ولما شاع خبر المكتوب اتخذه مونتانلي وسيلة ليعلن استقلاله وشكوكه في نيات فرنسة، وانسحب البابا إلى قصر ملك نابولي في بورتيجي وأعلن للملأ أنه لن يعود إلى روما ما لم تتجاهل فرنسة هذا المكتوب وتتركه طليقا في الإصلاحات التي يراها ضرورية، وقال إن أقصى ما يتسامح به إرادة يعد بها بعفو غامض وإقامة مجلس دولة وتأليف لجنة مالية ومجالس إدارية في الولايات وسلطة واسعة لمجالس النواحي وإصلاحات في القضاء.
وكانت الاستثناءات التي وردت في العفو تتضمن إما إنزال بعض العقوبات أو نفي جميع أعضاء المجلس التأسيسي وجميع أعضاء الحكومات المؤقتة ومعظم رجال الجيش من ضباط الحرس الذين غض عنهم في سنة 1846 وكل من كان له ضلع في الثورة، وقد اضطر آلاف من المواطنين المخلصين أن يقبلوا النفي والبؤس؛ خيفة الاضطهاد.
وقد أظهرت السنوات التي تلت تفاهة قيمة الوعود بالإصلاح، ولقد عاد البابا في 12 نيسان إلى روما محفوفا بالجنود الأجانب دون أن يلاقي أي حفاوة من شعبه وأخذ البابا يفخر بأن بلاطه مجرد من النفوذ الداخلي والخارجي، وأنه يعاضد النظريات اللاهوتية الملائمة في إيطالية وفرنسة وإنجلترة وتشجيعها، ويعهد للرهبان بالإشراف على التعليم ويضع عقائد جديدة ويقمع أية نزعة حرة.
وإذا كانت البابوية قد أضاعت مركزها في إيطالية؛ فإنها أصبحت قوية في الخارج، وقد غدت الكنيسة تحت رحمة اليسوعيين بكل معنى الكلمة، ومع أن المعارضة الوطنية والحرة لم يقض عليها القضاء الكلي إلا أنها أصيبت بالعجز تدريجيا أمام الاقتراع الكاثوليكي العام في الأمم اللاتينية الذي كان يفضل الاستبداد الروحي على الحرية، ويضع الكنيسة فوق الوطن.
أما في نابولي فبعد أن تحرر فرديناند من كل نفوذ أجنبي انطلق نحو استبداد لا مثيل له، ومن ظريف ما يذكر أنه حمل المعلمين على أن يقولوا لتلاميذهم: «بأن الأمير في حل من الحنث في يمين الولاء للدستور، إذا كان ذلك اليمين منافيا لمصلحة الدولة العامة وأنه لا معنى لأي وعد يقطعه الأمير ويحدد فيه سيادته وسلطانه.» وقد هنأه قيصر روسية بصفته منقذ النظام الاجتماعي، وبعد أن لاقت منه صقلية عقابا صارما هوت على قدميه مضرجة بدمائها.
وقد أسرع فرديناند فمحا آثار الرقي الحر الذي تم في السنة المنصرمة، فوضع التعليم في مخالب الإكليروس، وألزم التلاميذ في كل جامعة بأن ينتموا إلى هيئة روحية وسمح لليسوعيين بالعودة، وأصبح الوزراء عبارة عن مستشاري الملك لا أكثر، وكاد الوزراء الجديدون رغم هذا أن يثقوا حينا من الزمن بوعود فرديناند بأن يرعى الدستور ولكنه تعهد للنمسة بأن لا يفي بوعوده.
ولكي يسوغ ما بيته للدستور؛ أرسل صنائعه للولايات للحصول على استدعاءات يلتمس فيها موقعوها إلغاء الدستور، وقد حمل الكثيرون على التوقيعات قسرا، ومع أن رئيس أساقفة نابولي رفض التأثير في رجاله رفضا باتا ورغم أن المجلس البلدي في العاصمة امتنع عن التواقيع؛ فالمؤامرة نجحت وأصبح في اليد عدد من الاستدعاءات يسوغ تعطيل الحياة الدستورية.
ولم تقنع جماعة الكاماريلا بكل ما تم، وسارت في نابولي مظاهرة معارضة، لعل الشرطة هي التي دبرتها، وانفجرت قنبلة بين الجماهير المتظاهرين، وانتهز أذناب البلاط هذه الفرصة لتنظيم حركة الإرهاب فقبض على اثنين وثمانين من وجوه الأحرار بتهمة انتمائهم إلى جمعية وحدة إيطالية الثورية، وكانت المحاكمة التي استمرت ثمانية أيام أشهر عبارة عن مهزلة قضائية زورت فيها الكتب، واختلقت التهم، وأجبرت الشرطة الناس على الشهادات المزورة، ولجأت إلى كل أساليب الضغط والإرهاب لإجبار المتهمين على الاعتراف.
وألقي المتهمون في السجون مع المجرمين العاديين، ثم حكمت المحكمة على ثلاثة وعشرين منهم بالأشغال الشاقة المؤبدة أو الطويلة الأمد، وكان بينهم بويرتو وسبتمبريني، وأدهشت هذه المحاكمة الرأي العام حتى إنها جلبت شفقة أهل سانتالوقا للمضطهدين وأخذ الفقراء يبيعون الخبز لشراء الشموع، ويشعلونها في الكنائس للحصول على عناية القديسين.
وقد احتج السفراء على مهازل تلك المحكمة وعلى سياسة البطش الظالمة، فكان جواب فرديناند أنه أرسل المحكوم عليهم مكبلين بالحديد إلى سجون وينسيده وأيشجيه، وكان المستر جلادستون وقتئذ في نابولي فاتصل بالمحكوم عليهم خفية، واطلع على فظاعة ما يجري، وقد شرح ما شاهده من فظاعة بكتاب أرسله إلى الكونت واميردن في نيسان سنة 1851، ونشر الكتاب في لندن فأحدث هزة اشمئزاز في جميع أنحاء أوروبا.
ناپیژندل شوی مخ