعة محلقة في الجو، وهو يتساءل في ذهول: «هل توجد صحون طائرة في الجنة؟!»
أزف المغيب، واستلقى على ظهره تحت الشجرة التي وجد نفسه أول مرة تحتها، وهو في حيرة من أمره في أي عالم هو؟! هل هو لا يزال على الأرض؟! أم في السماء؟! أم في عالم الجن الموازي لعالمنا؟! ولماذا هو روح دون جسد؟! تذكر بحزن الانفجار الرهيب بالقرب من منزله، وانتقل بعده إلى العالم الذي فيه هو الآن. يتساءل: «هل انفجر مخزن أسلحة تحت الجبل ودمر المنازل حوله؟! وما هو مصير أهله؟!» تخيل السكان والعابرين بين الأنقاض، وصراخ الجرحى وعويل النسوة، وأناسا نجت من الهلاك، يكسوهم الغبار كأنهم قاموا من الأجداث لا تكاد تعرف. وأخذ يلعن صناع الدمار، تجار الموت، وكراسي الحكم المخضبة بالدماء. كانت معركة دخول الحوثيين صنعاء شرسة جدا.
بينما كان مروان في عالمه الفردوسي، كانت زوجته حميدة في تلك اللحظة أمام حمام منزلهم تصرخ: «أبوكم مات يا أولادي!» أسرع الأولاد: عمر، سليم، سالم، نبيل، وابنتها فاطمة، وتحلقوا حوله وهم لا يزالون في حالة ذهول من هول الانفجار. أما على ومعاوية؛ فقد كانا يعملان في السوبر ماركت، وكان نادر وسامي - أولاد فاطمة - لا يزالان منبطحين أرضا إثر الهزة القوية التي ضربت المنطقة.
لاحظوا البسمة مرسومة على شفتي والدهم، لم يكن هناك ثمة جرح في جسده. ألبسوه ثوبه ثم حملوه إلى خارج البيت ليسعفوه. وجدوا سيارتهم مقلوبة .. إطاراتها نحو الأعلى .. الشارع خال من المارة ومطمور بالحصى والأتربة. كانت العيون المرعوبة تشاهد المنازل التي حولها، وقد سقطت نوافذها. بعضها في وضع مائل والسكان يهرعون بالخروج منها. بعضهم شبه عراة، نساء حاسرات الرءوس دون عباءات. كل يجري لينجو بنفسه كأنه يوم القيامة. نصف ساعة من الانتظار وأسرة مروان في كرب عظيم، أوقفوا سيارة مسرعة لنقل البضائع، وأسعفوا والدهم على متنها إلى المستشفى .. والبسمة لا تفارق شفتيه، كأنه في حلم جميل.
لم يبال السائق بصوت حميدة، وهي تطلب منه ألا يسرع بسيارته، وهي تهتز حين تعبر على الأحجار الصغيرة المتناثرة، تغطي مساحات واسعة من الشوارع المسفلتة، لم يلتفت لأناس يكسوهم الغبار، كأنهم خرجوا من الأجداث، وهم يشيرون إليه لينجو بهم؛ خوفا من سقوط قنابل عشوائية على المنطقة. وهناك بعض الجثث ملقاة في الشارع، أغلبها بجوار حيطان المنازل؛ نتيجة لارتطامها بها. قوافل نزوح السكان إلى خارج المدينة على سياراتهم، وآخرون راجلون يحملون أطفالهم. والمعركة مشتعلة بين الحوثيين والمدافعين عن صنعاء.
وصلوا المستشفى، وهناك شقوا الزحام عند الباب. وضعوا مروان على سرير المعاينة، ثم حضر الطبيب متأخرا. أثناء فحص مروان كان الدكتور تبدو عليه علامات التعجب! سمع قلبه لا يزال ينبض رغم تنفسه البطيء، تبين أنه سليم من الناحية العضوية، ثم أجرى له فحوصات أخرى، وتبين أنه لا يعاني من جلطة أو نزيف في الدماغ، التي تؤدي إلى غيبوبة. أمر بنقله إلى غرفة الإنعاش لتزويده بالأكسجين. ابتسم الطبيب وقال: «لا تخافوا! سيبقى تحت العناية المركزة لمراقبة تنفسه.»
أغلق علي ومعاوية السوبر ماركت، وأسرعا إلى المستشفى، لم يجدا سيارة أجرة، فركبا مع الآخرين إحدى سيارات النقل العام، تنقل الراجلين العالقين في الشوارع حسب وجهتها مجانا، يريدون العودة إلى منازلهم البعيدة. توقفت شبكة الهاتف، خلت الشوارع من المارة، أغلقت الدكاكين والمحلات أبوابها هربا من المعارك.
مر علي ومعاوية بشارع الستين بجانب طابور طويل من السيارات، تقف منذ ثلاثة أيام أمام محطة الوقود للتزود بالبترول، وقد لاذ أصحابها بالفرار وغادروا إلى منازلهم، وكان هناك آخرون يفرون من منازلهم التي بنيت عشوائيا عرض جبل عطان الجهة الشرقية، مقابل شارع الستين. النساء يهرعن نزولا من الجبل، لم يلبسن عباءاتهن، إلى داخل مدرسة في أسفل الجبل؛ خوفا من تهدم منازلهن من سقوط القذائف عليها.
وصل علي ومعاوية إلى المستشفى للاطمئنان على والدهما. شقا زحمة المترددين ليصلا إلى الباب، وكان هناك رجل يصيح: «لقد مررت بابني خمسة مستشفيات، وكلها ترفض استقباله، ليس لديهم غرف عناية مركزة كافية. أرجوكم أنقذوا ابني!» استقبل المستشفى الحالات التي يمكن أن يتركوها في الممرات. دخل معاوية إلى غرفة العناية، فرأى أباه مستلقيا على السرير والبسمة على شفتيه.
حضر منير خطيب فاطمة يستقل دراجة نارية؛ ليزور مروان في المستشفى وبقي بجانب أسرته يواسيها. كان يرشق فاطمة بنظرات العطف والحب معا. كان قد أكمل تأثيث منزل الزوجية، وقد تأخر زواجهما ثلاث سنوات. اقترب من فاطمة ورأى عيني حبيبته تفيضان بالدموع. بقي مع الأسرة في المستشفى حتى الساعة الثامنة مساء. ثم عاد إلى منزله يلعن الحرب التي وقفت في طريق حبه، ولولا مثابرته في العمل لكان سرح من عمله في القطاع الخاص كما سرح الكثيرون.
3
حينها كان مروان في عالمه الفردوسي يشاهد النجوم ومواقعها، شاهدها كما كان يشاهدها في حياته، مما يدل على أن الجنة في الأرض، أو أنها قريبة منها. رأى أغصان الأشجار تترنح، فعرف أن هناك عاصفة مقبلة، ثم أعقب تلك العاصفة مطر غزير. حاول في البدء أن يبقى بجانب جذع الشجرة ليحتمي من المطر. مد يده تحت قطرات المطر، فلم يشعر بها. مشى تحت وابل المطر، يحدث نفسه: «لم يخبرنا أحد عن وجود أمطار في الجنة، بل أنهار من عسل ولبن، أظنني سأجدها فيما بعد.» شاهد أشجار نخيل يتدلى منها رطب كبيرة الحجم، سقطت إحداها أمامه، وطفت على الماء، قدر وزن الثمرة بما يقارب ربع كيلو. شاهد الشمس تميل للغروب. حدث نفسه: «هل تسقط الصلاة في الجنة؟ كيف يعبد المرء ربه وهو روح دون جسد؟!» داهمه الليل فنام في البستان.
استيقظ في منتصف الليل، رأى القمر فيه منطقة صغيرة كروية الشكل بلون أخضر، عليها حمامة تفرد جناحيها، وفي فمها زهرة اللوتس. حدث نفسه: «هذا القمر يشبه قمر الأرض.» ثم ذهب في غفوة تحت الشجرة، وعاد المطر ينهمر دون أن يشعر به.
أقبلت النسوة في الصباح يترنمن بأصوات رخيمة. اندس بينهن وهن يتحدثن تارة بالعربية، وتارة بلغة غريبة. أخذ يتأمل جمالهن الفاتن بحسرة، واستغرب من اللغة التي لم يفهمها. حدث نفسه: «في الجنة لغات عدة، ليس كما قيل لنا إن لغة أهل الجنة هي اللغة العربية.» سمع امرأة سمراء تبدو الأصغر سنا والأجمل منهن، شعرها ينسدل كالحرير، لكنها لا تبدو سعيدة، تقول: «بستان بلقيس ينتج الفاكهة أكثر من غيره من بساتين صنعاء!»
اندهش مروان، وضع كفيه على صدغيه، يحدث نفسه: «ماذا تقول هذه الفاتنة الهندية؟! لا يمكن أن أكون أنا في صنعاء، أظنني في حلم داخل حلم طال أمده.» استمع لفتاة ذات ملامح صينية، وهي تقول: طبعا مدير المقاطعة «نبيلة فاتن الزبيدي» تهتم بالبستان كثيرا، وتوزع الكثير من خيره للناس.
حدث مروان نفسه بدهشة: «إذا كانت هذه صنعاء حقا، فمتى أصبحت النسوة تحكم الرجال؟! هذا هراء.» ثم ذهب يجري نحو نخلة باسقة. لم يصدق نفسه كيف وصل إلى النخلة بسرعة الريح! لم يستغرب؛ فقد أصبح كل شيء عنده غريبا.
تسلق النخلة بخفة كأنه ريشة ترتفع إلى الأعلى، أسرع من قرد رشيق. شاهد جبلا يشبه جبل «نقم» تكسوه الخضرة، وعلى قمته قصر منيف، يبدو، من رخام أخضر. ارتفع قليلا فوق النخلة، وطاف ببصره في كل اتجاه، رأى أبراجا عالية، مركبات كثيرة تطير في الجو، أناسا تحلق في الجو في أماكن عدة .. في غمرة دهشته اتجه ببصره نحو غرب المدينة، فشاهد جبل «عيبان» بحلة خضراء، تعلوه أبراج شامخة، وكذلك الجبال المحيطة بصنعاء تكسوها الخضرة كأنها أدغال. سقط من فوق النخلة وسقط إلى الأرض كالريشة. تساءل: «أين أنا يا رب؟!»
4
عند الغروب راح مروان في نوم عميق حتى منتصف الليل. هطل المطر عليه بغزارة. ضحك وهو يقول للسماء: «أمطري كما يحلو لك، فلن تبللي روحي.» ظل مستلقيا تحت وابل المطر حتى الصباح. كانت الحيرة تكاد تسلب عقله «هل هو في حلم، أم في علم؟!» لكنه لم يفكر أنه في حالة رؤية للمستقبل. حدث نفسه: «إنه دخل البعد الرابع، أو إنه عالم الجن الخفي!» مما عزز رأيه الأخير أنه شاهد في الصباح الباكر رجلا وسيما، يرتدي نظارة أنيقة وولدا صغيرا يتبعه. وقف الرجل والولد أمام شجرة عملاقة كثيفة، قدر مروان طولها بحوالي عشرة أمتار، مثقلة بالثمار المختلفة. أخرج الرجل من جيبه شبكة صغيرة، وتحولت إلى سلة كبيرة، يمكن أن تحمل مائة كيلو من الثمار. خاف مروان وهو يشاهد يدي الرجل تزدادان طولا وتمتدان ليجمع الثمار بخفة. أما الولد الصغير فذهب يتنقل فوق فروع الشجرة كالقرد، ولم يعمل شيئا غير ذلك.
أسرع مروان يواري نفسه خلف شجرة، فهو كما يرى أن الجن أرواح والروح ترى الروح، ومما زاد من دهشته وكاد يذهب بعقله، حين شاهد أقدام الرجل عند جذع الشجرة ورأسه في أعلى غصن في الشجرة. ملأ الرجل الغريب السلة، وحملها بخفة ويسر وغادر المكان. ذهب مروان يتجول في البستان المترامي الأطراف، وهو في حيرة مما لم يجد تفسيرا له.
في اليوم الثالث قرر مروان أن يذهب مع حورياته السبع، سواء كن من عالم الإنس أو الجان؛ ليعرف هذا العالم الشبيه بالجنة، ولو أنه لن يستطيع أن يستمتع بالملذات، وراح يتتبعهن. قبل غروب الشمس رأى المركبة تظهر أمام النسوة فجأة. لم يندهش هذه المرة؛ فقد كانت الثلاثة الأيام التي قضاها في البستان كلها مفاجأة. ركب مع حورياته وأفتى لروحه أن يقبل، ويحضن ما شاء من النساء اللاتي أمامه.
ارتفعت المركبة إلى الأعلى دون أن تصدر صوتا وحلقت في الجو. عمته الفرحة والدهشة وهو يطوف بنظره فوق المدينة الرائعة، بأبراجها السداسية العالية، ولونها الزاهي البديع. لم ير مشهدا مثله في حياته. الزهور تتدلى من شرفات النوافذ، الجو معطر برائحة زكية، كأنه في غرفة نومه مع زوجته حميدة قبل اللقاء الحميمي. شاهد الناس وهي تمشي في الشوارع النظيفة المزينة بالزهور المختلفة، وخالية تماما من السيارات. ليس هناك أعمدة كهرباء، لا قمامة ولا دخان في الجو. زادت دهشته من الجمال الذي لم يكن يحلم برؤيته به في حياته. شاهدها مدينة كحديقة الزهور مترامية الأطراف. كانت المركبات الدائرية البديعة المنظر تطوف في كل مكان في سهولة ويسر، بعضها تدخل وتهبط في نوافذ كبيرة خاصة للهبوط في تلك الأبراج العالية، كأنهن نحل يدخل خلاياه. شاهد أناسا تحلق في الجو كالطيور، تفرد أجنحتها الرقيقة وأخرى تضمها لتسرع في الطيران. رأى نهرا صغيرا، يشق المدينة في الوسط يمتد حتى الجبال جهة جنوب المدينة. شاهد هناك مدينة صغيرة معلقة في الجو، بتشكيلاتها البديعة. لم يصدق عينيه أنها مدينة فوق السحب. تمنى لو أن تلك القذيفة المرعبة أخذت أسرته معه؛ ليشاهدوا العالم الفردوسي الذي يعيشه. حدث نفسه: «إنها جبال صنعاء، ولكنها ليست صنعاء التي أعرفها! فأنا فارقتها منذ ثلاثة أيام فقط.» مكث يفكر: «ترى، هل يمكن أن يكون لكل بلد جنتها وجهنمها؟! وأنا الآن في جنة صنعاء تقع في البعد الرابع.»
5
عند الغروب وصلت المركبة إلى شرفة منزل بجوار حديقة صغيرة للزهور، في الدور العشرين من برج عال. استقبلتهم فتاة جميلة، ليس لها ثديان بملامح غير معبرة عن بهجة الاستقبال، تشبه فتاة صينية. خدها وردي، بشرتها ناعمة، تلبس ثوبا وسروالا طويلا، مؤخرتها مغرية. سأل مروان نفسه: «تبدو هذه الفتاة حزينة، أهي مدبرة المنزل؟! سبحان الله تبدو أجمل منهن!»
ترجلت النسوة عن المركبة، وكذلك هو. دخل المنزل، فغر فوه دهشة وهو يشاهد جدرانه وأثاثه تتغير ألوانها، لم ير مثلها في حياته! زهور في الجدران تتفتح، تفوح نسيما عطرا في أرجاء المنزل. رأى بأن المنزل يرحب بالنسوة، تجول في المنزل والدهشة تلفه، لم يجد أبوابا للغرف حتى الحمام ليس به باب، رأى صالة أنيقة فيها ثمانية كراسي وطاولة مدهشة، تتفتح الزهور على سطحها كأن الحياة تدب فيها، فراشات ترفرف فوق الزهور. في البدء شاهد سطح الطاولة شاشة تليفزيون، لكن حين جال بنظره في المنزل، رأى تحفا جميلة وستائر زاهية الألوان، والأسرة والفرش تدب في أسطحها الحياة، أيضا الحمام واسعا، تتمايل الورود في جدرانه، في سقفه ثماني مرشاة للمياه. ظن مروان هذه المرة أنه في عالم الجن، كما حدثته جدته عن مدن الجن الخفية تحت الأرض.
رأى النسوة يمرحن ويضحكن كعاشقات لبعضهن. خلعن ثيابهن فاتسعت عيناه أكثر من اللازم، حدق بذهول، وأخذ يقول: «الله أكبر، ما هذه الفتنة؟!» وقف خلف عمود في الصالة حتى لا يرى عريهن. وهن تحت مرشاة المياه ينهمر الماء العطر عليهن. خجل من التلصص عليهن، وأغمض عينيه. كان المشهد مغريا؛ فهو لم يشهد امرأة أخرى في حياته غير زوجته حميدة تغتسل. شاهد كلا منهن تصوبن الأخرى، فأعجبه كثيرا وهن يحتضن بعضهن تحت رذاذ الماء، وهو يتجمع بين أثدائهن. حدث نفسه: «هكذا الجن تعيش حياة أفضل منا نحن الإنس؟!» راحت عيناه تتمتع بمشاهدة ذلك الجمال، والحسرة تنهش قلبه.
أقبل رجل يشبهه في الصورة، لكنه أمرد الخدين ناعم الجلد كالنسوة. يلبس سروالا إلى فوق الركبة وفانلة تظهر صدره الأمرد. شاهد مروان مرة أخرى: الكراسي، الطاولات، الكنبات، التحف .. يتغير شكلها ولونها، وتعزف موسيقى مختلفة عما سمعه في المرة السابقة عند دخوله المنزل من النساء!
خرجت النسوة من الحمام، وهن يلبسن ثيابا شفافة، ورائحة عطرية تملأ المنزل، ورحبن بالرجل. جلس البعض بجواره ورحن يقبلنه. حسده مروان على الحور اللواتي حوله، وتمنى لو يستطيع أن يحل محله.
6
جلسوا جميعا في صالة الطعام يتحدثون بلغة لم يفهمها مروان، وقليلا باللغة العربية، حتى أقبلت مدبرة المنزل تقدم طعام العشاء. يحتوي أحد الأطباق على قطعة كبيرة تشبه اللحم، وأطباق أخرى تحتوي على أطعمة نباتية، وصحن عسل وأكواب فيها سائل أبيض، وأرغفة خضراء، وخضراوات لم يشاهد مثلها في حياته. تناولوا عشاءهم وهم يتحدثون عن قناة مأرب المائية، التي يجرى ربطها بساحل شبوة في محيط إقليم آسيا.
بعد تناول وجبة العشاء جلسوا في الصالة معا. أخذت إحداهن شيئا يشبه القلم، وأشارت به إلى سطح الغرفة، حيث يوجد بها جهاز صغير مثبت هناك. بحثت كمن يبحث عن قناة فضائية؛ إذ برجل يظهر في الصالة فجأة، كأنه هبط من السطح، يتحدث بلغة لم يفهمها مروان. ثم ظهرت امرأة تخطب في مجلس ضخم أمام أناس معظمهم نساء. هتف مروان غاضبا (لكن لا صوت له) وهو في دهشة مما يشاهده في الصالة: «امرأة ترأس الرجال هناك في المجلس، وهنا في الصالة أمامي رجل وسبع نساء، هل عالم الجن تحكمه الأنثى؟! كما هو عالم البشر يحكمه الرجل، ولماذا الإناث أكثر عددا من الذكور؟!»
رأى المجلس كأنه انتقل إلى الصالة، الحضور يمشون بالقرب من النسوة، أو يدورون حولهن. قامت إحدى النساء تمشي في الصالة، واخترقت الأطياف الكثيفة. فكر مروان أنهم أرواح مثله! أو ربما هم من عالم الجن. شاهد إعلانات يعرضها رجال وسام بملابس مغرية لمنتجات جديدة: عطور، شامبو، مواد غذائية، مركبات .. لم يشاهد امرأة تقوم بهذا الدور، هذا الأمر حيره! كيف أخذت النساء دور الرجال والعكس؟!
خلع الرجل ثيابه وجلس بجوار النسوة، وبقي في سرواله الداخلي، جسده ناعم يخلو من الشعر تماما، ودون عضلات تشاهد. ضحك مروان وقال كأنه يحدث الرجل: «هل تستطيع أن تلبي رغبات السبع النساء؟! سأشاهدك الليلة ماذا ستفعل معهن؟!» انتهى مشهد المجلس، ثم نهضت النسوة يرقصن بلباسهن الشفاف أمام الرجل. ظل مروان يستمتع بالنظر إلى الحور الحسان، ويراقب الرجل الذي لم يحرك ساكنا، كأنه مصاب بفتور جنسي. دعته أكبرهن إليها، حدث مروان نفسه: «لماذا لا يبدأ مع الصغرى الفاتنة؟! وهل اللقاء سيكون أمام الجميع؟!» جلس الرجل أمامها وتلامست ركبتاهما، ثم أخذت المرأة سماعة ووضعتها في أذنها، وسماعة أخرى أعطتها الرجل ليضعها في أذنه، وهو يضع ركبته اليمنى بين فخذيها. قبضت بيدها اليمنى على ذكورته، ووضعت يدها الأخرى على صدره، والرجل وضع يده اليمنى أسفل بطنها. بقي الاثنان ينظران إلى عيون بعضهما، ثم أغمض كل منهما عينيه، وأخذا يتنفسان بعمق وهدوء، والأخريات يتفرجن عليهما بشبق.
كان مروان يسأل نفسه: لماذا لم ينتصب عضو هذا الرجل؟! يتنفس بسرعة، يبدو في ذروة النشوة الجنسية، وكذلك المرأة. استمر الاثنان في تلك النشوة نصف ساعة. تساءل مروان: «ما هذ اللقاء الحميمي الغريب، وكيف تستمر ذروة النشوة لفترة طويلة؟!»، بينما اللقاء الذي يعرفه في حياته، فيه الإحساس بالذروة الجنسية، لا تتجاوز مدته ثلاث ثوان! هكذا جلست النسوة الأخريات أمام الرجل واحدة تلو الأخرى، يتمتعن كل منهن مع الرجل بذروة جنسية لمدة نصف ساعة. رأى مروان هذا العالم يعيش متعته الجنسية، دون هدر للطاقة أو الشعور بالتعب. هذا لا يحدث إلا في الجنة مع حور العين، كما قيل له في حياته السابقة. عصره الشوق ليعرف ما هذا اللقاء، وسخر من تفكيره السابق حين قال: «من أين لهذا الرجل الأنثوي القوة؛ حتى يشبع رغبات السبع النساء في ليلة واحدة؟!»
7
غضب مروان من حرمانه التمتع في هذا العالم، الذي يرى مرة أنه في عالم الجن ومرة في الجنة. مشى إلى نافذة المنزل وتفاجأ بالمدينة، وهي تغير لونها السابق، وتلبس حلة ليلية جديدة، كأنها امرأة حسناء تحتفل بليلها بجوار حبيبها، ثم نظر نحو النجوم وصاح: يا رب، في أي عالم أنا؟! لماذا أرسلتني إلى هذا العالم روحا دون جسد؟ أريد قالبا روحيا؟!
لم ينم تلك الليلة وهو يشاهد جمالا أخاذا، يحدث نفسه بصوت عال، يتمنى أن يسمعوه: «سبع نساء يرقدن مع رجل واحد، يتمتع بنشوة غامرة لمدة أربع ساعات في اليوم. إنها حياة تشبه الجنة إن لم أكن أنا فيها حقا.»
طلع الفجر ولم يسمع أذانا ينادي للصلاة، انطلق إلى شرفة المنزل؛ ليشاهد إن كان هناك صوامع مساجد في الجوار، لكنه لم يشاهد أي صومعة. أطلت الشمس على المدينة، وفي غمرة تساؤله تفاجأ بالمدينة تستبدل لونها بلون آخر، كأنها تستقبل نهارها بثوب جديد. تنسم نسيم الصباح العطر بعد ليل ماطر. كان يحدث نفسه بصوت عال: «لست أدري ماذا أرى؟! عالم الجن، أم أنني أعيش حلما، سرعان ما أصحو منه؟» عاد إلى غرفة النوم، ورمى بروحه فوق إحدى النساء، ثم انتقل إلى الثانية؛ عله يجد لذته المنشودة. قامت النسوة صباحا، وأدين تمارين رياضية لمدة ساعة كاملة مع الرجل، بينما مدبرة المنزل الجميلة التي لا تبدو السعادة على وجهها تعد وجبة الإفطار. تناول الجميع وجبة الإفطار، ثم انطلقوا بمركبتهم خارج المنزل.
بقي مروان في المنزل كشبح، يشاهد أجهزة المنزل وأثاثه الغريب، ومدبرة المنزل التي لم تكن تتحدث كثيرا مع النسوة، تقوم بتنظيف المنزل. ظن أنها غاضبة من عملها كمدبرة للمنزل، أو أنها تشعر بالنقص وهي دون ثديين.
8
خرج مروان إلى الشقق المجاورة لمسكنهم في البرج؛ ليعرف أكثر عن العالم الذي انتقل إليه. وقف أمام باب مغلق، حاول أن يمسك بمقبضه؛ ليفتح الباب فغاصت يده فيه، ثم وجد نفسه ينفذ من خلال الباب إلى داخل المنزل! شعر بالسعادة أنه يستطيع النفاذ من خلال الحواجز الصلبة. تجول في الشقة، شاهد فتاة تشبه الفتاة مدبرة المنزل التي في منزل النسوة. استغرب من ذلك التشابه العجيب حتى في اللباس! وأيضا ترتيب المنزل وجدرانه وأثاثه وأجهزته، كأن المنازل نسخة واحدة. تنقل من منزل إلى آخر بنفس الطريقة، شاهد نفس الفتاة تقوم بترتيب وتنظيف المنزل. لم يشاهد أطفالا كثرا ولا شبابا، غير العجزة في المنازل. جلس قليلا يشاهد منزلا به رجل وولد صغير يداعبه والفرح في عينيه.
عند الظهيرة شاهد المدينة وهي تغير حلة أخرى، بلون أشجار الزيتون، والجو يعبق برائحة زكية. هكذا وجد المدينة تغير لونها بين الحين والآخر خلال اليوم والليلة. نظر إلى الشارع، شاهد الإناث أكثر من الذكور، ومركبات تحلق في السماء، كأنها طيور عملاقة أو صحون طائرة. شعر بالحزن على نفسه، فهو لا يستطيع أن يستمتع في هذا العالم الساحر! شعر أن الحرمان عذاب آخر.
دخل أحد المنازل وشاهد رجلا وسيما يقوم بتنظيف المنزل، يلبس بذلة كالنساء. تساءل: «لماذا يوجد هنا رجل يقوم بعمل مدبرة المنزل، غير ما شاهدته في المنازل الأخرى؟!» سار يراقبه في المنزل إلى أن حضرت أربع عشرة امرأة، متوسطات العمر والجمال. جلسن يمرحن ويضحكن في المنزل. قدم الرجل عصيرا لهن، ثم جلس بجوارهن دون أن يداعبهن أو يقبلهن. قالت إحدى النساء للأخريات: «ما رأيكن أن نشاهد متحف التراث الروحي الإنساني؟»
أخذت إحداهن ما يشبه القلم، وأشارت به نحو جهاز في سطح الغرفة، إذا برجل أسود بملامح صينية يهبط، ويمشي وسط الصالة بأبعاده الرباعية. قدم نفسه دليلا سياحيا، مما أدهش مروان! طلبت منه إحدى النساء أن يحدثهن عن الديانة الهندوسية لإقليم آسيا. تحرك الدليل في مكان محدد من الصالة، ثم أشار إلى صورة بارزة بدت أمامه في الصالة لأحد كهنة الهندوس، وبدأ يتناول الحديث عن الديانة «البراهيمية» المعروفة بالهندوسية. وأخذ يقول: «ظهرت الديانة الهندوسية في مقاطعة دلهي بعد الديانة الشامانية المعتمدة على طقوس سحرية، وعبادة الأرواح. يرجع تاريخها لأكثر من 4500 ق.ج. مؤسسها كان يدعى براهما، بدأت بالتوحيد وانتهت بتعدد الآلهة، ثم التثليث عند معتقدي التري مورتي. ومن هذه الديانة تفرعت ديانات عدة حول العالم، كل ديانة تتخذ أسماء أخر لآلهتها المتعددة حسب ثقافتها، ومنها فضلت التوحيد على تعدد الآلهة وعبدت إلها واحدا.»
جلس مروان بين امرأتين ووضع يده اليمنى على إحداهن واليسرى على الأخرى، وراح يشاهد الدليل، وهو يشير بقلمه في سماء الصالة، فظهر كتاب عتيق تعلق في الجو وقال: ذلك هو «الفيدا» كتابها المقدس، وصحفه هي: «ريك-فيدا»، «ياجور-فيدا»، «أثارفا- فيدا»، «ساما-فيدا». يقولون إنه منزل من السماء، يصفونه بأنه كتاب أزلي. كهنتها يدعون ب «البراهمة» يعتقدون أنهم يتصلون في طباعهم بالعنصر الإلهي، وصفوة خلق الإله. في ديانتها نزعة تعدد الآلهة ونزعة وحدانية. أثناء عبادتهم أحد الآلهة تغيب عندهم جميع الآلهة الأخرى، ويصير إلههم الوحيد. يؤمنون باتحاد الآلهة الثلاثة: «براهما» الخالق، و«فيشنو» الحافظ، و«شيفا» المدمر والمسيطر، في إله واحد عند معتقدي التريمورتي. يرون أن كلا منهم يمثل الكل، فإذا دعوت أحدهم فكأنك دعوت الثلاثة جميعا. ثم أشار إلى رجل مصلوب شبه عريان وقال: «هذا هو الإله «إنديرا» صلب للتكفير عن خطايا البشر في النيبال. كان الهندوس يجلون البقرة كثيرا، كما كانت البقرة هاتور في الديانة الفرعونية القديمة لها مكانتها، وكذلك هناك مكانة للثعبان في الديانة الهندوسية، كما هي عند الفراعنة، يظهر وهو يحيط بالرب راع. كانوا يؤمنون بتناسخ الأرواح، وبأن جزاء الإنسان يقام في الأرض، يرون أن الروح تتجسد مرة أخرى في شكل حيوان أو ثعبان إذا اقترف السيئات في حياته، أو في رجل عظيم لطالما سيرة حياته الأولى كانت خيرة. يعتقدون أن الآلهة مذكرة، ومؤنثة، وأخرى تدعى أفاتار، وهي آلهة تنزل من السماء إلى الأرض في شكل إنسان، مثل الإله: مانسيا، كورما وغيرهم الكثيرون ...»
تقدم الدليل يمشي في مسرح الصالة، وأشار إلى تمثال ضخم له أربع أيدي، يجلس على عرش. أخذ الدليل يقول: «ذاك هو الإله براهما، كان الهندوس يعتقدونه خالق الكون، سيد الآلهة، يمثل إله الخير، والذي يرجى رحمته وكرمه وعطفه، أوجد شيفا وفشنو؛ ليساعدوه. وقد أدخل الهندوس أساطير المجتمع إلى صحف الفيدا التي كتبها براهما الآري، ثم هاجر هو وزوجته «سارا سواتي» إلى إقليم الشرق الأوسط حيث أسموه هناك «إبراهيم».»
غضب مروان وقام من مكانه، ليلطم الدليل، وحاول كسر ما يجده أمامه، لكنه لم يستطع. يتساءل: «كيف يقول الدليل، إن بارهما هو إبراهيم، وسارا سواتي هي سارة؟! آه لو يعطيني الله من جسدي حتى يدا واحدة!» مشى بعصبية في الغرفة، وهو يشتم الدليل.
اختفى المشهد السابق، ثم أشار الدليل إلى تمثال آخر له أربع أذرع في جلسة تأمل، يداه الأماميتان مبسوطتان حتى الخصر. وافترش جلد حيوان مفترس. قال الدليل عنه: «ذاك هو الإله شيفا.» ثم طغى على ذلك المشهد تمثال بلون السحاب الأزرق الغامق له أربع أذرع، الذراع الأولى تمسك بزهرة اللوتس، والثانية بمشكاة، والثالثة بقوقعة، والرابعة بحلقة، إلى جواره ثعبان ضخم، قال الدليل: «هو الإله فيشنو أو وشن، الإله الأعلى أو الحقيقة العليا في الهندوسية الفيشنوية. يوصف بأنه الجوهر في كل الكائنات، ورب الماضي والحاضر والمستقبل. خالق ومدمر كل الموجودات، زوجته الإله لاكشمي، وله منها أبناء ذكور وبنات .. نجد الإله فيشنو يماثل الإله بعل في مهمته، كان ملك الآلهة عند الكنعانيين الذي انتصر عليها كلها، وأصبح الإله صاحب العرش. وكذلك الإله هبل عند العرب وزوجاته اللات ومناة والعزى.»
ضحك مروان عاليا، وقال: لم يكن هبل متزوجا. من أين أتيت بهذا الخبر، يا لعين؟! اختفى المشهد وظهر تمثال لرجل بلون أزرق وسيم، يأتزر بفوطة ويعزف بالناي. باشر الدليل يقول: «ذلك هو الإله كرشنا جاء إلى العالم، وهو يغني ويرقص ويضحك. اختار العزف على الناي؛ لإدخال السرور على قلوب البشر. يماثله من خلال ولادته في الميثولوجيا اليونانية القديمة الإله
Hyginus
هيجنوس ابن الإلهة جايا، خلق من دون أب، كما خلق المسيح. أمسك كرشنا السيف بيد والناي بيد أخرى. ظهر هذا الإله في مناطق أخرى بأسماء مختلفة في الميثولوجيا اليونانية القديمة، ظهر باسم الإله أبلو، إله الموسيقى، وإيروس إله الحب والرغبة والجنس، وآمور (كوبيدو). في الديانة الفرعونية ظهر باسم الإله حتحور. قيل عن شيفا: إنه ابن الله، ولد من العذراء دفاكي، التي اختارها الله لعفتها. وقيل عنه ما قيل عن المسيح بعد ذلك. كان يعبد في الهندوسية على أنه أفاتار نزل من السماء، وعاش إنسانا يرشد البشر إلى الطريق القويم.»
اقترب مروان غاضبا من الدليل يود أن يصفعه، ثم اخترقه عدة مرات كأنه يخترق شعاعا ذا كثافة، وهو يقول: اصمت يا لعين. كيف تشبه كرشنا بالمسيح؟! أو أنك تخلط بين الأديان؟ اختفى ذلك المشهد ، وظن مروان أنه أثر في الدليل، لكن ظهر أمامه تمثال عملاق غاضب مما أخافه، مع صوت ريح عاصف، يحمل سيفا بيده. والدليل يقول عنه: «ذلك هو الإله إندرا، إله الحرب والطقس، ظهر عند الفرعونية باسم الإله سخمت وحورس، وعند الكنعانية باسم الإلهة حرون، وعند اليونانيين باسم الإله أريس، وعند ديانة المايا باسم الإله كاكوباكات، ومن حيث وظيفته في الطقس ظهر عند الآشوريين باسم الإله إيل، إله المطر، وبيتيل إله منبع الأنهار، وأيضا ظهر باسم الإله داجون عند الكنعانيين إله المطر والأسماك، وأحيانا يوصف كإله الطقس.»
قام الرجل الجالس بين النساء وذهب إلى المطبخ، أحضر صحنا يحمل به أربعة عشر كوبا من العصير. ركل مروان الصحن برجله فاهتز الصحن بيد الرجل. فكرر مروان الركلة مرة أخرى فرحا بأنه يمكن أن يؤثر في الأشياء حين يكون غاضبا، يرى أنه يمكن أن يكون له جسد. وزع الرجل العصير على النساء، حينها توقف الدليل عن الحديث وهن يشربن، ثم رحن يضحكن وهن يشاهدن إنسانا برأس فيل يمشي في مسرح المتحف وسط الصالة. قال الدليل لهن: «لا تضحكن، هذا الإله الذي لم يظهر له إله يشابهه في العالم، إنه الإله غانيش في معتقدات الهندوس، ابن الإله شيفا. تقول أسطورته: إن غانيش كان يقاتل إله الشر فقطعت رأسه، ولم يجد حينها والده الإله شيفا أمامه غير فيل، فقطع رأسه ووضعه مكان رأس غانيش، فعاش على ذلك النحو! كان يقام له في مقاطعة الهند احتفال كبير كل سنة ويرمى في البحر، يعتقدون بأنهم يرمون بالشر.» حدث مروان نفسه: «نعم، سمعت هذا في حياتي، ولا يزالون يمارسون تلك الطقوس؛ لكن لماذا هذا الدليل يقول كانوا، كانوا؟! فهم لا يزالون على معتقداتهم.» فجأة ظهرت امرأة بيضاء جميلة ترتدي فستانا أبيض، بأربع أذرع، تتزين بالجواهر، تطوف على واجهة المسرح. باشر الدليل يتحدث عنها: «هي لكشمي إلهة المال والحظ في الهندوسية، زوجة الإله فيشنو. كان معظم الهندوسيين يصلون لها في عيد الديوالي .. لها عدة أفاتارات يتزوجون عادة من أفاتارات فيشنو، منهم : سيتا زوجة راما، رادها العاشقة، وروكميني الملكة، وزوجة كريشنا الأولى، ستي أو داكشايني هي إلهة السعادة الزوجية وطول العمر في الهندوسية. نجد أن لاكشمي ظهرت عند الفراعنة باسم إيزيس إلهة الأمومة والسحر، وكذلك في الحضارة الإغريقية ظهرت باسم الإلهة أفروديت. وعند الكنعانيين ظهرت باسم الإله «إيل» تزوج الإلهة «عشتار» وأنجبا الإله «بعل».»
ثم ظهر في الصالة، امرأة بعشر أذرع مما أخاف مروان من ذلك المشهد، كأنها أخطبوط، في كل ذراع تحمل نوعا مختلفا من السلاح. تحدث الدليل عنها قائلا: «هي الإلهة درغا التي لا تقهر، الإلهة العليا في الهندوسية، تقاوم الشيطان بتلك الأسلحة. تعتبر أم غانيش وساراسواتي ولاكشمي، وهي أيضا الوجه القوي المحارب للشيطان، ظهر ذلك عند الديانات الإبراهيمية باسم إبليس.»
إله الموت ظهر عند الفراعنة باسم الإله «ست»، و«أوزاريس» وعند الزرادشتية «أنجرا ماينو»، وعند المايا «هون أهوا»، وعند الإغريق الإله «هدز» إلهة الموت، وعند الديانات الإبراهيمية باسم «عزرائيل» .. غضب مروان أكثر، وذهب إلى المطبخ يحاول كسر الأطباق ثم عاد يصفع الدليل.
بينما كان مروان غاضبا في عالمه الفردوسي، كان في عالم الجحيم مستلقيا في غرفة العناية المركزة. خرج أحد الممرضين يدعي «راجح» يعمل من غرفة العناية، شق زحام الممرات يبحث عن عائلة مروان خارج المستشفى. هتف لمعاوية فحضر سريعا، وهو يظن أن أباه توفي. لكن الممرض أفاده بأن أباهم بخير، لكن وجهه يبدو غاضبا جدا. كانت أسرة مروان قد اشترت العلاج من الصيدلية فأعطته، ومنحوه مكافأة سخية للعناية بوالدهم.
بعد ساعة عاد الممرض مسرعا إلى أسرة مروان ينادي معاوية، وقال له: يا أخي، أبوك هذا مرضه غريب. ساعة يبدو غاضبا وساعة مبتسما، لم أشاهد مريضا مثل حالته خلال عملي في العناية المركزة! ثم أعطى معاوية وصفة أخرى لشراء علاجات أخرى لوالدهم.
خلت الشوارع من المارة كأنها مدينة أشباح، والنازحون على المركبات لا يزالون يغادرون المدينة المنكوبة. حضر منير في اليوم الرابع لزيارة عمه مروان في المستشفى. كان على توافق معه، رغم أنهما من حزبين متناقضين في أفكارهما، لكن الغاية وحدتهما. وكان منير معجبا بفاطمة لحماسها في ساحة التغيير أثناء الثورة الشبابية. تعرف عليها في ساحة التغيير عام 2011م. حينها كان لا يعرف أنها أرملة، قتل زوجها في إحدى مسيرات ثورة التغيير. كانت فاطمة - بتشجيع من أبيها - تخرج مع مسيرات النساء. تقف أمام منصة الحشود في ساحة التغيير. كانت تعود مساء إلى منزلها، بينما هو يبقى مع المعتصمين الذين خيموا في ساحة التغيير، لا يفارقونها ليل نهار. يرون أن الشباب هم صانعو المستقبل، وعلى الكبار أن يتركوا لهم المجال الآن؛ فقد فشلوا في تسيير عجلة التطور، بل يدفعونه للوراء طوال عشرات السنين. تبادلا نظرات الحسرة والحب معا، ثم جلسا يتحدثان عن تأجيل الزفاف إلى أن يشفى والدها، ويسود السلام.
بينما كانت فاطمة وخطيبها منير يتحدثان عن خيبة الأمل في عالمهما، كان مروان في عالمه الفردوسي يحدث نفسه أن ما يراه سحر، أو أنه في عالم الجن. يشتم ويلعن الأمم التي ما زالت تعبد الأصنام، رأى ما جعله يلعن أكثر؛ فقد شاهد أصغر النسوة سنا تخلع ثيابها، ودعت الرجل الذي قدم لهن العصير للقاء حميمي معه أمام النسوة. حاول مروان أن يغطي عينيه بكفيه، لكنه كان يرى من بين أصابعه، وهو يقول: «عالم فاجر، فاسق، ولو أنه عالم جميل. لم يخبرنا أحد أن الجن بهذا الفجور، إذن أنا في عالمهم. ترى هل سيواقعهن جميعا هذا العفريت؟!»
كان صوت الرجل مثيرا وتعبيرات وجهه تدل على الإثارة. استمرا نصف ساعة والنسوة ينظرن إليهما، إلى أن أشارت المرأة للرجل بالتوقف. كان مروان يحدث نفسه: «هذا اللقاء الحقيقي، لكنه مستحيل لهذا الرجل أن يلبي رغبات جميع النسوة اللاتي أمامه! تقدمت امرأة أخرى تبدو أكبر سنا من الأولى، ودعته إليها. استمر الرجل مع الأخريات دون كلل، ومروان يذرع الغرفة ذهابا وإيابا بتوتر، يحدث نفسه: «سبع نساء إلى الآن، ولم يتعب هذا الرجل، وهو يقف خلفهن على ركبتيه. مستحيل! هل أنا في الجنة حيث لا يشعر الإنسان بالتعب؟ يا إلهي أين جسدي لأستمتع بهذا العالم؟! لا أستطيع أن أعيش شبحا معذبا في هذا العالم، لا بد أن أمتلك جسدا. ترى ماذا لو أنفذ إلى جسد هذا الرجل، وأجعله قالب روحي؟! لقد أصبحت أعرف أين مركز الروح في الجسد.»
حث مروان روحه لخوض المغامرة. نظر إلى الرجل وقد التقى بثلاث عشرة امرأة، والمرأة الأخيرة تنتظر دورها وهي الأجمل فيهن. وثب مروان بقوة على سرة الرجل، لا سيما وقد عرف مركز الروح هناك؛ إذ بمروان يتفاجأ بصدمة أذهلته. لم يجد داخل الرجل غير أسلاك وأجهزة دقيقة وتروس صغيرة وأنابيب هيدروليكية. تخبطت روح مروان هناك بين تلك الأجهزة، محاولا الخروج من هذه الآلة الشيطانية. وفي الوقت نفسه ازداد نشاط الرجل الآلي مما آلم المرأة. خرج مروان، وقد أصيب بالغثيان، مندهشا مما وجده!
9
عاد مروان إلى المنزل مذهولا بما شاهده، كان يعبر خلال الجدران وهو يحدث نفسه: «أي عالم هذا الذي أنا فيه؟ آلة تضاجع النسوة أفضل من الرجال الأشداء! أين أنا يا رب؟!» وصل إلى المنزل الذي أتى منه، وقف حزينا أمام مرآة المنزل، كما كان يقف في حياته حين كان يمشط شعره، أو يشذب لحيته والحزن يملأ روحه، يدعو الله ألا يعذب روحه الهائمة في هذا العالم. جلس على الكنبة، يقول لنفسه: «كيف سأبقى شبحا في هذا العالم الجميل؟ لا أنا في عالمي الذي أعرفه، ولا أظنني في الجنة، ولا في عالم الجن. لطالما وجدت آلة تقوم مقام عشرة رجال وأكثر!» وأخذ يفكر أنه في كوكب آخر نسخة من الأرض، سماؤهما واحدة.
حضرت النسوة قبل الغروب وكذلك شريكهن. أخذوا حمامهم جميعا، ذهبوا يتناولون عشاءهم، ثم قاموا إلى الرقص والمتعة. كان مروان يراهم آليين يتراقصون أمامه، لو نفذ إلى داخلهم لوجدهم ملئوا بالتروس والأنابيب. يسأل نفسه: «هل هذا الكوكب يقطنه آليون، أم أنني أعيش حلما جميلا؟!»
قبل منتصف الليل ذهب الجميع إلى النوم، واقترب هو من الرجل ينصت إلى تنفسه ونبض قلبه. كرر ذلك كثيرا، وذهب يسرع لفحص النسوة جميعا؛ هل هن بشر أم آليون؟ فرح حين وجدهم بشرا ، حث نفسه أن يكرر التجربة، ليمتلك جسد الرجل الشبيه به في الصورة. وثبت روح مروان إلى سرة الرجل الذي كان في سبات عميق، فوجد مروان روحه تسري في جسد الرجل، وتذوب كالملح في الماء. ثم راح في سبات عميق، لم يستيقظ من نومه إلا اليوم التالي ظهرا. قام يمشي عريانا وهو يشعر بالدوار وبثقل رأسه وبحرارة الجو، ليس كما كان يشعر سابقا أنه نسمة هواء. مشى في الصالة فارتطم بأحد الكراسي وأحس بألم؛ فتراجع إلى الخلف في دهشة! ثم حاول أن يمر عبر جدار المطبخ، كما كان يفعل سابقا؛ فإذا به يرتطم بقوة في الجدار! كادت الفرحة أن تذهب بعقله، وصاح: شكرا لك يا ألله، لقد سمعت دعائي، صار لي جسد في هذا العالم.
حضرت مدبرة المنزل من المطبخ تبدو مرعوبة، قالت له: «لماذا تصيح يا كريم؟!» لم ينتبه لكلامها، لكنه شعر بالخزي من عريه، فذهب يفتش عما يستر عريه أولا، فوجد ملابس ذلك الرجل فارتداها سريعا وهو يشعر بالإحراج؛ لارتداء ملابس تشبه ملابس النساء، الصدر عار والسروال إلى فوق الركبة .. سألته مدبرة المنزل مرة أخرى بلغة لم يفهمها، ثم بالعربية: «لماذا تتفرج كثيرا على ثيابك يا كريم؟! ولماذا تتصبب عرقا على غير عادتك؟ هل لديك حمى؟ اقتربت منه لتحس جبينه، وقالت: «حرارتك عادية، لكنك تتعرق كثيرا، ماذا أصابك يا كريم؟!» .. قال مروان لها: أنا جائع.
أحضرت له مشروبا أبيض اللون، قطعة صغيرة تشبه اللحم، خبزا أخضر اللون. التهمهما جميعا، وهو لا يدري ماذا أكل، ثم طلب المزيد من القطعة التي وجدها لحما لذيذا. كانت المدبرة تستغرب من طريقة أكله وشراهته على غير عادة كريم. لم يستخدم الملعقة ولا السكين .. وقررت أن ترفع تقريرا للنسوة عند العودة عما جرى لشريكهن كريم نورين.
جلس في بهجة كبيرة ينتظر عودة النسوة، وفضل الصمت عند مقابلتهن وهو يرتدي ثياب شريكهن. وصلن وهو يقف أمام مدرج مركبتهن. قبلته الأولى، وهي تستغرب من العرق في جبينه! لكنها لم تشعر أنه مصاب بالحمى، ثم قبلنه واحدة تلو الأخرى، وهو لم يبتسم، كما شاهد تصرف ذلك الرجل معهن سابقا. قدمت مدبرة المنزل تقريرا للنساء عما شاهدته عن شريكهن كريم. سألته إحداهن: ماذا جرى يا كريم؟ كلام المدبرة أخافنا عليك! - شكرا، لم يحدث لي شيء. - لماذا تغير صوتك وتتصبب عرقا؟! هل عاودتك الأحلام الليلة الماضية؟ فقد كنت تهذي الليلة الماضية وتقول كلاما غريبا؛ فسلامتك تهمنا ونحن مسئولات عنك.
ظل مروان صامتا والحيرة تعصف به، يفكر إلى متى سيظل يكذب عليهن، وهو قد عاش حياته يمقت الكذب ويراه من صفة الشيطان. خلعن ثيابهن أمامه فنعظت ذكورته أمامهن، ورحن يتفرجن على سلوكه الهمجي لأول مرة، ينظرن إلى ما بين فخذيه وذكورته منتفخة، وهو جالس وعروة الصبر تكبله. وأخيرا تحدث بضجر، وقال: «أنا لست «كريم»، أنا «مروان»، أعيش معكن منذ أربعة أيام. كريم لن يعود ثانية.»
اندهشت النسوة، ماذا جرى لشريكهن؟ أخذ يحدثهن بفرح غامر، والعرق يقطر منه عما شاهده منذ أن أتى إلى هذا العالم. حدثهن عن عملهن في البستان، وعن حديث تحدثن به هناك، وماذا أكلن، و ... تهامست النسوة في حيرة: «كيف عرف كريم عن حديثنا في البستان، ولم يكن هناك معنا؟ كيف عرف بهذا؟! هذا خطير. لا بد أن يعالج من فيروس التجسس، ومن أين أتى هذا الفيروس، ولم يعد له وجود؟» خفن أن يكون أصابه فيروس جديد كالفيروس الذي هاجم البشرية قبل قرون عدة، وأحدث خللا في النسل البشري. في الوقت نفسه كان مروان يحدث نفسه: «ماذا أقول لهن؟ هل كنت روحا؟! لن يصدقن ذلك!» صمت وأخذ يتظاهر بالنوم، والفرح يملأ قلبه، يفكر بطريقة كيف يقنع النسوة بأنه مروان، وليس الرجل المدعو «كريم»، وأفتى لنفسه التقبيل والعناق فقط، إلى أن يرى في أمر الزواج منهن؛ فهو يريدهن حلالا.
بينما كان مروان في غبطة في عالم الفردوس، يفكر كيف يتزوج النساء، كان في الوقت نفسه في عالم الجحيم مستلقيا على سرير في غرفة العناية، والممرض راجح يتصل بأسرته يخبرهم أن مروان بخير. وجهه يبدو مشرقا، والطاقم الطبي يدرسون حالته بعناية، واشترى له علاجات أخرى، وينتظر أن يسددوا المبلغ غدا. استيقظت الأسرة من نومها مبتهجين من تلك البشارة. قامت غصون تصلي لشفاء ابنها، والزوجة تحمد الله بأن مروان سيعيش وينظر في أمر أملاكه؛ فعلي ومعاوية لن يتفقا على إدارة السوبر ماركت، وقد بدأ النزاع بينهما وأبوهما على قيد الحياة. وراحت تدعو الله أن يعيش ليقسمها بين الورثة، وهو على قيد الحياة؛ حتى لا يحدث خلاف بين أولادها على التركة مستقبلا كما حدث بين أولاد خالها. تنازعوا على الثروة بعد موت أبيهم، وذهبت معظمها إلى أيدي المحامين والحكام.
حضر منير إلى بيت عمه، استقبلته حميدة، كانت تبدو غاضبة مما يجري بين أولادها، ففكر بأنها غاضبة منه، لكنه عذرها على سلوكها؛ فالحرب أوجدت سلوكا ليس من صفات المجتمع. حين عرف سبب الشجار في البيت ضحك في سره .. جلست فاطمة بالقرب منه، وولداها نادر في عمر الرابعة، وسامي في عمر الخامسة يلعبان أمامهما.
فاطمة أحبت «منير»، ترى أنها لن تجد زوجا يرتبط بها يقاربها في السن ولديها أولاد، إلا رجلا كبيرا في السن، يأتي عن طريق أبيها في زمن الحرب التي وقودها الشباب.
10
ذهب مروان إلى النوم باكرا، وهو يحدث نفسه: «ماذا جرى لكريم؟ كيف اختفى فجأة من المنزل؟!» شكر القدر الذي أحضره إلى حيث رجل يشبهه. لم يعرف أن روحه الآتية من عالم همجي سيطرت على جسد ذلك الرجل، كما يسيطر بعض البشر على بشر آخرين، ويصير الجسد عبدا له.
فكرت النسوة بأمر شريكهن كريم. قالت إحداهن: «لا بد من الإسراع لنبلغ الجهات الصحية عما جرى لشريكهن كريم، وعن تجسسه عليهن.» نهض الجميع صباحا، وأفتى مروان لنفسه التقبيل، وذكورته منتصبة، يدعوهن بالحوريات. أدهش النسوة حين حمل إحداهن بين ذراعيه، وجرى بها في الصالة! من أين أتت لكريم تلك القوة فجأة؟! أمر حير النسوة حقا.
تأكد للنسوة أن شريكهن كريما أصبح شخصا آخر قويا، مرحا، بطباع جديدة، صوته مختلف قليلا، وكذلك بشرته. يتساءلن فيما بينهن: «ترى ماذا جرى له، وقد كان نائما معهن ؟!» قالت إحداهن لمروان: «كيف نصدق أنك شخص آخر، ولست «كريم» شريكنا؟» حكى لهن قصته منذ أن مات شهيدا في غرفة نومه في حي عطان، الساعة الحادية عشرة ظهرا قبل أربعة أيام، إثر انفجار مرعب أخذه إلى هذا العالم، تساءل عن تاريخ اليوم قائلا: «هل نحن اليوم في 24/ 4 / 2015م؟» كانت النسوة تسمع بصمت وحزن، وهو يحدثهن كيف قابلهن في البستان أول مرة، وكيف ركب معهن إلى أن وصلن هنا وبقي معهن!» سألته إحداهن: «وكيف لم نرك وقد ركبت معنا؟!» رد فجأة: «لم يكن لي جسد حينها، كنت روحا في هذا العالم.» ضحكن من نكتته، وقالت إحداهن: أنت تمزح معنا يا كريم، أصبحت رجلا ظريفا أيضا، ولك قوة لم نعهدها فيك، لا ندري كيف حصل هذا؟! ماذا جرى لعضوك ينتصب مرارا؟! هل استعملت دواء شجرة «الخلد»، من غير إذن الجهات الصحية؟!
لم ينتبه مروان لكلمة شجرة الخلد، ولم يعد قادرا على أن يسيطر على انفعالاته، وهن لم يصدقنه. غضب وقال في صوت مرتفع: «أنا لست «كريم»، أنا مروااان، لماذا لا تصدقنني وقد أثبت لكن ذلك؟!»
اندهشت النسوة بخوف من غضبه، يتساءلن من أين أتاه فيروس الغضب؟! وقد انقرضت هذه الأمراض منذ مئات السنين. هذا الأمر حير النسوة. إحداهن قالت بأسى: «كريم أصيب بازدواج الشخصية، يتقمص شخصية رجل يعود سلوكه إلى آخر العصور الهمجية، آخر مرحلة بشرية كانت تسودها الأنانية المقيتة.» اقترحن مراقبة تصرفاته، وإخبار البروفسور ماري حنان الذماري، أستاذة علم السلوك البشري.
ذهب مروان إلى النوم وهو يفكر: «من يتزوج منهن ومن يختار؟!» نام نوما عميقا، لم يستيقظ إلا في الصباح وهو يتصبب عرقا. ذهب الجميع يتناول إفطارهم، وتفاجأت النسوة وقد التهم ثلاثة أضعاف ما يأكله كريم؛ ثلاثة أقداح من الحليب، وعدة أرغفة من الخبز الأخضر، كوب عسل لعقه بإصبعه بشراهة، كان يكفي الجميع. طريقة أكله غريبة عليهن وهو يتناول الطعام بيده. تهامسن عن عزل شريكهن كريم في الشقة إلى أن يتم عرضه على البروفيسور ماري. أخبرنه أن يبقى في المنزل ؛ فحالته هذه لا تسمح له بالخروج إلى أي مكان آخر.
بقي مروان يتجول في المنزل، يشاهد مدبرة المنزل الجميلة في المطبخ الإليكتروني الرائع، وهي تقوم بتقطيع البطاطا والطماطم بسرعة مذهلة، تؤدي عملها بخفة ومهارة. ضحك مروان حين تذكر زوجته «حميدة» حين أحضر لها خدامة حبشية شابة، قالت له: «صغيرة يا مروان، أريد خدامة كبيرة في السن، فأولادنا في سن الشباب.» والحقيقة هي أنها كانت تخشى على الخدامة منه.
جلس مروان في صالة المنزل، يحدث نفسه: «سأتزوج بأربع نساء، والثلاث الأخريات سأطلب منهن أن يكن ملك يمين.» بقي ينتظر عودة النسوة بشوق غامر. يحدث نفسه عن متعة جديدة في عالم آخر. حين وصلن من العمل وقف وفاجأهن، بسؤاله: أريد أن أتزوج منكن. ها .. ما رأيكن؟ - يا كريم، من أين أتتك هذه الكلمة الغريبة «أتزوج»؟ وهي ليست موجودة في قاموسنا اللغوي؟! - كيف أثبت لكن أنني مروان، ولست المخنث «كريم» هذا.
كان غاضبا من مناداته بكريم. ذهبت النسوة في تخاطرهن على أن يعاملنه أنه مروان حسب ادعائه؛ حتى يأخذنه إلى الرقابة الصحية؛ لمعرفة ما أصابه. قالت إحداهن: نعم يا مروان، سنرتبط بك، وتصير شريكا لنا. - شريك، دون عقد زواج؟ ما هذا الهراء؟! - ما معنى عقد زواج؟! - أتزوج بأربع منكن بعقد شرعي، والأخريات ننظر في أمرهن. - لا، سنكون معك أسرة نحن الجميع، وليس أربع نساء!
اندهش مروان وهو يحدث نفسه: «يتحدثن بلغة غريبة وبالعربية، ولا يعرفن معنى كلمة زواج. في أي زمن أنت يا صنعاء؟!» ثم قال ضاحكا: «عقد زواج يعني أن تصبحن زوجاتي ملكي، لا يمسسكن غيري، وتحت إمرتي وطاعتي، وأنفق عليكن أنا.» ضحكن من كلامه، وقالت إحداهن: «نحن لا نعرف ما معنى زواج. وليس في هذا العصر من يمتلك أحدا، وارتباطنا معك هو أن تكون شريكا معنا في الحياة، والنسوة هن من ينفقن على الرجال وليس العكس.» ثم ذهبن للتشاور فيما بينهن: «من أين أتى شريكهن كريم بهذه الأفكار الغريبة؟!» وكان مروان يحدث نفسه: «ماذا يقلن هؤلاء النسوة! الرجال هم القوامون على النساء، وليس العكس، ثم كيف أرتبط شرعا بسبع نساء معا؟ وما نوع هذا الارتباط؟ صحيح أن رسول الله محمد
صلى الله عليه وسلم
تزوج تسع نساء معا، لكنه رسول الله لا يماثله أحد، وكان ذلك لحكمة يعلمها الله وأنا لست رسولا.» سألت إحداهن: ماذا جرى لك يا كريم، عفوا يا مروان؟! أنت تعرف أن كل سبع نساء يعشن معا، ويشكلن أسرة مع رجل واحد فقط، وعلى قاضي المدينة أن يبحث لكل سبع راشدات عن رجل، إن لم يجدن شريكا لهن. سأل مروان بغضب: من هذا القاضي الزنديق الذي يعقد بسبع نساء معا على رجل واحد؟! - ماذا؟ زنديق! ما معنى زنديق؟ - معناها يحلل الحرام.
كن في دهشة من كلمات لم يسمعن مثلها من قبل. ضحكن كثيرا وتحدثن فيما بينهن: «فعلا هذا الرجل ليس «كريم»، إنه لا يعرف عن عالمنا شيئا، أو أن فيروسا غريبا أصابه قد يلوث هذا العالم أجمع.» قالت إحداهن له: «أنت لا تعرف معنى مصطلح قاض، هو ليس إنسانا.» - ومن هو إذن؟! - هيوموروبوت، يقوم بتشكيل الأسر في المدينة وحول العالم أيضا، يبحث لهن عن شريك، وإنه يعرف كل شيء عن الإنسان منذ مولده. نحن السبع الآن نشكل أسرة حسب قانون العصر. - ما هذا القانون الذي يشرع الزواج بسبع نساء؟!
بينما النسوة في حيرة من أمر شريكهن، يتخوفن من اللقاء الحميمي معه، بقي مروان يفكر: «أربع زوجات وثلاث ملك يميني، لا ضير في ذلك! هكذا أجمع السبع تحت ظلي، لا يهمني أي دين تدين به البلاد، سأبقى على ديني في هذا العالم وأحاول نشره؛ لأحصل على الأجر والثواب من الله.» ثم سألهن وهو يبتسم هذه المرة: «ممكن أن أرتبط بأسرتين أو ثلاث؟» أجبنه بما أدهشه، بأنه يستطيع ذلك تحت ظروف خاصة. شعر مروان ببهجة وفرح غامر، وأخذ يحدث نفسه: «ثلاث أسر تساوي إحدى وعشرين امرأة، أربع زوجات والباقي ملك يمين، وبنفس طريقة اللقاء الحميمي التي شاهدتها أستطيع لقاءهن جميعا في يوم واحد. إنها الجنة فعلا، لا أظنني على وجه الدنيا.» ثم ضحك عاليا وقال: «لم يتبق لي إلا أن أتعرف على جهنم أين موقعها.»
حذرته النسوة من خطورة الضحك عاليا في الأماكن العامة، لكنه لم يعر لتحذيرهن أي اهتمام؛ فالضحك يعبر عن السعادة. كان يرى نفسه حينا في الدنيا، وحينا آخر في الجنة، لا سيما حين يرى ما لا يخطر على بال بشر، أناس تمر من أمامه في الجو كالطيور العملاقة، وهي تطوي أجنحتها دون أن تسقط، ومدينة لم تكن حتى في الخيال، وسبع نساء للرجل الواحد!
11
تأكدت النسوة أن فيروسا جديدا هاجم شريكهن، لا سيما بعد أن شاهدن شعره بدأ ينبت في ذقنه وفي صدره وسيقانه. قمن بتصويره بأبعاده الرباعية؛ لأخذ قياس ملابس جديدة له، فالتي يلبسها ضيقة عليه، وخلال ساعة وصل المطلوب مما أدهش مروان. شعر مروان بالخزي وهو يرتدي تلك الملابس، وأبدى ممانعة من الخروج بها، لكنه لم يجد مناصا من لبس تلك الثياب. انطلقت مركبتهن برفقة مروان، وحلقت في الجو الدافئ كبساط الريح الخيالي. خاف من التصادم بالمركبات اللاتي تقترب منهم مسرعة، فكان يغمض عينيه خوفا، ويقول لسائقة المركبة أن تحذر، وهي تضحك قائلة: أتخاف من التصادم؟ - نعم، سنسقط أرضا! - لا تخف، لا يحدث تصادم. - كيف؟!
أسرعت السائقة بالمركبة نحو مركبة أخرى، فأغمض مروان عينيه بقوة وازداد توتره، وضغط بقدمه على أرضية المركبة، لكن المركبة توقفت آليا بالقرب منها فجاءة، دون أن يكون هناك كوابح للمركبة. قالت السائقة له: «لكل مركبة مجال مغناطيسي يحميها من التصادم، حتى مع المنازل، ويمكن أن تطير المركبة بدون سائق، تذهب إلى السوق وتحضر شيئا، وتعود إلى المنزل.» سألها: «لماذا لا يسمع ضجيج المحركات؟!» قالت: «المركبات الهوائية تعمل ضد الجاذبية الأرضية، وبطاقة الاندماج النووي؛ لدفعها للأمام، وهناك طاقة البرق، والطاقة الكونية المتحولة.»
شاهد مزيدا من الأبراج الزاهية، والحدائق المعلقة تتدلى من شرفاتها ونوافذها، والكثير من خلايا النحل تعرش في أماكن عدة من شرفات المنازل، لكنه لم يشاهد طيورا في الجو. شاهد صحنا طائرا عملاقا يقف فوق جبل عيبان، قلن له : «ذلك هو مطار مقاطعة صنعاء الدولي.» تذكر مطارها في حياته، وشعر بالأسف. شاهد ما أذهله؛ إحدى ناطحات السحاب تنكمش إلى حجم كرة ملعب، كأنها خدعة بصرية. أخبرته النسوة أن هناك طاقة كونية، تسلط بواسطة الأقمار الصناعية التي تنقل الطاقة الكونية على أي مبنى حين ينتهي عمرها الافتراضي، تضغطها لتصبح بحجم كرة قدم، لا تستطيع أية آلة حملها. لم يكن لمروان من خيار إلا أن يصدق ما يشاهده؛ حتى لا يفقد عقله.
بينما كان مروان مندهشا في عالمه الفردوسي، كان الطبيب قد نقله من غرفة العناية المركزة إلى غرفة خاصة، وبقيت حميدة بجواره، وأخبرتهم عن طرد الممرض راجح الذي كان يبتزهم بشراء الأدوية، ويخبرهم أن صحة أبيهم جيدة. كان أولاده يقفون أمام جسده الملقى في غرفة العناية، يستغربون من علامات الدهشة المرسومة على وجه أبيهم، وذلك اللون الوردي الذي طغى على جسده. ومما زاد من دهشتهم أن والدهم ساعة يبدو على وجهه الغضب، وتارة ترتسم على شفتيه الابتسامة، حتى إن الدكتور اندهش من ذلك. يقول إنه لم يواجه حالة مثل حالة أبيهم. القلب يعمل ببطء شديد، وكذلك الرئة، وسيظل يعتمد على جهاز التنفس الاصطناعي. وجميع أطباء المستشفى لم يعرفوا حتى الآن التشخيص الحقيقي لحالته الغريبة.
ذهب علي ومعاوية إلى الطبيب المعالج، يستوضحان منه الأمر أكثر. قال الطبيب: «أبوكما في وضع حرج جدا، يعاني من حالة مرضية نادرة. لا يستجيب للأدوية، سنعمل بكل ما لدينا، وسنستعين بخبرات أجنبية عبر النت بأطباء من الخارج. لا تقلقوا». عاد علي ومعاوية إلى والدتهما مختلفين في الرأي كعادتهما. علي لا يريد أن يخبر والدته عن الخبر السيئ، ومعاوية يريد أن يضع أمه أمام الأمر الواقع. كادا أن يتشاجرا في المستشفى كما يتشاجران في إدارة السوبر ماركت، لا سيما والأسعار ترتفع أثناء الحرب. وصلا إلى غرفة والدتهما فتوقفا عن الشجار، وهما يشاهدان وجه أبيهما مرسوما عليه علامات الذهول. أما حميدة فكانت تذرف الدموع، وهي ترى زوجها يموت ببطء. تقول لهم: «أبوكم جسده بارد كالجثة الهامدة، وبشرته كما ترون بدأت تتحول إلى لون أزرق. جهزوا له قبرا.» ثم جلس علي ومعاوية في شرفة الغرفة ينظران إلى رحى الحرب التي تدور، ليست بعيدة منهم في المدينة.
الفصل الثاني
حين يصل الإنسان إلى أعلى مرتبة إنسانية، يكون نبي نفسه.
1
بينما كانت رائحة الموت تزكم الأنوف، كانت المركبة تحلق بمروان فوق مبنى ضخم ذي شكل سداسي، لونه كقوس قزح، على سطحه منتزه ومسبح ورائحة عطرة تملأ الجو، وحوريتان تجلسان إلى جواره. هبطت على ساحة صغيرة دائرية الشكل في فناء المبنى. نزلوا جميعا واستلمت السائقة كرت برقم موقع السيارة، ثم مشوا خطوات معدودة، والتفت مروان إلى الخلف، فلم ير المركبة. لم يسأل؛ فكل شيء غريب بالنسبة له في هذا العالم. كان مروان يشعر بالإحراج من بنطلونه القصير إلى فوق الركبة، وصدره العاري كأنه فتاة متبرجة، وهو الذي يستهجن البشر الذين يتشبهون بالنسوة. استغرب وهو يشاهد الناس من جنسيات مختلفة؛ آسيوية، إفريقية، أوروبية .. كأنه في مدينة عالمية. لم ير أحدا منهم ملتحيا، كان بعضهم ينظر بغرابة إلى شعر ساقيه وصدره.
دخلوا المستشفى ومروان ينظر بدهشة إلى كل ما تقع عليه عيناه. وقف مذهولا أمام أناس يمشون في الهواء ويصعدون، كأنهم على سلم كهربائي يأخذهم إلى الأعلى، لا يوجد سوى شريطين على جانبيه معلقا في الهواء! خاف مروان أن يضع قدمه عليه، ثم تشجع بعد صعود النسوة، وصعد وهن يبتسمن من سلوك شريكهن الغريب. شعر مروان أنه يطير في الجو، يا لها من روعة وهو في هذا العالم الساحر! فكر أنه في حالة رؤيا للمستقبل، كما كان النبي «دنيال» يرى المستقبل في رؤياه، لا سيما بعد أن أكدت له النسوة أن المدينة هي صنعاء ذاتها. وسيعرف قريبا في أي زمن هو!
وقف مروان أمام موظف التسجيل في المستشفى، الذي أخذ يبتسم من شعر مروان النابت في وجهه وصدره وسيقانه، كاد أن يضحك حين سمع مروان يتحدث عن اسمه «مروان ناجي مدهش الراعي» وكذلك وضعت النسوة أيديهن على أفواههن، وبلعن ضحكاتهن. ضرطت إحداهن فضحك مروان ، والتفت الناس إليه تعجبا. وموظف التسجيل يبحث عن اسم مروان في سجلات الحاسوب، فلم يجده. قال: عفوا لا يوجد أحد بهذا الاسم. هذا الرجل غريب، كما أن اسمه وشكله وسلوكه غريب أيضا.
اقتربت إحدى النسوة لتقول له ما جعلته يستغرب أكثر، وشك أنه أصيب بمرض لم يعد له وجود، وهو «الجنون» مرض العصور القديمة: شريكنا أصيب بداء غريب منذ ستة أيام، يتخيل نفسه شخصا آخر، حتى إنه لم يعد يعرف اللغة العالمية، يتحدث العربية فقط. يدعي أنه مروان، واسمه الحقيقي «كريم نورين»، وها هو يضحك عاليا متجاهلا القوانين.
بحث الموظف في الحاسوب عن اسم كريم نورين، واندهش من الشبه الكبير بين المدعو مروان وكريم، هذا ما حيره. ولم يخبر النسوة بخوفه بأن يكون مرض الجنون قد عاد إلى العالم الجديد. يسأل نفسه: ترى ماذا جرى لكريم؟!
أبدى مروان غضبه وتغيرت ملامحه، فخاف الموظف وعاد إلى الخلف، ورجح أن كريم فعلا مجنون، فالغضب سلوك جنوني لم يعد له وجود، كغيره من أمراض العصور الهمجية .. قال الموظف وهو مرتبك: حقا إنه يعاني من مرض جديد نقل من كوكب آخر.
تحدث مروان بصوت عال قائلا بأنه غير مريض، ولماذا يستغربون من اسمه، وبأن أباه كان يرعى الأغنام في «الأعروق» منطقة الحجرية، وما العيب في ذلك؟! يحدث نفسه: «لماذا هذا العالم يسخر مني؟ أظنهم يرونني قردا مسليا في نظرهم. لا أحب أحدا أن يسخر مني ولو كنت في الفردوس.» ومما أغضب مروان أكثر حين أخبره الموظف أنه سيشفى من مرضه. كتم غضبه، وسأل النسوة والحزن يبدو واضحا على وجوههن: في أي زمان أنا؟! - غير معقول ما تقوله يا كريم! هل نسيت حتى التاريخ. نحن في 5/ 1 /300ب.ج. - ما هذا التاريخ؟! أكاد أجن. - نحن في بداية القرن الثالث بعد «الإنسان الجديد». - إنسان جديد؟! وما هذا التاريخ؟! - نحن في القرن السادس والعشرين الميلادي.
ذهل مروان مما سمعه، وهو يحدث نفسه كالمعتوه: «القرن السادس والعشرون الميلادي .. وكنت قبل ستة أيام في القرن الواحد والعشرين .. هل أنا أحلم ، وما كل ما يدور حولي سوى حلم جميل؟» ضرب رأسه بيده بقوة وشعر بالألم، وقال بصوت مرتفع: «أنا لست أحلم، أظنني في حالة رؤيا للمستقبل. شعر بعدم قدرته على التركيز، وتشوشت عنده الرؤية. أخذت إحدى النسوة تهزه وأخرجته ما هو فيه.»
2
توجهوا جميعا إلى قسم الأمراض الطارئة في المستشفى. كان معظم الطاقم الطبي من الرجال، ترأسهم البروفيسور «ماري حنان الذماري»، في علم السلوك البشري، تبدو أكبرهن في السن. فرح مروان لكثرة الرجال هناك. وقف أمام الطبيبة، وقامت هي من مكتبها مندهشة من شعره النابت في ساقيه وصدره ووجهه، وهي تحدث نفسها: «من أي كهف خرج هذا الرجل؟!» أخبرتها إحدى النسوة بلغتهم الغريبة عن مروان بخوف وقلق بالغين، إن شريكهن كريم نورين فقد ذاكرته وانتحل شخصية أخرى، يدعي أن اسمه مروان، وتغير سلوكه. أصبح يغضب، نهم على الأكل، قوي غير كريم الذي يعرفنه، ويريد أن يستخدم الأسلوب الهمجي عند اللقاء الحميمي.
نقلته الدكتورة فورا إلى غرفة العزل، واستدعت الدكتور «فرنر» للكشف عليه. وقف مروان أمام الدكتور فرنر، الذي راح ينظر إليه من رأسه حتى أخمص قدميه، ثم خرج فرنر خلال دقيقة بتقرير يثير الدهشة: هذا الرجل ليس كريم نورين، جيناته تختلف تماما عن جينات كريم. ليس فيه أثر لتلقيح الأديان، عضلاته قوية، فيه طاقة جنسية هائلة، نرجسيته في أعلى مستوى لها، كروموسوم وأي المذكرة خمسة وتسعون في المائة نشطة. فيه طفيليات وفيروسات وميكروبات، كانت في إنسان القرن الثالث ق.ج، أي إن عمره خمسمائة وستون عاما.
اندهش الجميع، وكذلك مروان، من تقرير الدكتور فرنر عن عمره الخرافي، وظنوا أنه أخطأ في تقدير عمره، وأخذت البروفيسور تسأل النسوة بخوف: «هل مارس معكن التلقيح؟!» أخبرنها أنهن لم يخالفن نظام التلقيح لحياة جديدة مع شريكهن. شعرت ماري بقلق، وأخبرت النسوة بضرورة الإسراع في تلقيح مروان بلقاح هذا العصر. تحدث نفسها: «يا لعجب الطبيعة! كيف بقي هذا الرجل على قيد الحياة طوال هذه المدة؟! ثقتنا كبيرة بتشخيص الدكتور فرنر، ولو أنه خرج بتقرير غير مألوف لدينا للغاية!»
طرأت فكرة على البروفيسور في الكشف عن ذاكرة مروان؛ لتعرف ماذا فيها من أحداث مرت عليه، وليكون هناك التشخيص الحاسم بالأمر. حقنته بحقنة تنشيط الذكريات .. ووضعت حول رأسه أقطابا كهربائية عديدة، تؤدي إلى جهاز نسخ الذاكرة. استرخى مروان وهو بين اليقظة والسبات، وبقي يستعيد سجل ذاكرة حياته كلها .. كانت البروفيسور والنسوة يشاهدن وهن في حالة من الدهشة، ما سجله جهاز الذاكرة من ذكريات مروان التي تعرض على شاشة كبيرة، والدكتور فرنر يقف بجوارهن مبتسما.
شاهدوا مدينة قاحلة، بنايات بدائية، شوارع ضيقة، تزحف فيها مركبات قديمة كالديدان، تنفث دخانا وغبارا هنا وهناك، جبالا مجدبة، قطيعا من الخراف يمشي في الشارع، أكوام قمامة، أعمدة الكهرباء وخطوطها المعلقة في الهواء، نساء يمشين بعباءات سوداء وهن ملثمات، أناسا في تجمع كبير، تمضغ أوراقا خضراء، وخدودهم منتفخة. بعض الرجال يمشون هنا وهناك، يحملون أسلحة عتيقة وحول الخاصرة حزام عريض مثبت فيه خنجر. شاهدوا بقرا، حميرا، جمالا، طيورا .. مما أخافهن وأفزعهن هو مناظر بشعة لانفجارات ودخان في أماكن عديدة في المدينة، أناس يضعون أيديهم على رءوسهم وهم يصرخون خوفا. ثم شاهدن أحداثا سريعة حدثت في بيت مروان هو وأسرته وفي سوبر ماركت، وأناسا تتحدث عن الحرب، استقالة الحكومة. سمعن رجلا يحدث مروان عن محاصرة الرئيس، وهروبه من منزله المحاصر في صنعاء إلى عدن ...»
كانت البروفيسور في غاية الدهشة، أخبرت النسوة بحزن لما شاهدته عن عالم مروان الذي أتى منه بأن ما شاهدوه ليس إلا ذكريات مروان الحديثة. ثم شاهدن خياما منصوبة في شارع ضيق، امتدت إلى مسافة طويلة، وجموعا غفيرة، نساء ورجالا يمشون بين الخيام. شاهد أناسا يقفون على منصة يتحدثون، وهتافات عالية: «ارحل، ارحل .. الشعب يريد إسقاط النظام»، وجموعا غفيرة تزحف في الشوارع، وتصطدم بقوات عسكرية، قنابل دخانية تتساقط عليهم، وخراطيم المياه وهي تسلط على الجماهير، وهم يهتفون: «الشعب يريد إسقاط النظام، ارحل ...» كان هناك إطلاق رصاص، و«موترات سياكل» تنقل العديد من الجرحى.
حشد كبير من الناس يقفون صفوفا منتظمة في شارع عريض، تركع وتقوم وتسجد ثم تنصرف مرة واحدة. شاهدن معركة وقتلى في الشارع، حيث تجمع فيه الناس بالقرب من الخيام، وأناسا تصيح: «سقط خمسون شهيدا هذا اليوم يا شباب»، ثم سمعن ما سجلته ذاكرته السمعية في المواجهات بين الجيش، وقوات القبائل في «الحصبة»، وسيطرتهم على العديد من الوزارات.
دمعت عيونهن، وهن يشاهدن حربا ضروسا بين جبال جرداء وصحار، معدات حربية تزحف وعربات جند وصواريخ، وطائرات تقصف الجبال، معدات حربية تقذف القذائف، وأناسا بذقون طويلة بثياب سوداء يتقدمون صفوف الجند، وهم يهتفون: «الله أكبر، اهجموا على الكفرة والمرتدين، الجنة أمامكم يا جند الله، تقدموا إليها، إنها الجنة. الوحدة أو الموت ...» كانت هناك عربات تحمل القتلى بالعشرات، والدم يسيل منها. ثم شاهدن بحرا ومدينة بدائية خلفها جبل كبير يمتد من البحر إلى البحر، لم تعد تلك الجبال أو موقع المدينة معروفا لديهن. ثم سمعن شخصا يشبه صوت مروان، وهو يهتف بين الجند: «إنه النصر، ها هي مدينة عدن أمامنا. هزمنا الاشتراكيين الانفصاليين الكفرة.»
قالت إحدى النسوة للبروفيسور ماري: «نود لو يصحو مروان؛ ليخبرنا هل هو ذلك الرجل القاتل أم لا؟ أصبحنا نخاف منه.» ردت ماري: «لا تستعجلن، حتى ولو كان هو، فبعد اللقاح الديني سيتغير تماما.» عدن إلى مشاهدة شريط ذكريات مروان. شاهدن أسرة مروان وعدة عمال يعملون وكذلك طريقة البيع القديمة، وما أضحكهن فجأة، وأخرجهن عن عادات الضحك المتبعة، هو مشاهدتهن لامرأة قصيرة عارية، وهي تحت جسد مروان الثقيل. قالت البروفيسور، ولا يزال الجهاز يسجل ذاكرة مروان، وهو فيما يشبه الغيبوبة: إنه اكتشاف مهم، حصلنا عليه عن الزمن الماضي لصنعاء، والعالم القديم أيضا.
صحا مروان من غيبوبة الذكرى، وهم يشاهدون شاشة تلفزيونية: فتيانا يلعبون، فهتف: «ذاك صديق طفولتي عامر، وذاك محمود، تلك سمية، ذاك بيتنا، مسجد القرية، غير معقول! من أين حصلتم على هذه المشاهد، أكاد أجن؟! .. ياااه، تلك أمي غصون، خالتي، هذا قطيع أغنام أبي، تلك قريتي. مستحيل!» شاهد نفسه، وهو يضرب فتى .. ثم شاهد نفسه وهو صغير يسرق بيض «مريم علي» جارتهم في القرية. شاهد نفسه، وهو يقف خلف أحد الفتيان، وهما يختليان معا بين الأحراش! غطى عينيه حتى لا يرى، شعر بالخزي. كان مروان يود أن يواري نفسه عن الغير، يغطي عينيه. هتف: إنه يوم الحساب .. إنها القيامة! لا أستطيع أن أرى أكثر. لا أستطيع .. إنه يوم الحساب، يوم تشهد عليهم أيديهم وأرجلهم. إنك بين يدي ملائكة الحساب يا مروان، وهذا كتابي أقرؤه، ثم انهمرت دموعه باكيا.
بينما كان مروان يلطم خديه، ويتأسف على حياته في الدنيا كيف قضاها، يعض على أصابع الندم، كانت النسوة منشغلات بمشاهدة طريقة المضاجعة الهمجية مع زوجته. ذهلت النسوة من تلك الطريقة المتوحشة.
عاد مروان يتلصص بخزي على شاشة العرض، وهي تعرض غرفة ضيقة كئيبة، وامرأة عجوز تقف بقميصها الفضفاض، وقد رفعت أكمامها إلى ساعديها، وكفاها ملطخان بالدم، حول رأسها مقرمة حمراء منقطة بالسواد، وسروالها قطني أسود، كانت تقول بفرح: «إنه ولد أبيض وجميل يا غصون، ماذا ستسمينه؟ سيفرح به أبوه حين يعود من المرعى.» قالت المرأة وهي تتألم: «قد سماه أبوه «مروان»؛ فقد كان يتوقع أنه ولد.»
تأكد لمروان أنه «يوم الحساب»؛ لطالما رأى أمه وهي تلده، وأن الجنة والنار تكونان في الأرض التي يتوفى فيها الإنسان، وأنه الآن بين يدي ملائكة الحساب. في نفسه تساؤل عميق: «قيل لنا إن ملائكة العذاب مرعبون. كيف هذا وأنا أشاهدهم بصور جميلة ولطيفة، ذكورا وإناثا! ترى هل ما قيل لنا عن الجنة والنار، وملائكة الحساب لم يكن سوى تخيل من البشر؟! هل عشنا قرونا في كذبة؟!»
كان الجميع في دهشة؛ لما يشاهدونه في فيلم ذاكرة مروان، بالصوت والصورة لأحداث حدثت أمامه في حياته. ذرفت البروفيسور ماري الدمع مرة أخرى، رغم أن لا أحد يبكي في هذا العصر، وقالت: «لم نر في ذكريات مروان أشياء مبهجة، كانت معظمها محزنة للغاية. لقد عاشت مقاطعة صنعاء فيما مضى حروبا شتى، في آخر عصر همجي عاشته البشرية تحت سيطرة الرجل. كانت الأنانية المشبعة بالنرجسية الخبيثة تطغى على العقل البشري كثيرا ...»
تأكد للجميع أن الذي بين أيديهم رجل آخر، غير كريم نورين، الذي اختفى عن الوجود، أمر حير النساء، كيف اختفى وظهر مروان فجأة إلى الوجود، الذي بقي حيا منذ القرن الثالث ق.ج. «قبل الإنسان الجديد»، بداية القرن الواحد والعشرين الميلادي؟ وكيف بقي حيا إلى هذا العصر؟!
3
كان مروان في عالمه الفردوسي في غاية الحيرة، يحدث نفسه: «ملائكة العذاب شداد غلاظ، يخافهم البشر لمجرد وصفهم، وهؤلاء يبدون ملائكة رحمة. هذا ما لم أسمعه في حياتي!» سأل البروفيسور بخوف: أليس هذا يوم الحساب، وأنتم ملائكة العذاب؟! أتوسل إليكم، الرحمة! كنت مؤمنا بيوم الحساب، لكن كنت أفعل عكس ذلك. عشت في نفاق مع نفسي ومع الله.
أنصت بدهش لما تقوله ماري، وهي سعيدة بما اكتشفته: ماذا تقول؟! أنت في صنعاء .. وقد عرفنا من أي زمن ماض أتيت، لقد حدثت لك معجزة إلهية، كيف بقيت حيا إلى هذا العصر؟! أما ما قلته عن إيمانكم بيوم الحساب أظنه كان نفاقا. المؤمن بيوم الحساب لا يرتكب أخطاء أو معصية مقصودة في حياته، ولو كنتم تؤمنون بيوم الحساب حقا؛ لأحلتم دنياكم إلى جنة، مثل هذا الذي تراه الآن.
تهلل وجه مروان وقال بفرح: «ماذا تقولين؟! أنا ما زلت في الدنيا؟!» وزادت حيرته أكثر بما أخبر به عن الدكتور فرنر، وسيعرفون كيف بقي إلى هذا العصر! ومروان يحدث نفسه: «الحمد لله ليس كما تخيلت ... إذن أنا ما زلت أعيش في الدنيا، ويمكن أن أكفر عن ذنوبي.» ثم أخبرته البروفيسور ماري أن الجهاز نسخ ذاكرته كلها عن حياته السابقة، حتى أحلامه مسجلة في رقائق بيولوجية من ال
DNA
في الذاكرة الدماغية له. ولم يشاهدوا إلا جزءا من حياته، وسيعرض ما تبقى منها في وقت لاحق. وأخبرته بما لم يصدقه، بأن هناك محاكاة لدماغ الإنسان البيولوجي، وقريبا سيكون هناك دماغ من صنع الإنسان.
حدث نفسه بغرابة «ما تقوله هذه المرأة لا يقدر عليه إلا الله. هذا هراء .. لكن الجهاز الذي كشف ما في عقلي، لو أنه وجد في زماننا لتغير وجه الحياة . البعض سيخافه أكثر من الله.» تعجب أيضا كيف أن الدكتور فرنر في برهة من الزمن عرف عنه أشياء كثيرة، لا يستطيع أن يعرفها أحد بهذه الدقة والسرعة في زمنه. جلست البروفيسور ماري مع النسوة وهي في حيرة، سألتهن: «كيف أتى هذا الرجل إليكن دون أن تعرفن ذلك؟!»
أفدنها بأنهن لم يعرفن كيف حل بدلا عن كريم شريكهن السابق فجأة، وبأنهن أحببن مروان وسيرتبطن به قريبا، وسيكون تحت رعايتهن. فكرت ماري بالأمر ووجدت أنه من الأفضل بقاؤه عندهن ليقمن بمراقبة رجل بقي حيا منذ أكثر من خمسمائة عام، وأخبرتهن أنها ستقوم بتلقيحه بلقاح الأديان، وسترى مدى تأثير اللقاح فيه. فهو رجل مختلف فسيولوجيا عن إنسان هذا العصر، وولد في عالم تسوده الأنانية وأخذ ذلك عنها. سيبقى لمدة أربعة أيام هنا؛ لتعديل جيناته الأنانية، وكبح نرجسيته الفردية الخبيثة، ويواكب سلوكه هذا العصر، وإن لم يستجب للقاح سيبقى في غرفة الحجر الصحي، وسيقوم الهيموروبوت الطبي بمراقبته، حتى يتم إبلاغ رئيسة مقاطعة صنعاء بهذه الحالة النادرة. قبل عودة النسوة إلى منزلهن، كشف الدكتور فرنر عليهن جميعا، لمعرفة ما إذا كن قد أصبن بأي عدوى انتقلت إليهن من مروان.
في اليوم الأول لمروان وهو في المستشفى، شاهد ممرضة جميلة تبتسم له تطوف على غرفته، ظن أنها معجبة به. قدمت له شرابا والبسمة العذبة لا تفارق شفتيها، وقدمت له الطعام النباتي وقت الغداء. دنت منه فقبض بمعصمها الرقيق للحظة قصيرة، فدفعه شغفه بها وقبلها، وجد خدها باردا، شعر أنها لم تحس بقبلته. ظن أنها غضبت؛ فراح يعتذر لها.
في اليوم التالي زارته البروفيسور ماري، وقدمت لها الممرضة التي ظنها مروان بأنها فتاة بشرية تقريرا مفصلا عنه، وأخبرتها أنه قبلها. كان مروان مندهشا مما تقوله الممرضة، يشعر بالخزي من فعلته. سألته ماري: «هل قبلت الممرضة؟» أنكر مروان أنه قبلها! ابتسمت ماري، وأخبرته بأنها هيوموروبوت طبي لمراقبة وفحص المرضى، ولديهم الكثير منهم. أما الكذب الذي كان وباء العصور السابقة فسيزول عنه قريبا. بدا الخجل على وجه مروان من تصرفه المشين أكثر. وهمس لنفسه: «معقول! هذه الممرضة ليست بشرا؟ أعوذ بالله من الشيطان، اقترب الهيوموروبوت الطبي، وأخبر البروفيسور ماري بما همس به مروان لنفسه.» التفتت ماري إلى مروان وسألته: ماذا تعني بكلمة شيطان؟
تفاجأ مروان بالسؤال وهو يحدث نفسه: «كيف عرفت بما وسوست به نفسي؟ وكيف لا يعرفون معنى كلمة شيطان؟!» تفاجأ مرة أخرى بأنهم لا يعرفون معنى كلمة «شيطان»، وفغر فوه حين أخبرته أن الدكتور «فرنر» ليس بشرا أيضا! وأنه سيخرج إلى عالمه الجديد إنسانا آخر بعد تلقيحه ب «لقاح الأديان».
4
في تلك الليلة، بقي مروان يفكر فيما أخبرته ماري حنان الذماري، عن هذا العالم الذي هو فيه. تذكر ما قالت له عن معنى مصطلح «ب.ج.» بعد الإنسان الجديد، وعن نهاية عصر العالم الذكوري الذي استقوى فيه على الأنثى، وانتزع حقها في انتساب المولود باسمها، والمصنع البيولوجي البشري. في مقابل ذلك لا يقدم الرجل للطبيعة غير شهوته التي يريد أن يتخلص منها.
في الصباح أخذته الممرضة إلى «قسم تلقيح الأديان الرباعي»، وهو يفكر: «ما هو تلقيح الأديان؟ كيف جعلوا الدين لقاحا؟!» أخبر البروفيسور وهو يكبت غضبه، بأنه لا دين بعد دين الإسلام، ثم إن الدين لا يعطى لقاحا، هذا هراء! وبأن قلبه عامر بالإيمان ويعرف الدين جيدا. ظل حياته يدعو له ويجاهد من أجله، وعلى استعداد أن يموت في سبيله، وسبيل ربه .. وأنه لم يعرف غير لقاح: الحصبة، الجدري، السعال الديكي، السل، فيروس الكبد .. وقد أخذ تلك اللقاحات جميعا. لم تتفاجأ البروفيسور من تصرفه، لكنها تفاجأت من تلك اللقاحات البدائية التي ذكرها، وأخبرته شيئا عن تلقيح الأديان، الذي نقل البشرية إلى طور جديد «الإنسان الكامل»، وولادة جديدة للبشرية. أوجدوا مجتمعا غير أناني، شعاره «أنا - أنت»، يولد فيه الطفل فلا يجد من يعلمه الأنانية، ولا النرجسية الخبيثة. وقد توقف إعطاء ذلك اللقاح منذ خمسين عاما، فلم يعد هناك مجتمع أناني يتعلم الطفل منه الأنانية. كما توقفت اللقاحات الأخرى كلقاح السرطان وأمراض القلب، والجنون .. كانت تخبره وهو يتأمل ذلك الجمال الرائع في الممرضات الآليات، يراهن أجمل من زوجته حميدة. يتساءل لو أنهن وجدن في حياته السابقة، كان سيقتني العديد منهن بما أنهن لسن بشرا، لا سيما يمكن للبعض منهن النوم مع الرجال.
تلقى مروان المرحلة الأولى من تلقيح الأديان، ضد «الأنانية». ذهب بعدها في نوم عميق، لم ينم مثله في حياته. استيقظ وقت الظهيرة وهو يشعر ببهجة لا يعرف مصدرها. حضرت البروفيسور مساء للاطمئنان عليه، رحب بها وكان يود أن يحضنها. سألها وقال: ما هذا اللقاح الذي أعطيتموني إياه؟! أشعر أنني رجل آخر.
ابتسمت البروفيسور وجلست أمامه. قالت: هذا اللقاح سيغير نظرتك لذاتك، ويكبح نرجسيتك الخبيثة، لن تشعر بالغرور أو الزهو، كما كنت تشعر به في حياتك السابقة. نحن الآن نكبح فيك الجين الأناني. نحن نخلقك من جديد لتناسب هذا العصر.
بقي ذلك اليوم يحلق في سماء السعادة، التي لم يشعر مثلها في حياته السابقة، يود أن يهب نفسه للعالم، كما كان يهب نفسه في سبيل الله في حياته السابقة.
في صباح اليوم التالي أعيد إلى غرفة التلقيح، وأعطي جرعة أخرى (جرعة الصدق). حضرت البروفسور تسأله عن شعوره بعد اللقاح، وجلست تحدثه عن الصدق الذي أمرت به كل الأديان القديمة التي صارت تراثا روحيا في هذا الزمان، وأن الصدق عمود الأديان كلها.
بقي في حيرة مما تقوله ماري: «كيف جعلوا الدين لقاحا، وما كنا نقدسه صار تراثا روحيا؟!» ثم أخبرها أنه شاهد فيلما عن الديانة الهندوسية لمقاطعة دلهي، أسموه الدين البراهيمي. سألته: وهل شاهدت الثورات الدينية ضدها؟ - ما أعرفه عن الثورات بأنها ضد الطغاة، وليس ضد الأديان! هذا لم أسمع به من قبل.
أخبرته بأنهم سيشاهدون تلك الثورات التي ظهرت ضد الديانة الهندوسية المتعددة الآلهة، التي ظلت باقية حتى إلى ما قبل الإنسان الجديد، واندثرت الديانات المشابهة لها، وظهرت الديانات التوحيدية التي تعبد إلها واحدا فقط. اقترب الحاضرون ليشاهدوا معا، كان من ضمنهم هيوموربوت. أخذ يسألها والحيرة تعصف به: لماذا يحضر الآليون؟! - ليتعلموا مثل البشر.
عصفت الحيرة بمروان أكثر ، حتى إنه شك أن ماري قد تكون هي آلية! بينما هي كانت تشير بريموت نحو حائط الغرفة الزجاجي، فإذا بها تفتح نافذة، وظهر ذلك الدليل الذي شاهده مسبقا. أنصت الجميع إلى الدليل، وهو يقول: أعزائي، ثورات عالم ما قبل الإنسان الجديد لم تقم ضد الطغاة فقط، بل كانت أيضا ضد المعتقدات؛ فكل معتقد مع الزمن يصدأ ويتداعى بالتدريج جيلا بعد جيل، لكن ذلك يأخذ وقتا لتتخلله ثقافات جديدة، وتصبح تلك المعتقدات إرثا روحيا إنسانيا.
أشار إلى تمثال «مهافيرا» وقال: هو مؤسس الديانة الجينية في القرن الثاني والعشرين، قبل الإنسان الجديد أي 599-527ق.م. اتخذه أتباعه إلها لهم فيما بعد، ولم يشركوا معه إلها آخر. رأى الكثيرون أنها إصلاح لما أفسده الكهنة الهندوس، التي ترى أن الناس غير سواسية، واتخذت من الدين ما يمكنها من السيادة على الآخرين. بعد وفاته انقسمت الجينية إلى مذهبين، المتشددون «ديجاميرا» والمعتدلون «سويتاميرا». كما انشقت الكونفوشية إلى مذهبين. كذلك قامت الديانة المسيحية بثورة ضد الديانة اليهودية، وانشقت هي الأخرى إلى مذهبين بروتستانتية وكاثوليكية. كما جاءت الديانة المحمدية التي هي آخر الديانات الإبراهيمية، وثارت على كل الديانات السابقة، وأتت بإصلاحات جديدة، وانشقت هي الأخرى إلى سنة وشيعة.
انتقل الدليل إلى مسرح آخر من المتحف، أشار إلى تمثال بوذا، وذهب يتحدث عنه قائلا: هو الأمير سادهارتا جواتاما، الملقب ببوذا (المتنور) لم يعبد المؤمنون به سواه. كانت ثورته على طقوس الكهنة البراهيمية المتشددة وتعدد الآلهة. ليس لهم كتب مقدسة، بل تعاليم بوذا الأخلاقية، وهو كتاب «فينايا بيتاكا»، وكتاب «أبهيدارما بيتاكا». تتضمن نقاشات في الفلسفة، وغيرها من الموضوعات التي تمس العقيدة. يقولون إن «الفيدا» الكتاب المقدس للبراهمة بشر بظهور حكيم، يجدد ما طمسه الزمن من الدين البراهمي، دعا إلى قهر الشهوات والمساوة بين الناس، والانصهار مع العالم إلى حيث لا وجود للأنا. وهذا ما توصل إليه هذا العالم، عصر الإنسان الجديد.
تلاشى ذلك المشهد، وظهر الدليل يتحدث عن الزرادشتية: أسسها زرادشت. كانت الزرادشتية تعرف بالمجوسية، كتابهم المقدس «الأفيستا». تعد واحدة من أقدم الديانات التوحيدية في العالم، ظهرت في بلاد كانت تسمى فارس في «26ق.ج.» أي القرن السابع قبل ميلاد المسيح. دعا زرادشت إلى عبادة إله واحد هو «اهورا مزدا» يأمر الناس بالفكر الصادق، والقول الصادق والعمل الصالح، والنار والماء لطقوس الطهارة الروحية، وأن الجسد يفنى وتبقى الروح في منطقة وسطى بين الجحيم والجنة حتى اليوم الآخر، فالرجل الصالح يخلد في الجنة إلى جانبه، والفاسق سيخلد في الجحيم إلى جانب الشياطين. وهناك ديانات توحيدية في إقليم إفريقيا، فالإنسان منذ فجر التاريخ يبحث عن خالقه الأوحد؛ فقد كان الزنوج البدائيون موحدين، يعبدون إلها واحدا. في قبيلة «الماو ماو» يؤمنون بإله يسمونه «موجابي» لا يرى ولا يعرف إلا من آثاره وأفعاله. وفي قبيلة «نيام نيام» كانوا يؤمنون بإله واحد يسمونه «مبولي»، وفي قبيلة «الشيلوك» يؤمنون بإله واحد يسمونه «جوك»، يصفونه بأنه خفي وظاهر، وفي قبيلة «الدنكا» يؤمنون بإله واحد يسمونه «نيالاك»، وكل قبيلة تزعم أن إلهها هو الأقوى من الآخر. هكذا البشر لا يستطيعون العيش بدون إله. ويذهبون للبحث عنه في الكون، منهم من يخترعونه وينحتونه كما يرونه في قلوبهم. وفي هذا العصر عرفت البشرية أن الرب يقطن في قلب المخلوق بجوار الشيطان الذي فطسناه، وبقي الإله وحيدا في القلب.
كان مروان في عالمه الفردوسي، يسمع ما لم يسمعه في حياته، يشعر بأن الشيطان لم يعد له وجود في ذلك العالم، في الوقت نفسه كانت أمه غصون تنوح في عالم يسود فيه الشيطان، لم تتوقف عن البكاء على ما جرى لابنها الوحيد من زوجها ناجي مدهش الراعي في القرية. انفصلت عنه بعد أن ولدت مروان بأربع سنين، تخلى عنها الراعي رغم حسنها؛ فهو لم يعد يطيقها هي وابنها مروان كلما نظر إليه؛ لشبهه برجل يدعى عبد الفتاح. نام ليلة في بيت الراعي. تكاد الحيرة والغيرة يقتلانه، لا سيما أن زوجته الأولى لم تحبل منه بعد ست سنوات من زواجهما؟! أمر جعله يحدث نفسه كلما نظر إلى مروان، ففضل أن ينفصل عنها.
ظلت غصون بجوار ابنها، لم يفارقها الحزن وهي تراه كجثة هامدة، ولولا تلك الأجهزة التي حول صدره وتزويده بالأكسجين لفارق الحياة. ظلت تبكي وهي تتذكر طفولته الشقية، عاش دون أب يرعاه، فكانت له الأب والأم. تذكرته وهو صغير يرعى الأغنام معها، وكيف نشأته منشأ حسنا. علمته حفظ القرآن وتجويده عند فقيه القرية «سعيد علي». أصبح مؤذن المسجد وهو في الثانية عشرة من العمر.
كانت غصون ترى تلك البسمة المرسومة على شفتي مروان، هي الأمل الوحيد الذي تراه لشفائه. لم تعد تخاف صوت الانفجارات. لم يعد شجار علي ومعاوية يغضب غصون في البيت الذي نزحوا إليه، كما نزح جميع سكان حي العطان. بقى الحي خاويا على عروشه، حتى المركبات لم تعد تمر في شوارع الحي الذي تحول إلى مدينة أشباح. كانت غصون تجلس ليلا على سجادتها متجهة نحو القبلة، تدعو الله أن يشفي ابنها مروان!
اتصل منير بفاطمة، وقالت له إنها في المستشفى مع أمها، فذهب إلى هناك. انعزلا بنفسيهما في شرفة الغرفة وبقيا ينظران إلى المدينة. كان هناك دخان يتصاعد إثر القصف في منطقة النهدين. قال منير: «أترين ذلك الحريق والدخان؟ إنه يحرق أحلامنا، كنت أنتظر متى ستتوقف الحرب لنتزوج، والآن أنتظر متى سيشفى أبوك. اشتريت الغسالة ماركة ممتازة والفرن، عصارة الفواكه .. ولم أنس لعبا لأطفالك، متى يا فاطمة سنعيش تحت سقف واحد؟!» اقترب منها حتى لامس كتفيها، وهما يسندان مرافقهما على شرفة النافذة. كان ينظر إلى الخلف أحيانا؛ خوفا أن تشاهد أمها تلامس كتفيهما. يود أن يخطف قبلة، لكن الفرصة أتته لضمها إلى صدره بقوة، حين سقطت قذيفة على معسكر التموين العسكري القريب من المستشفى.
5
بينما كانت غصون تصلي لله لشفاء مروان، كان هو تلك الليلة في عالمه الفردوسي، يحس أن حملا ثقيلا انزاح من صدره، كأن هناك أجنحة خفية ترفعه عن الأرض. في منتصف تلك الليلة مرت ممرضتان جميلتان، تحمل إحداهما جهازا صغيرا بحجم قبضة اليد، خلعت ملابسه وراحت تدلك ذكورته بالجهاز حتى نعظ. حدث مروان نفسه: «ماذا تفعل هذه الجميلة ، إنه منتصف الليل! لماذا تصحي ديكي، هل هذا اختبار جديد؟!» ثم مضت الممرضتان بعيدا، ومروان في حيرة من أمره!
حضرت البروفسور صباحا. سألته بماذا كان يفكر حين أخذت الممرضتان قياس عضوه، فقال لها الحقيقة تماما، كما حدث نفسه مسبقا .. ابتهجت البروفسور بما حققه التلقيح، وقالت له: «صدقت فيما قلته ولم تخف شيئا. كان الإنسان فيما مضى لا يظهر الحقيقة كاملة للغير؛ فقد كانت الأنا تمنعه عن قول الحقيقة، كذلك تجعله لا يحب للآخر كما يحب نفسه، يقول: «أنا - أنا»، وليس «أنا - أنت»، وهي التي تدفعنا إلى الكذب والخداع والكره والإجرام، وكلما كانت الأنا أقوى ضعف الحب عند البشر، والعكس صحيح. وقد نجح عالمنا بكبح الأنا والسيطرة عليها. ألا ترى يا مروان؟ إن الغضب والكره متواجدان داخل الإنسان، ولا يأتيان من الخارج.»
شعر مروان أن قلبه كقلب طفل في الثالثة من عمره، واستغرب مما يسمعه، بأنه لم يعد هناك عالم بما كان يسمى أولا أو ثالثا، ولم يعد في هذا العالم عنصرية، ولا سلالية، ولا قبلية، ولا عقائدية. ولا الخوف الذي يجعل الإنسان غير حر، فالخوف من المجهول يجعل المرء عبدا لأناه، والتي بدورها تجعله عدائيا تجاه الآخر.
في اليوم الثالث من بقاء مروان في المشفى، حضر هيوموروبوت ولطمه في الخد وشتمه، مدعيا أنه يتخفى عن السلطة. ابتسم مروان بعد اللطمة ولم يغضب. حدث نفسه بتعجب: «ترى لماذا لم أشعر بالغضب لكرامتي؟! لماذا لم أقاوم؟! ولماذا لم أكره هذا الرجل؟ لم أكن سلبيا إلى هذا الحد يوما!» ثم راح يتأمل في ذاته، يحدث نفسه: «كيف استطاعوا أن يكبحوا عنده الغضب؟ أي معرفة توصلوا لها؟ حقا إنهم قتلوا الشيطان داخلي كما قتل في قلب عيسى المسيح!»
في صباح اليوم الرابع، أخذت البروفسور عينة من دمه، ونسيجا من جسمه، وقامت بفحص الكروموسومات، وجدت أن الجين الإيثاري قد ارتفع إلى حده الأعلى، بينما الجين الأناني في أدنى مستوى له. شعرت بالسعادة لنجاح مهمتها البيولوجية. ثم عادت إلى مروان برفقة الأطباء حولها، لم يدر مروان هل هم بشر أم آليون! سألته: كيف ترى إيمانك بالله الآن؛ فقد كنت تشك بأن هذا العالم ملحد؟ - أشعر أن الله سكن في قلبي، وأنني أحب الذين كنت أراهم أعدائي فيما مضى! - أنت الآن اجتزت طورا جديدا في البشرية، وأصبحت نبي ذاتك، كأنبياء العصور السابقة، كانوا أناسا استثنائيين، أرادوا أن يكبحوا الأنا في البشرية، لكنهم لم يستطيعوا وها نحن بالعلم استطعنا!
كانت البروفيسور تبدو لمروان شابة وجميلة عكس نظرته الأولى نحوها، وهي تخبره عن السماح له باللقاء الروحي مع شريكاته، أما تلقيحه لحياة جديدة سيكون فيما بعد، وسوف تخبره مرة أخرى حين تلتقي به في منزلهم.
6
أقبلت النسوة لإعادة مروان إلى المنزل، أخبرتهن البروفسور ماري عن مروان بما أدهشهن. قالت: هذا الرجل ليس شريككن «كريم نورين»، الفحوصات الطبية والبيولوجية والفسيولوجية المحفوظة لدى الحاسوب تشير إلى أنه رجل آخر. وقد رفض الحاسوب أن نسمي هذا الرجل بكريم نورين؛ لما وجد فيه من تغير كبير؛ لهذا أسميناه كما ينادي نفسه «مروان» وأصدرنا له بطاقة جديدة، وبعد تطعيمه أصبح رجلا مناسبا لهذا العصر وخاليا من فيروسات عصره، القرن الثالث ق.ج. بدا عمره من خلال الحاسوب 560 عاما، لا مجال للشك في هذا الأمر. لا ندري كيف بقي إلى هذا العصر، ونحن إلى الآن لم نستطع أن نطيل عمر الإنسان لأكثر من مائتين وخمسين عاما. هنيئا لكن طاقته الجنسية الهائلة. وأصدرنا له بطاقة شخصيته:
الاسم: مروان غصون سعيدة.
الجنس: ذكر.
العمر: 560 عاما.
تاريخ الميلاد: 1 /1/ 250 ق.ج.
كان مروان يسمع ماري وهي تتحدث بالعربية، لكنها تكتب بحروف أخرى لا يفهمها. حين سألها عن تلك الحروف التي تكتب بها، أخبرته بأنها اللغة العالمية الجديدة، يمكن لكل بلد أن تتحدث بلغتها الأم، لكن الكتابة باللغة العالمية الموحدة، والتعليم كذلك موحد.
7
خرج مروان من المشفى بثياب العصر، ولم يعرف بأنهم غرسوا في دماغه شريحة بيولوجية لمراقبة أفكاره، وربطت ذاك التواصل مع مريانا إحدى شريكاته، لتعرف مدى صلاحية اللقاح. ذهبوا إلى ساحة موقف المركبة ، تلك المساحة الصغيرة تتسع لهبوط مركبة واحدة، وهي موقف يتسع لألف مركبة تحت الأرض. عاد مروان مع النساء مشوش الفكر لم يع بطاقته الجديدة «مروان غصون سعيدة». سألهن عن عمر البروفيسور ماري التي يراها في الثلاثين من العمر، أخبرته إحداهن بأن عمرها 180 عاما تقريبا. اندهش مروان فقالت له: لماذا تندهش؟ ألا ترى عمرك أنت غير معقول 560 عاما! ولا زلت تبدو شابا. حين تأتي البروفيسور لزيارتك في منزلنا، ستندهش أكثر حين تراها.
أخبرته بما أدهشه أكثر، بأن عضو الرجل الذي كان يرى فيه رجولته، بأنه لم يعد كذلك ولم يعد من خلاله يجد فيه المتعة، بعد أن اكتشفوا وسائل متعة اللقاء الروحي، ولم يعد يدفعهم لإنجاب الأطفال إلا ذلك الجين الذي يتنقل من جسد إلى آخر، فيبحث ذلك الجين عن وسيلة للانتقال إلى جسد آخر. وهكذا يستمر في التنقل من جسد إلى آخر حتى آخر يوم من عمر البشرية، فيعود إلى خالقه بعد رحلة قدرها له الخالق نفسه، لا يعرفها إلا هو.
كانت المركبة تحلق فوق سماء المدينة والبهجة تغمره، وهو يراها في حلتها النهارية. عرف أن المرأة التي تسوق المركبة اسمها «مريانا»، وهم متوجهون نحو سوق الخضراوات. شاهد الجبال المحيطة بصنعاء والخضرة تكسوها. سألها: «هل الحلة الخضراء تكسو اليمن كاملا؟!» أجابته بما أذهله، بأن مقاطعة صنعاء كلها خضراء، وتضم مدن تعز، مأرب، سيئون، ذمار، ومنتجعات الربع الخالي ومدنا أخرى .. وبأن اليمن كان اسم البلاد فيما مضى. سألها عن المملكة العربية السعودية؟ قالت: سعودية؟! لم نسمع بهذا الاسم. المقاطعة التي بجوار صنعاء هي مقاطعة «شبه جزيرة العرب». تعتبر أكبر مقاطعة في «إقليم الشرق الأوسط». تشمل مدنا رئيسة عديدة: الرياض، الكويت، أبو ظبي، الدوحة، مسقط، ومدنا أخرى .. فكل مقاطعة تعرف باسم عاصمتها. - أين ذهب آل سعود؟! - ألم تخبرك البروفيسور ماري عن لقاح ضد الأنانية، وماذا حقق للبشرية. تلك الأنانية المقيتة التي جعلت بعض البشر يسمون البلدان بأسمائهم، وإنهم يسعون لتحسين السلالة البشرية الحالية، للتأقلم في ظروف مناخية مختلفة، وإطالة عمر الإنسان إلى ألف سنة مع الأخذ بتحديد النسل. وجدوا الشيخوخة تتركز في محرك الخلية، أي «الميتوكوندريا»، وعزل العلماء ما يقرب من ثلاثمائة جين، تتركز الشيخوخة حولها وقاموا بكبحها. وهناك أيضا زراعة الأعضاء البشرية للإنسان من الحبل السري للمشيمة المحتفظ به منذ الولادة.
وجد مروان نفسه طفلا في عالم الفردوس، صمت عن التساؤل إلى أن هبطت المركبة داخل برج موقف السيارات في سوق الخضراوات والفاكهة، وفي الوقت نفسه أخرجت إحدى حورياته قائمة بطلبات المطبخ، ولفت انتباهه الكمية الكبيرة من: الفطر، وحليب الصويا، العسل، واستغرب من حزم عشبة الأخضر .. سمع إحداهن تخبر الأخريات بأن تلك الطلبات لن تكفينا لمدة «عاشور»،
1
نظرا للشريك الأكول.
كان في السوق أناس من كل أقاليم العالم، أغلبهم من الرجال، قصات الشعر موحدة، كأن الأذواق توحدت كما توحد السلوك البشري، لم يحاول شخص التميز عن الآخرين. السوق يكتظ بالمتسوقين دون ضوضاء، يستطيع المرء أن ينام هناك. راح يقارنها بالأسواق التي كان يرتادها في حياته. وصلوا قسم الخضراوات، وقف مندهشا أمام الفطر بحجم عجل صغير، وأحجام الخضراوات وألوانها. وتلك الطحالب البحرية المختلفة الأشكال والألوان، عليها لافتات «طحلب بحري، بري، نهري». شاهد الخضراوات والفواكه التي لم يشاهدها في حياته. مشى مذهولا، فارتطم بهيوموروبوت، فراح الأخير يعتذر لمروان، رغم أن مروان هو المخطئ. لم ير أحدا يحمل هاتفا سيارا، أو يقوم باتصال تليفوني أمامه.
اتسعت عيناه حين رأى أعشاب القات بين البقوليات. هتف بدهشة: قات شامي! .. فالتفت نحوه الكثيرون من المتسوقين، أغلبهم من كبار السن والآليين، يبدون استغرابهم من الصوت العالي غير المألوف في الأسواق. اعتذرت إحدى حورياته للجموع بانحناء مهذب. أخذ مروان عشبا صغيرا من القات يمضغه، وهمس لنفسه: «هو قات شامي، أنا أعرفه، قاتي المفضل، يمضغه الوزراء كما يمضغون ثروات البلاد ثم يبصقون بها خارج البلاد، حيث لن يرى الحساد بصقتهم تلك. لماذا يهان القات هكذا بين البقوليات؟!» أخبر حورياته أن يشترين ما يكفي لسهرة الليلة. تبسمت إحداهن، وأخبرته أن هذه العشبة هي عشبة: «شاهي أخضر» لا يمضغ في الفم. ضحك مروان، فأسرعت إحداهن بخفة، ووضعت كفها على شفتيه تخبره: ممنوع الضحك في الأماكن العامة. لا تنس!
8
الكثير من الهيوموروبوتات مختلفة الأحجام، يتميزون عن البشر بملابسهم الخاصة، منهم باعة وموظفو استقبال. يقدمون أنفسهم للمساعدة لمروان ونسائه. تقدم أحدهم ليحمل أشياءهم، فرفض مروان وحمل مشترياتهم بنفسه أمام دهشة المتسوقين، يرونه يحمل وزنا ثقيلا، لا يستطيع أحدهم حمله إلا هيوموروبوت. ذهبوا لدفع فاتورة الحساب لمشترياتهم، فلم يشاهد من يقوم بدور المحاسب. شعر بالدونية وهو لا يمتلك مالا، وهو يرى أكبر حورياته سنا تقوم بالدفع عنه. حدث نفسه: «كم ستدفع من الريالات؟» وهي تمرر المشتريات أمام جهاز التسعيرة؛ لمعرفة الثمن بنفسها، دون أن يكون هناك مراقب. عرفت ثمن المشتريات، ثم بصمت في مكان خاص من الجهاز، ظهرت نافذة صغيرة في شاشة تحمل رقم 26000 م-ر-ب. أخذت تدرج الرقم المالي لقيمة المشتريات، ثم رقما جديدا فيها هو 560ب.ج.
اتجهوا نحو المصعد ومروان يحمل بيده الأشياء الثقيلة، والنسوة تشعر بالبهجة لحصولهن على شريك بهذه القوة، التي لم تعد في رجال عصرهن. وضعت مريانا الأشياء بجوار المصعد داخل رف مخصص لحفظ الأشياء يحمل رقم 601، ثم اتجهت النسوة بصحبة مروان إلى ساحة بنوافير راقصة رائعة، يقف الماء في الجو ويتجمع للحظات، ثم ينهمر كالمطر بألوان عديدة. مشوا في السوق قليلا، وشاهدوا رجلا وسيما يرقص رقصة نسائية رائعة أمام كافتيريا للعصائر. كان مروان سيضحك لولا أن إحدى النسوة كانت تراقبه، همست له ألا يضحك. لم يغضب مروان لمثل تلك الخلاعة، بل ابتسم وصفق له، فالتفت المارة نحوه مستنكرين، وسرعان ما أوقفته إحدى نسائه، وقالت: «قف! التصفيق ممنوع.»
جلس الجميع أمام نافورة، تتمايل على نغمات موسيقى كذلك الشاب الراقص. أخذ مروان يحلق بإعجاب في سماء الموسيقى، التي كان يكرهها في حياته السابقة، ويصفها من عمل الشيطان. دارت تساؤلات في رأس مروان فيما حيره في السوق، فأخبرته مريانا دون أن يسألها: النسوة المرتبطات بشريك يكون أسرة، يدفعن ثمن ما يقمن بشرائه باسم الأسرة، ويخصم ذلك من راتبهن الشهري الإليكتروني ، وإذا كان المشتري ليس مرتبطا أو طفلا، يدفع باسم أبويه، أو وظيفته إذا كان لديه وظيفة. نحن كونا بك أسرة في المستشفى مباشرة، تحت رقم 26000 م-ر-ب. وكنا فيما سبق بنفس الرقم من دون حرف «م»، يدل على أن الأسرة مرتبطة بشريك. هكذا يتم البيع والشراء بالبصمة الإليكترونية، والعملة الوحيدة في العالم هي «دورال». - ألا تخشين من وجود لصوص يسرقون متاعنا حيث وضعناه؟! - لصوص؟ يسرقون؟! هذه الكلمات ما معناها؟
عرف مروان أن هناك الكثير من الكلمات لم يعد لها وجود مثل كلمة: سرقة، خداع، كذب، قتل، رشوة .. وكلمات أخرى تدل على سوء الأخلاق. يتساءل في نفسه: «أي عالم أنا فيه يا ألله؟ هل لقاح الأديان فعل ما لم تستطع أن تفعله الأديان والأعراف والقوانين؟! هل هذا الإنسان خليفة الله الحقيقي الذي أخبر الله الملائكة عنه عند خلق آدم «إني أعلم ما لا تعلمون»؟ فالخليفة لا يستخلف إلا أفضل ما لديه من الخلق. لا يمكن أن يكون البشر خلفاء الله وهم بهذا الفساد!»
9
كان مروان كطفل صغير يخرج لأول مرة إلى حديقة الألعاب، تتنقل نظراته من مكان إلى آخر، استوقفته ثلاثة تماثيل ذهبية عملاقة، منتصبة في الساحة وسط بحيرة صغيرة، أحدها لرجل أسمر اللون يبدو عليه التواضع، تحت إبطه الأيمن كتاب بعنوان «الإنسان الكامل» والآخران لامرأتين، تتدلى على صدريهما عقود من الماس والياقوت الأخضر في سلسلة ذهبية. سأل مروان عن تلك التماثيل، فقالت إحداهن له، وهي تشير إلى تلك التماثيل واحدا تلو الآخر: «تلك البروفيسور «شالي شو»، من إقليم آسيا، وتلك البروفيسور «نادية تفيدة»، من إقليم الشرق الأوسط. اكتشفتا الجين الأناني عام 10ق-ج. أما تمثال الرجل فهو النيبوبروفيسور «سام مارجريت»، من إقليم أوروبا، عالم في هندسة الجينات البشرية. اخترع لقاح الأديان، عام 1ق.ج. بعد سلسلة طويلة من الأبحاث. عمل على تعديل الجينات المسئولة عن السلوك البشري، وبهذا سيطر على الجين الأناني في الإنسان، وساد الجين الإيثاري الذي أخذنا إلى مرحلة جديدة من الإنسانية (الإنسان الجديد)، قبل قرنين من الزمان. وهذه التماثيل لها نسخ في كل عواصم الأقاليم العالمية السبعة، نحن نخلد البشر بعد وفاتهم فقط. هؤلاء يعود لهم الفضل في هذا السلام والمحبة اللذين يسودان العالم. نحن اليوم 25 / 3/ 300ب.ج. أي بعد الإنسان الجديد.» ابتسم مروان وراح يحدث النسوة: «لم يكن أحد من البشر يتخيل أن تقويم السلوك البشري سيكون عن طريق العلم، هذا لم يخطر على بشر. هذا اللقاح جعلني أرى ما لم أكن أراه فيما مضى.» ثم تساءل في نفسه عن العالم سام: «لماذا يدعى بالنبي، فلا نبي بعد محمد
صلى الله عليه وسلم . هل كفر العرب بالرسول محمد في هذا العصر؟!» ابتسمت مريانا وقالت له: «ستعرف عن عالمك الجديد خطوة بخطوة.»
حدث مروان نفسه وهو يتعجب: «ما شاء الله! هذه المرأة تقرأ الأفكار!» ابتسمت مريانا مرة أخرى، وطبعت قبلة على خده. فجأة شاهد آلات غريبة تظهر في الجو وتختفي، منها مركبات حديثة بأشكال عديدة، وهيموروبوت عملاقة، تحمل صخورا عملاقة، وهي تبني مدرجات جبلية. صور حية لكوكب يشبه الأرض غير مسكون، وكواكب أخرى فيها مخلوقات تشبه البشر، لها أجنحة تحلق في الجو. كانت حورياته يلحظن أثر الدهشة في وجه مروان، وهو ينظر إلى شاشات عملاقة في الجو.
10
أثناء عودة النسوة من السوق، كان مروان يتساءل في نفسه: «كيف ستكون المتعة مع حورياته دون اللقاء الحميمي المعتاد الذي يعرفه؟ لماذا لا توجد غيرة في هذا العالم؟! ولماذا لم يعد للذهب والدر قيمة؟! تعلق على صدور التماثيل وليس على صدور النساء. إنه عالم جديد حقا!» كانت المركبة تطير في الجو، وهو ينظر إلى المدينة كمن يفتش عن شيء. قال لهن: لم أشاهد صومعة مسجد منذ أن أتيت إلى هذا العالم، ألم تعد هناك مساجد في صنعاء؟! ماذا جرى للإسلام في هذا العصر؟! - ستعرف كل شيء قريبا.
بدأت السماء تمطر وهم في الجو، فجأة رأى هالة شفافة تحيط بالمركبات، والناس في الشارع يخرجون من جيوبهم ما يشبه الأقلام، تحولت إلى مظلات شفافة. أخبرته النسوة عن تلك المظلات الإليكترونية، وعن موسم الأمطار الذي يستمر عشرة أشهر في السنة. تذكر حياته السابقة، وهو في حيرة من أمره من فارق الزمن الذي قيل له، إنه أكثر من خمسمائة عام، وهو لم يغادر حياته السابقة إلا قبل عشرة أيام. أيصدق نفسه، أم يصدق الواقع الذي هو فيه؟! فجأة رأى برقة تصطدم بمركبتهم، فخاف وباشرت إحداهن تزيل دهشته، وتخبره بأنهم يستفيدون من البرق، وأن هناك مراكز تمتص تلك الطاقة الكبيرة، كما أنهم يتزودون من طاقة النجوم.
هبطت المركبة في شرفة منزلهم، وهو يفكر بما قيل له عن المناخ والبرق. استقبلهم الهيوموروبوت خادم أو مدبرة المنزل، لم يعد مروان يدري، الذي راح يرحب به على أنه كريم نورين، ويسأل هل شفي مما أصابه؟ لم يقتنع بما أخبرنه أنه مروان، وليس «كريم» وهو يقول: أنا لا أراه إلا «كريم»، وسيشفى من مرضه.
رحب المنزل بعودتهم كما يحدث كل مرة عند عودة النساء من العمل. جلست النسوة والغبطة في وجوههن بعودة مروان إليهن. قدم لهم الهيوموروبوت الحليب الممزوج بعصير العنب، ومروان يفكر كيف يتزوج بسبع نساء، في ظل قانون هذا العصر، ما لم يسمح به شرع الله، وهو يشعر بلهفة اللقاء. طلب منهن قاضيا؛ ليكتب عقد زواج بأربع منهن، والثلاث الأخريات يهبن له أنفسهن ملك يمينه، ويكون بهذا العمل قد وفق بين شرع عصره القديم وقانون العصر الجديد.
وافقت النسوة على طلباته، وأخبرنه أن القاضي سيصل قريبا. جلسوا يشربون الشاهي الأخضر، وهم يشاهدون البث التليفزيوني، الذي يبث من سطح الغرفة إلى وسط الصالة، تبدو المشاهد حية بأبعادها الرباعية. كانت النسوة ترى الذهول في عيني مروان، وهو يحتسي الشاي! ثم أسرع إلى المطبخ، وعاد بحزمة منها، ومضغها، والنسوة تتعجب من تصرفه الغريب، وهو يقول: «هكذا يمضغ القات» وحشا فمه بأوراقه وهو يضحك. فجأة ظهر رجل يقف في الصالة تحت جهاز بث التليفزيون يتحدث بلغة لا يفهمها مروان، وهو يتقدم نحوهم. لم يستغرب مروان مما يراه، وكيف ظهر الرجل فجأة في الصالة؛ فهو يعيش في عالم السحر أو عالم الجن، كما يراه أحيانا. تحدثت إحدى النساء مع الرجل الطيف قائلة: لقد وصلتك المعلومات عن اختفاء شريكنا السابق كريم نورين في ظروف غامضة، وارتباطنا برجل آخر اسمه مروان غصون سعيدة، وتم تسجيل الأسرة في المستشفى تحت رقم 26000 م-ر-ب. واستدعيناك بحسب طلب شريكنا الجديد، فهو غريب عن عالمنا.
كان الرجل الطيف ينظر إلى مروان، يتعجب من انتفاخ خده الأيسر ككرة صغيرة، وأخبرهن بأنه يشبه شريكهن السابق، لولا ذلك الورم الذي في خده. تساءل عما جرى له؟! أخبرته مريانا أن مروان لديه طريقة غريبة في تناول أوراق الشاي، ثم أخبرته بأن يبارك شراكتهن الحالية مع مروان حسب رغبته الغريبة، ويخبره أنه أصبح زوجا لهن. قال الرجل الطيف لمروان: لقد زوجتك بأربع نساء هن: مريانا، فرضانا، سيرانا، ريحانة، وأهديتك ثلاث نساء، وهن: فرح، سناء، ناريس، وأصبحت شريكا في الحياة للجميع. أليس هذا ما تريده؟! - وأنا قبلت.
ابتهج مروان وضحك، فطار رذاذ القات من فمه، واخترق الرذاذ جسد الرجل الطيف، وقد ظنه للحظة أنه إنسان، ثم اختفى الرجل الطيف فجاءة. أخبر مروان النسوان أن يزغردن لمثل هذه المناسبات! وجدهن لا يعرفن معنى الزغردة، فأطلق هو زغرودة طويلة. قال الهوموروبوت بروسي: «أظن أن كريم لم يشف تماما من مرضه، سأعتني به أثناء ما تكن في العمل.»
جلس مروان يمضغ القات ويحدث نفسه: «أين أنت يا حميدة لترينني، وأنا مع حور العين؟ كنت ستفقئين عيني يوما حين نظرت إلى جارتنا «حفصة»، وتحلفين أنك ستقطعينه وتعطينه القطط لو تزوجت بامرأة أخرى.» ثم تذكر أولاده، وتجارته، وكم قتل من البشر أثناء جهاده في أفغانستان، وأثناء حرب الانفصال في صيف 1994م. وهذه أول مرة يندم على تلك الأعمال، وكذلك أخطاء كثيرة ندم على فعلها، وباشر يدعو الله أن يغفر له. اقتربت منه مريانا، وهي ترى الحزن يكسو وجهه، وراحت تخبره بأنه تذكر شيئا أحزنه في الماضي، وأخبرته أن سيعيش عالما خاليا من الأحزان.
وجد مروان أن مريانا رقيب على أفكاره، وقال في نفسه بأنه لن يفكر في شيء أمام هذه المرأة مرة أخرى! تبسمت مريانا، ومضت إلى النسوة، وجدتهن مسرورات برجل كامل الفتوة، لم تعد موجودة في رجال هذا العصر. أخبرته ناريس عن شعره النابت في خديه، إنه يتكاثر وليس صحيا، ولا بد من إزالته. اعترض مروان على ذلك، واستغرب بأنهن لا يعرفن كلمة لحى! وأنهن لم يشاهدن رجلا ذا لحية أبدا. قالت ناريس: يبدو أنك كنت تعيش في أدغال مأرب، أو غابات الربع الخالي. قريبا يا شريكنا ستصبح رجلا آخر، وستنسى عالمك القديم!
ذهب مروان إلى الحمام لغسل فمه من القات، وهو يتساءل بذهول: كيف تحولت الصحارى إلى غابات؟! وكيف صارت مروجا وأنهارا؟ يبدو أن الساعة اقتربت وصدق رسول الله. بينما هو في الحمام كن يتحدثن فيما بينهن عن طاقته الجنسية التي تبدو كبيرة، ويتوقعن معه لقاء روحيا مذهلا، وقد أشادت البروفيسور ماري بذلك، وهو لم يطلب منهن شيئا مقابل أن يكون شريكهن. بعد عودته من الحمام قربت منه ناريس تعانقه، وأخبرته ألا يشوه خده الجميل مرة أخرى، بحشو ورقة الشاي في خده، وأخبرته أن هذه العشبة تصدر إلى كل أقاليم العالم، منها طازجة ومنها جافة شاي أخضر، وعلاج منشط، وتعتبر أحد المصادر الرئيسية للدخل بعد البن. ثم أخبرته أن خده سيكون أجمل بعد إزالة الشعر منه. أحضرت مرهما ووضعته حول خديه، وبعد ربع ساعة سقطت لحيته بين يديه، ورأى خده لأول مرة منذ أن كان في العشرين يتفاخر بطولها.
بينما كان مروان ينعم في عالمه الفردوسي، كان جسده في عالمه الجحيمي ملقى في أحد مستشفيات المدينة، في غرفة خاصة، وما يزال جسده يتزود بالأكسجين. وزوجته حميدة بجانب رأسه تمسد شعر لحيته الكثة لأول مرة، لم يسمح لها يوما أن تمسدها. وكان حفيداهما ولدا ابنتهما فاطمة يشاهدان دخان الحرائق، ينبعث من معسكر الفرقة ومن جوار الإذاعة، كأنهما يشاهدان فيلما حربيا. حين يسمعان دوي انفجار في المدينة، يسرعان لمشاهدة أثر ذلك الانفجار. يهتف نادر: «ذلك الانفجار أقوى! انظر إلى سحابة الدخان؛ كم ارتفعت في السماء!» وسامي يهتف ، وهو يشير إلى مكان سقط عليه أحد الصواريخ: «لا، ذلك الانفجار أقوى. انظر إلى العمارة التي انهارت.»
أخذت حميدة حريتها في تمسيد لحية مروان، وعينها تطرف بالدمع. اندهشت في آخر مرة وهي تقوم بتمرير كفها عليها، شاهدت شعر لحيته يتساقط في كفها كلما مسدتها. سقطت اللحية كاملة ولم تتبق شعرة واحدة، ورأت خده لأول مرة في حياتها. هتفت لابنتها فاطمة وهي تبكي؛ لتشاهد لحية أبيها المبعثرة على الفراش، التي بدورها ذهبت تنادي الممرضة والطبيب، الذي فسر تلك الظاهرة بنقص التروية الدموية إلى الجلد أدى لتساقط لحيته. لكنه تساءل في نفسه عن شعر صدره وساقيه الذي لم يسقط. أمر حيره، أما حميدة فأخبرت ابنتها بأنه لو صحا من الغيبوبة لغضب غضبا شديدا، ولن يخرج من بيته، إلا وقد نبتت لحيته من جديد.
أما الحفيدان سامي ونادر فأخذا يضحكان، وهما يشاهدان وجه جدهما دون لحية لأول مرة. وقال سامي: «لو قام جدي لغضب كثيرا من جدتي؛ لأنها حلقت له لحيته.»
عند الأصيل خرجت فاطمة وولداها من المستشفى ليعودوا إلى المنزل مشيا. راحا يلعبان وسط شارع الستين بعد خلوه من السيارات، لم يبق في المدينة إلا المغامرون من السكان والمتوكلون على الله. فرغت الأسواق من الكثير من الخضراوات والفواكه.
في المساء كان أولاد مروان يقفون أمام نافذة منزلهم، يشاهدون القصف على حي في المدينة. اقترب نادر من النافذة يشتم المتحاربين الذين لم يعطوه فرصة للنوم. أيضا جلس علي ومعاوية يشكوان لفاطمة، يتحدثان عن قلة البضائع في السوبر ماركت، وقطع طرق الإمداد على المدينة.
في منتصف الليل اتصل منير بخطيبته، لم تكن نائمة في ظل القصف على المدينة. يحدثها بأنه لم يعد قادرا على الصبر أكثر، ثلاث سنوات وهو ينتظر اللقاء الحميمي. قال لها: الحرب لن تنتهي في البلاد، وأبوك في حالة غيبوبة، وإن الحياة لا بد لها أن تستمر. - لكن يا منير ماذا سيقول الآخرون عني؟! كيف أتزوج وأبي على فراش المرض؟! - يا فطومتي، لو لم يصح من غيبوبته؛ هل نظل نحن أيضا معلقين بين غيبوبة أبيك والوطن؟! لا بد أن نعمل حلا . لا أريد لحبنا أن يموت كما ماتت ثورتنا.
قبل منير التليفون عدة مرات، وكذلك فعلت فاطمة، وظلا يتبادلان القبل عبر سماعة التليفون.
كانت حميدة في المستشفى تصم أذنيها ليلا وهي تسمع الانفجارات، وهي بجانب جسد مروان الملقى بجانبها على الفراش كجثة هامدة، والبسمة لا تفارق شفتيه، وهو يجد نفسه ينعم في عالمه الآخر بجانب حورياته السبع، يحلق في سماء السعادة والنسوة يتراقصن أمامه.
11
قدم الهيموروبوت بروسي وجبة العشاء غذاء نباتيا، يحتوي على طحالب بلون الجزر. تذوقه، وجد أن له طعم الجزر. أخبرته سيرينا أن الطحالب البحرية لها أنواع عدة بطعم بعض الفواكه، وأيضا هناك بطعم خبز الذرة والقمح. تناول قطعة كبيرة تشبه اللحم، يصفه بأنه لحم لذيذ رغم برودته. وجد النسوة لا يعرفن ما معنى «لحم»، تعجب قائلا: ألا تعرفن لحم الحيوان؛ البقر، الماعز، الكباش؟! - لا نعرف هذه الأسماء! هل كانت موجودة في عصركم؟! - نعم، وقد ربيته وشربت حليبه، وأكلت لحمه.
قالت سيرينا: أكلت حيوانا؟! كيف؟! - نذبحه ونطبخه ثم نأكله، ونشرب مرقه.
وصفت النسوة ذبح الحيوان بالوحشية. أما هو فكان يتساءل في نفسه: «ترى لو عرفن أن في عصره يذبح الإنسان أيضا باسم الرب!» ضحكن. أخبرته فرضانا بأنه رجل مسل، وأن الذي يظنه لحما حيوانيا هو فطر بروتيني.
12
تناولوا عشاءهم، ثم جلسوا يتناولون حليب الصويا، محلى بعصير العنب من مزارع الربع الخالي، وجده مروان خمرا، لكنه لا يذهب العقل. عرف أنه لم يعد هناك وجود للحيوانات والطيور، وأنها انقرضت منذ زمن بعيد، تساءل في نفسه: «ماذا تقول هؤلاء النسوة عن الحيوانات، كيف انقرضت؟!» وعرف أيضا أن الشريك لا يستطيع أن ينفصل عن شريكاته من النسوة إلا بموافقتهن جميعا، وأن هناك ديمقراطية حقيقية، تسود فيها الأنثى.
سألته ريحانة كيف عاش 560 سنة، وأين كان مختفيا طوال هذه المدة؟ وكيف أتى إلى منزلهن خفية؟! أمر حقا حيرهن جميعا! صمت مروان قليلا، ثم قال: «حتى أنا في حيرة من أمري، كيف أتيت إلى هذا العالم؟ هل أنا في حلم أم في علم، لست أدري ؟!» اقتربت ريحانة منه وقبلته في فمه، واعتصرت شفتيه بقوة، وسألته: «هل أنت في حلم الآن؟»
أخبرهن مروان أنه وجد نفسه في هذا العالم، بعد انفجار قذيفة بجوار منزله في «فج عطان»، لم يشعر بعدها إلا وهو في البستان الذي ظنه الجنة. سألهن عما أدهشه في البستان وعن الرائحة العطرية في جو المدينة، وكيف قدم لهن الشراب والفاكهة في البستان، دون أن يرى أحدا يقدم ذلك، وعن المركبة التي ظهرت فجأة، وعن الرجل الذي يطول ويقصر وهو يجمع الثمار، واقتلع شجرة قديمة ضامرة، وعن المدينة كيف تغير لونها من وقت لآخر، وأنه كان يظن أنه في عالم الجن، وأحيانا يرى أنه يحلم، وضحكن حين أخبرهن: «كيف أصبح له جسد؟!»
اقتربت سناء منه، وراحت تخبره أنه لم يعرف إلا القليل عن هذا العصر، وبما حيره في البستان: أما الرائحة العطرية فهي روائح الأشجار المعدلة وراثيا، وهي موجودة في كل مكان. أما ذلك الرجل الذي شاهدته يجمع الثمار فهو هيوموروبوت، كان يرتدي بدلة التخفي وهو يقدم لهن الفواكه، يتواصلن معه ذهنيا. قامت سناء من جواره وذهبت إلى الغرفة، وحورياته ينظرن إليه بصمت. بعد بضع دقائق، شعر مروان بكف يمسح على صدره وعلى خده دون أن يرى من يقوم بذلك، فقام من مكانه، والنسوة تضحك، وهو يقول: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم!» هناك روح تعبث بي، أظنها أتت إلى هذا العالم مثلي، ثم أظهر شجاعته يهتف: «هيا، اظهري أيتها الروح!» أحس بقبلة على خده الأيسر، فتراجع إلى الخلف. كانت الأخريات يضحكن، وهو يسمع صوت سناء دون أن يراها، تقول له: «أنا أمامك». تقدم مروان واصطدم بها وهو لا يراها، فعاد إلى الوراء مرتبكا، وهي تقول: «لا تخف.» ثم ظهرت له أمامه فجأة، وهي تضحك. حينها رآها ترتدي بدلة تغطي الجسم كاملا، وأخذت تشرح له عن تلك البدلة .. جلس مروان مندهشا، يحدث نفسه: «ترى لو وجدت هذه التقنية في زماننا؟!»
13
أخبرته فرضانا عن المركبة وقدرتها على التخفي أيضا، وعن لون المدينة وكيف تغير لونها ثلاث مرات خلال اليوم، من لون إلى لون آخر، حسب درجة حرارة الجو. كان مروان يستمع لما كان يحيره سابقا، وتذكر ذلك الهيوموربوت الذي ضاجع النسوة في الشقة المجاورة. سألهن عن ذلك اللقاء؟! أخبرته ناريس، وهي مشتاقة للقائه: «هناك نساء شواذ وعانسات لم يجدن شريكا، فيضطررن إلى شراء ذلك النوع من الهيوموروبوت، يؤدي الغرض كالرجل في العصر الهمجي.» ضحك مروان وقال لهن: «نعم لقد شاهدت ذلك! حينها شاهدت طيفا يتحدث عن متحف التراث الروحي للهندوس، وتعدد الآلهة عند الشعوب.» سألته فرضانا: «وهل شاهدت الثورات التي قامت ضد تلك الديانة، التي فيها أتباعها يعبدون إلها واحدا؟» رد مروان قائلا بأنه شاهد ذلك مع الدكتورة. سألته مريانا: وهل في زمانكم من دعا إلى توحيد الأديان؟ - سمعنا عن قصيدة للشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي، قال فيها:
لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي
إذا لم يكن ديني إلى دينه داني
وقد صار قلبي قابلا كل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنى توجهت
ركائبه فالحب ديني وإيماني
أضاف مروان: كنا نرى في تلك القصيدة زندقة، وسفهنا مذهب التصوف. - وكيف ترى ابن عربي الآن؟ - حقا إن ابن عربي أدرك قبلنا ما لم ندركه، وتنبأ بهذا العالم! - هذه القصيدة الخالدة هي إحدى ركائز هذا العالم الذي صار يدين بدين المحبة، فتعدد الأديان في عالمكم والمذاهب أدى إلى تعدد الثقافات، والتي بدورها أوجدت الاختلافات بينكم، ولذلك حاول «الغورو ناناك» في إقليم دلهي أن يوحد الثقافات كهذا العصر، لكن محاولته باءت بالفشل. أظن أنكم كنتم مستعبدين فكريا دون أن تشعروا. وهذا هو يا مروان مذهب عصرنا، كما تخيله شاعركم ابن عربي. حدث بفضل العلم الذي صار نبي هذا العصر، وأوجد الإنسان الجديد منذ 300 عام ب-ج. والآن سنشاهد شيئا عن عالمك الذي أتيت منه.
فتحوا جهاز البث المثبت في سطح الغرفة، وجلس مروان بجوار بروسي، ومضوا يسمعون الدليل السياحي، وهو يمشي في مسرح العرض في الصالة، يتحدث عن الديانة «الكونفوشيوسية» التي كانت في مقاطعة بكين. أشار إلى تمثال لرجل سمين، والدليل يقول: ذاك هو الحكيم الفيلسوف «كونفوشيوس»، عاش في القرن 26ق.ج. أي في السادس ق.م. طور الفلسفة الصينية، وأسس الديانة «الكونفوشيوسية». تتلمذ على يد «لاو تسو». كان حكيما، تلك الحكمة التي جعلت من حوله يرونه إلها، لتحقيق العدالة. كان أتباعه يرون أن لكل من الأرض والشمس والكواكب والسحاب والجبال إلها، وأن الجزاء والثواب في الدنيا كالهندوسية. انقسمت الديانة بعد كونفوشيوس إلى قسمين؛ مذهب متشدد، يأخذ بآراء كونفوشيوس حرفيا، ومذهب تحليلي يحللون آراءه ويختلفون مع المتشددين، هكذا ينقسم أتباع الأديان على الدوام إلى متشدد وغير متشدد. حبذ كونفوشيوس الثورة على الحاكم الذي يستبد بالسلطة أو يسيء استخدامها، لكنه يعترف بالحق الإلهي للأباطرة، يرى الحاكم ابن السماء. اعتبرت الأخلاق والآداب أساس الدين قاعدة ذهبية: «لا تفعل بالآخرين ما لا تحب أن يفعله الآخرون بك.»
رأى أن الإنسان مقدس؛ نتيجة تزاوج القوى السماوية بالقوى الأرضية. كما اعتقد الكنعانيون بالكائن الإنسان، الذي ظهر بعد خلق السماء والأرض، في صورة ذكر وأنثى، هما «آدم وآدمة» واكتمل نسلهما بسلالات بشرية متتابعة. وكذلك رأت بعدها الديانات الإبراهيمية بخلق الإنسان. - أخذ بمبدأ الشورى التقدمية .. دعا إلى اتحاد شعوب العالم جميعا في جمهورية عالمية واحدة، وتحققت دعوته فعلا في عصرنا هذا؛ عهد الإنسان الجديد.
ضحك مروان وقال: «يا نسوان، هذا الدليل يخلط بين الأديان.» كان لدى مروان سؤال أخير لهذه الليلة، وهو كيف يتم التواصل بين الناس، فهو لم يشاهد تليفونات أرضية أو محمولا؟ لكنه أجل تساؤله؛ فقد رآهن يستعددن للرقص والمتعة.
الفصل الثالث
العقل كون صغير متى كشفت أسراره؛ كشفت أسرار الكون الكبير.
1
شغلت النسوة موسيقى عذبة، وأخذت السبع الحوريات يرقصن أمام مروان، ينتظر متى سيطلبنه للفراش، لا يستطيع أن يختار أيهن سيلتقي معها أولا، بل ترك لهن الاختيار، إلى أن دعته «ناريس» أكبرهن سنا للجلوس أمامها، وقد كان يفكر أن الصغرى «سناء» الفاتنة ستدعوه أولا. أصبح ينظر إلى القبح والجمال نظرة واحدة.
جلسا بجانب بعضهما معا، ثم أعطته «ناريس» السماعة ليضعها في أذنيه، فسمع موسيقى عذبة أخذته ليحلق في فضاء ساحر. كانت ذكورته منتصبة وهي تضع كفها الأيمن على عانته، وكفها الآخر فوق قلبه، وكذلك فعل هو معها. شعر بأنه يتماهى في الكون، يحلق في سماء اللذة. استمر في حالة نشوة نصف ساعة، يحدث نفسه: «إنها الجنة، كما وصف لنا، التمتع بحور العين لا يضاهيه متعة في الأرض.» فتح مروان عينيه وأزال السماعات عن أذنيه، لم يستطع وصف تلك اللذة التي شعر بها دون استمناء. أشادت ناريس بمروان كثيرا، وقالت له: «أنت كما توقعنا، اللقاء معك مذهل، لم أشعر بهذا يوما في حياتي.» وكان مروان يحدث نفسه بغبطة بأن العالم الذي هو فيه جعل جنته في الأرض، ولن يحتاج إلى جنة أخرى. ثم اقتربت منه «ريحانة» تبدو أقل عمرا من «ناريس». وهكذا كن يتقدمن لمروان الأكبر سنا فالأصغر، إلى أن انتهى لقاؤه مع «سناء» التي هي أجمل منهن جميعا.
في الجانب الآخر من عالم مروان الجحيمي، حضر الطبيب مسرعا في منتصف الليل، هو والممرضة التي دعته ليشاهد تلك الحالة الغريبة، أخبرته بأن يطرد زوجة مروان من مرافقة زوجها .. لم يفهم الطبيب ماذا تريده الممرضة! وصل إلى غرفة مروان وهو مغطى ببطانية. وأخبرته بأن يرفع البطانية عن مروان، وهي تلتفت إلى الخلف. رفع الطبيب البطانية فشاهد ذكورة مروان منتصبة بشدة. أعاد البطانية ونظر بسخرية إلى حميدة التي أبدت حياء. قالت: إيش تفكر يا دكتور؟! له أربع ساعات على هذه الحالة. - أربع ساعات؟ لماذا لا تنادينني؟! - ماذا أقول لك؟! .. أنا نفسي مندهشة، حتى وهو في صحته لم أره في مثل هذه الحالة. أنا أشك أن جنية تزوجته!
ضحك الطبيب وقال: «أمر غريب، مرض غريب، امرأة عجيبة. أنا لم أعد أفهم ماذا يجري لهذا المريض! لحية تسقط دون سبب، بسمته على الدوام، ملامح الغضب على وجهه، وأحيانا تبدو عليه علامات التعجب، وهو في حالة غيبوبة.»
فجأة توقف تدفق الأكسجين إلى رئة مروان، فأسرعت الممرضة لتخبرهم بتبديل الأسطوانة ؛ ظنا منها أن الأكسجين قد نفد من الأسطوانة! وضع الطبيب السماعة على صدره، لم يشعر بضربات القلب، ولا تزال البسمة مرسومة على شفتيه. ثم أحضر الطبيب جهاز انعاش القلب، وضعه على جانبي صدر مروان وشغل الجهاز، إلى أن عاد القلب إلى العمل.
فرحت حميدة، وقالت للطبيب: «أقول لك زوجي مزوج جنية، شوف كيف أتعبته. كان شيموت وشتأخذه علي.»
خرج الطبيب من الغرفة وهو يضحك، أيسخر منها أم يشتم تلك الانفجارات في المدينة التي تضيء الغرفة؟
قالت الممرضة لحميدة: «هذه معجزة، جلد زوجك يتسلخ، وما زال على قيد الحياة.» وأسرت إلى حميدة على انفراد، بأن زوجها لا فائدة من بقائه في المستشفى، وأن ذلك خسارة على الأسرة. ونصحتها بإخراجه إلى البيت، وأن يشتروا له أسطوانتين أكسجين؛ ليسلموا من تكاليف المستشفى.
صباحا استشارت حميدة أولادها في الأمر، فوافقت الأسرة على نقله إلى البيت، إلا أمه لم توافق. قال لها معاوية: «يا جدة سنهتم به في البيت، تكاليف المستشفى كثيرة.» وراحت هي تخبرهن بأن العناية في المستشفى أفضل، وبأنهم يريدون أن يرثوه وهو على قيد الحياة، وشتمتهم.
كان ذلك اليوم هو الخامس من شهر إبريل، عادت فاطمة قبل الظهيرة إلى منزلهما مشيا إلى المنزل، لم تجد مكانا في الباصات المزدحمة، يكتظ فيها المواطنون حتى على أسطح المركبات. كانت تود أن تشتري طعام الغداء، لكنها لم تجد مطاعم مفتوحة. وصلت المنزل وصعدت سطح المنزل لتطبخ بما تبقى من الحطب وقطع الكراتين، وهي تلعن الدخان والحر.
عند العصر هطل المطر، فحولت مجرى مياه السطح هي وإخوتها عمر، سليم، سالم، نبيل، إلى خزان المنزل الأرضي.
في المساء جلسوا يسمعون الأخبار لمعرفة إلى أي هاوية تذهب البلاد، فسمعت تصريحا للرئيس بتعيين قائد للجيش .. عرفت أن الحرب ستطول، ومضت تذم تلك الاشتباكات التي تحدث بين اليمنيين في مناطق عدة في البلاد.
تحدثت فاطمة مع أسرتها عن منير بأنه خاطبها منذ ثلاث سنوات، وأنه الآن جاهز للعرس، لكنه يخجل أن يتحدث في هذا الأمر في ظل مرض والدهم. انقسم رأي الإخوة، منهم من رفض الزواج حتى يشفى والدهم، ويعقد قرانها بنفسه، وأيدت ذلك الرأي الجدة غصون. قال علي: إذا لم يشف أبونا خلال ثلاثة أشهر فليتزوجا. حرام أن نؤجل زفاف أختنا، منير سالم رجل محترم، وأبونا وافق عليه سابقا. لكن معاوية كان هو الوحيد الذي وقف ضد رأي علي.
اتصلت فاطمة بمنير تبشره بالخبر، وأن يحجز صالة بعد ثلاثة أشهر، وراحا يتبادلان القبل عبر التليفون، حتى سمعا ضحكة غريبة في الخط، لم يعرفا أن هناك جهة تتنصت على المكالمات أثناء الحرب، لا سيما والمكالمة صادرة من بيت رجل قيادي في الحزب المغضوب عليه.
2
كان مروان في آخر لقائه مع سناء يرى نفسه أنه في الجنة، ثلاث ساعات ونصف وهو في قمة النشوة، التي لا تحدث لبشر إلا في الجنة. اقتربت مريانا منه وهي تبتسم، وطبعت قبلة على خده، سألته عن شعوره باللقاء الروحي معهن، كيف وجده؟! رد مروان وهو يتعجب: يا مريانا كأنك تعيشين داخلي. إن لقاء اليوم يضاهي لقائي مع زوجتي حميدة منذ أن تزوجتها قبل ثلاثين عاما حتى فارقتها. كان لقاؤنا لا شيء مقارنة بهذا اللقاء الذي دون كل لقاء.
نهض مروان في الصباح متأخرا ولم يجد النسوة. فتح النافذة فرأى برجا قد بني في مكان البرج الذي شاهده سابقا. لطم جبينه دهشة يسأل نفسه: «أي عالم أنا فيه، كيف يبنى برج خلال ليلة واحدة؟! ومتعة جنسية كمتعة العمر كله. هل أنا في الجنة أو أعيش حلما غريبا؟» وعاد يسأل نفسه: «أين أنا يا إلهي؟!» وجد من يظنها مدبرة المنزل تعمل في المطبخ، وهي ترقص وتغني بصوت جميل. تحدث معها، فأخبرته أنها تعد له طعام الإفطار: خبز أخضر، وشراب التفاح ممزوجا بحليب الصويا وعصير العنب .. تناول إفطاره، وشعر أنه ثمل لكن عقله لم يذهب. ثم نادى بروسي لتجلس بجواره. قال لها: «يا بروسي، ما رأيك أن تكوني ملك يميني أيضا؟ فهذا العالم يفتقر إلى الرجال، وليغفر لي الله إن أنا ما زلت على هذه الدنيا.» ثم قبلها خدها أولا ثم في فمها، وجد شفتيها رطبة لكنها باردة. وضع يده فوق كتفيها، وأخبرها عن عادات وتقاليد حياته السابقة، وأنه كان يعيش في أطراف جهنم. صمت وتحدث بحزن قائلا: «آه، كم كنت غبيا حين صدقتهم .. وأزهقت أنفسا كثيرة من أجلهم، وكنت أظن أنني أقتل من أجل الرب، كم أنا نادم على أفعالي في حياتي السابقة يا بروسي!»
كان بروسي يسمعه وهو يقبله. قال له: «أنت تعلم يا كريم، أنني لست بشرا، لماذا تقبلني؟!» ذهل مروان، وقام من مكانه مفزوعا: «ماذا؟ لست بشرا! كيف تقولين إنك هيوموروبوت؟ لم يبد عليك ذلك. تؤدين عملك أفضل من زوجتي حميدة، طبخك ممتاز .. صحيح لم أر لك ثديين، لكن هذا لم ينقص من جمالك. لا، أنت تكذبين علي!» وضع بروسي سبابته اليمنى جانب رأسه، كأنه يتذكر شيئا، وقال: «تكذبين .. لم أجد في قاموسي هذه الكلمة. ما معناها؟!» جلس بروسي في الصالة، وأخذ ما يشبه القلم ليرسم مربعا، فتكونت شاشة تليفزيونية، وظل يبحث في القنوات الفضائية، حتى وجد قناة اسمها «مشفى الهيوموروبوت». جلس مروان بجانبه، يشاهد كيف يتم إصلاح أي خلل في الهيوموروبوت .. عندئذ صدق مروان أن الذي بجانبه آلة وليس إنسانا. سأل: «يا للغرابة! هل تصلحون أنفسكم بأنفسكم؟!»
3
بقي مروان يبحث عن القنوات التليفزيونية بنفسه، بمساعدة بروسي. فشاهد مدنا رائعة، فيها ناطحات السحاب كأن تلك المدن من وحي رسام مبدع، والمركبات تطوف في الجو كالنحل. شاهد قناة اسمها «الخرطوم» وهي تظهر المدينة وأسواقها، بدت كأنها نسخة من صنعاء، والناس في الشوارع من مختلف الأعراق والجنسيات، ثم بقي يشاهد مدن «إقليم الشرق الأوسط» فرأى تلك البلدان كلها بنفس الروعة. شاهد انسجاما كونيا في التقدم الحضاري للعالم. سار يبحث عن بعض المدن السواحلية مثل: الإسكندرية، دبي، سنغافورا، عدن، الحديدة، جدة، مومباي، كراتشي .. فلم يجدها. سأل بروسي عنها. رد بروسي قائلا بأن تلك المدن ليست في قاموسه، ولا يدري عنها شيئا. ظل مروان يبحث ليجد قناة اليمن فسأل بروسي عنها، فأفاده بأنه لا يوجد قناة بهذا الاسم ، بل يوجد هناك قنوات: صنعاء، تعز، سيئون، ذمار، الربع الخالي. فقال مروان: أظن أن برمجتك خاطئة! - أنت أيضا كنت مبرمجا برمجة خاطئة في حياتك السابقة. كنت تقتل الآخرين لأجل أشخاص، وتظن أنك تقتل باسم الرب!
ذهل مروان من كلام بروسي! يحدث نفسه: «فعلا كنا كذلك. سامحنا يا رب!» استمر في البحث إلى أن وجد قناة صنعاء مكتوبة بلغة غريبة، وتحت تلك الكلمات باللغة العربية «قناة صنعاء». شاهد امرأة تميل إلى السمرة تبدو في منتصف العمر، تلبس ملابس رجالية، شعرها يتدلى حتى الكتفين، حولها عدد من النسوة ورجلان، وهي تخطب في قاعة كبيرة ملأى بالنساء والقليل من الرجال. سأل بروسي عنها فقال له: هي مدير «مقاطعة صنعاء» منذ ثلاث سنوات. - غير معقول! امرأة تحكم صنعاء، أين الرجال؟ كيف ولوا امرأة عليهم، أين العرف؟ أين الدين؟ أين شيوخ القبيلة؟ أين الأئمة؟!
ذهب يذرع الصالة ذهابا وإيابا، يتحدث بهدوء دون غضب. سأل عن اسمها فقال له بروسي: اسمها «نبيلة فاتن الزبيدي»، لماذا تستغرب؟! النسوة منذ زمن بعيد هن اللاتي يدرن أقاليم العالم.
ضحك مروان وقال بهدوء: متى أصبحت النساء قوامات على الرجال؟! لماذا لا يحتج الرجال؟ ألم تعد فيهم رجولة؟ أين العسكر؟ - لا أعرف معنى عسكر. - والجيش أين هم؟ - لا أعرف معنى هذه الكلمة أيضا. - لا تعرف كلمة عسكر ولا جيش؟! أنت ستصيبني بالجنون، لماذا تخلى الرجال عن مكانهم في المجتمع؟ أليسوا هم الأقوياء، وما النساء إلا لخدمتهم؟ - لا، ليس الرجل أقوى من المرأة. - ماذا تقول يا أهبل؟ ومن يحمل الأحمال الثقيلة، ويقوم بالأعمال الشاقة؟ - نحن من يقوم بهذا. نحمل الأثقال عن البشر عند الحاجة. أنا الآن عمري مائة سنة، وقد عملت مع أسر كثيرة. حين ولدت كان عمري عشر سنوات، وتدربت على خدمة البشر خمس سنين، ثم صرت صالحا للعمل. - ماذا تقول؟ ولدت؟ كيف ولدت من فرج أمك؟! يا ألله، ما هذا الهراء؟ ماذا يقول هذا الأهبل؟ يسخر مني؟ يريد أن يصيبني بالجنون؟!
قال بروسي: ماذا جرى لك يا كريم؟! هل أصبت بلوثة إليكترونية، ماذا تعني كلمة «أهبل»؟! - طز.
نهض بروسي من مكانه، وقال لمروان وهو يبتسم: أتريد أن أحضر لك «طز»؟
ضحك مروان عاليا، وقال: نعم، أحضر طبقا منه.
ذهب بروسي وعاد يحمل طبقا يشبه الجلي مصنوعا من الفاكهة، ثم عاد يعد وجبة طعام العشاء. جلس مروان يستمتع بطبق الطز الشهي، يسأل في نفسه: لماذا بروسي هو الوحيد الذي لم يصدق أنه مروان؟!
4
قبل الغروب أقبلت النسوة مرهقات من العمل. أخذن حماما في عجلة من أمرهن، وقدم بروسي وجبة العشاء. تحدث معهن عما دار من حديث بينه وبين بروسي، أخبرهن أنه لم يصدق كلام بروسي أو أنه يكذب. اقتربت منه فرضانا تلاطفه بقولها: لا يوجد من يكذب في هذا العصر، يا عزيزي. - لكنه يقول إن مدن الإسكندرية، دبي، سنغافورا، عدن، الحديدة، جدة، مومباي، كراتشي ومدنا سواحلية أخرى اختفت من الوجود! كيف أصدق هذا؟! - فعلا كلامه صحيح، وكذلك اختفت دول من خارطة العالم، مثل: هولندا، فيتنام، بنجلادش؟
حدث مروان نفسه: «يا للهول! ماذا جرى؟! كيف اختفت مدن سواحل العالم التي أعرفها؟! هذا شيء لا أستطيع أن أصدقه.» وعاد يسأل: هل الرجل لم يعد أقوى من المرأة؟ هذا غير معقول! - لم نعد نحن بحاجة لقوة الرجل، لدينا من هو أقوى منه. انظر إلى بروسي يستطيع أن يحمل مائتي كيلوجرام، وهناك غيره يحمل طنا. ويمكن للبعض أن ينام مع عشرات النساء مرة واحدة. - لماذا ترى أن النسوة سلبن حقوق الرجال؟ ولا ترى أنهن استرجعن حقوقهن المسلوبة. نحن نحافظ على الرجل ونهتم بشئونه، ونرعاه أحسن رعاية، وهو يستمتع باللقاء الروحي أكثر منا. ويمكن أن يعمل مثلنا في كل مكان إذا أراد. ولكن نفضل أن يبقى في المنزل لرعاية الأطفال؛ فسبع نساء قادرات على أن ينفقن على المنزل. لماذا نراك مندهشا لمصير الرجل؟ ثم إن الديموقراطية والعدالة مذهب هذا العصر. ونحن النسوة الأكثر عددا من الرجال. كان العالم عالما ذكوريا، شرع فيه الرجل كل شيء لصالحه وسفك الدماء منذ الأزل. لكن في عهد إدارة المرأة للعالم استطاعت أن تروض الرجل المتباهي بقوته وتسوسه.
كانت مريانا تنصت بصمت لما يفكر فيه مروان، وهو في صراع مع ذاته القديمة. اقتربت إلى جواره وأخذت تسرد له نبذة عن النظام العالمي في زمن الإنسان الجديد، قالت: العالم الحالي يا مروان دولة واحدة، وأمة واحدة، مقسم إلى سبعة أقاليم: المشرق الأقصى، الشرق الأوسط، إفريقيا، أوروبا، كندا الأمريكية، المدن اللاتينية، وأستراليا. وعاصمة العالم هي مدينة «سرجونشي». وكل إقليم مقسم إلى مقاطعات، يرأسها مدير محلي منتخب يدير المقاطعة لمدة أربع سنوات فقط، وكل مقاطعة تتكون من عدة مدن، ترشح شخصا عبر الكمبيوتر إلى المجلس الأعلى للأقاليم. وهذ المجلس بدوره يقوم بترشيح رئيس المجلس، وكل إقليم يدير العالم سبع سنوات، وهذا المنصب هو منصب فخري، فكل فرد يعرف واجبه تماما. وهناك علم واحد للدولة العالمية، رفع هذا العلم على سطح القمر أيضا. أظنك شاهدته.
تذكر مروان المنطقة الخضراء التي شاهدها على سطح القمر أول يوم له في هذا العالم. سأل ببهجة: «أجدك يا مريانا تفهمين مشاعري أفضل من الغير، أخبريني كيف أصبح العالم شعبا واحدا، ما لم تستطع تحقيقه جميع الأديان؟!» ردت قائلة له، وهو ينصت كطفل صغير: بدأ الفلاسفة أولا في هذا الأمر أثناء عملية التأمل «المانترا»، عن طريق الممارسة المستمرة والتفكير الانتمائي بالوعي الكوني، ونجحوا تدريجيا في التخلي عن النظرية الانتمائية غير السليمة التي تمجد الذات، حتى تحرر فيه الإنسان من كل قيود الأنانية. وهذا التأمل كان أساسا لعلماء الجنس البشري في هذا العصر، واكتشف علماء البيولوجية «الجين الأناني» وقاموا بكبحه. كانت الأنا تفرق بين أجناس البشر، وتستعبدهم وتشعل الحروب. تلك الأنا كانت ستضعف ذات يوم، وتكون تحت سيطرة العقل بعد آلاف السنين، لكن هذا العصر اختزل تلك المسافات والسنين من عمر البشرية؛ ليعيش عالم الإنسانية الحقيقية.
قارن مروان نسفه بما جرى له بالنبي دانيال في «سفر الرؤيا»، كان يرى المستقبل بطريقة رمزية ويفسر بعد ذلك، وبالنبي يوسف وهو يفسر رؤيا السنين العجاف، والسنين السمان، في رؤية الملك الفرعوني «أمنحوتب»، رأى مستقبل البلاد من خلال تلك الرؤيا. قامت مريانا من جواره، وهو يتساءل: «ترى ما مصير أولادي؟ هل هم أحياء بعد ذلك الانفجار؟ كيف اختفت المدن السواحلية في العالم؟!»
5
خرج مروان من المستشفى يوم الخامس عشر من شهر مايو، على سيارة الإسعاف تنقله إلى البيت الذي استأجروه في منطقة «السنينة» وكان منير حاضرا. أثناء مرورهم بجوار معسكر الدفاع الجوي، سقط الصاروخ الأول على المعسكر؛ فأسرع السائق بالمركبة، وعبر على حفر كثيرة فتدحرجت أسطوانة الأكسجين داخل السيارة.
سقط الصاروخ الثاني، وكانت هناك سيارة في الاتجاه المقابل، فاصطدمت بالسيارة التي تقل مروان، وقذفت به والأسطوانة معا إلى خارج السيارة. تحلق العابرون الخائفون حول مروان، أحدهم سأل أسرة مروان: أين سيدفنونه؟ يود مشاركتهم في الدفن. كانت القذائف ما زالت تهطل على المعسكر، ولم تعد السيارات تمر في جواره، ما عدا سيارة قمامة عبرت فارغة. أوقفها معاوية، وطلب من السائق أن يحمل أباه إلى البيت.
أوصلوا مروان إلى سكنهم الجديد، لم يبعد كثيرا عن المعسكر. قبلته أمه على الرأس وهي تذرف الحزن، وغضبت على حلق لحية ابنها، فأخبرتها حميدة أنها سقطت من تلقاء نفسها، وذهبت لتعد الطعام لمروان. بينما كان علي وإخوته يسمعون الأخبار .. فجأة نقلت إحدى القنوات مشهد قصف منزل الرئيس الأسبق، وهذا أغضب معاوية.
قالت فاطمة: أنت يا معاوية غاضب على قصف بيت الزعيم الذي بناه من مال الشعب. نحن قمنا بثورة لنزيحه، وأنت تريده أن يعود إلى عرشه. حدث شجار بين الإخوة، لم يظهر منير موقفه في هذا النقاش، بل كان سعيدا لكلام فاطمة، يؤيدها بنظراته .. فهي ما زالت على موقفها منذ اندلاع ثورة الشباب، لم يتغير رأيها كما حدث للكثيرين الذي غيروا رأيهم حسب مصالحهم الشخصية، وليس حسب مصلحة الوطن.
قدمت حميدة الطعام لمروان الذي أوصى به الدكتور وخلطته بالخلاط. وكانت أمه غصون تراقب حميدة، وهي تحقن الغذاء عن طريق أنبوبة التغذية الأنفية. قالت: «الآن ابني سيشفى. كان شيموت (سيموت) من الجوع في المستشفى.» وراحت تدعو له بالشفاء، وهي تشم رائحة نتنة تفوح من مروان، رأت أنها من الحفاضات التي لم تبدل. سمعت شجار الأخوين علي ومعاوية في صالة البيت، فخرجت بعصاها لتضربهما، وهي تقول: أبوكم على فراش الموت وأنتم تتشاجرون داخل البيت. وقفت أمام منير ورفعت عصاها، وقالت: وأنت تشتي تتزوج وعمك مريض. - يا جدة حتى البلاد مريضة وأمة الإسلام مريضة والعرب تائهون، لكن الحياة لا بد أن تستمر. نريد جيلا يصلح ما أفسده الحكام يا جدة.
بينما الجدل العقيم يدور بين أولاد مروان، كان هو في الوقت نفسه في عالمه الفردوسي، يتنسم رائحة زكية تفوح من حوله، وتمنى ألا يعود إلى عالمه الذي أتى منه، إن كان هو في حالة رؤية للمستقبل، وإن كان في حلم تمنى ألا يصحو منه.
لبست حورياته ثياب النوم، ورحن يرقصن أمامه بلياقة بدنية عالية، وموسيقى «السعادة» تطرب مروان، وأخرجته من حزنه بسبب ذكرياته الماضية. أخذن يتناوبن على تقبيله، ويشدن باللقاء الروحي معه الذي لم يجدنه مع شريكهن السابق «كريم». نادته هذه المرة سناء أصغرهن سنا للجلوس معها للقاء الروحي. كن يتناوبن معه الصغرى فالكبرى، عكس الليلة الماضية. أخبرهن بروسي أن كريم قبله وأعجب بمؤخرته. ضحكت النسوة، سألته ناريس: «كيف تقبل بروسي؟!» شعر مروان بالخزي مما قام به من عمل مشين، وراح يخبرهن بأنه لم يكن يعرف أنه آلة، وظن أنه خادمتهن، وأنه كان يريده أن يكون ملك يمينه بالحلال، ما دام هذا العالم يعاني من نقص الرجال. وسألهن لماذا بروسي ما زال يناديه بكريم؟! أفادته ناريس بأنهن تحدثن معه كثيرا عن اسم مروان، لكنه لم يتقبله.
وما أدهش مروان أنهن رفضن مضاجعته، أخبرته فرضانا ضاحكة بأن المضاجعة العادية ليس فيها لذة ونشوة كاللقاء الروحي، ثم إنها متعبة ومهينة للمرأة، وفيها هدر لطاقة الرجل، وهذه الطريقة لم تعد تستخدم إلا في حالة التلقيح لحياة جديدة، أو عند الشواذ جنسيا، وحين يرغبن في التلقيح لحياة أخرى سيعالجن ذلك الأمر.
6
علمهن مروان كيف يطهين الفطر، فكان يطبخ منه «المضبى» و«المندي» و«المسلوق» وأعجب ذلك النسوة. أما بروسي فلم يستطع أن يتعلم هذه الطريقة، فكان مروان كثيرا ما يساعده في الطبخ.
ذات ليلة جلس مروان أمام البث التليفزيوني يشاهد مزارع أشجار الفطر، يصل طولها لأكثر من مترين، تزن الواحدة منها مائة كيلوجرام. جلست النسوة إلى جواره، وراح يحدثهن عن الصلاة .. وأنكر عدم معرفتهن بها، كذلك معنى كلمتي إسلام ومسلمين، والرسول محمد بن عبد الله. وضع مروان كفه على ناصيته كمن أصيب بالصداع، وحدث نفسه: «متى كفرت اليمن بدين محمد؟ الله أكبر. هل كفرت أمة الإسلام؟!» ثم تساءل في نفسه: لماذا لم يغضب لدينه الذي قاتل من أجله؟ ثم لعن الشيطان. صمت قليلا وقال لنفسه: «ماذا أقول أنا؟ أين الشيطان هذا؟ لم أعد أحس به أو يوسوس لي! أظنه كان داخلي، وكنت ألعن نفسي صباح مساء. هل هذا اللقاح الذي أخذته قتله في داخلي؟!» قاطعت مريانا أفكاره، قائلة: يا عزيزي لا تتحير في الأمر، نحن أيضا مؤمنون بالله ولنا ديننا. ديننا هو المحبة في جيناتنا أخذناه لقاحا، أفضل من كل الأديان القديمة التي كانت تلقن شفهيا. أليس هذا هو مطلب الإله أن يعيش العالم في محبة وسلام؟
كان مروان ينصت وهو في حيرة. كيف أن مريانا دائما تجيب على تساؤلاته دون أن يسألها؟! ثم أخذ يتعرف على أعمارهن. قالت مريانا: عمري 55 سنة، وقالت سريانا: وأنا 62 سنة، وريحانة: 70، وفرح: 66، وناريس: 85، وفرضانا: 50، وسناء: 25 سنة. كان مندهشا وهن يخبرنه بأعمارهن. قالت له فرح: نراك مندهشا من أعمارنا، ولم نستغرب نحن من عمرك!
رد مروان بأن عمره خمسة وأربعون عاما. مما أضحك النسوة جميعا. قالت سريانا: لقد نسيت كم كتب في شهادة خروجك من المشفى، 560 عاما.
7
جلسوا يشاهدون فيلما حيا عن ذكريات مروان، يعرض في شاشة معلقة في جو الصالة. شعر مروان كأنه يقرأ كتابه بيمينه يوم القيامة، وهو يشاهد حميدة تنظف الصحون في المطبخ .. حدث نفسه: «الحمد لله أنها ظهرت في المطبخ، وليس في غرفة النوم.» ثم أخذ يشير ويقول : هذه زوجتي حميدة. ثم ظهرت أمه، وهي تصلي، فهتف: «تلك أمي ، يا للروعة!» ثم شاهد ابنه معاوية وهو يدخل غاضبا ويشتم أخاه عليا. قال مروان: «وذاك ابني الأكبر معاوية، تخرج في كلية الآداب لكنه بلا أدب، ارتمى في حضن الحزب الحاكم، دائما هو في شجار مع أخيه علي.» ظهر منير، فضحك مروان وقال: ذاك خطيب ابنتي منير سالم، وافقت على خطبته من ابنتي فاطمة رغم أنه من حزب تقدمي، كنا نراهم خارجين عن دين الله وأعداءنا، لكننا تحالفنا معهم للمصلحة الشخصية، وليس لما يقتضي مصلحة الدين.
ضحكت النساء وهن يشاهدن حميدة في المطبخ البدائي، واللباس والأثاث .. ثم شاهدوا الأسرة كلها وهم يتناولون وجبة الغداء: سلته، لحم، أرز، رغيف .. وأخذ مروان يشير إلى كل واحد منهم: ذاك عمر، نبيل، والتوءمان سالم وسليم، وتلك ابنتي فاطمة، مات زوجها في جوار الإذاعة وهو يدافع عن ثورة التغيير في مسيرة الشباب 2011م، ثم شاهدوا سوبر ماركت كبيرا، وضحكت النسوة من عملية دفع ثمن الأشياء والعملة الورقية. قال مروان وهو يضحك: «ذلك متجري، افتتحته من غنائم حرب الانفصال التي شاركت فيها.» ثم عرضت الشاشة غرفة نومه، وهو يخلع ثيابه، وأمامه زوجته حميدة تخلع ثيابها أيضا، فلطم ناصيته دهشة وهو يقول: «الله الله الله!» ثم شاهد نفسه في لقاء حميمي مع زوجته حميدة على الفراش .. أخذ يغطي عينيه، والنسوة تتفرج على طريقة اللقاء الغريبة، تظهر فيها حميدة تحت ثقل مروان .. انتقلن سريعا حسب طلب مروان لمشاهدة مشهد آخر، ظهر فيه معسكر «الفرقة» يقصف بالمدافع من فوق جبال عطان القريب من سكنه. أناس وهي تخبره عن سقوط الفرقة بيد الحوثين، هروب قائد الفرقة .. سمعت النساء صوت مروان، وهو يقول بأسى: «انتهى حزب الإصلاح، لقد تآمروا علينا، أدخلوا الحوثيين لضربنا.» سألته فرح: لماذا تتقاتلون؟! - للسيطرة على الحكم. - لماذا لا تكون الديمقراطية هي خياركم؟! - الشورى هي مبدأ الإسلام في الحكم، لكن لا نعمل بها، فهي غير مناسبة لمن يمتلك القوة، بل يتخذها شعارا زائفا. - ماذا ستعمل لو كنت أنت رئيسا في زمانك؟ - كنت سأقتل كل من يعارضني .. سأتخذ جواري من الحسان سرا. سآخذ ما أشاء من ثروات البلاد، وأشتري القصور في خارج البلاد، وسأعمل ديموقراطية صورية لأظل على كرسي الحكم مدى الحياة، ثم أورث الحكم لأحد أولادي، من هو أشد فتكا بالخصوم، سأتحالف مع أي قوة تبقيني على عرشي.
اندهشت النسوة مما يقوله مروان، كما اندهش هو لقول الحقيقة كاملة، وراحت مريانا تصفق لنجاح لقاح الأديان فيه.
8
بقيت النساء تشاهد مشاهد أخرى من فيلم ذاكرة مروان. إحدى مسيرات ثورة 2011م، ثورة الشباب السلمية في شارع الستين .. قال مروان: «يا حورياتي لم أكن أدري أنني كنت ثورا يحرث به إلا الآن.» حتى ابنتي فاطمة كنت آمرها أن تشارك في المسيرات النسائية، التي تخرج تهتف لإسقاط النظام.
شاهدت النسوة قتلى بأكفانهم في طابور طويل. قال بحزن: «هؤلاء هم ضحايا الصراع على كرسي الحكم، كنت أرى أن قتلانا في الجنة، وقتلى النظام في النار.» ظهرت صورة الرئيس الأسبق، فهتف مروان: «هذا رئيس بلادنا، انقلبنا عليه باسم ثورة التغيير، بعد أن أقصى حلفاءه من الشراكة معه في الحكم. تزوج اليمن ثلاثة وثلاثين عاما ولم يكتف، وأراد أن يزوجها لابنه، نصحناه: «ولا تنكحوا ما نكح آباؤكم»، فلم يسمع للنصح.»
طلب مروان أوراق الشاي لمضغها، وطلبت النساء شايا أخضر. قال وهو يضحك: «هيا خزنين
1
معي سيجعلكن القات سلاطين زمانكن.» فطلبت النساء من بروسي أن يحضر لهن أوراق القات، وكان ينظر بدهشة إلى مسيرة جماهيرية مليونية. تساءل: هل تلك الحشود آليون مثلنا؟ فضحك مروان عاليا، وقال له: والله إنك «زنوة». لقد وصفتهم أدق وصف، هيا أحضر حقي القات، دعني «اكيف» بجانب حورياتي، فاليوم عرفت أنني كنت آليا بشريا.
قالت سناء، وهي تمسح رأس مروان وهو لا يزال يضحك: لا، لم تكن آلة؛ بل كانت النرجسية الجماعية تتقمصكم وتجمعكم.
لم يفهم مروان ماذا تعني بالنرجسية الجماعية، وضحت سناء له بأنها هي التباهي بشيء يجمعكم للمصلحة الشخصية، تقولون مثلا: نحن رائعون، أخيار، ديننا أفضل من كل الأديان الأخرى .. وهي: قومية، سياسية، دينية، وعرقية.
اندهشت النسوة حين شاهدن حشدا هائلا من الناس ، تساءلت سناء عن تجمع ذلك العدد من البشر في مكان واحد، ولماذا يدورون حول ذلك المنزل المكسو بالثياب السوداء وفي وسطه حزام مذهب؟ اتسعت عينا مروان دهشة، وقال: ماذا تقولين يا حوريتي الصغيرة؟ ألم تسمعوا عن الحج إلى مكة؟! - لا! وما ذلك الحج؟!
صمت مروان مذهولا. أعقب مشهد الحج مشهد آخر، وهو حشد كبير في ميدان السبعين للرئيس الأسبق، وهو يخطب أمام الجماهير. سألت سناء: وهل ذلك يعتبر حجا مثل الحج إلى ذلك البيت أيضا؟!
لطم جبينه وهو يحدث نفسه: «لماذا لم أغضب لعقيدتي؟! هل هذا اللقاح أبعدني عن عقيدتي؟!» سألته مريانا عما تعني كلمة عقيدة، فقام مروان من مكانه، وقبل شفتيها بقوة، وقال: «أما أنت لا أدري كيف تقرئين أفكاري؟!»
9
توقفت النسوة عن مشاهدة فيلم ذكريات مروان، وذهبن للاغتسال معا بصحبته، ومن ثم ذهبوا للتحليق في سماء المتعة، ثم خلدوا إلى النوم. قام الساعة العاشرة صباحا، وهو يشعر بالجوع، دعا بروسي ليحضر له الطعام إلى فراشه، فقال بروسي: «حاضر يا أهبل.» حك مروان رأسه وصمت عن الشتيمة.
أحضر الطعام إلى الصالة، ووضعه على الطاولة، ونادى على مروان: لقد أحضرت لك الطعام. - لماذا لا تحضره إلى غرفة النوم؟ - لست معتادا على مخالفة النظام يا «زنوة». - لماذا ناديتني يا «زنوة»؟ - لأسعدك بها؛ وجدتك تضحك، وأنت تنطق هذه الكلمة. أليس كذلك؟
صمت مروان وراح يتناول طعامه. ثم جلس أمام النافذة يشاهد المدينة الساحرة. رأى أسراب الصحون الطائرة تحلق في الجو، وشاشات عملاقة في الجو، وعدة أقواس قزح على سماء المدينة، دون أن يكون هناك مطر. ثم فكر في أسرته، فقطرت دمعة على خده. رآها بروسي فقال له: «هل تبكي يا كريم؟ هل عدت طفلا؟!»
بينما كان مروان في عالمه الفردوسي في حالة دهشة مما يشاهده، كان حينها في عالمه الجحيمي مستلقيا على فراش الموت السريري. لم تفده التغذية الجيدة في البيت وبشرته تزداد جفافا، وتغير لونها إلى وردي فاتح . ولم تجد حميدة إجابة عند الطبيب لحيرتها، وبلغ منها اليأس من شفائه، لكن واجبها يحتم عليها الوقوف مع زوجها حتى النهاية. ومما يزيد من كربتها، هو الشجار بين علي ومعاوية، على إدارة السوبر ماركت الذي يواجه خسارة كبيرة. وهما لم يلتفتا إلى ذلك بقدر تنافسهما فيما بينهما، كأنهما ليس من بطن واحدة. وترى حميدة أنه إن لم يشف مروان لتناحر أولادها على التركة.
كانت أمه هي الوحيدة التي لم تيأس من شفاء مروان. راحت تبحث عن سبل أخرى لشفاء ابنها. بدأت طريقة العلاج بالقرآن، فأحضرت شيخا يقرأ القرآن عند رأس مروان، ويعوذه من الجن والشياطين، ورشه بالماء المقروء عليه بالقرآن الكريم. قال الشيخ للأم: «لا أظن أن ابنك يعاني من مس الجان، أو الحسد، بل إنه مصاب بالسحر الأسود، هذا السحر موضوع بجوار جثة أحد الموتى، قبر حديثا. وما أكثر الموتى هذه الأيام! لهذا سيبقى هكذا جثة هامدة حتى يزول السحر عنه.» سمعت شجارا بين علي معاوية في صالة البيت، فخرجت بعصاها تهزها نحوهما. تقول لهم: «أبوكما ينازع الموت، وأنتما تتنازعان على ثروة أبيكما دون حياء، يا طراطير، تف عليكم من رجال .. ألا تستحيان؟!» بكت غصون على ولدها الملقى كجثة هامدة على السرير. لكن إحساسها كان كبيرا، وهي ترى البسمة في شفتيه لم تفارقه.
بينما كانت غصون تبكي على مروان، كان هو في عالمه الفردوسي يتناول القات الذي أحضرته له النساء معهن، بعد عودتهن من العمل. سألهن إذا كان هناك من يبكي في هذا العصر، فردت فرضانا بأن الأطفال الذين لا يجدون وسيلة للتعبير غير البكاء هم الذين يبكون. أخبرهن بأنه سيريهن مشاهد من فيلم ذاكرته، وسيرى هل سيبكين أم لا؟
جلسن بجواره، ورحن يمضغن القات معه، وهو يبحث بنفسه في فيلم ذاكرته عن مشاهد جهاده في أفغانستان. ظهر في المشهد شاب كان يجلس بجوار مروان وهو يحدثه. ثم رأينه يقف أمام دبابة ويطلق عليها النار، لكنه خر صريعا. سألت سيرينا وقد انتفخ خدها بالقات: «من هو ذلك الشاب؟» فأخبرها أنه صديقه ناجي عمر المدحجي، كان من ضمن الذين قادوهم معا كالقطيع إلى أفغانستان. قتل اثنين ممن كنا نسميهم كفارا، ثم عرض نفسه للقتل في المعركة؛ ليلقى حور العين. الله لا رحمه. أزهق روحين دون وجه حق! وباشر يدعو الله أن يغفر له؛ فقد كان مخدوعا.
ضحك مروان وهو يشاهد خدودهن محشوة بالقات، وأثر الحزن على وجوههن، ويبدو عليهن الانتباه. ثم أخذ يبحث عن مشاهد اشتراكه في حرب الانفصال صيف 1994م. ظهر وهو في مقدمة الصفوف ضد الحزب الاشتراكي. كانت النساء تحدق إلى آلة الدمار، وهي تنفث حممها نحو الجانب الآخر، وأناس قتلى وجرحى، وتراشق الطرفين بالرصاص، وقذائف هنا وهناك. ومروان يهتف: «إلى الجنة يا أنصار الدين. كروا على الكفار، انصروا الله.»
بكت النسوة ولم يستطعن مشاهدة تلك المشاهد الدامية، ورحن يخرجن نثارة القات من أفواههن. كان بروسي صامتا طول فترة مضغ القات، ثم نطق وقال لمروان: «يا قاتل، ستفسد هذا المنزل. لماذا كنتم تتقاتلون فيما بينكم يا بشر؟!» تحدث مروان بأسف: كنت أرى أننا نحارب المرتدين والكفار. ولم نكن ندري أننا ننصر أعداءنا، نصرنا الرئيس الأسبق في حرب الانفصال ضد الحزب الاشتراكي، وانقلب ضدنا، نصرنا أمريكا في أفغانستان ضد الاتحاد السوفيتي، فساقوا من نجا من الموت إلى سجن «جوانتانامو» .. خدعنا كثيرا عبر الأزمان، خدعنا بكلمة «شهيد، وحور العين»، كنا نظن أننا ننصر الله، وما نصرنا إلا الشيطان!
كانت النسوة ينظرن إلى مروان بدهشة، وهو يقول: لأول مرة أشعر بحرية وأنني ملك نفسي، أقول ما لم أستطع قوله في حياتي، لست أدري يا حورياتي، هل كلما أحببنا أنفسنا كثيرا كرهنا الآخرين، وكلما أحببنا ديننا أكثر كرهنا الأديان الأخرى.
قالت فرضانا: نعم، يا شريكنا! هكذا هو الحب الأعمى يقابله كره أعمى مثله، عشت عالما تسوده الكراهية، أما الآن فقد انتهت النرجسية الدينية والجماعية والفردية، وأصبح العالم كله أمة واحدة.
10
لم تنم النسوة كالعادة، فجلسن يشربن عصير التفاح، ثم عدن يشاهدن مشاهد من فيلم ذاكرة مروان. كان هناك أناس يمشون في طابور طويل، بين جبال قاحلة، أمامهم ثلاثة رجال سود يضربون الطبول، تمشي خلفهم امرأتان .. قال مروان: «إنه يوم عرسي، كنت قد نسيت هذا الحدث، انتظرن قليلا، سترين زوجتي حميدة حين تكشف عن وجهها، سترين كيف كانت جميلة.» ثم قام رجل وامرأة ليرقصا معا، والبقية يتفرجون وهم يمضغون القات، وأمامهم نرجيلة طويلة وهم ينفثون دخانا من أنوفهم وأفواههم. استغرب بروسي، وقال: «كيف ينفثون كل هذا الدخان من داخلهم؟ هل يحترقون من الداخل؟!» دخل مروان هو وعروسه غرفة صغيرة ضوءها خافت، أعطاها مالا، فخلعت ثيابها، وأطفأت القنديل. لم تعد النسوة ترى المشهد، فسألت سناء: لماذا تطفئون النور عند النوم معا؟ - إنه الحياء عند المرأة في زماننا. - ماذا فعلت معها يا مروان؟! - سلقتها على ظهرها، ورفعت رجليها إلى الأعلى، وفضضت الخاتم. - ولماذا هي لا تفعل كما تفعل نساء هذا العصر عند التلقيح لحياة جديدة؟! ما دام لم يكن لديكم وسيلة اللقاء الروحي.
بقيت النسوة تنصت إلى صوت شهيق وزفير حميدة ممزوجا بالألم .. وصوت مروان وهو يقول لها بصوت متذبذب: اصبري قليلا .. ثم انتقلن إلى مشهد آخر حين كان مروان يرفع صوته للأذان، ويتلو القرآن في الكتاب وهو في الثانية عشرة من العمر. ثم شاهدنه وهو في السابعة من العمر يرعى قطيعا من الغنم، فضحكن على تيس وهو يمارس غريزته مع النعاج. استغربت سناء. قالت: إنه يمارس اللقاء كما شاهدناك مع زوجتك!
11
حزنت النسوة حين شاهدن مروان وهو يمشي حافيا، يلبس ثوبا قصيرا، يلعب في قريته الصغيرة مع بعض أصدقاء الطفولة على ضفة واد، وأبوه الراعي ناجي مدهش وهو يلطمه، وهو في عمر ثلاث سنوات، يدعوه بغضب: «يا زنوة، يا ابن الحرام ...» وتشاجر مع أمه حين أتت لتدافع عنه، وأبوه يقول لها بغضب: يا غصون، أنت سمراء، وأنا كما ترين أسمر. كيف هذا الولد جاء أبيض اللون؟!
كانت غصون تقول له: لا أدري، لكنه ابنك! - إنه يشبه الرجل الغريب، الذي كان ذات يوم في بيتنا.
بكى مروان أمام النسوة، وغطى وجهه بكفيه حين تفاجأ بهذا الخبر، شعر بالخزي والحزن، حينها عرف لماذا كان أبوه ناجي الراعي يضربه دون سبب ، ويناديه بابن الحرام.
ساد مروان الحزن حين عرف أنه ابن ظل، يسرح بفكره إلى أن قالت فرضانا: «أنت الآن يا مروان ابن هذا العالم. إنسان آخر.» بينما النساء كانت تشاهد يوم مولده لحظن حزنه، فرحن يعطرنه بعطر السعادة، وعاد يضحك يقبل تلك ويحضن تلك.
كان هذا اليوم هو يوم الجمعة الخامس والعشرين من يونيو. أربعة أشهر مرت على مروان وهو يمرح في عالم السعادة، بينما أمه غصون تعيش في عالم التعاسة، هي الوحيدة التي تمكث بجواره طوال اليوم، رغم تلك الرائحة التي تفوح من تقرحات جسده التي تزداد يوما بعد يوم. عملت بنصيحة الشيخ قارئ القرآن، وأحضرت ساحرا يفتش في البيت، إلى أن أظهر ورقة طويلة مطوية، وقال لغصون: «ابنك مسحور، ولا بد من فك السحر. عليكم بذبح تيس أسود، وإذا لم ينفك السحر، فلا بد من محضر أرواح، وطرد الروح الشريرة التي سكنت جسده، ولن تجدي محضر الأرواح الجيد إلا في الحبشة. وراحت غصون ترجوه بأن يحضره.»
اجتمعت الجدة بالأولاد، أخبرتهم عن ضرورة حضور «محضر الأرواح» من الحبشة. لم يوافق الأبناء، فغضبت وأخبرتهم بأنهم لا يريدون أن يدفعوا المال لعلاج أبيهم، ولم يعودوا يرون أن المال ما زال ملكه. قال علي: يا جدة، هذه شعوذة! - المستشفى ما قدرش يعالج ابني، والذي يقرأ القرآن ما قدرش، والساحر ما قدرش .. ما عاد في إلا محضر الأرواح. هو شيعرف أيش من روح شيطانية سكنت ابني. كل هذه الفلوس التي معكم هي فلوس ابني.
12
كانت غصون تبحث عن وسيلة لشفاء ابنها، وفي الوقت نفسه كانت مريانا في عالم مروان الآخر تخفف عنه حزنا طرأ عليه. تخبره أنه الآن في الجنة حسب ما يرى والسعادة من حوله، ولا مكان للأحزان في الجنة، ففي هذا العالم لا شيء فيه يحزننا، نحن نعيش في سعادة دائمة، حتى من يموت لا نبكي عليه؛ فقد عاش سعيدا، غير محروم من أي شيء، عاش جنته في حياته محبا للغير، الحب هو جزء من الجنة. أما في زمانه فعاش الإنسان عالم المادة، لم يعش عالم الروح، عاش بأقنعة عديدة مصابا بانفصام الشخصية والأمراض، لم يجد الهدوء والاستقرار الداخلي، كانت تسوده ثقافة الكراهية. في هذا العصر استطاع الإنسان أن يوفق بين رغبة الجسد والروح، وجعل كلا منهما يعشق الآخر، ووصل إلى «العالم الفاضل». كان بروسي يشاهد معهن. ابتسم وقال: لقد بدلوا عقل كريم، الجسد جسد كريم، لكن العقل ليس عقله!
قال مروان: لماذا لم يصدق بروسي مثلكن أنني مروان؟! - هو مبرمج على معلومات سابقة، وأنت كنت كذلك مثله! - لكنني الآن تغيرت. - وهو كذلك يمكن أن يتغير ببرمجة أخرى تجرى له.
ذهب الجميع إلى عالم المتعة وقعد مروان أمامهن، ورحن يتناوبن معه للقاء الروحي واحدة تلو الأخرى، فأخذته المتعة الروحية إلى الذوبان في الوجود.
الفصل الرابع
الكون جسد عملاق، يموت ويحيا.
1
لم تنم النسوة جيدا تلك الليلة، فقررن ألا يمضغن القات مرة أخرى، استيقظن من النوم بصعوبة، وذهبن إلى العمل دون أن يؤدين التمارين الرياضية المعتادة. قام مروان من فراشه وذهب إلى النافذة، ملأ رئتيه بالنسيم العطر. تحدث مع نفسه بصوت مرتفع: «هذه هي الحياة، عالم يتمتع في كل لحظة من حياته، حتى العمل يرى فيه متعة، لم تأخذ حورياتي عطلة بمناسبة زواجهن بي، عالم يقدس العمل.» سأل بروسي عن العطلة الأسبوعية فرد بروسي: لقد غيروا دماغك يا كريم، نسيت كل شيء، العطلة يوما الثلاثاء والأربعاء من كل عاشور، وأظنك نسيت أن العاشور عشرة أيام في الشهر، وهناك ثلاثة أيام عطلة لرأس سنة «الإنسان الجديد». أظنك سترهقني بإعادة ذاكرتك يا كريم.
ذهب بروسي ليجمع القمامة في المنزل، ويضعها في المحرقة ثم وضع الرماد في قالب خاص. أما مروان فاغتسل وجلس يتناول إفطاره النباتي، أحس أنه لم يشبع، فطلب المزيد من خبز الطحالب البحرية، وشرب كوبين من الحليب الممزوج بعصير التفاح. قال بروسي: «أظنهم غيروا معدتك أيضا، أصبحت نهما على الطعام، وعضو تلقيحك صار ينتصب كثيرا، هل غيروه أيضا ؟!»، ثم سأله: لماذا لا تقوم بتمارين الصباح؟ - لا أحبها. - ماذا تقصد؟! - أنا كسلان يا صاحبي فقط. - ماذا تعني كلمة كسلان؟ - ياه .. أنت لن تفهم. - أنا أفهم، إنما صارت كلماتك غريبة يا كريم! - سأضيف كلمة كسلان إلى قاموسك «كسلان»، هي تعني أنك لا تقوى على عمل شيء ما، وفي الحقيقة هي تعني عدم الرغبة بالقيام بذلك العمل. - لست أدري أيهما أضيف؛ لا تقوى، أم عدم الرغبة، «ربشتني».
1
ضحك مروان وقال: متى تعلمت هذه الكلمة «ربشتني»؟ - قلتها أنت فحفظتها وحللتها من حديثك، وعرفت معناها، وأيضا سمعتك تقول كلمات غريبة .. أنت ستفسد هذا المنزل. من أين جاءوا لك بهذا الدماغ؟! أظنك آليا مثلي، لكنك مطور أكثر مني. سأتأكد بنفسي.
اقترب بروسي من مروان، وقبض على ساعده الأيمن بقوة مما أخافه، ونظر في عينيه، وقال: «لا .. أنت بشر، ولست هيوموروبوت.» لم يغضب مروان من بروسي، فالغضب والكره لم يعد لهما مكان في قلبه. حدث مع نفسه بصوت عال: «لا فرق بيننا وبينهم سوى أن البشر روحهم من عند الله، بينما الهيوموروبوت روحهم من طاقة.» فسأله بروسي: ما معنى الروح؟ - ولو أنه ليس لهذه الإجابة ضرورة؛ لكن لكي تضيف شيئا جديدا إلى قاموسك. الروح هي الكائن الحي نفسه والجسد قالبها، وهي من عند الله، وهناك من يراها أنها طاقة تحرك البدن حتى تنفد تلقائيا، أو بتدخل خارجي مثل القتل والمرض، فيتحول الإنسان إلى جثة هامدة نتنة.
ثم مشى مروان في الصالة ذهابا وإيابا يضرب يدا بيد، يحدث نفسه بصوت عال: «أظنني في حلم سأصحو منه، يمكن أن توقظني قذيفة أخرى أو صاروخ على جبل عطان. ترى هل الحرب ما زالت مستعرة في البلاد؟ فنهايتها ليست بيد المتحاربين أنفسهم، وكل مخدوع في أمره.» تدخل بروسي مرة أخرى يسأله: «ما معنى حلم؟!» أخبره مروان ماذا تعني تلك الكلمة. سأل بروسي مرة أخرى: هل ممكن أن يحلم مثل البشر؟ أخبره مروان بأنه إذا نام مثل البشر، يمكن أن يحلم. تحدث بروسي: أنا أنام مثل البشر، وأصحو بدقة عالية أفضل منهم. سأحاول أن أحلم هذه الليلة.
2
جلس مروان يبحث في القنوات الفضائية التليفزيونية ، فوجد قناة مأرب، وقناة الربع الخالي .. فرح كثيرا حين شاهد ما لم يكن يحلم به. شاهد المروج الخضراء والأنهار تجري في الربع الخالي، فهتف بفرح: «نعم، عادت أرض الجنتين، وصار الربع الخالي مروجا وأنهارا، لا بد من زيارتهما.» ثم وجد قناة مأرب وقناة تعز الفضائية .. قام وهو في غبطة ينظر من النافذة إلى الأبراج العالية، وهي تبدل حلتها والمركبات تسبح في الهواء. رأى شاشة تليفزيونية عملاقة فوق جبل نقم تعرض إعلانات لمركبات طائرة، ماركة تبع 4 تطير في سماء المدينة كأنها مركبات حقيقية، وإعلانات لتكنولوجيا جديدة يؤديها رجال بأبعادهم الثلاثية، يسرحون فوق سماء المدينة، كأن هناك مدينة معلقة فوق مدينة صنعاء تظهر وتختفي.
لم يصل مروان منذ أن انتقل إلى عالمه الفردوسي؛ فقد كان يخيل إليه أنه في الجنة، وكما قيل له إن فروض العبادة في الدنيا فقط. ذهب وتوضأ، أدى الأذان بصوت مرتفع فسمع الجيران، وكذلك المسعفون ذوو الأجنحة الطائرة، فهرعوا إلى سكنه ليقدموا المساعدة .. تجمعوا حوله ينظرون إليه في صمت، يتعجبون لما يقوم به وهو يصلي .. بعد أن أنهى صلاته رحب بهم .. ابتسم أحدهم وهو ينظر إلى صدر مروان. سأله عما إذا كان الشعر الذي في جسمه مزروعا، أم أصيب بمرض معين؟! وآخرون سألوه من أين تعلم تلك الرياضة؟ أخبرهم بروسي ليعودوا إلى منازلهم، فذهبوا جميعا، إلا فتاة جميلة بقيت في المنزل، وضعت يدها على شعر صدر مروان؛ للتأكد من أنه طبيعي. تألم مروان وهي تشد شعره بقبضتها. سألته: هل ممكن أن نتلاقى روحيا؟ رد قائلا بأنه ممكن بعد أن تكوني ملك يميني الرابعة. وجدها لم تفهم فأخبرها بأن تكون الشريكة الثامنة له. تعجبت الفتاة من طلبه! وأخبرته بأن هذا لا يمكن، وبأنه نسي النظام. ثم إن اللقاء الروحي لا يرفضه الرجل مع أي امرأة تطلبه منه.
تقدم بروسي واعتذر للفتاة، وقال لمروان: «لب رغبتها.» عادت النساء من العمل مساء، وهو في لقاء روحي مع الفتاة، وعند الانتهاء ودعنها وداعا لطيفا. ومروان مندهش من سلوك حورياته، الذي لا يظهر وجودا للغيرة!
3
قامت بعض النساء تعد طعام العشاء مع بروسي، وجلست الأخريات بجانب مروان وهو يسألهن عما يحيره، كيف تجتمع سبع نساء معا؟ أخبرته سريانا بأنهن يتصادقن أولا، ثم يعقدن عقدا اجتماعيا، ويسكن معا ثم يبحثن عن رجل ليكون شريكهن، ويعطينه ما شاء إذا طلب ذلك .. فالنسوة اللاتي يدفعن للرجل مقابل الارتباط بهن. ونحن التقينا معا في البستان الخيري لمدير المدينة، نبيلة فاتن الزبيدي، وسكنا معا وكونا أسرة مع كريم نورين الذي اختفى، وظهرت أنت بدلا عنه. سألها: وإذا أحبت امرأة رجلا أعجبها، فهل ممكن أن تتزوجه؟ - لم يحدث مثل هذا؛ فهذا يعد عملا أنانيا، ويعاقب عليه القانون بطرده إلى جزيرة الشواذ، في هذا العصر كل يحب الآخر كما يحب نفسه.
ثم جلسوا لمشاهدة فيلما رومانسيا يتحدث باللغة العالمية الجديدة. أخبرهن أنه يشبه الأفلام الأمريكية، أخبرته فرضانا بأنه من إقليم أمريكا، وعرف أيضا بأن أمريكا لم تعد تهيمن على العالم، ولم يعد هناك أي نوع من الأسلحة. وأضافت قائلة: أظنك تعرف أن الأرض تعرضت لكوارث طبيعية عدة. منها العصر الجليدي وطوفانات عدة في العصور القديمة، وهناك كارثة بسبب الإنسان في العصر الحديث. قبل الإنسان الجديد «100ق.ج.» انفجرت غواصة نووية انشطارية يابانية، تحت ثلوج القطب الجنوبي بسبب زلزال مدمر حدث هناك في منتصف القرن الأول، وغرقت معظم سواحل اليابسة، وهلك الكثير من البشر. وكان هذا نهاية العصر الهمجي الذي كان فيه الرجل يسود، المتسبب في أكثر من خمسة آلف حرب كبرى في العالم.
عرف مروان أنه لم تعد هناك مشاهد عنف مثل: حلبات مصارعة، ملاكمة، رياضة تنافسية .. تنمي العنف والزهو بالأنا. لعبة كرة القدم لم تعد بين البشر، بل بين الهيوموروبوتات. والبشر هم المشجعون والمتفرجون على اللعبة.
4
ذات صباح في يوم العاشور، قامت النسوة في وقت متأخر، وكان مروان في ذلك الوقت قد أدى صلاة الفجر، وأخذ يدعو النسوة إلى الصلاة فاقتربت ناريس ذات الخمسة والثمانين ربيعا منه، وراحت تمرر أصابعها بين منابت شعره. تخبره أن عبادة الله تكمن بالعمل الخير وحسن السلوك، وأخبرته بأنهم شاهدوا طرق عبادة للعالم القديم في متحف التراث الروحي الإنساني، يظهر جوانب المسيرة الفكرية والثقافية والعقائدية لمختلف شعوب العالم القديم. كديانة المايا القديمة التي اعتقدت أن هناك عوالم أخرى سكنت الأرض ودمرتها الفيضانات. وكانت الأضاحي للإله بشرية، واعتقدوا أن أرواح الموتى المحاربين في القتال المقدس لأجل الآلهة ترتفع إلى السماء؛ حيث الجنة (الموت المقدس)، ويرون أن الروح بعد الوفاة تبدأ برحلة إلى العالم السفلي، ولديهم نبوءات متشابهة تتعلق بشأن علامات النهاية لهذا الكون، مثل الشعوب الأخرى: الأزتك والإنكا والهوبي، والديانات الإبراهيمة.
سخر مروان مما سمعه وقال: «أنا لا أصدق» ونشأ قبس من الغضب فيه أول مرة بعد لقاح الأديان! مما أدهش مريانا الرقيبة على أفكاره، فلم تتوصل إلى شيء، ولم تر أن فعالية اللقاح بدأ يقل مفعولها في مروان. قال بروسي لمروان وقد كان يشاهد معهم: أترى يا كريم، كيف كان العالم القديم لا يستطيع أن يعيش دون إلهه؟ لكنه كان غبيا حين يرى أن الإله يشبه البشر جسديا، وله زوجة وأولاد. أليس كذلك يا زنوة؟
قالت مريانا لبروسي: من أين أتيت بهذه الشتيمة؟! - أخبرني بها كريم، أظنه سيفسد أخلاقي.
في المساء كانت النسوة في حالة رعب وخوف لأول مرة في حياتهن، وهن يشاهدن ما سجلته ذاكرة مروان من أفلام وثائقية عن الحرب العالمية الأولى والثانية، وحرب الخليج العربي .. فتوقفن عن مشاهدة تلك المشاهد. قال بروسي لمروان: «ستفسد هذا البيت يا كريم، وستنفى إلى جزيرة المنبوذين!»
تلك الليلة لم ينم مروان جيدا؛ فقد احتسى الكثير من شاهي القات، يفكر بما قاله بروسي عن جزيرة المنبوذين، ورأى أنه لم يكن مؤمنا حقا في حياته، وأن عبادته لم تكن إلا نفاقا أمام ربه. أما نساؤه فقد نمن جيدا بجواره. في منتصف تلك الليلة قام مروان مفزوعا من حلم، وهو يهتف: «أعوذ بالله من الشيطان الرجيم» عدة مرات .. استيقظت حورياته، يسألنه بخوف: ما معنى كلمة شيطان؟! أخبرهن عنه .. واستغرب أن مثل هذه الأحلام لم يعد لها وجود.
5
في الصباح ذهبت النساء إلى العمل. أخذ مروان إفطاره وهو عريان، يشعر بحرية وبهجة، شيء لم يعمل مثله في حياته. فكر في الخروج ليرى المدينة، فقد أصابه الملل من وقوفه أمام شاشة التلفاز يشاهد العالم الجديد. عادت النسوة من عملهن وهو يسرح عريانا في المنزل. طلب منهن ممارسة اللقاء الروحي فسعدن بذلك. قدم بروسي وجبة العشاء، وقال للنسوة: مروان كان عضوه منتصبا ثم ذهب إلى الحمام، وعاد قد انكمش.
ضحكت النسوة. وسألته ريحانة: ماذا عملت في الحمام؟!
أحس مروان بالخجل، كان لا يتوقع أن آلة تفضحه، فشتم بروسي في نفسه، وقال لها: قذفت بذخائري المتراكمة هناك. لكنني لم أحس كلذة اللقاء الروحي.
تفاجأ مروان في قول ما يخجله، ولم يخف ذلك العمل القذر. ثم راحوا يتفرجون على التليفزيون، كانت هناك مسابقة تجري في الطبخ بين العديد من الهيوموروبوتات.
ذهب مروان إلى الحمام، بينما النساء جلسن يشاهدن فلم ذاكرة مروان؛ علهن يجدن شيئا مسليا. شاهدن حفلا كبيرا في صالة كبيرة، فيه أناس كثر يستمعون لرجل يخطب فيهم. ثم شاهدن رجلا يقوم من مكانه، يرتدي قميصا عليه معطف، ويعتمر شالا حول رأسه، ويحتزم بخنجر. وقف أمامه رجل آخر في السبعين من عمره، يرتدي بدلة أنيقة. أخرج مسدسا وقال له: «خذ أيها الكافر!» وأطلق عليه الرصاص أمام الجميع. ذهلت النساء، وأوقفن مشهد القتل حتى عاد مروان من الحمام؛ ليعرفن من ذلك الرجل البريء الذي قتلوه أمام العالم، وعدسات البث التليفزيوني تصور المشهد. وقف مروان أمام الشاشة وقال بأسف: إنه «جار الله عمر»، قتلوه في حفل ذكرى تأسيس التجمع اليمني للإصلاح. يا للأسف! - ولماذا قتلوه؟! - ليفتخر القتلة بأنهم قتلوه أمام العالم. - وهل يفتخر القاتل بقتل الآخر؟! - نعم، يرى نفسه بطلا مقداما، لا سيما لو كان يقاتل من أجل نصرة الرب. - وهل الرب يحتاج إلى من ينصره؟! كيف يكون ربا إذن؟! يمكن للشخص أن ينصر شخصا آخر.
6
نام مروان تلك الليلة دون ممارسة اللقاء الروحي، استيقظ في الساعة العاشرة صباحا. قال له بروسي: «كل يوم والكسل يزداد فيك يا كريم، أصبحت غريب الأطوار ولم تعد تذهب إلى العمل.»
لم يغضب مروان من مناداته باسم كريم، يرى أن بروسي آلة مبرمجة مسبقا، وقال له: «لا عليك يا صديقي، أنت تشبه الكثير من البشر في حياتي السابقة.»
ذلك اليوم لم تذهب مريانا إلى العمل؛ أثناء إجازة الدورة الشهرية لمدة ثلاثة أيام في الشهر. فرح لبقائها، وسألها عن أمور يجهلها، من ضمنها عن عمل الجامعات والمدارس، اندهش حين قالت له: لم يعد هناك بناء خاص للمدارس أو الجامعات؛ فالتعليم أصبح عبر القنوات الدراسية الفضائية، تبث دروسها وتجاربها العلمية وامتحاناتها للعالم أجمع باللغة العالمية الموحدة، حتى ولو كان الطالب في الحديقة أو مسافرا، فكل إنسان يحمل قلمه الدراسي الخاص، يتواصل مع الجامعة أو المدرسة في أي وقت، والتعليم ارتقائي وليس محض خزانة للمعارف، وهناك اهتمام خاص بالأذكياء. - ألا يوجد غش في الامتحانات؟ - ماذا تقول؟! غش! لم أتصور أن تقول هذه الكلمة وقد أخذت اللقاح الديني، فالغش فرع من فروع الكذب، وجزاء الكاذب هو النبذ من المجتمع إلى جزيرة الشواذ.
عادت النسوة من عملهن مساء، وأثناء تناولهن وجبة العشاء، سألهن عن الأماكن الترفيهية كالمسارح والسينما والملاهي .. وتفاجأ بأنهن لم يعرفن ما معنى تلك الكلمات، حين أخبرهن عن تلك الأماكن، أخبرته سناء أن تلك الأماكن لم يعد لها وجود. وأن السعادة لا تجلب من خارج الجسد بل تنبع من الداخل. ثم سألنه أن يحدثهن عن حكايات حدثت أمامه مؤخرا في عالمه. فحدثهن عن الربيع العربي، الذي تحول إلى الصقيع العربي، ضد الجمهوريات الملكية .. توقف مروان عن سرد حكايته الطويلة، بعد أن لاحظ أن حورياته قد نمن في الصالة ما عدا سيرينا لم تنم. في الصباح قال بروسي لمروان: «يا كريم، ستفسد نظام هذا المنزل، ماذا جرى لك؟! أظن أن فيروسا أصابك!»
خلال الأيام الثلاثة التي بقيت فيها مريانا في البيت لم تطلب من مروان أن يمارسا اللقاء الروحي وحدهما. حين سألها عن ذلك ردت قائلة: «حينما تختفي الأنانية في المرء لا يفكر إلا في مصلحة الجميع، ولو طلبت منك ذلك؛ سأعاقب نفسي على طلبي الأناني! ثم إنني أمارس ذلك مساء معك أمام الجميع.»
كانت مريانا تكتم حبها لمروان الذي بدأ يطرأ عليها. تشعر أن الأنانية التي بدأت تطرأ على مروان، وهي تراقب أفكاره انتقلت إليها هي أيضا، وتحاول جاهدة أن تقهر سيطرة الأنا فيها.
في ذلك الصباح ومروان يقبل نساءه واحدة تلو الأخرى، كانت أمه في الوقت نفسه تستقبل رجلا حبشيا، يدعى «فنحاس»، يحضر الأرواح. وقف فنحاس أمام مروان، وهو يسد أنفه. وأشار إلى معاوية بزيادة المبلغ المالي، وطلب منه بألا يبقى بجواره أحد غير أمه فقط. راح فنحاس يتمتم بكلام غير مفهوم، ويهتف بصوت عال وهو يمرر يده فوق مروان: «أيتها الروح الشريرة، اخرجي من هذا الجسد!»
كانت الأم تسمع صوتا أجش مخيفا: لن أخرج منه حتى يكتمل نموي! - ستقتل هذا الآدمي يا لعين! - هكذا الفرخ يخرج من البيضة. - وهل أنت فرخ ومروان بيضة؟! - نعم، لقد زرعني أبي في هذه البيضة. - سأحرقك بالنار. - لن تقدر.
قال فنحاس للأم: «لو أحرقنا إصبع رجل مروان الصغرى، ستخرج الروح الشريرة منه. دعينا نحرقه قليلا.» بكت غصون وقالت: «لا تحرق حتى شعرة واحدة من ابني، حتى ولو كان جثة هامدة.»
وضع فنحاس يديه على رقبة مروان، وضغط عليها، يهتف: «ستخرج أيها الشيطان وإلا سوف أخنقك وتموت معه.» سمعت غصون صوتا أجش مخيفا يقول: «لن أخرج» ضغط فنحاس أكثر وكاد يقتل مروان، وما زال الصوت يردد: «لن أخرج!» أخيرا قال: إذا خرجت فسوف أدخل فيك أنت. - لن تستطيع. - سأدخل جسد أمه.
قالت الأم: اخرج يا لعين يا ابن اللعين. المهم تخرج من جسد ابني.
سحب فنحاس المسجلة سرا التي وضعها في الجانب الأيسر من مروان، وقال للأم بأن عليها أن تذبح تيسا أسود، وتمسح بدمه جسد مروان. اتصلت حميدة بمنير بأن يشتري تسيا لوجبة الغداء، فاشتراه على نفقته الخاصة، وفكر في إخبارهم في أمر الزواج.
خرج فنحاس من البيت بعد أن تناول غداء دسما. حدث منير الأسرة بأنه جهز نفسه للزواج، وحجز صالة للعرس بنصف الثمن .. خرج وهو سعيد بموافقة الأسرة على رغبته، حتى الجدة وافقت وهي تقول: يمكن أن يشفى ابني حين تدخل السعادة بيته.
7
ذات يوم استيقظ مروان من نومه في عالمه الفردوسي متأخرا كالعادة، وجلس على الكنبة، أغمض عينيه، ومرت في مخيلته تلك الفتاة الجميلة التي حضرت يوم أن قام بالأذان للصلاة في المنزل، وتمنى لو يلقاها مرة أخرى. فتح عينيه بعد بضع دقائق ورآها أمامه. اندهش أيما اندهاش، وأخذ يرحب بها ثم راحا يمارسان اللقاء الروحي معا لمدة ساعة. ذهبت الفتاة دون أن تخبره عن سبب حضورها. أما مروان فاعتبرها صدفة؛ فغير معقول أن تتحقق أمنيته قبل أن يرتد إليه طرفه. اغتسل مروان ثم خرج من الحمام، ووجد بروسي يشاهد الدليل السياحي وهو يمشي في الصالة. وقف متعجبا من آلة صنعها الإنسان تحاول تثقيف نفسها! سأله: ماذا تشاهد يا صديقي؟! - الديانة الطاوية. - ولماذا، هل تريد أن تتدين يا صديقي؟! - أثقف نفسي مثلكم يا بشر.
مشى مروان في الصالة، واخترق الدليل السياحي وهو يتحدث، فأحس كأنه اخترق كتلة ماء، حتى إنه شعر بصعوبة في التنفس. عاد يجلس بجوار بروسي وهو في دهشة من أمره، كيف يصير الطيف كثيفا لهذه الدرجة؟! ثم راحا معا يشاهدان متحف التراث الروحي لمقاطعة «بكين»، وهي الطاوية: كانت الطاوية ثاني أكبر ديانة في مقاطعة بكين، تعود نشأتها إلى القرن «26ق.ج.» أي السادس 507ق.م. تبلورت على يد الفيلسوف «لاو تسو». أتباعها كانوا يرون أنه إله نزل من السماء «أفتار»، كما كان الهندوس يرون ذلك. أحد أتباع طاوي اسمه (شانغ طاوي لنغ)، قال إنه جاءه وحي من السماء بشأن إصلاح الدين الطاوي، وصارت سلالته هم المعلمين السماويين للديانة. استمرت سلطتهم مدة ستمائة سنة في مقاطعة بكين المعروفة ببلاد الصين سابقا، كانت لهم سلطة على الحياة السياسة. كتابهم المقدس يشمل قصصا عن بشر يستطيعون الطيران، لا يتأثرون بالعناصر الطبيعية البرودة والحرارة، وانعدام الهواء.
تساءل مروان: «هل يقصدون الملائكة؟ .. ولديهم خلفاء أيضا. ثم كيف تدعي سلالته الحق السماوي في الحكم؟!» قام غاضبا وذهب إلى غرفة النوم، وعاد بعد ربع ساعة إلى بروسي، وهو لا يزال يسمع الدليل، ثم سأله عن الخروج للتنزه.
خرج مروان وبروسي للتنزه معا، مشيا بين أشكال مختلفة من البشر والآليين. أبدى استغرابه لكثرة كبار السن، سأل بروسي عنهم، فأخبره أن هؤلاء بشر أغلبهم متقاعدون بعد بلوغهم سن التقاعد 200 عام من العمر. كانت البسمة مرسومة على شفاه معظمهم، وهم يمشون في شارع «عبد الحكيم سماح الجوفي» عالم فيزيائي. أخبره بروسي أن أسماء الشوارع لا تسمى بأسماء الأحياء. شاهد مروان معارض أزياء تخلو من أزياء الزهو، ومساحيق الجمال والزينة.
حفظ مروان الشارع الذي يسكن فيه، برج رقم 26 الدور العشرون شقة 4. جلس بجانب حديقة صغيرة وسطها نافورة تعلو وتنخفض مياهها، حسب نغمات موسيقية، وهناك كتل مائية في الجو واقفة تسبح فيها أسماك جميلة، وأطفال ينظرون إلى تلك الأسماك، يتحدثون بهدوء، وبجانبهم امرأة كبيرة في السن. سلط أحدهم الضوء على وردة ففتحت أكمامها ثم أبعد الضوء فأغلقتها. أخافت مروان مركبة وقفت فوقه بمسافة قريبة، لا يسمع لها صوتا. مدت خرطوما ضوئيا وسحبت رجلا إلى الأعلى، وشاهد مركبة أخرى تنزل صندوقا أمام باب معرض، وأطفالا ينظرون نحو شاشة معلقة في الجو فيها منظر خليع.
كبت مروان غضبه وبدأت شرارة الغضب تنمو فيه. ذهبا يمشيان في شارع عالم النانو بات «عبده وردة قباطي» بين صفين من الورود، كلما حاول أن يمسك إحداها تفتح أكمامها، وتفوح رائحة عطرية. وشاهدا نافورة رائعة تتشكل بأشكال عدة. سأله مروان: هل يوجد مثل هذه النافورة في أماكن أخرى؟ - نعم، في شارع «مجيب مريم نادية» وشارع «شان شون صفية» وشوارع أخرى.
قال بروسي إنه حلم في الليلة الماضية بأنه إنسان. ضحك مروان عاليا، وسمعه من كان حوله. حاول بروسي أن يسكته فازداد مروان ضحكا، اجتمع الناس حوله مستنكرين لضحكه، فجأة حضرت شرطيتان، إحداهما بملامح صينية وأخرى تبدو يمنية، وقادتاه إلى مكتب مراقبة السلوك.
8
وصل مروان إلى قبة مرتفعة، فراشها وثير، بها كنبات عديدة، وزجاج شفاف يفصل المكاتب فيما بينها، والهدوء يسود المكان. رحب المركز بمروان كضيف يزورهم. لم يشاهد العلم اليمني يرفع؛ بل شاهد العلم الأخضر الذي يشاهده في أماكن أخرى. عاد يشك من جديد أنه ليس في صنعاء. أين العلم الذي ضحى اليمنيون من أجله .. رحبوا به وقدم له عصير الفاكهة. ثم أقبل رجل بملامح عربية يبتسم، وسأله بلغة لم يفهمها مروان، فأخبره بأنه لا يتحدث غير اللغة العربية. تفاجأ الشرطي وقال وهو يبتسم: اللغة العربية هي لغتنا المحلية، لم نعد نتحدث بها كثيرا، لكننا نحافظ عليها كإرث حضاري عالمي .. إنك رجل غريب فعلا في سلوكك. ألا تعرف أن الضحك العالي في الأماكن العامة ممنوع؟!
فكر مروان وعلى شفتيه بسمة ساخرة: «يا سلام أظنني في كنيسة، ولست في مكتب شرطة، حتى تصميم المكان هذا يشبه الكنيسة. هل هذا الشرطي يمزح معي، لا يمكن أن يكون هذا المكان قسم شرطة!» سأله الشرطي: ما اسمك؟ - كان اسمي مروان ناجي مدهش الراعي، والآن أنا مروان غصون سعيدة.
فتح الشرطي شاشة في الهواء، وقرأ فيها وقال: «نعم، لقد أخذت مكان كريم نورين الذي شطب اسمه من السجلات. أظن أن جرمه كبير .. اسمك الآن: مروان غصون سعيدة. العمر: 560 سنة. تاريخ الميلاد: 1 /1/ 250ق.ج.! ظهر فجأة، خال من أمراض عصره، لقح بلقاح الأديان.» تبدو شابا وأنت في هذا العمر! كيف بقيت إلى هذا العمر؟! ما هو نوع غذائك؟ أنت حالة نادرة. ثم تابع الشرطي بحثه في شاشة الحاسوب في الهواء، وأخبره بأسماء شريكاته وعنوانه. فجأة أقبل رجل شاب في العشرين من العمر، ووقف أمام شرطي مراقبة السلوك يعترف بخطيئته بأنه سخر من فتاة.
أخبره الشرطي بدفع عشرين دورال. وبما أنه لا يزال طالبا خصمه من رصيد والدته رانيا شيرين جيتا. كان مروان مستغربا لمجيء الشاب للإقرار بذنبه (عقوبة السخرية). وخلال حديث مروان مع الشرطي أتي فتى في العاشرة من عمره ، وفي يده حقيبة، وقال إنه وجدها في الشارع، لم يعرف لمن. ومن خلال صورة المرأة التي التقطتها عدسة الكاميرا، تم التواصل مع مالك الحقيبة. سأل مروان: أهذا هو عمل القسم فقط؟ - نعم، لا يأتي إلى هنا إلا من لا يعرف جزاء خطئه، أما الذين يعرفون جزاء أخطائهم فيدفعونها من حساباتهم مباشرة. أراك لا تعرف عن عالمك الكثير كأنك غريب عنه. هل كنت تعيش في أدغال الربع الخالي، أم تسللت من جزيرة الشواذ؟!
9
في إحدى عطل العاشور الشهري، حضرت البروفيسور ماري حنان صباحا إلى مروان في سكنه. رآها فتاة في مقتبل العمر، كان ذلك اليوم يشعر بسعادة أكثر؛ فقد أخبرته النساء بأنهن سيدعونه قريبا لتلقيحهن لحياة جديدة. حينها شعر مروان أنه أصبح فردا من هذا العالم، الذي يراه مؤمنا بالله دون دين معين .. تحدثت البروفيسور مع النسوة بلغة العالم الجديدة، ثم أخذت تتحدث مع مروان في أمور شتى .. وكان هناك سؤال يتلهف مروان لمعرفة جوابه، وهو كيف استطاع لقاح الأديان أن يؤثر في البشر كل هذا التأثير، ما لم تستطع عليه جميع الأديان. سؤال لطالما حيرني. ابتسمت ماري، وأخذت تخبره بأنهم قاموا بتعديلات الجينات في كروموسوم
DNA
المسئول عن السلوك؛ للحصول على سلالة بشرية جديدة، واجتازوا مئات السنين التي كان سيأخذها الإنسان ليصل إلى هذه المرحلة المثالية، نتيجة التطور الثقافي من خلال الدراسة للخارطة الجينية في الكروموسوم. اكتشفوا الجينات الأنانية والإيثارية، وأن الجين الأناني هو المهيمن؛ لهذا نحن كنا نولد أنانيين بالفطرة، وتدفعنا تلك الجينات لنقلها إلى أولادنا. تتحكم بالجسد بصورة غير مباشرة، وتحث الجسد أن يفعل ما هو أفضل للبقاء. لا يهمها الوسيلة؛ لذلك فالسلوك يخضع لسيطرة الجينات، وتمارس سلطتها عن طريق الجهاز العصبي، فهي صانعة السياسة الأولية، والدماغ هو المنفذ. قام العلماء بمحاكاة الانتخاب الطبيعي (البقاء للأفضل)، فتم إضعاف الجين الأناني، لصالح الجين الإيثاري الذي يبرز فجأة في الإنسان، فيضحي الإنسان بنفسه من أجل الآخر. واكتشفوا أيضا الجينات المسببة للشيخوخة، والأمراض الخطيرة كالسرطان والسكر وغيره.
ابتسم مروان وكان وجهه مشرقا وقال: لقد حققتم للإنسان ما كنا نحلم به، لقد جعلتم النفس اللوامة تسيطر على النفس الأمارة بالسوء، حتى وصلتم إلى النفس المطمئنة. كنا نحن نتحدث كثيرا ونعمل قليلا.
قدم بروسي كأسا من عصير التفاح لماري حنان الذماري، وجلس يسمع مع مروان وهي تضيف قائلة: كان لقاح الأديان يعطى للجنين عبر البلاسنتا للأم الحامل، بعد أن رزحت البشرية عهودا تحت سيطرة الأنانية. كان يعتقد في العصور القديمة أن الشيطان هو الذي يدفعهم إلى السلوك الخاطئ، والحقيقة هي الأنانية. وهكذا يا مروان كان الحكام أكثر الناس أنانية ونرجسية من غيرهم، تتضخم فيهم الأنا حين يكونون في سدة الحكم. أليس كذلك يا زائرنا العجيب؟ الأنا تجعلنا نخاف من الشيء الجديد، وتذكرنا بالماضي القديم المؤلم .. عندما نحب الغير هذا دليل على موت الأنا فينا، التي هي عبارة عن سجن للفرد، تحميه من كل شيء، تبقيه أسيرا لديها يعيش في جهل وظلمة وتبعده عن المحبة .. لا تسمح لأن يكون الفرد هو ذاته، فهي كالجدار إذا نفذ المرء منه تحرر من سيطرتها، وأصبح حرا طليقا، وليس عبدا لها.
سألها بروسي: هل وضعتم فينا نحن جينات وراثية؟!
ضحك الجميع فشعر بروسي بالخجل، ثم قال: سنصنع لأنفسنا يوما جينات مثلكم يا بشر.
ثم ذهب إلى المطبخ. قال مروان: ديننا أتى بتعاليم تسمو بالبشر كهذا اللقاح. - فعلا كانت الأديان نقلة جديدة في الحضارة الإنسانية، جاءت لتهذيب السلوك البشري، وكان الدين مكونا من روح ومادة معا، كما هو الإنسان من روح ومادة. إذا ذهبت الروح فسدت المادة أيضا. ومع مرور الزمن كانت الروح تتلاشى تدريجيا في الدين وتبقى المادة؛ لأن الأديان جميعها لم تستطع أن تهذب الأنا عند الإنسان في العصور قبل الإنسان الجديد، لم يكن الإنسان يعرف أن الكراهية والكذب والحسد والغضب والظلم والغرور وحب التملك تقلل من عمر الإنسان. وبتلقيح الأديان أطلنا عمر الإنسان في هذا العصر بطرق كثيرة، ليعطى فرصة للعطاء أكثر مما تعلمه من الحياة، عكس مدة العمر القصيرة التي يحاول فيها الإنسان السعي خلف ملذاته ومتعته.
قامت ماري حنان تجلس مع مريانا على انفراد، سألتها عن سلوك مروان وتفكيره، وشددت على مراقبته، وأخبرتها عن إمكانية أن تنتقل إليها الأنانية إذا عاودته فجأة، عن طريق الشريحة البيولوجية المشتركة بينهما التي زرعت في دماغيهما.
قضت ماري وقتا ممتعا معهم، وذهبت وهي تثني على اللقاء الروحي مع مروان. قالت ضاحكة عند خروجها: «هنيئا لكم بكنز المتعة.» طلب بروسي مشاهدة عالم مروان القديم، فضحك مروان وقال: «هل تريد أن تتثقف؟» - نعم. نريد أن نتثقف كالبشر لنكون أفضل منهم. - ماذا تقول؟! والله إنك مضحك. اصمت قبل أن آتي أطفئك وأجعلك خردة. - لن تقدر، أنا من يمكن أن أطفئ النور في عينيك.
قام مروان وكان يريد أن يتجه إلى بروسي، فأوقفته فرضانا، وقالت: عليك أن تعتذر لبروسي. - أعتذر لآلة من تروس وأسلاك؟ هذا عجيب! أين أنت يا حميدة، ضربتك عدة مرات، ورفضت أن أعتذر لك.
ذهب مروان يمسح على رأس بروسي، واعتذر له، وهو يتمتم في نفسه: «ربما أنا أعيش حلما رومانسيا، فكثيرا ما كنت أحلم بامتلاك الجواري الحسان.»
فتحوا الشاشة لمشاهدة ذكريات مروان، وجلسوا يشاهدون مروان وهو على سيارة نقل كبيرة، كانت تقف أمام مخزن كبير، ثم نزل مروان ليكسر القفل، وراح هو وخمسة رجال مسلحين يخرجون كراتين، وكان يسمع أصوات رصاص .. اعتذر مروان من المشاهدة وهو يكتم غضبه، وذهب يشاهد المطر المنهمر بغزارة على المدينة. لم تعرف النسوة أنه شارك في نهب مؤسسات الدولة في عدن، أثناء دخول القوات الشمالية عدن في حرب الانفصال.
بينما نساء مروان في عالمه الفردوسي يشاهدن فيلم ذاكرته، كان هو في عالم الجحيم على فراش الموت، وابناه معاوية وعلي يتشاجران على انتهاء صلاحية الكثير من المواد الغذائية، تقدر بخمسة ملايين ريال. كان معاوية أكثر غضبا. وفي المساء قبل إغلاق السوبر ماركت هجمت عليهم عصابة مسلحة، وأخذت النقود التي في الخزينة ولاذت بالفرار. اتصلوا بالشرطة التي هي مشغولة بنفسها، تفاعلت معهم، لكنهم لكي يطاردوا اللصوص طلبوا مبلغا كبيرا.
في المنزل رأت الأسرة أن ما تريده الشرطة يساوي المبلغ المسروق. قالت الجدة غصون: لا تدعوهم يسرقونكم مرة أخرى، أنا أعرف من أين أتى أبوكم بمال الدكان هذا. لا تنسوا أن تحتفظوا بالشموع التي عندكم لنا. دخلت الجدة غرفة مروان، وبيدها شمعة مضيئة. ووقفت أمامه تقول: ربنا يكتب لك الشفاء يا ولدي؛ لترى عرس ابنتك ولتستغفر ربك. لم أعلمك أن تحلل الحرام وتفتي بسلب أموال أعدائك.
كانت حميدة قد جهزت ابنتها للعرس، وحجزت صالة بالقرب من القصور الرئاسية، وكذلك منير قد طلب من أصدقائه أن يحضروا بسياراتهم ليزفوه في الشوارع. كان يظن أنهم لن يخرجوا معه أثناء الزفة؛ خوفا من الحرب. كان حضور القاعة قليلا وكذلك قاعة النساء. أثناء خروج العروسين من الصالة ليزفوهم في الشوارع كان هناك حوالي خمسة سيارات فقط، إحداها فيها نساء يزغردن. بعد أن مشوا مسافة سمع منير إطلاق نار في الهواء. خاف والتفت خلفه، فرأى بعده رتلا طويلا من السيارات يشارك في الزفة. ثم سمع صوت هتاف الشباب: «يهناك، يا عريس يهناك»، ثم سمع مرة أخرى إطلاق رصاص كثيف في الجو، بعد ربع ساعة التفت إلى الخلف، فرأى خلفه سيارات لا تحصى. قال لفاطمة بفرح: «أظن المدينة خرجت خلفنا تحتفل معنا.» دخلوا شارعا يؤدي إلى الفندق الذي سيقضون ليلتهم فيه، فرأوا سيارات عدة قد سبقتهم إلى هناك.
ذلك اليوم رأى منير نفسه أميرا وعريسا، تملؤه الغبطة والسرور من ذلك الحضور البهيج الذي لم يكن يتوقعه، لكن فاطمة كانت تفكر بأن منير هو الذي أحضر ذلك الموكب العظيم ليزفها، رغم شح المشتقات النفطية في البلاد. ذلك العرس ظل حديث المدينة لفترة، والكثيرون لا يعرفون من هو العريس أو أهل العروس.
10
حضرت البروفيسور ماري مرة أخرى لزيارة مروان، كانت متوجسة خيفة من سلوكه إثر خطئه بحق بروسي! وكان مروان أيضا يود مقابلتها؛ ليعرف منها الكثير عما لم تستطع النسوة الإجابة عنه، فهو ليس لديه أصدقاء في عالمه الجديد غير بروسي، وقد اختلف معه أخيرا. سألها مروان أن تخبره عن زيادة عدد الإناث على الرجال ، وكذلك اختفاء الطير والحيوان. جاوبت ماري قائلة: «أنت مشتاق لتعرف هذا العالم، وأنا أيضا مشتاقة للقاء الروحي الممتع معك. ما رأيك أن نبدأ بمتعتنا؟» بعد اللقاء جلس الجميع يشربون شاي القات، وراحت ماري حنان تجاوب عن أسئلة مروان: في بداية القرن الماضي ظهر فيروس متحول غريب، تحقق منه العلماء، ووجدوا أن مصدره غير أرضي أطلقنا عليه «1ف
C » الفيروس الكوني، بمجرد اكتشافنا دواء لعلاجه يتحول إلى نوع آخر. هذا الفيروس هاجم خصية الذكور (الإنسان والطير والحيوان ...)، مما أضعف «كروموسوم واي» في الحيوانات المنوية بشكل عام.
سألها بروسي: لم أفهم ما تعنيه ب «خصية»؟!
قال مروان: يا أخي مو (ماذا) معك تسأل عن حاجة ما تخصك.
قالت ماري: نحن نعلم حتى الهيموروبوت.
سأل بروسي: وما هو عمل كروموسوم واي، وهل نحن لدينا ذلك؟ - كروموسوم واي هو المسئول عن الحيوان المنوي المذكر في خصية الذكر، حين يلقح بويضة المرأة يصبح المولود ذكرا، فانقرضت الطيور والحيوانات والزواحف بفعل الفيروس، لكن الحياة البحرية لم تتأثر. فجأة أصبح النسل البشري إناثا، وكان هذا سيؤدي إلى انقراض الجنس البشري؛ ليخلو الكوكب لغزاة من الكوكب الذي أرسل ذلك الفيروس؛ للتخلص من الجنس البشري بطريقة سلمية. وكما هو معروف أن «كروموسوم واي» بالنسبة لحيويته وعددها تضعف جيلا بعد جيل؛ لأسباب عدة، منها الأطعمة الملوثة والأدوية، تأثير أسلحة الحروب، نقص المناعة، وأيضا إصابة كروموسوم واي بالطفرات، نتيجة تواجده المستمر في خصية الذكور مدى الحياة منذ أن وجد الذكر، وهذا مكان مزعج للكروموسوم، وتلك الطفرات تقع أثناء نسخ الكروموسوم، التي تنتج منه الملايين في اليوم الواحد، لا يسمح لها في الراحة، تعمل عملا مفرطا. بينما «كروموسوم إكس» عند الذكر الخاص بالأنوثة لم يصب بطفرات مثل كروموسوم واي؛ لهذا لم يتأثر بفيروس «1ف
C » كانت مقاومته جيدة. كذلك البويضة عند الأنثى لا تنقسم أكثر من أربعة وعشرين مرة، ثم تنتقل بعدها للإخصاب، وينتح منها واحدة كل شهر. هناك اضمحلال تاريخي واضح «لكروموسوم واي»، وإذا استمر بالضعف في الرجل فسينقرض النسل في النهاية، وستنتهي الحياة البشرية.
قال بروسي: أي إن البشر سينقرضون، وسنبقى نحن في الأرض، وسنكون نحن المسيطرين.
ابتسمت ماري، وهي تشعر بخوف من حديث بروسي عن السيطرة التي تشير إلى الأنانية! وراحت تكمل حديثها مع مروان. قالت له: لكن هناك الانتخاب الطبيعي يمكن أن يتدخل، أو تطور العلوم؛ ففي «كروموسوم واي» يوجد جين اسمه «جين سري» وهذا الجين زرع في «كروموسوم إكس» الخاص بالأنوثة المتواجد في خصية الرجل، وتحول هذا الكروموسوم إلى كروموسوم خاص بالذكورة، وبهذا وجد حل جزئي للمشكلة. وكان خيار العلماء الأخير للبقاء هو أن تعيش المرأة دون رجل، وتولد الأنثى دون أب، وقد حاولنا تلقيح بويضة أنثى بأخرى. كما بدأت الحياة البشرية الأنثى والذكر في جسد واحد.
كان مروان يستمع بدهشة، وهو يجلس بين فرضانا وسناء، وسيرينا كانت تسقيه شرابه المفضل، شاي القات. قام من مكانه ووضع كفيه على رأسه، وقال: هذا يعني أن حواء انسلخت من آدم. لله درك يا بروفيسور! - هذه مرحلة ما قبل البشرية يا مروان. لا تقاطعني دعني أكمل!
وراحت تقول: أصبح النسل الجنس الأنثوي هو السائد، وإنهم في صدد إعادة التوازن بين الجنسين، بإصلاح جينات الخلايا التناسلية عند الذكور، وبهذا يمرر الجين الذي يتم إصلاحه إلى الجيل التالي. أما الحيوانات والطيور فانقرضت نتيجة لقانون البقاء، وبعد انقراضها اختفت الكثير من الأمراض وتحسنت البيئة كثيرا. كانت الحيوانات حاضنة للأمراض وتنقلها للإنسان؛ لهذا كان عمرها أقل من الإنسان بكثير. لهذ تقرر لزاما على الرجل في سن الزواج أن يرتبط بسبع نساء، واخترعت البروفيسور الموسيقية «ماهي تشو فان» الموسيقى الروحية التي تبث من خلال الأذن. تم تطويرها عبر «تقنية النانو» تسبح عبر الدم إلى الخلايا الحسية في رأس العضو الذكري عند الرجل، وكذلك البظر عند المرأة، فتثيرها ويشعر الإنسان بنشوة جنسية تجتاح كامل الجسد دون استمناء، لفترة يحددها كل من الشريكين في اللقاء الرجل والمرأة، ويستطيع المرء أن يستمتع بهذا اللقاء حتى آخر يوم في حياته وإن كان مريضا .. وهو أفضل من اللقاء الحميمي الذي يستلذ فيه الرجل لمدة بضع ثوان، وقد لا تستمتع المرأة في كل لقاء، وبهذا حلت مشكلة نقص الرجال، ومنعنا قمع اللقاء الروحي ؛ ليتفرغ الإنسان بتفكيره لما يفيد المجتمع.
حك مروان رأسه ثم سألها عن ضعف قوة الرجال، ونعومة أجسادهم كالنساء، أجابت ماري بأن الفيروس «1ف
C » أيضا أحدث خللا فسيولوجيا في الرجل، نتيجة لانخفاض معدل هرمون «التستوستيرون» عند الذكور، فتراخت عضلاتهم. ذهب العلماء لإيجاد هيوموروبوت شبيه بالإنسان القوي بعضلاته؛ ليحل محل الرجل في حمل الأحمال الثقيلة الشخصية.
11
أخذت البروفيسور ماري قسطا من الراحة، وشربت عصيرا أثملها قليلا. ثم سألها مروان عن نوع الغذاء المختلف في هذا العصر، فهو لم يتخيل أن يأكل خبزا من نبات الطحالب. قالت ماري: «سأدع هذا الجواب إلى شريكاتك؛ فهن يعرفن هذا الأمر.» قالت فرضانا وهي تمرر أصابعها على شعره: بعد أن ازدادت رقعة المياه على اليابسة، زرعوا طحالب معدلة وراثيا، بميزات القمح وبعض الفواكه، وتم زراعتها فوق الماء
Hydroponics (الزراعة من دون تربة).
ثملت البروفيسور ماري قليلا بعد أن شربت شراب التفاح والعنب، جلست بجوار مروان، ووضعت يدها على صدره تتحسس شعر صدره. وتحدثه بحديث أغضبه لكنه كتم غضبه، عن إعادة الحياة لبعض من رفات بعض عظماء التاريخ العالمي، الذين أثروا على مسيرة الجنس البشري. حدث مروان نفسه: «غير معقول قيام الموتى قبل يوم القيامة!» وعاوده الشك من جديد فيما إن كان هو في حلم أو في الجنة. كانت مريانا تراقب بما يهمس به لنفسه، فقالت لماري ما وسوس به مروان لنفسه، لكنها لم تقل لها إنه كتم غضبه، وشتمت! .. عاودت ماري الحديث وقالت: يا مروان، العلم هو عمود دين هذا العصر، وهناك في زمانكم من كان لا يرى تباينا كبيرا بين الفيلسوف والنبي، فالفيلسوف يأخذ علومه من العقل الفعال وهو العقل الكوني اللامكاني، الذي يرونه يأتي من خالق الكون، والنبي يأخذ علومه من السماء، كما قال العالم «الفارابي»، وهناك من ذهب إلى أكثر من ذلك، وجعلوا الفيلسوف «كونفوشيوس» إلها، وكذلك الحكيم براهما في مقاطعة دلهي .. ثم سارت تسأله : «قل يا عزيزي، هل ديانات العالم السابقة وحدت البشر إلى أمة واحدة، أم فرقتهم؟ وتسببت في الكثير من الحروب بين البشر . وهل استطاعت تلك الديانات أن تقضي على الشرور والفساد في النفس البشرية؟ كما وصل إليه علم هذا العصر، عصر الإنسان الجديد، الذي أوصلهم إلى الإيمان الحقيقي. لا ضير أن يستنسخ الموتى؛ ليعيشوا مرة أخرى، خاصة العباقرة منهم.»
تركت البروفيسور ماري مروان يخوض في بحر أفكاره القديمة، فهي تدرك أنه في صراع بين ماضيه وحاضره. كانت تود أن تطلب منه اللقاء الروحي، لكنها لاحظته غير راغب في ذلك مثل المرة الأولى حين زارته فيها. خرجت وهي تشدد على مراقبة سلوك مروان، وذهبت وهي تفكر عما قاله بروسي من كلام خطير «سنكون نحن المسيطرين» وهذا سلوك أناني، وقد انتهى من الإنسان وأكيد تعلمها من مروان، ثم أخذت تردد: «أرجو ألا نعيد مروان إلى بيئته القديمة!»
كان هذا اليوم يوم الخميس السادس عشر من شهر يوليو. في اللحظة التي كان فيها مروان في عالم الإنسان الكامل، يستنكر في نفسه بعث الموتى قبل يوم القيامة، كان جسده ملقى كجثة على الفراش، وحميدة تحقنه بالطعام السائل عبر أنبوبة التغذية. تسحق له اللحوم، وتعطيه العسل وكل أنواع الفواكه، حتى الكراث الذي كان مروان يحب أكله ليلا هو والثوم، تسحقه كالعصير وتعطيه إياه. رغم كل تلك التغذية الجيدة، لم يكن لها أي فائدة، فجسمه يزداد تقرحا، ولم يستطع الممرض أن يقوم بتطبيب القروح، التي صارت تغطي جسده كاملا كمصاب بمرض الجدري. استغرب الممرض من تلك البسمة المرسومة على شفتي مروان، جعلته يبدو للكثيرين أنه في حلم جميل. قال لحميدة: «قروح مروان غريبة، لم أشاهد مثلها بالرغم أنها تزداد، لكن وجهه يبدو باسما، كبلادنا تزداد صلابة، كلما ازدادت الحرب التي تمضغها. كانت غصون تنصت لما يقوله الممرض لحميدة. قامت من مكانها، وقالت للممرض: قل لي ولدي سيعيش؛ والا كيف؟!» - بصراحة ابنك يا حاجة حالته ميئوس منها، ولولا البسمة التي على شفتيه لقلت لكم ادفنوه.
أخذت غصون عصاها ، وكانت ستضرب الممرض .. ثم ابتسم وجلس مع أولاد مروان، وهم يستمعون إلى الأخبار وإلى ما آلت إليه الحرب بين الإخوة الأعداء . خرج الممرض قبل الظهيرة وصعد علي هو وإخوته إلى سطح المنزل؛ ليشاهدوا دخانا يعلو في الجو فوق وزارة الخارجية.
الفصل الخامس
المعرفة الذاتية إلهام من الله.
1
ذات مساء يوم العطلة العاشورية، خرج مروان مع حورياته في نزهة إلى المدينة، والرائحة العطرية تملأ الجو. مروا على مجمع كبير فيه مكاتب لوزارات عدة منها: وزارة النانو بات، وزارة الهيوموروبوت، وزارة المحبة، وزارة اللقاء الروحي، وزارة الطاقة الكونية، وزارة مراقبة السلوك، وزارة الطفل، وزارة لقاح الأديان، وزارة التغذية، وزارة العلاقات الكونية، وزارة إعادة الحياة.
لعن مروان وشتم في سره. يحدث نفسه: «إعادة الحياة أي بعث الموتى، هذا حرام!»، وفي الوقت نفسه كانت مريانا تحدث نفسها كيف تستحوذ على مروان لنفسها! مروا على مطعم يقدم وجبات سريعة. تعجب مروان وهو يشاهد هيوموروبوت يعد الوجبات الخفيفة بخفة ومهارة عالية، يصعب على البشر القيام بها. شاهد المشتري يأخذ حاجته من الطعام، ويدفع القيمة عبر الشبكة الإليكترونية لهاتفه، التي يرسمها في الهواء بقلمه الخاص، وقد ابتعد عن المطعم. لم يشاهد مروان أحدا ينفث دخان سيجارة أو يمضغ قاتا، وعرف أيضا أنه لم تعد هناك خمور أو مخدرات. وقف أمام شعار ظهر في الجو «السعادة للجميع».
دخلوا لمشاهدة لعبة كرة القدم بين الهيوموروبوتات، انبهر مروان بأسلوب اللعب والحركات البهلوانية التي يقومون بها، ما لم يستطع البشر القيام بها. خلال فترة استراحة اللاعبين شاهد إعلانات كثيرة، تبث في سماء الملعب هيوموروبوتات حديثة، أو نانو متحول يتشكل عدة أشياء: بشر، غسالات، معدات منزلية، محرقة قمامة وأغراض منزلية كثيرة، زلاجات هوائية .. كان يشعر بالخوف من سقوطها على رءوس المشاهدين؛ لأنها تبدو أشكالا حقيقية، تقف فوق رءوسهم بأبعادها الرباعية. حينها تذكر عندما دخل منزلا في بداية عهده في هذا العالم، ولاحظ أنه بدون أثاث، عدا كومة كبيرة مغطاة بقماش شفاف كأنه الزجاج، وظن أن أهل المنزل فقراء، لم يكن يدري أن ذلك أثاث متحول يتشكل كما يريده المرء عند استخدامه.
تذكر مروان حين كان يشاهد المباريات في عالمه القديم، وهو يأكل الفول السوداني، فتمنى الحصول على الفول. فجأة رأى أمامه كيسا به مطلبه! لم يصدق ذلك، فراح يأكل منه ليتأكد أنه لا يحلم. كانت مريانا تضحك وهي تراقبه. أعطى منها النسوة وقال: «لا أدري من أحضر الفول السوداني لي، في المرة السابقة سأتمنى جواهر.» ثم ضحك بهدوء وهو يقشر الفول ويرميه على المشاهدين، لكن سرعان ما انتبهت النسوة لذلك. في آخر المباراة، أعلن عن الفائز هو الفريق الخاسر.
2
عادوا إلى المنزل، سألهن عن الناس الذين يطيرون في الجو، أخبرنه أنه سيطير يوما مثلهم وسيكون ذلك مكافأة له؛ فالحصول على تلك البدلات يكون بموافقة السلطة. فرح مروان وقام يرقص رقصة «البرع» وهو يرفع سكين المطبخ الإليكترونية عاليا، وما أدهشه هو أن بروسي أخذ يقلده، ولم تستطع النساء فعل ذلك. ضحك مروان، وقال له: «والله، إنك صنع ذماري، يا ابن أيري.» جلسوا يشربون شاي القات، وأخذ الحديث يدور حول الأعمار. تحدث مروان بأنه يمكن للبعض أن يمتد به العمر إلى 120 سنة، لكنها حياة متعبة، يتمنى فيها الإنسان الموت. تساءلت مريانا قائلة: 120 عاما فقط؟! هذا هو منتصف العمر في هذا العصر. - يا خسارة ستترملن باكرا، فلن أعيش طويلا معكن! - لا، ستعيش مثلنا. - كيف؟! - في المشفى قاموا بتنقية دمك من أمراض وفيروسات عصرك، وتطعيمك بلقاح الأديان التي تعطي الإنسان صفاء روحيا، بالإضافة إلى الغذاء الصحي الذي تتناوله، والرياضة والنوم الكافي، والسعادة والأمان الذي يحيط بك. كنتم تموتون باكرا يا عزيزي؛ فقد كان الهواء والغذاء ملوثين، وكذلك وجود الحيوان والطير في عالمكم، كانت أحد مصادر الأمراض التي تنقل إليكم، إضافة إلى الكراهية والغضب والخوف والحسد الذي كان يسود عالمكم. أيضا يقوم العلماء بعزل الجينات المسببة للشيخوخة، وحين يتلف عضو من أجسادنا نستبدله بعضو جديد. نقوم بزراعته من الخلايا الجذعية للشخص نفسه، المودعة في حبله السري المحفوظ منذ الولادة حتى آخر يوم من حياته، ولو توفيت أنت يمكن أن نستنسخك، وتعيش مرة أخرى.
كان مروان ينصت جيدا واستنكر قولها عن الاستنساخ، وهي تخبره بأن هناك أقمارا بيئية ترسل موجات صحية، يتم بها تطهير الجو. وهناك أقمار مناخية تبث حرارة معينة في مناطق محددة؛ لهذا توجد فاكهة الشتاء والصيف في بستان واحد؛ حتى إن هناك ثلوجا للتزحلق في أماكن دافئة.
كان مروان يرى نفسه أحيانا يعيش في نسخة مصغرة من الجنة، وأحيانا يفكر أن عقله هو الذي يعيش هذا العالم فقط، وما يراه إلا حلما سيصحو منه. كيف يطلب شيئا في نفسه ويتحقق سريعا؟ فجأة سألته ناريس: بماذا تفكر يا شريكنا؟ - أفكر أنني في الجنة. - هكذا حين يصل الإنسان إلى الإنسانية الكاملة، يجعل حياته جنة.
ثم راح يسألهن: لماذا ينسب المولود إلى اسم أمه؟! ومنذ فجر التاريخ كان ينسب إلى أبيه؟! جاوبته ناريس بما لم ترض أناه التي تحاول أن تظهر كما كانت قبل اللقاح الديني، حيث أخبرته أنه بعد تهذيب الأنا لم يعد الرجل يسعى إلى الزهو من خلال السلطة أو السيادة على المرأة، وتولت المرأة زمام قيادة البشرية، وساد السلام والعدل بين البشر في العالم أجمع. واستطاعت المرأة ببراعة السيطرة على سيف العلم بالحكمة، وسخرته لمصلحة ورفاهية البشر. لم تتخلص المرأة من سيطرة الرجل إلا بعد قرون عديدة، وفي هذا العصر استردت حقها في انتساب المولود لها.
3
ذهبوا يتناولون شراب التفاح الممزوج بالعنب حتى ثملوا. قالت مريانا: أظنك يا مروان ترى أن المرأة لا تستطيع أن تسوس مجتمعها كالرجل. وأنت تعرف بأن هناك نساء في عصوركم حكمت بلدانها، فكانت عصورهن أزهى العصور. ثم فكروا بمشاهدة متحف التراث الروحي لإقليم أوروبا، قبل عبادة الرب الواحد. وقفت فرضانا وهي تشعر بنشوة الشراب، وقالت: دعنا نصير هذا اليوم آلهة. أنا «أبولو» إله الفنون.
وقفت سيرينا وهي ترفع كأسها عاليا، وقالت: وأنا «أرتميس» إلهة الصيد، حامية صغار الحيوانات والبشر، والقمر.
وقفت ريحانة ورفعت يدها للأعلى، وهي تترنح، وقالت: وأنا الإله «آريس» إله الحرب والانتقام، أخو أثينا البطل.
هتفت فرح واحتضنت مروان، وقالت: أنا «أفروديت» إلهة الحب والجمال.
ووقفت ناريس ورفعت يديها، وقالت: أنا «بوسيدون» إله البحار، أخو هيدز وزيوس.
جرعت مريانا من كأسها، وقالت: وأنا «ديونيسيوس» إله الخمر. وراحت تملأ كئوسهم بالشراب، حتى وصلت إلى مروان، قالت له: وأنت «أيروس
Eros » إله الحب والرغبة والجنس. ما رأيك بهذا الاختيار يا شريكنا؟ ثم نادت بروسي، وقالت له: وأنت يا بروسي ستكون الإله «هيدز». تساءل: ما معنى «هيدز»؟ - كان إله العالم السفلي عند الإغريق. - لا أريد أن أكون إله الموت. - إذن فلتكن «هيرميس» إله اللصوص والتجارة والسفر، تنازل عن منصبه للإله «ديونيسيوس». بقيت معنا «هيرا» إلهة الزواج، وهي زوجة «زيوس». من سيقوم بدورها؟ آه، سنستدعي قاضي المدينة، فهو إله الزواج فعلا.
ضحك مروان وهو يترنح، ثم سأل: «لماذا عملوا إلها واحدا خاصا باللصوص والتجار. هل هناك قرابة بينهم؟ وكيف تتنازل الآلهة عن عرشها، وأنا جئت من عالم لا يتنازل فيه حتى المدير عن منصبه! ثم كيف كانت تلك الآلهة لا تتصارع فيما بينها على السيادة. كبعض الشيوخ في بلادنا؟» قالت مريانا: هناك آلهة أخرى أيضا كانت عند الإغريق، كل زمن له آلهته. كانت هناك رياح عقائدية تنتقل من مكان إلى مكان، وتأخذ طابعا آخر. هندو- أوروبية، هندو- عربية، حتى وصلوا إلى توحيد الآلهة إلى إله واحد.
تناول مروان آخر كأس من الشراب، وقال: «لو وجد مثل هذا الشراب في حياتي السابقة، يثمل ولا يذهب بالعقل؛ لكنت جعلته شرابي المفضل قبل الصلاة؛ حتى أكون خاشعا عند أدائها.» ثم ضحك، وقال: «ما أكثر عدد الآلهة التي كانت عند الإغريق!» اقتربت فرح من مروان وقبلته، ثم قالت: هناك أيضا آلهة أخرى بدائية مثل الإلهة «كاوس». كانت الربة الأولية التي أتت منها بقية الأرباب الأولية. وكانت «جايا» العظيمة هي الأم الكبرى، والربة التي تجسد الأرض هي أم الكون. هكذا كان البشر يرون آلهتها حسب ثقافتهم.
كانت هناك عاصفة ماطرة، ذهب مروان إلى النافذة ليشاهد المطر. عاد يقول إن أحد المسعفين الطيارة اصطدم بأحد الأبراج، فالتقطه مسعف آخر وأسعفه. في هذا اليوم كذب مروان أول مرة.
4
ذات يوم ذهبوا إلى السوق، واشترت له النسوة بدلة تحمل تقنية «النانو» الخفية ، حين لبسها اختفى عن الأنظار. في البدء بلغت به الفرحة والدهشة مبلغا كبيرا! فدخل متجرا ليتأكد من تخفيه، ثم عاد يقبل حورياته دون أن يرينه، وهن يضحكن من تصرفه الطفولي. لكن تلك الفرحة الغامرة عنده تلاشت، فهي لن تفيد في شيء، كما لو أنها وجدت في زمانه! في هذه الليلة جلست النسوة يشاهدن فيلما من ذاكرة مروان. يظهر فيه مروان وهو يشاهده عبر القنوات الفضائية من حرب مرعبة في العراق، ثم شاهدن حرب أكتوبر مع إسرائيل.
بكت النسوة من تلك المجازر بحق الإنسانية. أما بروسي فقال: «قد تكون حربا بين آليين، من غير المعقول أن تكون بين البشر.» ضحك مروان حين سمع حديث بروسي، وهو يصف البشر بأنهم آليون! أوقفوا عرض فيلم ذكرياته، وباشرت فرضانا تسأله عن إسرائيل وأين تقع؟ وجد مروان نفسه لم يعد يكره اليهود. قال: «هم بنو عمومتنا، يؤمنون بدين النبي موسى، ورفضوا تصديق نبينا محمد. حاربناهم في فجر الإسلام، وطردناهم من الحجاز، واضطهدناهم نحن والمسيحيون والفراعنة، ومع مرور الزمن علوا علينا، واحتلوا فلسطين، وشردوا الكثير من أهلها.» تلك المناظر الهمجية التي شاهدتها النسوة قضت على الرغبة في اللقاء الروحي، فذهب الجميع إلى النوم، وناموا معا ومروان في وسطهن. أما بروسي فذهب إلى المطبخ، وأخذ ما يشبه البندقية وقلد جنديا، وهو يطلق الرصاص بعنف!
قام مروان في العاشرة صباحا، وقد ذهبت النسوة إلى العمل دون نوم كاف. جلس في الكنبة وهو يشعر أنه بحاجة إلى استمناء، وزوجاته يرفضن معه اللقاء بالطريقة التي كان يمارسها مع زوجته حميدة. أغمض عينية وفكر في حميدة، وحين فتحهما رآها بثوب ليلة عرسها، كما شاهدها في فيلم ذاكرته مع النسوة. ظن أنه يحلم، قام من مكانه فزعا، وسأل بروسي: من هذه الفتاة؟ - زوجتك حميدة. - مش معقول! ماذا تقول؟
سألها: من أنت؟! - أنا زوجتك حميدة، انتقلت إلى عالمك. - إذن أنت انتقلت إلى رحمة الله! هل قصفوا بيتنا؟! هل أولادي بخير؟! كيف عدت إلى شبابك.
مشى في الغرفة يحدث نفسه بصوت عال: «أظنني في الجنة. ما أفكر فيه يتحقق في لحظة، حميدة عادت شابة. يحيون الموتى! مستحيل أن أكون على الأرض!»
سأله بروسي: ما معنى جنة؟ - جني يشلك من قدامي .. أنا ما عا دريتوش، أنا في الجنة، والا في الدنيا، أو في حلم!
اقتربت منه المرأة التي رآها حميدة، وحضنته وقبلته وهو يقبلها، ثم قادته إلى الغرفة وخلعت ثيابها، وقالت: «هيت لك!» أحس مروان أن هناك شيئا مختلفا معها، كانت تتفاعل معه بطريقة شبقة لم يجدها في حميدة، مما أدهشه ذلك. أكمل غرضه، ولم يشعر كمتعة اللقاء الروحي معها، المهم أنه استمنى. قامت الفتاة من تحته تمشي عريانة إلى الحمام. كان يريد أن يسألها .. لكنها اختفت من المنزل. عادت النسوة من العمل، وهو في لهفة ليخبرهن ماذا جرى أثناء غيابهن. كانت مريانا تبتسم؛ فهي تعرف كل شيء، وهي من كانت تحقق له أمنياته، حين تقرأ أفكاره عن بعد.
5
ذات يوم خرج مروان صباحا إلى السوق، شاهد كلبا صغيرا بصحبة طفل. اقترب الكلب منه يشمه، فقال الكلب لمروان: «هه، أنت لست من هذا العالم! هل أتيت من كوكب أورانوس؟ إنك تشبههم في شعر جسمك، إنهم مجرمون.» لم يصدق مروان أذنيه، كيف يستطيع كلب أن يتحدث معه؟! ثم إنهم قالوا له: إنه لا يوجد حيوانات في هذا العصر! صمت مروان ولم يتحدث، فهتف الكلب: «هه. أنت ألا تفهم؟ ماذا تفعل هنا؟ سأبلغ عنك مكتب السلوك، ليأخذوك إلى جزيرة الشواذ.» عاد إلى المنزل، وهو يرى أنه فقد عقله، كيف يسمع حيوانا يتحدث ويهدده أيضا؟ أخبر النسوة عن دهشته، فقالت له سيرينا ضاحكة: «إنه «أنيموروبوت»، وهم كثيرون يستخدمون للكشف على بعض الأشياء التي لا يستطيع الرجل البحث فيها، وكذلك لكشف المتسللين من كوكب أورانوس، الذي نشر فيروسا في الماضي للقضاء على خصوبة الذكور؛ ليحلوا محلنا.»
ذات يوم في عطلة العاشور كان يقف في شرفة المنزل، شاهد سربا من المركبات تطير ببطء، والمطر ينهمر فتزداد تلك المركبات سطوعا. سأل حورياته عن ذلك السرب، فقيل له إنهم ذاهبون لدفن متوفى وتلك جنازته. طلب مروان المشاركة في الجنازة لكسب الثواب. لحقت النسوة بالسرب بمركبتهن، وهو يتجه إلى خارج المدينة، إلى أن وصلوا إلى بستان للفواكه مترامي الأطراف. هبطت المركبات في مدرج خاص، ثم تشكلت قبة زجاجية كبيرة تحميهم من المطر. تنسم مروان رائحة عطرية، أفضل من أي مكان في المدينة. نظر حوله فلم يشاهد قبرا واحدا أمامه! فجأة فتحت فوهة سداسية بقطر عشرة أمتار. نظر فيها فرآها هوة سحيقة، وراح يحوقل .. أعطي لتابوت المتوفى رقم «9-2009» ثم أنزل المتوفى في مصعد خاص إلى عمق كبير في الحفرة. كان مروان ينظر بدهشة إلى تلك الفوهة متعجبا! قيل له إن لكل جثة قبرها الخاص في جدران الحفرة، تتسع لعشرة آلاف متوفى، وبعد أن يدفن الميت تغلق الحفرة. عرف مروان أن تحت البستان المترامي الأطراف مقبرة المدينة، ويمكن لمن أراد استنساخ أي إنسان عليه أن يحدد رقم الجثة .. عادوا إلى المنزل، فبادره بروسي بالسؤال: كيف وجدت مقبرة البشر يا كريم؟ كما وجدتها سابقا؟
رد مروان ضجرا من مناداته بكريم، وقال له: كلهم ينادونني بمروان، إلا أنت. عقلك بحاجة إلى برمجة مرة أخرى!
همست له مريانا: لا تظهر غضبك. لا تنسى أنك كنت مثله لا تتنازل عن مبادئك العقائدية.
كان هذا اليوم الرابع والعشرين من شهر أغسطس، بدأ فيه جسد مروان يرفض لقاح الأديان وهو في عالمه الفردوسي. كان في الوقت نفسه كجثة هامدة في عالمه الجحيمي وجسده يزداد تقرحا. ولم تعد أسرته قادرة على تحمل الرائحة التي تنبعث منه. كانت حميدة تدخل تحقنه بالغذاء عن طريق أنبوبة التغذية، وتخرج تجرى إلى الحمام. لم يبق بجانبه غير أمه التي تمكث ليلا ونهارا. لم يستغرب الذين يزورون مروان من غيبوبته، بل من جسده الذي ملئ بالقروح!
أحضروا طبيبا إليه، لم يحس نبض قلبه، ولا تنفسه. ومما جعله يصرح في دفنه تلك الرائحة التي تنبعث من مروان . وافقت الأسرة على ذلك، إلا والدته، رفضت وطردت الطبيب من البيت. في اليوم الثاني تودد إليها معاوية، قال لها: «سنأخذ أبانا إلى المستشفى ليحظى بعناية جيدة، عسى يشفى هناك.» وافقت والدته وقالت لمعاوية: «كما شتصدقوا الدكتور، ابني عائش.» حمل الأولاد والدهم خارج البيت، وكان هناك في انتظارهم مجموعة من المشيعين. وهناك سيارتان ترافقانهم تمشي كل منهما بعيدة عن الأخرى.
وصلوا إلى المقبرة ونزل الملحد ليضعه في القبر. أحس بنبض قلبه بطيئا، فصاح: «حرام عليكم يا ناس تقبروا رجلا وهو على قيد الحياة!» ثم فتح الكفن الملطخ بالعطر، فرأى البسمة على شفتي مروان، أحدهم قال: «يا قبار، إنه ميت، أما تراه يبتسم لحور العين، أنا أجزم إنه الآن يرى نفسه في الجنة.»
خرج القبار من القبر وهو غاضب: «أظن أن أهله لم يأخذوه إلى المستشفى ليتأكدوا من موته، أو أنهم يريدون أن يتخلصوا منه. أستغفر الله العظيم خذوا هذا المريض إلى المستشفى لا يزال حيا.» حمل المشيعون مروان إلى إحدى المستشفيات فلم يستقبلوه، ثم ذهبوا إلى ثلاثة مستشفيات أخرى. أعادوه إلى منزله ففرحت أمه. قال علي لجدته: لقد رفض المستشفى استقبال أبينا. حينها كانت حميدة تقف في طابور طويل للنساء، أمام سيارة نقل كبيرة لتوزيع الغاز. ذهب علي إلى حيث توزيع الغاز، رأى أمه تقف في الطابور، ولم يعد أمامها سوى خمس أسطوانات فارغة حتى تستلم حصتها، ونفد الغاز قبل أن تصل.
عرف منير بأن إخوة زوجته كانوا سيقبرون أباهم، وهو في حالة موت سريري. غضبت فاطمة كثيرا وذهبت إلى بيت والدها. أخبرتها أمها بأنهم ظنوا أنه مات، ثم أخبرتها أن تكتم الخبر على جدتها غصون، لكن نادر أخبر الجدة غصون التي أخذت تبكي بجانب ابنها وتقول: «كانوا شيقبروك يا ولدي، وأنت لم تمت بعد. مستعجلين على تقاسم ثروتك يا ولدي. يفكرون بثروتك أكثر منك يا ولدي.» ثم راحت تلعن الثروة والحكام، المتصارعين على كرسي الثروة.
6
بينما كانت أسرة مروان يتحدثون عن الحرب، كان هو في عالمه الفردوسي يتحدث مع بروسي في أمور شتى، لم يعد يراه رجلا آليا بل صديقا عزيزا، وكذلك بروسي صار يناديه بالصديق، فقد أثر فيه مروان كثيرا . وهما في السوق للتنزه مرا على سوق بلقيس، ولم يخطر بباله أنها الملكة بلقيس التي حكمت اليمن يوما. كان بروسي قد تعلم من مروان كلمات كثيرة، حرب، جهاد، شهيد، جني .. سأل مروان: ما معنى شهيد؟! - ماذا أقول لك يا صديقي؟ خدع المسلمون الأبرياء كثيرا وكذلك المسيحيون، وضحوا بأنفسهم من أجل الحكام، وهم يظنون أنهم يجاهدون في سبيل الرب، والحصول على الحور العين، وكنت أنا أحدهم. نتقاتل فيما بيننا نحن ذوي الدين الواحد، والمقتول منا يرونه شهيدا. - ما معنى حور عين؟! - نساء جميلات جدا. - وإذا استشهدت النساء، فماذا سيفعلن بحور العين؟! - أفتى بعضهم بأنهن سيحصلن على ولدان مخلدين، هم أيضا فتيان وسيمون جدا.
ذات يوم عطلة، خرج مروان مع حورياته إلى مكان لم يشاهده من قبل. جلسوا في حديقة تحت شجرة أزهارها تضيء، تتدلى كالأجراس تفوح عطرا. قطف إحداها وأخفاها. كانت النساء تحدثه عن عالمهن، تحدثت سيرينا عن الطاقة الكونية، المناخ، تسخير طاقة البحار، وعن المدن فوق مياه البحار .. مروا على السوق لشراء متطلبات المنزل، وأكثروا من شراء عشبة الشاي التي يحبها مروان. سألته فرضانا: «أظنك قطفت زهرة؟!» أنكر مروان في البداية ثم ادعى أنه نسي، كانت مريانا تتساهل عن السلوك غير المرغوب فيه، ولم تشعر أنها قد تأثرت بسلوك مروان الأناني. تناولوا وجبة العشاء وأسرع هو لمضغ القات، حتى انتفخ خده. ذهب لينام وقد سبقته حورياته إلى النوم، أخذ مكانه بينهن لكنه لم ينم، ثم قام يجلس في الصالة. قال له بروسي: عشبة الشاهي التي تأكلها كثيرا لا تدعك تنام جيدا، ستفقدك عقلك. لماذا تأكلها؟! - هذه العشبة في عصرنا كانت لها مكانة رفيعة، نفضل زراعتها أكثر من طعامنا، ونستورد الطعام من الخارج. لولاها لقمنا بثورات عدة ضد الحكام، فتركونا نزرعها لنتخدر بها وننساهم.
ذات يوم وهم في نزهة إلى مطار مقاطعة صنعاء، حلقن بمركبتهن في الجو وهبطن في الدور السابع في صالة الانتظار ضمن مئات المركبات. شاهد المسافرين من مختلف أقاليم العالم، وصحنا طائرا بحجم ملعب كرة قدم، يهبط من دون أن يسمع صوتا يصدر عنه. خرج منه حشد كثير من المسافرين مقبلين من «سرجونشي» عاصمة العالم. كان مروان يظن أن المسافرين سيمرون على نقط التفتيش والجمارك، لكنهم خرجوا من المطار، وكأنهم في رحلة داخلية. حدثنه عن رئيسة العالم الحالية «سارة ياران» من إقليم الشرق الأوسط، مقاطعة «مقديشو». حدث نفسه: «ها هو العالم يعيش كما عاش في العصور الأولى من حياته حرا طليقا كالعصافير، يذهب حيث يشاء، لكنهم يا خسارة كفار! تلك النظرة بدأت تتنامى فيه.»
ذات يوم ذهب مع نسائه إلى منتزه فوق جبال «جدة»، اندهش وهو يشاهد كتلة كبيرة من الماء معلقة في الجو، والرجال والنسوة يسبحون فيها عرايا إلا ما يستر العانة. في البدء وضع كفه على عينيه، وأخذ يشاهد من بين أصابعه. لعن النسوة في سره، وعاد مندهشا يسأل سيرينا عن تعري النسوة أمام الرجال، يكتم غضبه. فأخبرته بما ازداد به غضبا.
غادر مروان المسبح وسار يشاهد منطقة بيضاء في الجبل المقابل، والناس تتزلج هناك على الثلوج في الهواء الطلق، رغم أن حرارة الجو مرتفعة. مشى في المتنزه ثم توقف يشاهد امرأة عجوزا تمارس اللقاء الروحي مع شاب صغير وراح يلعنهما. عاد إلى جوار المسبح ورأى حورياته يسبحن مع الرجال. وضع كفه على رأسه، كاد يهتف: «ماذا تفعلن يا فاجرات؟ أعوذ بالله، كنت لا أرى حميدة عريانة إلا في غرفة نومي.» أغمض عينيه وجلس يفكر ماذا يفعل، ونساؤه يتمتعن بالسباحة. نادته فرح قائلة: «ستشعر أنك تطير وأنت خارج سيطرة الجاذبية الأرضية. تعال معنا، صديقاتنا هنا أيضا.» ابتعد عن المسبح وهو يحدث نفسه: «هذا فسق، يردنني أيضا أن أمارس اللقاء الروحي مع صديقاتهن، لم يعد هناك حياء أو دين يردعهن .. الله أكبر!»
7
ابتعد عن المسبح وهو يكبح غضبه، ولم يعد يرى أنه يعيش في عالم الجنة كما كان يراه. بقي بجنب أناس وهم ينظرون إلى نجوم السماء والمجرات عبر تلسكوب، فذهب ليشاركهم. رأى أناسا يمشون على القمر. مسح عينيه عدة مرات، ثم سأل فتاة صغيرة، تقف بجواره : «هل هناك فعلا أناس يمشون على سطح القمر؟!»، قالت: «نعم، هل عيناك مزروعتان لا ترى جيدا؟! إذا رغبت أن تمشي على سطح القمر يمكنك ذلك.» ثم قلب التلسكوب في الفضاء، فشاهد مباني في كوكب المريخ، وكذا شاهد مركبات تطوف حول كوكب المشتري، وشاهد نجما يقذف حممه مئات الأميال، وكتلا من الضوء العملاقة تتلاشى في الفضاء. سأل نفسه: «ذلك النجم الذي كنت أشاهده يلمع في حياتي السابقة.» ثم شاهد كوكبا أخضر يشبه الأرض، وعندما سأل عنه قيل له: «ذاك الكوكب اسمه الأرض الثانية»، لكنه على مسافة بعيدة، والعلماء يعدون مركبة للوصول إلى هناك؛ لينتقل البشر للعيش هناك. جلس مروان بجانب الفتاة يحدثها لينسى مشهد عري نسائه. سألته الفتاة وهي تحدق إلى صدره: لماذا يوجد في جسمك شعر. هل زرعته؟!
رد قائلا: «نعم.»
أخرجت الفتاة الصغيرة قلما ورسمت في الجو تليفونا، لتتصل حتى أنهت مكالمتها: سألها ممكن أن أتصل بقلمك؟ - نعم، يا أبي ممكن. - ولماذا تنادينني يا أبي، ولا تقولين يا عم؟
استغربت الفتاة! وقالت: أظنك نسيت أننا نحن الأطفال ننادي الرجل بالأب.
8
خرجت نساء مروان من المسبح، كان يود أن يصفعهن، أو يشتمهن على عملهن المشين. أثناء طريق العودة وهم على المركبة تسبح في الجو، كسر صمته، وأخبرهن أن هناك طفلة دعته: «يا أبي»، وأنه لم يفهم لماذا الأطفال يدعون أي رجل بالأب؟ أجابته سيرينا بما أغضبه أكثر من مشهد عريهن في المسبح، بأن الأولاد ينتسبون للأم؛ لذلك ينادى الرجل بأب للجميع. عض مروان على أسنانه وصمت. وصلوا المنزل، أسرع هو إلى الحمام، وأخذ يلعن في نفسه، ويشتم العادات القبيحة التي وجدها في عالمه الجديد، لكنه قرر أن يلتزم بقوانين هذا العالم؛ حتى لا ينبذ إلى أماكن خاصة بالشواذ. ساده الحزن والصمت. لم يعد اللقاء الروحي بينهم كسابق عهده. حاولت النسوة الترفيه عليه وتعطيره بعطر السعادة. أخبرت مريانا البروفيسور ماري بأمره، فأفادت أنه آت من عالم آخر، وبدأ انبهاره يقل مما حوله، والحزن كان سائدا في عالمهم لتفشي فساد الحكام، لكن لحظة الفرح في ذلك العالم كانت تطغى على حزن لأيام عدة، ولولا الأمل لكانت حياتهم تعسة جدا.
في الجانب الآخر من عالم مروان الجحيمي الذي تسوده الكراهية، بعد أن أعيد من المقبرة إلى منزله في حي السنينة. كانت أنبوبة التغذية عبر الأنف قد أبعدت، ففتح له الطبيب فتحة عبر السرة إلى المعدة. وأصبحت والدته غصون هي التي تقوم بحقن ولدها بالطعام، وتكثر من البخور في الغرفة. تبقى بجانبه ليلا ونهارا تقرأ القرآن؛ لطرد الأرواح الشريرة عن جسده.
تصاعد الاختلاف بين علي ومعاوية على إدارة السوبر ماركت، ولم تعد الأم قادرة على رأب الصدع بينهما. قسما السوبر ماركت نصفين، كل يدير نصفا، ولم يعد الاثنان يفكران في الحرب الدائرة في البلاد بقدر الحرب الدائرة بينهما؛ حتى إنهما نقلا اختلافاتهما إلى البيت، وكل يهدد الآخر ويتوعد .. لم يقف مع علي من إخوته إلا أخته فاطمة وولداها نادر وسامي، ووقف بقية الإخوة مع معاوية.
كان ذلك اليوم هو يوم عيد الأضحى، ملطخا بدماء الأبرياء تسيل إلى جانب دماء أضاحي العيد، فقد فجر انتحاري نفسه، وقتل خمسة وعشرين مصليا أثناء تأدية صلاة العيد في مسجد البليلي وسط صنعاء وجرح المئات. وفي اليوم نفسه توفي سبعمائة وسبعة عشر حاجا وجرح ثمانمائة وثلاثون، نتيجة للتدافع أثناء مناسك الحج في مكة عند رمي الجمرات. وفي مدينة تعز قبض على قناص وسحل في الشارع؛ كان قد قتل ثمانية وثمانين من المدنيين، واشتباكات متفرقة في البلاد.
الفصل السادس
العادة معتقد آخر، تنحني للعاصفة لكن لا تنكسر.
1
أدركت مريانا أن مروان يتخلله الحزن أحيانا، ففكرت برحلة مكوكية حول مقاطعة صنعاء، وأخبرته أن هناك مفاجأة له وسيراها أثناء الرحلة. لبسوا جميعا بدلات ثقيلة تغطي الرأس حتى أخمص قدمي المرء. وبدءوا رحلتهم إلى مدينة «تعز» الساحلية، وهم في طريقهم يحلقون فوق أجواء جبال «سمارة»، فتحت ناريس الغطاء الزجاجي للمركبة، وكانت هي التي تسوق. قفزت مريانا في الجو فأمسك مروان برأسه، ولم يستطع أن ينطق من الدهشة، ثم قفزن كل واحدة إثر الأخرى وشاهدهن، وهن يطرن كالطيور. قالت له ناريس: «لم يبق إلا أنت.» لم يجرؤ مروان على ذلك، فقلبت المركبة رأسا على عقب، وسقط من المركبة، وجد نفسه يقف في الجو، ثم لحقت به ناريس وأخذت تطير به، والمركبة تطير بجوارهم. هتف مروان وهو في غاية الدهشة والفرح: «تحقق حلمي في الطيران وصار الحلم حقيقة، خمسون عاما وأنا أحلم أنني أطير، يا حورياتي .. الله أكبر!» لم يستطع أن يصف بهجته. مروا فوق غابات أوراق الشاي (القات) والبن والعنب، مصادر الثروات المهمة للبلاد. شكلوا رقم ثمانية وظلوا يطيرون معا. تفاجأ مروان وهو يشاهد هيوموروبوت عملاقا، يدفع بصخرة عملاقة ويطير بها في الجو، وهناك هيوموروبوتات أخرى، تقوم بمساعدة البشر في بناء المدرجات الجبلية الخضراء، وأخرى تنقل التربة الخصبة إلى قمم الجبال.
شعروا بالتعب وهم فوق سماء مدينة «إب» وعادوا إلى المركبة، بعد خمس دقائق وصلوا مدينة تعز. حلقوا فوق المدينة ببطء ينظرون إلى شوارعها الواسعة، والورود المصفوفة على جوانبها وميادينها الواسعة. كانت المتنزهات في جبل صبر كأنها لؤلؤ أبيض، منثورة فوق المدينة، وجداول الماء تتدفق من منتصف الجبل، من أماكن عدة في قنوات خاصة، وتعبر المدينة الساحرة وتتجمع في عدة بحيرات. هبطوا في أحد متنزهات الجبل وخلعوا بدلات الطيران. أخبرته مريانا أنهن استعرن البدلات من السلطة احتفاء به. جلسوا قليلا ثم نزلوا بالمصعد الجوي إلى المدينة، وطافوا في شوارعها وتناولوا السمك الطازج، ثم عادوا إلى المنتزه.
2
في اليوم التالي ذهبوا يحلقون فوق القرى المحيطة بالمدينة ببدلات الطيران، كلما تعبوا عادوا إلى المركبة وهي تتبعهم. مروا فوق الجبال والحقول خضراء، والجداول تنهمر من عرض الجبال. أزهرت الفرحة في عينيه حين رأى موقع قريته في «الأعروق». هبط هناك هو وحورياته فوق تل صغير في مكان مخصص للمركبات. لم يصدق عينيه وهو ينظر إلى منازل قريته، وقد صارت تشبه المنتجعات السياحية. مشى قليلا في القرية، خيل إليه أنه سيعرف أحدا من أقاربه. عبر حقول الفول السوداني، حيث كان يلعب سابقا في صغره مع أقرانه فيه. لم يلتفت إليهم أحد من أهل القرية غير عجوز تلبس قميصا وسروالا، وشعرها الأشيب ينساب إلى الكتفين. سألها: كيف حالك يا جدة؟ - بخير، من أنت يا ابني؟! - أنا مروان ناجي مدهش الراعي، وأمي اسمها غصون ثابت علي، من هذه القرية يا جدة. - يا ابني أنا عمري 220 عاما، لم أسمع بهذا الاسم.
أخذ مروان يذكر لها أسماء أسر القرية وأجداده؛ فاستعادت الجدة ذاكرتها، إذا بها تحدق في مروان وتقول بدهشة: ماذا تقول يا بني، معقول! أنت مروان ناجي.
وذهبت تنادي في القرية: يا سارة سلوى، أقبلي بسرعة، جدك قام من قبره، أعادوه للحياة مرة أخرى.
أخذت العجوز تقول له: الموت راحة لنا، لماذا عدت للحياة يا بني من جديد، وإن كان هناك متعة؟! لكن الحياة لا تخلو من التعب والألم.
حضرت سارة وأخذت تحدق في مروان، وتسأله عن نسبه. تأكدت أنه جدها الخامس. احتضنته وهي تقول: ابني فكري فيه شبه منك. راح تناديه وهو يحرث أحد الحقول على أنيموريبوت، وكان مروان يظنه ثورا. أتي فكري يجري فسقط على الأرض، وأصيب بجرح بليغ وينزف منه الدم، فأسرعت العجوز بإحضار جهاز يشبه القلم الكبير، ومررت شعاعا منه على الجرح، فخاطته سريعا ولم يعد فكري يشعر بالألم. قالت له: هذا مروان ناجي أحد أجدادك، انظر إليه إنك تشبهه.
احتفلت القرية بمروان ونسائه. سأل هو عن بقية أقربائه، عرف أنهم رحلوا عن القرية وتوزعوا في المدن بعد أن صار العالم دولة واحدة. جلس هو وحورياته في أحد منتجعات القرية، يشاهدون جبل «عصيران»، وقد أصبح كله مدرجات زراعية، وكذلك الجبال التي كانت جرداء في زمانه، وعلى رءوس الجبال المصعد الجوي، توصل أهل الريف من مكان إلى مكان. انطلق نادر في المصعد الجوي نحو شاطئ منطقة «الأثاور» لجلب السمك الطري. عبر فوق حقول الأرز على ضفاف الوديان .. عاد بعد ربع ساعة، وأكلوا وجبة بحرية مشوية بجهاز يستخدم أشعة الشمس. مكث ثلاثة أيام في قريته مع حورياته، وأهل القرية يستغربون من مروان ونسائه، وهم يحتسون شاي القات.
مشى مروان في الأماكن التي كانت جرداء وهو شاب صغير. تأكد له أنه في حالة رؤية للمستقبل لا شك فيها. تمنى ألا يصحو. رأى أن الله خلق الماضي والحاضر والمستقبل معا، وأعطانا الله القدرة لمشاهدة الحاضر فقط.
3
أثناء العودة إلى صنعاء، عادوا من جهة مدينة «باجل» الساحلية من بحر شبه جزيرة العرب، تارة يطيرون ببدلاتهم، وتارة يركبون المركبة. مروا فوق مدن عدة صغيرة، لا تقل روعتها عن المدن الأخرى. بدا الحزن يسيطر عليه وهو يتخيل الناس تغرق في الماء. كانت النسوة تراقب تصرفاته، لكنهن لم يلحظن إلا الحزن، فعطرنه بعطر السعادة، وهم يتجهون نحو صنعاء.
استقبلهم بروسي وفي يده سكين المطبخ، يلوح بها عاليا يرقص رقصة «البرع». درم، برم، درم برم .. وقال: «أترون أنني أرقص مثل مروان، لقد تدربت عليها أثناء غيابكم. ثم أخذ عصا حديدية ووجهها ضدهن، يقول: تك تك تك ...» كمن يطلق الرصاص.
التفت مروان نحو النساء، وطلب منهن مشاهدة شيء عن متحف التراث التكنولوجي العالمي؛ لكي يتأكد بروسي من أي عالم أتيت. قدم بروسي الطعام وطلب مروان منه الجلوس، ثم بقوا يشاهدون معا عن الحقبة التي عاش فيها مروان، فشاهدوا وسائل المواصلات عبر العصور التاريخية للبشرية .. ثم شاهدوا المتحف الحربي وأسلحته؛ صورا لبنادق، وصواريخ دبابات، مدمرات، حاملات طائرات، مدافع، قنابل، ذخائر وقنابل ذرية .. كان مروان وهو يتناول طعامه يخبر بروسي وهو يستغرب مما يشاهده من تخلف: «أرأيت ذلك العالم الذي أتيت منه. أنا لست كريما.»
انتقلوا إلى قسم آخر من المتحف، وكان الدليل السياحي يشير إلى تماثيل علماء مراحل التطور التكنولوجي للبشرية .. وبعد أن انتهى الدليل من شرحه عن العلماء، سار يتحدث عن قادات العالم الذين قادوا حروبا في حياتهم ضد الإنسانية. شاهدوا تماثيل منتصبة، كأنها مومياء تدب فيها الحياة لقادة. كتب تحتهم الحروب التي أشعلوها على صفحات سوداء .. وحين شاهد مروان تمثال الزعماء الذين قادوا حروبا في اليمن ، هتف: انظرن يا حورياتي، هؤلاء القادة في زماني .. قادوا حروبا ضد بني وطنهم؛ ليبقوا في كراسيهم. ثم شاهد قادة عربا آخرين وقادة آخرين منهم يهودا.
شاهد خارطة العالم الجديد، وقد أزيلت تلك الحدود التي كانت مرسومة بين دول العالم. قال مروان لبروسي: أظنهم حين برمجوك، لم يدخلوا لك معلومات عن المتاحف التي تظهر الجانب الروحي العقائدي، التكنولوجي، الحربي، عظماء التاريخ .. هل رأيت عالمي الآن؟ - ما عرفته عن العالم القديم، أنه همجي.
ثم أخذوا يشاهدون متحف قادات العالم بعد الإنسان الجديد. شاهدوا تماثيل عن علماء الإنجازات العلمية والتكنولوجية، مخترع الطاقة الكونية، مخترع الهيوموروبوت، مخترع التحكم في الجاذبية، مخترع نانو التخاطر الذهني، مخترع إعادة الحياة (التناسخ)، اللقاء الروحي.
بينما كان بروسي يهجو العالم الهمجي، سقطت قذيفة على سوبر ماركت مروان، وتوفي معاوية. لم يسمحوا لحميدة بأن تشاهد جثة ابنها؛ لهذا لم تصدق بأنه مات. وقفت حميدة بجانب مروان تبكي مصير ولدها معاوية. تلعن الحرب التي خطط لها منذ سنين عدة، وتفشي البطالة ليلتحق بها الكثيرون، كل يدعي أنه يحمي الوطن، وشهيد الوطن.
4
بينما كانت حميدة تلعن الحكام المتصارعين على السلطة، وفضح القبح اليمني أمام العالم، كان مروان في الوقت نفسه يلعن حورياته العرايا، هذا الاسم الذي أطلقه عليهن مؤخرا بعد مشهد المسبح، فكلما ذكر عريهن في المسبح أمام العامة شعر بالغضب. ذات صباح خرجن إلى عملهن، وراح يفتش عن إحدى بدلات الإخفاء في المنزل ولبس إحداها، ثم خرج إلى الشارع يتساءل: «كيف سيرى نفسه وهو يمشي دون أن يراه أحد من الناس؟» تفاجأ بهيوموروبوت صغير يكتشفه، كان يظنه ولدا في الرابعة من عمره. سأل مروان: «لماذا تتخفى يا بشري؟!» استغرب مروان، لماذا يوجد مثل هذا الحجم من الهيوموروبوت، وما الفائدة منه؟ رآه مروان وحيدا فسأله: لماذا أنت وحيد؟! - إنني ضائع، لا أعرف طريق العودة إلى والدي.
اندهش مروان من الإجابة وضحك عاليا، وكان العابرون يلتفتون بحيرة ليروا من يضحك. سأله: وهل لك أب أنت أيضا؟! - نعم، فهو معلمي حتى أرشد. - ما هو اسمك؟ - توسي.
أطرق مروان برأسه قليلا مندهشا، ثم قال له: «هل يمكن أن تأتي إلى منزلي، حتى نجد أباك؟» وافقه الهيوموروبوت الضائع، وراحا يمشيان معا في الشوارع .. وجده مروان يكتسب المعرفة ويخزنها كطفل بشري ذكي. شعر مروان بالعطش، فدخل متجرا وأخذ شراب فاكهة غريبة عليه، لم يعرف كيف يدفع ثمنه. حدث نفسه أنه سيخبر حورياته بالأمر، لكنه لم يفعل ذلك. شعر بتعب شديد لا يدري لماذا! عاد إلى المنزل وخلع بدلة التخفي، فعاد إليه نشاطه. عرف من حورياته أن هذه البدلات لا تلبس لفترة طويلة، فهي تمتص الطاقة وترهق البدن.
فرح مروان بصغيره «توسي». كان كلما لقنه شيئا حفظه، عرف من حورياته أن هناك هيوموروبوت يصنع في عمر السنتين، كالإنسان في عمره وعقله، يتعلم بالتدريج وينمو ويكبر كالبشر، حتى في مشاعره وأحاسيسه. يمكن أن ينام مع الشواذ من النسوة حين يكبر. مصنوع من مواد قابلة للتمدد كلما مر الزمن، كانقسام الخلايا الحية عند البشر والحيوان. رأت النسوة أن مروان فرحان به، وأخبرن شرطة مراقبة السلوك بأن الهيموروبوت الضائع سيقيم لديهن وسيعتنين برعايته وتربيته، فنقلت الشرطة حضانته من أسرته السابقة إلى أسرة مروان.
ذهل مروان حين عرف من فرضانا أن العلماء يفكرون في إيجاد من يحل في الأرض عوضا عن البشر مستقبلا، عندما ينتقلون إلى كوكب «الأرض2»، واخترعوا هيوموروبوت شبيها بالإنسان، وأن توسي هو أحدهم. هذا النوع يستطيع أن يبتكر ويقوم بصناعة هيوموروبوت آخر، وهكذا تستمر الحياة في الأرض بخلق من إبداع الإنسان.
حدث مروان نفسه بدهشة: «خليفة الإنسان في الأرض يتشبه بالرب، يبدع خليفته كما أبدع الله خليفته في الأرض. عالم جميل لكنه يا للأسف كافر!» كبت غضبه وذهب إلى الحمام يلعن ويشتم سرا هناك؛ فقد أصبح يرى أن مريانا تقرأ أفكاره، وهو لم يعرف أنها تدري بتغير سلوكه، لكنها لم تبلغ عنه، وكانت تكلفة ذلك غالية.
5
كان مروان يخرج بصحبة الهيموروبوت الصغير «توسي» إلى الأسواق طوال اليوم، ويعودان عند غروب الشمس. تعلم من مروان الشيء الكثير.
بدأ مروان يرى أن العالم الذي يعيش فيه لا يدينون بالإسلام، فيه اختلاط الأنساب، والسماح بالعري في الأماكن العامة، والارتباط بسبع نساء، والسحاق .. أصبح باطنيا يظهر عكس ما يبطن؛ حتى لا ينبذ إلى جزيرة الشواذ، وزاد الصراع داخله، وتولدت الكراهية عنده من جديد، كما كان في حياته السابقة.
في عيد رأس السنة للإنسان الجديد، كان مروان يظن أن المدينة ستتزين، والناس ستلبس الجديد خلال الثلاثة الأيام، شاهد فقط بالونات ضخمة ارتفعت إلى السماء، مكتوبا عليها «عيد الإنسان الجديد لعام 301ب-ج.» ووعدته النسوة بنزهة إلى منتجعات الربع الخالي.
توجهوا إلى مدينة مأرب بصحبة توسي، مروا فوق مزارع وبساتين وجداول في أماكن عدة، إلى أن وصلوا مدينة «سبأ»، شاهد مبنى كبيرا في وسط المدينة غريبا في بنائه، بني من حجر به أعمدة ضخمة وساحة كبيرة. هبطت المركبة في ساحته، قيل له إنه «معبد إل مقة». سأل رجلا هناك يقف إلى جوار تمثال: هل أعادوا بناءه كما كان سابقا؟ - نعم. وجدوا مقبرة الملكة بلقيس، كانت في تابوتها وصولجانها في يدها، وكذلك تاجها على رأسها استنسخوها وأعادوها إلى الحياة. وهي التي أعادت تصميم بناء المعبد.
تفاجأ مروان بذلك الاكتشاف الأثري العظيم الذي لم يتحقق في زمانه. ظلت آثار زمن الملكة بلقيس مدفونة. لم تسع الدولة للتنقيب عنها بقدر ما كانت تسعى للتنقيب عن الثروات لنفسها. سأل النساء: هل صحيح وجدوا تابوت الملكة بلقيس، وأعادوها للحياة؟! - نعم، وستراها في متحف العظماء.
لم يصدق مروان هذا، وقال في نفسه: «كذب، كذب. بعث الموتى عمل لا يقدر عليه إلا الله.» عرفت مريانا بما حدث مروان به نفسه، لكنها لم تفصح عنه للغير. أرادت أن تستأثر به عن شريكاتها، وأخذت الأنانية فيها تظهر وتجرها إلى حب الذات لأول مرة في حياتها. دافعت عنه حين أخبرتها فرضانا بأن مروان رأى أن الرجل الذي حدثه عن بلقيس كاذب، وهذا يشير إلى عودة مروان إلى ما كان عليه قبل لقاح الأديان.
بقي مروان بجنب الرجل وحورياته يقطفن الفاكهة. وأخذ يريه بعض النقوش التي عثر عليها أحدهم فيه:
اجتمع قادات جيش سبأ وباركتهم الآلهة، وعينت عمرو ابن الهدهاد بن ذي شرح قائدا لجيش سبأ، يحمي سهولها ووديانها وسواحلها، وأقسم بألا يقصر في واجبه ويحافظ على وحدة البلاد.
ونقش آخر فيه:
نحن الملكة بلقيس زرنا أرض كوش الشرقية على ساحل بحر القلزم في شهر جبار 230 باراني
1
وأمرنا ببناء معبد الإله إل مقة في مدينة يكسوم؛ ليحج العابدون إليه لحفظ بلادهم من فيضان النيل، وغزو الأعداء، وأمرنا سدنة المعبد بتقديم العطايا للفقراء ولمن تقطعت بهم السبل، وخصصنا عطايا للأقيال، ولتحفظ الآلهة شعبي كوش وسبأ.
بينما كان الرجل يأخذ مروان لقراءة النقوش المترجمة كان يحدثه عما حدثتهم به الملكة بلقيس عن زمانها. قال: الملكة بلقيس، كانت تسافر إلى أرض «الحبش» كثيرا؛ يرافقها حراسها حين تسافر إلى هناك؛ ليحكموا السيطرة عليهم. كانوا هناك يحبونها كثيرا، يرونها قديسة. جمالها الباهر كان له أثر في كسب القبائل، ويحلفون باسمها.
بعد سياحتهم في مدينة مأرب، اتجهوا بسرعة مذهلة نحو غابات ومنتجعات الربع الخالي، برفقة مركبات أخرى. كان مروان يحدث نفسه بأن القيامة قد قربت، فقد عاد الربع الخالي مروجا وأنهارا، وصدق حديث رسول الله، لكن لم يبق لدينه مكان في هذا الزمان! كان توسي يمشي برفقة مروان، يتعلم مما يقوله معلمه. ذهب يطارد الفراشات، ويدهس الورد كطفل لا يلام على شيء .. شاهد مروان هناك ما جعله لا يصدق ما يرى، رأى محمية كبيرة يحيطها سور شفاف يقطنها؛ ديناصورات عملاقة، ماموث .. الغزلان بجوار الأسود والنمور تأكل الأعشاب. سأل ريحانة بدهشة: «كيف أعادوا الديناصورات إلى الحياة مرة أخرى؟ وكيف الحيوانات آكلة اللحوم تأكل أعشابا؟! هذا مستحيل. لماذا غيروا خلق الله؟ هذا حرام حرام.»
أثناء العودة إلى المنزل، أخبرهن مروان أنه يود أن يلقحهن، وأنه لن يشعر بالسعادة معهن بغير أولاد، وفرح حين وافقن. قالت له سيرينا: «نعم، يمكن أن نحمل منك الآن؛ فقد أصبحت مناسبا لهذا العالم.» أما مريانا فكتمت غيرتها، تفكر في شيء ما ...
6
وصلوا البيت مساء وكان توسي فرحا بالنزهة، وفي المساء بدأ بتلقيح شريكاته. وجد درجة حرارة ناريس مرتفعة عن معدلها الطبيعي، فبدأ بها هي الأولى. ألقاها أرضا، فضحكت النسوة من هذه الطريقة البربرية. وهكذا عمل مع الأخريات. اليوم الثاني لقح سريانا، واليوم الثالث ريحانة، واليوم الرابع مريانا، ثم فرح وفرضانا وسنا.
كان مروان سعيدا بأنه أصبح فردا في عالمه الفردوسي. جلسوا معا في الصالة. طلب مشاهدة متحف عظماء التاريخ البشري، وهو مشتاق ليشاهد صورة الملكة بلقيس. راحت مريانا تبحث من خلال تسجيل لهن عن الملكة بلقيس، حين ظهرت في المتحف تسمرت عيناه وهو يشاهد تمثالا لامرأة سمراء فاتنة تقف شامخة نجلاء العينين، نظراتها غاضبة، على رأسها تاج مرصع بالجواهر. تلبس بنطلونا وقميصا قصيرا يظهر أسفل بطنها. سأل مروان: كم عاشت في هذا العالم؟ - عشرين عاما. - وهل تحدثت عن تاريخها؟ - نعم، وهو محفوظ في مكتبة خاصة للإرث البشري. ونحن النساء نراها فلتة عصرها، استطاعت أن تحكم الرجال في عصر سيطرة الرجل، وأعطت درسا لنساء هذا العصر.
بعد أسبوع ذهبن جميعا إلى المستشفى؛ ليتأكدن من حملهن ما عدا سنا. سألها مروان عن عدم رغبتها في الذهاب. قالت: «أنا غير قابلة للحمل.» اندهش مروان حين تبين أنها مستنسخة؛ فقد توفيت عن عمر ناهز الخمس السنوات؛ نتيجة سقوطها من الدور العاشر، والمستنسخ غير قابل للإنجاب. قال في نفسه غاضبا: «إما أنهم يكذبون علي، أو أنا في حلم طال أمده .. هذا العالم يتدخل في مشيئة الخالق. لم أعد أحتمل!» بعد الكشف على نسائه تبين أنهن حاملات بذكور، فرحن كثيرا؛ فكل امرأة تحمل بذكر ستحصل على تفرغ لتربية الطفل لمدة عامين.
أحس مروان بأنه فرد في ذلك العالم الفردوسي. لم يعد يفكر بأنه في الجنة، أو عالم الجن، أو أنه في حالة رؤيا للمستقبل، فها هو سيصبح أبا وزادت سعادته إشراقا. يفكر بأن يقنعهن لتسلمن على يديه، ويطبقن أركان الإسلام. وجد نفسه مبشرا لدينه في ذلك العالم.
كذلك كانت أمه غصون، بعد حلم جميل راودها في المنام. قامت من نومها وخرجت من غرفة ابنها تسرع إلى حميدة وأيقظتها من منامها، أمسكت بمعصمها وقادتها إلى غرفة مروان، لتقف أمامه، تحدثت غصون بفرح: «انظري إلى شفتيه إنه يبدو سعيدا، وبسمته اتسعت أكثر، لم أرها هكذا من قبل، وهذه الليلة حلمت أنه تزوج! يعني أنه سيعيش وسيدخل دنيا جديدة!» لكن حميدة قالت لها بحزن بأن حلم الزواج يعني الموت!
رأت حميدة الدود يتحرك في رجله اليسرى. خافت وعادت إلى الخلف مرعوبة، وقالت باكية: «يا عمة، مروان يأكله الدود، لقد مات، لا بد من دفنه ...» صاحت غصون بغضب: «ابني لم يمت، بسمته تزداد إشراقا. لن تدفنوه وهو حي!» استدعت حميدة الطبيب المعالج ليؤكد صحة رؤيتها. وصل الطبيب ووضع الكمامة حول فمه وأنفه. جس نبض مروان، وفتح عينيه. قال: «إنه في ساعته الأخيرة من حياته، وعليكم بتطهير الغرفة من هذه الرائحة، يمكن أن تضر من يبقى فترة طويلة معه في الغرفة!»
دخل جميع الأولاد لمشاهدة أبيهم، ثم خرجوا يجلسون في الديوان. شكا علي لهم خسارة السوبر ماركت. واتفق الجميع على بيعه قبل أن يفلس، وكل واحد منهم يأخذ نصيبه الشرعي؛ فقد خسر الكثير من التجار والمقاولين منذ أن بدأت الحرب قبل ثمانية أشهر .. سمعت غصون بأن الأولاد يريدون تقسيم التركة، فأمسكت عصاها وجرت خلفهم تشتمهم، وتخبرهم بأن لن يقتسموا تركة ولدها، وهو لا يزال على قيد الحياة.
بينما كانت غصون تجري خلف أحفادها؛ لتضربهم بعصاها. كان مروان ونساؤه في نزهة داخل المدينة. مروا بحديقة تتدلى من أشجارها زهور مضيئة تصدر كل ألوان الطيف، فظن مروان أنها قناديل. ذهب مروان يتنزه في الحديقة، شاهد رجلا كبيرا في السن يداعب زهرة، ظن أنه قد شاهده من قبل. رحب ذلك الرجل بمروان، وذهبا يتحدثان معا عن أمور شتى .. قال الرجل بأنهم هزموا الشيطان، ومات في نفوسهم بعد السيطرة على الأنا. استنكر مروان، وقال: لكن الشيطان لا يهزم! - هو بذاته لا يهزم، لكن له وسائطه يعمل من خلالها، ونحن أضعفنا تلك الوسائط، وهي الأنا في الإنسان، وأصبحت تحت سيطرة العقل؛ فالشيطان لا يستطيع أن يعمل ما يريد إلا من خلال جسد الإنسان، كالروح التي لا تستطيع أن تعمل إلا من خلال الجسد أيضا. - أظنك فيلسوفا، هل تعرف عن الفلسفات القديمة؟ - نعم، أعرف.
ثم حدثه الرجل عن فلسفة التثليث في الشعوب القديمة، قائلا: كان الإغريق يعتقدون أن العالم تديره وتحركه ثلاثة أمور، هي: المنشئ الأول الأزلي، العقل المنبثق منه، ثم الروح، التي هي مصدر الأرواح جميعا. ونظرية الفيض الأفلاطونية الحديثة تقول: إن الوجود فاض عن الواحد، وهو العقل الأول «الإله»، ومنه النفس الكلية، ومنها الهيولى الأولى للكون. سلسلة متراتب بعضها يأخذ من بعض. أي من الواحد أتت الكثرة كما تحدث فيثاغورث، والفيض يعني كفيض النور من الشمس، ومنه نمت الحياة على الأرض. لقد عرف معظم الفلاسفة اليونانيين الخالق دون اتصالهم بدين توحيدي. أرسطو تحدث عن الله، وقال عنه: «إنه المحرك الأول للكون»، وأفلاطون قال عنه: «هو الأول الواحد، وكل شيء انبثق من الواحد.» وفي نظرية الفيض لأفلاطون قال: «إن الله فاض عنه كل الموجودات.»
حدث مروان نفسه: «أظنني شاهدت هذا الرجل. لا بد أن أذكر أين شاهدته!» ثم عاد يسمع حديث الرجل، وهو يتحدث عن فلسفة التثليث في الديانة الهندوسية، قائلا: كانوا يعتقدون أن الإله ذو ثلاثة أقانيم، وهو الوجود الثلاثي أو الوحدة الثلاثية، وهو اتحاد الآلهة (براهمة، فشنو، شيفا) غير منفكين عن الواحد، فإذا دعوت أحدهم فكأنك دعوت الكل، ويرون أن روح الإنسان هي مصغرة من روح الآلهة، وتستطيع أن تتحد بالله؛ لأنها استمدت روحها من الآلهة، وإذا استطاعت أن تستمد حياتها أو طاقتها من روح الله، تستطيع أن تكون إلها، ولا يتم هذا الاتحاد إلا بتجربة روحية. واعتقد بعض الصوفيين المسلمين بمبدأ الاتحاد مع الخالق «الحلول». وكذا البوذيون كانوا يقولون إن بوذا إله، ويقولون بأقانيمه الثلاثة، وكثير من الديانات كانوا يؤمنون بالأقانيم الثلاثة، مثل الفرعونية، الفينيقية، المكسيكيون، التتر والإسكندنافيون. كانوا يعبدون إلها من ثلاثة أقانيم. وكذلك بلاد سبأ القديمة كان يعبدون ثلاثة؛ الشمس والقمر والزهرة. وكذلك الديانة المسيحية، كانت تقول: إن الوجود له ثلاثة وجوه، تعبر عن وجه واحد «الله، الطينة، الحياة»، آدم الإنسان هو الطينة، نفخ الله فيها الحياة، وهي حلول الروح في المادة، أي هي واحد في ثلاثة، فإذا قلنا الله واحد، والطين اثنين، والحياة ثلاثة، فالاثنان هما المادة الأولى، والواحد هو الله، والثلاثة هي الحياة أي آدم، «الله، عيسى، الروح». يسمونهم الأقانيم الثلاثة، الروح والجسد والنفس. فالأب هو الروح، والجسد هو الابن، والنفس هي الروح القدس. أي طاقة الانبثاق، ونتاج الانبثاق هو الابن، كانبثاق الفكر عن التفكير.
كان مروان يبتسم بسخرية وهو يحدث نفسه: «قبحهم الله، كل فلسفه تأخذ من الأخرى.» وعاد يستمع إلى الرجل، وقد بدأ يتحدث عن الفلاسفة المسلمين. قاطعه مروان، وأخبره بأنه يعرف عن أحدهم وأبرزهم هو الكندي، قائلا: قبحه الله، وصف الخالق كما وصفه الفلاسفة الآخرون، قال عن الله بأنه المبدع الأول، فاض عنه كل شيء. وقال عن الأنبياء بأن زودهم الخالق بقدرة على التواصل ذهنيا مع الكون، وعندهم قدرة كبيرة للتناغم مع القدر، وهذه القدرة موجودة لدى كل البشر، لكنها بنسبة قليلة لا تتعدى قدرة هؤلاء الأنبياء. وهو علو الذهن وصفاؤه فوق دماغ الإنسان العادي المحدود، ما يسمى بالفضاء الداخلي، وأدمغتنا تنتهي إلى هذا النظام الطبيعي للروح الكونية، ولكن الإنسان العادي اتصاله منقطع معها، الذي يتجاوز ذلك النظام والقدرة.
حضرت حوريات مروان، وهو يودع الرجل. سألته ريحانة: هل عرفت ذلك الرجل؟ - لم أعرفه، لكن أظنني قد شاهدته يوما. - هو فيلسوف مستنسخ، أعيد إلى الحياة قبل خمسة عشر عاما، سيعيش حتى العشرين ثم يموت. توفي في زمانك، أظنك شاهدته في حياتك السابقة إنه «إشو» من مقاطعة دلهي. - يا للهول! كان فيلسوف عصره في الهند، أنكر جميع الأديان!
7
ذات يوم عند الظهيرة، خرج مروان من البيت بصحبة توسي في نزهة إلى المدينة. مشى مروان في الشارع يحدث توسي: «أنت أبدعك الإنسان وعليك أن تطيع مبدعك، كما نحن البشر نطيع مبدعنا الله. ما شاء الله، لا ينقصك إلا الروح!» ثم حدثه عما أساءه في هذا العصر، وما هو عقاب الخروج عن الدين والشرع .. وجد مروان أن توسي عقله يضاهي ولدا ابن خمس عشرة سنة، على الرغم من المدة البسيطة التي عاشها بجانبه. وهما يمشيان في الشارع قطف مروان برتقالا، وقضم منها، وكذلك فعل توسي ورمى بها أرضا. دخلا متنزها واختلى مروان في مكان خال وصلى صلاة العصر، وصلى توسي إلى جانبه.
عاد توسي من نزهته في الحديقة، وقد قطف زهرتين مضيئتين وعدة ثمرات، ولم ينهره مروان، رآه رجل، فقال لمروان: «إنك لم تحسن تربيته.» في طريق العودة إلى المنزل ذكر ما قاله الفيلسوف له: «أما ترى أن من تحبه دائما يكون في القلب، تطيعه في كل ما يأمرك به، وتنفذ ما يطلبه منك في سعادة غامرة لترضيه، ولو كلفك جهدا ومشقة، كذلك حين يكون الله في القلب.»
8
ازدادت النسوة بهجة بحملهن؛ فتجاهلن عن الكثير من سلوك مروان الذي طرأ منه. ففي ذات ليلة ومروان مع نسائه يتناولون وجبة العشاء، وحليب الصويا الممزوج بشراب التفاح والعنب، لم يعد مروان يتناوله لرائحته التي تفوح كرائحة الخمر. سأل عن الانتخابات التي تحدث في العالم، أخبرته ناريس بأنه ليس هناك انتخابات، بل الحاسوب هو الذي يقوم باختيار الأفضل لرئاسة العالم كل أربع سنوات، لديه معلومات عن كل فرد منذ الصغر، ويقوم أيضا باختيار رؤساء للإقليم، وهناك من يعتذر عن الرئاسة، فيحل محله الذي يليه في الكشف المعد من قبل الحاسوب. ضحك مروان وقال: «ونحن لدينا انتخابات نزيهة، يبقى الرئيس دورتين انتخابيتين، ثم يصبح مستشارا لخلفه، يقدم له خبرته!» ردت عليه سناء قائلة بتعجب: «أظنك قد نسيت، أو أنك تكذب! لقد شاهدنا في فيلم ذاكرتك، وأنت تتحدث في ديوان كبير، وهم يأكلون أعشاب الشاي عن تزوير الانتخابات، والانقلابات الدموية، ويستمر الحاكم في الحكم حتى يتوفاه الله، وهناك من يورث منصبه إلى أبنائه .. ومنهم من يري شعبه عبيدا له، ويسمي الشعب باسمه، والبلاد باسمه.» التفتت سناء نحو زميلاتها، وكانت بعضهن تمسح على بطنها، وقالت: «أظن أن مروان سيعود إلى سلوكه القديم!» دافعت مريانا عن مروان، ورأت أن تصرف سناء هو بسبب أنها لم تحمل مثلهن. أما بروسي فراح يساند سناء، وقال: «مروان أفسد سلوك هذا المنزل.»
9
ذات ليلة جلسوا جميعا يشاهدون المتحف التاريخي لعظماء البشرية عبر التاريخ، الذين غيروا بفكرهم مسيرة الإنسانية السلوكية والروحية. ظهر الدليل السياحي يبتسم، وقال: «انتفخت بطونكن، ستلدن قريبا، أنا مسرور لذلك.» فتح بابا يؤدي إلى صالة عظيمة تنتصب فيها تماثيل عدة يبدون في هيبة ووقار، وقال: «سأتحدث عن عظماء قدستهم البشرية قبل الإنسان الجديد.» وهو يشير إلى تمثال عيسى وهو مصلوب، وأخذ يسرد حياته .. ثم أشار إلى تمثال كل من بوذا، كونفوشيوس، بولس الرسول، زرادشت، ماهافيرا، لاو تسو، وصورة لموسى منحوتة في صخر البازلت الأخضر. وحين أشار الدليل إلى تمثال .. قال الدليل عنه: «إنه أعظم مؤثر روحي في تاريخ البشرية!» وقف مروان والغضب يتأجج فيه يكاد ينفجر كالبركان، لكنه حاول كتم غضبه! ومشى في الغرفة ذهابا وإيابا، يضرب يدا بيد يقول: «لا حول ولا قوة إلا بالله! كفرت هذه الأمة، لم أعد أحتمل، عالم أوجد جنته في الأرض، لكنه لا دين له!» سألهن بصوت عال وهو يواري غضبه: كيف عرفوا أوصافه، وأوصاف الآخرين؟!
ردت مريانا: يا عزيزنا لقد أصبحت فردا من هذا العالم، أنت الآن إنسان آخر.
عاد يسألها وبركان الغضب يتأجج داخله: «كيف نبشوا قبره، واستنسخوه؟! عالم ملعون، سيخسف الله به، هذا لا يجوز، بعث الموتى قبل يوم القيامة، ينحتون تماثيل للأنبياء!» وعاد يسأل وهو في حالة غضب: «وكم عاش بعد ما استنسخوه؟! جاوبته مريانا وهي في غاية القلق: عشرون عاما، والمستنسخ لا يستنسخ مرة أخرى أو ينجب.» بقي يمشي في الصالة متوترا، يود أن يحطم كل شيء. أخذت فرضانا تهدئه تقول له: يا مروان ستفسد لقاحك. لا تدع النار التي فيك تحرق الجنة داخلك. سينفيك هذا الغضب إلى خارج هذا العالم، بين الشواذ. سنكون نحن أول من ينفيك، رغم حبنا لك!
انفجر مروان غاضبا وكسر الطاولة، كانت النسوة يتهامسن: «لم يعد للقاح فائدة فيه، جسمه يرفض اللقاح !» وهو يقول بغضب: عالم فاسق. أباح التعري أمام العامة، والسحاق، ينسب المولود للأم، والمرأة تحكم الرجل. أعاد الموتى للحياة، وهذا شأن الله، وأنكر دين الإسلام. جعل الدين لقاحا، خدرتموني به، جعلتموني أرتكب الزنا بثلاث منكن.
خافت النسوة كثيرا، وبكت مريانا. كان بروسي يرقب المشهد، ثم قال لهم بغضب مما أخاف النسوة: «لقد خدعني هذا الرجل مؤخرا بأنه كريم نورين، إنه يشبهه. من أين أتى؟ من أرسله ليفسد هذا العالم؟! أنتم البشر عاطفيون، بعواطفكم ترتكبون الحماقات. كيف رأيتم أن لقاح الأديان سيجعله إنسانا جديدا، وهو في سن متأخرة من حياته؟! من الصعب تغير برمجته. أنا الآن غاضب، أظن هذا الرجل نقل إلي الغضب، هل هذا الغضب فيروس؟! أين صانعي ليرى ما بي. أريد أن أقذف بهذا الرجل من النافذة، أظنه قد أفسد تربية توسي أيضا. ثم ذهبوا يبحثون عن توسي، فلم يجدوه.»
ذهب بروسي إلى المطبخ، وسمعوا أشياء تحطم وتكسر. عم الخوف المنزل وأسرعت النساء إلى المطبخ عدا مريانا، راحت تعطي مروان كأسا فيها شراب .. أوصت به البروفسور ماري كدواء إسعافي إذا عاد إلى سلوكه الهمجي فجأة. سرى ذلك الشراب في جسد مروان كسريان الملح في الماء. فجأة خرج بروسي من المطبخ وعينه كالجمر واتجه نحو مروان، وفجأة أقبلت شرطة مراقبة السلوك، والمسعفون الطيارة وأحاطوا بالمنزل، يبحثون عن توسي. رأوا مروان في يد بروسي معلقا في الهواء يريد أن يقذف به من النافذة، فأوقفوا بروسي وشلوا حركته.
عرفت النسوة أن توسي ارتكب جرائم لم يسبق العهد بها. أسرعن لمشاهدة القنوات الفضائية وهي تبث جرائمه، وهو يقتل ثلاث نساء في خدرهن، ويجرح أربعا منهن في المسبح. ثم رأوا مشهدا آخر وهو يجرح ست نساء وهن يمارسن اللقاء الحميمي مع هيوموروبوت في منزلهن. كان مروان يحدث نفسه: «لله درك يا توسي، لله درك، لقد عملت الصحيح.» صرخت مريانا بعد أن قرأت أفكار مروان: «لا فائدة، لا فائدة. اقبضوا على مروان هو السبب، وأنا أيضا أستحق العقاب. لم أبلغ عما كان يدور في فكره ، لقد أحببته، وقصرت في واجبي.»
10
ألقت الشرطة القبض على توسي وبروسي وأرسلتهما إلى مشفى الهيموروبوت؛ لإعادة برمجتهما؛ لإزالة تأثير السلبيات التي اكتسباها أثناء بقاء مروان معهما، كذلك أرسلت نساء مروان ما عدا مريانا إلى المشفى للفحص الطبي، حول ما إذا كن قد تأثرن بسلوك مروان، وانتقل فيروس الأنانية والغضب إليهن. تلك الفيروسات التي كانت سبب بلاء العالم القديم.
أرسل مروان ومريانا إلى جزيرة الشواذ على مركبة خاصة، كان فيها امرأة وشاب تزوجا حديثا. دار الحديث بينهم، قال الشاب: «نبذت إلى الجزيرة؛ لأنني فضضت بكارة إحدى شريكاتي، كانت غير موافقة، وأخذت إلى الجزيرة للتأهيل هناك، وسوف أعود مرة أخرى بعد اختبارات عدة.» ثم ضحك ضحكة عالية، وقال: «منذ أن سيطرت المرأة أسست قانونا لصالحها. القانون لصالح المرأة في عالمنا، أليس كذلك؟» قالت مريانا بغضب: «أنت تريد أن تعيد العالم لعصر سيطرة الرجل، ونعود للحروب مرة أخرى؟ فعلا أنت تستحق النبذ. لماذا فضضت خاتم زوجتك دون إذنها؟!» قال الشاب: «أنت، لماذا نبذوك؟»، أجابته: «لأنني لم أقم بواجبي، ولم أوصل معلومات عن شريكي هذا؛ لأنني أحببته.» فقال الشاب: «جرمك أكبر من جرمي، أنت أصبت بفيروس الأنانية، وهذا خطر جدا، ولن تعودي إلى عالمك إلا بعد عدة سنوات، وستعيشين في مكان خاص مع شريكك الذي نقل إليك العدوى.» ثم سأل الشاب وهو يشير إلى مروان: «وأنت ما هو جرمك؟» أجاب مروان: «فقط غرت على ديني، أخبرت توسي أن يؤدب النساء العاهرات والشاذات. وجدت هذا العالم قد خرج عن دين الله، وتدخل في شئونه.» قال الشاب: «أما أنت فلن تعود من الجزيرة، وستموت هناك.» ثم التفت الشاب إلى الفتاة الأخرى وسألها: «وأنت لماذا نبذوك؟» أجابت: «كذبت.» قال الشاب: «أما أنت ستعودين بعد سنة من العلاج.»
11
وصلت المركبة إلى جزيرة خضراء، بناياتها ضخمة، لكنها ليست بجمال مدن العالم الأخرى. أنزل الشاب والفتاة أولا، في المكان الخاص بإعادة تأهيل السلوك. أما مروان فأخذوه إلى مكان آخر من الجزيرة هو ومريانا. استقبلوهما هناك بالسخرية، لم يجد مروان المكان غريبا عليه؛ فهو يشبه عالمه القديم بالفوضى وشوارع المدينة ومنازلها وناسها، حتى إنه ظن أنهم أعادوه إلى زمنه القديم. دخل مطعما مزدحما بالناس مليئا بالضجيج، وجد ما كان يأكله في حياته السابقة .. هتف لشاب صغير يعمل في المطعم: برمة لحم يا ورع (وسيم)، فلم يفهموه، فقال: الفطر الحنيذ، يا ليد. خرجوا من المطعم ومروا على سوق لبيع القات. قال لمريانا: «هكذا كان عالمي تماما.» ثم سألها هل يوجد هنا لقاء روحي؟ أجابت: «لا أظن.» ذهبوا إلى مكتب الوافدين ليسجلوا أنفسهم هناك، الذين بدورهم أرسلوهم للعمل في مصنع كبير، خاص لحفظ المواد الغذائية وتصديرها. وجدوها مدينة صناعية ضخمة، يعمل فيها المنبوذون، يطبق عليهم قانون العالم القديم، ليس هناك لقاء روحي، أو تقدم تقني مثل مدن العالم الجديد.
ولدت مريانا بولد يشبهه كثيرا، وعاش حياته كما كان يحياها في عالمه القديم .. كان مروان يمضغ القات يوميا هو ومريانا. عاد مروان إلى طبيعته السابقة. ذهب يوما يمشي إلى جبال الجزيرة، فرأى شجرة دم الأخوين، فصاح: «هذا جزيرة سقطرى». عاد وهو يسب ويلعن، يتملكه الغضب إلى أن وصل شقته التي يعيش فيها. أخبر مريانا عن الجزيرة التي لم تتطور كغيرها، وجعلوها تخدم العالم. وكان بالإمكان أن تكون مدينة حرة عالمية في زمانه.
12
ذات يوم وهما في سوق القات قابلوا «كريم نورين» صدفة. عرف مريانا، فصاح طربا: «هل لحقت بي يا حبيبتي؟!» وتعجب لماذا نبذت إلى الجزيرة! وسألها عن شريكاته .. ثم أخبرها كيف وصل هو إلى الجزيرة، قائلا: في آخر مرة كنت عندكن في المنزل قبل سنة ونصف، كان الوقت ليلا، أغط في النوم. شعرت بأن صخرة سقطت علي وكتمت أنفاسي. نهضت عريانا وأنا أشعر أنني أنسلخ عن جسدي. وقفت أشاهد نفسي ملقيا بجانبكن، فزاد جنوني حين شاهدت نفسي اثنين. خرجت إلى الشارع وكأن روحا شريرة سكنت جسدي، مشيت والغضب يتملكني، أحدث نفسي بصوت عال. ضحك رجل أمامي، فلطمته، وضربته، أتت شرطة مراقبة السلوك وأرسلوني إلى هنا؛ لأبقى عشر سنوات لإعادة تأهيل سلوكي.
ثم نظر لمروان وسأل مريانا: من هذا الرجل الذي يشبهني؟!
أخبرته عن قصته .. فغضب كريم واهتاج، وأقبل نحو مروان يشتمه، ويخبره أنه حل محله، وبسببه طرد من الفردوس. هجم عليه واشتد العراك بينهما. فض العابرون العراك بينهما، وذهب كريم وهو يهدد مروان بالانتقام منه. قال مروان لمريانا: «هذا هو عالمي الحقيقي، رأيته أنت بنفسك.»
ظل كريم يترصد مروان لينتقم منه، وجده في سوق القات، وتصارعا الاثنان، كان المشاهدون مندهشين للشبه الكبير بينهما. لم يفرقوا بين مروان وكريم نورين. كان الأخير يقول: أنت أخذت موقعي في الحياة. طردتني من الجنة وأرسلتني إلى هنا للعقاب. لا بد أن أعيدك إلى الجحيم الذي أتيت منه. روحك الشريرة سكنتني. لن أتركك تعود إلى الفردوس مرة أخرى. ستنقل وباء الماضي إلى هذا العالم، كما نقلته إلي. أنت فيروس الماضي الخطير، سأخلص هذا العالم منك.
استل نورين سكينا ورفعها ليطعن مروان، حينها تلاشى الأخير، ولم يعد المشاهدون يرون أمامهم إلا كريم نورين.
في تلك اللحظة كانت غصون نائمة في غرفته، قامت فجأة وهي لم تدر بالمعجزة التي حدثت لابنها. فقد تغير لون جسده من اللون الوردي الغامق الى لون وردي خفيف، وتوقف الصديد الذي كان يسيل من القروح. نظرت إلى التقويم كان التاريخ الرابع والعشرين من شهر يناير 2016م. تحدث نفسها: «ابني له تسعة أشهر بين الحياة والموت، ابني سيولد من جديد.»
خرجت من الغرفة والبهجة في عينيها، تدعو حميدة، فلم تستجب الأخيرة، تظن أن غصون توهمت شفاء ابنها. عادت مسرعة لترى ابنها، وقد أخرج من فمه أنبوبة التنفس الصناعي وأصبح يتنفس طبيعيا، يفتح فمه ببطء ويتألم .. يحرك سبابته اليمنى. هتفت بصوت عال: «ابني شفي كما شفي النبي أيوب!» سمعت حميدة هي وأولادها نداء غصون، وراحت تردد: «لا حول ولا قوة إلا بالله، جنت غصون على ابنها.» ثم هرعت إلى غرفة مروان، رأته فاندهشت، يحرك فمه ببطء، كذلك هرع الأولاد، وجدوا أن ما حدث لوالدهم معجزة. راحت حميدة تثني مفاصل يديه ورجليه ببطء، وجدتها صعبة الحركة، فمنذ تسعة أشهر لم يستطيعوا تدليكه، كشخص أصيب بالجدري المنقرض. سمعوا مروان وهو يهذي بأسماء غريبة ويتأوه من الألم يقول: «مريانا، ولدي .. ناريس، سناء، فرضانا.» فتح عينيه، وتلفت يسرة ويمنة، كانت الرؤية عنده غير واضحة، وبعد عشر دقائق استطاع أن يرى أمه وزوجته حميدة وأولاده، وهم ينظرون إليه بفرح بهيج. كان أمامه: عمر، سليم، سالم، نبيل وابنته فاطمة. اندهش وهو يرى أولاده أمامه، ثم قال: «ماذا جرى لي يا حميدة؟» حرك يده ببطء ومسح وجهه، وقال: «ماذا جرى للحيتي؟!» ثم نظر إلى سرته وقال: «لماذا أعادوا لي الحبل السري؟» قالت حميدة بفرح غامر ودموعها تنهمر: الحمد لله على السلامة .. لقد كنت في غيبوبة طويلة دامت تسعة أشهر، وكنت أشبه بالجثة الهامدة، وأكلتك القروح. لقد ولدت من جديد!
ثم فتح مروان عينيه، وقال ما أذهلهم: لم أكن مريضا يا أولادي، أظنني كنت في الجنة، وطردت منها. وا أسفاه عدت إلى الجحيم!
نظروا إليه بدهشة وهو يسأل: «أين ابناي معاوية وعلي؟» صمت الجميع ولم يجبه أحد. كانت غصون تقول ببهجة: ابني عاد إلى الحياة .. جلست بجوار ابنها، وراح هو يخبرها عن طفولته حتى عن لباس القابلة التي ولد على يدها، ماذا كانت ترتدي؟ .. خرجت غصون دون عصاها التي تتكئ عليها دائما، ثم جلست تبكي وتهتف كالمجنونة وتلطم خديها وفخذيها، وتقول: «ابني كان في الجنة، لم يكن يهذي. أبوكم كان في الجنة يا أحفادي.» ظلت تهتف، كنت أعرف أن ابني سيشفى من المرض: «كان عند ملائكة الحساب .. لم يكذب!» ثم غشي عليها.
13
في اليوم التالي حدثهم مروان عن رؤياه كما رآها.
كل فسر تلك الرؤيا على شاكلته، منهم من قال بأنها حلم رومانسي يستحضره العقل؛ لينفس عن كبته والبحث عن عالم الفضيلة. ومنهم من قال بأنها رؤيا عن المستقبل، كما كان يحدث للنبي دنيال حين كان الله يريه المستقبل. ومن قال بأنها أضغاث أحلام بعد أن تلبسه الشيطان وسكن جسده.
الشكر الجزيل
للدكتور: عبد الكريم قاسم الخطيب، أستاذ الفلسفة في جامعة صنعاء،
والناقدة والروائية: نجاة باحكيم،
على إبداء رأيهما في هذه الرواية.
ناپیژندل شوی مخ