فرفع بصره قليلا وشال حاجبه الأيسر وتضاحك قائلا: «ابني يتعلم! والأول في صفه!»
فكانت خيبتي مرة، وجرحني حديثه الناشف المتقطع: «ما عرفتني ولا عرفت ابني، حططتم من قدري جدا لتعظموا ابني وأمه، نسيتم فضل المربي.»
وصح عندي أن محدثي آت من العصفورية، فقلت له: «ما اسم ابنك يا عم؟ بحياتك حل هذه العقدة.»
وكأنه أدرك أني تضايقت فقال: «لا تؤاخذني، ثقلت عليك، كنا نضيع هذا الصبي ونجده يناظر العلماء ويجادلهم، أما هذه المرة فما لقيناه، لا في الهيكل ولا في العرس ولا في أي مكان آخر.»
فطفقت أردد من غير قصد: «يناظر العلماء ويجادلهم، أين سمعتها يا ربي؟»
وتطلعت صوبه كمن انفتحت له مغاليق الأسرار، فرأيت عصاه قد برعمت، وفاحت رائحة الزنبق ... تنم عن طهارة الرجل مرة ثانية.
ودخل يعقوب يحمل القهوة فشربتها مرددا: «واصنعوا هذه لذكري.»
موعظة القيامة
خرج الخوري يوحنا عبود من الاحتفال بدفن المسيح يوم الجمعة، وصدره يكاد ينشق من الحزن، وفي غضون وجهه بقية دمع لم تجف بعد، مشى يتعكز على عصا سنديانية معقوفة المقبض، يجر أذيال جبته الزرقاء وعلى رأسه قاووق الخوري الماروني العتيق الذي لم يرض به بديلا طول العمر.
كاهن شيخ خدم المذبح 65 عاما، تمثلت له مأساة سيده الشاب عند مغيب شمس العمر، حتى خال أنه يراها بعينه في أورشليم سنة 33 مسيحية، انفطر قلبه التياعا فكان يحسب كل زهرة تلقى على الصليب الدفين من أيدي المؤمنين حربة مسمومة، وأمست كل كلمة يسمعها من «السنكسار» عن آلام الابن الوحيد ومهانته تهيج شجونه، فكم صرف بأنيابه حنقا على قيافا ويوحنان، وكم آلمه تذبذب بيلاطس البنطي، ويا لفجيعته إذ رأى السيد - وحده - بين الكهنة ورؤساء الكهنة والكتبة وأذنابهم يبصقون بوجهه ويلطمونه، وتلاميذه تركوه وخذلوه، تمنى لو أنه كان في ذلك الزمان فينصره ويموت معه شهيدا، فيرث الملكوت بأقرب وسيلة وأضمنها.
ناپیژندل شوی مخ