121

وذهب معديكرب إلى حانة النبطي؛ ليستمتع بخمرها ويشهد ما فيها من رقص ويستمع إلى ما فيها من غناء، وليرى تلك الفتاة العجيبة البارعة طليبة التي سمع اسمها يتردد على الألسنة.

واستقبله النبطي مسرعا مرحبا واتخذ له مجلسا في الصدر، والتف حوله جمع من تجار القبائل، وجلسوا إليه يتحدثون في شئون شتى، وأنشد بعضهم ما خف عليه من قصائد الشعراء التي سمعها ... وأتت الكئوس تدور عليهم، ومعها أطباق من فاكهة الطائف وجلق، ومن بقول حلب وأزمير. ثم بدأ الغناء والرقص، فتطلع الفتى يدير بصره ليرى الفتاة التي سمع عنها، ولكنها لم تظهر بعد أن مضت ساعة طويلة، وخشي أن يكون قد عرض لها بعض ما كان يعتادها، وظهر عليه شيء من القلق وكاد يهم بالانصراف خائبا. ثم تعالت أصوات من أقصى المكان، واضطربت المجالس بمن فيها، وأقبل جمع من الشبان يتضاحكون وفي وسطهم طليبة، في ملابس براقة زاهية من الحرير الموشى، وسارت تنثر بسماتها، وكلما مرت بجمع أسفر وجهها عن بسمة ضئيلة، وقالت وهي تلقي عليه نظرة شاملة: «عمتم مساء.»

ونظر إليها معديكرب في دهشة، وأخذ الكأس التي مدت إليه فرشف منها يحاول أن يغطي دهشته. أتكون هي حقا؟ ومال النبطي على الفتاة يحدثها، ثم رفع صوته قائلا لها: هنا ضيف كريم يزورنا لأول مرة.

فالتفتت نحو معديكرب لفتة سريعة، ثم ردت إليه نظرتها حتى وقعت عيناه في عينيها في حركة تصبغها دهشة مستورة، وأسرعت متخلصة من نظرته في شيء يشبه الجفول، وصاح الفتى في سره: «إنها هي!»

ومضى النبطي قائلا: أرى على وجهك نظرة خبيثة، فلا تدعيه يفلت.

وتعالت ضحكته وضحك الجميع وفيهم معديكرب، وأظهرت طليبة شيئا من التدلل، ثم ذهبت تخطر خفيفة وبدأت تغني.

وتضايقت حلقة الجلوس في الحانة وتزاحمت صفوفها، وعلت أنغام الغناء تبعثها طليبة متطربة، ثم انطلقت في فضاء الحلقة في وثبات رشيقة أو خطوات رفيقة. وكانت إذا اقتربت من معديكرب تنظر إليه نظرة سريعة وتبتسم ابتسامة خفية، ثم تندفع في عنف باعدة عنه إلى أقصى الحلقة، وتطامن من وثبها وتهدئ من سرعتها كأنها تستروح بعد جهد شق عليها. ونسي الفتى في نشوته أنه هناك في حانة، وأحس في نفسه شيئا يشبه الغيرة أن تعرض هذه الفتاة محاسنها للأنظار المخمورة التي تتعلق بها. وخشع الجمع المحتشد وغشيه من سحر الفتاة ما أسكن ضجته، إلا همسات تقول إن طليبة لم تنطلق في ليلة كما انطلقت في تلك الليلة الرائعة. وإذا صرخة جشاء تعلو فجأة ولم يتبين أحد صاحبها، حتى تحول الموقف إلى منظر لم يتوقعه أحد، ولم يستطع أحد أن يحول دونه؛ فقد اندفع من بين الجالسين رجل طويل القامة مفتول الأعضاء مرفوع الرأس، تدل هيئته على التهور والقوة، يتمايل في خطواته وهو يصيح صيحة سكرى، حتى إذا ما بلغ الفتاة طوقها بذراعيه وأهوى عليها بقبلة معربدة، ثم وقف أمامها يتمايل من أثر الشراب وهو باسط ذراعيه، ويقول لها بلفظ متعثر: «أنت ساحرة.» وبرقت العيون من الدهشة، ولم يهم أحد من موضعه، كأن الجمع يشهد منظرا يريد أن يرى آخر مشاهده. ووقفت طليبة مذهولة لمدة لحظة، ثم نظرت إلى الرجل ثائرة، ورفعت رأسها وعلا صدرها مضطربا، وفي مثل لمح البصر رفعت يدها فصفعته، ووقفت أمامه متحدية متنمرة.

وما كاد الناس يرون ذلك حتى عمهم الاضطراب وثاروا من مقاعدهم؛ إذ أحسوا أن الأمر قد تحول إلى مأزق، وارتد الرجل إلى الوراء مترنحا يبتسم ابتسامة غل، وقال لها: هرة وحشية!

ورفع يده إليها، وما كاد يفعل حتى وثب معديكرب من مجلسه، فدفعه بجمع يديه وألقاه على الأرض ووقف ينتظر قيامه.

ووقف الناس سكوتا في خشية وعجب، ينظرون إلى الأشخاص الثلاثة في وسط الحلقة، كأنهم يرون ملهاة. وقام الرجل كأنه ثعبان غاضب، فاندفع نحو معديكرب، وابتدأ بينهما صراع عنيف يشبه أن يكون قتالا للموت. ومرت ساعة قصيرة تردد فيها الفوز بين الخصمين، وكانت طليبة تضع منديلا بين أسنانها وتنظر إليهما في لهفة، وفيما كان الجمع ممسكا لأنفاسه على إثر دفعة شديدة ألقى بها معديكرب خصمه على الأرض، قام الرجل حانيا جسمه إلى الأرض مطرقا في حقد، يختلس نظرة ثائرة إلى خصمه وهو مكشر عن أنيابه، وصرخ صرخة عالية وفي يمينه خنجر مسلول، ووضعت طليبة منديلها على وجهها في فزع، وهمهم الناس سخطا، وارتد معديكرب إلى الوراء خطوات وهو يرى السلاح الخائن يلمع نحوه مهددا، ولكن خطوات الرجل لم تكن ثابتة، فاستطاع الفتى أن ينفلت إلى جانب، وجمع قوته في ضربة حانقة، فتزعزع الرجل واضطرب، وانتزع معديكرب الخنجر من يده وقذف به تحت قدميه، ووقف ينظر إليه متحديا.

ناپیژندل شوی مخ