هكذا كان الخوري عندما برح الهيكل، كان يسير في طريق بيته منكس الرأس، مكسور الخاطر كأنه قبر أحد بنيه، وسارت رعيته خلفه صامتين كأنهم عائدون من مأتم شاب في ميعة العمر، ولا غرابة فكلهم مسيحيون تغلغل اليقين في قلوبهم حتى الصميم.
بلغ الخوري بيته وليس وراءه غير بنيه ثلاثتهم، لأن الناس ارفضوا عنه شيئا فشيئا، فالوقت الظهر وكلهم صائمون، وبيت الخوري في رأس الضيعة. أفطر الخوري وأولاده، وودع الطبق إلى صباح الأحد، تلك كانت عادته في مثل ذاك اليوم كل عام، يطوي هذين اليومين زهدا وإماتة نفس ابتغاء النعمة والأجر.
تغدى وعاد إلى الكنيسة ليزور قبر الفادي ويتعظ بفاجعة ابن الإنسان ويتألم لآلامه، ويشبع مجاعته الروحية قبل الرحيل، متزودا لآخرته ما يشفع به عند الله. كان يصلي لأجل رعيته، ويحاسب نفسه قبل أن يأتي السارق، ويمحو بدموع التوبة كل لطخة في كتاب أعماله قبل عرضه على ربه في الدينونة الخاصة حين يقف بين يديه حافيا عريان، والموعد قريب، فالخوري يوحنا ابن ثمان وثمانين وإن كان بعد ذا همة.
صرف عصارى الجمعة في الكنيسة، طورا يصلي جاثيا، وتارة يقرأ متأملا في كتاب «مرشد الخاطئ»، وحينا في كتاب «مرشد الكاهن»، ويتبحر في شرح بلرمينوس للعقائد المسيحية، ثم ينتقل إلى منبر التوبة يسمع اعترافات المؤمنين والمؤمنات.
ولما غابت الشمس قرع الجرس حزنا، ولم لا، فالمسيح مات، ثم أسرج قنديلا وفتش عن صلاة المساء في «الحاش» وقلب صفحات السنكسار و«الريش قريان» والأناجيل والإفراميات حتى إذا عثر على الفصول الخاصة بتلك الليلة الرهيبة طوى الكتب ووضعها ناحية، وجاء دور السجدات فنيف عدد ركعاته على المائة.
ولما اجتمع الشعب قامت الصلاة، فمنح رعيته البركة في آخرها وأوصاهم جميعا أن ينقوا ضمائرهم، ويستعدوا لملاقاة الختن السماوي بمصابيح العذارى الحكيمات المملوءة بزيت التقوى المنبثق منها نور الإيمان وحرارة الندامة والرجاء وأشعة المحبة المسيحية الصادقة.
وعاد الناس إلى بيوتهم وظل الخوري يوحنا يصلي عند القبر، يطيب له الرنين ويلذ له النواح الروحي المرسل من صدر عامر بالإيمان، ومن نفس قانتة ألبسها الله ثوب ندامة لم يلبس داود إبان توبته أجمل منه وأبهى.
وكان يجثو بالقرب منه شقيقه الخوري موسى الضرير، يصلي ويسمع ما يقرأ عليه أخوه، وكان الخوري موسى رقيق القلب تفيض دموعه بغزارة لأقل كلمة تلامس شعوره الديني.
وقبل منتصف الليل أثلث الكهنة، انضم إليهم أخوهم بالمسيح الخوري يوحنا الحداد الذي قام برتبة دفن المسيح في مزرعة مجاورة لا خوري لها، هذا الكاهن طيب القلب اشتهر بالصراحة البريئة من الغمز واللمز، تزينه السلامة المسيحية النقية، فاشترك الآباء الثلاثة في صلاة الليل وحضرها نفر من الشيوخ المتهجدين، وبعد ختام الصلاة ولى الكهنة الثلاثة وجوههم نحو القبر وأخذوا يقومون ويخرون ساجدين إلى الأذقان أمام الضريح حتى بان التعب فيهم.
مشهد رائع: بضعة شيوخ أصغرهم ابن خمس وسبعين يقومون بهذه النافلة الدينية الشاقة، والكهنة الشباب يغطون في مضاجعهم الناعمة.
ناپیژندل شوی مخ