ليس غرضي وأنا أكتب هاته الإلمامة لديوان «الينبوع» تقديم أبي شادي إلى قرائه، فما كان أبو شادي بحاجة إلى التقدمة، ولعل الكثير من قرائه يعرف عنه أكثر مما أعرف، ولا الإشادة بسجاحة خلقه، وسماحة نفسه، وطيبة قلبه، فتلك صفات يستطيع أن يدركها كل من يطالع آثاره، فيلمس فيها صوفيته العميقة التي تعاطف العالم، وتشمل كل شيء فيه بفيض من العطف والحنان، ولا التنويه بجهوده العظيمة المتعددة التي ينوء بحمل أعبائها فريق من الناس أولي العزم، فقد عرف الناس له هاته المزية، وآمنوا بها في شيء من العجب غير قليل.
أجل، فأنا لا أريد أن أعرض لكل ذلك، بل ولا أريد أن أعرض لشعر أبي شادي أيضا ببحث مفصل، ونظرة مستوعبة ، فقد فاجأ أبو شادي الناس في شعره بروح جديدة ونزعة مستحدثة، وأسلوب طريف، وطريقة لم يعهدوها من قبل، فقابلوه بشيء من الاستنكار غير قليل، ثم أخذ الزمان يعمل عمله، فاستساغه فريق من الناس وألفه، وأخذت فئات أخرى تشيد به وتنضح عنه، وظلت طائفة من الناس على رأيها الأول ونفرتها القديمة لا تتحلحل عنها أو تميل، فاختلف الناس فيه وما زالوا، ولا يزالون مختلفين فيه إلى ما شاء الله، وأعتقد أن كلمتي لا تنقص من هذا الخلاف قليلا ولا كثيرا؛ ولهذا فقد آثرت أن أتحدث حديثا أعم من ذلك وأشمل، وأن أتخذ موضوع هذا الحديث «الأدب العربي في العصر الحاضر»، ثم لا أتحدث عن شعر أبي شادي إلا كظاهرة من ظواهر هذا الأدب، لها وجهها الخاص، ولونها الذي تعرف به. •••
أعتقد أنني لا أكون غاليا في شيء إذا قلت إن عصرنا الحاضر يمتاز عن كل ما سبقه من العصور بامتزاج الثقافات فيه امتزاجا عظيما لا نظير له، وإن الأدب العربي الحديث قد اختلط بآداب العالم اختلاطا لم تعرفه تواريخ الآداب في عهودها السالفة.
ففي أطوار الانقلابات الكبرى، التي يريد فيها التاريخ أن يدور دورته المحتومة الخالدة، تأخذ نفسيات الشعوب التي ستولد مرة ثانية في التطور والتحور والاستحالة، فتستيقظ أحلامها النائمة، وتتوهج أشواقها الخامدة، وتصبح نفسها شعلة متأججة بنار الحنين، وينقسم قلبها الثائر إلى شطرين: شطر ملول، متبرم بالحاضر وما فيه، وشطر مشوق، طامح إلى المجهول وما فيه، وفي مثل هاته الحالة النفسية المعقدة التي تصبح فيها روح الأمة مشبوبة بحمى الحياة، يندفع الناس في لهفة اليقظة الطامحة إلى ثقافات العالم وفنونه وآدابه يطفئون بها ما في أعماق نفوسهم من جوع وظمأ إلى الحياة، فتتلاقح ثقافات، وتتمازج آداب، وتصطفق آراء وأفكار، وينتج من هذا المزيج ثقافة جديدة وأدب طريف لهما سحر وفتنة وجمال. كان ذلك في الروح اليونانية، حينما انتصرت على الفرس، واتصلت بروح الشرق في فارس وآشور ومصر، وكان ذلك في الروح الرومانية حينما مكن الله لها من اليونان فانتهبت ما لها من علم وأدب وفن، وكان ذلك في الروح العربية في العصر العباسي وما يليه، حينما اطلع العرب على ما لفارس والهند واليونان والرومان من حكمة، وأدب، وعلم، وفلسفة، وتشريع، وكان ذلك في الروح الأوروبية منذ عصر «النهضة» حينما اتخذت مثلها الأعلى في الأدب والفن ما لليونان والرومان من فن وأدب، وأخيرا كان ذلك أيضا في الروح العربية الحاضرة بعد يقظتها من سبات الدهور. ولكن امتزاج الأدب العربي الحاضر بغيره من الآداب قد كان على صورة من القوة والشمول لم يعهد لها مثيل في جميع العصور والأجيال، ولعل ذلك يرجع إلى «المطبعة» التي أعطت للحركة الثقافية هذا المظهر القوي الساطع، كما يرجع إلى طبيعة حضارة اليوم التي تمتاز بالسرعة والحركة والاتصال، فإن الأدب العربي في العصر العباسي وما يليه لم يتأثر إلا قليلا بأدب الفرس والهند وما لهما من حكمة وأمثال، وبقليل من أساطير اليهودية والمسيحية، وبشيء من الفلسفة اليونانية، وبعض المذاهب والنحل الشائعة إذ ذاك، وبنزر مشوه من أدب الرومان، فهو لم يتأثر تأثرا قويا بآداب هاته الأمم، ولا حاول أن يتصل اتصالا وثيقا بما لها من تاريخ ودين وأساطير، بل تأثر بها تأثرا بسيطا لعله لم يكن مقصودا ولا معنيا به، ولكنه على كل حال قد أحدث نتيجته المنتظرة، فاستحدثت معان وأخيلة وأساليب وطرائق من البيان لم يعهدها العرب من قبل ولا ألفوها. والأدب الأوروبي لم يتصل في عصر «النهضة» بغير الأدب اليوناني والروماني، ثم بقليل من الأدب العربي في صقلية والأندلس، ثم إنه عاد بعد ذلك إلى تاريخه يستلهم ما فيه من أقاصيص الفروسية وسير الأبطال، ثم رجع إلى دينه فأخذ يستوحي الأساطير المسيحية، ويتخذ منها غذاء لروحه وأحلامه، ثم إنه عثر على كنزه المفقود فأخذ يستمد من الروح الأوروبية نفسها مادة حياته التي لا تنفد، فكانت ثورته الرومانتيكية الحاسمة التي فتحت أمامه آفاقا جديدة، ووقفت به على حدود المجهول الذي لا تنتهي صوره وأشكاله، وعلمته كيف يستلهم الحياة نفسها، ويستوحي جمال الوجود، بعد أن كان يتخذ الوقائع والأحداث مادة وحيه وخياله، والتي ما زالت - فيما أرى - حية في صميمها، وإن اختلفت فيها الأسماء والحدود.
ذلك كل تأثر الأدب الأوروبي بغيره، أما الأدب العربي الحديث فإنه لا يريد أن يتصل ببعض آداب العالم دون بعض، كلا، وإنما هو يتصل بجميع آداب العالم، لا يستثني منها واحدا، سواء في ذلك القديم والجديد، والقريب والبعيد؛ فهو يتصل بالأدب الفرنسي والإنجليزي والألماني والإيطالي والروسي والإسباني والإسكانديناوي والأمريكي، بل وحتى الروماني واليوناني القديمين، وهو لا يريد أن يمر بهاته الآداب مر المجانب، بل يريد أن يتصل بروحها اتصالا وثيقا، وأن يتأثر بهذا الروح ويستوحيه، وهو لا يكتفي بهذا بل يستلهم تواريخ هاته الأمم والشعوب، وما لها من أساطير وخرافات، ثم هو يأبى إلا أن يستغل في استلهامه ما لها من فن وفلسفة وعلم، ثم هو لا ينسى أن يستوحي مع ذلك ما في أدب اللغة العربية وتاريخها وأساطيرها من صور الفن وآيات الجمال، ثم هو يضيف إلى كل ذلك ما في حياة الأمة العربية الحاضرة من أحاسيس مختلفة، وأحلام مشبوبة، وأطوار تشتبك فيها الحقيقة بالخيال، كل ذلك يتخذ من الأدب العربي المعاصر مادة لروحه، وغذاء لقلبه، وشرابا لأشواقه الجامحة.
وقل بين أدباء العربية الآن من كانت ثقافته مقصورة على العربية وحدها، بل إن الكثير منهم ليدين في إنتاجه إلى أكثر من ثقافتين وثلاث. والحق أنه قد أصبح من العسير جدا على الأديب العربي المعاصر أن يعصم نفسه من التأثر بالروح الأجنبية، فهو لا بد أن يتأثر بهذا الروح ولو تأثرا لا شعوريا، مهما كانت ثقافته خالصة في عروبتها، ومهما كان غاليا في التشيع لأنصار القديم، وما ذلك إلا لشيوع الترجمة والنقل عن الآداب الأجنبية شيوعا لم يعرفه تاريخ الآداب في عصر من عصوره.
وقد كان لاتصال الأدب العربي بغيره من آداب العالم هذا الاتصال القوي أن اكتسب الأدب ثروة فنية ضخمة في الصور والمعاني والأخيلة والأساليب بصورة لم تعرفها الآدب العربية من قبل، وإن أفادت اللغة العربية مرونة ودقة أصبح بهما الأديب الشاعر يستطيع أن يعبر عن أخفى العواطف المستسرة، وأدق الأحاسيس الغامضة، وأعقد الحالات النفسية التي كان أديب الأمس لا يستطيع تصورها وإدراكها، فضلا عن التعبير عنها، ونفخ الحياة فيها، وإعطائها ما يلائمها من أضواء وظلال. ولكن ذلك الاتصال الوثيق كما أنتج تينك النتيجتين الجميلتين أنتج نتيجة أخرى لا ندري على التدقيق ما سيكون أثرها في الأدب العربي الحاضر، فقد أدى إلى بلبلة في فهم الشعر، وضبط مقاييسه، وموضوعه، وغايته، لا نحسب أن تواريخ الأدب في العالم قد سجلت مثلها، حتى لقد كاد يصبح لكل أديب مقياسه في فهم الشعر وتقديره، وأصبح النقد فوضى لا تضبط لها حدود ولا تقوم على أساس محترم من الجميع.
فهناك المدرسة القديمة، وشعراؤها ونقادها، وآراؤها عن الشعر وما يجب أن يكون عليه، وهناك المدرسة الحديثة بما فيها من شعراء ونقدة على اختلاف نزعاتهم وثقافاتهم وأطوارهم النفسية، ومن خلفهم طوائف المتأدبين الذين لهم أحكامهم الخاصة على الشعر والشعراء والنقد والناقدين، والتأليف والمؤلفين، والذين لا تضن عليهم الصحافة ولا المطبعة بنشر ما يرتئون من رأي وحوار، ومن وراء كل ذلك جماهير القارئين في مختلف جهات العالم العربي بآرائهم المتقلبة التي تبنيها الغدو وتهدمها الآصال، ويعبث بها جزر الحوادث ومدها في خضم الزمان.
وإنه ليعيي المرء - مهما حاول - إحصاء هاته المذاهب، أو النزعات إذا تحرينا دقة التعبير، التي تضطرب في رءوس الشعراء والنقاد والمتأدبين، والتي تتقاذف الأدب العربي المعاصر أخذا وردا وجزرا ومدا، ولكن سنحاول أن نتحدث بإيجاز عن أظهر هاته النزعات في محاورات اليوم، وأقواها أثرا في نفوس الأدباء.
فمن هاته النزعات النزعة «الخيالية»، وهي نزعة لا تعتبر الشاعر شاعرا إلا إذا كان شعره عالما سحريا، لا تنتهي أطيافه وخيالاته ولا أضواؤه وظلماته، وتشعر فيه نفس القارئ أنها قد ارتفعت إلى ما وراء الغيوم وما خلف النجوم ... ومنها النزعة «الرمزية»، وهي نزعة لا تريد من الشاعر إلا أن يتحدث للناس من وراء السحاب، أو ملفوفا في مثل الضباب، ولا تتطلب منه إلا كلاما مبهما لذيذا، شبيها بالموسيقى في لغتها الغامضة التي كلما أصغى لها السامع حركت في نفسه ضروبا من الحس والتصور والخيال غير ما حركت من قبل، وعبرت له في كل لحظة تعبيرا جديدا لا تنتهي ألوان المتعة والطرافة فيه. ومنها النزعة «الفلسفية»، وهي نزعة لا تفهم الشاعر إلا أن يكون فيلسوفا له فلسفة مضبوطة محكمة لا تضطرب مقدماتها، ولا تختل نتائجها، ولا تتناقض أجزاؤها بتناقض حالات الشاعر النفسية واضطرابها بين الشك والإيمان والثورة والسكون واللذة والألم. ومنها النزعة «الثورية»، وهي نزعة لا تعترف للشاعر بالشاعرية إذا لم تكن له في آثاره قوة العاصفة الداوية والبراكين الطاغية، ينطق فتنطلق كلماته مجلجلة جامحة ترج الحياة في أعماقهم رجا، وتزلزل هدوء الأحلام، ويتكلم فيندلع اللهيب من كلماته المتوهجة بنار الحياة. ومنها النزعة «المتعمقة»، وهي نزعة تأبى على الشاعر إلا أن يكون عميقا كالليل، لا يناجي أبناء الإنسان بهاته المعاني الواضحة البادية التي تستوعبها اللمحة الخاطفة والنظرة الطائرة في الفضاء، وإنما تريد منه أن يناجيهم بما في أعماق الحياة والموت والوجود والعدم، وما في خفايا ذلك العالم المجهول الذي يحمله قلب الإنسان من عبودية عريقة للحياة، وثورة على نواميسها العاتية. ومنها النزعة «التاريخية»، وهي نزعة تنكر على الشاعر كل شيء إلا أن يكون ظلا واضحا لهاته الحياة العابرة، يستطيع المؤرخ أن يجد في آثاره صورة حية من عقائد الشعب وعاداته وأطواره، وتقلباته وأحلامه وخرافاته. ومنها النزعة «السياسية»، وهي نزعة لا تريد من الشاعر إلا أن يكون زعيم قوم يدعوهم إلى النهضة والحياة، ويهيب بهم إلى الضرب في سبيل الزمان الذي لا تنتهي تعاريجه وعقباته. ومنها النزعة «الصحافية»، وهي نزعة تريد من الشاعر أن ينظم في أحداث اليوم ومشاكل الساعة ويقدم للناس صحفا منظومة يسجل فيها حوادث العالم في السياسة والاقتصاد وكل شيء آخر، وعلى الإحساس والفكر والعاطفة رحمة الله ... ومنها النزعة «الغزلية»، وهي نزعة لا ترضى عن الشاعر إلا إذا قدم حياته قربانا للمرأة، وأحرق مواهبه بخورا تحد قدميها الجميلتين، ولم يتكلم بغير لغة الحب والدموع، أما بقية لغات النفس وعواطفها الأخرى فعليها لعنة الشعر والحياة ... ثم لعنة حضرات السادة الغزليين ...
ناپیژندل شوی مخ