مقدمة
1 - نابليون وإيطالية
2 - جمعية الكاربوناري
3 - الأحوال الاجتماعية في إيطالية
4 - مودينه - بارمه - لوكا - طوسكانه
5 - مملكة نابولي وصقلية
6 - إيطالية بأجمعها
7 - الكاربوناريون الأخيرون
8 - مازيني وإيطالية الفتاة
9 - المعتدلون
10 - بيوس التاسع
11 - القوانين الأساسية
12 - الوثبة القومية
13 - الحرب
14 - معتدلون ودموقراطيون
15 - الدموقراطيون في الحكم
16 - نوفاره
17 - شباط 1848-أيار 1849
18 - الجمهورية المركزية
19 - البندقية في عهد إدارة مانين
20 - بيمونته بعد نوفاره - الارتجاع
21 - كافور
22 - زعامة بيمونته
23 - مؤتمر باريس
24 - الجمعية القومية
25 - بلومبير
26 - حرب سنة 1859
27 - بعد فيلافرنكة
28 - انضمام الوسط
29 - أنصار الوحدة
30 - غاريبالدي في صقلية
31 - إلحاق الجنوب
32 - المملكة الجديدة
33 - إيطاليا وروما
34 - اسبرومونتة
35 - ميثاق إيلول
36 - قائمة التخطئة
37 - فتح فنيسيه
38 - البلاد والمجلس النيابي
39 - لائحة قانون الكنيسة الحرة
40 - مينتانة
41 - نحو روما
مقدمة
1 - نابليون وإيطالية
2 - جمعية الكاربوناري
3 - الأحوال الاجتماعية في إيطالية
4 - مودينه - بارمه - لوكا - طوسكانه
5 - مملكة نابولي وصقلية
6 - إيطالية بأجمعها
7 - الكاربوناريون الأخيرون
8 - مازيني وإيطالية الفتاة
9 - المعتدلون
10 - بيوس التاسع
11 - القوانين الأساسية
12 - الوثبة القومية
13 - الحرب
14 - معتدلون ودموقراطيون
15 - الدموقراطيون في الحكم
16 - نوفاره
17 - شباط 1848-أيار 1849
18 - الجمهورية المركزية
19 - البندقية في عهد إدارة مانين
20 - بيمونته بعد نوفاره - الارتجاع
21 - كافور
22 - زعامة بيمونته
23 - مؤتمر باريس
24 - الجمعية القومية
25 - بلومبير
26 - حرب سنة 1859
27 - بعد فيلافرنكة
28 - انضمام الوسط
29 - أنصار الوحدة
30 - غاريبالدي في صقلية
31 - إلحاق الجنوب
32 - المملكة الجديدة
33 - إيطاليا وروما
34 - اسبرومونتة
35 - ميثاق إيلول
36 - قائمة التخطئة
37 - فتح فنيسيه
38 - البلاد والمجلس النيابي
39 - لائحة قانون الكنيسة الحرة
40 - مينتانة
41 - نحو روما
الوحدة الإيطالية
الوحدة الإيطالية
تأليف
بولتن كنج
ترجمة
طه الهاشمي
مقدمة
أصدر الكاتب الإنجليزي «بولتن كنج» كتابه تاريخ الوحدة الإيطالية سنة 1899 وترجم إلى الفرنسية سنة 1901 في مجلدين ضخمين يبلغ عدد صفحاتهما زهاء تسعمائة صفحة، وقد كتب بولتن كتابه هذا بعد ما راجع نحو تسعمائة كتاب يبحث في تاريخ إيطالية الحديث فيما بين سنة 1814 وسنة 1871، وقضى عشر سنوات في تأليفه، ويظهر من ذلك أنه شرع في تأليف كتابه بعد انقضاء خمس عشرة سنة على آخر حادثة دونها، وقد لا يكون انقضاء هذا المدة كافيا لأن يستطيع الباحث المدقق استنباط النتائج، غير أن المصادر الإيطالية والفرنسية والإنجليزية التي أدرجت أسماؤها في نهاية كتابه، من شأنها بفضل مواضيعها وشخصية مؤلفها أن تزود المؤرخ الباحث بكل ما يحتاج إليه من مادة تجعله قادرا على تمييز الغث من السمين والخبيث من الطيب؛ لا سيما وأن كثيرا من الكتب الإيطالية التي رجع المؤلف إليها قد دونها رجال إيطاليون اشتركوا فعلا في بناء الوحدة الإيطالية.
لقد بذل المؤلف جهده ليكون حياديا في بحثه، والواقع أنه عسير على الذي يقدم على كتابة تاريخ بلاده المعاصر؛ أن يكون حياديا في بحثه فلا بد من خضوعه لبعض المؤثرات العاطفية، أما المؤرخ الأجنبي فيستطيع أن يتجرد عن العاطفة وأن يستقصي الحوادث في غير هوى، لعل المؤرخين الإنجليز في نهاية القرن التاسع عشر كانوا أحسن من يكتب تاريخ الوحدة الإيطالية مجردين عن العاطفة، بعيدين عن الأهواء، فيبدو أن بولتن كنج قد سبق الجميع في هذا المضمار.
لقد عثر أحد أصدقائي على النسخة الإفرنسية لهذا الكتاب منذ أكثر من 25 سنة بعث بها لي فقرأتها وأعجبت بها أي إعجاب، وعزمت على ترجمتها في أول فرصة تسنح؛ لاعتقادي أن أشد ما يحتاج إليه شبان العرب هو الاطلاع على تاريخ النهضات القومية في القرن التاسع عشر، لا سيما حركة الوحدة الإيطالية.
إن أوجب واجبات الشباب العربي أن يعرفوا كيف نهضت الأمم المستعبدة وظفرت باستقلالها وأقامت وحدتها؛ ففي ذلك عبرة لهم وحافز.
ولم يتسن لي ترجمة هذا الكتاب إلا في المدة الأخيرة حينما كنت بعيدا عن الوطن، ولم أشأ ترجمته حرفيا؛ لأن ذلك يتطلب وقتا طويلا فضلا عن أن صعوبة الطبع في هذه الظروف تحول دون إصدار الترجمة في مجلدين ضخمين. وعليه فإنني آثرت ترجمته ملخصا على أن لا يخل الإيجاز بأساس الموضوع وتسلسل الوقائع، فهذه الترجمة إذن نسخة مصغرة، تحتوي كل ما ورد في الكتاب من أبحاث ومعلومات.
من الأقوال المأثورة أن التاريخ يعيد نفسه، بيد أن الاستقصاء الحديث دل على أن التاريخ لا يمكن أن يعيد نفسه ما لم تتوفر شروط جغرافية واجتماعية ونفسية. فيجدر بنا الآن أن نتساءل: هل في البلاد العربية اليوم تتوفر تلك الشروط التي ساعدت بلاد إيطالية على تأسيس وحدتها في مدى نصف قرن؟ وبتعبير آخر: هل تشبه البلاد العربية في جميع أوضاعها الراهنة أوضاع إيطالية بعد حرب نابليون؟ أو قبل ثورة 1848؟
قد يسهل على الذين يزعمون أن التاريخ يعيد نفسه أن يجدوا شبها كبيرا بين حالة البلاد الإيطالية بعد حرب نابليون وبين حالة البلاد العربية بعد الحرب الماضية فيقارنوا بين هاتين الحالتين، ويقولوا مثلا إن نابليون شجع الإيطاليين على تأسيس وحدتهم، وأسس المملكة الإيطالية فعلا واشترك الطليان في حروبه، وإن الحلفاء لوحوا وقتئذ للطليان باستقلالهم فلما انتصروا على نابليون ضربوا بوعدهم عرض الحائط، وأرجعوا إيطالية إلى ما كانت عليه قبل الثورة الإفرنسية فأصبحت مجزأة، فيها ثماني دول مستقلة وشبه مستقلة.
كذلك الأمر في البلاد العربية؛ إذ كانت قبل الحرب العامة خاضعة لدولة واحدة، وكان أهلها يتشوقون إلى الحكم الذاتي، فلما نشبت الحرب المذكورة أخذ بعض الأقطار يطالب بالاستقلال لقاء مساعدتها إياهم، فلما انتصروا على أعدائهم ضربوا بوعودهم عرض الحائط وأقاموا في البلاد العربية التي انسلخت من المملكة العثمانية دولا عديدة شبه مستقلة ومستعبدة.
وإذا أراد أولئك الزاعمون الإسهاب في المقارنة فإنهم يقولون: إن الناس في بلاد إيطالية كانوا يتكلمون لغة واحدة ويدينون بدين واحد وكان أجدادهم - فيما مضى - يحكمون العالم وينشرون الحضارة من عاصمتهم روما، فلأحفادهم أن يعتزوا بمفاخر وأمجاد جديرة لأن تجعلهم في مصاف الأمم الراقية.
وكذلك شأن سكان البلاد العربية فهم يتكلمون لغة واحدة ويدينون بدين واحد، وقد حكم أجدادهم العالم ونشروا ألوية الحضارة من عواصمهم بغداد، دمشق، القاهرة، والقيروان، وسجل التاريخ لهم من المفاخر والأمجاد ما جعلهم جديرين بأن يتحدوا وأن يقيموا لهم دولة تخدم الحضارة وتساهم في العمل على استقرار السلم العالمي.
فإذا أردنا إذن أن نجاري من يقول: إن التاريخ يعيد نفسه؛ فإننا نستطيع أن نفسح مجال المقارنة بين إيطالية بعد حروب نابليون والبلاد العربية بعد الحرب العالمية الأولى، وأن نستند إلى هذه المقارنات فنجزم بأنه لا بد للوحدة العربية من أن تتم كما تمت الوحدة الإيطالية شاء الناس أم أبوا ذلك.
ولكننا نرى أن قضية العرب في تأسيس وحدتهم لا تحتاج إلى كل هذه المقارنات؛ فنحن لا نريد أن نجاري القائلين بأن التاريخ يعيد نفسه فنقضي الوقت بالتفتيش على أوجه الشبه بين البلاد الإيطالية والبلاد العربية، وإنما نود أن نقول إن العرب يستندون في الدفاع عن قضيتهم إلى حقائق ملموسة ودلائل قوية:
أولا:
كان العرب في العهد العثماني يتمتعون بكل الحقوق التي كان يتمتع بها الأتراك، ولم يشعروا قط بأنهم أمة محكومة، وكان يتسنى للعربي أن يكون واليا أو قائدا أو حاكما، فلم ير العربي حينذاك حاجة للمطالبة بالانفصال أو بالاستقلال.
ولما أخذ غلاة الأتراك بعد إعلان الدستور يستأثرون بالحكم ويدعون بأن الأمة التركية هي الأمة الحاكمة وأن الأمم الأخرى هي المحكومة؛ كان لزاما أن يكون لهذه الدعوة رد فعل في نفوس العرب فراح عقلاؤهم يفكرون في مصير بني قومهم ويطالبون بالإصلاح تارة وباللامركزية تارة أخرى، ثم استهدفت الجمعيات العربية السرية بعد حرب البلقان الحكم الذاتي غاية لمساعيها.
والذي لا شك فيه أن العرب كانوا في العهد العثماني أحرارا في بلادهم، وظلوا يشاركون الأتراك الحكم والسيادة، لا كما يزعم رجال الاستعمار بأن العرب ظلوا مستبعدين مدة طويلة، ثم يتخذون هذا الزعم ذريعة لهم يسوغون بها احتلال البلاد العربية لاستعمارها!
ثانيا:
حين أدرك العرب أن الحلفاء قد نكثوا في عهدهم، وحرموهم نعمة الاستقلال وجزءوا بلادهم، حتى بلغ أمر هذه التجزئة في دور من أدوار الانتداب البغيض أن تأسست ثماني دول في سورية وحدها؛ ثاروا في كل قطر ولم يعترفوا بالانتداب قط.
وكانت أولى الثورات التي نشبت في البلاد العربية الثورة المصرية سنة 1919، وقد طالب قادتها بالاستقلال، ثم تلتها الثورة العراقية التي نشبت سنة 1920 ودعا رجالها إلى إنهاء الحكم العسكري وإقامة الحكم الوطني.
وقد نجحت تلك الثورة واضطر الإنجليز إلى الاعتراف بحقوق العراق، وإقامة الحكومة المؤقتة، ثم تلتها الحكومة الوطنية في عهد الملك فيصل، وظل رجال العراق يطالبون باستقلال بلادهم رافضين الانتداب إلى أن تم استقلال البلاد سنة 1932، وظلت مصر تناضل في سبيل استقلالها ثم اعترف لها في معاهدة سنة 1936 باستقلالها.
وتعاقبت في سورية الثورات، وكانت الثورة الكبرى سنة 1925، حتى اعترف باستقلالها سنة 1942، أما الثورات العديدة التي نشبت في فلسطين واستمرت مدة طويلة فأمرها معلوم.
ولقد كبدت هذه الثورات العرب خسائر في الأنفس، ويقدر عدد ضحاياهم فيها بالألوف، ودلت هذه الثورات على ما كان كامنا في نفوس العرب من حيوية زاخرة؛ لم يسبق في تاريخ الأمم أن ناضلت أمة عزلاء دولا قوية الشكيمة في سبيل الحصول على استقلالها وثارت مرات عديدة في مدة لا تتجاوز ربع القرن، وقد كذبت هذه الثورات زعم القائلين إن العرب قد قبلوا ما اختارته لهم الحكومات الأجنبية راضين طائعين، ودلت على أنهم لم يرضوا قط بما فرض عليهم فرضا وأنهم ظلوا يناضلون عن حقوقهم حتى نالوا استقلالهم.
وعندنا أن هذين الأمرين وحدهما كفيلان بأن يحققا للعرب وحدتهم، وهنالك عوامل أخرى تساعد العرب على إقامة وحدتهم؛ فالبلاد بوضعها الجغرافي؛ أي بسهولها وأنهارها ووديانها تؤلف وحدة جغرافية، وإذا كانت البادية تفرق بين بعض أقطارها فإن السيارة والطيارة قد قربتا هذه الأقطار أكثر مما كانت تقرب المركبة أو السكة الحديدية بين الأقطار الإيطالية في القرن الماضي، وتلفت أنظار أهلها جميعا إلى ماض مجيد، وتتطلع نحو مستقبل زاهر، وتجمعهم وحدة اللغة والدين، وتوثق عراهم عادات مشتركة وتقاليد موروثة وذكريات سارة وأخرى محزنة.
وقد وثق الاتصال بين أقطارها وأخذ بعضها يستقدم موظفين من البعض الآخر، وأصبح العراقي يدرس في معاهد مصر الثقافية، والأردني واليماني بتدرب في معاهد العراق العسكرية والسوري يمتهن الطبابة والهندسة والتدريس في الأقطار العربية، وكذلك شأن الفلسطيني واللبناني، أما المصري فيدرس في كل الأقطار.
لقد ابتدعت معاهدات السلم التي عقدت بعد الحرب العالمية الأولى بخلقها الدويلات الصغيرة بدعة سيئة؛ إذ دلت الوقائع على أن هذه الدويلات كانت عاملا من عوامل الضعف والارتباك في السياسة الدولية العامة، وقد ولدت تنافرا وتشاحنا، فضلا عن كونها شجعت الدول الكبيرة الاستعمارية على الاستئثار بها والاستيلاء عليها.
وقد أظهرت الحرب العالمية الأخيرة بطلان سياسة خلق دول صغيرة حتى رأينا رجال الحكومات في هذه الدول يدعون إلى تأسيس اتحادات أو وحدات فيما بينهم؛ لتستطيع أن تعيش بسلام، وأن تكون دعامة من دعائم السلم، والغريب أن بعض أولئك بين أمم لا تتكلم لغة واحدة ولا تدين بدين واحد فضلا عن أن تقاليد بعضها يخالف تقاليد البعض الآخر، وليس من شك في أن نظام العالم المقبل سوف يرتكز على اتحادات تجمع بين الأمم الصغيرة أو وحدات تمتع كل دولة فيها باستقلالها الداخلي.
وأية أمة أجدر من العرب بتأسيس هذه الوحدة أو الاتحاد بين دولها، وعلى العرب أن يعلموا أنه لا يتسنى لهم أن يحتفظوا بكيانهم إلا إذا هم أقاموا وحدتهم وأنقذوا أنفسهم من قيد الحكومات الإقليمية الضعيفة ودخلوا نطاق دولة عربية، ومعنى ذلك وحدة عزهم ومنعتهم.
حقا لا سبيل لأن يعيشوا أقوياء أعزاء سعداء إلا في نطاق الوحدة الشاملة، ولا يمكن أن تكون بلادهم عاملا من عوامل الاستقرار في السياسة الدولية العامة إلا بتأسيس الدولة العربية الكبرى، فعليهم أن يوقنوا بأن في التجزئة ذلهم وشقاءهم، وأن في الوحدة عزهم وبقاءهم.
وأريد الآن أن أذكر السبب الذي ساقني إلى ترجمة هذا الكتاب، لا شك في أن الأمة العربية قد ضحت بكثير من مالها وأرواحها في سبيل الحصول على استقلالها، وقد يظن بعض قادة أمورها أن الاستقلال والوحدة لا يحتاجان إلى كل هذه الثورات والتضحيات، وإنما الهدوء والاستقرار والمداورات السياسية؛ هي وحدها كفيلة بإيصال الأمة إلى استقلالها ووحدتها. وقد يتأثر كثير من ضعاف النفوس بهذا الظن فيحولون دون اندفاع الأمة في جهادها ويخففون من غلوائها في مساعيها، وبذلك يعرقلون سير القضية - خاطئين أو متعمدين.
فهؤلاء القادة يجدون في طيات هذا الكتاب كثيرا من الأدلة التي تكذب ظنهم وتبرهن على أنهم خاطئون، كما يجد الشبان فيه ما يؤكد إيمانهم بأن استقلالهم يؤخذ ولا يعطى وهو إنما يؤخذ بالتضحية، وأن الوحدة لا تتم إلا بالقوة والإيمان.
ثم إن القارئ يرى في هذا الكتاب كثيرا من العبر، ويطلع على وقائع ما أعظم أوجه الشبه بينها وبين الوقائع التي حدثت في تاريخ القضية العربية، حتى ليكاد يخيل له أنه يقرأ سيرة بعض رجال العرب؛ من زعيم ظل يجاهد رغم كل العقبات التي قامت في وجهه، وآخر سياسي حاد عن مبدئه وأخذ يموه على الناس، ودجال منافق خان القضية وصار يعمل لحساب المستعمر، وأشباه ونظائر لشيوخ وكهول وشباب مؤمنين عاهدوا الله على العمل في إخلاص ولم يبدلوا
من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا .
وفي الكتاب عبر جديرة بأن يعتبر بها قادة الرأي العربي العام، ومن أبرز ما يستنتج منها: أن الوحدة لا تتم إلا بالقوة، وقد شنت دولة بيمونته ثلاث حروب في سبيل الوحدة وحارب فيها المتطوعون من جميع الأقطار الإيطالية في صفوف الجند البيمونتين، وقد شنت بيمونته وحدها إحدى هذه الحروب كما ساعدتها حليفتها فرنسة في الأخرى، كما أن اشتراكها في حرب القريم - حيث لا ناقة لها فيها ولا جمل - إنما كان في سبيل الوحدة أيضا.
وفي التاريخ أمثلة كثيرة تدل على أن الوحدة القومية والسياسية لا تؤسس إلا بقوة السلاح، حتى إن الولايات المتحدة الأميركية نفسها لم تنقذ وحدتها من الانهيار إلا بحد السيف، وقد شنت في سبيلها حربا شعواء استمرت خمس سنوات، وضحت من أجلها بنفوس كثيرة، وقد نوه المؤرخون الأمريكيون بهذه الظاهرة التي ربما عدها الكثيرون خروجا على المبدأ الديموقراطي، زاعمين أن من حق الحكومات الجنوبية أن تقرر الانفصال إذا شاءت، إلا أن الرئيس إبراهام لنكولن لم يعترف بمثل هذا الحق، بل رأى أن الوحدة فوق جميع الحقوق فحارب الجنوبيين بكل ما أوتي من قوة، وقد أحسن فيما فعل.
وقد يستغرب القراء تلويحي بمبدأ القوة في عهد شنت فيه جميع الدول الديموقراطية حربا عنيفة على مبدأ القوة وضحت في سبيل هدمه بكثير من أبنائها، ولكن استغرابهم يزول إذا قلت إن هذه القوة التي أشرت إليها هي عين القوة التي استخدمتها الدول الديموقراطية في سبيل نشر السلام العالمي، فترك أمة مجزئة ضعيفة عرضة لأطماع الطامعين بها من الدول المجاورة أو الدول الاستعمارية التي تحتل قواعدها وتتصرف بشئونها متذرعة بحجج واهية لهو أمر لا شك في مخالفته ومناقضته لمبدأ السلام العالمي، والأمة التي انقسمت أقطارها إلى حكومات وخضعت سياستها الخارجية إلى سياسة حكومات أجنبية مناوئة لا يمكن أن تستقر وستظل خطرا يهدد السلم.
وثمة نقطة أخرى جديرة بأن تلفت نظر قادة الرأي العربي، وتلك هي أن الأجنبي الذي يتظاهر بنصرته للوحدة ويساعد بجيوشه على إنجازها إنما يعمل لمصلحته ولقاء فائدة قد تكون أشد ضررا من التجزئة، وإذا ما ساعد بحلفه على أن تخطو الأمة خطوة في سبيل الوحدة قد تعرقل مساعدته سير القضية وترجعها إلى الوراء خطوات؛ فلذلك يجب على الأمة أن تعتمد على نفسها فقط وأن تتجنب الحليف الأجنبي جهد طاقتها.
والقارئ مدرك - لا محالة - بأن أهم العوامل التي ساعدت على إنجاز وحدتها، هو وجود دولة بيمونيه المستقلة الإيطالية لحما ودما، ورعاية الأسرة المالكة فيها لقضية الوحدة، واقتناع رجال حكومتها بأن واجبهم يقضي عليهم بمساعدة الأقطار الإيطالية الأخرى بالسلاح والمال غير مبالين بما تجر هذه المساعي على بلدهم من أخطار وأضرار، واعتقاد الزعماء الإيطاليين في جميع الأقطار المستعبدة منها والمستقلة وشبه المستقلة؛ بأن على دولة بيمونيه أن تتزعم قضية الاستقلال والوحدة.
وفي تاريخ الوحدة الإيطالية بعض مواقف تدل على أن رجال الحكم في بيمونيه قد تنصلوا أحيانا من تحمل أعباء الزعامة، ولم يظهروا الجرأة الكافية، فأضر عملهم هذا سير القضية الإيطالية كثيرا، وكبد الطليان خسائر فادحة في الأرواح والأموال.
ومما يلفت النظر زعم خصوم الوحدة الإيطالية استحالة اتحاد أهل نابولي بأهل طوسكانه واجتماع ابن صقلية بابن بيمونيه في صعيد واحد؛ لما بينهم من اختلاف في الميول والنزعات وتباين في المشارب والعادات.
ثم دلت الحوادث في إيطالية على بطلان هذه المزاعم التي كثيرا ما يتوكأ على أمثالها خصوم الوحدة العربية؛ إذ لم تلبث إيطالية أن كونت دولة عظيمة رغم أنف المعاندين المكابرين، وطالما سمع أبناء الأقطار العربية مثل هذه المزاعم من رجال الاستعمار وأذنابهم، ولكن من حسن حظ القضية العربية أنهم لم يلتفتوا إليها.
سيرى شباب العرب - عند قراءتهم هذا الكتاب - كثيرا من مثل التضحية
إيطالية في أثناء كفاحهم في سبيل الاستقلال وإنجاز الوحدة، تلك المثل العالية التي لم تذهب سدى، والتي لولاها لما تمت الوحدة، وفي هذا كله حافز لشبابنا على مواصلة العمل الذي سبقهم فيه الآباء والأجداد، ويجعلهم يقدرون تلك التضحية، ويودون لو يقدموا على مثلها.
حقا لقد ضحت الأمة العربية بالكثير في سبيل استقلالها وستضحي بالكثير في سبيل وحدتها، وقد ظلت الأمة الإيطالية تجاهد نصف قرن حتى تمت وحدتها، أما الأمة العربية فقد مر على كفاحها في سبيل الاستقلال أكثر من ربع قرن، وقد نالت أجر بعض هذا الكفاح وهي ستنال أجر كفاحها القادم لا محال، فليعلم شبابها وكهولها أن التضحية وحدها هي التي توصل الأمة إلى إكمال استقلالها وإنجاز وحدتها.
طه الهاشمي
حاشية
كتبت هذه المقدمة قبل ست سنوات، وقد وقعت بعد ذلك حوادث جسام في دنيا العرب، فأخذت الجامعة العربية على عاتقها قضية الدفاع عن فلسطين، وبذلت جهودها في توحيد مساعي الدول العربية في نجدة فلسطين.
وكان من نتيجة هذا الجهد أن ساقت الدول العربية جيوشها إلى فلسطين وحاربت القوات الصهيونية وحدث ما حدث وأمره معلوم، وحلت النكبة ووقعت الكارثة في فلسطين رغم كل المساعي، وأخذ المفكرون العرب يبحثون عن أسباب هذه النكبة؛ ففريق يرى أن الدول العربية استضعفت شأن العدو، وآخر يرى أنها لم تستعد له الاستعداد الكافي، ومن يرى أن سبب الكارثة عدم تضامن الدول العربية وتخاذلها.
والذي لا ريب فيه أن التجزئة القائمة في دنيا العرب هي السبب المباشر لحدوث النكبة؛ لأن العدو استغل التجزئة والمستعمر استأثر بها وذوي النفوس الضعيفة احتموا بها، ولو كانت الوحدة جمعت بعض الأقطار العربية ولو كان الاتحاد قائما فعلا بين الدول العربية؛ لما انتهت قضية فلسطين على هذه الصورة المحزنة.
لهذا لا سبيل إلى أن يزيل العرب عنهم وصمة هذا العار ويقضوا على الدولة اليهودية؛ إلا إذا اتحدت أقطارهم وألفوا منها الدولة العربية الكبرى، على غرار ما تم في إيطالية.
الفصل الأول
نابليون وإيطالية
1814-1815
لقد كان الشعور بكيان قومي في إيطالية في أوائل القرن التاسع عشر ضعيفا، فمن الواضح أن الطليان ظلوا يحنون إلى الأيام التي كانت فيها روما تملي إرادتها على العالم، ولما زالت السيطرة الإسبانية عن إيطالية في القرن الثامن عشر، وتوقفت النمسة في الشمال، وأخذت بيمونته تخطو خطاها في بطء؛ فقد ظل الطليان قانعين باتحاد وهمي لدول لا شأن لها يقوم مقام الأمة، ولقد كان النصف الآخر للقرن المذكور دور سكون وإصلاح أورث إيطالية رفاهة وتقدما في الإصلاح الاجتماعي وازدهارا في الفنون وإبداعا في الشعر والغناء، إلا أنها كانت فاقدة استقلالها ومحرومة حريتها.
ثم نشبت الثورة الإفرنسية ودفعت الإفرنسيين للتوغل في إيطالية؛ فانهارت بذلك الإمارات الإيطالية، وأقام نابليون جمهوريات وممالك سرعان ما قضت قضاء مبرما على السياسة الاجتماعية القديمة، ولعل إيطالية هي البلاد الوحيدة التي تعمد نابليون أن يشجع فيها الشعور القومي؛ إذ لاح له أن وحدة التقاليد واللغة والآداب كفيلة بأن تجعل من إيطالية أمة واحدة، ومما حفزه على تأييد هذه الفكرة شعوره بأنه يمت إلى أصل إيطالي من جهة، وأخذه بالسياسة التقليدية التي سارت عليها فرنسة في إقامة موانع في وجه النمسة من جهة أخرى. حقا إن نابليون هو مؤسس إيطالية الحديثة.
ومما لا شك فيه أن إيطالية استفادت كثيرا من الاحتلال الفرنسي؛ لأنه قضى على الإقطاعية السائدة فيها حينذاك، وجهزها بقوانين موحدة ومراقبة نافعة، وفتح في وجه أبنائها أبواب الكفاية، وأمد الصناعات بفيض من النشاط، وساعد إلغاء الأديرة على التخلص من الديون، فانتشرت المدارس في لمبارديه ونابولي، وحمل الجنود الطليان - الذين رافقوا نابليون في أسفاره وغزواته حين عودتهم إلى بلادهم - ذكريات البطولة، وبثوا في الأمة روحا جديدة.
ولقد أتى أسلوب نابليون في سياسة البلاد بنتائج باهرة جدا؛ إذ أزال سلطان الأمراء بالكلية، وقضى - بذلك - على الدويلات العشر في شبه الجزيرة، فألحقت بفرنسة بيمونته الشرقية ودوقيات جنوه وبارمه وطوسكانه ودويلات الكنيسة حتى جبال الإبنين،
من دوقيات لمبارديه وفنيسيه ومودينة والروماني والمارك، فأصبح أوجين بوهارنه نسيب الإمبراطور وصيا عليها، أما نابولي فأصبحت مملكة يحكمها المارشال مورات،
1
فأسست هذه الدول روابط متبادلة وتشابهت إدارتها إلى حد ما.
ثم سقط نابليون فانهار بسقوطه كل ما قام به في إيطالية من أعمال، على أنه رغم ما أسدى إلى إيطالية من خدمات جليلة فإنه - في كثير من أعماله - قد مس كرامة الطليان القومية وأثار حنقهم، فقد مات منهم ستون ألفا ونيف في إسبانية وفي روسية؛ في سبيل قضية لا ناقة لهم فيها ولا جمل، فكانت الضرائب فادحة، ودلت أعمال الشرطة والرقابة السياسية في ذلك العهد على أن الحرية والإمبراطور على طرفي نقيض، أضف إلى ذلك أن المدن كانت حانقة بسبب ما نهب من متاحفها من آثار، أما الإهانة التي ألحقها بالبابا فكانت بمثابة تحرش بالدين واستهانة بوطنية الدهماء، ومع ذلك كله فالشعور بالوطنية الذي بثه نابليون ظل راسخا في النفوس، وراح الطليان يعتزون بمفاخر مملكة إيطالية ويتحدثون عن أمجادها، فطالما سعى الحلفاء لتأليب البلاد على نابليون ملوحين لها بالاستقلال، وحين أخذ نجمه يأفل أبى أوجين بوهارته أن يلبي نداء قائده، أما المارشال مورات فإنه أخذ يسعى للاحتفاظ لنفسه بمملكة نابولي.
أما في ميلانو عاصمة المملكة فقد انشقت الآراء إلى شيع: ففريق يميل إلى النمسة ويدعى بالحزب الإيطالي، وهو يرى في فرنسة خطرا على السلم ويسعى في سبيل عودة الحكم النمسوي ذاكرا الحكم الذاتي الصالح في عهد ماريا تريزا ويوسف الثاني، وكان ساسة فينا يغدقون على الطليان الوعود الخلابة في الحرية والاستقلال.
أما أشراف ميلانو فقد كان أكثرهم ضد النمسة، وضد نائب الملك أوجين، وقد ألفوا الحزب الإيطالي الحر، وكانت غايته ضمان استقلال مملكة إيطالية دون الاكتراث بجنسية الأمير سواء أكان نمسويا أم إنجليزيا أم إيطاليا، بيد أن بعض الأشراف كانوا يميلون إلى وحدة إيطالية بزعامة أسرة آل صافويه الإيطالية، واتفقت الأكثرية على الاحتفاظ بميلانو عاصمة للمملكة، وبذلك كله يستعيد الأشراف ما فقدوه من امتيازات في عهد نابليون، ولم يلق أحد من هؤلاء بالا إلى فكرة الالتفاف حول الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يحقق استقلال إيطالية ألا وهو أوجين بوهارنه نائب الملك.
ولما رأى هذا الرجل أن الأشراف تخلوا عنه لم يجرؤ على دعوة المجلس التمثيلي ليستشير بواسطته الشعب؛ خشية أن يتهمه نابليون بالخيانة، فلم يسعه حينئذ إلا أن يتخذ نصف التدبير فطلب إلى مجلس الأعيان أن يمارس صلاحياته، وطالب الحلفاء في الوقت ذاته بالتاج نفسه.
ولم يكن لدى مجلس الأعيان الإرادة الكافية ليتحمل عبء تلك المهمة، فاستفادت الأحزاب المعارضة في الداخل والخارج من عجز مجلس الأعيان، واتفقت فيما بينها على إسقاط نائب الملك ومجلس الأعيان معا، وما كاد يشيع خبر تخلي نابليون عن الملك حتى لجأ الحزب الإيطالي إلى السلاح، وطلب إلى مجلس الأعيان دعوة المجالس التمثيلية، وهب الشعب يظاهر هذه الحركة ويضغط على مجلس الأعيان ليحمله على الإذعان، فما كان منه إلا أن قدم وزير المالية ضحية لتردده وإهماله، وكان في استطاعة قائد الحامية أن ينقذ الموقف بإرسال الجند لإنقاذ حياة وزير المال، وكان في وسع جيش أوجين أن يقبض على ناصية الحال لو لم يخش من نشوب الحرب الأهلية.
فكان من أمر ذلك أن انسحب مجلس الأعيان من الميدان، فتولى المجلس البلدي مجلس الوصاية لمدة مؤقتة، وأصبح هم هذا المجلس السعي لفصل لمبارديه من إيطالية وإدخالها في الحكم النمسوي، فدعيت المجالس التمثيلية في لمبارديه فقط؛ حيث يتكلم الناس اللهجة اللمباردية، وأوفد مجلس الوصاية مندوبا عنه إلى باريس؛ لمطالبة الحلفاء بالاستقلال والدستور، ولكنه وجد أن مصير لمبارديه قد بت فيه قبل وصوله؛ ذلك لأن أوجين استسلم بلا مقاومة إلى القائد النمسوي الجنرال بلجارد وتخلى عن الملك؛ فدخل هذا القائد ميلانو عاصمة لمبارديه وأعلن انضمامها إلى النمسة.
ومع أن الجيش كان قادرا على مؤازرة أوجين إلا أن خيانة القادة وخور عزيمتهم مكنتا بلجارد من اكتساب الوقت اللازم لإنزال الضربة القاضية، وبعد أن قبض على القادة ألقاهم في السجن.
ومع كل هذا فإن الوطنيين لم ييأسوا ما دام نابليون في جزيرة ألبة، وظلوا يعلقون آمالا على عودته للحكم، وسعيه لإعادة استقلال إيطالية، وأخذوا يتصلون به سرا ويعدون العدة لمساعدته عند الحاجة، وكان ثم قائد آخر من قادة نابليون يسعى لطلب ود الطليان، ألا وهو المارشال مورات أحد مارشالية نابليون الذين أنجبتهم الحرب الناشبة بعد الثورة الإفرنسية وقد نصبه نابليون ملكا على نابولي، كما نصب أوجين بوهارنه نائبا للملك في إيطالية.
ولما رأى نابليون أن مورات يدبر الدسائس ليستقل بمملكته فكر في أن ينبذه وأن يتفق مع آل بوربون ملوك نابولي القدماء إذا رضوا بأن يسيروا تحت رايته، وكان مورات يعلم أنه إذا ما قضى على نابليون فلن يوافق الحلفاء على بقائه؛ فلذلك رأى أن أحسن خطة يسلكها هي أن يجعل نفسه بطلا إيطاليا؛ ليظفر برضاء الإيطاليين، فراح يدبر الدسائس مع الحلفاء فعقد معاهدة سرية مع النمسة، وعدته فيها بأن تعطيه نابولي وجزءا من دويلات الكنيسة على أن يعترف بحقوق النمسة في لمباردية.
وبينما كانت النمسة تسعى سرا لقلبه كان مورات قد اتصل بأوجين وحثه على رسم خطة مشتركة للدفاع ضد الحلفاء، بيد أن أوجين لم يوافق على خيانة البابا في روما، ولما سقط نابليون واحتل النمسويون لمبارديه أصبح مورات في موقف حرج، ورغم أن الإنجليز كانوا يريدون التمسك بنصوص المعاهدة لضمان حقوق مورات فإن النمسة أرادت إعادة حقوق الملوك والأمراء المنفيين، فاستفاد مورات من اختلاف الرأي، وتقرب من الأحرار الطليان، ووافق على عدة قوانين إصلاحية كان قد أجلها سابقا، واتصل بنابليون، ولما فر هذا من جزيرة ألبه رأى مورات أن الفرصة قد حانت فأعلن الحرب على النمسة، وتقدم بجيشه نحو الشمال، وأعلن استقلال إيطالية، وضم حوله الطليان، وقد سارع فاحتل إيالتي الروماني والمارك، وبعد أن انتصر على النمسويين في «ستيزينه» تقدم في إيالتي «بولونيه ومودينه»، مع أنه لو توجه نحو ميلانو لكان من وسعه أن يحطم قوات النمسويين، لو لم يصغ لنصائح الإنجليز الذين خانوه، فأخذ بعد ذلك يخسر المعارك، وحاول عبثا استفزاز حمية النابوليين والصقليين ليلتفوا حوله، ولما رأى أنه قد فقد كل رجاء سلم سيفه للإنجليز وأضاع الطليان بذلك أملهم الأخير في الاستقلال.
وعلى إثر انتصار الحلفاء على نابليون في معركة «وترلو» فإنهم حنثوا بوعودهم؛ إذ بت مؤتمر فينا في مصير إيطالية من دون أن يكترث للعهود التي قطعها قادة الحلفاء للطليان أثناء الحركات ضد نابليون، وكشف رجال السياسة القناع عن وجوههم، حتى إن المندوب البريطاني في مؤتمر فينا قال للوفد اللمباردي إن تجربة الحكومات الدستورية قد فشلت، ولم تكن إيطالية في نظر المفاوضين في مؤتمر فينا سوى أداة للتوازن السياسي، فأمست غنيمة توزع على الملوك والأمراء.
والأغرب من كل ذلك أن الحلفاء لم يكونوا متحدي الرأي في موضوع تجزئة إيطالية وكيفيتها؛ فإنجلترة وروسية لم ترضيا بأن تصبح إيطالية إقطاعا للنمسة، وكانتا تميلان إلى إقصاء النمسة عن إيطالية إقصاء تاما، ولما كانت روسيا تطمح في الحصول على ممتلكات أخرى في بولندة فإنها غضت النظر أخيرا عن مطالب النمسة في إيطالية.
أسفرت نتائج مؤتمر فينا عن تملك النمسة «لمبارديه وفنيسيه وفالينتنه» واحتفظ البابا بممتلكاته في إيطالية المركزية، أما بيمونته فإنها طالبت بإلحاق لمبارديه بها، إلا أنها لم توفق ولكنها جزاء لخدماتها قد صححت حدودها، وألحق بها قسم من إيالة صافويه التي كان الفرنسيون قد ضموها إلى فرنسة عقيب الثورة، وضمت جنوه أيضا، وهكذا خرجت هذه الدولة أقوى مما كانت عليه قبل حروب نابليون، أما في الأنحاء الأخرى فقد عاد الأمراء إلى ممتلكاتهم، إلا أن النمسة أدخلت هؤلاء تحت نفوذها بعقد معاهدات مع أمراء طوسكانه ومودينه وبارمه، وأقامت حاميات نمسوية في قلاعهم.
أما الملك فرديناند البوربوني فقد عاد إلى نابولي قاعدة ملكه، وضم إلى ملكه جزيرة صقلية أيضا، وتعهد للنمسة في معاهدة سرية بأن لا يعقد حلفا مع أية دولة أخرى، ولا يمنح لرعيته أكثر من الحقوق الممنوحة إلى لمبارديه وفنيسيه، وعلى الرغم من هذه النتائج المحزنة فإن الأحرار الطليان لم يقطعوا رجاءهم في استقلال إيطالية، وقد رأينا كيف أنهم في فترة من الزمن يعلقون آمالا على مورات في تحقيق هذا الرجاء، وحين انسحب هذا من الميدان فإنهم وجهوا أنظارهم نحو الأسرة الملكية في بيمونته التي تتبوأ العرش في تورينو، وكان ملكها الأمير الوحيد الذي ينحدر من أصل إيطالي من بين أمراء إيطالية، فراح الوطنيون يحلمون في تأسيس دولة إيطالية في الشمال تجمع بين بيمونته ولمبارديه وإيالات الروماني، ولم يفكر هؤلاء وقتئذ في الوحدة الإيطالية الشاملة، وإنما كان البعض منهم يرى أن الوقت الذي يتألف منه اتحاد إيطالي من الدول الإيطالية الثلاث: دولة إيطالية في الشمال ودولة البابا في الوسط، ودولة نابولي في الجنوب؛ سيأتي فيما بعد.
نتائج مؤتمر فينا
لقد جزأ مؤتمر فينا إيطالية إلى ثمانية أجزاء وهي: مملكة بيمونته، والإيالات النمسوية في الشمال، ودويلات الكنيسة ودوقيات طوسكانه ومودينه وبارمه ولوكا في الوسط، ومملكة نابولي وصقلية في الجنوب، وقد أعطيت «بارمه» إلى الأميرة النمسوية «ماري لويز» أرملة نابليون، وأعطيت «لوكا» إلى الأميرة ماري لويز البوربونية - وكانت تحكم «بارمه» قبل الثورة الإفرنسية، أما الدويلات الأخرى فقد أعيدت إلى أصحابها القدماء باستثناء فنيسيه وجنوة.
ولما عاد الملك فيكتور عمانوئيل إلى عاصمة مملكته في تورينو استقبله شعبه بحماسة، ومع أنه كان يتصف بخلق نبيل وكان طيب القلب حسن النية، إلا أنه كان يكره كل تجدد، ويعتبر كل حركة إصلاحية بذرة من بذور الثورة التي كان هو عدوها الألد؛ ولذلك فإنه قضى على كل ما خلفته الثورة من أثر؛ برفض جميع القوانين التي وضعت حينما كان منفيا عن البلاد، ولم يعترف - فضلا عن ذلك - بأي موظف لم يكن مسجلا في سجل الموظفين قبل خروجه من بلاده، ولكنه حين لقي مقاومة سلبية من شعبه اضطر إلى التساهل وإغماض العين عن بعض القوانين، والموافقة على بعض الاصطلاحات، وأسس مجلس الإيالات، واحتفظ ببعض الموظفين من العهد الإفرنسي، وأدخل «بروسبير وبالبو» في الوزارة، وكان هذا الوزير من الإداريين القديرين، فأصبح من المتوقع القيام بإصلاحات جديدة.
ولكن عودة اليسوعيين أثارت انتقادات مرة ضد الحكومة؛ لأنها بذلك استمرت على الجمع بين مساوئ العهد القديم كالاعتساف في الحكم وسوء الشرطة السياسية، وبين نقائص الحكم الإفرنسي الجديد كالمركزية في الحكم.
أما في لمبارديه وفنيسيه فقد فرح أكثر الناس بعودة النمسويين ظنا منهم بأن النمسويين سيؤلفون منها مملكة، وسيقيمون مجالس إدارية قد تنقلب في المستقبل إلى مجالس تمثيلية، أما القانون الجديد فسيسن ملائما لسجايا الطليان وعاداتهم كما وعد مترينخ، بيد أنه سرعان ما رأى اللمبارديون أن كل هذه الوعود لم تتعد حدود القول، فأصبح القانون النمسوي نافذا، وأسندت المناصب العالية إلى النمسويين والتيروليين، وساءت الأحوال، وفشا الجهل حتى إن إمبراطور النمسة صرح بأنه لا يرغب في أناس متعلمين، وإنما يريد رعايا صادقين ومطيعين، وحدث عن خشونة النمسويين ووقاحتهم أمور، فكشف كل ذلك الستار عن نيات الحكومة الجديدة نحو رعاياها الطليان.
أما في طوسكانه فكانت حركة الارتجاع خفيفة الوطأة؛ إذ لم يحدث تغيير ما في المؤسسات المدنية التي أنشأها نابليون بدلا من نظامها اللامركزي، وقد أدرك أولو الأمر في هذه الإمارة ما طرأ على العالم من تطور وتحرر، حتى قيل إن الدوق كان على استعداد لقبول مجلس منتخب على أن يحتفظ لنفسه بحق تصديق القوانين ورفضها، ثم أعيدت بعض أملاك الرهبان إلا أنه لم يسمح مطلقا بعودة اليسوعيين - كما وقع في لمباردية.
وفي روما عاد «كونسالفي» ممثل البابا في مؤتمر فينا ظافرا في مهمته، فتولى رئاسة الحكومة، وكان مقتنعا بأهمية التطورات التي طرأت على العالم، وميالا إلى الأخذ بالإصلاحات، فأراد أن يقوي الدولة التي أنقذها بإدارة لا مركزية وإصلاحات معتدلة، ورغب في أن تحكم الدويلات البابوية حكما صالحا وأن يرى أهلها مرفهين، وصرح أيضا بأن على البابوية أن تعترف بالعادات والأفكار الحديثة والآراء الجديدة التي أحدثها علم الاقتصاد السياسي وبثها، وكان يطمح إلى إيجاد إدارة تتبع البابا مباشرة بعيدة عن سيطرة المطارنة والأهلين معا، ومع ذلك فإنه لقي معارضة شديدة حينما حاول إصلاح القانون وتشجيع التعليم.
أما في نابولي فقد تظاهر الملك فرديناند بأنه أكثر أخذا بمبادئ الحرية من مورات، وتأهب لنشر بيان يعد فيه الناس بالدستور الجديد، ولكنه حين علم بسقوط خصمه سرعان ما تنصل من وعوده، وعاد المهاجرون ورجال الإكليروس يطالبون بحقوقهم، ثم استلم المهاجرون أملاكهم ولقيت صقلية التي التجأ إليها الملك أيام نكبته كل جحود منه فيما بعد، وكانت الجزيرة تعتز بدستور - يمنح الأشراف بعض الحقوق - حصلت عليه بعد جدال عنيف وبتدخل قائد الحامية الإنجليزية، ورغم أن الملك أقسم يمين المحافظة على الحريات الممنوحة وكفلت إنجلترة ذلك أدبيا، فإنه لم يرتح إلى وجود إدارة دستورية بالقرب من مملكته، خشية سريان مبادئ هذه الحريات، وعملا بالمعاهدة التي عقدها مع فينا فإنه أوقف الدستور الصقلي وألحق صقلية بمملكة نابولي وألغى الجيش والراية الصقليين.
ذكرنا فيما تقدم خلاصة ما أصاب الدول الإيطالية من تبدلات بعد مؤتمر فينا، وعلى الرغم من أن هذه التبدلات تحمل في باطنها الآراء الرجعية إلا أنها لم تكن شديدة القسوة، وإذا استثنينا فرديناند ملك نابولي فإن الأمراء كانوا بصورة عامة صالحين وذوي رغبات حسنة.
ومع أنهم كانوا بعيدين عن فهم روح العصر الجديد فإن نفوسهم كانت تتوق إلى رؤية رعاياهم سعداء، وعليه فإن الإدارة في حكومات المقاطعات قد تدرجت من حسن إلى أحسن، ومع ذلك فقد ظل رجال تلك التبدلات يعتبرون القانون الإفرنسي من العوامل الهدامة لدعائم الأخلاق التي تستند إليها الهيئة الاجتماعية، ولاح لهم أن القانون المذكور قد أضعف الدين وأضر بروابط الأسرة، فراحوا يطالبون - ملحين - بفسخ الزواج المدني وإلغاء قانون الطلاق وترك أمر التعليم إلى الإكليروس.
فأعدت العدة لأن يكون التعليم الإجباري بموجب تعاليم الكثلكة، ونظرا إلى الريبة فيما تبثه الجامعات فإنها روقبت من قبل الشرطة، واتخذ الأمراء دوق «مودينه» قدوة لهم في أعمالهم، وقد كان هذا الأمير - في الحقيقة - من أفظع المستبدين في إيطالية الحديثة، يخشى النتائج السياسية التي قد تنشأ من التعليم، واعتبر المدرس الذي يبث في تلاميذه المبادئ التقدمية الحرة من أكبر المذنبين، وطالما صرح «بأن الأحرار آثمون، علينا أن ندعو لهم أن يتوبوا وأن نجازي غير التائبين منهم.»
بيد أنه مهما أعد للحركة الرجعية من عدة فإنه كان مقدرا لها أن تصطدم بجميع المستنيرين من رجال الرقي والتقدم في الأمة، أما طبقة التجار التي أدركت ما بلغت قوتها في العهد الإفرنسي؛ فقد رأت ما أصاب تجارتها من فشل من جراء المكوس الجمركية التي وضعت بين دولة ودولة أخرى.
أما الجيش فقد كان متشبعا بالأفكار الديموقراطية، وكان دائم الانجذاب إلى طريقة نابليون، حانقا من جراء ضياع الحريات الاجتماعية والترقيات التي نالها الضباط الذين عادوا من المنفى، وضاق ذرعا بسيطرة النمساويين الذين كثيرا ما كسروهم في المعارك، فأخذت النظريات الحرة ومبادئ الحكم الدستوري تنتشر، وكان عملاء روسية في المدة القصيرة التي تظاهر بها الإسكندر قيصر روسية بميله إلى الآراء الحرة؛ يشجعون المستنيرين على بث تلك النظريات، أما السياح الإنجليز فكانوا ينقلون معهم مبادئ الحكم الحر فأخذ الناس يتتبعون - بكل دقة - أخبار المجالس النيابية في إنجلترة وفرنسة وحركة الهيتاريا
Hetaria
في بلاد اليونان.
وهكذا فإن حياة عقلية جديدة كثيرة النشاط قد دبت في الشمال وفي الوسط، وأخذ الجيل الحديث يقرأ مؤلفات «الفيري
2
وفوسوكولو
3 » وما ترجم من الكتب الواردة من ألمانية وإنجلترة وأخذ يتطلع إلى البعث القومي المنشود ويتناقش فيه على قدر ما تسمح به مراقبة السلطة، ذلك كله دون أن يكون له رأي ثابت في كنه هذا البعث وحقيقته، وأصبح الأحرار البائسون والموظفون الذين فقدوا وظائفهم والضباط الذين أضاعوا مناصبهم وجنود الجيش الكبير «جيش نابليون»؛ ينتظرون - بفارغ الصبر - عودة أيام الحرية التي بزع فجرها زمن نابليون، وهكذا لأول مرة منذ زمن حزب جلفي
Guelfe
4
ظهر تشكيل جديد بزعامة جمعية الكاربوناري، أشبه ما يكون بالأحزاب القومية.
الفصل الثاني
جمعية الكاربوناري
كانت جمعية الكاربوناري تشبه في قواعدها ومراسمها تشكيلات الماسونية في إيطالية إلى حد ما، إلا أنها كانت ذات أهداف سياسية معينة، وكان أعضاء الماسونية كثيرين وذوي نفوذ في إيطالية الجنوبية، وتأسست جمعية الكاربوناري من الجمهوريين الذين التجئوا إلى منطقة جبال البروزه وكلبريه؛ لينجوا بأنفسهم، وليكونوا بمأمن من يوسف بونابرت «أخي نابليون».
وقد انضم إليهم رجال آخرون، وكان الدافع الوحيد الذي دفعهم إلى ذلك كرههم للحكم الإفرنسي، ولكن يصعب القول بأنهم كانوا جمهوريين أو ملكيين، وقد شجعهم فرديناند ملك نابولي واتخذهم حلفاء له ضد الإفرنسيين، وسعى مورات في السنوات الأخيرة لاستمالتهم إلى جانبه فلم يفلح وعجلت معارضتهم إياه بسقوطه.
ولما عاد فرديناند إلى نابولي كان أول عمل قام به أن اضطهد الذين ساعدوه على العودة إلى عرشه، فتولى وزيره «كانوزا» رعاية الكلديراري - الجمعية المخاصمة للأحرار - وقد بلغ اضطهادها إياهم درجة حملت النمسة رغبة منها في الاحتفاظ بحكومة متساهلة على الإيعاز إلى فرديناند بأن يحل تلك الجمعية، وانتشر الكاربوناري في جميع أنحاء إيطالية الجنوبية، ومما ساعد على إيجاد أنصار لها من مختلف الأحزاب تعاليمها الدموقراطية الاشتراكية ونزعتها المسيحية، وقد اتخذ أعضاء الكاربوناري لهم مثلا أعلى، وكان زعماؤهم ينشدون بعث الهيئة الاجتماعية بعثا جديدا، وبث مذاهب الاشتراكية جامعين بين التصوف المسيحي وبين فلسفة القرن الثامن عشر، فادعوا بأن المسيح كان أول ضحية من ضحايا الطغاة، وكانت شارة الصليب تتوج مجالس الكاربوناري، وكانوا خاضعين للأوامر الدينية وللبابا.
ولاح لهم في وقت ما أن يقيموا كنيسة كاثوليكية مجددة يتولون هم قيادتها، وكانت تعاليم منهجهم تتطلب منهم التخلق بالأخلاق الشديدة الصلبة، حتى إذا صدر من عضو ما أعمال تخالف الأخلاق أو تخل بالشرف عوقب عقابا صارما، وعليه، فإنه لا يجوز لأي شخص أن ينتمي إلى الجمعية إذا كان سيئ السمعة، وكان من الصعب معرفة اتجاههم السياسي، على أنه لا شك في إخلاصهم للحرية وكرههم الشديد للاستبداد، ويلوح من شرح آراء زعمائهم أنهم كانوا يرمون إلى الجمع بين الإمبراطورية الرومانية، وشبه الاشتراكية الدموقراطية التي بشر بها جان جاك روسو، فتراهم يحلمون تارة باتحاد إيطالي برئاسة البابا ويتوقون تارة أخرى إلى الوحدة الإيطالية، على أن تكون روما عاصمة لها.
وكان يدير هذه التشكيلات المتنوعة محفل أعلى اتخذ روما قاعدة له، وكان لهذه التشكيلات هيئات عدلية تفرض عقوباتها التي تصل إلى حد الموت أحيانا، وكانت قوانينها المستقلة وعقوباتها الصارمة أدعى إلى ثقة الشعب واحترامه من قوانين الحكومة التي لا تحكم إلا بالظلم والاستبداد، فانتشر «الكاربوناريون» من نابولي إلى الشمال وأخذ هؤلاء بالاشتراك مع فرسان جلفي وأعضاء حزب أدلفي
Adelfi
في بيمونته وبارمه وحزب الاتحاد اللمباردي يدبرون المؤامرة الكبيرة التي هيأت ثورة 1820-1821، ولقد تجلت بوادر هذه الحالة الروحية الجديدة لأول مرة في لمبارديه في مظهر اجتماعي وأدبي، فقد أخذ استياء الشعب يزداد في الإيالات الخاضعة للنمسة، ولكنه لم يتعد المظهر السلبي، واقتصر العمل على الحزب المؤلف من الأشراف والبورجوازيين لا سيما في ميلانو وفي «برسيه»، وكان «كنفالونييري
Canfalonieri » رئيس هذا الحزب يجتمع بأحرار فرنسة وإنجلترة، وتسربت الآداب الرومانتيكية في إيطالية فأسس الحزب مجموعة «كونجلياتورة
Congliatora » بإدارة الشاعر المحبوب «سيلفيو بليكو»، ثم اندفع الحزب بعد ذلك إلى المؤامرة حتى نضجت واختمرت في الجنوب لا سيما في نابولي؛ لأن حكم فرديناند فيها كان فاسدا استبداديا، ومع أن القوانين فيها قد اقتبست أحكامها من المجلة الإفرنسية، إلا أنها كانت تنفذ تنفيذا لا يتفق والنصوص، وكان الناس لا يعتمدون على الحكومة ولا يثقون بها، وشجعهم على ذلك أن فرديناند كثيرا ما كان ينقض وعوده، ثم بدأ القرويون يتذمرون من ظلم الأشراف، وقد أهين الشرف القومي ببقاء جيش الاحتلال النمسوي في البلد إلى تاريخ 1817، وغدا القضاء ألعوبة بيد الأغنياء، وزاد تذمر الناس واستياؤهم بما أصاب الناس من فقر، وأدى السلم إلى فتح أبواب إيطالية أمام التجارة الأوروبية، فزاحمت البضائع الأجنبية المصنوعات الوطنية فضعفت صناعة الأقطان والمشروبات، فضلا عما أصاب تجارة الحبوب والزيت من الكساد جراء تدخل الحكومة، وانتشر القحط وعمت الأمراض في البلاد، وأخذ الناس يلعنون الحكومة ويصبون عليها غضبهم.
وطبيعي وقد بلغت الحال إلى ما وصفنا بسبب ضعف الحكومة وفسادها مما أدى إلى استياء الناس وتذمرهم؛ أن تنشط المؤامرات، وأن يوشك الكاربوناريون أن يسيطروا على البلاد؛ إذ أخذ المستاءون على اختلاف طبقاتهم ينضمون إليهم، وكان أفراد الجيش من أول المنضمين إلى الكاربوناري لحرمانهم من الامتيازات التي كانوا يتمتعون بها، ولما شاهدوه من محاباة للمنفيين الذين عادوا إليه، وانضم إليهم القضاة مكرهين وبذلك أخذ عدد المنتمين إلى جمعية الكاربوناري يزداد يوما فيوما إلى أن بلغ عشرات الألوف ، حتى إن قوة المليشيا في الإيالات التي يبلغ عددها خمسين ألفا أصبحت في قبضة الكاربوناري، وقوة المليشيا هذه قد نظمها ضابط كالابري يدعى «جيجليلمو ببه»
Guiglieimo Pepe
بغية قمع الشقاوة، وبما أنه كان عضوا في جمعية الكاربوناري فقد استعد لاستخدام هذه القوة في الأغراض السياسية التي تعمل الجمعية في سبيلها.
وكادت المؤامرة التي دبرها لاختطاف عاهل النمسة ومترنيخ
1
تنجح لو لم تحدث ثورة عسكرية، وأراد فتيان من ضباط الخيالة «موريللي وسالفاني» أن يقلدا الثورة التي حدثت في إسبانية، ففرا مع كتيبة خيالة من نولا، وسارا نحو «آفلينو» وأعلنا تمردهما مع قوتهما مطالبين بملك ودستور.
وسرت الثورة في خلال ثمان وأربعين ساعة إلى «كوتبينا ناتاو بازيليكاتا»، والتحقت عدة كتائب مع ببه إلى صفوف الثائرين، وكان ببه على وشك أن يقوم بالهجوم لو لم يسارع الملك إلى منح الدستور، ولما كانت جمعية الكاربوناري لا تثق بالملك؛ فقد طلبت إليه أن يمنح البلاد الدستور الإسباني نفسه، ذلك الدستور الذي ينص على تأليف مجلس واحد يراقب أعمال الحكومة ويحاسبها على الصغيرة والكبيرة، ففعل الملك مضطرا وقد رحب الشعب بهذا الدستور وهلل لابن الملك «فرنسوا» الذي اندمج في الحركة وتبناها بعد أن نودي به «وصيا»، وقد أقسم أن يدافع عن الدستور بدمه، وصرح الملك بأنه سعيد؛ إذ استطاع أن يمنح ذلك في حياته، وأقسم بالإنجيل يمين الولاء للدستور، وأقصى الوزراء القدماء عن العمل وعين بديلا عنهم وزراء من عهد مورات كانوا من الأحرار إلى حد ما، ولكن هؤلاء الوزراء لم يكونوا ممن ألفوا شعور الشعب فلم يثقوا بالكاربوناريين المتشبعين بالأفكار الدموقراطية أكثر منهم، وكان «ببه» الوزير الوحيد من بينهم يمثل الحزب الذي قام بالثورة.
وظل الكاربوناريون يؤلفون حكومة داخل حكومة، ويسيطرون على قوة المليشيا، وعلى الهيئات المحلية، فلا تستطيع المحاكم أن تتخذ الإجراءات ضدهم، مما حدا بببه نفسه إلى التفكير في إلغاء تشكيلاتهم بالقوة.
أما في صقلية فقد ازداد الموقف الحرج تأزما بسبب الثورة واشتد سخط الصقليين لضياع استقلالهم ولخيانة الملك وخضوعه المشين للنمسة، وكان لذهاب الحامية الإنجليزية تأثير مباشر في هبوط العملة النقدية.
وعلى الرغم من هبوط الأسعار فإن القرويين لم يظفروا بتخفيض في الضرائب، واشتدت الفاقة الناشبة من سوء الحالة الاقتصادية، وبلغ من شدة سخط الناس على سيطرة نابولي أن تناسى الناس اختلافاتهم، واختفت الفروق العميقة التي كانت تبعد الطبقة المتوسطة عن الدهماء في القسم الأعظم من الجزيرة، وكان الاستقلال عند الأشراف يعني عودة عهد الإقطاع، والحصانة تجاه القوانين، واستغلال الأرض بإرهاق الفلاحين، بينما كان الدهماء في المدن يفهمون من كلمة الاستقلال النهب؛ ولذلك فإنه لم يكن بين الناس سوى أفراد قلائل من أحرار سنة 1812 يرون أن عودة الحكم النيابي هي السبيل إلى الرقي والإصلاح.
وشاع خبر الثورة في «باليرمو» عاصمة صقلية في يوم عيدها الديني، فتقبل الجمهور منح الدستور الإسباني بحماسة، حتى ظن البعض أن النابوليين والصقليين سوف ينسون أحقادهم ويؤلفون جبهة متحدة للكفاح ضد الاستبداد، غير أن الأشراف كانوا يرون في الدستور الإسباني ضياعا لنفوذهم، فضلا عن أن البعض من الأحرار قد انضم إليهم، مطالبا بالانفصال عن نابولي أو منح الحكم الذاتي، وهكذا فإن أمل المتفائلين بالتفاهم بين نابولي وصقلية قد خاب بإعلان الاستقلال والعودة إلى دستور سنة 1812، وثار الدهماء وهدموا دار القائد وضربوا دوائر الجباية، وأصبحوا أداة بيد الأشراف.
وأقنع هؤلاء نائب الملك بالموافقة على تسليح الدهماء، وأوشك الجنود أن يتضامنوا معهم إلا أن القادة خشوا العاقبة فحالوا دون ذلك، وقد نشبت بين الجنود والدهماء معركة أسفرت عن خسارة الجند، وفتحت على إثر ذلك أبواب السجون، وانضم المجرمون إلى العامة، وشرعوا ينهبون المدينة ويقتلون الناس على غير هدى، حتى اضطر الأشراف إلى الاتفاق مع رؤساء النقابات الصناعية ليحولوا دون النهب، إلا أن مساعيهم ذهبت أدراج الرياح، ولم يستطيعوا أن يعيدوا الهدوء إلا بعد أن جندوا من المجرمين والعاطلين سرايا، فأصبحت ناصية الحكم بيد عصبة من الأشراف والفوضويين. وخشي الأحرار من جهة: أن يصبح استقلال صقلية ألعوبة بيد الدول الأجنبية، وأن يظل المجلس النيابي تحت سيطرة الأشراف، ورأوا من جهة أخرى: أن الانضمام إلى نابولي من شأنه أن يجعل نواب صقلية في مجلس نابولي أقلية.
من أجل ذلك حبذوا أن تقوم حكومة من الأحرار بالإصلاحات التي سبق أن رفضها الملك، بينما ظلت مسينا أكبر مدينة في شرقي الجزيرة موالية لنابولي، وارتأى الموظفون والطبقة الوسطى في وسط الجزيرة وفي غربها رأي الأحرار في عاصمتها، وأدى هذا التباين في الآراء إلى أن تصبح الجزيرة ساحة قتال دام بين أنصار الدستور الإسباني وبين الدهماء الذين راحوا يدافعون بحرارة عن دستور سنة 1812 بسبب كرههم الشديد للأشراف وميلهم نحو أهل باليرمو.
أدت هذه الحوادث إلى هياج وسخط في نابولي، ولاح للأحرار أن الحركة الرجعية في صقلية قد شجعها الأشراف؛ ولذلك طالبوا باتخاذ التدابير اللازمة لقمع الثورة ولكن الحكومة ترددت في الأمر، وأراد الملك أن يصطاد في الماء العكر فوعد الصقليين بدستور 1812، وشجع هو ووصيه الأشراف على المطالبة بالانفصال، ثم منح الوصي بموافقة الوزراء أهل الجزيرة حق تأسيس مجلس نيابي على شريطة أن يقبله أهل الجزيرة بالإجماع، وفي الوقت نفسه أوفد أخو الوزير «ببه» على رأس سبعة آلاف جندي إلى الجزيرة لإخضاع الانفصاليين ولمساعدة الحكومة على التخلص من وعدها.
ولقيت القوة الموفدة مقاومة شديدة، حتى تحرج موقفها لو لم يسأم القابضون على زمام الثورة من كلا الفريقين الفوضى والدمار اللذين أصابا الجزيرة، فطلب أحد الأشراف من الشعب الخضوع، وقبل طلبات القائد بتعديل على أن تبقى الجزيرة تابعة للتاج، وأن تقبل الدستور الإسباني، وبهذا خضعت الجزيرة ولكن عين مترنيخ الداهية النمسوي لم تنم، فرأى في ثورة نابولي هدما للبناء الذي شيده وخروجا على السياسة التي وضعها بعد مؤتمر فينا؛ ولذلك عقد النية على أن يخنق الدستور الجديد قبل أن يشب، وبلغت الحماسة في النابويليين من جراء انتصارهم درجة لم يروا معها الخطر الذي كان يتهددهم، فدفعوا الضرائب قبل آجالها وانخرط المتحمسون منهم في سلك المليشيا.
واجتمع المجلس في 1 تشرين الأول فوعد الملك للمرة الثانية بأن يحترم الدستور وكانت أكثرية المجلس من المعتدلين الذين انتخبوا من الطبقة الوسطى ومن ذوي المهن الحرة، وكانت رءوس هؤلاء مملوءة بالأفكار الإصلاحية، إلا أنهم كانوا محرومين من التجارب ويرجحون الخطب على العمل، ولم يفكر أحد منهم في تهيئة البلاد لصد الغزو الخارجي.
أما الكاربوناريون فيلوح أنهم اعتزموا إما التهديد وإما أن يقوموا هم مقام البرلمان، فاستيقظ الحزب الرجعي من ذهوله وتحفز للعمل، وقد اعتاد الناس أن لا يثقوا بكلام الملك، وكانت هناك عدة أسباب تدل على أن الملك يتآمر، وأن الوزارة أصبحت ألعوبة في يده، وكانت باكورة أعمال المجلس أن رفض التصديق على معاهدة القائد ببه التي تنظم أمور صقلية، والتي تنص على أن يقدم الصقليون عشرة آلاف رجل للدفاع المشترك، وعلى الرغم من احتجاج القائد على هذا الرفض، فإن الوزارة قد ارتاحت إليه؛ لأنه ساعدها على أن تتملص من وعدها فعينت قائدا آخر وفق في أن يقبض على ناصية الجزيرة بالتدابير الصارمة.
وكان من أثر ذلك أن اغتاظ الصقليون وتأهبوا لانتهاز الفرص وأخذ الكاربوناريون في الجزيرة يتحفزون للثورة ويستعدون لها، مما اضطر نابولي إلى إبقاء قوة حامية تتألف من سبعة آلاف من خيرة جنودها في الجزيرة.
وراح المجلس يهاجم الوزارة حتى اضطرت إلى أن تلقي بنفسها في أحضان الملك، وكان الملك يعلم أن النمسة لا ترضى أبدا بالثورة وبالنظم الديمقراطية؛ فلذلك حدث حين استدعاء ملوك الحلف المقدس إلى «تروباو» لحضور الاجتماع المؤجل في لايباخ أن طلب من المجلس الموافقة على ذهابه وهدده بالحل إن هو لم يوافق، فلم يبق أمام المجلس تجاه هذا التهديد إلا أن يختار أحد الأمرين: فإما أن يطلب مساعدة فرنسية وتهدئة الحلفاء بموافقتهم على تأسيس مجلس الأعيان وتوسيع سلطة الملك، وإما أن يخلع الملك وينصب ابنه محله وبذلك يعلن الخصومة على النمسة.
فظل المجلس مترددا بين الأمرين، ومع أن الوزير ببه صوت للأمر الثاني فإن الكاربوناريين لم يكونوا يريدون أن يغيروا شيئا في أحكام الدستور، أما الملك فإنه بعد وصوله إلى تروباو رفع القناع عن وجهه، وأخبر المجلس أن الحلفاء قد قرروا إلغاء الدستور، وأنه نزل عند رغبتهم وأيد ذلك ، واستطاع مترينخ أن يحصل على موافقة الدول على إرسال قوة نمسوية لتأييد الحكم المطلق، ولما اطلع المجلس على ذلك اعتزم المقاومة واستعد للدفاع بكل قوته، وكان لدى الحكومة حينئذ أربعون ألفا من الجند النظاميين ومثل ذلك من قوة المليشيا.
وكان النابوليون يجهلون أن بيمونته كانت على وشك أن تثور، وأن فكرة الثورة قد اختمرت في إيالات الروماني والمارك، وبذلك كانت جميع الظواهر تدل على أن الكفة الراجحة بجانب النابوليين، لا سيما إذا أحسنوا المقاومة، وكان الشعب يريد الحرب لكن الأمور لم تسر وفق المرغوب فيه؛ إذ كان الوصي «ابن الملك» يلعب على الحبلين، وقد شجع وهن الحكومة الحزب الرجعي على العمل، وكان الجيش لا يثق بقادته ولم ترسم في البدء خطة للدفاع.
أما النمسويون فاجتازوا نهر «بو» في نهاية كانون الثاني، وتقدموا رويدا رويدا نحو الجنوب وكانت قوة نابولي تتفاوت بين 40000-50000 من النظاميين والمليشيا، فانقسم الجيش إلى قسمين القسم الأول بقيادة «كرسكوسا» والثاني بقيادة «ببه» وكانت الخطة المثلى أن يظل القسمان في حالة الدفاع.
ولما علم «ببه» بأن «كرسكوسا» أخذ يفاوض العدو بالاتفاق مع وزير الحربية؛ ترك خطة الدفاع وهجم على الجيش النمسوي، وبعد معركة استمرت سبع ساعات اضطر إلى الانسحاب، فتحطمت معنويات الجنود، فأعلن الملك بأنه سيقتل كل من يقاوم ويصادر أملاكه، فانتشر الذعر بين الصفوف، وتشتت قوات الجيش، ومالت قوات الحرس إلى جانب الملك، فاضطر المجلس إلى أن يترك الميدان ويلتجئ إلى رحمة الملك، وهكذا دخل النمسويون نابولي في 23 مارت بدون خسائر.
نشبت الثورة في بيمونته بعد اندحار جيش نابولي بثلاثة أيام، وكانت جميع قوات المحافظين قد تألبت دون مساعي «بروسبرو بالبو» في الإصلاح، وأمسى الجيش بيد الرجال الذين حاربوا النمسة في معركة «أوسترليج» فظلوا يعتبرونها عدوة، وأصبحوا يرون أنه على بيمونته أن تختار أحد الأمرين: إما الاحتلال النمسوي، وإما عرش إيطالية.
وانضم الكاربوناريون إلى المستائين، وكان الملك فيكتور عمانوئيل يحقد على الحزب النمسوي، الأمر الذي كان يزيد النار استعارا، أضف إلى ذلك أن سفيره في روسية «دي مستر» كان يدبر الدسائس في بطرسبرج في سبيل تأسيس مملكة في شمال إيطالية بحماية روسية.
لم يخطئ أعضاء جمعية الكاربوناري كثيرا حينما فكروا في أن يترأس الملك فيكتور عمانوئيل الحركة ويجمع حول رايته القوميين في جميع أنحاء إيطالية، وكان المتآمرون يميلون إلى إنجاز الإصلاحات قبل القيام بالحركة؛ ولذلك فإن أكثرهم قرروا المطالبة بالدستور الإسباني، ولكي يظفروا بعطف الملك على الحركة فكروا في اشتراك ولي العهد الأمير شارل ألبرت في مسعاهم.
وقد نشأ هذا الأمير الفتى البالغ من العمر اثنتين وعشرين سنة في باريس، وانخرط في الجيش الفرنسي، ونال فيه مرتبة كونت الإمبراطورية، وكان رجلا شجاعا شغوفا بالسلاح متكبرا، ولكن تنقصه الحماسة، وكان الأمير الوحيد الحائز عطف الأحرار، وقد تظاهر بميله إلى الإصلاحات وحبه للاستقلال وتشجيعه للأحرار، واتصل برجال الكاربوناري رغم نفرة البلاط من الآراء الحرة والأفكار الحديثة، وقد ولدت فيه ثورة نابولي الرغبة في قيادة الوطنيين، وطرد النمسويين من إيطالية، وتوسيع حدود بيمونته.
وكانت خطة المتآمرين تتلخص فيما يلي: أولا: الحصول على الدستور الإسباني مهما كلف الأمر، ثانيا: سوق الجيش إلى الحدود حالا، ثالثا: ضم قواتهم إلى قوات الثوار في ميلانو وبرسيه، رابعا: دحر الحاميات النمسوية فيهما، خامسا: قطع طريق الانسحاب على النمسويين في نابولي.
وكانوا واثقين أن جيش بيمونته ظافر لا محالة، وأن اللمبارديين سيعقدون مجلسا تمثيليا؛ لتقرير الانضمام إلى بيمونته، ولما وقعت حادثة الاصطدام صدفة بين التلاميذ والجيش في تورينو اشتد التوتر، وفي شهر آذار سنة 1821 شاع خبر الاطلاع على مؤامرة الأحرار مما اضطرهم إلى الشروع في العمل، ولما كانوا يرغبون في أن يساهم الأمير شارل ألبرت في الثورة فقد اجتمع به زعماء المؤامرة، والظاهر أنه وعدهم بالاشتراك في العمل على شريطة ألا يتجه العمل نحو مخاصمة الملك، ولكن سر المؤامرة لم يلبث يوما واحدا بعد الاجتماع حتى أفشاه الأمير، فأراد المتآمرون في تورينو أن يرجئوا الشروع في العمل، بيد أن حامية «ألكسندرية» التي كانت تجهل خيانة الأمير سارعت إلى الثورة، وطالبت بالدستور الإسباني، ونادت بفيكتور عمانوئيل ملكا على إيطالية.
وسار التلاميذ في العاصمة في مظاهرات يطالبون فيها بالدستور، ورفض ضباط الحامية مقاومة المتمردين والمتظاهرين، مما يحمل على الظن أن الحكومة نفسها كانت من أنصار الحركة، واتضح في الجلسة التي ترأسها الملك أن الملكة وحدها كانت تعارض في منح امتياز للشعب، أما الملك فعلى الرغم من وعده في مؤتمر «لايباخ» بألا يتخلى عن سلطته المطلقة فإنه حين أنذرت الحامية العسكرية بإطلاق النار على المدينة إذا لم يمنح الدستور أراد تجنب الحرب الأهلية، وأعلن تنزله عن العرش ولكن هذه الحركة من جانبه اعتبرت ضربة موجهة للثائرين الذين كانوا قد أظهروا ولاءهم له، كما أنهم أعلنوا للملأ حينئذ «أن الملك سيلبي نداء قلبه الإيطالي»، وكان الملك قبل أن ينزل عن عرشه قد نصب الأمير شارل ألبرت وصيا إلى أن يصل أخوه «شارل فليكس» الملك الجديد الذي كان خارج إيطالية.
استقالت الوزارة وأصبح الأمير الفتى من دون معين، ولم يكن ممن يستطيعون تحمل تبعة الحوادث الجسام، وقد كان مخلصا للأسرة المالكة من جهة ومرتبطا بالمتآمرين من جهة أخرى، وكان أمامه - قبل كل شيء - واجب خطير هو إنقاذ العاصمة من الفوضى، وإنقاذ البلاد من الاحتلال الأجنبي، وكان يدرك أن جيش بيمونته لا يستطيع مقاتلة الجيش النمسوي.
وعليه فقد تردد بادئ الأمر في منح الدستور، فأخذت الحامية تتهدده، وأشار عليه الأشراف بالقبول، فأذعن ومنح الدستور الإسباني مكرها، ويظهر أن مجرى الحوادث بعد ذلك قد حمسه إلى درجة راح معها يتحدث عن الاتحاد مع نابولي، وعن الشرف القومي، ولم يتردد في إظهار عطفه على الوفد اللمباردي الذي طلب منه أن يتقدم بالجيش نحو لمباردية، ولما بلغه الملك الجديد في إصرار وشدة أنه لا يعترف بأي امتياز منحه للشعب وأمره بعد ذلك بالمجيء إلى «نوفآره» هرب خلسة مع بعض رجال الحامية.
وكان أهل جنوة أيضا قد تحمسوا للثورة، بيد أن فرار الأمير شارل ألبرت جعل «كنفالونبيري» وزير لمبارديه يتردد في العمل، ولم يشأ اللمبارديون أن يقدموا على الحركة قبل أن يجتاز جيش بيمونته الحدود إلى بلادهم، وبقيت العاصمة ساكنة، وأخذ الأشراف يوجسون شرا من الدستور الإسباني، ولم تكن الوزارة الجديدة قادرة على بث الحماسة في النفوس، وحاول «سانتاروزا» ولعله الوزير المتحمس الوحيد من بين الوزراء أن يشجع الثورة بالهجوم وأخذ يقول: «انسوا الحزازات واركضوا نحو تسينا (النهر الذي يفصل الحدود بين لمباردية وبيمونته)؛ فلمبارديه تنتظركم ولسوف تتحرك فرنسة.» ولم يجد هذا القول نفعا؛ لأن الجنود فترت حماستهم، وأخذت القطع العسكرية تنحاز إلى الجانب الملكي، فأرادت الوزارة أن تنقذ الموقف بطلب وساطة روسية لتحول دون احتلال النمسة للبلاد.
بيد أن الملك شارل فليكس من جهة، وحزب الأحرار في ألكسندرية من جهة أخرى؛ لم يميلا إلى أي تفاهم، وكان من أمر ذلك أن اجتاز النمسويون نهر تسينا، وتقدمت قوات الدستور نحو توفاره، ولم يخطر ببال هذه القوات أن القطعات الموالية للملك ستنضم إلى صفوف النمسويين لمقاتلتها، وهكذا تغلب الجيش النمسوي بالاشتراك مع قوات بيمونته الموالية على قوات الدستور بالقرب من نوفاره، ثم احتل النمسويون ألكسندرية وجنوة، وبهذا فشلت الثورة في الجنوب وفي الشمال.
وإذا كان النفور من آل بوريون ملوك نابولي، والاستياء من الظلم والفاقة من أسباب الثورة والعوامل الدافعة إليها في الجنوب؛ فإن نشوبها في الشمال يرجع إلى نزوع الأحرار لضم لمبارديه إلى بيمونته والقضاء على الحكم النمسوي، وترجع أسباب فشل الثورة في الجنوب إلى خيانة الملك والوصي وعزم الحلف الأوروبي على قمع كل حركة تقوم ضد الحكم المطلق، غير أن رؤساء الثورة أنفسهم لم يكونوا ذوي تجارب كافية.
ومع أن الكاربوناريين كانوا مخلصين في عملهم إلا أنهم سلموا القيادة إلى رجال لم يكونوا مؤمنين بنجاح الحركة، وقد سيطروا على الحكومة لما شكوا في إخلاصها، وكانت الحزازات الشخصية تعمل عملها بينهم في الخفاء، ونخص بالذكر تلك الخصومة الشديدة بين ببه وكرسكوسا، وذلك الاختلاف بين جمعية الكاربوناري وحزب مورات، وإذا دلت الظواهر على أنهم يعملون لهدف واحد فإن الوقائع أظهرت أنهم يتحركون مختلفين.
أما في الشمال فالأسرة المالكة التي يجب أن ترأس الحركة وهي أسرة قومية لم تكن قوية الإيمان بالفكرة، ومع أن الأمير شارل ألبرت كان يعتنق فكرة الوحدة إلا أنه كان فاقد الحماسة، مترددا بين الإخلاص للأسرة المالكة وبين العمل المجرد للفكرة، وكان الأشراف الحديثو النشأة يهدفون إلى تأسيس مجلس الأعيان، كما أن أشراف لمبارديه كانوا يطمحون إلى أن ينالوا بواسطة بيمونته الامتيازات القديمة التي رفضت النمسة أن تمنحها إياهم.
وأما الجيش الذي علمته حروب نابليون أن يتخذ نفسه حكما في سياسة الأمة فإنه لم يكن ليعير أي اهتمام بالشعب، وأما رؤساء الثورة في الشمال فمع أنهم يؤمنون بالوحدة إلا أنهم كانوا رجال قول لا رجال عمل، وكانوا متحمسين للحركة والاستقلال، إلا أنه كان ينقصهم إصابة الرأي والنظر البعيد، فهاموا في أودية الخيال وجهلوا شعور البلاد، وأهملوا إعداد شعور الأمة إعدادا يكفل النجاح.
أما الزعماء في ألكسندرية فاختاروا لقب «جونتا» للاتحاد الإيطالي، واتجه هدفهم السياسي نحو مملكة إيطالية في الشمال، وقد أظهرت الثورتان ضعف الشعور بالوحدة والتضامن الصحيح في العمل، ومع أن بعض رجال الثورة مثل سانتاروزا كان يتوقع جمع القوى الوطنية في الشمال والجنوب، وكان «منزوني» يرتل النشيد الآتي: «أمة واحدة جسما وقولا وقانونا وقلبا.» فإن المتآمرين في بيمونته لم يخبروا نابولي بأهدافهم وخططهم، وأجلوا حركتهم إلى أن قمعت الثورة في الجنوب.
وكان لكل من بيمونته ولمبارديه والروماني ونابولي وصقلية سياسة خاصة لم يكن بعضها غريبا عن البعض الآخر فحسب، بل إنها كانت ذات أهداف متباينة، وقد يصطدم بعضها بالبعض الآخر، فرجال بيمونته ولمبارديه كانوا يتناقشون فيما بينهم حول أي من المدينتين - تورينو وميلانو - يجب أن تكون العاصمة، ورجال صقلية كانوا يكرهون أهل نابولي كل الكره، حتى إنهم فرحوا بانتصار النمسويين، وكان أهل نابولي يفضلون التخلي عن الغاية القومية على أن يمنح الحكم الذاتي إلى صقلية، فضلا عن أنهم رفضوا دعوة وطنيي المارك لإشعال نار الثورة في ممتلكات البابا.
فمن الواضح إذن أن حركة الكاربوناري كانت تسير في طريق خاطئ، ولم يكن للثورة في وادي بو إلا صدى ضئيل، وقد لاحت بوادر المؤامرة في الروماني حتى إن الشاعر الإنجليزي «بايرن» كان قد خزن السلاح في بيته لتجهيز الثوار به، إلا أن الثورة فشلت في الشمال والجنوب، وأصبحت البلاد ترزح تحت نير الظافر.
فسيق كنفالونيري مع كثير من رفقائه إلى معتقل «سبيلبرج» في موارفيه؛ حيث أخذ الإمبراطور فرانسو جوزيف يلعب بضحاياه لعب القط بالطيور الصريعة، وأطلق مترنيخ العنان لدوق مودينه للانتقام من رعيته، وطلب إلى فرديناند ملك نابولي أن يتظاهر بالحرية بمنح مجالس الإيالات بعض السلطات، ومنح صقلية إدارة مستقلة خاضعة لنائب الملك.
إلا أن الملك لم يلب الطلب، وأخذ ينتقم من الأحرار في قساوة ووحشية، فأقصى من الإدارة والجيش والمؤسسات الدينية جميع العناصر الموالية للأحرار، فشهدت نابولي أفظع المظالم، وعلى الرغم من أن النمسويين سعوا لإنقاذ الضباط الثائرين إلا أن الملك أبعد ثلاثين منهم إلى جزيرة جعلها سجنا، فكانوا ينامون فيها على الأرض ويكابدون أسوأ معاملة حتى ماتوا فيها.
ولم يكتف الملك بذلك، بل استدعى اليسوعيين إلى مملكته ليساعدوه على إتمام العمل الوحشي الذي بدأ به، فأحرقت الكتب التي تحتوي الآراء الحرة ومنع استعمالها، وفرضت مكوس باهظة على الكتب الواردة من الخارج، وكان الوزير «مديجي» يعترف بأن من واجبه أن يترك الشعب في جهل مطبق، وأخذت الحكومة تطارد الكاربوناريين، ففر الأحرار إلى الجبال بأسلحتهم مؤلفين العصابات.
أما في بيمونته فسار الملك الجديد شارل فيلكس على أثر زميله ملك نابولي في حركة الارتجاع، إلا أن تقاليد بيمونته الموروثة حالت بينه وبين الاندفاع في الطغيان الذي انغمس فيه فرديناند، ولم يكن هذا الملك الجديد ظالما بطبعه ولكنه كان يعتبر الثورة من أفظع الأعمال التي يجب أن يسحقها، وكان يحكم حكما استبداديا بكل معنى الكلمة، فارتاب في جميع الناس حتى في وزرائه، وشعر بالمقت الشديد لأعمال المجددين.
وكان لا يتردد في القول: «الملك هو الشخص الوحيد الذي منحه الإله القدرة على اختيار أحسن الوسائط لاستخدامها في سبيل سعادة رعيته، وإن أول واجب للتابع المخلص ألا يتشكى أبدا.» إلا أنه لم يكن متصفا بالخلال التي تؤهله لأن يكون ملكا عظيما، وكان الوحيد من آل صافويه الذي لم ينشأ من سلك الجندية، فكره أشغال الحكومة ومراسم البلاط، ولم يكن لديه أصدقاء إلا القليل.
وهكذا أصبحت بيمونته الحرة ترزح تحت نير الاستبداد، وقد أهينت كرامتها القومية ببقاء اثني عشر ألفا من الجند النمسويين فيها محتلين إياها، وانتشر الأحرار المبعدون تحت كل كوكب في فرنسة وإسبانية وإنجلترة ومصر وأمريكية الجنوبية، وأصبح سانتاروزا يدرس اللغة في نونتنجام، إلى أن مات بطلا فيها، ومع ذلك كله فقد بوشر تنفيذ بعض الإصلاحات من لوائح بالبو الإصلاحية الخاصة بالأمور العدلية، ووجه اهتمام إلى الأمور الزراعية، وشجع المرسح ونشطت الآداب.
ثم انفصل شارل فيلكس من أصدقائه النمسويين وأهل روما، فاحتج على النمسة لاحتلالها ألكسندرية، ومع أنه كان يشجعها على البقاء في نابولي إلا أنه رفض دعوتها إياه إلى التعاون المشترك ضد الأحرار، وبهذا لم يضع الفرصة للظهور بمظهر الملك المستقل بآرائه.
الفصل الثالث
الأحوال الاجتماعية في إيطالية
بيمونته
كانت مملكة بيمونته وليدة قرون عديدة، وكان كونتات آل صافويه قد توصلوا إلى أن يتملكوا هذه الدولة الثانية من دول إيطالية من حيث السعة والتي ظفرت بموقع عال بين الممالك الثانوية في أوروبا، وبما أن هذه المملكة الصغيرة واقعة بين فرنسة والنمسة؛ فإنها كانت ساحة للحروب التي نشبت بين المملكتين العدوتين، وقد استطاع بيت صافويه المالك بالسياسة الحكيمة أن يوسع حدود مملكته على حساب المملكتين المذكورتين، بوقوفه دائما بجانب المنتصرة منهما.
فكانت بيمونته الدولة الوحيدة في إيطالية التي احتفظت باستقلالها أيام التسلط الإسباني في القرن السابع عشر، ووقفت إلى جانب إنجلترة ضد النمسة في بداية القرن الثامن عشر، فأضافت إلى ممتلكاتها «ألكسندرية» و«الميلينا» ثم انحازت إلى فرنسة فحصلت على إيالة «نوفاره»، وانضمت إلى جانب فينا في حروب النمسا الوراثية، فوسعت حدودها إلى تستينا، فلم تعقد معاهدة - والحالة هذه - إلا وضمت أرض إلى مملكة بيمونته.
ولما نشبت الثورة الكبرى في فرنسة كانت مملكة ساردنيه كما كانت تدعى حينئذ تحتوي على القسم الشمالي من إيطالية إلى جبال الإبنين؛ أي ساردنيه ونيس وصافويه.
ولم تكن هذه السياسة التي اختارها أمراء صافويه ترجع في قواعدها ودوافعها إلى أي اعتبار غير منفعة البلاد، وكان يميلها عليهم موقعها الجغرافي الذي شجع ملوك بيمونته على أن يكونوا أوفياء كما وصفها أحد ساسة بلجيكة.
وكان أهل البلاد كأمرائهم محاربين عنيدين، ذوي رأي صائب، لا يلتفتون إلى الآداب والفنون، وكانت الزراعة في حالة من التأخر، أما الصناعة فكادت تكون معدومة، وكانت أكثرية الشعب لا تعبأ كلية بالحرية السياسية أو الحرية الدينية، فارتضت - عن طيب خاطر - حكم آل صافويه العسكري والأبوي المطلق.
وكان ملوكهم ذوي كفاءة نادرة، شاعرين بواجباتهم، وقد استطاعوا بفضل اختلاطهم برعيتهم في الكفاح المديد للمحافظة على كيان البلاد؛ أن يصبحوا من صميم الأمة، وكان البلاط نشيطا بسيطا، وكانت الحكومة بوروقراطية نزيهة ولكنها جامدة تشتغل في أمور تافهة، أما النظام المالي فيها فكان من أحسن الأنظمة في أوروبا، وكانت ثمت أوجه شبه بين هذه الدولة وبين دولة بروسية في ألمانية.
وكانت الحكومة تساعد التجارة وتشجع الصناعة الحديثة النشأة، وكان الملك يرعاهما، أضف إلى ذلك أن الحكومة كانت تحمي الناس من تعدي الأفراد المرهق، وتضع القوانين النافعة للترفيه عن الفقراء. أما الحقوق السياسية والتقدم الاجتماعي فلم يعبأ بهما الملك ولا الشعب.
وكان الناس في هذه المملكة - شأنهم في أنحاء إيطالية كلها - هم وأملاكهم وشرفهم تحت رحمة الشرطة، وكان حق وضع القوانين نظريا من صلاحية مجلس الأعيان أو المجلس الأعلى على نمط المجلس الإفرنسي، بيد أنه لم يكن لهذا المجلس المذكور شأن في ذلك؛ لأن أعضاءه يعينهم الملك، وكان لمدينتي تورينو وجنوة هيئات بلدية، ومع أن الإيالات كانت تدار من قبل حكومات إلا أنها كانت خاضعة للحكام العسكريين، أما المدن فكانت تحت حكم قادة الحاميات.
وقد عبر أحد أشراف بيمونته عن هذا الحكم بالعبارة التالية: «ملك يأمر وطبقة أشراف تساعد وشعب يطيع.» وكان الأشراف كملكهم محدودي الفكر غير مسرفين ومتكبرين، ومنهم تتألف الطائفة العسكرية، وكانوا يتمتعون بامتيازات إقطاعية، ويعيشون عيشة البساطة ويحكمون أتباعهم بيد صارمة، ولكنهم غالبا ما كانوا يعطفون عليهم.
أما أولاد الأشراف الصغار الذين لا يرثون بمقتضى القانون فيتولون المناصب العالية في الجيش وفي الإدارة، وكانوا يشتغلون بجد وسعي ليحيوا حياة تليق بشرف أسرهم ومجد وطنهم، وأما جماعة الإكليروس فكانت خاضعة لسلطة الحكومة المباشرة، فالملك يعين المطارنة، ورغم أن الملوك كانوا موالين للبابا فإنهم لم يسمحوا بأي تدخل في امتيازاتهم في هذا الشأن، ومع ذلك فإن كابوس الإكليروس كان جاثما على البلاد؛ إذ استطاع اليسوعيون في سنة 1818 أن يستعيدوا نفوذهم.
وكان للمدارس التي أنشئوها وخرجت عددا كبيرا من أولاد الأغنياء أثرها في تقوية مركزهم، ولم يسمح لليهود بالاستخدام في الوظائف العامة ولا بالدخول في الجامعات، وبلغ امتداد نفوذ الكنيسة حدا كان معه الوزراء يراعون أيام الصوم خوفا من العزل، وكانت الجامعات توصد أبوابها أسبوعا مرتين في السنة للقيام بالواجبات الدينية، وعلى الرغم من هذه الصرامة الدينية، والمراسم الكثيرة التي تجريها الكنيسة؛ كانت مدينة تورينو أكثر المدن الإيطالية الشمالية دعارة.
ولم يمنع كون الأشراف وجماعة الإكليروس دعامتين لنظام الحكم في بيمونته أن يكون الجيش إحدى الدعائم أيضا، وقد احتفظ ملوك بيمونته بجيش كبير لا يناسب سعة المملكة، وكان الجيش والأسطول - إما حبا في التوسع أو رعاية للموقع الجغرافي - يستنفدان من الميزانية ثلاثة أرباعها، فاستطاعت هذه المملكة أن تجهز سبعين ألفا من الجنود.
وخلاصة القول إذن أن دعائم الحكم في بيمونته هي الأشراف والإكليروس والجيش، وهؤلاء مهمتهم تأمين ولاء الشعب بعقيدة دينية وملوكية مشتركة، ولجعل بيمونته محترمة في نظر جاراتها الطامعات، وحسبنا لنبين قوة هذه الدعائم أن نصف العاصمة تورينو كان ثكنات والنصف الآخر أديرة.
هذا ولا يفوتنا أن نشير إلى أنه كانت في المملكة نقابات مؤلفة من الأساتذة والصناع تبث في الأوساط الصناعية روح التنظيم الصارم، أما الفرق بين الطبقات فكان شاسعا، وقد أدى الحكم الإفرنسي الذي استمر من سنة 1798 إلى سنة 1814 إلى رقي عظيم.
ولم يسع الملك فيكتور عمانوئيل حين عودته وأخوه من بعده إلا أن يمنحا بعض الامتيازات على كره منهما، بسبب قوة تغلغل الآراء الحديثة، ويبدو - مما تقدم - أن مملكة بيمونته كانت متأخرة اجتماعيا بالقياس إلى ممالك أوروبا الغربية، وكان القضاء في بيمونته مزيجا من الحقوق الرومانية وحقوق الكنيسة ومن إدارات ملكية وعرف محلي وقرارات للمحاكم غير مدونة، وكانت إيالة جنوة تأخذ بالقوتين الإفرنسية المدنية والتجارية، بينما كان لإيالة «آوستة» تشريع خاص، وكان لبعض المدن الصغيرة أيضا عرفها وامتيازاتها الخاصة بها.
أما التعليم في المملكة فكان متأخرا، وقد أمر الملك شارل فليكس سنة 1822 بفتح مدارس للأولاد في كل مديرية، إلا أن الجديدة منها لم تفتح قبل سنة 1846، أما المديريات الفقيرة فقد حرمت منها، وكان معظم العمال والقرويين أميين ولم يشمل التعليم الابتدائي البنات إلا في سنة 1846 وذلك في بعض المدارس، وكانت الحكومة تقوم بنفقاتها، وكان التعليم فيها ناقصا، وكانت المواضيع التي تدرس فيها قاصرة على اللغة اللاتينية واليونانية وبعض العلوم الطبيعية، أما التاريخ - واللغات الحديثة فلم تكن تدرس فيها.
ويكاد الرهبان يكونون وحدهم المعلمين والأساتذة، وكان همهم أن يلقنوا التلاميذ الطاعة العمياء، ولكن الأذكياء من التلاميذ كانوا يجنحون إلى العصيان أو يندفعون إلى اليأس، وقد أراد الوزير «برسبيرو بالبو» أن يدرب معلمين علمانيين في دور المعلمين، إلا أن مشروعه هذا لم يطبق بسبب قوة الرجعية، ولم يستطع خلفه أن ينفذ هذا المشروع إلا بعد ثلاث وثلاثين سنة.
وكانت جامعتا تورينو وجنوة في حالة سيئة؛ إذ استولى عليهما اليسوعيون بعد سنة 1821، حتى إنه لم يكن يقبل فيهما التلاميذ ما لم يبرزوا شهادة تؤيد اعترافهم وإيمانهم، وكان الجواسيس يراقبون الأساتذة والتلاميذ، حتى إذا ظهرت من الأساتذة أقل بادرة تنم عن استقلالهم بالرأي؛ طردوا من عملهم وحرموا من الوظائف والمهن الحرة.
وكانت الزراعة مهنة أهل بيمونته الوحيدة باستثناء أهل جنوة، ويؤلف أصحاب الأراضي خمسي الأهالي، ويسكن أكثر القرويين في وديان الألبة والأبنين، وكان الكثيرون من القرويين الملاكين في بلاد الزيتون في الريفيرا يعيشون تارة في هناء وأخرى في شقاء عظيم، وكان معظم مقاطعات السهول ملك الأشراف، وهؤلاء كانوا لا يعيشون فيها وإنما يؤجرونها للملتزمين.
وكان الخوف من ازدياد الضرائب يحول دون الإقدام على تحسين الزراعة وتكثير إنتاجها، وقد كان المزارع إذا تأخر عن دفع الضريبة تؤخذ منه مزرعته فيبقى مشردا بلا أرض، وقد استفحل هذا البلاء حتى اضطرت الحكومة إلى رعاية المزارعين، وطلبت إلى المحاكم أن تنظر في تأجيل ديونهم أو دفعها على أقساط مناسبة.
وأهل بيمونته - على العموم - شعب رزين صبور ضيق التفكير، ولكنه يتحلى بقوة كبيرة من الثبات والإرادة، أما الحكومة فعلى الرغم من تأخرها فإنها كانت نشيطة ووطنية معا، وتحبها الرعية بسبب وطنيتها. وكان الناس يحسون في ذات نفوسهم أن مملكتهم سوف تهيمن على إيطالية، ويكاد سكان المملكة يتجاوزون نصف سكان نابولي وصقلية معا، ولكن كانوا أضأل ثروة وأقل ذكاء من سكان لمباردية، وظل امتزاجها بأهل جنوة ناقصا.
وكان خمسا رعيتها يمتون إلى عرق ما وراء الألبة ويتكلمون لغة تختلف عن لغة أهل البلاد، ولكن أخلاق الشعب القوية قد عوضته عن قلة عدده وثروته، مع أن البيت المالك من آل صافويه كان قد رعاه وعلمه الطاعة والانقياد له، إلا أنه طبعه بشمائل الرجولة والحرية الأمران النادر وجودهما في إيطالية، وكان القرويون ذوي قدرة على الكفاح واحتمال للمشقة دون أن ينوءوا بما يحتملون، ويمتازون بإخلاصهم واستعدادهم للتضحية؛ فلذلك كانت سياسة الحكومة التقليدية توجيه الشعب إلى التطلع للشرف والطموح إلى التقدم، وكانت كلمة «ميلانو» شعار الملوك، وكان «دي ميستر» رسول المدرسة الحديثة التي تستهدف أن يكون لإيطالية تاج واحد، وقد رجا من فيكتور عمانوئيل «أن ينسى عرش بيمونته وأن يفكر في عرش إيطالية.»
وقد يستمر الأشراف في بيمونته على التباهي بأصلهم البروفنسي واحتقار الدم الطلياني النقي، وقد تستطيع البورقراطية أن تعتبر إيطالية جزءا من بيمونته، بيد أن الوعي القومي القوي فيها كان كفيلا بأن يقود إيطالية إلى حرب الخلاص.
وقد ظلت النمسة في نظر الملك فيكتور عمانوئيل وخلفه شارل فيلكس العدو اللدود لإيطالية، ولولا خشية الثورة في الداخل لأعلنا عليها الحرب؛ تحريرا لإيطالية، على أنه لا بد للمعركة من أن تشب عاجلا أو آجلا وستكون معركة حياة أو موت، ولا غرابة في أن يسود الاعتقاد بين المواطنين في إيطالية بأن ملوك بيمونته وشعبها هم الذين سيقودون تلك الحركة.
لمبارديه وفنيسيه
إن تحرير لمبارديه وفنيسيه كان أمل جميع الوطنيين الإيطاليين، فكان اغتباط أهل نابولي وروما وبيمونته بالمؤسسات الإدارية التي يتمتع بها اللمبارديون والفنيسيون في محله، لقد كانت الإدارة النمسوية في القطرين المذكورين تستمد قوتها من التقاليد المستندة إلى الكفاية والنظام، وقد تكون هذه الإدارة بطيئة في عملها ولا يرضى عنها الشعب، وقد تضحي بغرور الأهلين وعاداتهم القومية في سبيل منافع النمسة وإدارتها المركزية، وقد يساعد مركز الحكومة المرتبك على سوء تصرف الشرطة وعلى الاضطهاد الشنيع بعض الأحيان، بيد أن الذي لا شك فيه هو أن النظام والقوة كانا من حسنات الإدارة الجرمانية، فضلا عن أن الناس كانوا متساوين أمام القانون، وإذا استثنينا دوقيتي «بارمه وطوسكانه» فإن الحرية الاجتماعية في القطرين المذكورين كانت تامة لا غبار عليها.
ولمبارديه قد انتقلت إلى يد النمسة في النصف الأول من القرن الثامن عشر، فاستفادت من إصلاحات ماريا تريزا ويوسف الثاني، وعقيب فتوح نابليون الأول أصبحت ميلانو عاصمة الجمهورية، ثم أمست عاصمة المملكة الإيطالية، بعد أن ألحقت بها جمهورية فنيسيه، وبذلك صارت عاصمة من العواصم الأوروبية المهمة وقاعدة لبلاط فخم، وكانت المدينة الأولى في إيطالية في رقي آدابها وصناعتها ومشاريعها الاجتماعية.
فنفق «سمبلون» قد أشرف على فتحه مهندسون لمبارديون، وكتدرائية ميلانو أكمل بناءها معماريون لمبارديون، وساهم في شرف انتصارات نابليون جنود لمبارديون، وكان «مونتي وفوسكولو»
1
قد أطلعا أوروبا على آداب لمباردية، ومع أن النمسة قد منحت لمباردية وفنيسيه الحكم الذاتي في سخاء فإنها عند التنفيذ خالفت الوعود التي قطعتها، ولا سيما بعد أن شغفت دول أوروبا بالإدارة المركزية التي اقتبستها من نابليون، وكان هدف النمسة في هذه الإدارة أن يطبع الألمان والسلاف والطليان بطابع واحد، حتى إن مترينيخ كان يقول «على اللمبارديين أن ينسوا أنهم طليان.» وطبق التشريع النمسوي في البلاد غير مهتم بعادات الأهلين وتقاليدهم وعرفهم القومي، وعلى الرغم من أن مترنيخ كان يميل إلى منح الطليان بعض الامتيازات في الإدارة والقضاء، إلا أنه إذا ما حدث اختلاف بين نائب الملك وبين حكام الإيالات أو بينه وبين مدير الشرطة؛ كانت فينا هي التي تبت في الخلاف، وبذلك كانت تقبض على زمام الحكم.
وأخذت الكتب المدرسية النمسوية تدرس في المدارس الابتدائية وألزمت الجامعات بتدريس القوانين النمسوية، واستعيض عن تدريس تأريخ إيطالية بتاريخ النمسة، ورأت الحكومة نفسها بعد مدة من الزمن أمام مشاكل عظيمة بسبب ما فرض من الضرائب الفادحة، وكان أهل لمبارديه وفنيسيه يدفعون ضعف ما كان يجب أن يجبى منهم من الضرائب، حتى إن نسبة الضرائب في لمباردية وفنيسيه أصبحت وقت السلم أكثر مما كانت عليه وقت الحرب في العهد الإفرنسي، أما ضرائب الأملاك فتجاوزت حد العشرين في المائة من الوارد الصافي، وكانت الحكومة هي التي تقدر الوارد الصافي فتسيء التقدير حتى تبلغ الضريبة ثلث الوارد الحقيقي أو نصفه.
وفي غير القضايا السياسية كان العدل النمسوي لا بأس به رغم ما يشعر به من العيوب الكثيرة الموجودة فيه من العدل الإيطالي، فالناس لا حق لهم في الحضور إلى المحاكم، ولا يجوز للمتهم أن يستشير، وليس من حقه أن يدرس الاتهامات الموجهة ضده بإمعان، ولا توجد هيئة عدول، ولكن النقص البارز في العدل النمسوي عدم موافقته لعادات الإيطاليين واستخدامه أكثر القضاة من الأجانب، أما في القضايا الدينية فالحكومة في لمبارديه كانت أرقى منها في سائر أنحاء إيطالية، فالرهبان يعتبرون من موظفي الدولة والراهب الذي يرفض العمل بموجب التعليمات الإدارية يعاقب.
وكان البروتستان والأرثوذكس يتمتعون بحريتهم الدينية تماما، ولكنهم محرومون من حق الاستخدام في الوظائف، ولم يصب اليهود بأذى ولعل سيطرة الدولة على جماعة الإكليروس جعل لمبارديه أكثر تثقيفا وحرية من سائر إيطالية، ومع أن اليسوعيين استطاعوا العودة إلى فنيسيه سنة 1843 فإنهم لم يستطيعوا أن يدخلوا ميلانو مطلقا.
وكان التعليم في لمبارديه أعم وأرقى منه في جميع بلدان إيطالية ما عدا بارمه ولوكا، وقد كان التعليم الابتدائي إلزاميا على الذكور والإناث من السادسة إلى الثانية عشرة، وكل وحدة إدارية مهما كانت صغيرة ملزمة بأن تفتح مدرسة فيها، ولكل مدينة مهمة مدرستها الابتدائية يدرس فيها النحو واللاتين وقليل من العلوم الطبيعية ومدرسة «جمنازيوم» (على أن تتم هذه الدراسة في إحدى المدارس الثانوية البالغ عددها الاثنتي عشرة مدرسة)، وكان في كل من «بادويه وبافيه» جامعة تضم ألفا وخمسمائة تلميذ وهاتان الجامعتان تبثان المبادئ الحرة في نفوس الطلبة، مما دعا إلى نقمة الشرطة وإرهابها.
ولعل رقابة المطبوعات فيها كانت أقل وطأة مما هي عليه في جميع إيطالية، ومع أن قانون سنة 1815 قد منح حق النقد السياسي فإنه حظر على أية جريدة سياسية أن تصدر قبل موافقة الرقيب العام في فينا، أضف إلى هذا أن جميع الكتب الأجنبية كانت خاضعة لرقابته حتى الروايات التي ليس لها قيمة علمية، والمطبوعات التي تهاجم أسلوب الكتابة ونقاوة اللغة ممنوعة.
وكان من جملة الكتب الممنوعة مؤلفات «بلزاك وبنتهام وفيكتور هوجو ومكيافيلي وهلام ورابله» ومع هذا فقد أحسن الرقيب عملا بمنع كل تأليف ينافي الأخلاق، أما المؤلفات العلمية غير السياسية وكذلك كتب اللاهوت فكانت تتمتع أحيانا بكامل الحرية، وكان مجال حرية الفكر في ميلانو أوسع منه في نواحي إيطالية جميعها، وكانت أكثر الصحف والمجلات الإيطالية تمتعا بالحرية هي صحف إيالتي لمبارديه وفنيسيه، ومجلاتهما.
ولعل لمبارديه كانت القطر الوحيد في إيطالية الذي يسير الحكم المحلي فيه على نهج واحد، وكانت طبقة الملاكين تتمتع بحق إبداء الرأي، ثم إن تقسيم الأرض على الناس جعلهم ذوي إيراد خاص يكاد يخول كل أسرة حق التصويت في الوحدات الإدارية الصغيرة، وكان الناخبون يجتمعون مرتين في السنة للبت في الأمور المهمة. وكانوا ينتخبون من بينهم لجنة تنفيذية مؤلفة من ثلاثة أعضاء؛ تنظر في الشئون الاعتيادية للوحدة الإدارية، وفي الوحدات الإدارية الكبيرة كان المنتخبون لا يجتمعون ولكن ثمت مجلسا مؤلفا من ثلاثين عضوا إلى ستين عضوا يتولى إدارة الشئون، وكانت السلطة التنفيذية في المدن الكبيرة مودعة إلى «البديستا» أي المدير أو رئيس البلدية.
أما القرارات الجديدة فمن حق المجلس، وكانت الوحدات الإدارية تتولى شئون المدارس والشرطة المحلية وطرق القرى والرهبان في بعض الأحوال، وتشرف على أمور الصحة والشرطة والأمور الخيرية كما أنها كانت تستطيع القيام بأمور نافعة بموافقة السلطة المركزية، إلا أنه كلما تقرب الحكم الذاتي من التمثيل القومي كانت مخاوف الأوتوقراطية تضعفه.
وكان لكل من المديريات السبع عشرة مركز لمجلس المديرية المؤلف من الأشراف والملاكين، أما المدن الملكية البالغ عددها تسع عشرة فكان لها ممثلوها الخاصون، وكانت سلطة هذه المجالس محدودة، فهي التي تدير الشئون المالية في المديرية وتسيطر على مالية الوحدات الإدارية «الناحيات» ولها بعض الإشراف على الطرق والأنهار والمشاريع الخيرية، ومع كل ذلك فالمجلسان المركزيان في لمبارديه وفنيسيه لم يحققا الآمال المعلقة عليهما بالنسبة إلى ممارسة السلطة السياسية الفعالة، وكان الإمبراطور فرنسوا يقول: «إن الحكم الدستوري يقضي على الثقة التي تجب أن تسود بين الشعب والأمير.»
وكان القانون في الأمور السياسية جائرا، ويلجأ إلى تعذيب المتهم وجلده وحرمانه من الطعام وغير ذلك من الأساليب، ويحضر المتهم أمام المحكمة من دون أن يتاح له استدعاء محام ومن غير أن يعلم التهم الموجهة إليه، وكانت المذكرات تظل سرية، وهكذا يرى المتهم نفسه أمام حكام نمسويين وتيروليين، ومجرد التذمر السياسي يعتبر جرما يقود صاحبه إلى الاعتقال في قلعة «سبيلبرج» وفي حالة ارتكاب جماعة من الناس جريمة ضد أشخاص آخرين فإن السلطة تسوغ لنفسها إهمال جميع الأصول الحقوقية والحكم من دون محاكمة، وأما التجسس والمراقبة السرية فكانتا على أشدها.
وكانت المراسلات مع الخارج تفتح، وكانت ملفات الشرطة حافلة بالتقارير عن مؤامرة مرتبة من قبل بونابرت «أي نابوليون المعتقل» أو دسائس حيكت من قبل الإنجليز أو الروس، وحظرت على المواطن السياحة في الخارج من دون الحصول على موافقة السلطات، وقد يحول بعض التدخلات السرية دون استخدام المواطن في وظائف الدولة، وقد طرد أحد الأساتذة؛ لأنه ردد هتاف البابا جوليوس: «فليذهب الأجنبي»، ويكفي للدلالة على حق حرية الاجتماعات أن حفلة رقص خصوصية لم يكن جائزا أن يدعى إليها من دون موافقة الشرطة.
ومع أن ميلانو فقدت مقامها فقد ظلت المدينة الصاخبة اللامعة المرتابة الخليعة، وكذلك فنيسيه؛ فقد أضاعت منزلتها إلا في فترات تجلى فيها الشعور السامي، وكانت الطبقة الأرستوقراطية فيها تتملق النمسة وضاعة، أما الطبقة المتوسطة فلم تكن ذات إرادة ونفوذ.
هذا ويعيش خمسا أهلها حينذاك على الصدقات، وقد عرف النمسويون كيف يستغلون هذا التردي في الأخلاق فبذلوا إعانات سخية إلى دار الأوبرا، وكانوا كلما حدث هياج سياسي يلهون الناس بمضاعفة الاهتمام باحتفالات الكرنفال، كما أنهم بذلوا جهدهم في تأريث الحقد بين ميلانو وبرسيه وفنيسيه، وكان الشريف الذي يعمل للمصلحة العامة يفقد عطف الحكومة.
ومما يثير الحماسة القومية في النفوس تلك الضرائب الفادحة التي فرضتها الحكومة على الأملاك، وكان أولاد الأشراف وبناتهم يربون على اعتبار النمسويين أجانب لا يجوز التساهل معهم، وإنما يجب احتقارهم والابتعاد عنهم في الرقص وفي المرسح، بيد أن الأشراف كانوا قليلي العدد في لمبارديه وكانت الطبقة المتوسطة تؤلف القسم الكبير في البلاد، وكانت هذه تعنى كل العناية بتجارتها.
وتقدمت الصناعة؛ بفضل ذكاء اللمبارديين وقابليتهم الفنية، حتى غدت لمبارديه أكثف نفوسا في أوروبا باستثناء بلجيكة، ونمت تجارة الحرير وكثرت المغازل في المناطق الجبلية واشتهرت مصانع الجبن في «لودي وكريما»، وانتشرت صناعة القطن وأنشئت مصافي السكر، ولكن الناس كانوا يعلمون أنه مهما تقدمت الصناعة في لمبارديه عليهم أن يقدموا الحساب إلى النمسة؛ فلذلك قيدت التصرفات الجمركية المتعددة المرتبكة نشاط التجارة وشجعت التهريب، فخسرت فنيسيه مقامها في التجارة على حساب منافستها «تريسته» واضطرت برسيه إلى غلق معاملها الحربية.
وأكثر الناس في لمبارديه كانوا زراعا وأصحاب الأراضي يؤلفون ثمن الأهلين، وكان عددهم في ازدياد مستمر، وكان كل قروي في المناطق الجبلية يملك أرضه ويرجح الاحتفاظ باستقلاله فيها على رفاهيته، ولما كانت النفوس كثيرة والضرائب باهظة فإن النقص في وارد الأسرة كان يؤمن من غزل الحرير؛ إذ اعتاد كل بيت أن يقوم به، ويعيش القروي عيشة لا بأس بها، وكان على رغم فقره أغنى من القروي الإفرنسي.
وكان الزراع في السهول ناقصي التعليم وفي حالة البداوة، يسكنون في أكواخ من الطين ويكرهون رؤساءهم وأسيادهم، وكثيرا ما استحوذ اليأس عليهم؛ ولهذا فإنهم يؤلفون عنصرا خطرا.
وكان الأذكياء يعتبرون الإدارة النمسوية - بمجرد أنها نمسوية - أفظع من الاستبداد القائم في روما ونابولي، وبمرور الزمن وبالتدريج تغلغل الحقد على النمسة في قلوب الناس من جميع الطبقات وفي كل الأنحاء، وقد توغلت تعاليم «مازيني»
2
بين طبقات الناس من الأشراف والتجار والعمال حتى غدت البزة البيضاء التي يلبسها الجندي النمسوي رمز الاستبداد في نظر الناس.
الفصل الرابع
مودينه - بارمه - لوكا - طوسكانه
مودينه
كانت دوقيتا مودينه وبارمه الصغيرتان تقعان إلى جنوب نهر بو، بين لمبارديه وطوسكانه، وكانت نفوس مودينه وحدها تبلغ زهاء نصف المليون يحكمها الدوق فرنسوا، وكانت أنظمة الدولة من الوجهة النظرية صالحة لكل ما يؤدي إلى خير الأهلين إلا أن تنفيذها كان يجري على صورة فظيعة من الاستبداد، وكانت الضرائب فادحة والقوانين المدنية والجزائية سيئة غامضة.
وطالما تجاوزت الإرادات الأميرية القوانين وخرقتها، فالمتهمون السياسيون مثلا كانوا يلقون في السجون من دون أي دليل، ويبقون فيها إلى أن تظهر الحقيقة، وقد جلب الحكم الإفرنسي إلى الدوقية النشاط وروح السعي والإقدام، فاشتهرت مودينه بمدرستها التي تعد رجال الإدارة، إلا أن الدوق فرنسوا قضى على ذلك كله كما قضى على نفوذ الحكومات الحرة في النواحي.
وكان التعليم الابتدائي شائعا في قليل من المدن، أما التعليم الثانوي فكان بيد اليسوعيين، كما أن الجامعة أتلفت بالنظام الذي أصدره الدوق، وأصبحت مراقبة المطبوعات بيد المتعصبين الذين بلغ من تعصبهم أنهم منعوا تداول مؤلفات دانتي.
ويؤلف القرويون الأكثرية الساحقة وهم الذين يملكون الأرض إلا القليل منهم، وكانوا دائبي السعي والعمل في أرضهم الجبلية الشحيحة، ويرزحون تحت ظلم موظفي الحكومة، ويجابهون الشقاء، ولكنهم كانوا يوالون الحكومة؛ حتى إن الأمير كان يجهز - عند الحاجة - ما يشاء من المتطوعين منهم.
بارمه
أما دوقية بارمه فكانت على عكس أختها دوقية مودينه، تتمتع بحكومة هي من أبعد الحكومات في إيطالية تبصرا، وكانت كثيفة النفوس؛ إذ يبلغ عدد سكانها الأربعمائة والخمسين ألفا، وكانت أرملة نابليون، رغم خلاعتها وقلة مرونتها، شفيقة بالناس حسنة النية نحو رعيتها، وكان الوزراء يساعدونها على سياسة رعيتها، في الحكم السمح والإدارة الحرة.
وظل القانون الإفرنسي نافذا فيها، ولم تكن ثمت فوارق أمام القانون، وكانت المحاكمة علنية والحكام مستقلين، ومجلس الدولة يستشار في جميع الأمور التشريعية وإدارة الشرطة لا بأس بها، وكان التعليم في هذه الدوقية منتشرا بالنسبة إلى أكثر أنحاء إيطالية، ففي أكثر النواحي مدارس للأولاد حتى بلغ عدد الذين يؤمون المدارس نحو خمس السكان.
لوكا
وكانت دوقية لوكا من أصغر الدويلات الإيطالية، فمساحتها لا تتجاوز ثمانمائة وخمسين كيلو مترا مربعا، ونفوسها يبلغون مائة وخمسين ألفا، وقد خولها مؤتمر فينا حق الاحتفاظ بدستور 1805، بيد أنه سرعان ما ألغي هذا الحق، ومع ذلك فإن الحكومة لم تكن متعصبة ولا ظالمة.
وكانت الأميرة في هذه الدوقية كريمة الخلق حتى إنها استطاعت أن تنال ثقة أحرار إيطالية الذين رأوا في ابنها الأمير «شارل لويس» الزعيم المؤمل في ثورة 1831، بيد أن هذا الأمير أصبح سخرية إيطالية؛ إذ اعتنق البروتستانتية لشهوة في النفس، ثم عاد إلى الكنيسة الكاثوليكية.
وكانت البلاد متمتعة برخاء نسبي تستفيد من محصول زيتونها فائدة كبيرة، ولكن محصولاتها الزراعية لم تكن تكفي سكانها الكثيرين، فأخذ فريق منهم يهاجر منها، وفي الدوقية كثير من المدارس الابتدائية ونحو نصفها مجانية، وكانت المدارس الثانوية فيها جيدة، أما الجامعة ففيها خمسة وعشرون معلما ومائة وثمانون تلميذا.
طوسكانه
وكانت طوسكانه الحكومة الوحيدة - بعد بيمونته وبارمه - التي خضع لها رعيتها عن طيبة خاطر، وإذا قورنت هذه الحكومات بحكومات إيطالية الأخرى؛ ظهر أنها صالحة متساهلة مستنيرة.
وكانت الإصلاحات الحسنة من تقاليد أحفاد «لئوبولد» الأول أول دوق نمسوي كبير حكم البلاد، وهو من الأحرار الذين أنجبتهم أسرة هابسبرج، وكان وزير الدولة الأول ميالا بطبعه إلى الهدوء والسكنينة، ويرى أن السكون وحده كفيل بتجنب البلاد الأزمات، وشعاره في ذلك كله: «أن العالم يسير بنفسه»، فلم يكن - والحالة هذه - يأبه بالمبادئ، وإن كان في طبعه وسياسته يميل إلى خير الشعب.
وكانت التعليمات الصادرة إلى الأغنياء الذين تولوا شئون الإدارة ألا يبذلوا جهدا كبيرا، قانعين بقبض رواتبهم، وقد خدم هذا الوزير في عهد نابليون، وكان يحب أن يشتهر بالتسامح والرقي، فلذلك نراه في فرص عديدة يقبل اللاجئين من الروماني ومن نابولي، ويساعد أهل فلورنسه العاصمة على أن يرسلوا المتطوعين إلى بلاد اليونان الثائرة.
وكان الأمير لئوبولد الثاني بورجوازي الطبع محترما نشيطا، وكان يحث الأشراف على أعمال الري وزيارة مزارعه التجريبية، ورغم أن الوزير الأول كان يسعى للحيلولة دون جعل طوسكانه إيالة نمسوية؛ فإن الأمير كان - بحكم قرابته للأسرة المالكة في النمسة - يميل إلى تنفيذ أوامر فينا.
وكانت القوانين خفيفة الوطأة، ويعد قانون العقوبات الذي وضعه لئوبولد الأول في حينه نموذجا في كل أوروبا، وكانت المحاكمة بمقتضى القانون علنية ويجوز إطلاق سراح المتهم بالكفالة ولا يحكم بالموت إلا نادرا.
وقد بلغ من تساهل الشرطة حدا وبخها معه مترنيخ، ومع ذلك فإن التجسس فيها كان نشيطا فلم تنتهك حرمة البريد في أي بلاد أخرى كما انتهكت في طوسكانه، وقد بلغت مهارة الشرطة في فتح الرسائل والاطلاع على أسرارها مبلغا عظيما، حتى إن حكومة ميلانو استعانت بخبرتها في هذه الشئون.
وكانت الرقابة على المطبوعات تتساهل إلى حد ما في نقد الحكومة، وكانت الكتب الممنوعة تباع أحيانا في المكتبات علنا، أما الكتب الأجنبية فكانت تدخل البلاد بحرية، وكانت مكتبة «فيوسو»
Vieusseux
في فلورنسه المحل الوحيد في إيطالية الذي يتمتع الناس فيه بحريتهم، فيتداولون في الأمور السياسية، ويقرءون جرائد أوروبا المهمة.
وكانت الضرائب خفيفة وعادلة، وليس هناك من حصر أو امتيازات تقيد التجارة، وكانت ضريبة المستوردات أقل منها في أوروبا، وبلغ تعلق الناس بحرية التجارة إلى درجة أنه رفض الاقتراح بوضع تعريفة تقيد أجرة للمركبات في فلورنسه.
أما الجيش فقد أهمل أمره تماما، بل أهين، وإذا ما أريد الاحتفاظ به فذلك تنفيذ لما فوضته المعاهدات من جهة ولسماع الموسيقة العسكرية من جهة أخرى، وكان أغلب الضباط من الأسر الغنية والجنود من سواد الشعب، وهناك كتائب تدعى كتائب التوبة يساق إليها المجرمون، وكان للحكام تأثير في الفساد العام، وبلغ التردي في هذا الأمر درجة أصبحت معها العدالة في طوسكانه فاسدة لا يوثق بها.
ورغم أن الحريات ظلت مرعية فقد أضاعت البلديات كل سلطتها الفعلية، وأصبحت أداة لجباية الضرائب، وكانت طوسكانه تاريخيا مجمعا من ناحيات أعرق ديمقراطية من الدول المتحدة الأمريكية، أما الآن فأصبحت عاجزة عن فرض الرسوم، تعين الحكومة المركزية الموظفين، وهؤلاء كانوا يطأطئون الرءوس أمام سيدهم المطاع: الشرطة، ولعل طوسكانه كانت أرقى دولة في إيطالية، بيد أنها كانت كما قيل عنها «حديقة من حدائق الجنة»، محرومة من شجرة العلم وشجرة الحياة.
ولم يكن الأشراف في طوسكانه من دوحة الأشراف القدماء، إنما كانوا من أحفاد المتمولين والأمراء التجار في فلورنسه في القرون الوسطى، فظلوا دائما تجارا وزراعا، وبرز من هؤلاء الأشراف مصلحون اجتماعيون غير، وكانت جمعية جورج فيس
George Fils
تشجع الناس على دراسة الاقتصاد وفتح المدارس وتأسيس صناديق التوفير واشتهر «روفائيلو لمبرو شكيني وأنريكو ماماير» في نشر التعليم الابتدائي والثانوي كما أن «برنامي وريكاسولي» اندفعا نحو الإصلاحات الزراعية، وكان الكثير منهم يرى «أن السياسة لا تغني فتيلا، وأن العادات الاجتماعية هي الكل في الكل.»
وكانت الكنيسة في طوسكانه متمتعة إلى حد ما باستقلالها، وقد رفضت الحكومة أن تتساهل مع اليسوعيين، وبما أن الحكومة تدرك الدور السيئ الذي لعبته الهيئات الدينية فيما مضى فإن هدفها أصبح إنقاذ البلاد من استبداد الإكليروس الذي استبعد بيمونته، ودمر الروماني، وطبيعي أن يكون التعليم سيئا حينما ترعاه إدارة فاسدة وإكليروس جاهل، وقد كانت الحكومة تحمي جامعتي «بيزه وسينه»، اللتين يدرس فيهما العلوم ما عدا الحقوق والطب إلا الشيء القليل، وكانت المواضيع حتى في هاتين الشعبتين لا تتعدى الدرجة الثانوية، فضلا عن أن النتائج كانت ضعيفة لضعف الأساس في التعليم الابتدائي.
وكانت المدارس الثانوية قلية ولكل ناحية مدرسة ابتدائية مجانية للبنين، وكان عدد التلاميذ الذين يؤمون المدارس في الأرياف لا يتجاوز عشر الذين تؤهلهم أعمارهم للانتماء إليها، ولما وضع الأعضاء الناهضون في الوزارة مشروع الدراسة الابتدائية لم يكن فيهم الحماسة الكافية لمقاومة دسائس روما التي جهدت لإحباط المشروع.
وبقدر ما كان عدم تدخل الحكومة في شئون المعارف وبالا على التعليم فإنه كان نافعا للصناعة، إلا أنه لم يكن في البلاد النشاط الكافي لتنعم عليها برخاء كالرخاء الذي كان يسود لمبارديه.
وكانت أكثرية الناس تحترف الزراعة نصفهم أصحاب أملاك، والثلث أصحاب مزارع، أما طرق الزراعة فكانت متأخرة ولا شك في أن القرويين لم يكونوا قد تقدموا في الفهم الاقتصادي، إلا أنهم كانوا يأكلون طعاما جيدا وكانت حالتهم مؤمنة، وطالما خيم البؤس المدقع على الفلاحين الذين كان عددهم في تزايد، وعلى الرغم من أن التسول كان ممنوعا في فلورنسة، فإن عدد المتسولين فيها كان كثيرا.
وخلاصة القول أن السائح الذي يتجول في طوسكانه حينما يشاهد رخاء البلاد ورضاءها يلوح له أن طوسكانه هي أسعد قطر في العالم، أما الحقيقة فهي أن هذا البناء الجميل كان مشيدا على أساس واه، وإذا كان في هذه البلاد من يمكن اعتبارهم متمتعين بالحياة الحقة الخصبة؛ فأولئك هم أهل الساحل الأشداء في ليفورنا وتلاميذ جامعتي «بيزه وسينه».
دويلات الكنيسة
تقع هذه الدويلات وسط إيطالية، ويبلغ عدد نفوسها مليونين ونصف المليون، وكان الفرق البارز بين هذه الدويلات وبين جميع دول أوروبا هو حكومة رهبانها، وكان العالم الكاثوليكي يرى أن شرف البابا وكرامته يتطلبان بأن يتمتع بحقوق الأمير وامتيازاته ومن أجل ذلك تأسست دولة مستقلة يحكمها البابا بصفته ملكا، ومعنى هذا أن رجال الدين وحدهم هم الذين كانوا يديرون شئون حكومة الله، فهم الذين يضعون القوانين، ويحكمون الإيالات، ويقضون في المحاكم، ويديرون شئون التعليم والشرطة، وكان مجلس الكرادلة المقدس الذي ينتخب البابا أعضاءه مسرحا للدسائس الإفرنسية والنمسوية.
وكانت الدولة الكاثوليكية ترى أن مصلحتها تقضي بأن ينتخب بابا ضعيف الإرادة كبير السن رازحا تحت ثقل تعهدات يتحملها على عاتقه أمام الحزب الذي انتخبه.
وقد قال شاتو بريان: «إن أصل البلاء في حكومة روما أن شيوخا طاعني السن يعينون شيخا طاعنا مثلهم، وإن هذا الشيخ مقابل ذلك لا يعين كردينالا إلا من الشيوخ.» ومن ضروب الأمثال الشائعة في روما المثل الآتي: «حكومة كل بابا عدوة للحكومة التي سبقتها.»
وقد كانت الحكومة خارج روما أيضا بيد رجال الدين، فكان الكرادلة يحكمون البلدان الأربعة «الروماني وبولنية وفراره ورافينته وفورلي»، وكان الأساقفة يحكمون البلدان الأخرى ذات الأهمية الضئيلة، وكانت سلطة الكرادلة لا حد لها فكانوا يطالبون بحق فرض الضرائب كما يشاءون، ويهملون أوامر روما، بل ينحرفون عنها.
وكان هؤلاء الأمراء الكهنة يعاكسون كل تجدد، ففي نظرهم أن السكة الحديدية والبرق والتجارة الحرة واكتشاف لقاح الجدري والأدبيات الحديثة هي عدوة الكنيسة، ولقد كانت الشئون المالية في هذه الدولة على أسوأ حال.
أما الضرائب فكانت خفيفة الوطأة، ولكن التجارة كانت مقيدة بالحواجز الجمركية، فضلا عن فقدان السكك الحديدية والطرق الصالحة، وتخبط الحكومة وانغماسها في المراسم، وكانت العصابات منتشرة في بعض النواحي، ولا سيما بالقرب من الحدود المتاخمة لمملكة نابولي، وكان لكل إيالة نظام خاص للموازين والمكاييل، وقد أدت الضرائب إلى ازدياد حوادث التهريب، وكان الأسقف الذي يتولى شئون الخزينة يستنكف من درس الاقتصاد السياسي، زاعما أنه ضار.
وكان الإفرنسيون قد قضوا على مؤسسات البلدية القديمة العهد، ولما عادت الأمور إلى مجاريها بعد مؤتمر فينا قضى الوزير الأول على ما بقي منها، وكان في الناحيات هياكل وحكومات، ويشرف الحاكم في الإيالة على الشرطة ويدير شئون العدل وهو فعال لما يريد في الناحيات، يتجاوز كل قيد في سبيل مراضاة آمره الكهنوتي.
وكانت القوانين عبارة عن مجلد ضخم من الأوامر والمراسيم التي لا تناسب بينها، والتي صدرت في جميع الأدوار فأكل عليها الدهر وشرب، ولقد احتفظ بقانون التجارة الإفرنسي وأريد بعد مدة وضع قانون مدني على غرار قانون نابليون، إلا أنه كان يحتوي كثيرا من المساوئ القديمة كمنعه الطلاق وحرمانه النساء من الإرث وإبطاله الوصيات التي لا تحتوي هبة للكنيسة.
وكان مجلس البابا القدسي يستطيع أن يلغي أحكام جميع القوانين، وكانت أصول المحاكمة تستمد أحكامها من قوانين الكنيسة؛ فلذلك كان للراهب صبغة مقدسة فلا يحاكم إلا أمام محاكم مؤلفة من رجال الدين، وكانت العقوبة التي يعاقب بها أخف من عقوبة الرجل العلماني. وأما المحكومون السياسيون فكانوا يسجنون في محلات سافلة، ويزجون مع المجرمين الآخرين، أو يقيدون بالسلاسل ويقضون حياتهم في غيابات الجب.
وكانت الشرطة عاتية كل العتو؛ فهي تستطيع أن تسجن الشخص أو تنفيه أو تراقبه أو ترفض إعطاءه جواز السفر، وتفرض عليه الإقامة في المحل الذي تختاره له وتحرمه من الحقوق المدنية، وقد تحرمه من عمله وتمنعه من حمل السلاح أو من الخروج ليلا من داره، وتفتح الرسائل في دائرة البريد، وتخترق حرمة مسكنه وتفتش أوراقه، كما أنها تستطيع أن تغلق المخازن والمقاهي والفنادق وتضع الجزاء النقدي كما تشاء، وكان التجسس عاما والناس يوقفون بمجرد رغبة راهب القرية.
وبينما كان مجلس التفتيش يضطر الشعب إلى الظهور بمظهر واحد كانت الحكومة تسعى لمحو الإلحاد والشغب بشل التعليم، وكان مما يسند إليها أنها تتساهل في القضاء على الرذيلة وتضطهد الفكر الحر، وكان أحد أسياد الكنيسة لا يتورع عن القول: «تسهل جدا إدارة الشعب الجاهل.»
وكان رجال الإكليروس يحتكرون التعليم، فأفسدته أنظمتهم الصارمة، وكان لا يستطيع أحد أن يعلم من دون مساعدة الأسقف، وسيطر اليسوعيون على التعليم الثانوي، أما رهبان الإيغنورانتينه
Ignorantine
الذين لا يحبهم الشعب فألفوا الهيئات التعليمية في كثير من المدارس الأولية، فكان أكثر الأساتذة في الجامعات من رجال الكهنوت، ولم تبذل أية عناية لتعميم التعليم الابتدائي بين الشعب، حتى إن البنات حرمن من التعليم الابتدائي حرمانا كليا، وكان الرأي العام ينقم على كل من يعلم بناته، ويقدر عدد الذين يؤمون المدارس باثنين في المئة، أما في روما فترفع هذه النسبة إلى عشرة بالمئة.
وقد كان طلاب المدارس الثانوية يحملون على حشد أدمغتهم بدراسة الصرف والنحو اللاتيني، وبدراسة ما وراء الطبيعة القديمة مما يفسد قرائحهم، على أن هذا التعليم الناقص لم يحل دون كثرة الجامعات، فهناك جامعتان كبيرتان في روما وبولونيه وجامعات فرعية أخرى في «بيرونه وفراره وكمبيرينو ومسبراتو وفرمو».
وعلى الرغم من أن هذه الجامعات لا تدرس فيها الآداب الحديثة والاقتصاد السياسي وما شابه ذلك من المواضيع؛ فإن الحكومة كانت في قلق مستمر من أن تكون هذه الجامعات مباءة للحرية، وقد منع اليسوعيون دراسة دانتي في مدارسهم، وحين تأسيس بعض المعاهد الخاصة لدراسة المؤلفات الاقتصادية؛ ما أسرع ما منعت من ذلك، وبلغ تقيد التعليم حدا منع معه أحد الرقباء تلاوة أشعار نظمت عن الزلزال.
ولم يسمح بقراءة المؤلفات الإيطالية والأجنبية، فضلا عن أن أكثر المؤلفات الحديثة المشهورة ومعظم الجرائد أدخلت في قائمة المطبوعات الممنوعة، وكانت الحكومات تنشد من هذا المنع أن تصون الإيمان الديني من أن يتزعزع، وفاتها أن هذا الاضطهاد نفسه من شأنه أن يخدم حرية الفكر، وأن يؤدي إلى تمسك الطبقات المثقفة بها وإلى تقويض دعائم السلطة البابوية، وطبيعي أن تؤدي كثير من الأنظمة الأخلاقية الشديدة إلى عكس ما يراد منها، إذا كان القائمون على تنفيذها أنفسهم فاسدي الأخلاق.
فالرقابة الشديدة حرصت على أن تكون المسارح طاهرة، ولكنها سمحت للكنائس بأن تكون بؤرة للدسائس والفساد، وقال أحد الحكام الأيرلنديين وقد ساح في الأرض: «إن رعية البابا هم الشعب الأوروبي الوحيد الذي يلاقي اضطهادا أكثر مما يلاقي أبناء وطنه (الأيرلنديون).»
أما جور العصابات وتعديات رجال سنتوريون
Centurion
فقد قضت على البقية الباقية من الرفاء الذي كان يتنعم به القرويون والمزارعون، وكانت جمعية السانفيديست
Sanfedist
تضم بين جنبيها العاطلين ليصبحوا حماة الإيمان المتحمسين، والأنكى من ذلك كله أن الخلافات الموروثة قد انقلبت فيما بعد إلى كفاح دموي بين الأحرار وجماعة السانفيديست، وكانت دولة الروماني دائما ساحة للمؤامرات، وكان أكثر الأحرار من أنصار الانفصال عن روما. ولم يكن هناك تجانس بين المناطق الغربية والمناطق الشرقية؛ إذ كانت جبال الأبنين تفصل بين روما والدويلات الأخرى، وكانت هذه الدويلات قريبة في عاداتها وأهوائها من الإيالات التي ألفت بلاد إيطالية.
ولم تنس مدن الرومان الحرية المفقودة التي كانت تتمتع بها بموجب المعاهدات القديمة، لقد قضى نابليون على هذه الحرية ورفض الوزير الأول في حكومة البابا أن يعيدها فاعتبرت هذه الحكومة ناكثة لعهودها، وكانت أكثرية أهالي بولونيه الفخورة بتأريخها وجامعتها وتجارتها يحملون في صدورهم حقدا على روما، ومن جملة الأمثال الشائعة في الروماني «الترك ولا البابا»، حتى إن القسم الكبير منهم كان يرضى بحكم النمسة إذا استطاعت أن تنقذهم من جور الحكومة البابوية.
وكان البعض من رجال السياسة يرتئي أن الحكم الذاتي هو الواسطة الوحيدة لاحتفاظ روما بإيالات الأدرياتيك، وكلما حدثت أزمة في الدولة يتجلى الشعور بالانفصال شيئا فشيئا.
والخلاصة أن روما كانت كما وصفها مترنيخ «مرسحا ضخما لممثلين سيئين، كنائسها حافلة بالزينات إلا أنها خالية من الناس.» وكانت المدينة في ظاهرها من أطهر مدن أوروبا خلقا، أما في الواقع فكانت من أفسقها، وكانت الصناعة فيها غير ناشطة والمتسولون منبثين في طرقاتها وأكثر فقرائها عالة على بيوت الأساقفة والأشراف، أما العامة فكانت تحمل في قلبها ولاء لا حد له للبابا، وفيما عدا بعض الفترات فمدينة روما كانت أقل إيطالية من جميع المدن الإيطالية.
الفصل الخامس
مملكة نابولي وصقلية
كانت مملكة نابولي وصقلية أو الصقليتين بالاصطلاح السياسي؛ تقاس بثلاثة أثمان شبه الجزيرة، وتمتاز عن غيرها من الدول الإيطالية بموقعها الجغرافي وبالبغض الشديد بين النابوليين والصقليين، وكان هذان البلدان اللذان وحد بينهما اضطهاد الحكومة المشترك؛ يختلف الواحد عن الآخر في التقاليد والميول، ولا تشابه بينهما مطلقا في السجايا وفي الحالة الاجتماعية، ولما عاد الملك إلى نابولي من صقلية سنة 1799 بعد أن التجأ إليها راح ينتقم من الرعية، وحينما انتصر الإفرنسيون عاد الملك إلى منفاه في صقلية بحماية السلاح البريطاني فدخلت نابولي في الحكم الإفرنسي في عهد يوسف بونابرت أولا وفي عهد مورات أخيرا.
وقد ألغى الإفرنسيون النظام الإقطاعي وبيع الكثير من أملاك الكنيسة الواسعة أو أجر، وقسمت الأراضي في الناحيات أقساما صغيرة وأجرت للفقراء من الأهلين، واشترى صغار الملاكين أرضين واسعة، حتى بلغ عدد الملاكين للأرض نحو المليون؛ أي نحو خمس السكان.
وفضلا عن أن مورات أنقذ نابولي من النظام الإقطاعي، فقد جهزها بقوانين إصلاحية ومالية منتظمة، وأدخل فيها طريقة استملاك الأرض بصورة مستقرة، ورغم أن أكثر الأمور عادت بعد مؤتمر فينا إلى حالتها القديمة؛ فإن القانون والكنيسة والأرض ظلت - نظريا على الأقل - متفقة والقرون الحديثة، إلا أن الفساد نفسه كان يسود دائما في كل شعبة من شعبات الإدارة.
وكان القانون المدني لنابولي أرقى في إيطالية كلها، وكانت المحاكم مفتوحة لمن يشاء من الناس ليتقاضى أمامها، وكانت طريقتا جزاء النقدي وتخلية المتهم بالكفالة مرعيتين، وللمتهم أن يختار محاميا له ولكن التحكيم كان - عمليا - هو القانون الوحيد في أكثر الأحيان، وكان البلاط يتدخل لحماية المحسوبين عليه أو لاضطهاد الأحرار.
وكانت الشرطة ذات صلاحية لمحاكمة المتهمين تبعا لأصول محاكماتها السرية وغير الشرعية، ولها أن تخلي سبيل المحكومين أو أن تبقي المتهمين في السجن رغم أن المحاكم برأت ساحتهم، وقد تجلد المسجونين، وكانت الحكومة تغض النظر عن تعذيبهم، زد على ذلك أنها تشجع الشرطة عليه، وقد يقع القتل في رابعة النهار ولا يعاقب القاتل إذا كان له أصدقاء أقوياء.
وكان لكل إيالة مجلس تعين الحكومة أعضاءه، وله صلاحية فرض الضرائب والقيام بالأمور النافعة والإشراف على الطرق الكبيرة وشئون الجمعيات العامة ومراقبة الموظفين، واقتراح الإصلاحات الإدارية، ومناقشة القضايا الخاصة بمصلحة الدولة العامة، أما مجالس المديريات فكانت تشرف على الطرق القروية والمدارس الأولية وتلقيح الأولاد واللقاط والقيام بمعيشتهم، بيد أن هذا البيان مهما كان قويا من حيث المبدأ؛ فإن فساد الحكومة واستبداد الرؤساء المحليين الصغار كفيلان بتقويضه.
وكان التصويت لانتخاب أعضاء مجلس الناحية لا يمثل غالبا إلا أوامر السيد الإقطاعي القديم الذي كان عملاؤه ينهبون أموال المديرية ويتلفون غاباتها بالاتفاق مع الموظفين على حسابه.
أما في التعليم فهناك هوة سحيقة بين القول والعمل، فالقانون يحتم على كل مديرية - ما عدا الصغيرة جدا - أن تكون لها مدرسة أولية، وعلى كل ولاية أن تكون فيها مدرسة ثانوية بيد أنه لم يبذل أي جهد في سبيل حضور التلاميذ إليها، ولا توجد في مدينة نابولي نفسها سوى أربع مدارس مجانية، ولا يؤمها أكثر من ثلث الذين هم في سن التعليم .
وكان الأساقفة يبذلون جهدهم ليحولوا دون انتشار التعليم، حتى خلت بعض المديريات من أي فرد يقرأ ويكتب، ومما يدل على انتشار الجهل أن القانون كان يحتم أن يكون ثلث أعضاء مجلس المديرية ممن يحسنون القراءة والكتابة، ولكن الجامعة كانت ذات مقام وصيت، فدروسها تلقى اهتماما وتتبعا كثيرا، وأساتذتها يتمتعون بالاستقلال إلى حد ما، بيد أن بلادة الحياة والجو الصاخب في العاصمة كانا يفسدان أخلاق فتيان الولايات أحيانا.
ويمكن تشبيه الحكومة بهرم رأسه الملك وقاعدته الشرطة والرهبان، فما اهتم الرأس ولا القاعدة بالمصلحة العامة قط، وهذه وزارة الداخلية كانت سوقا يروج فيه بيع المناصب وشراؤها، وكان بعض الموظفين الكبار يحتكرون الحنطة للمضاربة بها على حسابهم الخاص، وقد استولى وزير الداخلية على أثمن قنى خرائب «بومبئي» لمجموعاته التحفية الذاتية، ولم تتردد حاشيته (أو من يعملون معه) من الاقتداء به، ولا يجوز محاكمة الموظف إلا بموافقة الملك، فاستغل الموظفون هذه الحصانة كل الاستغلال.
وكانت الشرطة تخل بحرمة المراسلات وتقوم هي بعمليات التهريب، وتخبر الأشقياء من أهل كلبريه حينما يتهددهم خطر الحكومة، وقد تؤويهم حين يطاردون، وكان أكثر الأشراف راضيا عن ذلك ما دام القسم الأكبر من المتاع المنهوب ينتهي إليهم، وكان أشراف كلبريه يتغيبون عن محل سكناهم ويترددون على العاصمة، الأمر الذي لم يكن مألوفا في جميع إيطالية.
وكانت ضرائب الجمرك فاحشة، حتى تناولت الكتب الأجنبية فحالت دون دخولها، وكانت الطبقة المثقفة ضئيلة العدد. ولا ينكر أن البعض من القضاة والأدباء كانوا ذوي ثقافة راقية إلا أنه كانت تعوزهم الحيوية والوطنية اللتان يمتاز بهما مثقفو شمال إيطالية ووسطها، وكانت الدسائس وارتباك الحكومة عبارة عن عراقيل أمام كل المشاريع، وقد فرض الملك بعض القيود على المصارف وألغى شركات التأمين.
وكانت نابولي أكبر مدن إيطالية، ويبلغ عدد نفوسها ثلاثمائة ألف ونيفا، وكانت العاصمة بالنسبة لسائر المدن ابن الحكومة المدلل، فبينما القرويون يتضورون جوعا كانت الحكومة تجود بالإعانات لمسرح «سان كارلو» وكانت جمعية «لزاروني
Lezzaroni » البالغ عدد أعضائها أربعين ألفا ونيفا تضم خليطا من فاسدي الأخلاق والعاطلين الذي حجرت الآلام قلوبهم وزادتها غلظة بالاعتقادات الباطلة، وكانوا يتحفزون لتلبية أول نداء يحدوهم إلى قتل الصناع والتجار ونهب ما يستطاع نهبه باسم منفعة العرش والمذبح، أما جمعية «كامورا
Camora » فكانت ذات تنظيمات مروعة تستخدمها لحماية الإجرام وجباية الضريبة السوداء.
وكان خمس أسداس العمال يخدمون في الأرياف، وتحتوي المملكة مقاطعة «ترادي لافورو» الخصبة فضلا عن منطقة المراعي السهلة على ضفاف الأدرياتيك ومزارع الزيتون الغنية، وكان القسم الأكبر من البلاد ذا خصب يفوق الوصف، بيد أن إهمال الحكومة وسوء الإدارة حالتا دون الاستفادة من هذا الخصب إلا في بعض الساحات الضيقة.
وعرقل الزراعة في القسم الجنوبي من البلاد فقدان الطرق، فكان طبيعيا ألا تتقدم الزراعة تقدما يذكر، وأن تكون غلة الحبوب والجوز والزيت رديئة، وكانت أكثرية المزارعين تستأجر مزارعها بشروط باهظة، ثم تدفع الفوائد الفاحشة إلى الشريف المرابي وإلى الدائن، ويحدث - أحيانا أن يؤجر قسم كبير من الأرض، وذلك رغم تحظير التشريع الإفرنسي بعقود كثيرة الأجل جدا حتى إذا ما انتهت استلم الشريف الأرض وغلتها بتعويض قليل أو بدونه، ثم يأتي دور جابي الضرائب ليأخذ ما أبقاه الملاك.
وكانت هناك ضريبة فاحشة مفروضة على الأرض يطالب القرويون بدفعها دون هوادة، وكثيرا ما كانت بيوتهم وأدواتهم تصادر لأداء ضريبة الطحن الباهظة، وكان سعر الملح الذي تحتكره الحكومة غاليا حتى كان الشعب أحيانا لا يستطيع شراءه، وكان الأشراف يضطهدون القرويين والفلاحين ويستعبدونهم ويفسدون أخلاق أسرهم ويدعونهم في فقر مدقع، واستوطنت الشقاوة منذ أجيال خلت بعض المناطق الجبلية ولكنها اكتسبت في عهد الإفرنسيين صبغة سياسية، ولما عاد آل بوريون أصبحت واسطة إجرام؛ فكان أهل كلبريه لا يخرجون من دورهم إلا شاكيي السلاح من رءوسهم إلى أخمص أقدامهم.
وطبيعي ألا ينتظر من شعب هذا شأنه أي نشاط سياسي محكم، وهذا لم يحل دون وجود طبقة كبيرة من الملاكين والتجار الذين أمنوا شر الفاقة واعتزلوا في أملاكهم الصغيرة، ولا شك في أن الكاربوناريين في سنة 1840 قد استمدوا قوتهم من هؤلاء، بيد أنهم مع الأسف كانوا يؤلفون أقلية صغيرة، أقلية فاسدة الأخلاق فاقدة النشاط.
والخلاصة أن السواد الأعظم من الشعب كان مصابا بالجهالة والشقاء، فيلوح - والحالة هذه - أن تأخر المدينة وتباين المنافع؛ كانا يحولان دون أن تسير نابولي محاذية لأنحاء إيطالية الأخرى.
صقلية
كانت صقلية ونابولي تؤلفان دولة واحدة إلا أن حقدا دفينا كان يفرق بينهما كما يفرق الحقد بين أيرلندة وإنكلترة، وكان اختلاف العرف والتاريخ والطبائع يحول دون اندماج الجزيرة بشبه الجزيرة، فمزيج من الدم النورمندي والعرب والبربر في الجزيرة وإقليمها شبه الحار والتقاليد البرلمانية المتأصلة في الجزيرة؛ ذلك كله جعل للجزيرة خصائص لا رابط لها بتلك التي في شبه الجزيرة.
وكان الصقليون يمتازون بالكرم والرجولة، ويتحلون بأمانة صلبة فلا يخون الصقلي أحدا إلا فيما ندر ويفضل الحياة البرلمانية التي استمدت سبعة قرون، كان الصقليون يهتمون بالأمور السياسية ويتمايزون بالوطنية وقد تمتعت صقلية باستقلالها مدة طويلة، وعلى الرغم من انضمامها إلى نابولي سنة 1735 فإنها ظلت محتفظة بعلمها الخاص وبرلمانها وإدارتها.
وقد أدى الصراع الناشب بين البلاط والأشراف سنة 1812 إلى تثبيت حقوق الصقليين؛ فإن الناس لم يسلموا من اضطهاد آل بوربون وظلمهم، وكان موظفو نابولي يجهرون بملء أفواههم أنهم أتوا إلى صقلية ليمدنوا سكانها المتوحشين، وكانوا يعاملون الجزيرة معاملة المستعمرات، مما أدى إلى حقد الصقليين عليهم وعلى بلاطهم.
وكان التودد بين أحرار باليرمو وأحرار نابولي قليلا، ولم يكن الصقليون يضمرون الولاء للتاج، وإنما كانوا على استعداد ليمدوا أيديهم إلى أية دولة تمنحهم استقلالهم، سواء أكانت تلك الدولة إنجلترة أم روسية أم فرنسة، ولم يتسرب الشعور الإيطالي في صقلية إلا أخيرا حين أخذت الجزيرة تستنجد بإيطالية ضد نابولي، وترى أن الحرية إنما تكون بالاندماج في وطن مستقل واحد تقف فيه صقلية على قدم المساواة مع نابولي.
لم يجر تقسيم الأملاك على صورة واسعة كما هو الأمر في نابولي رغم القوانين التي كانت تسهل بيع الأملاك في صقلية، وقد أعد الملاكون الكبار وألفوا عصبة فيما بينهم لحماية منافعهم، وانضم إليهم بعض التجار الذين استملكوا بعض الأراضي، ومع أن أملاك الناحيات قسمت أقساما صغيرة إلا أن القسم الأعظم من الشعب لم يكونوا أصحاب أراض إلا في بعض المناطق؛ حيث وجد كثيرون من صغار الملاكين.
ويجدر بنا أن نذكر أن تسعة أعشار الأرض كانت بيد الأشراف والأساقفة، وامتدت أملاك بعض الأمراء إلى مسافة خمسين كيلو مترا، وكان الأمن مختلا في الأرياف مما حدا الناس إلى سكنى المدن حتى يصح القول بأن اثنين في المائة فقط من أهالي ثلاث إيالات كانوا يعيشون في الأرياف، فكنت ترى مراعي طبيعية واسعة المساحات بلا قرى ومن دون أشجار، موبوءة بالملاريا ولا تصلح إلا لرعي الماشية.
هكذا غدت حالة البلاد التي كانت مستودع الحبوب والميرة الإيطالية، وقد ساعد على صيرورتها إلى هذه الحالة أنه لم يكن لدى أصحاب المزارع رأس مال كاف لاستغلال أملاكهم الواسعة التي تتفاوت مساحتها من 2000 إلى 5000 فدان، وكان هؤلاء يقسمون أرضهم قطعا صغيرة، ويؤجرونها للقرويين إلى آجال قصيرة، ويقدمون لهم البذر، ويؤمنون مالا لشراء البقرة والمحراث، وهؤلاء يزرعونها حبوبا ويدفعون لمؤجريهم ومقرضيهم عينا من الغلة كانت تبلغ ثلاثة أرباعها، وطبيعي ألا تؤدي تلك الطريقة إلى تقدم الزراعة، فتبقى في حالتها الابتدائية.
على أن التجارة في الجزيرة كانت أسوأ من حالة الزراعة، ولعل الصناعة الوحيدة فيها كانت صناعة الخمور وأعمال مناجم الكبريت التي كانت تستغل برءوس أموال أجنبية، ولم تكن المبادلة التجارية بينها وبين نابولي جيدة، فكانت أنظمة الحماية تعرقل نمو التجارة وتقدمها، وكانت حالة العمال في المناجم سيئة، ويتقاضى الفلاحون الذين يقطعون كل يوم مسافات طويلة للذهاب من مساكنهم في المدينة إلى الحقول أجرة أسبوعية تتفاوت بين الست فرنكات إيطالية والتسعة.
ومع أن القرويين كانوا ذوي جد وقناعة؛ فإنهم رزحوا تحت أثقال الربا الفاحش، ورسوم الطحن العالية، وضريبة الأملاك، ولطالما أدى بهم اليأس إلى ترك أرضهم والانخراط في سلك الأشقياء الذي يدر عليهم أرباحا لا تدرها الزراعة.
ولم يكن في البلاد من يحترم القانون، والحكومة نفسها لم تكن تتردد في خرقه، أما الموظفون فكانوا يستخدمونه حسب أهوائهم، وكان الأشراف يستخدمون أنصارهم لقتل أعدائهم ، فخدم الأشراف وأشقياء باليرمو الجناة وغارسو أشجار البرتقال في منطقة «كنكاردو» والطبقة الوسطى في المدينة؛ كل أولئك يتآمرون سرا على القانون، ويقفون في وجه العدالة ويشلون أعمال الحكومة ولم يك ينقذ هذه الجزيرة المسكينة من شقائها إلا السعي في أناة لإنشاء جيل جديد يشفيها من جهلها وفقرها ومعتقداتها الباطلة.
ولم يعمل شيء ما في هذا السبيل، فلا أثر للتعليم تقريبا، وأولاد الأشراف أنفسهم كانوا أميين - في الغالب - وتنفق مدينة باليرمو على أولاد اللقطاء عشرة أضعاف ما تنفقه على التعليم، ويتقاضى أساتذة الجامعة أجرة هي دون أجرة جندي دركي، وكان الشعب يؤمن بمعتقدات دينية وثنية.
ولا تفوتنا الإشارة إلى أن الكنيسة كانت قوية جدا، وأنه كان للرهبان أموال جسيمة لم تتعرض إليها الثورة، ولعل قيمتها تفوق قيمة جميع الأديرة في إيطالية وينقسم الشعب طبقتين: طبقة الأشراف وطبقة العمال، ولا توجد طبقة البورجوازي المتوسطة.
الفصل السادس
إيطالية بأجمعها
إن الذين لا يصدقون وجود أمة إيطالية، يؤيدون دعواهم باختلاف السجايا التي يتصف بها أهل الدويلات المختلفة فيها، وندرة الصفات المشتركة بينهم، ويشيرون مثلا إلى الفرق بين ابن بيمونته الرزين المجتهد، وبين العامل الفرفار العاطل الخليع في فنيسيه ونابولي، وكذلك بين الطوسكاني الذكي اللطيف والصقلي الحديد المزاح السفاك، ثم يقولون إنه لم يجمعهم أصل مشترك.
فالدم الجرماني هو الحاكم في الشمال، بينما الدم العربي والنورمندي والإسباني قد ترك آثاره في صقلية، أما الدم الإيطالي والأترسكي القديم فبقي في طوسكانه وبعض المناطق الوسطى مع معرفة أنه لم يكن نقيا، أما الحكومات المختلفة في تلك الدويلات فقد كونت في الشعوب الإيطالية عادات اجتماعية متفاوتة، ونظم التملك العقاري لا تشابه بينها مطلقا، وقد دفعتهم إما إلى النشاط في الصناعة أو الركود فيها، أما درجة التعليم فإما راقية وإما منحطة.
وهذه التقاليد والعادات الإقطاعية كانت سائدة في بيمونته ونابولي وصقلية، بينما
في إيطالية لم يكن أعظم منه بين البروفنسيين والنورمنديين في فرنسة، أو بين البروسيين والبافاريين في ألمانية، أو بين الإنجليز والأيرلنديين في إنجلترة. ولكن مما لا شك فيه أن الامتزاج العظيم الذي حدث بين هذه الأجناس المختلفة ووحدة التفكير؛ قد ضمن وجود أساس للاتحاد.
وعلى رغم اختلاف اللهجات في إيطالية فإن اللغة كانت واحدة والاسم واحدا، وهناك ذكرى مشتركة لماض مجيد، يوم كانت روما تحكم العالم، وكانت كل منطقة من مناطق إيطالية تحتفظ بذكريات الرجال العظام، الذين أنجبتهم إيطالية، وتفتخر بأعمال روما الخالدة، وكان لإيطالية أدب مشترك، وكلها تفخر بدانتي ومكيافيلي.
وعلى الرغم من التحاسد بين بيمونته وجنوة، وبين نابولي وصقلية، وبين الروماني وروما، وعلى الرغم من تضارب المنافع حتى بين صغار المقاطعات؛ فإنه كان واضحا لدى المفكرين أن الشعور بالمصلحة المشتركة يدفع أجزاء إيطالية المتفرقة إلى اندماج بعضها بالبعض الآخر، لتكوين إيطالية الموحدة.
ويتألف الشعب الإيطالي من طبقات عدة، وكان الإكليروس البالغ من العدد مائة وخمسين ألفا يؤلف الطبقة القوية؛ إذ كان نفوذه متغلغلا في جميع الأنحاء، فبإشرافه على المدارس وبسلطته في مراسم الزواج وبمقدرته على فتح أبواب السماء؛ قد استطاع أن يسيطر على النفوس وأن يصبح ذا نفوذ لا حد له بين الشعب الإيطالي المتدين، فليس مستبعدا - والحالة هذه - أن تقف الكنيسة بجانب الأمة في كفاحها ضد الأجنبي، فقد وجد بين الخوارانة والرهبان وطنيون، وراح منهم في كل ثورة شهداء، وكانت نار الوطنية متأججة في أديرة لمبارديه وصقلية.
أما الطبقة الثانية في إيطالية، فكانت طبقة الأشراف، وقليل منهم من كان يملك أرضا، ويعيش هذا القليل دائما في المدن بعيدا عن أملاكه ما عدا أشراف صقلية وكلبريه، وأخيرا أشراف بيمونته، وبذلك أضاع الأشراف نفوذهم في مناطق أملاكهم، وكثر لقب الكونت في الشمال وفي الوسط ولقب الدوق والأمير في الجنوب، فقلل الكثرة من قيمة هذه الألقاب.
وكان الأشراف في نابولي وفنيسيه وروما متردين معروفين بفساد الأخلاق، حتى إن أحدا من رجال السياسة لم يفكر قط في جميع التقلبات السياسية التي حدثت في ذلك العصر بالدعوة إلى إيجاد مجلس أعيان، أما الأشراف في صقلية فكانوا أغنياء يتحمسون لما يتحمس له الشعب، وبذلك كانوا ذوي نفوذ عظيم، وقل مثل ذلك عن الطبقة الأرستقراطية الفخمة في ميلانو من حيث النفوذ والغنى والقوة.
أما أشراف فلورنسة في طوسكانه فكانوا ينحدرون من أسر التجار في الجمهورية، وأما
الإقطاعية وبتقاليدها الوطنية المتينة، فيرى الإنسان الأشراف على رأس كل حركة أو ثورة تنشب في سبيل الحرية، وكما حق للطبقة المتوسطة أن تفخر ببعض رجالها فلطبقة الأشراف أن تفتخر ببعض رجالها أيضا، أما الطبقة الوسطى فهي خير طبقات الأمة؛ فقد قوى نفوذها في العهد الإفرنسي.
واشتهرت «مودينه» بمدارس لتخريج الموظفين، ومن هؤلاء مهندسون وعلماء منشئون وأذكياء أصابهم التوفيق، ولكن هذه الطبقة كابدت من الاضطهاد أكثر مما كابدته أية طبقة أخرى بعد مؤتمر فينا، ولم يكونوا يتهافتون على الوظائف المدنية التي لم تبهرهم؛ إذ كان الموظف في نظرهم رجلا يبيع مواهبه لمضطهدي الأمة، فضلا عن أن الوظيفة - في حد ذاتها - لا تفسح أمام المرء مجال التقدم؛ فلذلك كان النمسويون في لمبارديه والأشراف في بيمونته وكبار الكهنة في دويلات الكنيسة يتولون أعلى المناصب.
أما المشاركة في الآداب فكان طريقا شائكا؛ لأن الرقيب كان واقفا بالمرصاد، ومع كل ذلك فقد عنيت إيطالية بالكتاب، وكان لها فلاسفتها وشعراؤها وعلماؤها وقصاصوها، هذا رغم أن الرقابة كانت تحول دون انتشار الكتب السياسية والاجتماعية والاقتصادية؛ ومما قيل في هذا الشأن أن الجرائد الرسمية كانت تبحث في شئون الهند واليابان أكثر مما تبحث في الشئون الأوروبية، ولا تبحث قط عن السياسة المعاصرة، وكانت مجلة «أتنالوجيا» هي المجلة الإيطالية الوحيدة التي تضاهي المجلات الأوروبية الكبيرة، وكانت التجارة لا مخرج لها، فقوانين الحماية، والحواجز الجمركية، وفقدان العملة، وتباين الأوزان؛ كل هذه عراقيل تحول دون نموها.
وكان خريجو الجامعات من الشبان يتهافتون على احتراف القضاء أو الطب، وبذلك يتزايد جيش المتذمرين من الاضطهاد الاجتماعي الذي يقضي على طموحهم ويصليهم نار حياة عاطلة غير مجدية، وفي إيطالية أربعة وعشرون جامعة تضم أربعة عشر ألف طالب من أبناء الطبقة الوسطى، وكانت هذه الجامعات في طليعة كل حركة قومية تسيطر على الطبقة المثقفة كما أن حياتها الدموقراطية الحرة كانت تهدم الظروف الاجتماعية، وعليه فإن ارتياب الحكومة منها وإقامة العراقيل في سبيل تقدمها لم يكونا من دون سبب.
حقا إن الجامعات هي التي هيأت العنصر المثقف الذي قاد الحركة القومية فأنجبت لها المفكرين والكتاب والمحاربين، فأساتذة جامعة بولونيه هم الذين قادوا ثورة 1831، وأساتذة جامعة بيزا ويافيه وجنوة وطلابها؛ كانوا روح حركة التطوع التي جندت القسم الأعظم من الألف الغاريبالديين.
وأخيرا نتحدث عن الطبقة الرابعة، وهي طبقة العمال، وهذه لم تختلف حالتها عن حالة الطبقة المتوسطة من حيث الاضطهاد، ومع أن حالتهم من حيث المعيشة والسكنى كانت غير مريحة؛ فإن بساطة الحياة في إقليم معتدل واستقرار التجارة؛ جعلاهم بمأمن من الحاجة، وكان عدد العمال لا يتجاوز الخمسة عشر بالمائة من مجموع النفوس، وكانوا على العموم نشطين أذكياء، وبعضهم مثقفون ذوو مهارة فائقة من البحارة ورؤساء العمال، ففي فنيسيه مثلا كانوا من ذوي الثقافة العالية.
لم تكن إيطالية بلدا صناعيا، ولم تزد المدن التي يتجاوز عدد سكانها المائة ألف نسمة عن الست، ولعل مجموع نفوس العواصم الثماني لا يبلغ المليون نسمة، ويزاول ستون بالمائة من مجموع النفوس مهنة الزراعة، ومع ذلك فإن حالة الزراعة كانت متأخرة، وكثير من الأراضي التي تعد من أخصب أراضي أوروبا كانت موبوءة بالملاريا، فضلا عن الضرر البليغ الذي كانت تلحقه بها الأنهار، ولم تكن غلة الأرض - على العموم - وافرة، إلا إذا استثنينا المراعي الغنية ومزارع الرز في بعض بقاع لمبارديه وبيمونته وحقول الزيتون والكروم والبرتقال في بعض المناطق.
وفي حضيض تلك الطبقات نرى طبقة الدهماء البائسة نسيتها الحكومة، ولم ينتبه إليها الأحرار، وليس ما يخفف من ويلاتها وشقائها سوى صدقات الأمراء والمستشفيات الشهيرة ودور الأيتام، ومن هذه الطبقة الفلاحون في صقلية وفي سهول لمبارديه والقرويون الذين ينوءون بكثرة العمل والحاصدون المتنقلون من بقعة إلى أخرى جريا وراء رزقهم؛ هؤلاء كانوا أتعس حالا من العبيد المستخدمين في الصناعة الإنجليزية ومن القرويين في أيرلندة.
ومن الغريب أن هذا الشقاء الذي ابتلي به أهل الأرياف لم يلفت نظر الأحرار، وأغرب من ذلك أن حركة تستمد قوتها من الطبقة المتوسطة وتقتبس تعاليمها من مدرسة الحرية القديمة؛ تهتم كثيرا بمساوئ الحكومة أكثر من اهتمامها بأحوال البؤساء الاجتماعية ونذكر هنا أن الحكم النمسوي لم يخل من بعض الحسنات كالنظام القضائي الجيد الرفيع، والمدارس الحسنة، أما الحكومة في طوسكانه فكانت قوانينها الجنائية راقية وكانت تأخذ بطريقة التبادل التجاري الحر وتمتاز الحكومة في بيمونته بإدارتها النزيهة المستقيمة.
وليس في إيطالية إذا استثنينا لمبارديه وفنيسيه وبارمه أسلوب للتعليم الوطني، وكانت القوانين في بيمونته ودويلات الكنيسة وفي مودينه؛ مرتبكة، متأخرة، قاسية، تشين سمعة العدالة، وكانت المحاكم الاستثنائية في بيمونته ودويلات الكنيسة تحمي الإكليروس ولكل دولة محاكم سرية تراقب أية بادرة تبدو كمؤامرة سياسية، وكثيرا ما تلجأ في مهمتها إلى التعذيب الروحي والجسماني، وتقف وراء هذه المحاكم السرية تشكيلات السيبري
Sbirri
1
المخيفة الهائلة التي تضطلع بالمسئولية وحدها، وأحيانا مستقلة عن الحكومة إلى حد ما، تبث جواسيسها في المقاهي والمسارح وبين الخدم، وتستغل كراسي الاعتراف في الكنائس والمدارس والبريد؛ لكشف الأسرار، فويل لمن يقع في يدها، فهي تستطيع أن تنهي خدمات الرجل في الجامعة والإدارة والتجارة كما أنها تتمكن من أن تمنعه من السياحة أو أن تحرمه من إرسال أولاده إلى الدراسة في الخارج فضلا عن أنها كانت تستخدم نفوذها لسحق خصومها الشخصيين.
فإذا علمنا ذلك كله تتضح لنا الأسباب التي أحرجت الطليان فأخرجتهم، ودفعتهم إلى الاحتجاج اليائس وقادتهم إلى طريق المؤامرات، حقا إن الاعتساف الشائن الذي ينزل بالأشخاص والاستهتار بالعدالة والقيود التي لا تطاق والتي فرضت على الحياة الشخصية؛ كل ذلك حفز الطليان على الثورة، وإذا أضفنا إلى ذلك كله فقدان الحياة السياسية في إيطالية؛ تجلى لنا سوء الحالة؛ إذ كيف يرضى الإيطاليون أن يروا أن لفرنسة وإسبانية والبورتغال مجالس نيابية بينما هم محرومون حتى من الاجتماعات، ومن حق تأليف الأحزاب السياسية في بلدهم فضلا عن أن حرية الكلام والكتابة مقيدة، وانتقاد سياسة الحكومة محظور وليس لهم رأي في الضرائب المفروضة عليهم ولا يستشارون في المسائل الاشتراعية.
إذن ليس من الإنصاف أن نلوم إيطاليي ذلك الحين؛ لأنهم إذا كانوا غير متحلين بفضائل المواطن الاعتيادية، ولأن عقيدتهم لم تتعد النظريات والمناهج، وأنهم قصروا في الثبات وفي الناحية العملية؛ فإن هذه النقائص كلها نتيجة لازمة لوضعهم المخيف الذي لم يكن يشجع بتثقيفهم ولا بتدريبهم على احتمال المسئوليات.
الفصل السابع
الكاربوناريون الأخيرون
1823-1832
ظن الناس حين باءت الثورات في نابولي وبيمونته بالفشل، وحين قضي على المتآمرين اللمبارديين أن الحركة الثورية في إيطالية قد ماتت مع أنها كانت في حالة التحفز، والحقيقة أنها دخلت في طور جديد؛ إذ بدأ رجال جمعية كنجلياتورة يقولون بالعدول عن أسلوب الثورة العمياء على - الاستبداد - إلى حركة منظمة حكيمة، وليدة تفكير تعنى كثيرا بترقية المستوى العقلي ولا تقتصر على إحداث تبدلات - سياسية.
وكانت الحركة الرومانتيكية في الآداب تعني أكثر من مجرد رقي أدبي، وعلى العكس من ذلك المدرسة الكلاسيكية القديمة؛ فإنها ظاهرة أدبية أكثر منها سياسية واجتماعية، وقد شجع نابليون المدرسة الكلاسيكية لأنها تلائم أهدافه فهي مدرسة تخلو في أسلوبها من معاني التقدم، وليس لها مثل عال، وتقوم على أساطير روما الإمبراطورية.
والمعلوم أن الألمان قد
وقصصا وحياة شعبية، خليقة بأن تنظم فيها القصائد الحماسية والأشعار الغنائية، وأخذت هذه المدرسة الحديثة في ألمانية تذكي الروح الاستقلالية، وتلهم الشعراء المعاني الوطنية، وتبث في الألمان روح الإيمان بالوطن الكبير.
وقد وصلت هذه المدرسة التي اتسمت بادئ بدء بطابع التجدد إلى إيطالية، عن طريق ألمانية وإنجلترة بواسطة أساتذتها من أمثال بايرن ومكفرسن وشيلر وجوتي، وكان من نتيجة ذلك أن فعلت الآداب الرومانتيكية في الطليان ما فعلت بالألمان؛ إذ أرجعتهم إلى ماضيهم، وأظهرت لهم أن تقاليدهم التي جعلها «سيسموندي»
1
شعبية، إنما هي تقاليد جمهورية وحياة مدنية ناشطة وانتصارات دموقراطية على الاقتطاعية الألمانية.
وأخذت هذه الآداب تلتهم «بركيت»
2
أغانيه عن شقاء إيطالية الدائم، وكان «مانزوني»
3
حبر الآداب الرومانتيكية الأعظم، وحملت رواياته الفاجعة بين سطورها تعاليم سياسية، وأصبحت الأغنيتان اللتين نظمهما فيها أناشيد لمسير المتطوعين، وفي إحدى رواياته الشهيرة راح يبحث عن إيطالية التي حرمها التسلط الأجنبي والطغيان الاجتماعي من الطمأنينة، وكانت كتبه مشبعة بالروح الدموقراطية، وكان يرى أن الزمن الذي يعيش فيه يلائم الثورة، وأن البلد في حاجة إلى معالجة معنوية تؤدي إلى بعثة ثانية، وأن المسيحية العملية والعدل وإنكار الذات هي التي تؤدي إلى جادة الحرية.
وأسس الكتبي الفلورنسي «فبوسو» و«كابوني» أحد الأشراف الأحرار مجلة «أنتولوجيا» سنة 1820، وكانت على صلة وثيقة بمانزوني ومدرسته، وعلى الرغم من ضيق انتشارها فإن تأثيرها كان كبيرا، وقد اشترك في تحريرها أهم الكتاب في إيطالية ومن بينهم «مازيني» وكان يرمي إلى «تصوير الهيئة الاجتماعية الإيطالية ووصف حاجاتها الروحية والأدبية ومساعدة إيطالية على معرفة نفسها بنفسها.» و«إيجاد مثل أعلى للطليان غير ضيق ولا محلي ولكنه مثل قومي واسع.»
ومن ذلك يتضح أن المجلة أصبحت سياسية تتعدى حدود عمل مانزوني، وقد وجهت أعظم عنايتها إلى الإصلاحات الاجتماعية، وكانت في أكثر المناسبات لسان الوطنيين المعتدلين ينذرون به ويبشرون، والتف حول المجلة جماعة يتحمسون أكثر كثيرا لدانتي، ومؤرخون كانت مدرستهم ترمي إلى جعل الآداب الرومانتيكية مجالا للتغني بأمجاد إيطالية القديمة والدعوة إلى إحيائها وأخذ «كارلو تدويا» من نابولي و«قيصر بالبو» من تورينو و«كبوني» من فلورنسة؛ يعلمون مواطنيهم تاريخهم في القرون الوسطى، وكان «روسيني» و«بركيت» ينظمان في منفاهما الأناشيد الوطنية وينشئان الكتابات الحماسية ضد البابا والأمراء.
وقد ظهرت أول بوادر المقاومة من قبل الشاب «جيرازي
Guerrazi »
4
المحامي في ليفورنة، وكان هذا الكاتب كالآخرين يقتبس رواياته التمثيلية ومسرحياته من الحوادث العظيمة التي جرت في إيطالية في القرون الوسطى، وكانت كتاباته الشديدة تنبعث من قلب كريم، ناقم على الاضطهاد، وينبعث من بين سطورها صوت النفير، يؤذن بموعد القيام والقتال.
وعلى الرغم من أن مازيني كان من أنصار الرومانتيكية فإنه لم يقصر في انتقاد الرومانتيكية الإيطالية، وكان يرتئي أن تصبح الحركة الرومانتيكية بأجمعها وطنية إيطالية، فالفروق إذن بين مانزوني ومازيني أن الأول كان يعتقد بالإصلاحات السياسية إنما تتم بإصلاح الفرد ولكن الثاني كان يرى عكس ذلك ويقول بأن إصلاح الفرد دائما نتيجة للإصلاحات السياسية؛ ولذا فهو يود أن تكون الرومانتيكية ساحة قتال للحرية وللاستقلال.
وهكذا صارت الرومانتيكية موضع نقاش تتفرع منه مدرستان حرتان في السياسة الإيطالية، وكانت في الوقت نفسه بشيرا بتكوين إيطالية الفتاة والوطنية المعتدلة، إلا أن تأثيرها في مجال السياسة لم يظهر إلا قليلا؛ ذلك لأن مانزوني كان يرى أن الإصلاح الأدبي يحتاج إلى الزمن، أما مازيني فكان - إذ ذاك - مجهول الاسم في السياسة وكان الكاربوناريون لا يزالون يقبضون على ناصية الحركة الإصلاحية.
ولما فشلت الثورة في نابولي نقلوا مقرهم الأعلى إلى باريس، كعبة الدموقراطيين في أوروبا، ولم تبق جمعية الكاربوناري إيطالية لحما ودما فرغب رؤساؤها «لافابيت وببه والأمير لويس فليب» في تأسيس عصبة من الأمم اللاتينية تقف في وجه الحلف المقدس، وقد أضاعت الجمعية حماستها الأولى بعد أن أصبحت لا تمثل إيطالية وحدها بل فرنسة أيضا، وفقدت أهدافها الدينية والأخلاقية، وشعرت بأنها غدت أداة بيد رجال لا يتحمسون للدموقراطية إلا قليلا.
وعلى الرغم مما بين الكاربوناريين والرومانتيكيين من خلاف، فإن الحقد على النمسة كان يؤلف بينهم، وكانت حركات سنة 1820-1821 قد سوغت للنمسة الادعاء بضرورة مراقبة السياسة الداخلية لشبه الجزيرة، وجعلت نفسها بعد مؤتمر «لايباخ وفيرونه» الوصية التي اختارتها الدول لحماية العروش في إيطالية ضد الثورة، وساعدتها على ذلك الظروف السياسية في أوروبا حينذاك.
ثم شرعت تعمل على تقوية مركزها بعد أن أمنت من كل تدخل خارجي، فراحت قواتها تحتل نابولي وإنكونة، وأخذت تطالب بإلحاق طوسكانه إذا أصبح آل لورين بلا عقب، وأخذ عملاؤها من الجواسيس والكرادلة والضباط والقضاة يعملون في كل دولة لحسابها، وعلى الرغم من أن الملوك والأمراء في إيطالية كانوا يتهافتون على طلب المعونة من النمسة حين تنشب الثورة في بلادهم؛ فإن حماستهم كانت لا تتحمل مزاعم النمسة في أن يكون لها الحق في السيطرة عليهم، فأحبطت مساعي بيمونته وروما مساعي النمسة في تأسيس عصبة بريد مشتركة، وأخذ شارل فليكس ملك بيمونته وفرنسوا الأول ملك نابولي يدبران الدسائس لسحب جيوش الاحتلال، أما دوق مودينه فرسم خططه لتوسيع ممتلكاته لحساب النمسة ولقي في الكنيسة حليفا له.
وكانت جمعيات السانفيديست الدينية على اتصال شديد بجمعية «كلدويراري» في نابولي والجمعية الكاثوليكية في بيمونته، ومهما كان الرجعيون متعصبون فقد كانت الشمائل القومية تجعلهم ينظرون إلى النمسة شزرا، ويظهر أن ملك نابولي قد عقد نوعا من الاتفاق مع الكرادلة الزيلانتي في بلاط البابا، كما أنه اتفق في الوقت نفسه مع ملك بيمونته لتقسيم إيطالية مجددا تقسيما لا يرضي النمسة ولا أسرة لورين المالكة في طوسكانه، وفي سبيل ذلك أخذ يتقرب من الكاربوناريين ولا سيما فرع هذا الحزب من جماعة
Guelfi
الذي ظل مرتبطا بالبابوية، يريد أن يجعل منها قاعدة للحركة القومية.
وعملت هذه الأحزاب على بث روح الاستياء بين الشعب، حتى أصبح الانفجار أمرا لا بد من وقوعه إن عاجلا أو آجلا، وكانت دويلة الروماني الملجأ الذي تركزت فيه كل المؤامرات، وحال دون نشوب الثورة في دويلات البابا وجود حكومة «كنسالفي» في روما وعدم انحياز جيشها إلى الكاربوناريين، ولكن سوء الإدارة في هذه الدويلات بلغ حدا لا يطاق، وحدث في مثل هذه الظروف أن مات البابا فسارعت النمسة وفرنسة إلى السعي الحثيث لانتخاب البابا من أنصارها ولكن البابا الجديد جاء خصما للنمسة ثم مات بعد أن حكم ست سنوات، فبذلت النمسة كل جهدها في بابا من أنصارها ولكن لم يلبث أكثر من سنة واحدة حتى مات، فسارع الكرادلة الزيلاني أنصار فرنسة إلى انتخاب مرشحهم سنة 1831 باسم جرجوار السادس عشر.
وفي عهد هذا البابا بلغ الشغب في الولايات البابوية حده الأقصى، وكان الكاربوناريون قد انبثوا في الإيالات الواقعة وراء الأبنين وأخذ الموظفون وأفراد الشرطة أنفسهم ينتمون إلى الجمعيات السرية، ونشبت الثورة في بعض المدن جهارا، واستطاع الكاربوناريون في باريس أن يقبضوا على زمام الحركة في الشمال وفي الوسط.
ولما ارتقى الأمير «لويس فليب» على عرش فرنسة تبنى المؤامرة الإيطالية فانتشرت بسرعة حتى إن الدوق فرنسوا أمير مودينه كان مستعدا أن يحارب النمسة أو أن يحمل على الشروع باقتسام أملاك البابا، شريطة أن تساعده فرنسة، وراح يتشاور مع رؤساء الأحرار في مودينه في هذه الأمور حتى إن وطنيي شمال إيطالية البسطاء أخذوا يرون فيه الرئيس الملكي المنتظر، وقامت فروع الكاربوناري في بولونيه وروما تدبر العصيان وحددت وقت الانفجار في بداية شباط «فبراير» إلا أن فرنسوا رأى أنه ركب مركبا خشنا، وهنالك ما يدل على أنه خان شركاءه اجتذابا لعطف النمسة.
ولما نشب الاضطراب في روما قبل أوانه وتمكنت الحكومة من قمعه؛ قرر الدوق فرنسوا العمل فأحاطت جنوده ليلة 3 شباط 1831 بدار مينوتي من رؤساء الأحرار في مودينه وقبضوا عليهم، وفي اليوم التالي ثارت بولونيه وانضم إلى الكاربوناريين كثير ممن لم يكونوا يتحمسون لهم؛ أملا في الخلاص من حكم الكنيسة فتآخى الجنود والثوار أو أنهم انسحبوا خائفين، أما فرنسوا فلما أطلع على هذا الخبر فر هاربا ومعه المقبوض عليهم وسارت خلفه دوقة بارمه، وأصبحت بذلك البلاد من بولونيه إلى بياسنزة في أيدي الأحرار، وكذلك التحقت الروماني أيضا بالثورة التي اندلع لهيبها في أنحاء كثيرة وامتدت مسافات شاسعة.
وحين تقدم جيش الأحرار بقيادة «سركونياني» اندلع لهيب الثورة في جميع ممتلكات البابا، ومال موظفو البلديات ومأمورو الدولة إلى الأحرار حتى إن كثيرا من الرهبان وبعض الأساقفة أظهروا ميلا نحو الثورة، وأعلنت الحكومة المؤقتة في بولونيه إلغاء حكم البابا، وأمرت بالشروع بالانتخابات لعقد مجلس الأمة.
وقد وصل إلى بولونيه مندوبون من جميع الأنحاء وعينوا أهدافهم القومية في تلك الحركة، فأطلقوا على المجلس اسم «مجلس نواب الإيالات الإيطالية المتحدة»، وفي اليوم التاسع عشر من شهر شباط حينما عسكر جيش سركونياني على مقربة من روما طلبت إليه حكومة بولونيه أن لا يتقدم ؛ لأنها كانت تشك في صداقة أهل روما، وكانت الحكومة في روما على غاية من الارتباك، وليس لديها من القوة ما تستطيع بها المقاومة، وحدثت اضطرابات في المدينة نفسها فتأهب البابا لترك المدينة واستعد وزيره الأول برنيتي لمفاوضة الثوار.
وفي هذا الوقت الحرج كانت القوات النمسوية في طريقها لإنقاذ السلطة البابوية من موتها المحتم، وكانت الثورة قد اعتمدت على مساعدة فرنسة بأن تحميها أمام كل تدخل خارجي، ولكن المبدأ الذي اتفق عليه في ثورة تموز السابقة يقضي بألا تتدخل دولة في الحوادث الداخلية لأية دولة أخرى، من أجل ذلك أعلنت فرنسة أنها لا تسمح بإخلال ذلك الأساس، وكانت قد ساعدت اللاجئين الطليان على الدخول في الروماني، ووعدت بأن تشهر سلاحها في وجه النمسة إذا تدخلت هذه في شئون الطليان الداخلية إلا أنها أرسلت في الوقت نفسه إلى مترنيخ رسالة سرية تؤكد له الأهمية لما صرحت به.
فاستولى النمسويون بسهولة على بارمه ومودينه، وعاد الدوق بحراسة الحراب النمسوية، وكان أول عمله أن صلب مينوتي زعيم الأحرار في مودينه، أما الجنرال زوكي قائد جيش الثوار في مودينه فانسحب إلى حدود الروماني بدلا من أن تسمح حكومة بولونيه بدخول الجيش الثائر في بلادها فإنما تمسكت بأساس «اللاتدخل»، وانتظرت عبثا مساعدة فرنسة ثم اعتبرت جنود ذوكي محاربين، فجردتهم من السلاح ونقضت بذلك عمل المجلس في إطلاقه اسم إيالات إيطالية المتحدة على المناطق الثائرة.
ولم يلق النمسويون أية مقاومة في احتلال بولونيه، إلا أنهم حين توغلوا فيها اصطدموا بجيش زوكي الضعيف فارتدوا على أعقابهم، بيد أن حكومة بولونيه المؤقتة كانت قد استسلمت أمام رسل البابا لقاء وعد ضعيف بالعفو ووقعت شروط الهدنة وبتسريح جنود زوكي وسركونياني، وبهذا انتهت الثورة على الصورة المخزية بعد أن دامت ثلاثة أسابيع.
ولما أخضع النمسويون البلاد لحكم البابا أعلن برنيتي رئيس حكومة البابا في روما أن دورا جديرا لحكومة روما سيبدأ، واستهل هذا الدور برفض شروط الهدنة وإصدار الأمر إلى جنوده بقتل أهل ريمني إحدى المدن الثائرة، ولما انتهى دور الثورة وبدأ دور المناورات السياسية بين الدول لحماية ممتلكات البابا أخذ الرأي العام في فرنسة يبدي استياءه من كون النمسة وحدها تأخذ على عاتقها حماية البابا، وأصبحت سياسة فرنسة تستهدف إجلاء النمسويين عن الروماني وحث البابا على القيام بالإصلاحات لتهدئة الخواطر في بلاده.
أما مترنيخ فكان يريد أن يساعد البابا في مقاومة الأحرار ولم تطق الدول الأخرى أن ترى القضية أصبحت نزاعا بين فرنسة والنمسة، فاجتمع ممثلوها في روما للنظر في كيفية حمل القوات النمسوية على الانسحاب من الميدان الإيطالي، والعمل للقضاء على مساوئ الحكومة التي كانت سبب الاضطرابات.
وعليه، فقد أجبرت إنجلترة وفرنسة وبروسية على ضرورة القيام بإصلاحات واسعة ولكن النمسة وروسية خالفتا في ذلك ثم تظاهرتا فيما بعد بالموافقة ووقعتا مذكرة قدمتها الدول للبابا تطلب إليه تعيين موظفين علمانيين في الوظائف المدنية والمحاكم، ولعل إنجلترة الوحيدة التي كانت صادقة في توقيعها المذكرة، وسرعان ما أخذت النمسا وروسية تتأمران على المذكرة، فاكتفى برنيتي بالوعد بتأسيس المجالس في الولايات وتوظيف العلمانيين، وانسحبت على ذلك القوات النمسوية من ممتلكات البابا.
وشاهد الناس انسحاب النمسويين، وسرعان ما شبت نار الفتنة في الروماني ثانية، وامتنع الناس عن دفع الضرائب واستقالت الحكومات في بولونيه ورافيته وفورلي، وكان أهل الروماني على استعداد لأن يتخلوا عن الانفصالية، على أن تقبل روما المنهج الإصلاحي المعتدل، وكان جواب روما على ذلك أن أمرت بإغلاق الجامعات سنة وزادت ضريبة الأملاك، فاجتمع مندوبو الولايات الثلاث وعقدوا المجلس، ومعنى ذلك أنهم جهروا بالعصيان، وشجعت الدول - باستثناء إنجلترة - برنيتي على أن يطلب إلى الثوار الخضوع بلا قيد ولا شرط، وكانت فرنسة تصر على أن يجري قمع الثورة من قبل جنود البابا؛ خشية تدخل جنود النمسة.
فوجه برنيتي جيشا قويا لضرب الثوار، وقد استطاع بعد مقاومة الثوار العنيفة أن يتغلب في سيسنة بدك المدينة بكنائسها، ونهبت مدينة فورلي، وأوشكت بولونيه أن تكابد المصير ذاته لولا أنها استقبلت القوات النمسوية حين اقتربت منها باعتبارها حامية فأصبحت في مأمن من شر القوات الباباوية.
علمت فرنسة بذلك فأرسلت هي أيضا جيشا لاحتلال أنكونه فحيا الأحرار الإفرنسيون هذا العمل واعتبروه ممهدا لحرب استقلالية لإنقاذ إيطالية، ولما دخلت القوة أخلى قائدها سبيل المسجونين السياسيين بينما كان الجنود ينشدون نشيد المارسييز، ولما هدد برنيتي بقطع العلاقات السياسية مع فرنسة ولوحت روسية لفرنسة بالحرب خمدت حماسة الحكومة الفرنسية وتفاهمت مع النمسة على ضريح آمال الأحرار.
فشلت الثورتان في الروماني؛ لأن الذين قادوا الحركة فيهما لم يكونوا ذوي خبرة، وكان معظمهم من الحقوقيين والمعلمين الذين يجهلون خفايا السياسية والذين كانوا يحاولون تحريض الناس بالأمثال والحكم غير آبهين بالقوى المعنوية التي هي روح كل ثورة وكانوا بعيدين عن فهم روح الشعب وكان الرئيس أوجييني طاعن السن، ضعيفا ولم يكن الجنرال زوكي يثق بالمتطوعين، أما الجنرال أرماندي فكان يبحث عن الوحدة الطليانية كأنما يبحث عن طوبى، فليس غريبا إذن أن نرى الشعب الذي حيا الثورة بحماسة إبان نشوبها؛ عاد غير مهتم بها بعد فترة قصيرة.
الفصل الثامن
مازيني وإيطالية الفتاة
1832-1844
لقد كانت خيبة مرة تلك التي مني بها الأحرار، واعتبر شبانهم هذا الفشل إهانة لهم؛ إذ كيف استطاع بضعة آلاف من النمسويين أن يسحقوا الوثبة القومية بتلك السهولة، والأنكى من ذلك الموقف الجامد الذي وقفته الجماهير من الثورة، أضف إلى ذلك عجز الرؤساء الذين برهنوا على أنهم غير أكفاء لمثل هذا العمل، وهكذا فإن الكاربوناريين قادوا الثورة مرتين وفشلوا في قيادتها، وإذن فلا بد للحركة من تنظيم جديد يكون أكثر حيوية وأعظم كفاية، وهنا يأتي دور «جيزنة مازيني» الشاب الناقد الأدبي الذي ترأس ذلك التنظيم.
ولد مازيني في جنوة سنة 1805، وكان لا يزال غلاما حينما اشترك في تحرير مجلة أنتولوجيا، ثم اشتهر بخطته الثورية التي وضعها في سجنه في قلعة «سافونة» وكان يرى أن سبب فشل ثورة الكاربوناريين ناشئ من أن الرؤساء الذين تولوا زمامها كانوا رجالا محدودي الكفاية والإبداع، فانتخبوا للرئاسة أناسا لا تؤهلهم مزاياهم للعمل، وإنما روعي في اختيارهم إما شيخوختهم أو علو مرتبتهم، ولم يكن لديهم أي منهج معد ليباشروا تنفيذه فور إسقاط الحكومات المستبدة، ولم تكن لهم أهداف اجتماعية اللهم إلا فيما يتعلق بحرية الصناعة وطريقة الاشتراع والتعليم.
وكان من الممكن أن يكون النجاح حليفهم لو تولت الأمور حكومة حرة؛ فالاستبداد بنظر مازيني لا يسحق إلا بثورة يتولى زمامها رؤساء مملوءون إيمانا وعزما، وكان يعتقد أن قد آن الأوان لبروز أفكار جديدة ورجال جدد، وكان شعاره في ذلك: «اتركوا المجال للشباب.» ثم يؤيد ذلك بقوله: «ضعوهم على رأس الثورة وأفهموهم بأن عليهم واجبا نبيلا يجب أن يؤدوه، وأذكوا في نفوسهم نار الحماسة، وأقنعوهم بمقدرتهم ثم اقذفوا بهم في وجه النمسويين.»
أطلق مازيني على تنظيمه الجديد اسم إيطالية الفتاة، وجعله سريا، وطلب إلى الأعضاء أن يعملوا حسب اقتناعهم الشخصي؛ أي أنه لم يطالبهم بالطاعة العمياء التي يتطلبها الكاربوناريون من الأعضاء، وكان يرى أن تستهدف سياسة تربية الشعب إلى تربية ثقافية واجتماعية، وألا تقر عملها على تحرير إيطالية دون العمل فيما هو أبعد من ذلك، ولما هرب من سجنه سنة 1831 والتجأ إلى فرنسة، وراجت كتاباته في جميع أنحاء إيطالية؛ أخذت مدرسته الجديدة تقوم مقام الكاربوناري؛ إذ خلب منهجه الشباب الطلياني الذين كانوا ينظرون بفارغ الصبر ظهور الزعيم، وأخذ أنصاره يزدادون يوما فيوما، وكان يعظ تلامذته ويطلب إليهم العمل باتحاد ونشاط، وبذلك يتم الاستعداد للثورة بالعدة الكاملة والهمة العالية، ويرى أن الثورة لا يمكن أن تنجح من دون اشتراك العامة فيها، أي أنه كان يعمل في سبيل شعبية الحركة.
وكان يطلب إلى الأحرار بأن يضعوا الأهداف الاجتماعية نصب أعينهم، ويقول لهم: «قولوا للشعب إنكم تريدون إنقاذه من استبداد الملوك والأمراء ومن إهانة الموظفين ومن اضطهاد الأشراف والأغنياء، وحين ترونه أخذ يتململ حينئذ فقط، ولوا وجوهكم شطر لمبارديه وبشروا بالحرب ضد النمسويين.» ولم يكتف مازيني بخطابه للأحرار بل إنه وجه نداء حارا للكتاب، طلب إليهم فيه أن يتفرغوا للعمل المثمر، وأن ينفذوا بأدبهم إلى قلوب الشعب، وأن يذكروه بتاريخه في الكتب والنشرات ويبينوا لهم أن هدف إيطالية الجديدة هو بعث إيطالية الدموقراطية المنظمة.
فإيطالية الجديدة - على هذا الطراز - يجب أن تكون جمهورية غير مجزئة؛ لأن حالة إيطالية وتقاليدها وجميع ذكرياتها الخالدة متمركزة في فكرة الجمهورية.
يرى مازيني في الجمهورية مثلا أعلى للحكم الكفيل بإلغاء كل الامتيازات، ويجعل الاهتمام بشئون الفقراء من أول واجبات الدولة، ففي الجمهورية يفتح العلم آفاقا واسعة للرقي والتقدم، واقتنع مازيني بأن الشعب إذا وضع هذا نصب عينيه فلسوف يهب بأجمعه لطرد النمسويين.
وكانت الوحدة الإيطالية في نظر مازيني أثمن من الجمهورية، وقليل من الناس يعتقد بإمكان الوحدة حينذاك؛ لأن الحياة الإقليمية كانت قوية جدا، ومع أن الأحقاد بين الإيالات كانت آخذة بالتقلص إلا أنها لا تزال مستحكمة في النفوس، حتى يستحيل زوالها في جيل واحد، فكل عاصمة تفتخر ببلاطها الصغير وكل جيش مرتبط بأميره ولا يعبأ بإيطالية، أما البابوية فظلت الخصم الذي لا يقبل التفاهم حول بعث دولة إيطالية عظيمة، أما آل صافويه فقد استهدفوا مملكة في شمال إيطالية ولم يفكروا باندماج الوسط والجنوب بالشمال، لقد كان مازيني مؤمنا بإمكان بعث إيطالية الموحدة التي تقود الشعب من فوق الأحداث الراهنة نحو هدف أرفع من خطة الاتحاد الذي كان ما يزال الأمل القومي الأعلى نحو شيء كان يبدو عسيرا بعيد المنال.
وبشر مازيني برسالة الوحدة حتى أصبحت إنجيل الأمة، وسرى إيمان مازيني إلى الناس الذين أخذوا يعتقدون أن إيطالية لن تستطيع أن تكون قوية إلا بالوحدة وحين تصبح روما عاصمتها فستتبوأ مركزها في مصاف الأمم الأوروبية.
وبدهي ألا تكون إدارة الثورة لمثل هذه الأهداف غير جمعية سرية، على أن الجمعيات السرية لم تحقق آمال مازيني كلها؛ لأنها - على العموم - لم تكن تستطيع أن تقف أمام ذهب الحكومة وسلاحها، ومع ذلك فإنها استطاعت أن تقوم بدعاية واسعة النطاق، ولقد قامت في وجه مازيني منذ شرع يعمل إلى آخر أيامه الصعوبات التي تجابه كل ثورة، وليس ممكنا أن يقف شعب أعزل غير منظم أمام الحراب والمدافع، ولم يقدر مازيني رغم عزمه أن يدير دفة الأمور، وقد حمله الأمر الواقع على الاعتراف بشدة محافظة إيطالية ومع هذا كله فإنه خلق إيطالية؛ إذ استطاع بدهائه ورأيه أن يدفع الناس إلى الأعمال العظيمة، الأمر الذي لا يتم إلا بالتجرد عن المنافع.
وكان من تأثير رسالة مازيني أنها أذكت نار القومية الإيطالية، ووجهت السياسة الإيطالية نحو العمل للاستقلال، وجعلت الاحتلال الأجنبي أمرا لا يجوز التساهل معه أبدا، وكان مازيني كأكثر الكاربوناريين يعتبر بيمونته مصدر الشروع في الحركة القومية، فأخذ أكثر الوطنيين بصيرة يعتقدون أنها مهد آمال إيطالية، ويدعون إلى هذه القاعدة عدا تلك المقاومة العنيدة التي كان بيت صافويه المالك يبيديها ضد محاولات النمسة لاستمالته إلى جانبها.
والقوة العسكرية في هذه المملكة الفتية، وتشبع مدينة جنوة بحب الحرية، وقرب ميلانو من الحدود النمسوية وإيمان الأمير شارل ألبرت اليقظ؛ كل هذه العوامل جعلت بيمونته منارة الطموح الإيطالي وشجعت الآمال في إيطالية تلك الثورة التي نشبت في إسبانية وبلاد اليونان، فكانت ذات صلة بحركة الكاربوناري الجديدة، ودبرت سنة 1830 مؤامرة للحصول على الدستور واشترك فيها رجال من الجيش ومن المحامين، وفكر المتآمرون ثانية في دعوة شارل ألبرت إلى رعاية الحركة، إلا أن آمالهم ذهبت أدراج الرياح فأجل تنفيذ المؤامرة، ثم اطلعت عليها الحكومة فقضت عليها.
وفي تلك الأيام مات ملك بيمونته وارتقى العرش شارل ألبرت إلا أن ارتقاءه لم يتم من دون معارضة، فقد أرادت النمسة أن تستفيد من موت الملك من دون عقب فرشحت الدوق فرنسوا أمير مودينه زوج ابنة الملك السابق فيكتور عمانوئيل، إلا أن فرنسة هددت بإعلان الحرب إذا تبوأ العرش أمير نمسوي.
وقد تردد مترنيخ كثيرا عن رضائه من تبوؤ شارل ألبرت العرش؛ ولذلك فإنه حين عودته من فرنسة اضطره مترنيخ إلى البقاء في فلورنسة مدة طويلة واقترح على دول الحلف أن يتعهد أمام مؤتمرها برعاية القانون المتعلق بالنظام الملكي والمحافظة عليه، ولم يساعده مترنيخ على العودة إلا بعد أن أثبت بأنه حارب مع الجيش الإفرنسي ضد الأحرار الإسبان، ولما عاد إلى تورينو وعده في حكم المملكة باستشارة المجلس الرجعي وأن يحافظ على قانون المملكة الأساسي ، ولم يكد شارل يرتقي العرش حتى بدأ عهده باضطهاد الأحرار مما دعى الشاعر الموسيقار بركيت أن يكتب من منفاه: «تحت أي سماء تكون أيها الخائن فلعنة المنفى تنزل عليك.»
قضى هذا الملك حياته في مناورات مع الأحرار، فكان مستبدا قلبا وقالبا، وكان يصرح بأنه لا يقر الثورة أبدا، وكان يكره الحكم الدستوري بحجة أنه يؤدي إلى تشاحن الأحزاب ويخل بالانسجام القومي، ورغم كونه مستبدا فقد كان يخضع أمام كل وزير ذي عزيمة، وكان يتجنب اتخاذ القرارات الحاسمة؛ لذلك رمي بالتردد وكان موقفه من مجلس الوزراء موقف الجبان، فكلما رأى معارضة أجل القرارات ورتب الأمور بصورة يضطر الوزير معها إلى الانسحاب؛ خشية مناقشته «أليس من عجائب الدهر أن يعتبر هذا الملك زعيما لحركة كان يكرهها؟ ولما جلس على العرش توقع الأحرار منه إصلاحات عظيمة، تستهدف الخير»، ولو أقدم على مساعدتهم لكان منح الدستور للأمة.
وكان يعلم أن النمسة تشهر الحرب عليه إذا رأت بيمونته تسير على النظام الدستوري، ومن جهة أخرى كان متمسكا باليمين الذي أقسمه أمام الحلفاء؛ فلذلك أبقى في الوزارة الأعضاء الرجعيين وعين مجلسا للدولة لا قيمة له، وخابت آمال البلاد حين رأت الوزارة الرجعية، ووجه مازيني رغم نزعته الجمهورية إلى الملك رسالة يطلب إليه فيها بأن يكون على رأس الوطنيين وربما كان مازيني غير مخلص للملك بكتابته تلك الرسالة؛ إذ كان يتوقع أن رفض الملك ما كلفه إياه؛ يزيل من نفوس الطليان الثقة بالملك والاعتماد عليه.
وكان جواب الملك أن أصدر على صاحب الرسالة حكما صارما، فما كان من مازيني إلا أن دعى إلى الثورة وكان فريسة أوهام المنفى؛ إذ خيل له أن البلاد على أبواب الثورة فيكفي أن تنفخ إيطالية الفتاة في صورها حتى تهرع أفواج المتطوعين للحركة، ثم ينضم الجيش البيمونتي إلى الثوار ويستولي على لمبارديه ويكون شارل ألبرت بين أمرين: إما أن يترأس الحركة وإما أن يرضى بالخلع.
فما أسرع ما اكتشفت الحكومة هذه المؤامرة، ولجأت إلى القسوة في البطش برجالها، فتألفت المحاكم العرفية وجاء دور من الإرهاب يقوم على التعذيب والقتل، وكان الملك بنفسه يلح على الحكام بإصدار الأحكام القاسية ويعدهم لقاء ذلك بالأوسمة.
وكان هذا الدور من أسود صحائف التاريخ في بيمونته، لكن مازيني لم يحفل بكل ذلك وأعد ثورة ثانية، واجتمع في سويسرا سبعمائة من المبعدين من جميع الأقطار، وزحفوا على إيالة صافويه، وكان على رأسهم الجنرال المنفي «رمارينو» بينما حاول غريبا لدى البحار الشباب أن يثير الأسطول، وأضاع بطء رمارينو وعجزه الفرصة وتشتت القوة إثر بعض مناوشات لم ترع فيها الأصول والدقة وذلك في شباط سنة 1834.
ونشطت آمال الأحرار والدموقراطيين في حزب إيطالية الفتاة في نابولي عقيب موت الملك فرديناند سنة 1825 وارتقاء ابنه فرنسوا على العرش، وكان قبل ذلك نائبا للملك في صقلية فشجع فيها بعض الأفكار الحرة واشترك في مؤامرة سنة 1820، ولكنه لم يكد يتولى الملك حتى انصرف إلى الملذات تاركا شئون الدولة بيد المحسوبين عليه، وأمعن نائب الملك الجديد بصقلية في اضطهاد الأحرار ونشب عصيان في «البلانتو» فأسرع قائد كان قد اشترك في ثورة 1820 إلى قمع العصيان بالنار والحديد، وقطع رءوس - الزعماء وعلقها على أبواب بيوتهم.
ورغم ذلك فقد ظل الشعب يطالب ملوكه بالإصلاحات، فلم يكد يتولى فرديناند الثاني العرش بعد موت أبيه فرنسوا سنة 1830 حتى انتقد على ملأ من الناس سياسة أبيه، فنشطت الآمال ثانية وجهل الشعب أن هذا الأمير لم يخرج عن كونه من أسرة بوربون العاتية، ولما كان الملك متدينا فقد تسلط الرهبان على البلاط وأخذوا يأمرون وينهون، فحلوا محل المحظيات اللاتي كن يحكمن في عهد أبيه.
ومع هذا فإنه أجرى بعض الإصلاحات في السنوات الأولى من حكمه ليصلح بعض ما أفسده أبوه من الأمور فاهتم بالسكك الحديدية، وأعاد تنظيم المالية فزادت الثقة بالتجارة وقويت آمال الأحرار حتى إن بعضهم في مدينة بولونيه، طلب إليه أن يتزعم الحركة القومية، ورغم رفضه طلب البابا إليه باتخاذ التدابير ضد الجمعيات السرية فإنه اقترح على الحكومات الإيطالية التحالف في سبيل قمع الثورة، فهذا جزاء الأحرار الذين علقوا عليه الآمال .
وكان من جملة ما طلبه إلى المعلمين أن يعلموا تلاميذهم أن الثورة أمر من القتل وأن الملك يحل من تعهده بتحديد سلطاته، وكان الوزراء ألعوبة بيده فشجع الخصومات الشخصية فيما بينهم ليجعلهم طوع أمره.
لم تنظم طوسكانه في الحركة إلا قليلا، وحين غيرت الشرطة فيها خطتها المعتادة وأخذت تستعمل الشدة عم الاستياء حتى إن الحكومة نفسها طلبت إلى الشرطة أن تخفف من شدتها وأن تستعمل اللين، ولم يرق ذلك في أعين النمسة ولولا اعتراض الوزير الأول في طوسكانه ومقاومته لكانت القوات النمسوية قد احتلت البلد، ومع ذلك اضطرت الحكومة إلى منع مجلة أنثولوجيا من الصدور بإيحاء من النمسة وروسية.
أما في مودينه فكانت الرجعية هي السائدة، وقد زاد عدد ضحايا الدوق فرنسوا في السجون والمنافي، وكانت جريدة صوت الحق تنشر في أعمدتها بضرورة التنكيل بالأحرار تقول: «إن الله قد خلق جنهم وأقرب الأمر إلى التقوى ذلك الذي يجعل من وزيره الأول جلادا.» أما الأحرار فيجب أن يقتلوا كما يقتل أعداء الهيئة الاجتماعية ولو وافق قيصر روسية لتم نفيهم إلى سبيريا أفواجا أفواجا.
وكان حكم الشرطة واضطهادها يفوق الوصف فكانت تقبض على الأشخاص بلا سبب، وتتحرى البيوت وتتدخل في الحياة الشخصية، وهكذا وضعت الرعية في فزع مستمر، وكان أقل تعبير عن الآراء الحرة يكفي لإزالة صاحبه من الوجود.
أما في دويلات الكنيسة فكان العهد الجديد الذي فتحه البابا جرجوار عهد اضطراب قائم، وكان البابا يقاوم بنفسه كل مؤتمر علمي ويمنع تمديد السكك الحديدية في ممتلكاته؛ لأنه يزعم أن ذلك يخالف الدين ولأنه يعتقد أن السكة الحديدية تسهل مجيء الوفود المستاءة من الولايات، ولكي لا يضطر إلى الاستنجاد بالنمسة عند الحاجة فقد قرر تأليف قوة أهلية تستطيع قمع كل ثورة، فزاد «برنتيتي» عدد الجيش وشجع تأليف العصابات من المتطوعين غير النظاميين وأطلق عليهم اسم «سنتوريون»، وفي مدة قصيرة زاد عدد هذه العصابات حتى بلغ الآلاف، أضف إلى ذلك أنه كره أنصار البابا للأحرار قد جمع حولهم جماعات من المتشردين وكثيرا من الرجال ، فألفت قوة متحفزة للانتقام من خصوم الحكومة وللنهب، وبانضمام اليسوعيين إلى هؤلاء اضطر الأحرار إلى السكوت ورأت البلاد إرهابا لا نظير له ولا سيما في دولة الروماني والمارك، فامتنع القرويون السنتوريون من دفع ديونهم وهدد العمال السنتوريون رؤساءهم.
وكانت جمعية السانفيديست تبيع مساعداتها لهذا وذاك، فتزيد في الطين بلة، أما سلطان اليسوعيين القاهر فأدى إلى غاية الاضطراب والفوضى، وقد انسحبت سنة 1838 القوات النمسوية والإفرنسية من أرض الكنيسة وتركت رعية البابا تحت رحمة هذه الجماعات المستعصبة الظالمة، وتجاه هذا الضغط المتزايد قويت الجمعيات السرية وكتب «دازجيلو»:
1 «إذا سألتم فتى من أهل الروماني فيما إذا كان قد سجن، فيجيبكم فورا أما الآن فإني أصبحت رجلا؛ لأني سجنت فلا يمكن أن أكون رجلا من دون أن أسجن.» حتى إن المحافظين أنفسهم من أهل أوروبا قد سئموا هذه الحركة وشاع في المدينة المثل الآتي: «لا يمكن التفاهم مع الرهبان»، ومع هذا فإن الأحوال لم تساعد حينئذ على الثورة سواء أكان ذلك في روما أم في نابولي أم في بيمونته، فاضطر مازيني إلى الالتجاء إلى سويسرة أولا ثم إلى إنجلترة متمسكا بمثله الأعلى في إخلاص لا يتزعزع، وكان الأحرار «دارندو وجيالديني ومديجي وفانتي» يحاربون في صفوف الأحرار في إسبانية والبورتغال ليصبحوا قادة الحروب في المستقبل، أما غريبالدي فقد سافر إلى الممتلكات الإيطالية في أمريكة الجنوبية عن طريق باريس وبروكسل ولندن، باذلا جهده لزيادة الأنصار، أما الكاربوناريون فلم يذكر اسمهم فيما بعد؛ إذ انسحبوا من الميدان وتخلى مازيني برهة عن قيادة إيطالية الفتاة فأوشكت تنظيماته أن تضمحل، وأدى انتشار الهيضة من سنة 1835 إلى سنة 1837 إلى ترك الناس شئون السياسة واهتمامهم بأنفسهم، ولولا الحركة الأدبية لانطفأت شعلة الحركة.
وقد أثار كتاب سلفيو بلميكو «سجوني» حماسة القارئين أما شهيد سبيلبرج الشاعر الموسيقار بركيت فكتب نشيده الخالد إلى السلاح يا إيطالية إلى السلاح فقد بزغ فجرك.
أما «جرازي»
2
فكان يبحث عن العظمة الإيطالية وبعثها وأما كتب دازجيلو فكانت تحث الجيل الإيطالي الحديث على أن يتخلق بالرجولة وأن يترك مراقصة الغواني وأن يتفرغ للأعمال الوطنية، وكتب «كوليتا وبوتا» تاريخهما الباحث عن كفاح إيطالية الحديث، أما الروايات الهزلية التي ألفها «جستاف مودينا» فكانت تبث الأفكار الوطنية والآراء المعاكسة للبابوية على قدر ما كانت تسمح به الرقابة، وأيقظت مآسي «نيكوليني» ذكريات القرون المتوسطة وذكرت الشعب بدموقراطيته القديمة، وكانت تترنم بالحرية وتهزأ بالألمان وأنصار البابا، أما أهاجي «جيستي» التي كانت تكتب نسخها باليد ويتداولها المئات فكانت تحمل على الأمراء والشرطة والمحظيات وتنفذ إلى عقول الشعب، وكان جيستي هذا يمتاز بوطنية عميقة ويستهزئ بالذين يزعمون: «أن الفكرة التي تنبعث من قوميات مختلفة توسع الأذهان.» ويجيب بكبرياء على الأجانب الذين يذكرون إيطالية كأنها بلد ميت ويقول: «يا حبذا مقبرة كريمة تجعل الأحياء يغتبطون بها.»
فضلا عن أن نشرات مازيني الحماسية كانت تنتقل من يد إلى يد فتنفخ عزما جديدا في الطبقات المثقفة بينما روايات مودينا الشعبية كانت تضرب على وتر شعبي حساس.
وقد بدأت فروع جمعية إيطالية الفتاة تتأسس تدريجيا رغم خمود الهمة، وامتدت حلقات المؤامرات إلى باليرمو ونابولي وفلورنسة وميلانو وأخذ المنفيون في إنجلترة وفرنسة وإسبانية وكورسيكة ومالطة والجزائر اليونانية يكاتبون أصدقاءهم الذين ظلوا في إيطالية وأمست صقلية مركزا للعصيان، أما النزاع المديد بين أنصار اللامركزية وأنصار الحكم الذاتي فقد انتهى بانتصار الآخرين، ولما عزل الملك نائبه المحبوب من الأهالي حسدا زالت الأحقاد بين أحرار الجزيرة واتحد الجميع لمقاومة المستبد، وانضم حزب - الانفصال القديم إلى الحزب الجديد الذي يقول بإدماج الجزيرة بالجمهورية الإيطالية، واجتمع في سنة 1837 مندوبو الجمعيات السرية في باليرمو للمذاكرة في شئون الثورة، وحين تفشى مرض الهيضة «الكوليرا» في إيطالية وامتد إلى الجزيرة وقضى على أربعين ألفا من النفوس في باليرمو، فقد استغل الأحرار عقلية الشعب وقووا الاعتقاد بأن الحكومة هي التي سممت المياه وبشروا بالثورة عليها فهبت «مسينة وكتانية وسيراكوزه» ورفعت العلم الأصفر شارة الاستقلال، وفي سيراكوزه فتك الشعب بالشرطة وبجميع الأشخاص المشبوهين فأرسلت الحكومة على إثر ذلك القائد «لكاروتو» لإخماد الثورة فسلك سبيل الإرهاب وحكم على مائة منهم بالموت ومع أن ثورة صقلية حركة انفرادية فقد أظهرت كيف يتطور الاستياء إلى انفجار واستفاد حزب إيطالية الفتاة من ذلك حين نهض ثانية وأخذ يرسم خطط العصيان بإحكام وتنظيم، واعتزمت لجان الثورة في صيف سنة 1843 عصيانا عاما في كل من بلاد نابولي والروماني وطوسكانه إلا أنه كان كل قطر من هذه الأقطار ينتظر أن يبدأ الآخر بالقيام ففشلت الثورة.
ولما كشفت المؤامرة في بولونيه ورافيته وخشي المتآمرون انتقام الحكومة؛ اعتصموا بجبال الأبنين ونظموا فيها حرب العصابات ولما لم يلقوا عونا من أهل الجبال تفرقوا شذر مذر، فمال مازيني إلى رأي أكثر المتآمرين بصيرة واقتنع بتفاهة هذه الحركات، وبرز حينذاك الأخوان «أتليو وأميليو» الشابان الشريفان من فنيسيه وكانا من ضباط الأسطول النمسوي، وقد اقتنعا بأن ما تحتاجه بلادهم هو أمثولة العمل الجريء الحازم والفداء الصحيح، وأرادا أن يجعلا نفسهما المثال الحي المنشود، وذلك بتنظيم حرب عصابات في القسم الجنوبي من جبال الأبنين.
وقد بذل مازيني وآخرون جهدهم لحملهما على العدول عما اعتزما عليه إلا أنهما لم يأخذا بالنصيحة وصما آذانهما عن سماعها وعن سماع توسلات أبيهما وزوجة أولهما آتيلو الفتاة، ففرا من الأسطول والتجآ إلى كورفو ثم أبحرا وبعض الرجال إلى إيطالية وبعثا إلى مازيني بكتب بينا فيها خطتهما بالتفصيل، وقد اعتمدا على الأمانة التي تمتاز بها دوائر البريد الإنجليزي إلا أن كتبهما فتحت في دوائر البريد الإنجليزية وأخبر اللورد أبردين الحكومة النابولية بأمر المؤامرة وتفاصيلها حتى إذا ما نزلت القوة الصغيرة إلى البر قبضتهما فحكمت على الضابطين المذكورين بالموت بالرصاص، وقد هتفا حين نفذ فيهما حكم الموت قائلين: «فلتحي إيطالية.» وكان لموتهما على هذه الصورة الشريفة تأثير عظيم في البلاد؛ إذ اهتزت البلاد من أقصاها إلى أقصاها وعرف العالم كيف يموت الإيطاليون في سبيل وطنهم.
الفصل التاسع
المعتدلون
1843-1846
منذ أن أفل نجم الكاربوناريين كانت الحركة الدموقراطية والجمهورية التي تولى زمامها حزب إيطالية الفتاة قد بثت روح الوطنية الفعالة في البلاد إلى حد ما، وكان سبيلها إلى الوصول إلى أهدافها الدعاية بالكتب والنشرات والمجلات والحث على الثورة مهما كانت الظروف، ثم اقتنع رجالها بعد التجارب القاسية بلزوم التأني في إشعال نار الثورة إذا كانت الظروف لا تساعد على ذلك، فكان الحزب حامل راية الاستقلال في الاثني عشر سنة الأخيرة.
وكانت فكرة الاستقلال والوحدة قد انبثت في نفوس كثير من المثقفين الذين لم يكونوا من حزب إيطالية الفتاة، فكان للبعض منهم أيضا تأثير محسوس في بعث الفكرة القومية، فرأى حزب إيطالية الفتاة نفسه أمام حركة قومية يقودها مثقفون، تختلف طريقتهم في الحصول على الاستقلال عن طريقة حزب إيطالية الفتاة لأنهم كانوا ملكيين ينفرون من المؤامرات والوثبات الفردية، ويرون فيها إسرافا في حياة المتهوسين وحجة بيد الحكومات لاستعمال أقصى الشدة والمضي في التدابير الاستبدادية الغاشمة، من أجل ذلك فإنهم كانوا يرون أن يترأس الحركة ملك بيمونته أو البابا، وكانوا يطالبون الملوك بالإصلاحات لأنها هي في حد ذاتها توصل إلى الهدف وإذا اعتبرنا رجال حزب إيطالية الفتاة أحرارا متطرفين فيكون هؤلاء أحرارا معتدلين.
وكان المعتدلون يحملون طابع الآراء التي كانت تبثها فيما مضى الكنجلياتورة ومجلة أنتولوجيا وكتابات منزوني، وكانوا مقتنعين بأن الزمن لم يحن للقيام بالحركات السياسية العنيفة، وأن الأجدى في هذه الآونة توجيه همة الأمة نحو التعليم والإصلاحات الاجتماعية، وكانوا يدعون إلى الإكثار من المدارس وتحسين الزراعة ومد السكك الحديدية وإنشاء الصحف الأدبية وتأسيس الجمعيات العلمية.
وكان أول عمل قاموا به توجيه حملة شديدة على اللهجات المحلية فتوفقوا في جعل اللغة الإيطالية الكلاسيكية لغة العلم والأدب في جميع أنحاء إيطالية، ثم عقدوا المؤتمرات العلمية، ومع أن هدف هذه الاجتماعات كان علميا بحتا ولكنها اصطبغت بصبغة قومية؛ ذلك لأن الأعضاء كانوا يمثلون دول إيطالية وحدها، فالبحوث الاقتصادية مثلا ولدت فكرة الاتحاد الجمركي، والمسائل الاقتصادية أدت إلى السياسة، والتدقيقات الجغرافية إلى المناقشات الحرة عن موقف إيطالية، وهكذا انضمت هذه المؤتمرات العلمية إلى العناصر التي خلقت الفكرة القومية الجديدة.
ولم يوافق البابا ودوق مودينه على اشتراك رعاياهما في هذه المؤتمرات، وكان من نتائج هذه المؤتمرات أن أخذت السكك الحديدية تمتد في البلاد فتربط المراكز المهمة بعضها بالبعض الآخر، وتسهل الاتصال بين الطليان على اختلاف أقاليمهم وتنشط التجارة الإيطالية.
وقد عبر «دازجيلو» عن سياسة مد السكك الحديدية بأنها «تخيط الحذاء الطويل» إشارة إلى إيطالية التي تشبه الحذاء في وضعها على الخريطة، ومع ذلك فلم يتخلص أولئك المخلصون الاجتماعيون من تأثير السياسة فقد زجوا نفسهم فيها رغم أنفهم؛ ذلك لأن مبادئ مازيني كانت قد اختمرت وأصبحت ذات تأثير عظيم فألهبت النفوس بحب الوطن وشبعتها بآمال النصر والاستقلال، فكان جيستي مثلا ينسف العروش بأهجياته أما جيرازي فكان يلهب بها القلوب، وأخذت الأكثرية العظيمة من مثقفي الطليان الذين كانوا يكرهون الثورة، ينضمون إلى المعتدلين.
وانقسم المعتدلون في بادئ الأمر إلى زمرتين: الأولى كانت كاثوليكية قبل كل شيء أطلق أعضاءها على أنفسهم اسم «الجلفي الجديد»، وأصبحوا من أنصار مدرسة منزوني الرومانتيكية وكانوا كمازيني يبشرون بالواجب والثبات والدرس والأخلاق الفاضلة، إنما كانوا يختلفون عنه بتبشيرهم الخمود والتوكل وبما أنهم كانوا فاقدي الشجاعة الأدبية، وجلين يخشون طريق الرقي الوعر، ضعفاء أمام المعارضة فكانوا يحلمون بحياة مثالية تتصافى فيها جميع الطبقات؛ حيث العدالة والرحمة تقنعان البابا والرهبان والأمراء معا فتجعلاهم يشرفون على شعب سعيد ومعترف بالجميل.
وكان من هؤلاء «جيوبرتي»، كان جيوبرتي راهبا من أهل تورينو وقد نفي من بلده في أوائل عهد الملك شارل ألبرت فأوضح آراءه في كتابه «تفوق الطليان المعنوي والأدبي» نشره سنة 1843، وكان يدعي بأن إيطالية ذلك البلد الذي أنجب دانتي وفيكو ونابليون يجب أن يكون دائما وأبدا بلد الرجال النشطين ومهد العباقرة المبدعين، وكان يقول ما دامت روما المسيحية قد علمت العالم السلم والحب اللذين خلقا الحضارة الحديثة، وما دام الرومان هم الشعب المختار الذي بث فكرة العدالة؛ فيجب على إيطالية أن تظل الأمة المنقذة والأخت الكبيرة للأمم والمركز المعنوي والعقلي للعالم، ولن تتبوأ إيطالية هذه المكانة إلا بالاستقلال، فالاستقلال وحده يستطيع أن يجعل البلاد في الصف الأول بين الأمم.
وكان جيوبرتي لا يؤمن بالوحدة الإيطالية؛ زاعما أن التجزئة التي أصابت إيطالية منذ أمد بعيد قد فعلت فعلها بحيث يتعذر إيجاد الوحدة بصورة سليمة، أما تأسيسها بالقوة فجريمة وكان يرتئي إقامة آحاد لا وحدة بين الدول الإيطالية برئاسة البابا العليا، وكان يجزم بأن العبقرية الإيطالية من حيث أساسها ملكية، أرستقراطية، إقطاعية، وعليه فيحق للبابا أن يحتفظ بالسلطة الزمنية، وراح يطلب إلى الملوك والأمراء أن يجمعوا المجالس الاستشارية وأن يمنحوا الصحافة حريتها، أما الأشراف فينبغي أن يكونوا جديرين بألقابهم وذلك بتسليمهم زمام الأمور وبتركهم الامتيازات الإقطاعية وباحترامهم من دونهم.
وأما الرهبان فيجب أن يتعلموا وأن يتحرروا من الشبهات، وأن يكونوا متسامحين نحو المذاهب الأخرى ومخلصين للملوك والأمراء والشعب، فكان لكتاب جيوبرتي تأثير عظيم وفي رأيه أن البابا وملك بيمونته هما اللذان يمكن أن ينقذا الطليان، وطبيعي أن ينتشر كتابه في جميع الأوساط، فيرحب به الإكليروس والقوميون من رجال السياسة ولا سيما الأمراء من آل صافويه.
ثم يليه «ممياني» أوضح ممياني، وهو من زعماء ثورة 1831 آراءه في رسالة نشرها في باريس سنة 1841، ورأى فيها أن إيطالية عاجلا أو آجلا سوف تنال استقلالها من دون مساعدة أجنبية وبعد حروب حامية يشنها أحد الملوك الطليان، وعليه يجب أن تترصد الفرصة سنوات حتى تنشب الفتن في النمسة، وفي الحين ذاته يجب علينا تربية الجماهير تربية وطنية؛ تؤهلهم للمساهمة في الحركة، على أن هذه الرسالة لم يكن لها كبير تأثير.
وكان رجال السياسة الذين لا يرون في البابا القدرة على إنالة إيطالية استقلالها؛ يجدون ما ينشدونه في ملوك بيمونته، وكانت سياسة الحكومة البيمونتية تعتبر الكنيسة فرعا من فروع الإدارة وكان معظم الأشراف في بيمونته يعتزون بماضي بلادهم ويؤمنون بقدرتها وكانوا يرثون الحقد التقليدي على النمسة.
وفي الوقت الذي كانت فيه الزمرة الأولى من المعتدلين تتخذ كتاب جيوبرتي إنجيلا لها ظهرت آراء الزمرة الثانية التي تؤمن برسالة بيمونته القومية في الكتاب الذي أله قيصر بالبو بعنوان: «آمال إيطالية» والذي نشر في باريس سنة 1843، وكان بالبو هذا تلميذا لجيوبرتي ومعجبا به ولكنه يختلف عن أستاذه بتعليق آماله على تورينو بدلا من روما، وكان كتابه موجها ضمنا للملك شارل ألبرت يحرك به وطنيته ويعده بإكليل المجد ويمنيه بتوسيع البلاد بعد طرد النمسويين منها، ومع ذلك فلم يوجه تلك الدعوة باسم الوحدة الإيطالية لأن بالبو يرى في الوحدة الإيطالية حلما خلابا ويعتبر أن المستقبل السياسي يتوقف على الاتحاد لا الوحدة غير أن هذا الاتحاد لن يتم ما دام النمسويين يحتلون البلاد.
ويقول: «إذا لم يكن هناك استقلال وطني فكل ما ننشده من أمور طيبة لا يساوي شيئا، وإن مجرد احتلال الأجنبي إيالة واحدة فقط لمن شأنه أن يهين الكرامة الوطنية وأن يحول دون رفاه الولايات الأخرى، ويؤذي الصناعة الإيطالية بل إنه من شأنه أن يذهب بمزايا الأمة كلها، من أجل ذلك يجب المطالبة بالاستقلال قبل الوحدة وقبل الحرية الدستورية.»
ومن غريب ما ذكره في كتابه أن إيطالية لا تحصل على استقلالها إلا على الاختلاف الذي يحدث بين الدولة العثمانية وبين النمسة فيؤدي إلى الحرب التي تشغل النمسة بالشرق، وبذا تسنح لإيطالية فرصة الحصول على استقلالها وتتجلى قوة أمله في الجملة الآتية: «لا تقهر أمة تبلغ عشرين مليونا إذا اتحدت وكانت ذات خلق.» وينهي كتابه مثل جيوبرتي بالجملة الآتية: «فليقم كل شخص بواجبه حسب استطاعته والله كفيل بالإتمام!»
وقام «مسيمو دازجيلو» صديق بالبو بنشر آرائه، وكان هذا أيضا من أشراف بيمونته، ترك مسلك الجندية واحترف الرسم وكان يقضي أوقاته بين روما وميلانو وفرنسة، ولعله البيمونتي الأول الذي برهن على إيطاليته بالتجول في مراكز إيطالية المهمة وأخذ يكتب الروايات ونال شهرة في إيطالية كلها ومع أن بالبو كان يميل إلى آراء جيوبرتي من جهة اعتبار روما فإن دازجيلو كان يكره روما.
وفي خريف سنة 1845 دعاه أهل الروماني ليبشر رسالة بيمونته فوصل إليها، وأخذ يبشر بالثورة في اليوم العظيم ويدعو إلى الثقة بشارل ألبرت، ورغم الذكريات المرة التي تحز في نفوس الأحرار الفتيان من جراء موقف ملك بيمونته ورغم اقتناعهم بضرورة توجيه جهودهم نحو الجمهورية، فقد استطاع دازجيلو أن يجذب فئة كبيرة إلى آرائه ، ومع ذلك فإنه لم يوفق إلى القضاء على عادة العصيان المحلي.
فلم يكد يترك الروماني حتى بدأ الإرهاب، فتلاه قيام فراتوري الذي دفع الأحرار إلى رفع السلاح في رافينه وريمني؛ حيث نشرت بيانات عامة إلى الملوك وشعوب أوروبا، وكانت الحركة في حد ذاتها قليلة الأهمية، وكانت الظاهرة الأولى للفكرة الجديدة التي برزت باشتراك رجال من شيع مختلفة من أجل غاية واحدة وقادها رجلان لا ينتميان لحزب الثورة؛ وهما «ممياني وفاريني» كتب البيان بقلم مازيني، وكانت الحركة ترمي إلى إكراه البابوية على إنقاذ نفسها بالقيام بالإصلاحات، ولم تتعد المطالب التي وردت في البيان ما جاء في المذكرة الدولية الموضوعة سنة 1831.
وكان في جواب البلاط البابوي عليه بعض اللباقة والحذق، أما دازجيلو فانتهز الفرصة وأذاع بيانا يؤيد فيه سياسة بيمونته التقدمية، ثم طبع رسالة تبحث في حوادث الروماني الأخيرة، ندد فيها بالثورات المحلية الصغيرة التي لا تؤدي إلى الاستقلال بل تمكن الحكومات من سحقها وتسوغ حجتها في إنزال الاضطهاد بالأحرار، مبينا أنه ليس من حق أقلية أن تفرض مستقبل الشعب وأن تلقي البلاد في كفاح واسع خطر، فالمعركة يجب أن يشترك فيها الجميع ولكن الوقت لم يكن صالحا للحرب؛ ما دام النمسويون يستطيعون أن يقمعوا كل حركة بقوة السلاح، ومع أن الصبر يشق على الرازحين تحت الاستبداد فإنه يجب ألا يغرب عن البال بأن الثورة تصطدم بسخط الرأي العام ومن مزايا دازجيلو تقديره للرأي العام.
وكان لتلك الرسالة صدى عميق في البلاد وأصبح دازجيلو - بفضلها - زعيما لأنصار ألبرت الذين يعلقون آمالهم على ملك بيمونته، أما الجمهوريون فاعترفوا بصعوبة السير ضد التيار، وهكذا أخذ الشبان الجمهوريون يبدلون معسكرهم وينضمون إلى الحزب الجديد، وقوي هذا التيار حتى صعب معاكسته، فرأى مازيني رغم اقتناعه بالمذهب الجمهوري ضرورة التفاهم، ورضي بأن يكف عن الدعاية الجمهورية ولو إلى حين على أن يرضى المعتدلون أيضا بالكف عن فكرة الاتحاد وبالسعي للوحدة.
وكان من نتيجة ذلك أن أخذ الذين يتلهفون من صميم قلوبهم إلى رؤية إيطالية حرة ينضمون إلى صفوف المعتدلين أو الإلبرتيين، ويزيدون في عددهم، ومع ذلك فإنه لم يكن بينهم وقتئذ تماسك في الرأي، فمنهم من يريد أن يشترك البابا في الحركة، وآخرون أمثال: «جياكومو دوراندو ولويجي توريلي»، يودون أن يتخلى البابا عن سلطته الزمنية، ومنهم من ينشد الحرية الدستورية قبل الاستقلال، ومنهم من كان يغار من التوسع البيمونتي ويعارض إلحاق أي جزء وراء وادي بو إلى بيمونته ونابولي وطوسكانه على أن يكون الملك شارل ألبرت الحاكم المعنوي لإيطالية.
ومع ذلك فإن شارل ألبرت لم يحقق آمال أنصاره إلا قليلا، ففي السنوات الأولى من حكمه تبين أنه أضاع مثله الأول، ذلك المثل النبيل وأصبح في بعض الأحيان تحت نفوذ الحزب الإكليريكي، وكانت الشدة التي استعملها ضد الأشخاص قد وسعت الهوة بينه وبين الأحرار، وكان يرفض بأن يتساهل معهم أبدا، حتى إن حكومته ساعدت النمسة على إجبار سويسرة على طرد اللاجئين من بلادها.
وكان محتملا أن يكون شارل عند حسن الظن به لو لم يخش تقدم الجيش النمسوي نحو تورينو، فكان مثله الأعلى في الحكم المطلق المطلق، وكان يرى بأن حكومة شخصية قوية ضرورية للاحتفاظ على القومية البيمونتية فكان على حد تعبيره بين «مدية الكاربوناري وشكولاتة اليشوعيين المسمومة.» ويظهر أن الزمن والحوادث غيرت آراءه؛ إذ رأيناه في المدة الأخيرة يضع ثقته في الأحرار حينما رأى أن اليسوعيين يعارضون إصلاحاته، ولى رئاسة الوزراء «فيلا مارينا» وأخرج من الوزراء بالتدريج جميع العناصر الرجعية وشرعت حكومته تقوم بالإصلاحات الإدارية.
وكان شارل ألبرت يقول: «على الحكومة أن تضع نفسها على رأس كل حركة تقدمية.» ووضعت اللجنة الحقوقية القانون المدني المسمى باسم ألبرت نفسه، وأصبح هذا القانون أساسا للقانون المدني الإيطالي، وقد ألغى العرف الإقطاعي في جزيرة ساردينه، وكان مرعيا إلى ذلك الحين وله صفة اشتراعية، وأعاد فيلا مارينا تنظيم الجيش وجعل الخدمة فيه قصيرة وخفف رسوم الحماية الجمركية، وعاد الرخاء إلى مدينة جنوة حين أصبح بعضها ميناء حرا.
وعقدت مع الخارج عدة معاهدات تجارية، ومنحت الحكومة إعانات لترقية صناعة الحرير، وألغت النقابات ، وأصلحت دوائر البريد وأحدثت كراسي جديدة للتدريس في جامعة تورينو، واجتمع المؤتمر العلمي الثاني في تورينو سنة 1840، ورغم تدين الملك فإنه أظهر حياده في حماية المذاهب، فدافع عن امتيازات جماعة الجاليكان ضد هجمات روما، ولما قاوم الإكليروس فتح المدارس السلمانية وجمعيات الإسعاف؛ وقف منهم الملك موقف المناوئ.
وقد استخدم فضلة الواردات التي تراكمت بفضل السياسة المالية الرشيدة في مد السكك الحديدية في مملكته، وكان يكره مترنيخ كل الكره ولم يغفر له محاولاته لإبعاده عن العرش، وكلما ساءت نياته نحو النمسة تحتم أن يتقرب من شعبه، ولم يرتح أبدا إلى بقاء الأشراف طبقة منعزلة فسعى في إزالة الحواجز بينهم وبين الطبقة المتوسطة.
ووافق سنة 1842 على تأسيس جمعية زراعية قومية، فكانت جلساتها فرصة لاشتراك البيمونتية مع اللمبارديين في المذاكرات، الأمر الذي جعلهم يشعرون بأن عليهم واجبا يتعدى حدود البحث في الأمور الزراعية، وسمح لكتاب جيوبرتي «بريمانو» بالتداول وكلف الشاعر «براني» بكتابة نشيد للمسير يحتوي البيت الآتي:
كلنا جميعا من بلاد واحدة
يجري في عروقنا دم واحد.
وتوترت العلاقات بين النمسة وبيمونته في مطلع سنة 1843 بسبب النقاش حول تجارة الملح بموجب أحكام معاهدة قديمة، وكان الملح المستورد من لمبارديه لا يكفي لحاجة منطقة تسينا؛ فلذلك طلبت هذه المنطقة إلى بيمونته بأن تسد حاجتها الأمر الذي جعل النمسة تحتج على بيمونته، فما كان من هذه الأخيرة إلا أن قابلت عمل النمسة بالمثل وبذلك فشلت مساعي النمسة في تقييد تجارة بيمونته.
وقد كان لفشل النمسة هذا استحسان عظيم لدى الرأي العام، ولما اشتد التوتر ولاح شبح الحرب، تراجع الملك وارتأى أحد الوزراء حل الخلاف بالطرق السلمية، على أن يكون قيصر روسية الحكم في حسم الخلاف.
ومما يجدر ذكره أن الملك أصلح التعليم الأولي، وشجع وزير المعارف على القضاء على الثقافة الإكليريكية في تورينو رويدا رويدا، وكان يتصل بالأحرار المعتدلين الذين يرغبون في الحرية الاجتماعية ويشاركونه في مناوأة الحركة الدموقراطية، ولا يهتمون إلا قليلا بالحقوق الدستورية.
الفصل العاشر
بيوس التاسع
أيار سنة 1846-كانون الأول سنة 1847
مات البابا جرجوار في صيف سنة 1846، وانتخب محله بيوس التاسع، الذي كان يظهر عطفه على الأحرار مع أنه كان حاميا لليسوعيين، وكان مطلعا على كتب المعتدلين، مبديا كرهه للاضطهاد السياسي، ولعله كان يتوفق في مهمته رئيسا للممتلكات الكنيسية لو أتى في زمن أكثر هدوءا من زمنه وكان مثقفا، حر الفكر، متحليا بعقل نافذ إلا أنه كان ضعيف الإرادة متردد الرأي يخشى المسئولية، تلك كانت صفات الرجل الذي سوف يتوقف عليه مصير البابوية.
وكان قد ورث حقد روما التقليدي على النمسة، فأول ما فكر فيه إزالة جميع مساوئ الحكم السابق، فجعل التجارة حرة، ووعد بمساعدته المؤتمرات العلمية وعين لجنة للسكك الحديدية، وعفى عن جميع الموقوفين السياسيين فكان لكل ذلك وقع حسن في أنحاء إيطالية، وأثار الحماسة في نفوس الأحرار الذين تشبعوا بأحلام جيوبرتي واعتبروه المصلح المنتظر حتى إن الموسيقار روسيني وضع أغنية خاصة به، ولما عاد المنفيون جماعات وحضروا القداس اعتبر الناس هذا رمزا لعهد جديد تتصافح فيه أيدي الحرية والتجديد الاجتماعي وأيدي الدين والإصلاح.
سارعت مدينة بولونيه إلى تقديم رمز مصالحتها مع روما، وزالت الرقابة التجارية وتم الصلح بين الشعب والشرطة، وانقلبت النقابات في الروماني إلى جمعيات وتبرعت بمبالغ كبيرة لتأسيس المدارس، وقد رأى الملك شارل ألبرت في شخص البابا الجديد الرجل المصلح الذي يشجع الآمال إلى أقصى حد، فارتاح ضميره وهو الرجل المتدين لأنه سوف يسير في الطريق الذي يسلكه رئيس الكنيسة.
ولما هددت النمسة باحتلال الروماني رأى شارل ألبرت أن من واجبه الديني والقومي أن ينتصر لبيوس التاسع ويحميه من عدوان النمسويين، فصرح بما يلي: «إذا حاولت النمسة أو مملكة نابولي التوغل في دويلات الكنيسة فسأهتف بصرخة الاستقلال والدين.» وقد ألهب هذا التصريح نفوس كثير من الأغنياء والطبقة المتوسطة في بيمونته ووعدوه بالمساعدة.
ولما اجتمع المؤتمر العلمي في جنوة بعد هذا التصريح ببضعة أيام أخذ الأعضاء يتذاكرون كأنهم في قاعدة البرلمان، ويتداولون في استقلال إيطالية وحريتها وبعثها حتى إنه سار شوطا بعيدا في مذاكرته، وقرر أن يحتفل أهل جنوة بعيد رأس تحرير المدينة من النمسويين فتوجهت الأنظار إلى المستقبل القريب الذي تطرد فيه ميلانو وفنيسيه الأجنبي منهما، وكان من أمر ذلك أن امتدت شعلة الحماسة على طول جبال الأبنين في طوسكانه والروماني واشتد الكره ضد النمسة.
وكان اليسوعيون الرجعيون واقفين لهذه التبدلات بالمرصاد، ولم يكن اليسوعيون يؤلفون حزبا قويا خطرا في بيمونته وطوسكانه وروما، وإنما كانوا يشغلون مناصب الإدارة ويقودون قسما كبيرا من الأشراف والإكليروس وهم أقوياء بتنظيمهم الدولي ولهم في كل حكومة إيطالية نفوذ ظاهر أو خفي، أما في نابولي ومودينه فظلت فكرة الإصلاحات خامدة.
وبدهي أن يصطدم بيوس في روما باليسوعيين والقسم الأعظم من الكرادلة وجماعة الإكليروس، وبما أنه رغب في ألا يتحرش بأي حزب فقد احترم جماعات سنتوريون الجياع، واحتفظ بأكثر موظفي جراجوار الرجعيين، وكان هذا خطأ فاحشا، عبثا حاول وزير فرنسة المفوض أن يقنعه بأن تطهير الإدارة يجب أن يسبق كل إصلاح؛ فلذلك أخذت بعض أوامر الكيرنيال تهمل ولا يعمل بها، وبدأت أعضاء السانفيديست تتحدث عن احتمال نشوب الحرب الأهلية، وأخذت صحافتهم تهاجم البابا.
وفي شهر آب عين البابا الكردينال «جيزي» مستشارا للدولة، وكان هذا يعد رئيسا لجماعة الإكليروس الحرة والمرشح الشعبي للبابوية إلا أن كبر سنه وجهله للأمور وتردده؛ جعله غير كفء للعمل الذي أنيط به، وإدارة يرأسها مستشار في التسعين، وبابا متردد؛ لا تثمر غير الفوضى.
وظلت جماعة السنتوريون على دأبها، تغتال الناس في ظلمات الطرق، مما جعل أحرار الروماني يطالب بتأليف حرس مدني لحمايتهم، وأخذت الدوريات تتجول في طرقات بولونيه وفراره قبل وصول جواب الحكومة، ثم جاء جوابها وإذا به بالرفض البات وبذلك أضاعت الحكومة هيبتها، ولو أنها اتفقت مع الأحرار والمعتدلين لتغلبت على الصعوبات بيد أن مثل هذا الاتفاق كان يتطلب تطهير الإدارة والموافقة على تأليف الحرس المدني.
وأخذ الرجعيون يدبرون الدسائس للوقوف دون الإصلاحات بينما بقي المعتدلون بلا حركة، مكتفين بنجاح برنامجهم الظاهر، ومعتمدين على البابا، ووجلين أمام مطالبات الأحرار الراديكاليين، وكان منهجهم لا يطمئن الرغبات، فهو يتلخص بإعادة تنظيم الشرطة وفتح مصرف في بولونيه وإصلاح الجامعات وتأسيس مجلس الدولة، ولما استرسلت الحكومة في خمودها، وظل المعتدلون يتلاعبون بكتابة البرامج؛ فقد اشتد قلق أكثر الأحرار نشاطا ولا سيما حين رأوا آمالهم تتحطم نهائيا وإلى الأبد.
وحينئذ برز مازيني للميدان؛ إذ رأى أن أحسن سياسة يتخذها بانضمامه إلى الحركة الجديدة وسوقها نحو الهدف الذي ينشده، وكان على استعداد لأن يضحي بميوله الجمهورية إذا اقتضت الظروف، وأن يرضى برئيس كالبابا أو ملك يعمل للوحدة، ومع أن أنصاره كانوا قليلي العدد فقد التحق به كثير من الأحرار أنصار بيوس، يعقدون أملا على البابا، ويرون أنه والأمراء سيرضون طوعا أو كرها بالاندماج في الحركة الدموقراطية ويؤسسون حكومة دستورية ويعلنون الحرب على النمسة.
أصبحت طوسكانه موطن استياء عام فجعل «سميني» رئيس وزرائها الشرطة في حالة الاستعداد للطوارئ تجاه الأعمال التي قام بها سلفه، ولما وافق مجلس الوزراء الرجعي على قبول اليسوعيين؛ اضطرب الرأي العام لذلك أيما اضطراب؛ لأن الناس كانوا يحملون في قلوبهم حقدا دفينا عليهم، ولما فشل البلاط في إدخالهم في فلورنسة حاول إدخالهم في بيزا إلا أن مونتا تيلي أحد أساتذة الجامعة حرض التلاميذ ضدهم ففشلت بذلك المحاولة الأخيرة أيضا، واتخذ هذا الأستاذ الصحافة السرية أداة سياسية قوية وأصبح ذا نفوذ لدى الأحرار، وفي مثل هذا الوقت وردت أخبار اعتلاء بيوس كرسي البابوية وعفوه عن المبعدين.
وكانت طوسكانه دائما في ريبة من روما إلا أن الدعاية القوية فعلت فعلها وأمالتها إلى جانب البابا، وقامت المظاهرات في أنحاء طوسكانه، يضرم نارها الاستياء من سوء الحالة الاقتصادية والسياسية المستحوذ على النفوس، وانتهز بعض الرجعيين الفرصة واتخذوا هذا الهياج ذريعة لتسويغ الاحتلال النمسوي إلا أن لئوبولد كان حريصا على استقلاله، يقاوم كل تدخل وأخذ الأشراف الأحرار في فلورنسة والراديكاليون يلحون على الحكومة بأن تصلح جهازها الإداري، فهناك حزب أولاد جورج المتيقظ بزعامة «كابوني» يقف بالمرصاد من جهة وجماعة أخرى صغيرة غير دمقراطية ولكنها تطالب بالحرية الاجتماعية التامة وبحكومة دستورية من جهة أخرى، وكان يرأسها «ريكاسولي»، فاتفق الحزبان على المطالبة بتخفيف وطأة مراقبة المطبوعات وكان الرئيسان يرغبان في أن يقيما الصحافة العلنية مقام الصحافة السرية وأخذ كابوني يسوق الوزراء رويدا رويدا نحو سياسة أكثر حرية وتساهلا، ثم أبطل الصحافة السرية، ونشرت الحكومة أخيرا قانون المطبوعات الجديد وبعد صدوره ببضعة أسابيع وعدت بتأسيس مجلس الدولة.
أما في ممتلكات البابا فقد عيل صبر رعية البابا، وخبت الآمال حين رفضت الحكومة إيجاد الحرس الأهلي وحين رأى الناس التلكؤ في تنفيذ الإصلاحات وإنشاء السكك الحديدية، فأخذ أهل الروماني من جديد يسمعون النغمة القديمة وهي نغمة التهديد بالانفصال، أما أهل روما فكانوا يلقون تبعة هذا البطء على عاتق الكرادلة واليسوعيين حتى إنهم أخذوا يهتفون: «ليعش بيوس وحده.»
ولما زار البابا كلية اليسوعيين راح الأهالي يصيحون: «أيها الأب المقدس لا تذق شكولاتهم.» يرمزون بذلك إلى أن اليسوعيين يتآمرون على حياة البابا، وقد اتفق زعماء روما على شل أعمال الحكومة واعتمدوا على برونيتي الملقب «شيشراكيو» لقيادة العامة، وكان هذا الرجل قوي العزيمة، خالص النية وضع نفسه موضع الصديق الخاص للبابا.
وكان البابا قد ضاق ذرعا بمعارضة البلاط له، ولكنه لا يتحلى بالجرأة الكافية لسحق هذه المعارضة، ولكن حركة شيشراكيو بث فيه بعض الشجاعة فأصدر أمره بعد التي واللتيا وبعد وعود ومماطلات قانون المطبوعات، وفيه يلغي الرقابة، وذلك في شهر آذار سنة 1837، وفي شهر نيسان وعد البابا بتأسيس مجلس الدولة، يعين من قبل مجالس الولايات، ويأخذ على عاتقه كثيرا من شئون التشريع والمالية.
وفي حزيران عين وزارة جديدة ومع أن أعضائها كانوا من رجال الدين فقد اعتبرها الناس خطوة للأمام، غير أن الوزارة أضاعت الفرصة وقضت على كل أمل بإمكان استعادة الثقة؛ ذلك لأنها خلطت الإصلاحات بأعمال الاضطهاد، وقد احتج «جيزي» رئيس الوزراء رسميا على الشعور العدائي الذي بدأ نحو النمسويين؛ إذ إن ذلك ينافي كون البابا أبا لجميع المسيحيين في أي بقعة من بقاع العالم.
وقد هوجم «فنتورا» لأنه في تأبينه للزعيم الأيرلندي «أوكونل» - وقد مات في جنوة في طريقه إلى روما - ندد بسياسة الخضوع التام، وطلب إلى الناس أن يجعلوا من كفاح هذا الزعيم قدوة لهم، وأمر الراهب «جافيزي» رسميا بأن لا يذكر اسم إيطالية في مواعظه الحماسية.
وحين تحرك المعتدلون بزعامة دآزجليو وبذلوا قليلا من الجهد صدر القرار بتأليف الحرس المدني، ولعل الوزارة بموافقتها هذه كانت تتوقع أن الطبقة المتوسطة إذا تسلحت تكون درعا يقيها حملة الأهلين من جهة والدسائس النمسوية أو السانفيديستية من جهة أخرى.
ولما أخذ رجال السانفيديست يهاجمون الأحرار في بعض المناطق ويدبرون الدسائس؛ نشط البابا في تأليف الحرس المدني، وأصدر أمرا بتسريح السنتوريون، وأوقف رجال السانفيديست المشبوهين فاضطر الكرادلة والرهبان إلى قبول الأمر الواقع وأخذ الأهلون يهرعون إلى التطوع في صفوف الحرس المدني، وحينما استقال «جيزي» عين البابا ابن عمه «فتريني» بدله وكان فتريني هذا جاسوسا للنمسة يعمل لحسابها، وأصبح مترنيخ ينظر إلى هذه الأمور بعين القلق واعتبر وجود بابا يميل إلى الأحرار من أعظم مصائب ذلك الدور، ولكن نفوذ النمسة عجز عن الوقوف في وجه الحركة الإيطالية.
وقد حاول مترنيخ عبثا أن يثير في البابا وفي دوق طوسكانه الكبير المخاوف من الحركة القومية ومن أنها تنتهي بالجمهورية، وقد سعى كثيرا لاستجلاب شارل ألبرت إلى جانبه بتحريك أطماعه، إلا أنه لم يوفق إلى ذلك فكلف حينئذ عملاءه بمهاجمة الملك، وحينما اطلع على الحماسة التي أثارتها في طوسكانه موافقة البابا على تأليف الحرس المدني؛ أرسل مذكرة إلى فلورنسة مهددا الحكومة فيها بالاحتلال فيما إذا هي قررت - بدورها - تأليف الحرس فيها وأرسل صورة من هذه المذكرة إلى بلاط تورينو.
ولولا تهديد فرنسة إياه لكان قد احتل الروماني وقد اضطره إلى التريث تهديد إنكلترا بإرسال أسطولها إلى تريسته وتهديد «جيزو» رئيس وزراء فرنسة بإنزاله القوات الإفرنسية في دويلات الكنيسة، ولكنه عاد فترك جانب الاحتياط وأراد القيام بحركة عسكرية نحو نهر بوتكون بمثابة تهديد لروما، إلا أن زملاءه في الوزارة لم يوافقوه على هذا الرأي فاكتفى بمظاهرة أخرى أقل أهمية من هذه، ففي اليوم الذي قامت فيه جماعة السانفيديست بإيعاز النمسة بمظاهرة ، قوى النمسويون حاميتهم في قلعة «فراره» بقوة عظيمة، ولما رفضت روما دخولهم أرض الروماني رفضا باتا أخذت دورياتهم تتجول في طرقات المدينة، الأمر الذي اعتبره الإيطاليون إهانة من قبل النمسة للبابا ودليلا على عزم النمسة على مناوأة الآمال القومية، فالمعتدلون أمثال دازجيلو وبالبو طالبوا باتخاذ تدابير حازمة، وأسرع الوطنيون أمثال «دي مونتفيدئو» وغاريبالدي الذي شاعت بطولته في العالم الجديد إلى تقديم خدماتهم للدفاع عن البابا، وأدى السخط العام والخوف من الاحتلال إلى انجراف الأمراء أيضا إلى التيار.
أما في بيمونته فقد حام الملك حول حزب الأحرار وأخذ ينشط السياسة الاقتصادية،
الوطنيين، فوافق على دخول كتبهم وجرائدهم إلى مملكته، وساعد أهل تورينو على الاكتتاب في سيف الشرف الذي أريد تقديمه إلى غاريبالدي أثناء عودته، واجتمع هو بالمتأمرين الميلانيين.
ولما ورد خبر احتلال فراره اضطر الوزير «ديلا مارجريتا» نفسه إلى أن ينحني أمام العاصفة وأصبح في غير مقدور الملك أن يصم أذنيه عن سماع نداء الأمة «التي رأت فيه سيفها المسلول» ولما ورد كتاب البابا أجابه بأنه في جميع الأمور لا يفرق بين قضيته وقضية بيوس، ولما اجتمعت الجمعية الزراعية في «كسالة» في رأس سنة العفو الذي كان أصدره البابا عن المبعدين أرسل الملك إليها كتابا مفتوحا قال فيه: «إذا شاء الباري تعالى أن تنشب الحرب في سبيل حرية إيطالية فسأضع نفسي على رأس جيشي لتحريرها.» فأجابه الأعضاء من أهل بيمونته وجنوة ولمبارديه وبارمه بولاء وحماسة، واعدين إياه بالمعونة، وطالبين منه تأليف حرس مدني، وبلغت الحماسة في بيمونته أشدها فاشتركت جميع الطبقات بالتبرعات للقضية القومية.
وفي طوسكانه ولوكا تطور الهياج إلى مطالبة مسلحة بتأليف الحرس المدني، فالثورات التي حدثت بعد ثورة الأيرلنديين سنة 1779 أيدت بأن الثورة التي توفق إلى وضع السلاح بيد الشعب تضمن الظفر بغاياتها بالحصول على المؤسسات التمثيلية.
وقد علم الطليان - وحقا ما علموا - بأن تسليح الحرس المدني يجعل الاستبداد عاجزا لا حول له ، على أن مطالبة الشعب بالحرس الأهلي لم يرد بها الدفاع ضد الاستبداد أو ضد الاشتراكية، بل الدفاع عن الوطن، فإن فكرة وجود شعب مسلح يطرد النمسويين أمامه قد تأصل في النفوس.
وبينما طالبت فلورنسة بالحرس المدني بمظاهرة صغيرة ولكنها عنيفة؛ تلقت لوكا الأمور بجد أكثر من ذلك، وكانت تتعقب حوادث طوسكانه بانتباه عظيم وبينما كان أميرها منغمسا في لذاته وشهواته وحين اعتقال بعض الأحرار المحبوبين اشتد سخط الشعب اشتدادا خشي الأمير عاقبة الأمر، فوافق على تأليف حرس مدني في شهر أيلول.
وفي أوائل تشرين الأول رفض نصيحة دوق مودينه باستدعاء النمسويين وباع حقوقه إلى أمير طوسكانه وخلع نفسه فاضطر أمير طوسكانه الدوق الكبير أيضا إلى الموافقة على تأليف الحرس في دولته، واشتدت حماسة الشعب ولا سيما بين الشباب والشيوخ والرهبان والجنود والأشراف ورجال الدين، ونشرت في لوكا الرايات المثلثة الألوان وأخذت كل مدينة تحتفل بعيد الاتحاد، وسارت القرى في الاحتفال على غرار المدن، فأوفدت من الرجال والنساء والأولاد إلى المدن حاملين أعلامهم وعلى رأسهم راهب القرية يجولون الطرقات صابين اللعنات على المستولي على فرارة.
وزحفت الجماهير في حشد عظيم إلى قصر الأمير صارخة: «فليسقط النمسويون.» طالبين الاتفاق وروما فاقتنع الأمير حينئذ بلزوم استمالة الأحرار المعتدلين إلى جانبه، فأقصى الوزراء غير المرغوب فيهم من الوزارة وعين بدلهم «ريد ولفي وسربستوري»، وهكذا ساعد احتلال فراره كثيرا على إشعال نار الحماسة في الدول الثلاث المتريثة.
وبينما كان أنصار الحكم القديم لا يزالون يشغلون المناصب ويقيمون العقبات بوجه القوانين الجديدة؛ كانت طلبات الشعب تشتد شيئا فشيئا، وأخذت الصحافة تلعب دورا عظيما بحيوية ونشاط أكثر من قبل، وكانت الثورة في ليفورنة ومظاهرات شيشروكيو قد لفتت الأنظار حتى خشي العقلاء أن تنقلب الحركة الإصلاحية إلى ثورة دامية، ولا سيما بعد أن اندلعت نيران الحرب الأهلية في كلبريه.
وكانت الظواهر تدل على أن إيطالية قد اتحدت ضد النمسة وكل شيء يدل على أن الحرب لا مناص منها، فبدأ الهياج في ميلانو وفي فنيسيه، وكان من نتيجة هذا الكفاح العظيم أن اندفع الأحرار في السعي إلى جمع الدول الثلاث في شبه اتحاد، وتطور الاهتمام بالتجارة الحرة إلى التفكير في الاتحاد التجاري أسوة بالاتحاد الجمركي الألماني.
وكان هذا الرأي بمثابة تنبيه إلى مترنيخ بأن مثل هذا الاتحاد سيحمل الحكومات الثلاث إلى انتهاج سياسة قومية موحدة، وحيث إن البابا بيوس كان لا يزال يتألم من الاحتلال «فراره»، فإنه رسم خطة لضمان مساعدة الجيش البيمونتي فيما إذا هدد النمسويون باحتلال الروماني فأوفد «كربولي بوس» إلى تورينو، فاستقبل فيها بحفاوة وصرح الدوق الكبير بأنه لن يبقى مدة طويلة من دون أن يتفق مع روما وبيمونته للدفاع عن القومية الإيطالية، ولقي مندوب البابا معونة من اللورد منتو الذي أوفده بالمرستون، وكان هذا يتحمس للحركة الحرة، لمراقبة الأمور عن كثب.
ومع أن منتو جهر بأن إنجلترا لا توافق على أية تعديلات أرضية إلا أنه شجع الحكومات على السير في سياسة الإصلاحات والاستقلال، وقد رأى أن الملك شارل ألبرت قد انتابه التردد مرة أخرى، وأن حكومته غير متأهبة للحرب وهو لا يزال في قبضة اليسوعيين الذين أدخلوا في روعه بأن الهياج والشغب السائدين في طوسكانه لا بد من سريانهما إلى مملكته فساعد الملك الشرطة على مهاجمة الذين اجتمعوا لإنشاد نشيد روسيني الذي وضعه من أجل البابا بيوس، فكان لهذا العمل وقع سيئ في نفوس الناس، فقدم فيلا مارينا استقالته واضطر بلا مارجريتا إلى تقديم استقالته بعده.
وأظهر الملك التردد لنفسه في موضوع الاتحاد التجاري وكان يرغب أن يكون الاتحاد مطمئنا لرغبات بيمونته السياسي؛ فلذلك اشترط بعض الشروط التي جعلت طوسكانه وروما ترفضان الاشتراك في الاتحاد، وسعى اللورد منتو عبثا لإقناع الملك بعقد معاهدة دفاعية بين الحكومات الثلاث، وبينما كانت المساعي تدعو إلى التفاؤل إذا بالملك يغير رأيه بعد أن عثر على أغنية شعبية بعنوان الملك الثرثار فغضب وعاد إلى موقفه السابق.
وأراد أخيرا أن يهدئ شعبه ببعض الإصلاحات، فقام بالإصلاحات التي تتناول الحكومة المحلية والشرطة والصحة ومراقبة المطبوعات وإحداث دائرة للمعارف، ومنح الحرية المدنية للبروتستان ، وفي زيارته السنوية إلى جنوة طلب أهلها منه العفو عن أنصار مازيني، وطرد اليسوعيين، وساروا في مظاهرة يهتفون فيها «اجتازوا نهر تسينا فسنكون معكم.» وبينما كانوا يهتفون له توهم بأنه سمع بعض الهتافات لمازيني فما كان منه إلا أن أمر بمنع الاجتماعات في المدينة، الأمر الذي ألقى الماء البارد على حماسة الأهلين.
ولما عاد إلى تورينو لم يرق له الظهور أمام شعبه بل ذهب إلى قصره خلسة، ومع ذلك كله فقد ظل على عزمه بمقاتلة النمسا إذا أرادت أن تتقدم، وزاد الطين بلة أن ماتت حينذاك أرملة نابليون دوقة بارمه، وبموجب معاهدة فلورنسة يجب أن تنظم الدوقة إلى دوقية لوكا مع أن هذه الدوقية كانت قد التحقت قبل هذا بطوسكانه، وكان أهل الدوقية يرغبون في الانضمام إلى طوسكانه ولوكا بدلا من أن تقسم ويعطى قسم منها إلى مودينه والآخر إلى طوسكانه لأنهم كانوا ينفرون من حكومة مودينه المستبدة.
وكانت حكومة طوسكانه قد تريثت وتربصت حتى احتلت قوات الدوق
تؤدي إلى دخول طوسكانه الحرب إلا أن الحكمة تغلبت، وعلى الرغم من تهديد دوق مودينه بالانضمام إلى الاتفاق التجاري وبعد مؤتمرات طويلة عريضة وتضايق بالمرستون الشديد؛ أذعن مترنيخ وأمر بسحب قواته من فراره.
الفصل الحادي عشر
القوانين الأساسية
1847-1848
كانت أوائل سنة 1948 تتمخض عن تغيرات في جميع أوروبا فالاضطرابات التي وقعت في هنغارية وبوهيمية في سبيل الحصول على الحكم الذاتي، والنزاع بين الهنغاريين والخرواتيين كان ينذر بانحلال الإمبراطورية النمسوية، أما انعقاد الديت البروسي ونقاشه الحكومة نقاشا عنيفا ثم حله أمورا ساقت جميع ألمانية إلى حركة دستورية عظيمة الشأن، وأضعفت الحوادث في فرنسة شأن لويس فيليب ورئيس حكومته «جيزو» وشجعت الأحرار الاشتراكيين على العمل والاندفاع، وظاهرت إنجلترة نجاح الاتحاد التجاري ضد تشريع الحبوب الذي عده الأحرار في أنحاء أوروبا مثالا حسنا.
وفي إيطاليا عقدت النمسة معاهدات مع دوقيات وادي بو من شأنه أن يجعلها دولة تابعة لها بكل معنى الكلمة ، وكانت بيمونته وطوسكانه وروما من ناحية أخرى قد سلكت سياسة حذر تجاه النمسة، وساد الاعتقاد بألا فائدة من الإصلاحات ما لم يخرج النمسويون من لمبارديه وفنيسيه، وكان في نابولي نفسها قد انضم أحرارها إلى صفوف أحرار إيطالية، وكونت الحوادث اعتقادا في البلاد بأن النمسة سوف تقهر وأن النمسويين سوف يطردون إما بمساعدة دولة أجنبية وإما بانتصار جيوش الأحرار في إيطالية، أو بثورة عامة.
ولم تعتمد إيطالية على المساعدة الأجنبية في ذلك الوقت إلا قليلا، وقد أخبر لويس فيليب شارل ألبرت بإشارة مترنيخ بأنه يجب ألا يعتمد على مساعدة فرنسة، وكانت إنجلترة تعطف كثيرا على إيطالية إلا أن رئيس حكومتها بالمرستون كان يلوح لها بوعود غامضة يبغي من ورائها أن تمتنع بيمونتيه عن الحرب.
وقد اتفق حزب إيطالية الفتاة مع رجال الحكومة في بيمونتية على أمر واحد وهو الكف عن طلب المعونة من الخارج، وعبر شارل ألبرت عن شعور الأمة بقوله: «إيطالية تكون نفسها.» وظن الطليان أن الأمراء والملوك في إيطالية ما عدا أمير مودينه وبارمه سيضمون جيوشهم إلى جيش بيمونتيه في الحرب، ولكن هذا الظن تفاؤل لا يسوغه الواقع.
وصرح البابا في الوقت نفسه بأنه لا يرغب في الحرب مهما كانت الظروف، أما فرديناند ملك نابولي فكان كثير الحسد لبيمونته ومحبذا للاستبداد النمسوي مما يحمل على القول بأنه لن يشترك بالحرب برضائه، وكان أمير طوسكانه وحده مستعدا للوقوف بجانب ملك بيمونته.
واتجهت الأنظار في لمبارديه لأنها ستصبح ميدانا للقتال، وكان اللمبارديون أنفسهم في حالة شبه ثورة يترقبون نشوب المعركة بفارغ الصبر، فالطبقة المثقفة تخلصت منذ مدة شيئا فشيئا من العوامل التي كانت تبعدها عن السياسة، فأسس بعض الأشراف الأحداث مجلة اسمها «مجلة أوروبا» اجترأت أن تبحث عن أخوة الطليان وتفاهة الاضطهاد للقضاء على فكرة الحرية.
وهناك زمرة أخرى أكثر شعبية وأقوى عزيمة التفت حول «كرينتي ودي كتانيو» محرر بوليتيكو، وكان كرينتي قد انتقد معاملة الحكومة للإيالات الإيطالية وأثبت فداحة الحصة التي يشترك بها مواطنوه في ضرائب الدولة، وهناك جماعة من الحقوقيين والدكاترة الشبان قبلت برنامج مازيني القومي.
وهكذا وجد أناس يحملون المشاعل في الدجى الحالك؛ ينيرون أذهان مواطنيهم بنشراتهم وبمؤلفاتهم الحرة وبكتاباتهم على الجدران، وبدعايتهم الصامتة في صفوف العمال والقرويين.
وكان لبيمونته تأثير عظيم في تدعيم الوطنية اللمباردية، وكان القسم الأعظم من أشراف ميلانو يملكون أملاكا في بيمونتية فكانوا يقضون أوقاتهم بين ميلانو وتورينو، ولما نشبت معركة التعريفة الجمركية سنة 1846 فاتح الأشراف ملك بيمونته بأمور استرعت اهتمامه، وكان توريلي قد بحث عن مملكة إيطالية الشمالية وحاول جذب الملك إلى هذه الغنيمة الشهية، وفي صيف سنة 1847 هزت الحوادث التي وقعت في دويلات البابا لمبارديه وفنيسيه هزا عنيفا.
وكان لموقف البابا بيوس في حادثة احتلال فراره والهتاف بالاستقلال صدى في الإيالات النمسوية المضطهدة، وأخيرا بدأ القرويون يتململون في الأرياف، واتفق الأشراف الراديكاليون في المدن، وجهر الرهبان بخلافهم لوجهات نظر الحكومة، وقامت المجالس البلدية تحاسب الموظفين، وازدرى القرويون في الجبال بقانون الغايات، واضطربت الأسرات الشريفة والغنية ضد النمسويين، حتى إن أحد الأمراء النمسويين لم يستطع أن يراقص سيدة طليانية في حفلة الرقص.
ولما مات رئيس أساقفة ميلانو اضطرت الحكومة إلى انتخاب إيطالي خلفا له؛ علها تجلب رضاء الشعب، وقد أدى هذا الانتخاب إلى مظاهرات صاخبة، أظهر الشعب تعلقه بالمطران الإيطالي فقاومت الشرطة بسلاحها الجمهور المسالم الجذل، وأخذت الدوريات تتجول في الطرقات، تعتدي على الأهلين وتزيد من سخطهم، فألهب هذا الحادث قلوب العامة في المدينة وأدى إلى انضمامها إلى الجماعات الصاخبة حتى إن القضاة أنفسهم لم يروا بدا من إخلاء سبيل الموقوفين في هذا الحادث.
ولما تأكدت الحكومة النمسوية من أنها أمام حركة خطيرة أراد مترنيخ أن يلهي أفكار أهل ميلانو بالسماح لهم ببيان ما يريدون وكان «المجمع
Cougragtion » هو المؤسسة الوحيدة في لمبارديه التي تمثل الإيالات، وهو بمثابة مجلس استشاري، فقدم «نزاري» مندوب برعامة استدعاء إلى المجمع يطلب فيه تعيين لجنة تحقيق لمعرفة أسباب الاستياء وتقديم مذكرة إلى الإمبراطور، أما «توماسيو» مندوب فنيسيه فطالب بحرية الصحافة، أما «مانين» فسبق اللمبارديين وطالب بالحكم الذاتي وذلك بالتمثيل القومي الحق، وهكذا لم تتعد الحركة حدود القانون.
وبقيت الحكومة مترددة، بينما كانت الشرطة والجيش يغليان غضبا ويستعدان لصب الزيت في النار، وكان قائد الجيش الجنرال «راديتسكي» نموذجا للظالم المستبد في الجيش النمسوي، وكان يجهر بأن «سفك دماء ثلاثة أيام يوصلنا إلى سلم يمتد ثلاثين سنة.» ولكن نائب الملك وحاكم ميلانو كانا يميلان إلى تدابير أكثر هوادة من تدابيره، وكان راديتسكي يدعو الله أن يهيئ له الميلانيون الفرصة بتصرفهم ليطلب المدد من المركز ويحكم بالقوة الساحقة.
وأخيرا هيأ له الميلانيون تلك الفرصة؛ ذلك أنهم فكروا في الإضراب عن استعمال التبغ إضرارا بالخزينة النمسوية، ولا سيما لأن التضحية به من جانب الطليان ممكنة، وأصبحت الشوارع في ميلانو في أوائل شباط خالية من المدخنين، وعرف الجيش كيف يستغل هذا الإضراب فوزع مقادير كبيرة من السجاير على الحامية، وأخذ الضباط والجنود ينفخون الدخان في وجوه المارة، وحين غضب الأهلون من هذا التحدي أمر راديتسكي خيالته بمهاجمتهم وهم عزل، وأعمل الجنود حرابهم في العمال الراجعين إلى بيوتهم فقتل عدة أشخاص وجرح أكثر من خمسين شخصا.
ولم تقف ميلانو ساكتة إزاء هذه الإهانة، فاحتج الأشراف والموظفون على هذا العمل الشائن، ودعا المطران من الكتدرائية الباري تعالى أن يلهم الحكومة الرأفة بالبشر فأصدر الإمبراطور بلاغا يتهدد فيه الناس بالعقوبة الصارمة، وقضى بهذا على كل أمل في إزالة الاختلاف بين الحكومة والأهلين وأصبح الشعب والجيش على طرفي نقيض.
وقد ولدت فتنة التبغ حقدا عاما في كل أنحاء إيطالية، وكانت الحركة القومية والحركة الإصلاحية قد ارتبطتا برباط واحد ارتباطا محكما حتى أصبحت الواحدة تؤثر في الأخرى فتتحمس الواحدة لنجاح الأخرى أو لفشلها، إلى أن حصر الإصلاحيون مطالبهم بالتعديلات الإدارية، وكان المعتدلون قد اتخذوا مبدأ العمل بمبدأ الأمراء شعارا لهم.
وحتى احتلال «فراره» كان الأمل ضعيفا جدا في الحصول على القانون الأساسي من بيوس أو لئوبولد أو شارل ألبرت، وكان الأحرار قد وحدوا جهودهم في ثلاث مواد، هي: حرية الصحافة، وإيجاد الحرس المدني، وإقامة مجلس للدولة، وقد حصلوا عليها في طوسكانه ودويلات الكنيسة، وكانت الظواهر تدل على أن البلاد رضيت بما تم، وأخذت الحرب ضد النمسة تشغل بال أنصار مازيني في ذلك الوقت أكثر مما تشغله فكرة الحكومة الشعبية.
ويتضح من ذلك أن جميع الأحزاب لم تفكر في الدستور، وأن الاشتراكية النظرية لم تكن قد انبثقت إلا قليلا بينما كان الاستياء الاقتصادي عظيما، وحدث أن جاء الشتاء قاسيا جدا فقضى على كثير من أشجار الزيتون، وأدت حرية التجارة في إنجلترة وأيرلندة إلى جر الحبوب إلى أسواقهم، فارتفعت بذلك أسعار الحبوب في إيطالية وبلغ الضيق في جنوة أشده.
وكان العمال يحملون حقدا دفينا على أسيادهم، وفي فلورنسة ثار الصناع ضد أسلوب تأدية الأجر بالسلعة، وأدى فقدان الخبز إلى كثرة الفتن واشتدادها، أما في طوسكانه فالأزمة أصابت صغار المزارعين والعمال، فأخذ المحرضون - من أي حزب كان - يستغلونهم، وفي الروماني نهب الناس المخابز على مرأى من الشرطة، وكان الناس يعدون هذه الفتن من عمل العملاء النمسويين أو رجال السانفيديست، واتخذت الأمور في ليفورنة شكلا جديا، وكان أهلها الأشداء قد تعلموا من «جرازاني» حب الدمقراطية فامتدت دعايات التحريض والإثارة طول الخريف، واستولى الشعب بعد يومين من فتنة التبغ على المدينة ودعى جرازاني لقيادة الحركة، فاستلم زمامها وأصبح الدكتاتور، بيد أن الحركة لم تلق إلا عطفا قليلا في القسم الباقي من طوسكانه، ولما رأى الناس ضعف الحكومة أخذوا يلحون عليها بتأسيس حكومة دستورية، وأصبح مؤكدا بأن الدستور وحده هو الذي يقلل من عجز القوة الإجرائية.
وساد الاقتناع نفسه في بيمونته؛ حيث كان المحافظون والإصلاحيون المفرطون على طرفي نقيض، وكانت الجمعية الزراعية في خلال السنتين الأخيرتين قد انشقت على نفسها بالنزاع بين الأشراف الأحرار بزعامة «كاميل كافور» والفرع الدموقراطي بزعامة سكرتير الجمعية «فاليريو» وامتد هذا النزاع إلى الشعب أيضا فسعى دازجيلو وفانتي مدبر مظاهرة ريميني إلى إزالة الاختلاف، وبدا للجميع أن الدستور وحده هو الذي يستطيع أن يطمن رغبات البلاد فرفع بالبو بنفسه مذكرة إلى الملك يرجوه فيها أن ينظر بعين الاعتبار إلى هذه الرغبة، إلا أن الاندفاع الحقيقي ظهر من قبل رجل كان الديموقراطيون يعدونه من المعتدلين المكروهين بل وأدعاهم إلى الريبة وهو كاميل كافور.
كان كافور ابن وزير من أشد وزراء الملك شارل ألبرت رجعية، وكان عمره حينئذ سبعا وثلاثين سنة، وكان في شبابه من الراديكاليين إلا أنه أخذ يميل إلى الاعتدال حتى أصبح من أنصار طريقة العقار الإنجليزي والارتباط المتقابل بين الطبقات، إلا أنه كان من الوطنيين الذين يكرهون اضطهاد النمسة والبابا ويحنق على الاستبداد الداخلي الذي عرقل التجارة وعد كل قريحة كفرا أو خيانة وطنية.
وقد ساح كثيرا في إنجلترة وفي فرنسة ورجع إلى بلاده يحمل حقدا على الإكليريكية وإيمانا قويا بالتجارة الحرة وبالحرية الاقتصادية وبالنشاط السياسي السليم، ورغم أنه كان أرستقراطيا بالولادة وبالبيئة التي نشأ فيها وبكثير من العادات؛ فقد أظهر بأطواره وبلباسه كرهه للمظاهر الأرستقراطية كزينة الرتب اعتقادا منه أن الأرستقراطية مائلة للزوال في المجتمع الحديث.
وبالجملة فإنه كان نبيلا، جسورا مثقفا طويل الأناة، لا ينفعل بسرعة حتى قال عنه «كويدن» إنه أقدر رجل عرفه، متحليا بعقل سليم، ومن البديهي أن ينضم إلى الحركة القومية المعتدلة، وكان كافور لا يثق بالبابا المصلح، وسرعان ما آمن بعقيدة بالبو التي تقول بزعامة بيمونته.
ومع أنه خاصم الدمقراطيين في الجمعية الزراعية فإن أنظاره كانت تمتد إلى أبعد من نطاق مدرسة المعتدلين الضيقة؛ فسعى جاهدا إلى تأسيس حزب جديد، يفتح أبوابه لكل من يحارب في سبيل الاستقلال القومي تحت راية آل صافويه، وكان يعلم - بثاقب فكره - أن الدستور ضروري جدا؛ لتأمين حكومة صالحة تفسح المجال للطموح الظاهر كطموحه.
وسرعان ما حانت الفرصة المناسبة، عقيب عودة الملك من جنوة، أدى جزع الناس إلى هياج جديد فاشتدت النقمة على اليسوعيين مما جعل المجلس البلدي يلتمس من الحكومة الموافقة على تأسيس حرس مدني لصيانة الأمن، وقد عزز هذا الطلب بالتماس آخر موقع بتواقيع كثيرة، واجتمع محررو الصحف الكبيرة في تورينو ب «كافور وفاليريو وجياكومو دوراندو وبروفيريو» للبحث في أفضل الطرق لتأييد هذا الطلب، واقترح كافور على المجتمعين المطالبة بالدستور، ومع أن الأعضاء لم يتفقوا على هذا الاقتراح، إلا أن قرار الاجتماع أوضح القضية، وبدا أنه في أول فرصة مناسبة سمع صرخة مدوية في سبيل الدستور.
ودلت الأحوال على أن أول مطالبة قوية مؤثرة قد حصلت في الجنوب، فنابولي كانت من الوجهة النظرية تملك الشيء الكثير مما تطالب به الدول الإيطالية الأخرى، ومع ذلك فلم يكن هناك أمل في أن تدخل النظريات في ساحة العمل ما لم يراقب البرلمان السلطة الإجرائية.
وكانت الأيام قد قوت شهوة الملك للحكم المطلق وزادت في استبداده شكوكه حتى إن اعتبر المعتدلين والديموقراطيين والأشراف والطبقة الوسطى والنابوليين والصقليين خصومه على السواء.
وقد نشر أحد الحقوقيين الشبان «ستمبريني» في شهر تموز الماضي رسالة بعنوان: احتجاج شعب الصقليين «نابولي وصقلية»، وصف فيها الاستبداد وصفا دقيقا قضى على الخرافة القائلة إن نابولي تتمتع بمؤسسات سياسية جيدة، وختم رسالته بالعبارة الآتية: «إن العلاج الوحيد هو السلاح.» وبما أنه قد عبر برسالته عن الشعور العام؛ فإن دعوته إلى الثورة لقيت آذانا صاغية.
وحيث إن اللجنة الثورية في كلبريه قد حاولت - عبثا - أن تجلب أحرار نابولي وصقلية إلى جانبها في سبيل التحرر؛ لذلك قررت أن تعمل وحدها، وفي 1 أيلول شقت رجيو ومسينة عصا الطاعة، إلا أن الحكومة سريعا ما قضت على الحركة وأعدمت حياة سبعة وأربعين رجلا، وكان من تأثير هذا العمل الظالم أن اشتدت المطالبة بالدستور.
وبينما كان الراديكاليون ينزعون إلى القتال للحصول على الدستور كان المعتدلون يأملون أن يوافق الملك على منح الدستور خوفا أو طموحا، وكانوا يرغبون في دستور يقضي بوجود مجلسين، وكان الملك قد تأثر من الاجتماع الذي تم بينه وبين من يمثلون الأحرار ويتكلمون بلسانهم بعد أن لوح له هؤلاء بتاج إيطالية.
وبينما كان أهل نابولي يترقبون مجرى الأمور في غير نشاط قرر أهل صقلية الحركة فوحد «كريسبي» أحد الحقوقيين الشبان حركة التآمر في الجزيرة وفي الساحل، وقد اضطرت لجنة نابولي - شاءت أم أبت - إلى الموافقة على الثورة بالاشتراك مع الصقليين في بداية السنة، فتثور مدينة باليرمو أولا مطالبة بدستور 1812 وبالحكم الذاتي ثم تثور نابولي بعدها لأخذ الدستور نفسه معدلا بعض التعديل.
وبينما كان الناس في باليرمو ينتظرون - بهدوء - شارة إعلان الثورة وإذ بالجمهور يتنكب السلاح ويهاجم الجنود صباحا، ثم انضم القرويون إلى المهاجمين، واشتد القتال في الطرقات واستمر ثمانية أيام كانت فيها الحامية في موقف حرج.
وحاولت الحكومة تلافي الحالة بالتساهل على الأساس القديم؛ أي بمنح الحكم الذاتي وحرية المطبوعات والعفو العام ولكن زعماء الثورة من جميع الطبقات أجابوا بأنهم لا يرضون عن دستور 1812 بديلا، ولما فشل قائد الحامية في مباحثات الهدنة انسحبت فجأة من الساحل، وعبر البحر إلى نابولي، وكانت المدن الأخرى قد ثارت أيضا فلم يبق لحكومة نابولي معقل في الجزيرة إلا قلعة مسينة وثلاثة حصون أخرى.
وكانت الثورة في صقلية فاتحة ثورات هزت أوروبا في ربيع سنة 1848، وكان للجرأة التي أظهرها بضعة رجال في هجومهم على الحامية القومية وانتصارهم العجيب وإسقاطهم الفجائي لحكم آل بوربون؛ تأثير عميق في إيطالية وفي أوروبا، ولم يف أهل نابولي بوعدهم الذي قطعوه لباليرمو لأن «كارلوبوئيريو» أنشط رؤساء المؤامرة كان سجينا فظل الأحرار مكتوفي الأيدي.
وثار أولا قرويو «سيلنتو» وانتشرت الثورة في إيالة ساليرنة، ولما شاع خبر اقتراب العصاة انتشر الذعر في المدينة وتململ الأحرار الضعفاء وارتعد البلاط للأخبار المبالغ فيها، فاضطرت الحكومة إلى إخلاء سبيل «برئيريو» فنشط على إثر ذلك أنصاره للعمل، وأعدوا مظاهرة كبرى لإقلاق الملك، ولما رأى فرديناند ضعف قواته استشار قواده مساء يوم 27 كانون الثاني ثم منح الدستور.
قوى منح الدستور في نابولي عزيمة الأحرار في جميع أنحاء شبه الجزيرة، وأخذوا يطالبون بمثله في كل محل، وكانت بيمونته أول من تأثر بهذا الخبر، وأشار الوزراء على الملك في 2 شباط بمنح الدستور، فكلف الوزراء بوضع لائحة دستور وظل مترددا بين الرفض والقبول.
وأخذ جزع الناس يشتد يوما فيوما ثم صوتت المجالس في تورينو وفي جنوة للدستور، وارتعد قسم كبير من الرجعيين من العاصفة فضموا أصواتهم إلى أصوات المطالبين به أملا من أن ينالوا الأكثرية في مجلس الأعيان، وأشار مجلس الدولة على الملك بالموافقة لأن كل محاولة أخرى ستؤدي إلى حرب أهلية، وارتاح ضميره حين نصحه مطران وطني، وتمت الموافقة على منحه في 8 شباط.
وامتدت الحركة من بيمونته إلى طوسكانه وكانت الحكومة قد أضاعت كل قوتها في مقاومة الشعب، ولم يبق لديها إلا الحرس المدني الذي كان هو في مقدمة المطالبين بالإصلاحات.
وكانت الوزارة بين الأخذ والرد حتى وصلت أخبار فوز الحركة الدستورية في بيمونته فقضت على التردد، وأعلن الدوق الكبير الدستور في 11 شباط.
وبعد فوز الأحرار في بيمونته وطوسكانه أصبح صعبا أن ترفض روما الدستور، ولم يستطع البابا أن ينسى الإهانة التي لحقته في حادثة «فراره»، فرفض الموافقة على طلب الحكومة النمسوية بمرور القوات من ممتلكاته لسحق حركة الأحرار في نابولي، فأذعن للحركة الجديدة؛ إذ مال إلى جانب أشد المعتدلين، وحمى التعليم، ورعى خطط الإصلاحات، ومنح الامتيازات لشركات السكك الحديدية، وكان مازيني قد أرسل كتابا مفتوحا ألح عليه فيه بمسايرة جيله ليؤسس الوحدة الإيطالية، ولكن الأحرار كانوا ينسبون جميع الإهمال إلى الكرادلة الذين ظل البابا متمسكا بهم، فمل الناس الانتظار الطويل، وفقد البابا سحره، وأخذ حبهم له يتضاءل، وأصبحت حظوته لدى الشعب تتوقف على إسراعه في تلبية طلبات الشعب الملحة المتزايدة.
وقد أصر «روسي» على إسراعه في تلبية طلبات الشعب الملحة المتزايدة، وقد أصر «روسي» على البابا بالموافقة على وزارة علمانية وإقامة مؤسسات تمثيلية مهما كان شكلها؛ وذلك لجلب المعتدلين إلى جانبه والقضاء على نفوذ المتطرفين، وسئم المعتدلون الذين يؤلفون الأكثرية في مجلس الدولة معارضة الحكومة لقراراتهم، وأصاب مساعيهم في إصلاح التعليم والإدارة والجيش العقم حتى إنهم بعد مناقشة حادة مع البابا تركوا الميدان، وأفسحوا مجال العمل للمتطرفين وحدهم.
وقد مالت الأمور في بعض أنحاء الروماني إلى الفوضى ووقعت اغتيالات سياسية في بعض الأماكن؛ بحجة القضاء على السنتوريون، وأخذ مازيني على الرغم من الكتاب الذي أرسله يشجع أصحابه على الطعن في البابا، وحين أصبح المجلس مشلول الحركة اتفق الأحرار على تركيز مطاليبهم في القيام بإصلاح داخلي وتعيين وزارة علمانية تستعد للحرب، وكان القوميون المحافظون على أهبة الانضمام للمتطرفين؛ لحمل البابا على تلبية المطالب الوطنية فاضطر بعد تردد طويل إلى الموافقة على تأليف وزارة أكثريتها علمانية، ولكن إرضاء البلاد بوزارة علمانية قد فات وقته.
وأخذت الالتماسات تتوارد من سائر أنحاء الروماني وأومبريه وروما؛ يطالب فيها المعتدلون والدمقراطيون بمؤسسة تمثيلية، وأراد البابا وحكومته المماطلة، ولكن لهيب الثورة أخذ يندلع في فرنسة، وتعاظم هياج الناس حتى أصبح التسويف يؤدي إلى نتائج خطيرة، فأظهر البابا آنئذ ميله للدمقراطية، ووافق على مطالبهم، لكن الكرادلة رفضوا الدستور الذي وضعه روسي وقبلوا دستورا من صنع أيديهم، واتخذوا الألوان الثلاثة راية قومية.
الفصل الثاني عشر
الوثبة القومية
وقد أصبح ميسورا للأمة بعد أن انتهت القضية الدستورية أن توجه جهودها نحو الحرب، وكان لانتصار الثورة في فرنسة تأثير حاسم في أوروبا؛ لأنه دل على أن التوفيق كان يجانب الحركات المناهضة، واعتبرت النمسة خبر إعلان الجمهورية في فرنسة ضربة موجهة إليها؛ لأن الجمهورية في فرنسة ستعطف حتما على الحرب التي تخوض إيطالية غمارها للحصول على حريتها.
وأيقنت النمسة أن فرنسة وإنجلترة ستعلنان الحرب عليها فيما إذا أرادت أن تحتل الدويلات الإيطالية الحرة، وكانت مجزرة ميلانو قد أضرمت نار الحقد في جميع أنحاء إيطالية، حتى أخذ الناس ينظرون إلى المعركة المقبلة بفارغ الصبر، وكانوا يعلمون أن الشارة يجب أن تعطى من قبل لمبارديه أو بيمونته.
وكان كل ما يستطيع أن يقوم به الوطنيون المتحمسون في هذه الفترة أن يحملوا على اليسوعيين أصدقاء النمسويين؛ لأن المعركة إنما كانت بين الاستبداد والدمقراطية، فاليسوعيون كانوا - بطبيعة الحال - في جانب النمسة، وكان جيوبرتي قد ذكر في كتبه أن الاتحاد النمسوي اليسوعي هو أكبر عقبة في سبيل الإصلاحات، وسمى اليسوعيين بالأعداء الألداء لإيطالية.
ولما تأكدت الحكومات في إيطالية من كره الشعب لليسوعيين قدمتهم طعمة لهم؛ لتسكين الهياج، فترك الآباء اليسوعيون جنوة، وكانت حوادث الدستور سببا في الهجوم النهائي عليهم فطردهم أهل ساردينه من الجزيرة، ثم قامت مدينة تورينو وألكسندرية وسبريه بالعمل نفسه.
وهرب الآباء من نابولي ليعودوا إليها متنكرين، ولما وردت أخبار الثورة في فينا طلبت الجماهير في روما طردهم، وعلى الرغم من أنهم علقوا الراية المثلثة الألوان على مبانيهم فإن البابا بيوس حاول أن يحميهم، ثم اضطرت الحكومة أمام العاصفة إلى إغلاق مبانيهم.
أما في لمبارديه فكان أهلها يستعدون للمعركة العظيمة، وأخذ الناس يوالون اجتماعاتهم السرية في أماكن معينة واجتمع آلاف من الناس في الكتدرائية يشكرون الله صامتين على منح الدستور في نابولي.
أما في البندقية فقد صرف الناس النظر عن عيد الكرنفال، وجمعوا الأموال لضحايا فتنة التبع وأوقفت الحكومة توماسو ومانين وأحالتهما للمحاكم بتهمة الخيانة العظمى، إلا أن المحكمة برأت ساحتهما بعد دفاع مجيد، فأودعتهما الحكومة السجن.
ولاح لراديتسكي القائد العام في ميلانو أن العصيان العام والحرب في بيمونته على قاب قوسين، ومع أن قوته كانت تبلغ سبعين ألفا إلا أن نصف هذه القوة كان من الطليان الذين لا يوثق بهم، فأخذ يرسل الرسل تلو الأخرى يطلب المدد، وأخذت القوات تتحشد في غرويجية، وترك نائب الملك والحاكم العام مدينة ميلانو وكان للثورة الإفرنسية أثر عظيم في اندفاع البعض من المترددين، وجعلت القسم الأعظم من الأهلين يفقدون الصبر فبعثوا إلى الملك شارل ألبرت يقولون: «إذا لم تتجاوزوا نهر نسينا فسنعلن الجمهورية.»
وبلغ الاندفاع بالزعماء حدا رأوا معه أن لا يعتمدوا على الملك أكثر مما فعلوا وأن يثوروا في بضعة أيام.
وكانت بيمونته تترقب الحوادث بدقة متناهية، ففتنة التبغ ومجزرة الطلاب في بافية وأمور أخرى؛ كانت تزيد النار اشتعالا، وأصدر دازجيلو رسالة بمصائب لمبارديه، ومع أنه كان من المعتدلين فقد صب اللعنات على النمسة كأكثر المتحمسين تطرفا، وقد تألفت وزارة جديدة برئاسة بالبو دخل فيها «باريتو» زعيم الأحرار في جنوة.
وكان بالبو يميل إلى الحرب ضد النمسة من جهة، ويخاف من مطامع فرنسة في صافويه من جهة أخرى، وبدلا من أن يحشد القواد على الحدود اللمباردية فقد وزعها على أنحاء المملكة، ودعا ثلاثة دفعات إلى السلاح ، وقبلت الوزارة بفتور تكليف طوسكانه وروما بالحلف الدفاعي لتبقى حرة في حركة الهجوم - على ما يظهر - أما الملك شارل ألبرت فعلى الرغم من خشيته مما تؤدي إليه الثورة الإفرنسية ومن الطعن باليسوعيين؛ فقد اجتمع برسل ميلانو وطمنهم بأنه وشعبه سيمشقان الحسام في سبيل نجدة المدينة حين تثور.
وفي 17 آزار وردت أخبار مهيجة إلى ميلانو وتتلخص في أن الحركة في هنغارية قد اشتدت، ووصل صداها الإيالات الألمانية، وأصبحت فينا (معقل الاستبداد) في حالة عصيان، مما اضطر مترنيخ إلى تقديم استقالته، فقد وعد الإمبراطور بحرية المطبوعات وتأليف الحرس الأهلي ودعوة مجالس الدولة في لمبارديه، وشاهد الميلانيون صباح الغد مرسوم الإمبراطور معلقا في الجدران من دون إشارة إلى حرية المطبوعات، وكان الخبر قد وصل قبل ذلك، فبذل الزعماء طول الليل جهدهم لترتيب مظاهرة وهيئوا البيانات، وكان الشعب لا يحتاج إلى مشوقات فقد تأكد من أن ساعة العمل قد حانت فكتب «كاساتي» على المرسوم هذه الكلمات «متأخر جدا.»
واجتمعت جماهير كبيرة من الأهلين برئاسة كاساتي وذهبت إلى دار نائب الحاكم، فقتلت الخفراء ودخلت الدار وأرغمته على التوقيع على المرسوم الذي وضعه رئيسهم، وكان ينص على تسريح الشرطة وتخويل المجلس البلدي حق تأليف الحرس المدني.
وأراد كاساتي أن يتفاهم مع راديتسكي، ريثما يحرك شارل ألبرت ساكنه إلا أن الزعماء الشعبيين رفضوا كل تفاهم لا يتضمن الاستقلال التام العاجل، فهاجمت الجماهير الجنود الذين كانوا يمرون بالشوارع بالآجر والحجارة والآنية، وصبت عليهم الماء أو الزيت الفائر، وهزمت جماعة مسلحة فوجا بكامله، ونهب الناس السلاح من الدكاكين التي تصلح السلاح، وأقاموا الموانع في الطرقات، وقضت بعض القطع العسكرية ست ساعات في معركة حامية؛ لأجل أن تفتح لها الطريق إلى قصر البلدية.
وفي الليل أقام المتطرفون الشبان الذين قادوا الجماهير في النهار مئات الموانع، وفي صباح الغد استمر القتال بعنف، وامتد إلى جميع أنحاء المدينة وبلغ من شجاعة الأهلين وحماستهم أن شابين قاوما سرية يوما كاملا، وقد اشترك في القتال نساء وصبيان، فقتل البعض منهم، وأخذت الكنائس تدق نواقيسها فتشجع المواطنين على الكفاح وتثير الذعر في نفوس النمسويين.
وفتح الأغنياء أبواب قصورهم للفقراء الذين أصبحوا بلا دور ولم تقع أي جريمة ما عدا بعض السرقات الطفيفة، وكان الفقراء يأتون بالذهب الذي وجدوه في خزائن الحكومة وعومل الأسرى بعطف ووضعت الشرطة المكروهة في مأمن.
وبوصول الإمدادات بلغت قوات راديتسكي عشرين ألفا في ميلانو،
على الموقف؛ إذ وهنت معنوياتها بالجوع وبالمطر الشديد، وكانت حادثة الكسوف قد ألقت الذعر في نفوس الجنود من الخرواتيين المعتقدين بالخرافات، وخضع البعض من الجنود الطليان، بينما الآخرون ولا سيما الجنود من موارفيه وبوهيمية؛ قد دفعهم اليأس إلى القسوة فارتكبوا فظائع تقشعر لها الأبدان، حتى راديتسكي نفسه لم يخجل من أن يأمر جنوده بقتل الأسرى من الأهلين، واضطر بعد ذلك إلى إخلاء الكتدرائية، واستولى أهل المدينة على جميع الحصون المحيطة بها فقدر راديتسكي حرج الموقف؛ إذ لو تحرك الجيش البيمونتي بسرعة لقطع عليه خط الانسحاب فاضطر أخيرا إلى طلب الهدنة، إلا أن اللجنة التي استلمت كتابه رفضت شروط راديتسكي بعد أن هب الشعب يطالب باستقلاله وسفك دمه في سبيل حريته.
وأخذ يتوارد على أذهان أهل ميلانو السؤال التالي: هل يجب أن يطلبوا مساعدة شارل ألبرت؟ وكان أكثر زعماء الحركة من الجمهوريين الذين ينظرون إلى مدى أبعد من الاستقلال، إلى عهد الأخوة والإصلاحات الاجتماعية العظيمة الشأن.
وكان «كتاينو» أحد هؤلاء الزعماء يريد أن يحصر الحركة في النزاع بين الدمقراطية الميلانية وبين الجيش النمسوي، وكان يكره البيمونتيين كرها عظيما، وقد أرسلت إلى الملك في ساعات القتال الأولى رسالة استنجاد فجاء الجواب وعدا بالمساعدة فيما إذا وصل إليه طلب من قبل شخصية ذات مقام في ميلانو.
وأصبح الناس في عشية الانتصار، وهاجم المتطوعون الذين هرعوا من مونزه وكرمة وبرغامة الأبواب الخارجية فلم يبق بيد النمسويين في صباح 22 آذار إلا القلعة والحصون، وهاجم أهل ميلانو الأبواب من الداخل واستولوا على أحدها مساء.
ثم استمر القتال طول الليل، وكانت في أثنائه مدافع القلعة تضرب المدينة، وكان راديتسكي قد قرر الانسحاب قبل يومين بعد أن أخذ الجوع والذعر يهددانه، وقد أظهرت الحادثة للعالم أن جماعة غير منظمة لا تملك السلاح في أول أمرها قد هزمت جيشا منظما كامل العدة بعد قتال عنيف استمر خمسة أيام، سميت أيام ميلانو الخمسة وغدت من مفاخر إيطالية.
أما البندقية فقد تخلصت من دون سفك دماء وأعلنت الجمهورية، إذ إنه حين وردت أخبار فينا في 17 آذار استولى الجمهور على السجن وأخلى سبيل مانين وتوماسو، وأدار مانين دفة الأمور بالكياسة التي تقتضيها الظروف، وكان أظهر مقدرة عظيمة كرجل سياسي في قضية مد السكة الحديدية بين ميلانو والبندقية؛ إذ استطاع بلباقته وصلابته أن يحمل السلطة على مد تلك السكة بصورة تلائم الرغبات القومية، وقد أدرك أن دور استعمال الوسائل المشروعة للحصول على الآمال الوطنية قد فات فأصبح الهدف الذي يتوخاه بعد خروجه من السجن هو طرد النمسويين من المدينة بلا سفك الدماء وصيانة أرواحهم إلى حين تأسيس الحكومة.
وكان لدى النمسويين سبعة آلاف مقاتل فضلا عن الأسطول المرابط بالقرب من المدينة، ونصف هؤلاء الجنود والقسم الأعظم من بحارة الأسطول من الطليان والدلماسيين، وقد اضطربت السلطات في المدينة لسقوط مترنيخ ولانقطاع أخبار فيينا عنها، وحدث أن أطلق الجنود الرصاص على الجمهور فدق ناقوس كنيسة القديس ماركوس يدعو الأهلين إلى القيام، ونشرت الرايات المثلثة الألوان، وكان مانين يعرف كيف يعتمد على العامة من أهل البندقية، وكان يقول للذين لا يثقون بهم: «أنتم لا تفهمونهم ومزيتي الوحيدة أني أفهمهم.»
وكان أول عمل قام به أن طلب إلى الحاكم الموافقة على تأليف الحرس المدني، وحين تمت الموافقة كان أربعة آلاف نفس قد انخرطوا في سلك المتطوعين، وبينما كان البعض من الزعماء ميالا إلى قبول الدستور النمسوي الجديد كان مانين وصحبه يستعدون لإعلان الجمهورية بعد أن شجعتهم أخبار ميلانو، وليس في هذا ما ينافي الهدف العام في الوحدة الإيطالية، فستندمج فنيسيه فيها نزولا عند إرادة الأمة.
وفكر مانين في الاستيلاء على دار الصناعة البحرية، وبينما كان يضع الخطة لذلك إذا بالثائرين يتسرعون فيقتلون الحاكم المكروه، فأصبح همه أن ينقذ الموقف قبل أن ينتقم النمسويون، فتقدم بعشرين رجلا من الحرس المدني نحو دار الصناعة، وكان يعلم أنه سوف ينال عطف العمال وأكثر جنود البحرية القائمين على حراستها.
واستحوذ الرعب على الضابط حين رأى رجال مانين واعتداده فسلم إليه مفاتيح دار الصناعة، وهكذا وقعت أعظم دار للصناعة في إيطالية بيد مانين، ثم أذعن النمسويون للأمر الواقع وأخلوا المدينة، وحين غادروها أعلن الجمهورية وأصبح الدكتاتور.
وانتشرت الأخبار في جميع أنحاء لمبارديه وفنيسيه، وانحاز الجنود الطليان إلى المعسكر الوطني في مدينة «أودينو وبالمانوفه وترفيسه وفنيسيه»، وتحررت إيالة فنيسيه تماما ما عدا مدينتي «فيرونه ولجناجو».
أما في لمبارديه فهاجم أهل مونزه وبرغامة الحامية، وبعد قتال عنيف في الشوارع اضطروها إلى التسليم أو الانسحاب، وأخلت حامية بافيه المدينة، وانضمت حامية «بريجتونة» إلى معسكر الوطنيين بسلاحها وعتادها، وهب أهل الجبل في الشمال فاحتلوا المضائق حتى صار القسم الجنوبي من التيرول على أهبة العصيان، وأصبحت قوات النمسويين الساترة المشتتة في الوديان في حالة بؤس، وغدت القوات النمسوية في مانتويه وفيرونه وفي المدن الأخرى لا حول لها ولا طول.
وفيما وراء وادي بو استسلمت «كماكيتو» إلى متطوعي «رافيته»، أما حكومة البابا فرفضت الموافقة على مهاجمة «فراره»، وهكذا لم يبق بيد النمسويين سوى حصن «فراره» والقلاع الأربع في المدن الأربع، وكان للأيام الخمسة صدى رنان دوى في جميع أنحاء إيطالية.
وقد أخبرت بارمه بعد التغلب على الحامية دوقها أن يمنحها الدستور وأن يدخل في الاتفاق التجاري الإيطالي إلا أن ذلك لم يقنع الأهلين، فاضطر الأمير بعد بضعة أسابيع إلى ترك البلاد، وطردت مدينة «بياسنسة» اليسوعيين وأقامت حكومة أهلية، أما في مودينه فهرب الدوق مع الحامية النمسوية على إثر اقتراب متطوعة بولونيه.
أما في فلورنسة فأحرقت الجماهير شعار السفارة النمسوية، وذهب ثمانمائة متطوع إلى الحرب على النمسا، ولما رأت الحكومة أنها لا تستطيع المقاومة أعلنت الحرب، وأعلن الدوق بعبارات طنانة: «أن ساعة البعث الإيطالي قد دقت.» بينما اعتذر أمام النمسويين بأنه لم يفعل ذلك إلا حرصا على سلامة العرش، واجتازت متطوعة بولونيه نهر بو، دون أن تهتم لموافقة الحكومة على حركتها، وتوغلت في إيالة فنيسيه؛ حيث كان روكي الذي هرب من السجن يسعى لجمع جيش من المتطوعة ومن الهاربين من الجيش النمسوي.
أما في روما فذهب ألفان من المتطوعين إلى الحرب بعد وصول الأخبار بثلاثة أيام، وكان جميع الجيش فيها على أهبة الحركة وأخذت المدن في الإيالات ترسل متطوعيها حتى بلغ عددهم في دويلات البابا حسبما قيل اثني عشر ألفا، وأرسلت نابولي متطوعتها أيضا واستعدت الحكومة بعد أن رأت ضغط الناس عليها إلى إرسال ستة عشر ألفا من جيشها النظامي بقيادة ببه، وبعد مضي شهر أرسلت صقلية أيضا قوة صغيرة، وهكذا طغت الموجة الوطنية الزاخرة على إيطالية، وجرفت معها البابا والأمراء ورجال الإكليروس والأشراف والتلاميذ والعمال والطبقة الوسطى كلها والمدن والأرياف.
وانتابت الجماهير نوبة من الحماسة لإنقاذ لومبارديه وفنيسيه من الحكم الأجنبي، فمن الطلاب والعمال الذين تركوا أهلهم ودراستهم وذهبوا إلى ميادين القتال البعيدة لمحاربة العدو واحتمال المصائب، إلى الفتيان الذين تشردوا من المدرسة للاشتراك بالحرب، وأخذ الأحداث في المدارس المدنية يتدربون على أساليب الجندية، فلا القانون ولا الأشغال الرسمية كانت تستطيع أن تحول دون إقبال الشعب على السلاح، وأخذ الناس كلهم يلبون نداء الرهبان الوطنيين ويتبرعون بالمال لينفق في سبيل الحرب.
وقدم الأغنياء ذهبهم وحلاهم، وأعطى الفقراء أثمن شيء لديهم وأخذت الحماسة فتاة من مدينة بولونيه فقصت شعرها وقدمته، وكان الرهبان يباركون الأعلام، وحمل المتطوعون على أكتافهم الصليب وذهبوا للقتال في سبيل قضية مقدسة.
وما أسرع ما لبت تورينو نداء ميلانو؛ ففي اليوم الثاني من الأيام الخمسة امتلأت الطرقات المؤدية إلى الحدود بجماهير النافرين إلى الحرب، وكان كافور يخطب في حماسة بالغة في المجالس الخصوصية وفي العلانية صائحا: «إلى الحرب إلى الحرب، بلا تريث.»
وكان الشرف يقضي على بيمونته بأن تنضم فورا إلى جانب لومبارديه، وقد سنحت الفرصة لشارل ألبرت كي يرضي طموحه القديم، وينتقم من النمسة، ويغسل عار سنوات حداثته، وبرهن حقا على أنه «سيف إيطالية».
وقد كانت الثورة الإفرنسية بمثابة إنذار له فإذا انتظر أكثر من ذلك فقد تعلن الجمهورية في لومبارديه ويتزعزع عرشه، ورغم ذلك فإنه بقي ينتظر وتتنازعه الخشية من مصير هذه العاصفة الدموقراطية، وتدعوه لمؤازرتها والخوف من لوم السياسة الأوروبية واتهام رجالها إياه بأنه اتفق مع الثورة.
وفي 22 آذار تأكد من أن الشروط التي اشترطها على الميلانيين قد نفدت، واطمأن إلى أن حركتهم ليست جمهورية فاتجه عزمه نحو الحرب، وفي المجلس الذي ترأسه كان وزراؤه الضعفاء الحائرون لا يزالون مترددين ولكن الوزيران «باريتو وريجي» من أهل جنوة قالا بإعلان الحرب فورا كما يرى الملك، ولم يستطيعوا إقناع زملائهم بذلك الرأي إلا بمشقة كبيرة، وفي الغد جاء الرسل من ميلانو يحملون بشرى الانتصار، وحمل الملك الوشاح المثلث الألوان الذي أرسلته المدينة، وصرح أمام الجمهور بأنه يقف نفسه في سبيل قضية الأمة، وأعلن بعد يومين من ذلك في ندائه للحرب أنه دائما يقدم مساعدته لشعوب لمبارديه وفنيسيا، باسم الله والبابا وما يبذله الأخ لأخيه والصديق لصديقه.
الفصل الثالث عشر
الحرب
آذار-آب سنة 1848
وبينما كان الملك شارل ألبرت يتأهب للحرب كان القائد النمسوي راديتسكي ينسحب رويدا رويدا على طول طرق لمبارديه للاحتماء بالقلاع الأربع، وكانت الحكومة المؤقتة التي تألفت في نهاية الأيام الخمسة تحرص على حماية الأموال والأملاك وفيها ريبة من أن يكون المتطوعون جمهوريين، وقد اشترك منهم بضع مئات فقط في الحرب، وبقي الآخرون يضحكون على ذقن راديتسكي.
وكان الحكم النمسوي المديد قد جنى ثماره؛ لأن عجز الرؤساء وفقدان فكرة التضحية لدى الجماهير كانا قد دمرا رجولية الشعب، أما في بيمونته فقد قضى الملك وقته في المجالس الحربية، وظل مترددا من أن يخطو الخطوة الحاسمة فأضاع بذلك فرصة قطع خط الانسحاب على قوات راديتسكي.
واجتاز الفيلق الأصلي البالغ من القوة الثلاثة وعشرين ألفا نهر تسينا في 25 آذار، ولم يصل إلى «كريمونة» إلا بعد مسيرة تسعة أيام وكان راديتسكي في أثنائها قد انسحب إلى فيرونه بعد أن تغلب على المتطوعين في الشرق وفي الغرب، وحين التفت حوله الحاميات الأخرى بلغت قواته زهاء ستين ألفا، رابطت في القلاع الأربع «فيرونه - مانتويه - بشييرا - لجناجوا» حتى إذا ما فترت الحماسة القومية استطاعت المفرزات النمسوية أن ترسخ قدمها في الإيالات الإيطالية، وأخذ التلاميذ من أهل فينا الذين هم أسقطوا الحكومة يتطوعون للقتال في إيطالية ضد الحرية.
وكان الجيش النمسوي رغم كونه خليطا من ست قوميات تربطه روح الجماعة، حتى إن أكثر الجنود الطليان لازموا الجيش طول الحرب، وأبرزوا صداقتهم وثباتهم، وكانت قوة الجيش البيمونتي تقدر بخمسة وأربعين ألفا يعسكرون على ضفتي نهر «مينجيو»، وكانت قوات طوسكانه ونابولي ومودينه نحو اثني عشر ألفا تقف أمام مانتويه في أقصى جانبه الأيمن، وهناك أربعة آلاف من المتطوعين في التيرول وكان نحو من ثلاثين ألفا من أهل روما والبندقية ومن الهاربين من الجيش النمسوي في فنيسيه أو على وشك الدخول فيها.
وكانت المدفعية والخيالة البيمونتية تتفوقان على المدفعية النمسوية وخيالتها، إلا أن الجيش النمسوي كان أحسن تدريبا وعدة من الجيش البيمونتي، وكان أكثر قادة الجيش البيمونتي قليلي الخبرة والكفاية.
ظل جيش الملك عاطلا أمام فيرونه خمسة عشر يوما، وكان المتطوعون في أثنائها يتقدمون زرافات، وكانوا مزيجا غريبا من كل الأعمار ومن جميع الطبقات والإيالات، فمنهم شباب من علية القوم، ومنهم طلاب وعمال، ومن الجنود القدماء الذين اشتركوا في معارك نابليون، ومنهم أساتذة كهول وقرويون ونمسويون هاربون من الجيش وقطاع طرق ... إلخ.
وكان باستطاعة الأربعة آلاف الذين يؤلفون جيش الآلبة من متطوعة ميلانو وجنوة وبارمه؛ أن يقطعوا على راديتسكي خط الانسحاب لو ساعدتهم قوة من الجيش النظامي، بيد أن الملك شارل ألبرت أمرهم بالانسحاب إلى برشيه وبارغامه للانخراط في الكتائب اللمباردية الحديثة التشكيل؛ لأنه كان لا يميل إلى إضعاف قوته بإفراز جزء إلى التيرول من جهة؛ ولأنه كان يخشى الاختلاطات الديبلوماسية التي قد تؤدي إلى احتلال التيرول من جهة أخرى.
وظل الجيش يقضي وقته في مناورات لا فائدة منها وبمظاهرات عابثة أمام بشييرا ومانتويه، وكان جنود طوسكانه ونابولي في الجنوب في «كرتانونة ومونتانارة» يراقبون قلعة مانتويه، وطلب أهل فراره من الملك الهجوم على المدينة ووعدوه هم - بدورهم - أن يثوروا، ولما كان الموقف السياسي يتطلب نصرا عاجلا حاسما فإن قوات بيمونته هاجمت سلسلة الروابي، ومع أن الهجوم كان قد نجح فإن الملك المتردد أمر جنوده بإخلاء القرية التي ضبطوها والانسحاب إلى مواضعهم.
وأوشك أن يقع ما كان مازيني يتحاشاه دائما؛ إذ إنه من الصعب أن يترأس أحد أمراء إيطالية الحركة القومية من دون أن يحرك غيرة الأمراء الآخرين، ولا سيما لأن لكل عرش إيطالي مطمحا في الحصول على بعض الأراضي، فلروما مطامح في بارمه وروفيجو، ولنابولي في «أنكونه»، وتطمح طوسكانه وبيمونته في ضم «لونجيانه وماسا كراره».
وقد يطمع شارل ألبرت ولئوبولد في تاج صقلية أضف إلى هذا أن بعض العناصر المهمة في طوسكانه وروما ونابولي كانت تخشى - قبل كل شيء - الالتحاق في بيمونته، ولمخاوفهم هذه بعض الأساس؛ إذ إن رجال الوحدة كانوا يرغبون في أن يروا شارل ألبرت ملكا على إيطالية جميعها، وكان يطلق على هؤلاء الذين اعتنقوا مذهب جيوبرتي وبالبو اسم «رجال ألبرت - الإلبرتيني»، وقد انبثوا بعد نشوب الحرب في لونجانه ومودينه وبارمه وأخذوا يعملون فيها بنشاط، وكان «جنولي» و«بيركت» في فلورنسة و«سابافينة» في نابولي و«ممياني» إلى حد ما في روما يسعون لإقامة مملكة إيطالية موحدة بزعامة آل صافويه.
فلذلك أخذت طوسكانه ترتاب من جانب بيمونته لما أعلنت نابولي
آذار. أما البابا فإنه حاول بعد إعلان الحرب أن يتخلص من تبعته بتمطيط حبل المذاكرات وشاهد أن طوسكانه وبيمونته مستعدتان لها، غير أن باريتو أجاب فورا بأن الحرب تتقدم على كل شيء، وعاضد الاقتراح القائل بالاتفاق الهجومي، فأرسل البابا في 18 نيسان رفضه البات في الانضمام إلى الاتفاق، وبذلك خابت آماله في إيجاد طريقة حل سلمي فضلا عن أن غضبه من ضياع بارمه وشكوكه من مطامع بيمونته في الروماني ومطامع نابولي في المارك شجعت ميله نحو إهمال القضية.
والواقع أنه كان بابا قبل أن يكون وطنيا، ولعله لا يبالي بالاستقلال القومي أكثر من اهتمامه باسترجاع الأراضي التي كانت البابوية تدعيها؛ فلذلك نراه يبارك أعلام القطعان من جهة ويأمر من جهة أخرى قائدها الجنرال جيوفاني دوراندو بأن لا يجتاز الحدود إلا لاحتلال روفيجو التي كان يدعي أنها له، واحتج بشدة على الأمر اليومي الذي أصدره دوراندو للجنود ذاكرا فيه أن البابا يبارك سيوفهم، بيد أنه قال بعد انقضاء بضعة أيام إنه ينحني أمام الحوادث، ووافق على أن تجتاز قواته نهر بو.
ومع ذلك فإن البابا لم يكن يريد أن يذكر اسمه مع اسم شارل ألبرت في صبيحة الحرب الصليبية الجديدة، وأخذت طلبات الانشقاق ترد إليه من الأساقفة الألمان، فأصبح على استعداد أن يضحي بكل شيء بدلا من أن يكون سببا في تضحية الكنيسة على هذه الصورة؛ ولذلك فإنه أعلن في 29 نيسان انفصاله النهائي عن الحزب القومي، وذكر في رسالته العامة أن الحرب ضد النمسة تخالف مبادئ بابا يحب جميع الشعوب وجميع الأمم ويساوي بينها في عاطفة الود.
وقد فقد بذلك نفوذه الشعبي فأصبحت الدولة في يومين أو ثلاثة بلا حكومة، وطلب قسم كبير من الناس استقالة الحكومة الأولى وتعيين حكومة مؤقتة، ثم حاول البابا بعد ذلك أن يصحح خطأه فكتب إلى إمبراطور النمسة يطالب إليه أن يتخلى عن الإيالات الإيطالية، ووعد شارل ألبرت أن يساعد جنوده في الحركة إذا رفض الإمبراطور الصلح.
ولكن حدث بعد رسالة البابا أن خانت نابولي القضية، ولم تكن البلاد في حال تستسيغ معه الحكم الدستوري، لا سيما حين يكون الملك مخادعا والشعب خاملا؛ فالوزارة كانت عاجزة والصحافة بدلا من أن تتصرف إلى تنوير الناس فقد انهمكت في أعمال غير مشرفة.
وأصيبت البلاد بهزات عنيفة حتى تجلى للدهماء أن الحرية لا تجلب الخير، أما القرويون فلم يكونوا ليهتموا بالدستور وإنما كان همهم أن يتقاسموا الأملاك العامة وأن يتملكوا الأرض التي كانوا يرنون بأبصارهم إليها من القديم، ولم يرحب المتطرفون بدستور يستند إلى تصويت ضيق ومجلس أعيان معين .
وقد عبر الوزير المستقيل «ساليستي» عن آرائهم حين طالب بأن يكون حق الاقتراح شاملا، وأن يكون مجلس الأعيان من المنتخبين، وأن تبادر نابولي إلى الاشتراك في الحرب ضد النمسة.
ثم اضطرت الوزارة أمام إلحاح الشعب إلى الاستقالة واستعد الملك للخضوع للعاصفة، فكلف ببه بتأليف الوزارة، بيد أن طلبات ببه كانت أشد من طلب ساليستي، فقرر الملك أن يكافح المتطرفين واختار لرئاسة الوزارة المؤرخ «كارلوتروبه»، ولم ير هذا بدا من التفاهم مع الراديكاليين، وترك البت في موضوع مجلس الأعيان والتعديلات في الدستور إلى المجلس النيابي، وجهر برأيه الصريح في الاشتراك في الحرب والانضمام إلى الحلف، وأرسل كتيبة إلى ميدان القتال في لمبارديه على أن يعقبها ببه بالقسم الكلي من الجيش.
ولم تستطع الوزارة أن تسيطر على الموقف أمام دسائس الملك والموظفين من جهة وأمام الجمهوريين والاشتراكيين من جهة أخرى، وكان الرجعيون على أهبة الصيد في الماء العكر لمناسبة توزيع الأرض ووعظ أحد الرهبان في ساليرنه محبذا الاشتراكية داعيا إليها، فرأى الملك أن الفرصة قد سنحت له.
ونعلم أنه قد فقد شجاعته في الثورة الإفرنسية ومن المحتمل أنه حين أذعن للواقع إنما أراد أن يستغل الحركة ويستجلب الأحرار لاسترداد صقلية وتقسيم إيطالية بينه وبين شارل ألبرت، ولكنه الآن بدأ يمثل دور الخائن فاغتبط حين رأى الفرصة قد سنحت لكي يعود الرجعيون إلى الحكم خوف الناس من الاشتراكية وظهور عجز الحكومة. وقد جعلت الرسالة التي وجهها البابا الإكليروس بجانبهم.
واستعد الضباط والقرويون لتدبير مؤامرة ضد الأحرار، وحين اقنتع الضباط بأن الأحرار يريدون إرسال الجيش إلى الشمال ليتخلصوا منهم أخذوا يتظاهرون ضد الحرب.
لقد جرت الانتخابات وظل القسم الأعظم من الشعب لا يأبه لها، ولم يشترك فيها إلا الخمس ممن لهم حق الاقتراع، وقد أعيد انتخاب الأحرار المعتدلين في كل محل، وسرعان ما بدت للنواب الشكوك حين طلب إليهم خطاب العرش أن يقسموا اليمين بأن لا يغيروا الدستور الحالي، فاعتبروا هذا التكليف نقضا لما تعهدت به الحكومة من إصلاحات اجتماعية ووعدت أن تعرضها عليهم ، وبعد أخذ ورد وافقت الحكومة والملك على حذف تلك الصيغة من النص رسميا، وظل الفريقان على تباين في الاتجاه والميول؛ حيث تعذر التفاهم بينهما.
وقد أخذ المهيجون في كلبريه وساليرنه والبعض من الحرس الأهلي؛ يستعدون للحرب الأهلية، فأقيمت الموانع والمتاريس، وأدرك أولو البصيرة من الأحرار وخامة العاقبة، فحاولوا إصلاح ذات البين، إلا أن الحرس الأهلي أطلق لنفسه العنان مما أدى إلى خوف الملك، فحشد أمام قصره اثني عشر ألفا من الجنود، فلم يبق للأحرار مندوحة عن القتال والنضال، وزحف حرس ساليرنه الأهلي نحو العاصمة ثم أطلقت أول رصاصة ونشبت معركة عنيفة بين الأهالي والجند استمرت من الصباح حتى المساء، وكان الجنود من السويسريين قد قتلوا كل من وجدوا أمامهم ونهبوا كل ما عثروا عليه، فالتهبت النيران وسالت الدماء غزيرة وكان الملك يحرض الجنود من شرفة قصره.
وبينما كان النواب مجتمعين يتخذون القرارات؛ طردهم الجنود من اجتماعهم، واجتمع رجال جمعية اللازاري والرهبان أمام القصر وهتفوا قائلين: «فلتسقط الأمة.» ومعنى ذلك أن جنوب إيطالية تتنكر للقضية القومية، فأرسل رسول إلى ببه يطلب إليه العودة وقد لحق به من بولونيه حين كان على وشك عبور نهر بو خلافا للأمر المعطى إليه.
وبهذا ظل الملك شارل ألبرت يكافح وحده عن القضية القومية، ومع أن تخلف البابا وخيانة ملك نابولي قد حرماه من نجدات جنودهما؛ فإن الموقف كان في مصلحته، ولم يبق أمام الذين يرغبون في وحدة إيطالية والذين يريدون أن يشاهدوا قوى الأمة مجتمعة تخوض غمار الحرب إلا أن يختاروا أحد أمرين ممكنين: الإلبرتية أو الجمهورية، وكان الجمهوريون في هذا الميدان أقلية، تنحصر في بعض الجماعات من الطلاب وبعض العقلاء من عمال المدن، وكان أكثرهم وعلى رأسهم مازيني على استعداد ليترك كل دعاية للجمهورية إذا ارتضى شارل ألبرت أن يتبنى بصدق وإخلاص المنهج القومي الدموقراطي، وقد قوى أنصار ملكية شارل ألبرت أن صقلية قدمت تاجها إلى ابن الملك، وأن حزبا قويا في الروماني كان ينتظر إشارته للالتفاف حوله.
ومما يجدر ذكره أن القوى الشعبية كانت هي المسيطرة خارج إيطالية، ففي فرنسة كانت الجمهورية قوية وفي فينا كان الطلاب على وشك أن يطردوا الإمبراطور، وفي هنغارية وبوهيمية حصل الشعب على الاستقلال الوقتي، وفي ألمانية أخذ مجلس الأمة يؤدي مهمته الدستورية.
ومع ذلك فإن الملك لم يكن من العباقرة الذين ينتهزون الفرص للوثوب، وكان يدير الحركات العسكرية متمسكا بما تتطلبه قواعد الحرب المنظمة المرعية، وقد أظهر بسلوكه مع المتطوعين عدم ثقته بالقوى الشعبية واحتقاره إياها، وأرسل جيوبرتي إلى البابا ينشد عطفه من جديد، وكان شبح الديبلوماسية الأوروبية يقلق بال الملك دائما، فرفض مساعدة المتطوعين السويسريين، وقطع العلاقات الودية التي أسسها الميلانيون مع الهنغاريين، وأضعف شأن الحركة الإيطالية باقتصارها على القسم الشمالي من إيطالية.
وفي شمال إيطالية تجلت قلة الثبات وروح الاستمرار، وأعقب الوثبة القومية دور سكون في لمبارديه، وقد تهدمت فيها دعائم الحكم النمسوي خلال أسبوع واحد، وتجمع عزمها ونشاطها لإملاء الفراغ الذي ولده انهيار الحكومة، ولم تبذل كل جهدها في تأليف جيش لمباردي، وقد اتفق الجميع على ترك القضية السياسية إلى ما بعد؛ إذ كانوا يتوقعون أن تنتهي الحرب في مدة قصيرة، وترجح لهم أن تترك القضايا التي تثير خلافا كالمفاضلة بين الملكية والجمهورية والوحدة أو الاتحاد جانبا وقت الحرب حتى إذا نجحت القضية القومية قالت الأمة كلمتها.
أما الملك فكان همه الوحيد أن لا يعطي أية فرصة للجمهوريين، وأن يضم لمبارديه إلى بيمونته؛ فلذلك أصر على ألا تترك القضية إلى ما بعد، وأن يبت فيها حالا بتحكيم رأي الأمة بالتصويت العام بأوسع حدوده.
وكان الجمهوريون أيضا يميلون إلى تأجيل القضية، وحين عاد مازيني في أوائل نيسان إلى إيطالية وعد شارل ألبرت بمعاضدته ما دامت مطامحه تشمل الوحدة، وكان يرتئي أن أول ما يجب الاهتمام به هو طرد النمسويين، ووعد حكومة ميلانو الوقتية بمساعدته الخالصة.
ومع ذلك كله فإنه كان من الصعب أن ترمى القضية الأساسية ظهرا، وقد أخذ وثاق الأخوة بين اللمبارديين والبيمونتيين يتراخى بتأثير الفشل وخيبة الأمل، وقد استولت الشكوك على النفوس من جراء توقف الجيش البيمونتي.
ولما توغل القائد النمسوي «نوجنت» في فنيسيه زاد قلق اللمبارديين على مصير القطر الشقيق، وراحوا يتساءلون هل هناك خيانة مدبرة كتلك التي وقعت في «كمبو فورميو» سابقا، وكان الجيش يزداد غضبا للإهانات التي توجهها الصحف الميلانية له، فضلا عن أن الجرائد في ميلانو وتورينو أخذت تتبادل الكلمات القارسة.
وكانت الحكومة المؤقتة نفسها على وشك أن تفقد
عن ذلك بسبب البطء في تأليف القوة اللمباردية، مما أدى إلى تثبيط عزائم المتطوعين واضمحلال حماستهم، ولا سيما وقد وضعت على رأسهم قوادا مكروهين، وكان في البلد نحو ستين ألفا من الجنود الذين تركوا الجيش النمسوي، فلم تتخذ التدابير لتجنيدهم، فدخل شهر تموز ولم يبلغ عدد المجندين أكثر من عشرة آلاف.
وكان كل الأمور يدل على ضرورة البت في قضية الانضمام إلى بيمونته، وأنه يجب القيام بعمل يرضي أهلها، وأن الواجب يقضي قبل كل شيء بأن تشترك لمبارديه في الحرب بهمة كبيرة، وهناك عوامل أخرى تدعو إلى ذلك، وإن كانت قليلة الشأن فإنها ذات تأثير أيضا؛ مثل الخوف من جمهورية اشتراكية، وما يسود الناس من الاحترام للملك، وما يطمح إليه الناس من مشاهدة ميلانو مرة أخرى قاعدة لبلاط زاهر.
وكان أكثر الموظفين ولا سيما الجمهوريون على استعداد للتخلي عن آرائهم الجمهورية إذا تم السير نحو الوحدة بشرط أن يكون الحكم دستوريا ودموقراطيا، ضامنا للمبادئ الجمهورية الأساسية.
وبعد التي واللتيا أعلنت الحكومة المؤقتة في أوائل أيار تحكيم الرأي العام في الانضمام أو تأجيل الأمر إلى ما بعد الحرب، وتجاه هياج أهل ميلانو اضطرت الحكومة إلى الوعد بأنه مهما كانت نتيجة التصويت فإن حق الاجتماع وحرية المطبوعات وتأليف الحرس المدني؛ أمور مضمونة.
وجرى التصويت في نهاية الشهر، فأخذ رجال الملك يعملون في الخفاء، وكانت الإشاعات تدور بأنه إذا جاءت نتيجة التصويت ضد الملك شارل ألبرت فإنه سينسحب من الحرب، ودعي جيوبرتي إلى ميلانو؛ ليقوم بالدعاية الملكية أمام دعاية مازيني الجمهورية، وأخذ الناس يغنون أنشودة «شارل ألبرت أو النمسة.» فاستنكف أكثر الجمهوريين من الاشتراك في التصويت، وصوت القرويون أمام رهبانهم والجنود أمام ضباطهم وقوادهم، واشترك في التصويت خمسمائة وستون ألفا، أعني: ثمانية وأربعين بالمائة ممن لهم حق التصويت، وكان منهم نحو سبعمائة صوت يرتئون التأجيل.
وكان إعلان الجمهورية في فنيسيه من قبل مانين قد عقد قضية الانضمام، فمانين جمهوري العقيدة حين رأى الفرصة سانحة أعلن الجمهورية، وكان لا يميل إلى نصف ثورة تستلزم ثورة أخرى لإكمالها، وكان يخشى أن تحول زيادة شوكة بيمونته دون الاتحاد، وكان يحارب كل شعور إقليمي ويدعو إلى الاتحاد ويترك شأن الوحدة الكاملة إلى مجلس الأمة الذي ينعقد في روما.
ومما لا شك فيه أن عمله قد خلق بعض الصعوبات، وقوى الفكرة القائلة بأن على اللمبارديين وأهل جنوة أن يؤجلوا البت في شكل الحكومة إلى ما بعد الحرب، على أن سيطرة حكومته خارج مدينة البندقية كانت وهمية؛ إذ إن نار الغيرة القديمة ضد البندقية قد التهبت.
ومما زاد في الارتباك خبر تقدم القائد النمسوي نوجنت في منتصف نيسان وفقدان وسائط الدفاع، فقررت المدن الواقعة على الساحل «بادويه وفنيسيه وتريفيسه» بموافقة البندقية الإجبارية أن تنضم للمبارديه وبيمونته، وكانت ترجح الانضمام إلى لمبارديه؛ إذ إن كل مواطن من أهل فنيسيه كان يرغب في الانضمام إلى لمبارديه عاجلا أو آجلا؛ وذلك لأن تعلقهم بشارل ألبرت كان قليلا أو معدوما، ولكن مسير نوجنت السريع قد وجههم نحو الملك ليطلبوا منه العون، ولما جرى الاستفتاء العام في 4 حزيران كان النمسويين قد احتلوا ثلاث ولايات من فنيسيه، أما الولايات الأربع الأخرى وهي تريفيسه وبادويه وفنيسيه ورفيجو فأفتت - بأكثرية عظيمة - بضرورة الانضمام بالشروط التي اشترطتها لمبارديه، وهي عقد مجلس تأسيسي ينتخب أعضاؤه بالاقتراع العام، ويتولى وضع القانون الأساسي.
ولما نجح أنصار الانضمام في مدن الساحل وجهوا جهودهم نحو العاصمة «البندقية»، وأخذ البريتون ينشطون ويشترون الأنصار بالمال، زاعمين أن الجمهورية تحول دون الوحدة، وحينئذ تصبح البندقية منعزلة، وكانت هذه المدينة بوضعها البحري المنيع غير معرضة لهجوم العدو المباغت، وظل مانين يعارض في الانضمام حتى إن الحكومة رفضت بادئ الأمر الاستفتاء إلا أنها اضطرت أخيرا إلى الدعوة لانتخاب مجلس يقرر هو مصير المدينة، وقد نجح أنصار الانضمام في هذا الانتخاب بأكثرية ساحقة.
ولما رأى مانين أنه خسر الصفقة فكر في أن يحول دون كل انشقاق، وصرح بما يلي: «انسوا الأحزاب فلم نعد جمهوريين ولا ملكيين وإنما نحن طليان.» وعليه فإن المجلس قد اقترح - بأكثرية تكاد تكون مطلقة - للانضمام الفوري إلى بيمونته، فقدم مانين وتوماسو على إثر ذلك استقالتهما، ورفرفت راية بيمونته فوق القصر.
وبعد أن انتهت قضية الانضمام ظهرت قضية عاصمة الدولة في المستقبل، أتكون ميلانو أم تورينو، وانشق وزراء بيمونته فيما بينهم في قبول شروط الانضمام، وكان المحافظون يخالفونها لصبغتهم الدموقراطية؛ ولأنهم يرون - على الأخص - أن الاقتراع سوف يشمل بيمونته أيضا؛ فمجلس الأمة المشروط انعقاده قد يقضي على العرش نفسه وينقله من تورينو إلى ميلانو، وبذلك تنهار الهيمنة البيمونتية.
وانتهز «باريتو وريجي»؛ أي الأحرار وأهل جنوة، هذه الفرصة للقضاء على سيطرة تورينو وإدماج بيمونته في دولة إيطالية الكبرى، ولم يكن بالبو الرئيس الذي يستطيع أن يسير الوزارة في مثل هذا الجو، فانتقل الجدال من الوزارة إلى المجلس النيابي، وكانت أكثرية النواب من المعتدلين ومن الطبقة الوسطى والأشراف ذوي أخلاق قوية إلا أنهم ينقصهم الاختبار.
وأرادت الحكومة أن تتعهد بأنها لا تنقل العاصمة من تورينو ومعنى ذلك اللعب بالنار وإغاظة لمبارديه ورميها في أحضان الجمهورية الإفرنسية، واستطاع باريتو بمعونة «رتاري» أن يتغلب على المحافظين، فقبل المجلس شروط اللمبارديين بشرط أن لا تمس الملكية بسوء، وقبل قانون الوحدة بأكثرية ساحقة جدا.
ولكن تنفيذ كل هذه القضايا التي نظر فيها المجلس كان يتوقف على أمر واحد وهو التغلب على راديتسكي، ولم يكن الجيش البيمونتي في حالة يستطيع معها التغلب على عدوه من دون أن يكون له حلفاء؛ فقضية الإلحاق أغضبت فرنسة وسويسرة؛ لأنهما لا يريدان أن يريا على حدودهما؛ أي في شمال إيطالية دولة قوية فضلا عن أن ذلك زاد تعنت البابا ونابولي.
وبينما كان شارل ألبرت يجمع الآراء كان راديتسكي يجمع الرجال، فأمده نوجنت بأربعة عشر ألفا من الرجال، وعلى الرغم من مقاومة المتطوعة وبسالة القرويين؛ فإن نوجنت تقدم برجاله في ولايات فنيسيه واستولى على بعضها، وعبثا حاول أهل فنيسيه حث شارل ألبرت على إرسال المدد إليهم أو حمله على أن يأمر قوات روما التي أصبحت تحت قيادته بالتقدم. أما قائد هذه القوات فلم يحرك ساكنا.
وتقدمت متطوعة فراره مع القرويين برئاسة رهبانهم، واشتركت في القتال من دون أن ينجدهم أحد، ولما رأى تقدم النمسويين واقترابهم انسحب إلى فيرونه.
أما الجيش البيمونتي فبقي عاطلا أمام هذه الأحداث، وقد حدث في أثناء ذلك أن هجم الجيش النمسوي بخمسة وثلاثين ألفا على جيش طوسكانه البالغ خمسة آلاف ولكن الآخر استطاع أن يقاوم النمسويين ست ساعات في معركة عنيفة، أظهر الجنود فيها ضروبا من البسالة والجلد مما يدعو إلى الإعجاب.
ولما وصل النمسويون إلى فيرونه وكانت قوتهم تفوق حاميتها التي يقودها دوراندو ضعفين؛ ارتأى هذا القائد؛ حقنا للدماء أن يسلم نفسه وحاميته للنمسويين، وبذلك وقعت كل ولايات فنيسيه الساحلية بيد النمسويين، وتوسع الخرق بين اللمبارديين والبيمونتين، وأخذ أهل فنيسيه ولمبارديه يوصمون الملك بالخيانة ولا سيما حين شاعت أخبار المباحثات السرية التي كانت تجري بواسطة وسيط الحكومة البريطانية، وذلك أن بالمرستون قد بذل جهده لإبعاد شارل ألبرت عن الحرب، وكانت سياسته ترمي إلى عزل فرنسة من إيطالية وإيجاد صلح تصبح فيه إيطالية حرة.
ولما أصبحت فينا وبوهيمية ساحة للشغب من جديد؛ حتمت الضرورة على رجال الدولة في النمسة البت في قضية إيطالية، فأرسلت فينا مندوبا إلى لندن لتوسيط بالمرستون، وكانت اقتراحات المندوب تتضمن منح الحكم الذاتي التام إلى لمبارديه وفنيسيه ولكن بالمرستون لم يرض بهذا الحل.
ولما ثارت فينا مرة ثانية فإن النمسة عدلت اقتراحاتها وقالت بمنح لمبارديه استقلالها ومنح فنيسيه حكما دستوريا حرا، ولكن بالمرستون رفض هذه المقترحات أيضا طالبا أن تترك النمسة البلاد إلى نهر بيافة على الأقل، فلما رأت النمسة باب إنكلترة موصدا في وجهها فكرت في التباحث مع الميلانيين مباشرة؛ للاحتفاظ بفنيسيه، وكان جواب الميلانيين أنهم لا ينفصلون عن شقيقتهم، وكانت الوزارة البيمونتية - على ما يظهر - ما عدا بالبولا تميل إلى التساهل.
وبينما ظلت الحكومتان حكومة ميلانو وحكومة تورينو متمسكتين بعهودهما، فإن الملك كان يستعد في الخفاء لأن يضحي بفنيسيه رغم وعده بأنه لا يغمد سيفه إلا بعد أن يحرر إيطالية، وفي أوائل شهر حزيران كان على استعداد لأن يرضى بنهر أديج حدا، وبعد مضي أشهر رفع القناع واقترح على النمسة خفية عقد معاهدة تجزئة، وأخذت جريدة مازيني تهاجمه بعنف، بينما كان عملاء النمسة ينسفون الأرض بنشاط، أما جرائد ميلانو فكانت تصب اللعنات على الملك والجيش، وانقلب القسم الأعظم من الأشراف في بيمونته حين طال أمد الحرب، وتخلف الإكليروس بعد اطلاعه على رسالة البابا العامة.
أما الطبقة الوسطى فأصبحت تخشى الحركة الاشتراكية، وزادت مشقة القرويين في الحصول على المعيشة، وانتهز الرجعيون الفرصة وأخذوا يبثون نغمة البابا، أما الدمقراطيون فكانوا منصرفين إلى القضايا الاجتماعية أكثر من انصرافهم للحرب.
واستقالت الوزارة وتألفت وزارة أخرى اشترك فيها جيوبرتي، إلا أن البيمونتيين لم يتحمسوا لوزارة تمثل أقطار إيطالية الشمالية فيكون للمبارديين وأهل جنوة الأكثرية فيها، وأرسل جيوبرتي إلى فلورنسة وروما ليستميل البابا والدوق الكبير إلى جانب شارل ألبرت والقضية العامة.
ومهما كانت بلادة رجال الدولة فإنه كان في مقدور البيمونتيين الاستمرار على النضال في عناد وثبات، ولولا عجز القيادة لكان من المحتمل أن ينالوا الظفر، ووردت أخيرا النجدات للجيش النمسوي فأصبح تفوقه عظيما، أما الملك فشتت جيشه على جبهة طويلة حتى أصبح ضعيفا في كل مكان إلى أن خسر معركة «كستوزه» التي جرت في 25 تموز، وانسحب باتجاه ميلانو.
وقد تألفت لجنة للأمن العام في تلك المدينة أخذت على عاتقها تبعة الدفاع عن المدينة، وبذلت جهودا كبيرة فجمعت المال والذخيرة، وجندت خلقا كبيرا من الحرس الأهلي، وقد أظهر أهل المدينة الهمة والنشاط اللذين أظهروهما في الأيام الخمسة، ووصل الجيش البيمونتي إلى المدينة في 3 آب، وكان أول عمل قام به الملك أن ألغى اللجنة وبذلك جلب سخط المدينة.
ولما وصل النمسويون بعدد كبير إلى المدينة، وكان غاريبالدي قد قدم نفسه ومتطوعيه للخدمة إلا أن الملك رفض ذلك، وكان غريبالدي قد جمع ما يقارب خمسة وعشرين ألفا من الرجال من برغامة وبريسيه، وبدلا من أن يقرر الملك الدفاع عن المدينة فإنه أرسل رسله للمذاكرة مع راديتسكي حول تسليم المدينة، ولما شاع هذا الخبر هاج الشعب وماج وهرع إلى القصر الذي يسكن الملك فيه؛ محتجا على عمله هذا.
وقد أضاع الملك قواه المادية والأدبية، وبلغ به العمر إلى درجة أمسى معها خاضعا لكل تأثير، مع أنه وعد بأنه يسفك آخر نقطة من دمه للدفاع، فقد وافق بعد بضع ساعات على نتيجة المباحثات، وفي مساء يوم 6 آب رضي بتسليم المدينة، وأعلن ذلك على الناس فاندفعت الجماهير نحو القصر ترغي وتزيد، حتى إنها أطلقت النار عليه واستعدت لحرق أبوابه، فأخلى الجيش البيمونتي المدينة في الليل، وتركها لرحمة القائد راديتسكي.
الفصل الرابع عشر
معتدلون ودموقراطيون
أيار-كانون الثاني سنة 1848
لقد كان تأثير الانكسار في بيمونته رائعا، وقد فقدت الوزارة الجديدة كل نفوذ، وأصبحت البلاد منهوكة القوى ولا أمل في استمرار الحرب إلا بمحالفة فرنسة، وقد بوشر فعلا بالمذكرة مع باريس، وكان راديتسكي يهدد الحدود، وخشي المحافظون الملكيون من قدوم جيش جمهوري من فرنسة، فتحمل شارل ألبرت مسئولية العمل وخول الجنرال «سلاسكو» التوقيع على الهدنة في 9 آب لستة أسابيع، ولم تقض شروط الهدنة بإخلاء «بشييره» فحسب بل إخلاء دوقية فنيسيه كلها، فما كان من أهل بيمونته إلا أن رفضوا بأجمعهم هذه الشروط التي تعني التخلي عن القضية القومية إلى حين، وقد اتفقت الأحزاب على الترحيب باللاجئين اللمبارديين والاستعداد للحركة القادمة.
وكان من الصعب على فرنسة أن تبقى تجاه هذه الأحداث مكتوفة الأيدي، ولا سيما لأن واجباتها التقليدية تقضي بالاهتمام بالعلاقات بين إيطالية والنمسة، ولما أعلنت الحرب قدمت فرنسة مقترحات خطيرة الشأن إلى بعض الأشخاص مثل مازيني وببه، وطلبت إلى الحكومة تورينو الموافقة على إرسال جيش ترصد عبر جبال الألب، إلا أن الشعور العام في بيمونته كان يعارض بالإجماع كل معاونة إفرنسية، وكان مانين الرجل الوحيد الذي قدر أهمية المعونة الإفرنسية، فطلب إلى فرنسة إرسال أسطولها عبر الأدرياتيك، أما الملكيون فكانوا يرتعدون خوفا من حلف جمهوري، وكان الجمهوريون أنفسهم يميلون إلى أن تحرز إيطالية النصر
1
ويرى أن تدخل فرنسة قد يشجع الجمهوريين في لمبارديه وفنيسيه من جهة ويعينهم على المطالبة بترك صافويه ونيس إلى فرنسة من جهة أخرى.
بيد أن أكثرية اللجنة الإجرائية في باريس كانت ضد التدخل ما لم يطلبه الطليان أنفسهم؛ فلذلك أجاب نداء مانين بوعد عرقوبي، وعلى الرغم من تعهد فرنسة بالمساعدة حين تطلب منها بصورة رسمية فإنها لم تكن على استعداد لتقديمها، ولما خسر الطليان معركة كوستوزه، وفقدت تورينو وميلانو كل أمل في الظفر توجهت إيطالية نحو فرنسة، وشرطت عليها أن تكف عن كل دعاية جمهورية وعن المطالبة بترك صافويه مما سوغ لفرنسة أن تسحب كلامها، فأصبحت المقاومة في الحرب بعد ذلك لا معنى لها، ومع ذلك فإن بعض الوطنيين المتحمسين كانوا لا يريدون الاعتراف بالانكسار.
وكان «كورنتي» وهو أحد الأعضاء الفعالين في الحكومة المؤقتة من ميلانو، من الذين لا يزالون يقولون بالاستمرار في الحرب بالقوات اللمباردية وبالمتطوعين حوالي بريسيه، وكان القسم الأعظم من الجمهوريين يرجعون بأسباب انخذالهم إلى الاتفاق البيمونتي، وكان أكثر المتطوعين قد انسحب إلى سويسرة وبيمونته.
ولما عاد غاريبالدي من «بئونس آيرس» في أمريكية الجنوبية في شهر أيار؛ حاول عبثا أن يحصل على رتبة في الجيش البيمونتي، وكان باستطاعة الملك ووزرائه أن يستغلوا صيت هذا الزعيم وأن يقيموا أهل تيرول ويقعدوهم، إلا أنهم قابلوا طلبه ببرودة فقدم إذ ذاك خدماته لحكومة لمبارديه، فأناطت به قيادة المتطوعين في برغامة.
وبينما كان في مونز يستعد للهجوم على النمسويين اتصلت به أخبار الاستسلام فانسحب مع مازيني إلى أرونة؛ حيث طلبت إليه الحكومة البيمونتية أن يسرح جنوده وأن يترك البلاد، فتأثر كثيرا من هذا الطلب ومع أنه تعهد احترام الهدنة إلا أنه نشر راية مازيني في لوبنو وأعلن الحرب الشعبية، بيد أن راديتسكي وجه إليه قوة عظيمة اضطر أمامها إلى الانسحاب إلى سويسرة.
ثم أرسل النمسويون قوة إلى الروماني واحتلوا بولونيه، فما كان من أهلها إلا أن هبوا للدفاع عن بلدتهم، فهاجموا الجنود في الطرقات بالخناجر وبعد معركة دامية وجها لوجه استمرت ساعتين؛ أثخنوا فيهم وهزموهم.
وكان الموقف السياسي في الإمبراطورية النمسوية قد تحسن بعد أن قضى القائد «وند شجرتسن» على ثورة بوهيمية، وبعد أن حدث اختلاف بين الهنغاريين والصربيين استغله العدو المشترك «النمسة»، وأعلن المجلس النمسوي ولاءه للإمبراطور الذي رجع إلى فينا.
أما في إيطالية فاستعادت نفوذها بالانتصارات الباهرة المتوالية ما عدا في بيمونته وفنيسيه فإن الناس في إيطالية قد أهملوا أمر الحرب، وقد ظهر أن الكفاح للاستقلال هو ناحية واحدة من مظاهر النهوض في إيطالية، أما الناحية الأخرى فهي السعي في طريق التحرر الاجتماعي وقد اغتبط الأحرار المعتدلون بالإصلاحات التي تمت بالانقلاب البطيء الذي طرأ على الحكومة الدستورية على أن الجماهير كانت ما تزال تخضع لما تبقى من استبداد الشرطة، وكانت تتشوق إلى إيجاد مالية شعبية صالحة، وإلى سن قوانين عقارية جديدة، وإلى تعليم أصلح، كما أنها كانت تأمل أن يتم إنجاز الإصلاحات الاشتراعية في بضعة أشهر، وكانت تثق بأن البرلمان كفيل بالقضاء على أساس الأوتوقراطية وبرفع إيطالية إلى مصاف فرنسة وإنجلترة.
وقد عظم نفوذ الأندية في جميع المدن الكبيرة، وكان العمال العاطلون والمتطوعون في الطبقة الدنيا لا يزالون يؤلفون عناصر شغب خطيرة، ومع ذلك فإن الدموقراطيين كانوا أكثر تعلقا بالقضية القومية من خصومهم، وكانوا يصرحون بأن الأمراء خانوا الأمة أو أنهم لم يحسنوا إدارتها؛ فلذلك ينبغي قبل الاستمرار في الحرب أن يتولى زمام الملك من يخلص له.
أما في بيمونته فإن هدنة سلسكو قد قضت على وزارة كسالتي، وأصبحت البلاد مدة أسبوع تدار فعلا من قبل حكومتين؛ أي بينما كانت الوزارة لا تريد الاعتراف بالهدنة كان ريفل مندوب الوزارة يعمل للحصول على وساطة الدول الغربية خلافا لأحكام الدستور ، وكان الملك قد أمر قواته بمقاومة كل تقدم من قبل القوات الإفرنسية.
وتقلد بنيلي رئاسة الوزارة فلم يقبل هو أيضا الهدنة وقرر الاستمرار على القتال بمساعدة فرنسة أو بدونها ما لم تنل البلاد صلحا شريفا، وقد اتصل بالهنغاريين والسلافيين المستائين وشجع تشكيلات اللاجئين اللمبارديين وطلب إلى غاريبالدي أن يستعد، وكان يأمل بأن تؤدي وساطة فرنسة وإنجلترة الودية إلى الحصول على سلم يرضي الوطنيين، وكان قرار الحكومة الإفرنسية أن لا تشترك بالحرب ما دامت النمسة لا تجتاز نهر تسينا؛ ولذلك فإنها لم تأبه للثمن الذي تدفعه بيمونته لقاء الحصول على السلم.
أما بالمرستون فكان يظن أن النمسة ستتخلى عن لمبارديه؛ ولذلك فإنه طلب إلى حكومة تورينو بأن تصرف النظر عن فنيسيه؛ ففعلت، رغم تأنيب الضمير، أما النمسة فقد غرتها الانتصارات وعزمت على أن لا تتخلى عن أي أرض، مع استعدادها لأن تمنح القطرين نوعا من الحكم الذاتي، ودستورا، وقد توافق على أن تأخذ بيمونته دوقية بارمه، أما الحكومة الإفرنسية فبعد تهديداتها التي لا طائل ورائها؛ وافقت على شروط النمسة، وسار بالمرستون إلى حد أبعد من تهديدات فرنسة وأمطر فينا بالموعظات ولكن النمسويين لم يتزحزحوا عن موقفهم.
وكان من تأثير فشل المباحثات أن تقوى حزب الحرب في بيمونته، وأخذ راديتسكي يعذب اللمبارديين باستبداد لا هوادة فيه، ويروى عن روفل المندوب أن قال بأن مملكة إيطالية في الشمال حلم خلاب، وأن بيمونته يجب أن تهتم بنفسها، ونشبت في شهر تشرين الأول ثورة ثانية في فينا، وتخلت الشعوب الإمبراطورية عن نصرة الإمبراطور ما عدا الخرواتيين، فنشطت بذلك آمال بيمونته من جديد، وكان جيشها قد زاد عدده وبلغ خمسين ألفا، وكانت مظاهرات الرأي العام في الأندية والصحافة تساعد جيوبرتي ورتازي في هجومها الصاخب، وكان للمبارديين اللاجئين البالغ عددهم خمسة وعشرين ألفا تأثير نافذ في هذه الدعاية.
أما مدينة جنوة فكانت في شبه ثورة حتى إن الملك نفسه أصبح يتشوق إلى الحرب، فاجتمع بالمتطرفين خلسة، وتآمر معهم على قلب وزارته وتبديلها بوزارة حرب دموقراطية يدخل فيها مانين وبروفيرو، وأخذت الحماسة للحرب تشتد يوما فيوما في بيمونته، وقد حاول بنيلي عبثا تسكينها بتجنيد اثني عشر ألفا من جديد، ولما اقترع المجلس النيابي ضده؛ استقال في أوائل شهر كانون الأول، فاضطر الملك إلى دعوة جيوبرتي.
وكانت طوسكانه أيضا ساحة نزاع بين المعتدلين والدموقراطيين، وما أسرع ما خفت الحماسة للحرب، فاستغل الإكليروس رسالة البابا العامة بمهارة، أما القرويون فانصرفوا إلى موقفهم التحفظي الطبيعي خوفا من التجنيد ومن الضرائب الثقيلة، وكان ريدولفي قد تولى الوزارة في شهر حزيران، وكانت وزارته خليطا من المعتدلين والرجعيين، ولكن كفة الأخيرين هي الراجحة بسبب ممارستهم شئون الدولة مدة طويلة.
ولما كان المجلس يقضي وقته في المعاتبة؛ فإن السلطة الفعلية غدت بيد الدموقراطيين، وكانت الأحوال تدل على أن الدولة سائرة نحو الفوضى، وقد انهار اتحاد الشعب عقيب وصول أخبار كوستوزه، ولما استقالت الوزارة عين الدوق الكبير «ريكاسولي» لرئاسة الوزارة، وكان ريكاسولي هذا متهما دون حق بأنه يرغب في إدماج طوسكانه في بيمونته، من أجل ذلك رفضت الفروع المعتدلة الأخرى التفاهم معه، فظلت البلاد من دون وزارة نحو ثلاثة أسابيع إلى أن استطاع «كابوني» أن يؤلف بين الجماعتين المعتدلتين.
وكان كابوني هذا يمت إلى أشراف فلورنسة، ويتمتع باحترام الجميع رغم تردده، وقد وعد بالاستمرار على الحرب إذا فشلت مفاوضات الصلح، وبذل بعض الجهود لتقوية الجيش، وسعى لعقد اتفاق مع روما وبيمونته، إلا أن القلاقل جعلته ينصرف إلى الأمور الداخلية، وقد استمر القلق والخوف من احتمال احتلال النمسويين، وقد ملأ البلاد الجند الفاقد لمعنوياته والمتطوعون المسرحون والعمال العاطلون، وأخذ الرهبان والأشراف يثيرون الفتن في المناطق الريفية، وسار المتطوعون والمعلمون يلقون الخطب في الأندية لإثارة الحرب الشعبية.
وقد أصدرت الوزارة قانون القمع، وأغلقت الأندية مما أدى إلى سكون مؤقت في البلاد ما عدا ليفرونة، وكانت الثورة قد نشبت فيها إثر شيوع أخبار كوستوزه، وكان كابوني قد تولى الحكم بعد عدة أيام من ذلك، فأوقف «حفازي» الذي عاد إلى البلد رغم صدور الأمر بطرده منها، فثار الشعب وقطع خطوط السكة الحديدية واستولى على مخازن السلاح.
ولما أرسل كابوني الجنود إلى ليفورنة قوبل قراره هذا بالتصفيق، وحاول «سيبرياني» قائد الحامية أن يجرد الجمهور من السلاح إلا أن الجمهور هجم على جنوده وهزمهم، فاضطر كابوني إلى إرسال «جيرازي»؛ ليعيد الهدوء إلى المدينة، واستطاع هذا بسرعة أن يحمل عناصر الشعب على الطاعة، ولم يستطع أن يحول دون إعلان الجمهورية إلا بشق الأنفس، فقررت الوزارة أن تقضي على عش الفساد، ودعت الحرس المدني في طوسكانه إلى الاجتماع في معسكر كبير بالقرب من مدينة بيزة إلا أن القسم القليل منها لبى الدعوة، وكان هذا القليل أيضا على استعداد لأن يتآخى وأهل ليفورنة بدلا من مقاتلتهم، ففشلت بهذا سياسة الشدة ثم عادت المدينة إلى حالتها الاعتيادية بفضل عزم جيرازي إلا أن كابوني رفض الاعتراف به وعين مونتانلي حاكما عليها، ولم يقبل مونتانلي هذا المنصب إلا بشرط أن يمنح الشعب هدفه المحبوب، وهو المجلس التأسيسي الدموقراطي، فأصبح من الواضح أن وزارة دموقراطية وحدها تستطيع أن تبقي ليفورنة في حظيرة طوسكانه، وتعيد سلطة الحكومة إلى القسم الباقي من البلاد، فاستقال كابوني في منتصف تشرين الأول، وفشلت بعده جميع المحاولات لتأسيس وزارة من المعتدلين، فطلب الدوق الكبير حينئذ إلى مونتانلي أن يؤلف الوزارة إلا أن هذا رفض أن يتولى الحكم من دون جيرازي، ومع أن الأمير كان قليل الاستعداد لتلبية هذه الرغبة إلا أن الهياج في ليفورنة وفي فلورنسة ونصيحة وزير إنجلترة المفوض له اضطراه للإذعان.
وكان الرجلان اللذان أصبحت مقدرات طوسكانه في قبضتهما لا يشبه أولهما الثاني إلا قليلا، فمونتانلي رجل ذكي محبوب لسن صريح، إلا أنه كان يجهل أمور الحكومة كل الجهل، وكان المعتدلون يحترمونه، ورجال الإكليروس يعتبرونه الرجل الذي سيحرر الكنيسة الطوسكانية من نير الحكومة، وكان التلاميذ في بيزه والعمال في ليفورنة يحبونه لدفاعه المديد عن الدموقراطية.
أما جيرازي فكان من طينة أخرى، ورغم أنه لم يلعب إلا دورا صغيرا في سياسة إيطالية فإنه كان يعد من أقدر معاصريه، وقد تشبع بآراء فولتير وبايرن، وجد كثيرا في اكتساب قوته، وعركه الدهر؛ إذ دخل السجن ثلاث مرات قبل أن يبلغ الثلاثين من عمره، وقضى كل حياته في جدال مع الهيئة الاجتماعية، وكان مقداما عنودا، وكانت الغاية التي يتوخاها في قصصه إيقاظ إيطالية، وكان يحتقر المضطهد والمضطهد، ويقول: «ليست الحياة سكونا.» وقد هدأ النجاح الذي ناله في آخر أيامه من طبعه وجعله يكره - دائما ومن صميم قلبه - الجدل السياسي.
أما في روما فقد كان سقوط المعتدلين فظيعا، وفي الأزمة التي تلت نشر الرسالة العامة؛ اضطر الحزب الدموقراطي البابا إلى إناطة رئاسة الوزارة برئيس الحزب مميانتي، وقد شرط هذا لقبوله رئاسة الوزارة أن يتولى وزارة الخارجية أحد العلمانيين، كان مميانتي عضوا في الحكومة المؤقتة التي تألفت في بولونيه في ثورة سنة 1831، ولما كان متغيبا في فرنسة برز كشاعر ولاهوتي، ولما عاد إلى إيطالية سنة 1848 اشتهر بين الناس كخطيب وصحفي، وقد أصبح المنهاج الذي وضعه في الإصلاح الاجتماعي المنهاج المقبول في الأوساط الرديكالية.
وكان يرغب في أن يحتفظ البابا بالسلطة الزمنية، ولكي يبقى نفوذ البابا الديني خالصا سالما؛ وجب على البابا بأن لا يشترك في مسئولية الحكم، وعليه أن يقبل بالمبدأ الإنكليزي القائل: «الملك يملك ولا يحكم.» ثم إنه كان من دعاة الاستقلال ومن المتحمسين، ويود أن تساعد روما الحرب القومية بكل ما يمكن، وأن لا يقبل المفاوضة مع النمسة ما دام لها جنود في إيطالية، كما أنه كان من أنصار الاتحاد وقد اتهمه خصومه بأنه يرغب في إلحاق الروماني ببيمونته.
عنى مميانتي - قبل كل شيء - بإصلاح الحكومة المحلية والمصالح المدنية، ثم انصرف إلى الأمور الاجتماعية وعمل على تأسيس وزارة للإسعاف العام ومهمتها حماية البؤساء وتعليمهم، ورأى أن المصلحة فيما يخص التعليم تقضي في تلك البرهة التساهل مع الإكليروس، وذلك بالسماح لفتح المدارس الحرة على أن يتولى الرهبان دراسة الدين فيها، وكان منهجه الاجتماعي يتضمن المساواة الاجتماعية التامة وحرية التجارة وحرية التملك وفرض ضريبة متزايدة بنسبة الدخل، والعناية بالسكك الحديدية وخطوط البرق والإسعاف والصحة العامة. وكان القيام بهذه الإصلاحات صعبا بين بلاط خصم لها وشعب نفد صبره، ولو كان صلبا لاستطاع أن يحمل البابا على التساهل إلا أنه كان يسعى لجلب رضاء البابا.
ومن الأمور التي لا يمكن للبلاط البابوي أن يسمح لها أن تترك المخابرة مع سفراء البابا بيد وزير علماني؛ لذلك لم يف البابا بوعده لوزيره الأول وعين لوزارة الخارجية كردينالا، وقد أذعن مميانتي لهذا آملا بأن يظفر بموافقة البابا على منهجه الإصلاحي.
على أن قضية الحرب كانت موضوع جدل عنيف بينه وبين البابا حين لم يكن البابا فاقدا استعداد العطف على الحماسة القومية، ولما فرق النمسويون حرمة أراضيه في أواخر شهر حزيران، اعتزم إعلان الحرب.
ولو قبل باريتو الحلف لتشجع البابا وأمر مميانتي بتعبئة الجيش، إلا أن باريتو رفض اقتراح الحلف مما جعله مرتابا من مطامح بيمونته أكثر من قبل، وكان يشعر بأن دخول بابا في الحرب أمر فظيع، وحاول مميانتي عبثا حمله على قبول المبدأ القومي.
وكان بيوس لا يريد أن يقبل نظرية مميانتي الآتية: «إن الباري تعالى قد قدر أن تعيش الأمم مستقلة بعضها عن بعض؛ بسبب اختلاف لغاتها وجنسياتها وعاداتها.» وقد أضاع المعتدلون نفوذهم كقوة سياسية، وقد أدت الرسالة العامة بإضعافها لنفوذ البابا المعتدل في حركة الحرية إلى تقوية الدموقراطيين، ومع أن القسم الأعظم من الدموقراطيين كان يسير وراء مميانتي إلا أنه كانت توجد فئة متطرفة تسعى لإقامة جمهورية تكون عبارة عن حكومة مؤقتة.
وكان الانفصاليون في الروماني أقوياء؛ لذلك لم يستطع مميانتي أن يقوم بالإصلاحات التي عزم عليها بسبب العراقيل التي وضعت في طريقه، وشعر أخيرا أنه أضاع مركزه، وكانت أخبار الهزيمة في كوستوزه ضربة قاضية عليه.
وتولى الحكم بعده فايري، وهو من رجال المؤامرة القدماء، شريف النفس وطني، وكان طاعنا بالسن، وقد اتخذت الوزارة الجديدة خطة مميانتي بشأن الحرب إلا أنها لم تستطع أن تحمي بولونيه من عدوان النمسويين وعدوان عصابة المجرمين بعد انسحابهم منها، ثم قطع البابا آخر علاقته بالحكم الدستوري وأجل المجلس النيابي ودعا بيمونته ونابولي وفرنسة إلى حمايته من النمسة ومن رعاياه، ولما لم يثق بفايري اضطره للاستقالة وعين بدله سفير فرنسة السابق في روما «بليجرينو روسي».
وكان روسي محاميا وأستاذا في جامعة بولونيه، اشترك في حركة موراث، ونفي إلى سويسرة، ثم أصبح بعد ذلك أستاذا في كلية فرنسة في باريس، وكانت دروسه جلبت انتباه «جيزو» رئيس وزراء فرنسة، فأرسله سفيرا إلى روما سنة 1845 للمفاوضة بشأن إلغاء المؤسسات اليسوعية.
وكان روسي قوميا ومن رجال الإصلاح ويشارك الأحرار في كثير من وجهات نظرهم، وكان يساير الحركة الإيطالية ما دامت ترمي إلى الاستقلال، وكان يشعر بضرورة وجود حكومة جريئة قوية في روما تضرب بشدة عناصر السوء في الدولة، واهتم بالقضية القومية اهتمام مميانتي.
وكان قد نشر مؤلفا في الصيف نصح فيه البابا بخوض غمار الحرب، وحينما تولى منصب الرئاسة وعد بتجديد السعي في قضية الحلف واقترح تقوية الجيش، بيد أنه كان يشارك البابا في شكوكه المتأصلة ضد بيمونته، وأدى اندفاعه في مدح البابا إلى تحفظ تورينو ففشلت مفاوضاته مع بيمونته بشأن الحلف.
وكانت سياسته الداخلية ترمي إلى الإصلاح المعقول في الأمور الاقتصادية والإدارية، وقد أظهر عزما قويا في إصلاح الإدارة المتفسخة وفي الخطوط البرقية، وسعى لإنجاز مشاريع السكك الحديدية، وكان يحتقر المحاورات الصاخبة والمناقشات على ألسنة السياسيين في أروقة المجلس النيابي.
وقد هدد روما بالاحتلال العسكري وآلمت تصرفاته غريبالدي، وقد أسلم اللاجئين السياسييين إلى فرديناند ملك نابولي، وكثر خصومه حتى اعتبره الإلبريتون من أعداء الشعب، ونقم منه الموظفون الذين ساقهم إلى الشغل، والإكليروس الذي زاد ضريبته، والأشقياء الذين أخمد حركتهم واضطرهم إلى الإخلاد إلى السكينة، وهكذا أخذت تصرفات الاحتجاج تزداد ضده يوما فيوما مما أدى إلى انهياره.
الفصل الخامس عشر
الدموقراطيون في الحكم
تشرين الثاني 1848-شباط 1849
أظهرت الحوادث استحالة الوقوف أمام التيار الدموقراطي الجارف، ولم يستطع روسي أن يوطد دعائم الهدوء بالقوة؛ فالشعب كان لا يفتأ يطالب بالحرب، وقد شاع أن البعض كان يعد عدة مؤامرة لإقامة جمهورية.
وفي بولونيه نظم الدمقراطيون صفوفهم بقيادة جفازي، وكان زوكي قد جردهم من السلاح؛ لارتيابه بعلاقتهم بغاريبالدي، أما رجال الإكليروس فكانوا يرجون المعونة الأجنبية، وأما المتطرفون فكانوا يناضلون للحصول على مجلس تأسيسي يقضي إلى انهيار نصف عروش إيطالية أو جميعها، فاضطر روسي أمام هذه الحوادث أن يجلب قوات إلى روما.
وكان زوكي قد أرسل كتابا إلى روكي يقترح عليه فيه بتشتيت شمل وطنيي الروماني بالقوة أو القضاء على كتيبة غاريبالدي بالرصاص، إن هذا الكتاب وقع في أيدي البعض ونشر فأحدث تأثيرا سيئا، وبينما كان روسي في طريقه إلى المجلس النيابي هدده الجمهور حتى إذا ما صعد السلم اغتالته يد مجهولة، فوجه الرأي العام التهمة إلى الدمقراطيين، إلا أن هؤلاء أسندوها إلى اليسوعيين الذين اعتادوا مثل هذه الاغتيالات.
وتلقت روما هذا الخبر بدون اكتراث، ولم يترك روسي أصدقاء؛ فلذلك رأى الدموقراطيون والرجعيون في موته فرصة مناسبة لينشط كل فريق كل منهم في العمل لمبادئهم، بيد أن الدمقراطيين كانوا أسرع إلى الاستفادة من الحادث؛ ذلك أن المجلس النيابي تخلى عمليا عن العمل، وترك روما في قبضة نادي الشعب، وهذا استطاع أن يعيد النظام في الطرقات تماما.
وتلا ذلك قيام مظاهرة عظيمة اشترك فيها الجنود والمدنيون وعلى رأسهم ضباط ومواطنون ممتازون، سارت إلى قصر الكردينال في 16 كانون الثاني، وطلب المتظاهرون إلى البابا الموافقة على المنهج الدموقراطي.
وكان البابا كلف قبل ذلك «جليني» وهو من رؤساء الدموقراطيين تأليف الوزارة إلا أن الجمهور أصر على أن يتعهد البابا - قبل كل شيء - بالعمل الإيجابي حسب المنهج الدموقراطي، ولكن البابا رفض الإذعان، وقد حاول جليني عبثا أن يقنعه، ولما فشل في ذلك استعرض الجمهور أسلحته النارية؛ ليحمل البابا على القبول، ولكن الحرس السويسري الساخط على هذه التهديدات أطلق بعض الطلقات فكانت دليل التصادم.
وكان الجند الأهلي والحرس المدني بجانب الشعب، فوجهوا نيرانهم نحو القصر وقتلوا أسقفا وظل البابا مصرا على عناده ووعد بأن يترك أمر المنهج الشعبي إلى قرار المجلس، وكلف ستربيني وهو أكثر رؤساء الدموقراطيين تصلبا وأقلهم خبرة في شئون الدولة تأليف الوزارة، فاعترف المعتدلون بعجزهم وانتهزوا الفرصة للتخلص من المسئولية في مثل هذا الظرف العصيب، وكان تركهم المجلس سببا في حادث كان من الخطورة بمكان؛ إذ أصبح البابا جزوعا يود الإفلات من مدينة تسود فيها الثورة، وفي ليلة 24 تشرين الثاني هرب من روما متنكرا والتجأ إلى مملكة نابولي؛ حيث خصصت قلعة «جايته» الواقعة على الحدود مقرا لبلاطه.
وشعرت مدينة روما بأن اضطرار البابا إلى الهرب يمس سمعتها، وضاعف منفاه عطف الناس عليه وخفف من الغلواء هذه، فما كان عليه إلا أن ينتظر قليلا حتى تفتح له روما أبوابها، إلا أنه - لسوء حظه وحظ البابوية - أسلم نفسه إلى حاشية سوء، وحاول المعتدلون والحكومة الإفرنسية عبثا دعوته إلى بولونيه أو إلى مارسيلية، وآثر - كما يبدو - أن يظل أسيرا لدى فرديناند وألعوبة بيده، وقد وقع تحت نفوذ الكردينال أنطونلي المتزايد الضار.
وقد اندفع البابا في سياسته الرجعية العمياء من دون هوادة، ومما شجعه على موقفه هذا وعوده بالمساعدة التي قطعتها جماعات عديدة في فرنسة وبلجيكة وأيرلندة وسويسرة، حتى أصبحت قضية البابا فجأة من القضايا الأوروبية الخطيرة الشأن، أما إسبانية فكانت وجهة نظرها تتلخص في أن البابا أمير روحي، فيجب أن يكون تحت حماية جميع الأمم الكاثوليكية بطبيعة الحال.
وقد اقترحت عقد مؤتمر دولي للبحث في القضية البابوية، ورضيت نابولي والنمسة بهذا الاقتراح، وكانت الأخيرة تأمل أن تجعل من البابا - على الأقل - حليفا سلبيا ضد بيمونته، وأدرك جيوبرتي خطورة الأمر فارتأى رأيا جديدا لبقا؛ إذ أعلن أن بيمونته لا تؤيد أي مشروع يرمي إلى أن تبت الحكومة الأجنبية في الشئون الزمنية لدولة إيطالية وأنها هي بصفتها دولة إيطالية من حقها أن تتدخل، وقد سعى جيوبرتي لإصلاح البين بين البابا وأهل روما وضمه إلى الحلف الإيطالي بتقديم ملجأ له في مدينة «نيس» والتدخل بالقوة لإعادته على رأس دويلاته.
ولقي جيوبرتي تعضيدا من الحكومة الإفرنسية في مقاومة الفكرة النمسوية الإسبانية، ولم يكن في مقدور رجال الدولة الإفرنسية الثورية إلا أن يشجعوا أحرار روما، وحينما أراد البابا أن يفصل عن الأحرار طلب إلى «كفياك» وزير الخارجية الإفرنسية أن يحميه ضد النمسويين في الخارج وضد الدموقراطية في الداخل ورفضت الحكومة الإفرنسية أن تتدخل بينه وبين شعبه، وأخيرا لما تخلى البابا عن الأحرار وأخذ يتملق للدول الرجعية لم يسع فرنسة أن تستمر على جعل نفسها حامية له ومدافعة عنه ضد النمسة.
وقد رفض «كفيناك» ولويس نابليون التدخل ما دام شخص البابا في أمان، وكانت مهمتهما لدى بيوس بدون نتيجة، ولا سيما لأن سياسته كانت تميل إلى قبول حماية النمسة وإسبانيا والتخلص من قيود الحكم الدستوري، وفي شهر كانون الأول كتب إلى «ابنه الأعز» أي إلى إمبراطور النمسة طالبا منه المساعدة.
وقد زادت قضية البابا في الطين بلة وأظهرت تفاهة قيمة ضم الدول بعضها إلى البعض الآخر، وظلت القضية في نظر المعتدلين والدموقراطيين عبارة عن العمل لجمع القوى القومية لأجل تجديد الكفاح في سبيل الاستقلال.
ولما كان باريتو في الحكم كان همه أن يجعل بيمونته غير مقيدة بأي تعهد تجاه الدول الأخرى؛ ولذلك فإنه رفض كل محاولة في هذا الشأن، ولما تولى كسالتي الحكم كان قد أرسل روسميني بتأثير من جيوبرتي لفتح باب المفاوضة مع روما من جديد، وعهد إليه أن يعرض على البابا امتيازات واسعة لم تعهدها الكنيسة في بيمونته مقابل انضمامه إلى الحلف.
وكان البابا قد مضى فوعد جيوبرتي أن يتولى شارل ألبرت على إيطالية الشمالية إذا انتصر وكان لا يزال حينذاك إيطاليا مخلصا يرغب في أن تطرد النمسة شريطة أن لا يتهم هو بإعلان الحرب على دولة كاثوليكية، وكانت روما وفلورنسة مستعدتين للتوقيع على مشروع لا يتضمن إعداد جيش اتحادي فحسب بل اتفاقا جمركيا وتشريعا مشتركا أيضا.
ولكن حينما تولى بنيلي الحكم عادت بيمونته إلى عزلتها السابقة، ولو انعقد الحلف لأدت الحرب القومية التي نشبت في الربيع الذي أعقبها إلى نتيجة أخرى، ولما كانت جمهورية في روما ولا كان ارتجاع في فلورنسة حتى، ولا احتلت روما من قبل الإفرنسيين، ولكان الحكم الدستوري قد استقر في طوسكانه ودويلات الكنيسة، وربما في نابولي أيضا، ولكان لقاء ذلك مجلس الاتحاد ساحة تنافس على الأرجحية بين نابولي وبيمونته وللجأ كل منهما في سبيل ذلك إلى مظاهرة الاتحاديين، ولأصبح الكفاح في سبيل جعل السلطة الزمنية رمزا.
ولما أدرك بعض الدموقراطيين - وعلى رأسهم مميانتي وجيوبرتي - عاقبة تشتت القوى؛ أخذوا يسعون إلى اتفاق يجمع القوى للحرب، وكان المؤتمر الاتحادي الذي توفقوا لعقده في تورينو في 10 تشرين الأول محروما من الصبغة الجريئة لجمع الراديكاليين أو لتنشيط سير الحكومات.
أما الدموقراطيون الطوسكانيون الذين كانوا في الحكم حينئذ فقد رجعوا إلى مشروع مونتانلي القائم بقيام مجلس تأسيسي إيطالي ينعقد في روما وينتخب أعضاؤه بالاقتراع العام، وتكون مهمته الوحيدة الاستعداد للحرب في سبيل طرد النمسويين حتى إذا ما تم ذلك يكون إلى البت في مستقبل البلاد السياسي، وتختار الأمة الملكية أو الجمهورية والوحدة أو الاتحاد.
وقد نسي مونتانلي أن الدموقراطيين كانوا حينئذ ضعفاء جدا وفاقدي التنظيم، حتى إنهم لا يستطيعون أن يملوا إرادتهم على الحكومات ما عدا طوسكانه وروما، فضلا عن أن الدموقراطية في بيمونته لم تكن تهتم بالوحدة كثيرا، ويظهر أن مونتانلي كان يميل إلى قيام حكومة اتحادية قوية تمنح كل دولة في الاتحاد حكما ذاتيا بأوسع حدوده، ومع ذلك فلم يكن ما يحول دون أن يكون المجلس جمهوريا أو قائلا بالوحدة، مما حدا بفرديناند وشارل ألبرت إلى الاعتقاد بأن الموافقة على الاقتراح المذكور معناه انهيار عرشهما.
ولما بدأ مونتانلي في مذكراته للعمل المشترك أخذت صعوبات الاقتراح تظهر بجلاء، وكان جائزا أن يتفاوض مع «جرازي» لاجتذاب بيمونته ونابولي إلى المشروع وإغرائهما بتقسيم دويلات الكنيسة إلى ثلاثة أقسام، بيد أن بيمونته رفضت الموافقة على أي تنظيم خارجي أو داخلي يقيد حرية عملها في موضوع الملكية في شمال إيطالية.
والواقع أنها كانت تفضل أن لا تشترك الحكومات الأخرى في الكفاح إلا قليلا؛ حتى تحتكر هي ثمرات الانتصار؛ فلذلك كان جواب بنيلي لمونتانلي: «يجب علينا الآن أن نقصر اهتمامنا على موضوع الحرب، لا المجالس التأسيسية.» ولما رأى جيوبرتي أن المفاوضات طالت بلا جدوى قدم اقتراحا جديدا يتضمن الاتفاق على أسس لا يمكن لطوسكانه أن تقبلها، ولما رأى مونتانلي تقلب بيمونته أخذ يسعى لقيام مجلس تأسيسي من قبل طوسكانه وروما من دون انتظار الدول الأخرى.
وكان يأمل هو وجيرازي إمكان اندماج الدولتين المذكورتين في دولة قوية تقوم في المركز بفضل وطنيتهما التي تقل أنانية عن وطنية بيمونته أو نابولي.
وجد مونتانلي أهل روما على استعداد للنظر مبدئيا في اقتراحه، وبينما كانت العناصر المعتدلة والدموقراطية في حالة ضعف في بيمونته كان الدموقراطيون في روما - مثل زملائهم في طوسكانه - هم الفائزين، وقد شل هروب البابا حركة الدولة، وأخذت روما تسير نحو الجمهورية، ولكن روما هذه من دون البابا شيء لا يتصوره العقل، فخروج الأغنياء وفقدان المراسم الدينية قد جردا المدينة من مظاهر أبهتها وبعثا القلق في نفوس سكانها، حتى إنه لما وصل غاريبالدي إليها في شهر كانون الأول لم يلق فيها الحفاوة اللازمة.
وكان قسم من الحرس المدني على استعداد لأن يكون في جانب البابا إذا ارتضى بقيام حكم دستوري، وكانت في الحين ذاته فئة قد اعتزمت أن تعارض أي تفاهم مع البابا، وكانت صحافة المتطوعين والشرطة والقسم الأعظم من الحرس المدني بجانب هذه الفئة وقد أدت الأعمال الرجعية في «جايته» إلى رد فعل نشط دعاية المتطرفين.
وأخذ الشعب يعتنق - بالتدريج - فكرة استقلال جديدة، وأخذ مع ستريني يفضل أن يرى روما عاصمة إيطالية بدلا من أن تكون عاصمة الكثلكة، وأخذ عملاء مونتانلي وغاريبالدي يتظاهرون في الأندية داعين إلى خلع البابا خلعا نهائيا.
وكان مميانتي زعيم الأكثرية في المجلس النيابي، ومع أنه كان يصر على فصل السلطة الزمنية عن السلطة الدينية؛ فإنه لم يكن يوافق على اقتراح يركن إلى تدمير سلطة البابا، وكان زعيما المعارضة «سترييني وكارلو بونابارتة» وطنيين غير متطرفين.
وكانت مقاومة الموظفين الرهبان السلبية قد شلت السلطة الإجرائية، فأخذت ضرورة تأليف حكومة قوية مهما كلف الأمر؛ تبدو للعيان يوما فيوما، وأخذ أنصار البابا ينتهزون الفرصة لإعلان العصيان.
وبينما كانت النمسة تهدد الشمال كان أهل روما أنفسهم لا يدرون أيعدون فرنسة من أصدقائهم أم من أعدائهم، ولما رأت الروماني أن شارل ألبرت لا يشجع حركة الانضمام إلى بيمونته أخذت تطالب بحكومة تهدئ البلاد وتحميها من رجال الإكليروس والنمسويين، وقد قرر المؤتمر الذي اشتركت فيه أندية الروماني تأييد فكرة انتخاب مجلس تأسيسي بالاقتراع العام يبت في مصير الدولة.
وحمل الدموقراطيون هذا الاقتراح إلى روما فتحزبت جمعية «جونتا» له، وبينما كان المجلس على استعداد لأن يقترع ضد الاقتراح قررت الحكومة حل المجلس، وعلى إثر ذلك استقال مميانتي فتألفت وزارة برئاسة الأسقف الدموقراطي موزاريلي، وحاول زوكي الذي لم يعد يثق بالحكومة أن يسوق معه حامية بولونيه إلى «جايته»، فلم يسر معه أكثر من مائة جندي إلى الحدود.
وأظهرت الانتخابات التي جرت في شهر شباط قلة أنصار المعتدلين، وكاد يصبح المجلس مؤلفا من طبقة الزراع والصناع من أهل دويلات الكنيسة لولا وجود مازيني وغاريبالدي وخمسة آخرين، وقد اجتمع النواب في 5 شباط وتباحثوا فورا في القضية الدستورية، وكانوا يترددون في اختيار شكل الحكومة، وكانت فئة صغيرة قد فازت في الانتخابات على أساس برنامج جمهوري، وكانت الوزارة على استعداد دائم لاستدعاء البابا إن رضي بإقصاء أنطونللي وضمن قيام الدستور، وكان مميانتي معارضا للجمهورية لأسباب دستورية من جهة؛ ولأن الجمهورية تقيم عراقيل في سبيل الاتحاد من جهة أخرى.
أما مونتانلي فاستعمل نفوذه للحيلولة دون أي قرار لا يفوز برضاء الأمة بأجمعها، ويظهر أن إيطالية لم تتحمس للجمهورية إلا قليلا؛ فطوسكانه مترددة وبيمونته ملكية بينما كانت فنيسيه وصقلية لا تثقان باتفاق روما، أما حركة الارتجاع الملكية في نابولي فكانت هي الفائزة، بيد أن المتحمسين كانوا يتوقعون أن يؤدي إعلان الجمهورية من أعلى الكابتول إلى تحمس الشعب الإيطالي في جميع أنحاء إيطالية وينفخ في الأمة نشاطا عظيما ويغلب العروش الأخرى.
وبعد أربعة أيام من اجتماع المجلس التأسيسي أعلنت الجمهورية بمائة وعشرين صوتا من مائة واثنين وأربعين، ثم أعلن المجلس إلغاء السلطة الزمنية البابوية، وعرض على البابا ضمانات للتمتع بامتيازاته الدينية فقط.
وقد تأثرت سياسة طوسكانه بالاندفاع في روما، وكانت وزارة مونتانلي وجيرزاني تتمتع برضاء عام حتى إن خيرة المعتدلين كانوا على استعداد لمنحها ثقة كبيرة، وكان منهج الوزارة يتضمن إصلاح الاعتماد المالي وتنظيم الجيش والحرس المدني وتطهير الإدارة من العناصر الفاسدة والعمل على استتباب الأمن العام.
وحاول جيرازي تأليف الشرطة وإلغاء التسول وإقصاء المتذمرين وغير اللائقين من المتطوعين، ولكن تنفيذ المنهج لقي صعوبات كبيرة حتى أصبح العمل متعذرا، حاول جيرازي عبثا تنظيم الأعمال وأخذ المعتدلون المتشددون يضعون العراقيل أمام الحكومة، أما الدموقراطيون المتطرفون في فلورنسة فأخذوا يحملون على الاقتراع الضيق، ولما رأى جيرازي كثرة الشعب عليه سعى لتأديب مثيري الفتن، بيد أنه لم يكن لديه أية قوة واعتبره الدموقراطيون خائنا، وفي 10 شباط اجتمع المجلس وكانت أكثريته من المعتدلين، ومع أنها أكثرية قليلة إلا أنها كافية.
ووعد خطاب العرش بإقامة مجلس لطوسكانه وحدث بعد إحدى عشر يوما أن أعلن المجلس النيابي في روما نفسه مجلسا تأسيسيا لجميع إيطالية، فرأى الدموقراطيون القوميون فيه مجلس نواب إيطالي، وفرصة سانحة لجمع طوسكانه وروما في دولة أخرى واحدة، وكانوا يعلمون أن النواب الرومانيين يجعلونهم يكسبون أكثرية دموقراطية لا يستطيعون أن ينالوها في بلدهم، فطالبوا بأن ترسل طوسكانه ممثلين عنها إلى روما، وكان جيرازي قد ضمن مخالفة الأمير للاقتراح بواسطة أخي السفير الإنجليزي، واغتبط المعتدلون لهذه الفكرة وأذعن مجلس الأعيان للفكرة.
وكان الأمير يتردد في الاشتراك في قرار من نتائجه أن يحرم البابا من سلطته الزمنية؛ ولذلك فإنه كي يتخلص من ضغط الرأي العام الإفلورنسي عليه وليكسب الوقت الكافي للاطلاع على أخبار البابا؛ أجل التوقيع على القانون، وفي 3 شباط ترك فلورنسة بحجة تافهة وذهب إلى سيفه، ولما لحقه مونتانلي لحمله على العودة أبدى ارتياحه نحو الوزارة ونيته في العودة، ولكن في اليوم الذي وصل مونتانلي إلى سينه استلم الأمير كتابا من البابا يلح عليه أن يترك البلاد.
وكان راديتسكي شرط عليه أن يترك البلاد ليبادر إلى نجدته حالما ينتهي من أمر بيمونته، فهرب إلى الميناء الصغير «سانتو ستفانو» الواقع على حدود دولته الجنوبية، وأعلن للطوسكانيين بأنه فر؛ لكيلا يوقع على قانون يجر عليه الحرمان الديني.
ولما شاع الخبر في فلورنسة تظاهرت الجماهير داعية إلى خلع الأمير، وطلبت إلى المجلس بأن يقرر تأليف حكومة مؤقتة وبالفعل فإن المجلس بزعامة كابوني وريكاسولي قرر بالإجماع إناطة مهمة تأليف الحكومة بجيرازي مونتانلي ومازيني.
وقد أيد الدموقراطيون هذا القرار لأنه خطوة نحو الجمهورية، ورأى فيه المعتدلون الوسيلة الوحيدة للحيلولة دون الجمهورية، وقد أبرق جيرازي إلى ليفورنه نبأ خلع لئوبولد، وأرسلت الأوامر إلى الإيالات لتجنيد المتطوعين والتعاون مع الأندية، ولما وصل مازيني إلى ليفورنه استطاع بصعوبة أن يقنع المدينة بأن تكف عن عزمها على إعلان الجمهورية، ولكن وجود الأمير في سانتا ستفانو قد شجع المخلصين له وجميع عناصر الشعب الذين استفادوا من اسمه فأحرق عمال السكة الذين سبق فأخرجوا من العمل محطة أمبولي، وسعى القرويون بالقرب من فلورنسه إلى اقتحام المدينة، فقوبلوا بالقوة، ويعود الفضل إلى جيرازي في إنقاذ طوسكانه من الحرب الأهلية.
وأعد مازيني في 18 شباط اجتماعا آخر وتظاهر الجمهور حينئذاك لتأييد الجمهورية والوحدة مع روما، وقد قبل جيرازي بعد جدال عنيف مع مازيني القول باسم الحكومة المؤقتة بالجمهورية، وفي اليوم التالي أصدرت الحكومة المؤقتة بيانا أشارت فيه إلى الجمهورية التي عادت إلى دارها بعد 318 سنة.
أما الأمير وقد أصبح يرزح تحت عبء الخيانة فظل مترددا ولا يعلم فيما إذا كان ينبغي له أن يرمي بنفسه إلى أحضان بيمونته لتساعده أم أنه يؤجل سير القضية القومية فيرجع نادما إلى حضيرة هبسبورج، وقد احتج أولا على القرار زاعما بأنه لم يفكر قط في ترك الدولة، ثم قبل تكاليف جيبورتي بالمساعدة وتداول معه في خطة تؤدي إلى دخول القوات البيمونتية.
ولما ألح عليه البابا وفرديناند بأن يدع بيمونته وشأنها وأن يلجأ إلى نابولي أبحر إلى جايته، ولما فشلت حركة لوجيه لم يلق أي مساعدة من الأهلين وانفض عنه رجاله وقبل أن يصل جيرازي ببعض المتطوعين والجند النظامي هرب الأمير إلى بيمونته، وبذلك قبلت طوسكانه بأجمعها الحكومة سواء أكان ذلك طوعا أو كرها.
الفصل السادس عشر
نوفاره
كانون الثاني 1848- أزار 1849
وقفت بيمونته من الحركة الجمهورية في إيطالية الوسطى موقف الخصم، لاحظ الأحرار فيها أن الطوسكانيين والرومانيين ضحوا بالقضية القومية الكبرى على مذبح نزعاتهم السياسية، وقد أقام جبيورتي في تورينو للاشتغال بالسياسة، وكان يرى أن إيطالية في الظروف التي كانت تجابهها تحتاج إلى الضبط أكثر من حاجتها إلى الحركة، وأن الملكية كانت في إبان سطوتها في بيمونته، فكل حركة جمهورية إنما تسبب انقسام البلاد تجاه العدو.
وقد برزت لياقته في كل حادث، مما دل على أنه كان سياسي عصره الأوحد في دولة بيمونته، وكانت آراؤه السياسية قد طرأ عليها تعديل منذ ألف كتابه بريماتو، وقد اعتقد بعد صدور رسالة البابا العامة أن البعث القومي لن يأتي أبدا عن طريق البابوية، وأن بيمونته هي المنقذ الوحيد، وأدرك أن شعور الكراهية الذي يسود إيطالية الوسطى للإلبرتيين من شأنه أن يجعل الاتحاد لا الوحدة هي الخطوة الممكنة في تلك الظروف.
وإذا كانت الفكرة القومية تقول بمنع الأجنبي من التدخل في شئون سلطة البابوية الزمنية أو في تقرير مصير إيطالية؛ فإن الفكرة ذاتها تبيح لكل دولة إيطالية التدخل في شئون الدولة الإيطالية المجاورة؛ فلذلك يقضي الواجب القومي على بيمونته بأن تستخدم نفوذها في التوسط بين الدول الإيطالية المتخاصمة، وإذا اقتضى الأمر فعليها أن تتدخل بالسلاح.
وكانت معركة الانتخابات في كانون الثاني حامية الوطيس، وقد انتخبت إيالة صافويه فوجا ذا بأس من المحافظين المتشردين، وخسر المعتدلون المعركة في كل الأنحاء، وكان القسم الأكبر من الأكثرية الدموقراطية من الرجال الجدد؛ أي من صغار المحامين في الإيالات، ومن اللمبارديين اللاجئين، ومن الرهبان المتطرفين الذين يدعون إلى الاستمرار على الحرب وغيرهم ممن كانوا على استعداد لتأييد جيوبرتي.
وسرعان ما فترت العزائم حينما صرح الوزير الأول فجأة أنه لن يشترك في المجلس التأسيسي في روما، وقلق أولو البصيرة من الدموقراطيين من ذلك رغم امتعاضهم من سياسة إيطالية الوسطى، وأخذت الثغرة بين بيمونته وبين إيطالية الوسطى في الاتساع.
وكان موقف جيوبرتي موقف الانتهازي المحدود الفكر ؛ إذ كان يرتئي بأن الوحدة لا يمكن أن تتم الآن وأن الواجب يقضي بالانصراف إلى الإصلاحات العظيمة الشأن، وإلى تدعيم وتقوية الحكومة الدستورية وفكرة الاتحاد.
وبانجلاء موقفه هذا تجاه المجلس التأسيسي انقطعت كل صلة بينه وبين الدموقراطية ولا سيما بعد أن صرح بأنه لم يشترك في المجلس التأسيسي؛ لأن الاشتراك فيه يسيء إلى الأمراء والبابا. وبموقفه هذا؛ أي بقطع صلاته بجمهورية روما قضى على كل أمل في الاتفاق مع إيطالية الوسطى.
لقد ظن جيوبرتي أن إعادة الدوق الكبير إلى الحكم بالسلاح البيمونتي قد يؤدي إلى تسخير جميع قوات طوسكانه في سبيل الحرب؛ لأن حدودها تصلح لأن تكون قاعدة ذات فائدة عظيمة للحركة ضد الجانب النمسوي، وكان في سبيل هذا الغرض على استعداد لأن يسحق برجله كرامة الطوسكانيين ومن دون أن يخبر الملك، ولعله من دون أن يخبر زملاءه أيضا كتب إلى الدوق الكبير يعرض عليه إعادته إلى العرش بقوة السلاح، ولما لم يوفق إلى ذلك اضطر إلى الاستقالة في 21 كانون الثاني.
ويظهر أن النمسويين كانوا عازمين على أن يكبتوا الشعور القومي في لمبارديه وذلك على إثر الانتصارات في شهر آب، وقد اشتد استياء الأهلين وتوترهم أكثر من قبل والتجأ آلاف من اللومبارديين إلى بيمونته وسويسره، أما الذين بقوا في البلاد فقد خاضوا غمار معركة صامتة ضد السلطة، ذلك أن مجالس الإيالات رفضت إيفاد نواب عنها للمجلس الإمبراطوري في فينا.
وحيث إن الحاميات العسكرية القومية قد استطاعت أن تحافظ على الأمن ولو ظاهرا فإن راديتسكي عزل الحكام المدنيين وأجل الحكم الدستوري الموعود، وفرضت ضرائب باهظة لتسديد نفقات جيش الاحتلال وأصبح الشخص الذي يحمل السلاح في ميلانو عرضة لعقاب الموت.
وقد قتل بعض الناس رميا بالرصاص أو جلدا لهذا السبب، فلم يشاهد في هذه الظروف في أزقة ميلانو إلا جنود ومتسولين، وكانت خطة راديتسكي ترمي إلى معاقبة الأغنياء واستجلاب الدهماء لاستخدامهم في النهب، ولكي ينكل بالطبقة النبيلة في ميلانو ليغيظها فإنه فرض غرامة نقدية، عشرين مليونا من الليرات على مائتي شخص من هذه الطبقة، ولما لم تدفع هذه الغرامة صادر كثيرا من أملاكهم وأموالهم.
ولم تؤد هذه الأعمال إلا إلى إثارة حقد جميع الطبقات، وأصبح الشعور السائد في جميع أنحاء لمبارديه ضرورة الثورة في أول فرصة يمنحها اللمبارديون إخوانهم الطليان، وكانت الرغبة في الخلاص من الحكم النمسوي تجيش في صدور جميع الإيطاليين من أحرار ودموقراطيين؛ إذ كانوا جميعهم يحقدون على استبداد راديتسكي.
بيد أنه لم يبق أثر للثقة ووحدة الشعور اللتين كانتا تسودان سنة 1848، فذكر الانكسار الحديث والشعور أخيرا بشوكة النمسويين أبعدا الرجل المتردد عن الميدان وجعلا الرجل المتيقظ يتربص وينتظر.
وقد فقد الدموقراطيون كثيرا من حماستهم ونفوذهم لضعف عزيمتهم وكفايتهم، وحالت الاختلافات دون توحيد مساعيهم مع المعتدلين ومع أن أكثرية الأمة الساحقة كانت قومية النزعة من صميمها كما كانت في السنة الماضية إلا أنها لم تعد تتحمس لقضية الاستقلال حماستها الأولى، فالحسد بين الدول المختلفة والمخاوف من التوسع البيمونتي ونقمة الكنيسة؛ كانت عوامل تحول دون تكاتف القوى القومية، حتى إن المفاوضات المؤيدة في سبيل عقد الحلف لم تنجح كما أن المجلس التأسيسي لم يوفق إلى توحيد طوسكانه وروما.
أما نابولي فبقيت منعزلة، وكانت صقلية تهتم بحكمها الذاتي أكثر من اهتمامها بالوحدة الإيطالية، وانصرفت فنيسيه إلى مشاكلها الخاصة بها، لا تثق ببيمونته ولا بالمجلس التأسيسي.
وأصبحت بيمونته لا تستطيع أن تعتمد على أي مساعدة إيطالية في الحرب المقبلة كما أنه لا أمل لها في مساعدة الأجنبي، ورغب لويس نابليون في أن يحارب في جانب بيمونته إلا أنه لم يجد وزيرا واحدا يقول برأيه، كما أن باستيد وبالمرستون قد أساءهما رفض بيمونته التفاهم مع فينا، فعليه يتضح أن بيمونته سوف تضطر لأن تقف وحدها في وجه الإمبراطورية النمسوية العظيمة.
ومع ذلك فإن بيمونته حين أيقنت أن الاستمرار على الحرب أمر لا بد منه أظهرت شجاعة فائقة كانت تتصف بها، ولما استقال جيوبرتي وتولى الجنرال «جيودو» رئاسة الوزارة بقي جميع وزراء جيوبرتي في الوزارة الجديدة، وكانت جنوة تلتهب حماسة للحرب، وكانت مدينة نيس إيطالية الشعور شأنها شأن بيمونته.
ولم يكن في المجلس النيابي من لا يتحسس للحس القومي الإيطالي سوى نواب صافويه حتى إن بيمونته نفسها لم تعد تسودها تلك الحماسة العامة التي أقامت البلاد وأقعدتها قبل سنة، فالرهبان الذين ساروا على خطة البابا في ترك القضية أخذوا يستعملون نفوذهم في التأثير في القرويين الفقراء في بعض المدن.
وازدادت قوة الجيش حتى بلغت ثمانين ألفا، إلا أن بعض الكتائب كانت مؤلفة من المستجدين أو من المتزوجين الذين كانوا ينتظرون حين العودة إلى بيوتهم بفارغ الصبر، وكان الملك قد ترك قيادة الجيش، ولما فشلت المساعي للحصول على قائد إفرنسي اختير الجنرال البولوني جرزرانوفسكي قائدا للجيش، وكان قد برز في الحروب واشتهر بصداقته للحرية.
انتهت الهدنة في 12 أيار، ولكن الجيش البيمونتي كان منتشرا على طول أنهر تسينا وأوليجيو وبو، واجتازت فرقة مارمورا مضيق سيزا لإشعال الثورة في لمبارديه، وكان القسم الأكبر من الجيش بين «نوفاره ومورتاره»، وبينما كان البيمونتون قد شتتوا قواتهم - كما رأينا - كان راديتسكي قد استعد لإنزال الضربة القاضية، فبعد أن ترك حامية ضعيفة في ميلانوا جمع خمسة وسبعين ألفا في بافيه وشرع مساء يوم 20 آذار باجتياز نهر تسينا.
وبعد معارك استمرت يومين اضطر الجيش البيمونتي إلى الانسحاب، فقرر جرزانوفسكي الاستعداد للمعركة أمام نوفاره بقوة لا تتجاوز الخمسين ألفا، وعلى الرغم من أن الفرصة كانت سانحة للوقوف أمام الجيش النمسوي الذي كان يطارد الجيش البيمونتي ببطء وحذر، فإن المعركة التي نشبت صباح يوم 23 آذار واستمرت إلى المساء قد خسرها الجيش البيمونتي بسبب جهل القيادة وسوء التدبير في التموين، وقد اشترك الملك في المعركة مستهدفا للموت، ورغم الانكسار أراد الاستمرار على القتال إلا أن قواده رفضوا ذلك فاضطر إلى طلب الهدنة.
ولما اشترط راديتسكي شروطا ثقيلة تأباها نفسه تخلى عن الملك واجتاز خطوط النمسويين متنكرا في طريقه إلى منفاه القصي.
الفصل السابع عشر
شباط 1848-أيار 1849
ظلت نابولي في السنة المنصرمة منعزلة عن الحركة الوطنية، وكان كرياتي الذي تولى الوزارة بعد الارتجاع رجلا ذا هدف ومطمح إلا أنه كان ضعيف الإرادة جدا؛ فلذلك ظل بوزيلي العضو النافذ في الوزارة، وأخذ كرياتي يدير دفة الدولة بين الكاماريلا «الجماعات الذين ساعدوا الملك على حركة الارتجاع» وبين البرلمان، همه الوحيد الاحتفاظ بمنصبه الذي رفعه من فقر مدقع إلى ثروة طائلة، وأصبح ألعوبة بيد الملك أيضا.
ومع أن البرلمان قد حل قبل أن يجتمع، فقد صدرت الأوامر بانتخاب مجلس جديد وظلت الصحافة حرة، لكن اليسوعيين عادوا إلى المسرح كما ظهرت الشرطة القديمة في الميدان ومنعت الاجتماعات العامة، وكانت البلاد قد بوغتت في 15 أيار، وكان أغلب الناس في اضطراب شديد لا يستطيع معه العمل، وأنه حنق للحوادث التي جرت في نابولي ولاستدعاء «ببه» إلا أنه كان لا يزال يميل للاعتقاد بقسم الملك، وأن شارل ألبرت سوف ينتصر لا محالة، أما البلاط فلم يجرؤ على إقامة الدستور.
وكانت الإيالات الجنوبية مستقلة عن نابولي بصورة عملية، وكانت الثورة تتمخض فيها وفي نواحي جبال أبروزا، إلا أن فقدان الأسلحة وقلة الثقة المتقابلة حالا دون قيام الإيالات بعمل مشترك، وتركت كالابريه وحدها ترفع راية العصيان، والتحق آلاف من الناس بجيش الثورة، وانضم إليها موظفون من جميع المناصب، ودلت قلة الجرائم وإسراع الناس إلى تأدية الضرائب على أن البلاد كانت مجمعة على الانقياد للحكومة الثائرة، وكانت تحتاج إلى قائد مثل غريبالدي يقضي على عدم الثقة والحسد اللذين برزا للعيان وبسببها رفضت القوة المرسلة من صقلية البالغة 600 شخص الحركة مع الكالابريين.
وقد انتهز الملك الفرصة وساق ثمانية آلاف من الجند إلى إيالة كالابريه، واقترفوا فيها من المظالم ما أفزع الأهلين وأخمد حركتهم، ولما حل الخريف ورغب القرويون في الذهاب إلى أهلهم ولأجل الحصاد؛ اجتاح قائد الجند تلك الإيالة المسكينة وشجع القرويين على نهب أموال الأحرار وساق الرؤساء الأسرى إلى برج جايته.
وأظهرت الانتخابات التي جرت تمسك الناخبين بالأحرار، ففاز الأعضاء القدماء في جميع الأنحاء، وتجلى في نابولي شعور البلد الحانق، وكان الامتعاض سائدا بين الوطنيين حتى خلت المراسح والمقاهي وقوطع الضباط مقاطعة شديدة، وأخذت مؤامرة جريئة تحاك ، وأخذ البعض يحلمون بتوحيد الجنوب بالشمال بزعامة آل صافويه، وكانوا قد نادوا بشارل ألبرت ملكا لإيطالية، ولكن البرلمان أخذ يظهر ضعفه السابق، وبدأ الأعيان يؤازرون الحكومة بشدة وكان كثير من النواب يخشون الاقتراع ضدها، ورغبت الأكثرية في التفاهم مع الملك ومؤازرة الحكومة؛ إذ قررت سوق الجنود إلى الحرب، وقد تجاهلت ثورة كالابريه وأغمضت عينها عن طمع الملك بالاستيلاء على صقلية من جديد، ولكن التفاهم مني بالفشل، وأخذ يوزيلي يظهر عدم ارتياحه للحال بالتخلف عن حضور جلسات المجلس النيابي، أما الملك فصم آذانه عن طلبات المجلس، ومع ذلك فإن الحكومة لم تجرؤ على حل المجلس إلا أنها لم تكن تجري انتخابات للمقاعد الشاغرة.
ولما حلت مصيبة كوستوزه وجدت الحكومة في نفسها الجرأة الكافية للهجوم على صقلية وأجلت اجتماع البرلمان، ولأجل القضاء على كل مقاومة من جانب الطبقة الوسطى رتب رجال الشرطة مظاهرة في سانتا لوسيا ضد المجلس النيابي، ولما اصطدم العمال الحانقون بالدهاء شتتوا شملهم، وكان هذا الحادث قد جهز الملك بالحجة اللازمة ليقضي على الأحرار.
وحين أخذ انتصار النمسويين يبشر بنجاح الحركة الرجعية رفع رجال الكاماريلا القناع عن وجوههم، وكان بوزيلي مؤيدا لهم، وأخفض عدد الحرس الوطني في العاصمة، حتى أصبح عنصرا مهملا، واضطهد الأمناء والولاة من الأحرار وفصل ذوو المناصب من مناصبهم، وطهر القضاء من العناصر الحرة حتى صار أداة بيد الشرطة، وتزايد تحكم الجيش حتى أصبحت حياة الأهلين تحت رحمة الضباط، وجلد بعض الناس وقتل آخرون من قبل الجند، وبعد أن قضى فرديناند على الثورة اعتبر أول ملك أعاد النظام في أوروبا، وقد اتخذ برج جايتة مسكنا للأمراء الذين اعتبرهم في عداد المسئولين عن نجاح الأحرار في حركتهم الأخيرة.
ومع ذلك فإنه لم يقدم على وقف الحياة الدستورية خشية ثورة البلد الذي مهما كان مطيعا فقد يعود ويصبح خطرا؛ ولذلك ظلت الحياة الدستورية قائمة ولكن بصورة اسمية، وقد قطعت العلاقات السياسية مع تورينو وفلورنسة، ولما شرعت الحركات الحربية من جديد في الشمال أقدم الملك على العمل، فاستدعى الوزير النمسوي المفوض الذي كان غادر البلاد وشرع بالحركات من جديد في صقلية وأعلن حل البرلمان، ولما وصلت أخبار نوفاره انطلقت أيدي يوزيلي والكاماريلا، واعتقل معظم النواب وهرب بعضهم وقيدت الصحافة وأغلقت المدارس وعوضد اليسوعيون.
وبينما استعبدت نابولي لأنها واجهت الأحداث بخور ونقص في شجاعتها فإن صقلية استقبلت محنتها بوطنية شديدة وبطولة عنيفة وشجاعة فائقة، فلم تلق السلاح إلا بعد أن أضاعت كل أمل، على أنها لم تخل من الأخطاء التي ارتكبتها الدويلات الأخرى، فأسلوب الحكم وعدم نسيان الحزازات الحزبية وخيانة البعض من الطبقة المتغلبة مما أدى إلى فشل القضية في الدويلات الأخرى.
وكانت الظواهر تدل على أن نابولي لن تستطيع أن تسترد صقلية، وكانت إنجلترة وفرنسة وروسية يتسابق كل واحدة منها لتجعلها تحت حمايتها، وكانت صقلية الدولة الإيطالية الوحيدة التي تعتز بماض دستوري يمكنها أن تنتفع به، وقد اتفقت كلمة الجميع فيها من الأشراف وعظماء الإكليروس واليسوعيين إلى القضاة والتجار والقرويين على الاحتفاظ باستقلال الجزيرة.
وكان رجال الأحزاب في نابولي من الملكيين والمعتدلين والدموقراطيين لا يأبهون كثيرا بموقف صقلية الغامض؛ لذلك كان من السهل على الحكومة التي كان أعضاؤها لا يعطفون على الحركة القومية أن تسوغ موقفها من صقلية ورفض مطاليبها، وكانت صقلية قد اشترطت للتفاهم إقامة برلمان منفرد للنظر في شئون صقلية الخاصة ورفض دستور سنة 1812 رفضا باتا، ولما رفضت نابولي تلك المطالب أعلن برلمان باليرمو سقوط آل بوربون عن عرش صقلية وانتخب «روجيير وستمو» رئيسا مؤقتا للدولة ريثما ينتخب ملك للجزيرة.
وكان هذا الرئيس من حيث ماضيه المجيد وحبه للحرية وتضحيته في سبيلها حتى بآرائه الخاصة وصفته؛ بعيدا عن كل مغمز ومطعن، وفي هذا الرئيس تمثلت وحدة البلاد، ولكن وراء هذا الإجماع على قضية الاستقلال لم يكن بد من تنوع الآراء وتكوين فرق، فهناك الوزارة وأكثرية البرلمان المؤلفة من المحامين ورجال الأدب وبعض الأشراف؛ يقولون بملكية دستورية تستند إلى حرية واسعة لا تبلغ الدموقراقية التامة، ولم يكن رجال هذا الفريق يهتمون بالسياسة الإيطالية الاهتمام الكافي، وإنما كانوا يعتمدون على عطف إنكلترة وفرنسة وحمايتهما إياهم من عدوان آل بوربون.
وهناك في البرلمان أقلية ولكنها تنزع إلى الجمهورية، وتعنى كثيرا بالقضية الإيطالية، وشرعت من كل قلبها في مساعدة أحرار نابولي وجيش الشمال، وترغب كل الرغبة في تأليف جيش قوي يكفل للجزيرة استقلالها بلا مساعدة إنجليزية أو إفرنسية، على أن الاهتمام بتجنيد الجيش كان ضئيلا، وتكاد الشرطة تكون مفقودة، فكان أمن المدينة تحت رحمة عصابات من المحكومين الذين أخرجتهم قوات نابولي وموظفيها قبل رحيلهم من الجزيرة، فضلا عن أن عصابة سكوادره المجرمة التي استخدمتها باليريمو عملا بتقاليدها في أعمال الثورة، وكانت هذه تنتظر حصتها من الغنيمة، وكانت العصابات المنظمة تحيط بمدينة باليرمو ورتبت الاضطرابات في كتانية ومرسالة.
ورغم هذه الأحوال فإن الاختلافات قد تلاشت أمام قضية انتخابات الملك، وكان الموقف يتطلب حلا سريعا لأن الارتباك الذي ينجم عن عدم وجود الملك يحول دون استتباب الأمن، أضف إلى ذلك أن إنجلترة وفرنسة لم تعترفا بالحكومة الجديدة قبل أن ينتخب الملك، فلا بد إذن من أن تبت صقلية قبل كل شيء في شئونها الخاصة؛ ليتسنى لها الانضمام إلى الاتحاد الإيطالي باعتبارها دولة مستقلة.
وكان الصقليون يلحون بأن يكون لهم برلمان خاص؛ لأن نوابهم في مجلس مشترك يؤلفون أقلية لا شأن لها، شأن النواب الأيرلنديين في مجلس العموم البريطاني، وكانوا لا يفتئون يجهرون بأن خصومتهم لنابولي لا تعني خصومتهم لإيطالية؛ لأنهم إنما يريدون أن يروا نابولي شقيقة لهم لا سيدة عليهم.
على أن أحرار القارة الأوروبية كانوا يعلمون بأن الوعي القومي لم يتغلغل في نفوس أهل الجزيرة إلا قليلا، وأن الحمية التقليدية القومية التي تتجلى في المطالبة تطغى على كل عاطفة إيطالية عامة، ولقد كان هناك خطر يهدد القضية الإيطالية في سعي صقلية لأن تكون دولة مستقلة بحماية إنكلترة.
فاختيار الملك إذن كان أحسن واسطة لمعالجة تلك الميول، ومن المحتمل أن تعترف الدول الإيطالية بدولة صقلية إثر انتخابه ما عدا دولة نابولي.
وكان في الميدان مرشحان خطيران، أولهما أمير جنوة، وثانيهما ابن قاصر للدوق الكبير، وكان لئوبولد على استعداد لاستلام التاج باسم ابنه، وكانت فرنسة وجميع الذين يخشون سيطرة بيمونته المتزايدة في جانب هذا الترشيح، وبينما كان البرلمان منهمكا بمناقشاته وبحوثه الدستورية الطويلة؛ أخذ الشعب يتلهف لرؤية الملك المنتخب المنشود، وكانت شهرة أمير جنوة الحربية ورغبة الناس في أن يتسلم العرش رجل عسكري ذو عزيمة؛ قد رجحت كفته وعجل في حل القضية بيان رسمي أصدرته الحكومة البريطانية قالت فيه: إنها تعترف باستقلال الجزيرة حالما تتم الانتخابات.
وقد هدد الحرس الوطني البرلمان باستعمال القوة إذا طال تأخير القضية، مما اضطر المجلس النيابي إلى الاستعجال في وضع مواد الدستور اللازمة في الليل، ثم انتخب المجلسان - بالإجماع - أمير جنوة ملكا على صقلية وذلك في 1 تموز.
وبلغ فرح الناس وحماستهم حدا نسوا فيه أن يتبينوا فيما إذا كان الأمير يقبل العرش ونسوا خطر استيلاء نابولي على الجزيرة، وأخذت صقلية تتنفس نسيم الحرية والخلاص التام من أسرة بوربون البغيضة، إلا أنه سرعان ما تكدر الجو؛ لأن الحكومة لم تعد العدة للدفاع عن الجزيرة، وكانت صعوبة تنظيم الجيش من الصعوبات التي لا قبل لحكومة ضعيفة بتذليلها.
ثم إن أمير جنوة أجل جوابه مما أدى بالوزارة إلى تقديم استقالتها في شهر آب، فألف الوزارة «توريارسة» أحد المحافظين الشرفاء، وكان زملاؤه أكثر دموقراطية من الوزراء السابقين، وكان من بين وزرائه «لافارينا وكردونه»، وهما من ألمع رجال صقلية، ولكن لم تكد تتولى الوزارة شئون الدولة ثلاثة أسابيع حتى كان هجوم نابولي على الجزيرة.
وتفصيل ذلك أن فرديناند رأى الفرصة سانحة بعد أن قضى على العصيان في كالابريه، ووردت أخبار انخذال الجيش البيمونتي ونجاح الحركة الرجعية فجهز حملة قوية في الخفاء وحين ترك الأسطول نابولي في 31 آب تجمعت قوة تقدر بعشرة آلاف في سواحل كالابرية، ولم يكن إذ ذاك لدى صقلية إلا ستة آلاف جندي من المجندين الأحداث، ومن جمعية سكوادرة أو الحرس الوطني الذي يعوزه الضبط، وكانت قلعة مسينا لا تزال بيد حكومة نابولي.
واستطاع النابليون بمساعدة الأسطول الذي كان يسيطر على البحر إرسال المواد إلى القلعة، فأخذت المدافع تمطر المدينة بوابل من القنابل، وبعد أن أنزل القائد جنوده إلى جنوب المدينة أمر بابتعاد السفن في الساحل؛ ليقطع أي أمل لجنوده بالعودة، وطلب إلى جنده أن يختاروا بين النصر أو الموت.
على أنه رغم وصول القوات من نابولي بلا انقطاع وإسكات المدافع الصقلية وتشتيت رجال سكوادرة ولجوئهم إلى الجبال؛ فإن روح الدفاع الجريئة لم تهن حتى أخذ الرهبان يقاتلون بجانب المدنيين، والنساء والصبيان يلقون بأنفسهم في أشد المعارك. وأخيرا استطاع المهاجمون أن يستولوا على مدينة مسينا وانتقموا من أهلها أفظع انتقام؛ إذ أحرقوا الدور وسطوا على النساء وقتلوهن في الكنائس ومثلوا بالصبيان وذبحوا الشيوخ في فرشهم ونهبوا المعابد.
ومع ذلك كله لم تفت هذه الفظائع في عزم الصقليين، فأقسموا يمين المقاومة حتى النفس الأخير، ولم تتنفس الجزيرة الصعداء وتتخلص من الفظائع إلا بعد قبول شروط الهدنة التي وضعها الأميرالان الإفرنسي والإنجليزي، أما أهل مسينا فرموا بوعود القائد الإصلاحية عرض الحائط مستهينين بمحاولة فرديناند للتفاهم وقدموا ضرائبهم إلى حكومة باليرموا.
أما البرلمان فقد قطع عهدا على نفسه بأن لا يتفاهم مع العدو أبدا، وأقر قانون التجنيد، وسعى لاستخدام غاريبالدي والاستفادة منه، وحمل كردوفة المجلس على إقرار قانون لبيع الأملاك الوطنية والدينية، وهو من المشاريع الخطيرة التي لو تم تنفيذها لقلبت طريقة الملك في الجزيرة ظهرا على عقب.
وكان الجيش وسكان العاصمة باليرمو - ولعل أكثر الناس خارجها - يعاضدون الوزارة ولكن القوى الرجعية أخذت تتشجع رويدا رويدا، وقد جلبت إصلاحات كردوفة المالية خصومة العناصر الرديئة؛ من موظفي الخزينة، ووحدت بين كبار الإكليروس وكبار الملاكين، ولما فشلت المفاوضات في باريس للحصول على قرض اضطر كردوفة إلى أن يفرض على الناس قرضا إجباريا، الأمر الذي أغضب الرأسماليين، أما أمير جنوة فقد رفض التاج بعد أن طال انتظار الناس لجوابه، وأخذ الأعيان يعرقلون المراسيم الاشتراكية، أما المجلس النيابي فأضاع وقته بالمناقشات، وأوشك أن يتألف من الوسط حزب قوي ممن يحقدون على آل بوربون ولكنهم يخشون الحرب وما تتطلبه الحرب من تضحيات، أما الحرس القومي في العاصمة الذي كان بإمرة الأشراف والمؤلف من صغار التجار؛ فكان يتمتع بسلطة قانونية مستقلة من السلطة الإجرائية وعن مراقبة الجيش مما اضطر كردوفة أولا والوزراء الآخرين من بعده إلى الاستقالة.
وقد دل فوز الحرس الوطني على انهيار القضية الصقلية، فمع أن الوزارة الجديدة أعلنت عزمها على الدفاع عن استقلال الجزيرة؛ فإنها كانت مؤلفة خصيصا من مرشحي العصبة الفائزة، وظل بالمرستون يجهز الصقليين بالسلاح خلسة بعد الهدنة، وكان على تفاهم مع الحكومة الإفرنسية بأن يقوم السلم على أساس منح الجزيرة استقلالا ذاتيا مطلقا وتكون تابعة للتاج النابولي اسميا.
وأظهر الملك فرديناند استعداده لقيام برلمان مستقل وإدارة منفردة، إلا أنه لم يوافق على تأليف جيش خاص، وأصر على تجهيز بعض القلاع الصقلية بالحاميات النابولية، ولكن أهل صقلية أجمعوا على رفض سيادة آل بوربون حتى ولو كانت اسمية، مما جعل فرديناند يعزم على أن لا يبدي أي تساهل آخر وأن يتولى ضبط الجزيرة.
وبعد أن رفض التكاليف الإفرنسية الإنجليزية في منتصف كانون الثاني بصورة باتة؛ نشر إنذارا بمطالبة نهائية، وفيه منح أهل صقلية دستور سنة 1812، وبرلمانا وإدارة مستقلة وأن يعينوا موظفين مواطنين، واحتفظ للعرش بحق حل البرلمان وسوق الجيش من دون موافقة البرلمان.
وكان جواب الزعماء إصدار قانون بتجنيد عشرة آلاف جندي، واتحد الناس وتناسوا شئونهم الخاصة ومشاكلهم وهمومهم وزالت الجرائم وأعيدت المواد المسروقة إلى أصحابها وأرجعت العصابات الأغنياء الذين اعتقلتهم، وأخذت جماعات كثيرة من أهل باليرمو يهرعون للاشتراك في مهمة الدفاع، وأجمع الأشراف ونساؤهم والرهبان والمحامون والعمال والصناع على العمل، ولكن المؤسف أن لا يجدي هذا الإقدام وتلك الحماسة نفعا؛ إذ لم يكن لدى الصقليين أكثر من سبعة آلاف جندي نظامي للدفاع حين انتهاء أجل الهدنة في 29 آذار.
وعلى الرغم من غلطات القائد البولوني ميروسلافسكي الذي تولى قيادة القوات الوطنية في صقلية؛ اصطدم تقدم العدو بمقاومة عنيفة خلدت بطولة الدفاع عن كتانية، ولقي أهل نابولي صعوبات جمة في حركاتهم في الأراضي الجبلية التي تصلح لحرب العصابات ، ولو تمكن أهل صقلية من توحيد قوى المقاومة لاستطاعوا أن يطيلوا أمد الحرب إلى أن تضطر أوروبا إلى التدخل، وقد خاب الأمل في ذلك بسبب الاختلافات التي نجحت حول الحرس الوطني في العاصمة وفتور الحماسة.
وقد أدى فشل حركات القائد البولوني، وورود أخبار انكسار الجيش البيمونتي في نوفاره، وخشية استطالة أمد الحرب وكثرة النفقات؛ إلى خوف الأشراف والطبقة الوسطى، فقرر البرلمان الموافقة على طلب توسط الأميرال الإفرنسي الذي وعد بتنفيذ أحكام إنذار الملك وسرح البرلمان الجنود وأبعد أنصار الحرب في باليرمو من ساحة العمل، واضطر الزعماء إلى ترك الجزيرة ولكن الأسطول النابولي وصل إلى الميناء فدهش الناس؛ إذ إنهم كانوا يظنون بأن القضية تحسم من دون تدخل الأسطول والوقوع تحت رحمة آل بوربون، فهاجت الجماهير وأخذت تنادي بالانتقام من الخونة، وما كان من الحرس الوطني إلا أن اندفع مع التيار فاحتل المدينة وأخذ يدافع عنها ضد المهاجمين وأظهر بطولة خارقة أوقفت المهاجمين يومين، ولم يكن بالاستطاعة تمديد المقاومة أكثر من ذلك، فتسرب اليأس في القلوب وانقطع الرجاء في الفوز واضطر الشعب للخضوع واستسلم في 11 أيار.
الفصل الثامن عشر
الجمهورية المركزية
شباط-تموز 1849
كادت معركة نوفاره أن تفتح أبواب إيطالية الوسطى في وجه الجيش النمسوي، وقد ظل العلم المثلث الألوان - برغم ذلك - يرفرف فوق فلورنسة وروما، وأدت معارضة فرنسة إلى الحيلولة دون تقدم جيوش راديتسكي نحو تورينو، وكانت حاجزا دون استيلاء الجيش المنتصر على الروماني وطوسكانه، وبذلك ظل ثلث إيطالية قادرا على أن يدافع عن حريته.
وكان الرؤساء الثلاثة «مونتانلي، وجيرازي، ومازيني» في فلورنسة قد قبلوا الحكم الجمهوري إلا أنهم لم يعلنوا الجمهورية بصورة رسمية، وكان مازيني الرئيس الثالث يميل إلى عرض القضية بأجمعها على المجلس التأسيسي، أما جيرازي فأخذ يميل إلى المعتدلين ويحتج بأن ما صدر عنه من بيانات وأعمال تنم عن نزعة جمهورية؛ إنما اضطر إليها خلافا لرغبته، وكان يحمل على الجمهوريين المقلدين الذين وصفهم بأنهم «يغرسون أشجار الحرية ولكنهم لا يعرفون حمل السلاح.»
وكتب إلى جيوبرتي يقول بأن الحكومة لن تعلن الجمهورية إلا بعد أن يقترع عليها ممثلو الشعب، ولكنه في حديثه مع مازيني كان يتظاهر بأنه من أنصار الوحدة مع روما، وأنه لولا قلة الجند لأعلن الجمهورية، وكان يظن أنه يستطيع بالمدارة تمشية الأمور؛ إذ كان يعتقد عن حق بأن انسحابه يؤدي إلى الفوضى.
والواقع أن المعركة في سبيل الجمهورية لم تكن مضمونة الظفر؛ ذلك لأن الحزب الجمهوري كان قليل العدد وكان الجمهور في فلورنسة تحت تأثير دعاية اللاجئين اللمبارديين الذين يحاولون أن يجعلوا من الحركة صورة لطيفة مصغرة منسوخة عن الثورة الإفرنسية، وأما في الأندية فعدد الجمهوريين الأقحاح كان قليلا.
وقد ازداد الذين يصطادون في الماء العكر وأخذ الرجعيون ينشطون؛ أملا أن الشر يتفاقم، وكانت الجماهير تسير وراء كل حركة تبدو ثم لا تلبث أن تنضم إلى الناجحة من الحركات، ففي مثل هذا الجو المضطرب كان يستحيل على الحكومة أن تعمل، ما لم تكن قوية قادرة على أن تستغل حماسة الناس وتقودهم نحو أهداف نافعة، ولكن الرؤساء الثلاثة لم يكسبوا احترام الناس ولا عطفهم.
والواقع أن موقف الحكومة كان محفوفا بالصعوبات؛ فالمعتدلون لم يبدوا أي مساعدة لاستتباب الأمن، وحاق بالفقراء إعسار مدقع، وأخذت الجرائم تزداد وامتلأت السجون، ونشب اضطراب في فلورنسه لم يلبث جيرازي أن استطاع بحزمه القضاء عليه والقبض على ناصية الأمور، وقد تمكنت الحكومة في شهر آذار من بسط نفوذها وحمل الناس على إطاعتها.
وكان قد تقرر في طوسكانه أن تجرى الانتخابات للمجلس التأسيسي الطوسكاني في 5 آذار على أن ينتخب في الوقت نفسه الممثلون للمجلس التأسيسي الإيطالي في روما، وهنا اختلف الناس في أي المجلسين يقرر مصير حكومة طوسكانه القادمة، فالمعتدلون يدعون أن البت في المسألة عائد للمجلس الطوسكاني، وأما الجمهوريون فكانوا يصرحون بأن الوحدة مع روما قد بت فيها، وأن المجلس الموحد هو الذي يحق له أن يبت في القضية.
ومع أن جيرازي في الظاهر قد قرر الاتحاد الدبلوماسي الجمركي فإنه اتفق ومازيني على أن يؤجل الانضمام الكلي قدر الإمكان، وكان سهلا استمالة أهل طوسكانه إلى فكرة التأجيل؛ لأن في الانضمام تفقد فلورنسه مكانتها كعاصمة وتضحي مدينة ليفورنا في سبيل مدينة جيفيتا فكيا.
أضف إلى ذلك أن طوسكانه كانت ترغب في الابتعاد عن مشاكل القضية البابوية، وقد أعانت هذه الأمور جيرازي على أن يصدر قانونا في غياب مونتانلي يترك فيه حق تقرير شكل الحكومة إلى المجلس الطوسكاني.
ونشطت الحركة الرجعية وأخذت تنذر بالقضاء على الجمهوريين والرؤساء الثلاثة، وكان القرويون الذين يدعوهم «كابوني» بشعب طوسكانه السيد، يخاصمون أية حكومة تريد الحرب، فكان من السهل على الأشراف ورجال الإكليروس أن يستغلوا شعور هؤلاء القرويين في الحملة على الحكومة التي نفت الدوق وراقبت رهبانهم وهددتهم بالضرائب وبإرسال أولادهم إلى الحرب في سبيل أمر بعيد المنال.
وهاجمت بعض عصابات القرويين المسلحة فلورنسة وبرانو، أما سكان المدن فكانوا على النقيض من القرويين ينظرون إلى الجماعات الموالية للأمير ولكن لا تطمئن نفوسهم للحكومة، أما الرهبان فأخذوا يمتنعون من تزكية الذين صوتوا للمجلس التأسيسي، أما الأذكياء من الناس فرغبوا في أن يظلوا بعيدين خشية ثورة مضادة.
وقد أجل الرؤساء اجتماع المجلس التأسيسي جهد المستطاع ويظن أن الذين اشتركوا في الانتخابات للمجلس المذكور كانوا أقل من خمس ذوي الحق في الانتخابات، وقد أهمل الانتخاب العام للمجلس التأسيسي الإيطالي في روما، ولم يسع المعتدلون والرجعيون انتخاب مرشحيهم، فنالت الحكومة أكثرية بنسبة اثنين ضد واحد.
وبعد افتتاح المجلس بيومين وردت أخبار نوفاره، فأعلن جيرازي بصراحة أنه ضد الجمهورية، فما كان من مونتانلي إلا أن أقنع المجلس بإعلان جيرازي دكتاتورا رغبة منه في أن لا يضعف الحكومة في سبيل قضية لا رجاء فيها، وأصبح هم جيرازي الوحيد حينئذ إنقاذ طوسكانه من استيلاء الأجنبي عليها وأخذ يفكر كآخر تدبير - رغم معارضة الشعب - في إعادة الدوق الكبير وحمل المجلس التأسيسي على تأجيل البت في الوحدة مع روما، وأجل اجتماعاته اثني عشر يوما وناشد الأحزاب أن تترك الخلافات وأن تتحد في سبيل إنقاذ البلاد، وبذل جهودا خارقة للقضاء على كل شغب.
ومع ذلك فإنه لم يلب دعوته للتطوع إلا فلورنسة وليفورنة، ولاحظ جيرازي أن منصبه أخذ يتضعضع وأبى المعتدلون معاضدته واستعدوهم لجلب الدوق الكبير آملين أنه إذا عاد بواسطتهم سيهدئ من نقمة النمسة ويحل المجلس التأسيسي ويضمن لهم تقلد مهام الحكم.
وبينما كانوا يرسمون الخطط لذلك حدث شغب في فلورنسة؛ وذلك أن جيرازي كان طلب بعض الكتائب من ليفورنه، إما لتجهيزها وتدريبها - كما ادعى - وإما لتقوية موقفه، وكان سلوك أفرادها وأعمالهم فظة بحيث هيجت الفلورنسيين وهاجموا إحدى الكتائب في 11 نيسان، فاستفاد المعتدلون من هذا الشغب واستغلوا الجماهير واستولى القرويون الموالون لهم على المدينة، فأعلن المجلس البلدي نفسه حكومة مؤقتة باسم الدوق الكبير واحتل قصر «بلازو-فيجيو» وطرد أعضاء المجلس، وكان بإمكان جيرازي أن يستمر على المقاومة في بيستونه وليفورنه إلا أنه يئس من الحالة والتجأ إلى كابوني.
ومما يدعو إلى افتخار إيطالية أن الزعماء في روما كانوا يتحلون بصلابة أشد منها عند غيرهم، وقد تألفت فيها لجنة تنفيذية أو إجرائية تقلدت سلطة الجمهورية العليا، وكان على رأسها الحاكم أرمللني ومن وزرائها الحبر موزاريلي وهو من الأحرار، وقد علمت الحكومة أن أول ما تحتاج إليه البلاد هو الحرية؛ حرية التعليم وحرية التنظيم وحرية تنمية واردات الدولة.
ويتلخص منهج أرميلليني بقيام إدارة مالية نزيهة، وإصلاحات قضائية بلدية، وتأمين حرية العمل، والإشراف العلماني على التعليم، والعدل، والمشاريع الخيرية، ونقل أملاك الكنيسة إلى الأمة، وقد شرعت الحكومة بتنفيذ هذا المنهج بدراية وثبات.
وكان مازيني الذي ألهم هذه التعاليم نائبا بسيطا، فتم له ببلوغ هذا المنهج نصف المثل الأعلى الذي كان يحلم به وهو مثل روما المقدسة الخالدة، لكن المنهج لم يتناول تنفيذه جانب مشاريعه الاجتماعية، فأخذ ينتقد المجلس بإضاعة وقته بالمشاحنات الحزبية بينما النمسة واقفة بالمرصاد، ويقول: متى نالت إيطالية حريتها، حينئذ وقت وضع الدساتير، أما الآن فيجب قبل كل شيء محاربة النمسة ووقوف روما الجمهورية بجانب بيمونته الملكية ورغم رفض اليمين والوسط اقتراح مازيني بإرسال النواب للنواحي لاستنهاض الشعب ودعوته للدفاع، فإن البلاد قد استعدت للحرب بعض الاستعداد.
فلما شاعت أخبار نوفاره كانت القطعات في طريقها نحو الحدود، حينئذ توجهت جميع الأنظار نحو مازيني بصفته الزعيم الوحيد في تلك الأزمة، فانسحب موزاريلي وتألفت لجنة ثلاثية من «مازيني، وسافي، وراميللي» وتولت شئون الحكم ومنحت سلطة غير محدودة لإدارة الحرب والدفاع عن الجمهورية، وقد أسرع مازيني لإرسال القطعات ولكنها قبل أن تصل إلى ضفاف نهر بو وردت أخبار الهدنة فقضي بذلك على آخر أمل في الاشتراك في الحرب في لمبارديه، وبعد أن ضاعت فرصة إنقاذ إيطالية الشمالية تفرغت اللجنة الثلاثية للإصلاحات الداخلية.
وكانت آخر الإصلاحات تتعلق بالمشكلة العويصة؛ أي مشكلة علاقة الكنيسة بالدولة، ولم تتخذ كلمة الإكليروس في معارضة الجمهورية، فالحبر موزاريلي مثلا رفع القناع في المعارضة، وأما الحبر فانتورا فبعد أن حاول عبثا في تأليف البين بين البابا وأهل روما؛ انحاز إلى أهل روما.
ولما تأكد الرهبان ورجال الدين في القرى من أن إصلاحات مازيني تزيد في رواتبهم؛ انحازوا إلى جانبه ما عدا بعض الرهبان في بعض المناطق الزراعية الذين أبوا مباركة نكاح الذين اشتركوا في الاقتراع مؤيدين، ومع أن الحكومة أصرت على أن يخضع الإكليروس للدولة فإنها حالت دون اضطهادهم وعاملتهم بالحسنى حتى إنه ترك أسقف جيفيتا فيكيا يتآمر مع جابته واكتفى بنفي أحد إخوان البابا إلى خارج الحدود حين شوهد يحرض الناس على الخيانة، وكانت الجرائد البابوية تقرأ بحرية وكان مثل مازيني في هذه السياسة «تشدد في المبادئ وتساهل مع الأشخاص».
وطبيعي أن يؤدي هذا التساهل إلى ضعف فاضح في الإدارة، وكان أعداء الجمهورية يقبضون على ناصية الشئون العامة، وكان راميلليني «صفرا» وسافي وديعا وفيلسوفا، أما مازيني فتعوزه الكفاية في الشئون المالية والإدارية، فلم يكن بمقدور هذه السلطة الإجرائية العاجزة أن تطهر البلاد من الجراثيم.
وراحت أحقاد عهد جرجوار القديمة تتحين الفرصة لتتفجر، وظل أشد الموظفين فسادا مسترسلين في فسادهم، واستعد المتطرفون للاستيلاء على الحكم بعد أن غاظهم ضعف الحكومة، وأخذ البعض من متطوعة غاريبالدي يشاغبون، ومع ذلك فقد استطاعت الحكومة أن تقبض على ناصية الحكم بمساعدة الحرس المدني .
بيد أن الغموض الناشئ من طول المفاوضات السرية وتوهم الناس بأن هناك مؤامرة تحاك في المدينة وبتحريض بعض الرهبان لم ينفع احتياطات الحكومة في توطيد النظام، فانتشرت الفوضى في روما مدة من الزمن أعدم في أثنائها ثمانية رهبان لإطلاقهم النار على الجنود وثلاثة قرويين بتهمة التجسس وخرب بعض الأهلين حدائق البابا احتجاجا على لين مازيني.
أما في إيالتي الروماني والمارك فحدثت وقائع مؤسفة جدا؛ إذ شجع ضعف الحكومة المجرمين فيها على الفتك بالناس، فأخذت عصابات صغيرة تغتال الموظفين وتفرض الغرامات على الأجانب، أما في أنكونه فقد بلغ الإرهاب غايته؛ إذ اغتيل ثمانية وعشرون رجلا من جماعة السنانفيديست، ومع ذلك كله فقد كانت الجمهورية تلقى تعضيدا يسهل عليها أمر الاستمرار في الحكم، ولا يفوتنا أن نعلم أن الجمهوريين من ذوي المبدأ كانوا قلائل، وفضلا عن ذلك فإن عددا قليلا من هؤلاء كان يجهل مثل مازيني الأعلى، أما الأكثرية فكانت لا تبالي بمبدأ، ولكنها سئمت من التبدلات السياسية واغتبطت بأنها تخلصت من حكومة الرهبان، ولم تكن راضية عن ضعف المعتدلين وترجرجهم وتريد التملص من حكم الإكليروس مهما كلفها الأمر، فكان ذلك سر انحيازها إلى الجمهورية؛ باعتبارها الحكومة الوحيدة التي تؤمن هذه الغاية.
وبعد أن تمت الانتخابات البلدية في جو صاخب انحازت المجالس البلدية باستثناء اثنين منها إلى جانب الجمهورية، ولكن الرهبان ظلوا يحرضون الناس على الاستياء وظل الجيش قلقا، وظلت الخيانة تنسف الإدارة، وأخذ البعض من المعتدلين يتآمرون بنشاط.
أما كتلة القرويين فرحبت بالحكومة التي أنقذتهم من ظلم السنانفيديست، أما الطبقة الصناعية وصغار الملاكين الذين أخرجوا أكثر النواب من بين صفوفهم؛ فقد أظهروا صداقتهم للجمهورية، ولا تنس أن أكثر الحرس الوطني وصغار التجار كانوا يحبون الجمهورية لذاتها.
وحينما كسبت الجمهورية عطف أهل روما على الصورة الآنفة الذكر، أخذت الدول الأوروبية تستعد للقضاء عليها، وقد عزم البابا على العودة إلى عاصمته بصفته متبوعا مطلق التصرف يفوق في ذلك جميع أسلافه، وكان أنتونلي يعتمد على الرجعيين في روما وعلى عملائه المنبثين في بعض المناطق ، ووزعت مناشير تطالب بالقضاء على الأحرار، ولكن الحرس الوطني استطاع أن يقمع حركات العصيان التي حدثت في بعض الأنحاء، ولكن اضطرابا أشد خطورة نشب في أطراف «أسكولي» حيث قام أحد الرهبان يحرض القرويين على حرب مقدسة ويدعوهم إلى النهب والحرق، وكان مونتانلي يعتمد خصيصا على أنصار البابا في البلاد الأجنبية وترمي سياسته إلى وضع البابوية تحت حماية الدول الملكية وقد تحاشى جانب فرنسة إلا أن فرنسة لا يمكن تحاشيها وكانت قد اقترحت في 18 شباط احتلال ممتلكات الكنيسة من قبل النمسة وإسبانية ونابولي وفرنسة، فوافقت الدول الملكية الثلاث على هذا الاقتراح فورا، وقد تأهبت إسبانية قبل ذلك لإرسال قوة، وأخذت القطعات النابولية تسرح وتمرح بالقرب من الحدود الجنوبية وتشجع العصاة في أسكولي، أما القائد النمسوي فقد احتل فراره وأخذ يستعد للتقدم نحو «بولونيه».
وظلت فرنسة تؤيد بيمونته في احتجاجها على كل تدخل في شئون إيطالية إلا أن الاتجاه الرجعي المحافظ في فرنسة قيد يد الحكومة، وكان «فاللو» يمثل الكاثوليك المفرطين في الوزارة.
وبينما كان الحزب الجبلي يرسل تحياته إلى الجمهورية الجديدة كان الرأي الفعال في فرنسة يسند فاللو، ومع أن الرأي العام الإفرنسي كان يقول ببقاء السلطة الزمنية من حقوق البابا فإنه في الوقت نفسه كان خصما للنمسة، وقد عجلت أنباء نوفاره في نشاطه، وكان لويس نابليون يريد إعلان الحرب فورا مستندا إلى الحزب الجبلي وحزب الوسط، وكان يرمي من وراء ذلك إلى بلوغ أغراضه الشخصية والحصول على تأييد الكاثوليكيين، وقد استغل الوزراء حماسة الشعب وقرروا احتلال جيفيتا فيكيا وإعادة البابا إلى عاصمة ملكه رغم أهلها ضاربين ببياناتهم السابقة عرض الحائط، وسعوا في الوقت نفسه إلى أخذ تصريح من البابا يؤيد فيه الدستور.
وقد وصلت القوة الموفدة لتنفيذ القرار إلى جيفيتا فيكيا في 24 نيسان بقيادة أودينو، فأصدرت اللجنة الثلاثية الأوامر بمقاومة حركة النزول مهما كلف الأمر، بيد أن المدينة لم تكن في حالة صالحة للمقاومة، ومع أن أودينو حاول الحصول على موافقة المجلس البلدي بمعسول الوعود إلا أنه بمجرد ما أنزل قواته إلى الساحل رفع القناع عن نياته.
ورغم التعليمات الصادرة إليه بأن لا يتقدم نحو روما ما لم يكن واثقا من ترحيب أهلها ومساعدتهم إياه، ولكنه اعتمادا على مزاعم أنصار البابا؛ اعتقد أنه لن يلاقي أي مقاومة فعزم على الزحف على روما، وقد ارتبكت اللجنة الثلاثية والمجلس من هذا الحادث، وكان مازيني وشارل بونابارت لا يزالان يعتمدان على إخلاص الجمهورية الإفرنسية، وكان النواب مترددين في تقرير التفاهم، ولكن حين جاء مندوب أودينو يقول بأن سيده إنما ينوي إعادة البابا إلى عرشه زال كل تردد، واعتزم المجلس المقاومة مهما كلف الأمر وهاج الرأي العام، وطالب بقطع المفاوضات، وغدا لا يحتمل رؤية الجنود الإفرنسيين يجتازون أسوار روما حتى إذا اعترفت فرنسة بالجمهورية، وأصبحت الحرب لا مناص منها وظن أودينو أن الطليان لن يقاتلوا فباشر هجومه في 30 نيسان بغية الاستيلاء على المدينة بالقوة، وكانت قوة كل من الخصمين نحو عشرة آلاف، فحارب الإفرنسيون بشجاعة إلا أنهم استصغروا شأن عددهم فلقوا منه خصما لا يقل عنهم شجاعة، فضلا عن أنه يحارب مؤمنا بقضيته فانكسرت الفرقتان الإفرنسيتان بعد أن خسرتا ألف رجل وولتا الأدبار مسرعتين خشية انقطاع خط الانسحاب عليهما.
وطلب غاريبالدي حينئذ من اللجنة الثلاثية - بإلحاح - موافقتها على مطاردة الخصم، إلا أنها كانت ما تزال تتوقع التفاهم وتخشى عرقلة مساعي الحزب الجبلي الذي يعمل لمصلحتها في باريس، وبذلك لم تنجح لا القوة ولا الخديعة، واقتنعت الحكومة الإفرنسية بأنها خانت المبادئ الجمهورية ولجأت إلى الغدر الذي أسخط عليها السياسيين.
ومع أن «جول فافر» أسقط الحكومة الإفرنسية في المجلس التأسيسي غير أن لويس نابليون كان يعلم أن الانتخابات المقبلة سوف تسفر عن أكثرية عظيمة محافظة تكون بجانبه، وقد جعل من نفسه في لباقة المدافع عن شرف الجيش وكتب إلى أودينو مزدريا بتصويت المجلس وأرسل دي لسبس لمفاوضته حكومة روما.
وفي 30 أيار اتفق مع اللجنة الثلاثية على تفاهم، وعد فيه دي لسبس بالإقلاع عن نية الاحتلال، إلا أنه يرفض الاعتراف بالحكومة الجمهورية، وأوشك أن يتم لولا أن مناورات الحكومة الإفرنسية الخفية جعلت نشوب الحرب ثانية أمرا لا محيد عنه، ولما تمت الانتخابات وجاءت الأكثرية محافظة في جانب لويس نابليون أصبحت الحكومة في موقف تستطيع معه أن ترفع القناع عن نياته.
بيد أن القضية أصبحت وقتئذ تهم الدول الكاثوليكية كلها، وأخذت كل واحدة منها تسعى لتسبق غيرها في الزحف على روما، فالإسبان كانوا على أهبة إنزال خمسة آلاف جندي في «فيومجينو»، أما جنود نابولي فقد احتلوا أطراف باليسترينا إلى أن هجم عليهم جنود روما وهزموهم إلى ما وراء الحدود، أما القائد النمسوي فقصف مدينة بولونيه واضطرها إلى التسليم بعد أن دافعت دفاع المستميت ثمانية أيام.
وبعد أن قاومت إنكونة شهرا شرع النمسويون في حصارها، ولو أطلقت أيدي أهل روما في حركاتهم لاستطاعوا أن يوجهوا قوات فائقة نحو القائد النمسوي ويطوقوه، وكانت فرنسة في تقييدها لحركات جيش روما خير حليفة للنمسة، ولما وردت مدافع الحصار إلى جيش أودينو تجلت مقاصد الحكومة الإفرنسية على حقيقتها، فبعد أن أقام أودينو العراقيل في سبيل نجاح المفاوضات استولى على مواطن الدفاع عن شمال المدينة، وحينما تلقى دي لسبس من باريس أمرا بالعودة، استلم أودينو أمرا باحتلال روما بالقوة.
وبإعلان الحرب انتهى عهد المفاوضات الغامضة الطويل، وكانت الحكومة منذ أيام قد فقدت سلطتها على المدينة وعاد غاريبالدي من فللتري حانقا؛ لأن اللجنة لم توافق على استثمار النصر وتأذن له بالتقدم نحو نابولي، وطلب أن يعين دكتاتورا لأنه كان دائم الاحتقار لحكومة روما ويعتبر مازيني مهذارا.
وبينما كان أودينو يملك 30-40 ألف جندي ومدفعية حصار قوية لم يكن لدى أهل روما إلا ثلاثة عشر ألف جندي ناقص العدة، أكثرهم من دولة روما ومن جملتهم ثلاثة آلاف من الحرس الوطني والمواطنين المسلحين، وقد باشر أودينو الحركات بالفور حسب عادته.
وكان قد وعد بأن لا يشرع في الهجوم إلا صباح اليوم الرابع من حزيران ولكنه في الليلة الثانية من الشهر، وفي نهار الثالث باغت نقطتين من ستارات الرومانيين، واشتد القتال في الحدائق والكروم، ورغم كثرة الجند الإفرنسي الفائقة استرد الرومانيون مباني المصائف عدة مرات، بيد أن البطولة وحدها لا تسد النقص الناجم عن قلة العدد وأخطاء غاريبالدي.
وبعد قتال دام ثلاثة عشرة ساعة أخليت المواضع، وإذا كان الرومانيون قد خسروا بذلك الأرض خارج أسوار المدينة ما عدا معمل فاسجيللو، فإنهم أنقذوا المدينة من المباغتة وألجئوا الإفرنسيين إلى محاصرة المدينة حصارا منتظما معرضين إياهم إلى مرض الملاريا الذي قد يضطرهم إلى رفع الحصار إذا طال أمده، فالقصف الذي لا رحمة فيه ولا هوادة كما كان يتوقعه الكرادلة كان مظنونا أن يلجئ المدينة إلى التسليم السريع وأن المدينة إذا لم تنجد من الخارج فإن استلامها يتوقف على الوقت فقط، إلا أنه على الرغم من تناقص الذخائر فإن أحدا من أهلها لم يطلب الاستسلام وصبر السكان على القصف من دون أي تذم. وكان فنتورا قد حذر الرهبان قائلا: «إذا لم تسر الكنيسة مع الشعب فالشعب يسير من دونها لا بعيدا عنها فحسب بل سيناوئها.»
ولم تكن قلة الرجاء في المقاومة لتخفف من حماسة الناس وحميتهم، وقد تقدمت ستة آلاف امرأة للخدمة في المستشفيات وتجلت البطولة الإيطالية في الدفاع عن عاصمة إيطالية، فهذا غاريبالدي ورفقاؤه الذين حاربوا بجانبه في أمريكة يجاهدون وهذا «مانورا» الفتى الميلاني مع القناصين الماهرين من أهل لمبارديه، وهؤلاء الأشراف يقاتلون إلى جنب أبطال الأيام الخمسة ومتطوعة الحرب في التيرول، أما ماميلي الشاعر وداندولو وبيساكانة وبيكسيو وميديجي وكثير من الفتيان الأبطال، فمنهم من مات في سبيل روما ومنهم من عاش ليصبح من قادة المعركة في المستقبل ومنظميها، وكثيرون من هؤلاء لم يكونوا من الجمهوريين، وكان البعض منهم من الأشراف، إلا أن حب الوطن وسحر روما ساقاهم للقتال في المعركة الأخيرة في سبيل إيطالية، وكانت الحكومة جديرة بالمدافعين عنها وقد حافظت على الأمن بصورة تامة طول مدة الحصار وأدارت الشئون المالية بدراية ونزاهة، ورغم قلة الغذاء فالمجاعة لم تنتب المدينة، وأظهر مازيني نشاطا كبيرا وآراء صائبة، واستطاع أن يبث في الملتفين حوله حماسته وآماله، وكانت الحكومة تأمل أن توفق الحزب الجبلي في باريس في حمل الحكومة على الأخذ بسياسة المظاهرة الإيطالية وأن إنجلترة تتدخل، بيد أن بالمرستون كان تحت رحمة الكويد بنيسيت وكانت الثورة التي شبت في باريس في 13 حزيران آخر جهد قام به الحزب الجبلي.
وبعد مرور ثمانية أيام على محاصرة روما استولى المهاجمون على المعاقل وانسحب المدافعون إلى جدار أوريليانوس بعد أن تكبدوا خسائر فادحة، ولم يترك مديجي معمل فاسيللو إلا بعد أن خسر ثلاثمائة رجل من رجاله، أما مانورا فقاوم قوات تفوقه أضعافا مضاعفة، ولما لم يبق لدى المدافعين سلاح وحارب الأبطال الفتيان بسكاكينهم إلى أن خر رئيسهم صريعا، وأراد مازيني أن يقاوم أيضا إلا أن غاريبالدي صرح في المجلس التأسيسي بأنه لا رجاء في القتال، وقرر النواب إنهاء حرب لا فائدة منها، ودخل الإفرنسيون المدينة وكان الأهلون حين مرور الجنود بالطرقات يسخرون منهم ويهتفون هتافات عدائية لهم.
وغادر مازيني روما مترقبا الفرصة لاستئناف القتال، أما غاريبالدي فطلب إلى الذين رفضوا التسليم أن يلحقوا به على أن يعلموا بأنه ينتظرهم بالجوع والعطش والسهر، فسار وراءه ثلاثة آلاف يطاردهم الإفرنسيون والإسبان والنمسويون ثلاثة أسابيع، وسامهم القرويون خسفا، وأخذ عددهم يقل بمن يهرب منهم يوميا.
ثم وصلوا إلى سان مارينو؛ حيث تفاهم غاريبالدي مع السلطات على أن لا يصيب رجاله سوء، ثم سافر مع مئتين من أصحابه الأوفياء وزوجه «أنيتا» إلى «سسينه» وأبحروا منها إلى البندقية بيد أن السفن النمسوية ضبطت بعض قواربهم واضطر البعض الآخر يلجأ إلى الساحل وماتت «أنيتا» في غابة كوماجيو فلاقى غاريبالدي تشردا منقطع النظير في شبه الجزيرة التي كانت مراقبة من كل جهة، وقد خصص مبلغ عظيم لمن يقبض عليه.
الفصل التاسع عشر
البندقية في عهد إدارة مانين
آب 1848-آب 1849
وبعد أن خضعت صقلية وطوسكانه وروما؛ لم يخفق علم الحرية الإيطالي إذا استثنينا بيمونته إلا فوق مدينة واحدة، وهي البندقية، ظلت هذه المدينة تزدري بشوكة الإمبراطورية النمسوية من دون أن تنال أية مساعدة منذ شهر آب في السنة المنصرمة، ولم يطل عهد الحكومة الشبه بيمونته بعد صدور قرار الانضمام في شهر تموز أكثر من شهر واحد، ولما وردت أخبار هدنة سلسكو لم يكن قد مضى على وصول المندوبين البيمونتيين أكثر من خمسة أيام، وكانت هذه الهدنة قد أنهت حكم بيمونته القصير المدى.
وقد أدى الهياج العام الذي حدث بعد هذه الأخبار إلى انسحاب المندوبين، فأصبح مانين دكتاتورا بالفعل، فسارع إلى إلغاء قرار الانضمام بعد أن خانت بيمونته البندقية بعقدها الهدنة، وأعلن بأن حكومته وقتية، وأن المجلس التأسيسي الإيطالي سوف يبت في مصير المدينة في المستقبل، وكانت حكومته جمهورية فعلا، وكان أول ما يشغل البال في ذلك الحين إيقاف النمسويين عند حدهم وحين رفضت البندقية بإباء التخلي عن حريتها أجابت النمسة بتطويق المدينة.
وكانت الهدنة قد منعت البيمونتيين من إسداء المعونة لها وإن ظل أسطولهم رأسيا خارج نطاق الحصار، وكان مانين يتوقع لبلده خيرا من إنجلترة وفرنسة، بيد أن بالمرستون أعلن بصراحة أن إنجلترة لا تشترك في حرب ما، وأنه سيبذل جهده سياسيا لإقناع النمسة بالتنازل عن مطالبها بشأن المدينة.
أما موقف فرنسة فكان لا يختلف عن موقفها السابق المزري، فبينما كان ساستها يصرحون من جهة بأنهم لم يتخلوا عن البندقية؛ كانوا من جهة أخرى يفاوضون النمسة على سلم لا يبقي للمدينة سوى حكمها الذاتي، وظل مانين يعتمد على مظاهرة فرنسة رافضا كل حل يربط البندقية بإمبراطورية النمسة، ولما أكد له لويس نابليون في شهر شباط أن لفرنسة من المشاكل الداخلية ما يحول دون دخولها في حرب ما، اقتنع مانين بأن البندقية يجب أن تعتمد على نفسها، وأنه لا ينقذها إلا نصر إيطالي أو هنغاري عدو للنمسا.
ومع أن نطاق الحصار أخذ يشتد طول الشتاء؛ فإن البندقيين ظلوا لا يثبط أي إخفاق عزائمهم أو يوهن جلدهم، واستولى النمسويون على القسم البري بأجمعه ما عدا رأس جسر «مالفيرا» وعلى الرغم من وجود الأسطول الإفرنسي والبيمونتي، فإن الحصار قد ضيق الخناق على المدينة، فانقطعت صلتها بالخارج نحو ستة أشهر، وكانت دار الصناعة ما تزال تحتوي مقدارا كبيرا من العتاد الاحتياطي، وكان القائد ببه ينفخ في جنده حماسة لا تقهر، وقد اختار للعمل هيئة أركان حرب بارعة، ومع أنه خسر جنوده النابوليين الذين رجعوا إلى بلادهم بعد الهدنة؛ فقد ظل تحت إمرته نحو عشرين ألفا، من أربعة عشر ألفا من أهل البندقية، والباقي من أهل روما وشمالي إيطالية.
وقد تجلت شجاعة الحكومة والشعب في أجلى مظاهرها، وكانت مهمة مانين ورفقائه في اللجنة الثلاثية تأمين إعاشة مائة وثلاثين ألفا من النفوس، وذلك يقتضي يدا حازمة ولطيفة في آن واحد، وقد دلت الحوادث على أن البندقيين كانوا جديرين برئيسهم، وكانوا يرون القتال جهادا مقدسا؛ فلذلك يسارعون إلى تلبية الداعي بتقديم ما لديهم، فقدم الأغنياء دراهمهم عن طيب خاطر.
ولما طلبت الحكومة آنيتهم لتصنع منها النقود لبوا الطلب بحماسة، وأخذت المراسح تتبرع بوارداتها لشراء سفينة تجارية وأخذ الطلاب يقتصدون من غذائهم، وكنت تقرأ على جدار المدينة «البندقية تطلب الدراهم من الكنائس والحلي من النساء والبرنز من النواقيس والنحاس من المطابخ والحديد من قنابل العدو، كل هذا ولا الخرواتيين من أهل خرواتية.»
وكانت حادثة نوفاره قد أضاعت آخر رجاء في المساعدة من الخارج، ومع ذلك لم يخطر ببال أحد الاستسلام؛ إذ قرر المجلس - على إثر ورود أخبار نوفاره - المقاومة مهما كلف الأمر، ومنح مانين سلطة غير محدودة، وكان النمسويون يستعدون للهجوم وأخذت أعمال الخنادق تقترب يوما فيوما من حصن مالفيرا، وبعد أن قاوم الحصن هجوما عنيفا في أواخر أيار ثلاثة أيام، أصبح ركاما من الحجارة وانسحبت حاميته أمام عدو يفوقها عشرة أضعاف، ولم يستول اليأس مع ذلك على المدينة، فأقر المجلس المقاومة مهما كلف الأمر.
وشاهد أهل البندقية في حزيران قنابل العدو تسقط على الجانب الغربي من المدينة، وبعد ستة أسابيع حسن النمسويون رميهم وأخذت نارهم تصيب ثلثي المدينة فأخلي أكثر الحصون، وانتشر في المدينة مرض التيفوس والهيضة وقضى على أربعة آلاف من الناس، ولم يتذمر الشعب من جراء ذلك وظل يأمل خيرا رغم أن بيمونته وفرنسة وهنغارية وروما تخلت عنه.
وقد قام أصحاب الزوارق بضروب من البطولة مدهشة؛ وذلك باختراقهم خطوط العدو للحصول على بعض الذخيرة أو بعض الأخبار، وتسابق الصبيان لاقتناص قنابل العدو المهيأة للانفجار لتسليمها إلى دار الصناعة وأخذ الناس يقولون: «القنابل ولا الخرواتيين.»
ولم يحدث أي شغب حتى في أشد أيام الضيق الأخيرة، ولما أدرك مانين أن كل رجاء قد ضاع أصبح يميل إلى قبول ما عرض من الحكم الذاتي، ولكن بما أن شروط النمسويين كانت غامضة فإن المجلس قد رفضها بما يقرب من الإجماع، ولكن الذخائر لم تكن تكفي أكثر من نهاية شهر آب، وأخذ مانين يخشى بطش النمسويين فيما إذا استولوا على المدينة من دون قيد ولا شرط، وكان شعور الشعب ضد الاستسلام شديدا إلى درجة هددت سلطة مانين على المدينة.
وأخذ توماسو يحيك الدسائس على رأس جماعة متطرفة تظن بأن الذخائر لا تزال محفوظة في محلات خفية وتطالب بالاندفاع بقوة كبيرة، بيد أن ببه عاضد مانين بكل عزم حتى خوله المجلس أخيرا بأكثرية ضئيلة الصلاحية اللازمة للمفاوضة، وفي 22 آب استسلمت المدينة بعد أن كبدت النمسويين خسائر كبيرة تنوف على ثمانية آلاف قتيل وميت بمرض.
ومع أن الخرواتي المنبوذ قد داس حرمة المدينة فإنها قد خلدت ذكرها بأعمال البطولة واستحقت التمجيد، أما مانين فقد ذهب بعد كل تلك المآثر إلى المنفى لا يملك شيئا وعاش فيه عيشة المفكر العظيم بعد أن مثل في المدينة دور الرجل العامل.
وباستسلام البندقية ضاع كل شيء، وابتليت البلاد بحركة رجعية عنيفة ظالمة همها الانتقام والاضطهاد، وفي خلال سنة واحدة خابت الآمال العظيمة التي كادت أن تتحقق، وأخذ الناس يتساءلون عن الأسباب التي أدت إلى هذه النتيجة المحزنة، وقد أيقنوا أن السبب الأول هو تفوق قوة العدو مع أن هناك أسبابا أخطر من ذلك أدت إلى هذا الفشل اندمجت في طبيعة الحركة، فكانت حركة سنوات 1846-1849 ترمي إلى الاستقلال فقط من دون المطالبة بالوحدة وحتى إنها لم تكن تسعى إلى الاتحاد كل السعي، وكان عدد أنصار الوحدة قليلا جدا.
أما جمهورية مازيني الموحدة فسرعان ما أصبحت حبرا على ورق، وأما القلائل من الرجال الذين ارتئوا وحدة ملكية بزعامة شارل ألبرت فأظهروا عجزهم عن استكثار الأنصار، ولم يفكر الإلبرتون الأقحاح في ضم نابولي إلى بيمونته وفكروا قليلا في ضم الوسط، ولم يتجاوز تفكير رجال الحكم في بيمونته وادي بو وإيالة الروماني، وأعرضوا عن صقلية بينما كانت مستعدة للانضمام إلى بيمونته.
ومع كل ذلك فإن الخوف من توسع بيمونته ولد شعورا عميقا من الشك ورد الفعل كثيرا ما استغله الدموقراطيون وأنصار الملوك الآخرين، وقد تآمر مونتانلي ضد ضم لمبارديه إلى بيمونته، أما في لمبارديه نفسها فقد بذل الدموقراطيون والجمهوريون جهدهم للحيلولة دون الانضمام ووضع رجال الدولة الأحرار في نابولي الخطط لتوسيع ممتلكات فرديناند.
ومما زاد في الطين بلة تلك الاختلافات بين المعتدلين والدموقراطيين، أضف إلى ذلك ندرة الزعماء الأكفاء الذين لو تيسر وجودهم لذللوا كثيرا من هذه الصعوبات، ولا غرو فإن بلادا حديثة العهد بحريتها لا تستطيع أن تخلق رجال دولة شعبيين.
ولما كان الرأي العام لا يتحمل أن يرى وزراء الاستبداد في الحكم؛ فلم يكن مناص إذن من أن يتوجه رجال الأدب الذين قادوا الحركة الوطنية، فكان الوزراء الأولون في سنتي 1848-1849 بلا استثناء من الرجال الذين اشتهروا بأقلامهم ولم يكونوا مزودين بثقافة سياسية كافية، أضف إلى ذلك كله أن الموظفين كانوا ضد الثورة، أما الإدارة في طوسكانه وروما ونابولي فكانت خصيمة لكل حدث جديد، وطبيعي أن تسير الثورة التي يتخلى عنها الموظفون وتعاكسها الإدارة في طريق وعر.
الفصل العشرون
بيمونته بعد نوفاره - الارتجاع
1848-1850
لقد كانت نوفاره كارثة عظيمة نزلت ببيمونته وهي على فداحتها ما كانت لتجيز لبيمونته أن تستسلم وأن تترك المملكة تحت رحمة الغالب، فالجيش رغم ما أصابه من الذعر وفتور الهمة كان لا يزال سليما، وكانت فرنسة على أهبة التدخل، ولو اجتازت قواتها الحدود لاضطر راديتسكي إلى الانسحاب مسرعا ليحتمي بالقلاع الأربع، وكانت بيمونته قادرة على إطالة أمد المقاومة وراء ألكسندرية وتورينو، ورغم الغضب والذعر والارتياب من الخيانة فإن الهتاف كان لا يزال يدوي عاليا بتأييد المقاومة واستنكار الخضوع؛ إذ كيف يصح لبيمونته أن تستسلم والعلم المثلث الألوان ما يزال يخفق فوق روما والبندقية وبولونيه وبرسية.
ولما اطلعت تورينو على خبر الانكسار أصدر المجلس النيابي قرارا يدعو فيه إلى التجنيد العام، واستغل الدموقراطيون اسم شارل ألبرت ودعوا الشعب إلى الاستمرار على المعركة التي بدأ بها الملك الوطني، ولكن ذلك كله لم يحل دون عقد الهدنة، ولما علم الناس شروطها التي تتضمن احتلال ألكسندرية مؤقتا وسحب الأسطول الرأسي في البندقية أنكر الحزب القائل بالحرب الهدنة، وعدها المجلس النيابي عملا منافيا للدستور.
أما في جنوة فقد أدى الارتياب من الخيانة إلى الثورة، فباغت أهل جنوة الحصون المحيطة بالمدينة واستطاعوا أن يستولوا عليها بحجة الدفاع عنها ضد الهجوم النمسوي الموهوم، فاعتزمت الوزارة الجديدة التي تولت الحكم في عهد الملك الفتي فيكتور عمانوئيل الثاني أن تضرب أهل جنوة العصاة وساقت عليهم الجند بقيادة لامارمورا، وبعد قتال استمر يومين خضعت المدينة.
ولا ريب في أن هذا العمل بادرة مخزية، تشين بسمعة حكومة بيمونته الجديدة لقد كان بين رجال بيمونته من كان يفكر في إمكان المقاومة، وأنها قد تنتهي بالفوز ولا سيما أن خسائر الجيش كانت قليلة فضلا عن أن الفرقة اللمباردية كانت لا تزال سليمة وقوات مارمورا لم تشترك في القتال إلا في جنوة، وقد يدفع عزم المستميت إلى النصر، ولو أصرت فرنسة على سياسة الحياد ولكن لقاء هذا يقول رأي آخر بأن استئناف الحرب قد تودي البلاد إلى احتلال تورينو وإلى اشتداد الكارثة، ولم تكن بيمونته مستعدة لمواجهة كل هذه الاحتمالات، فالمؤامرات الرجعية تحاك بين الجنود والقرويين والجيش أصبح لا يميل إلى استئناف القتال.
وكانت الحرب بنظر المعتدلين والرجعيين عبارة عن غلطة فاحشة ارتكبها الدموقراطيون، ولم يكن المعتدلون والرجعيون يشعرون بأي عطف نحو الجمهوريين الذين كانوا يجاهدون في روما والبندقية في سبيل شرف إيطالية.
على أن هذا لا يمنع القول بأن المعتدلين كانوا كالدموقراطيين؛ عازمين على أن لا يقبلوا أي شرط يمس بكرامة الأمة، وكانوا يؤمنون - كمنافسيهم - برسالة بيمونته ويحملون لحلفائهم اللمبارديين الشعور الحماسي نفسه، وكانت أكثرية البيمونتيين عازمة على القتال إلى آخر نفس بدلا من الخضوع لشروط مخزية تمس بمستقبل بيمونته، وكان الملك الفتي يمثل - بشخصه - عزيمة الأمة الباسلة، وكان يحقد على النمسة قائلا: «أعطوني أربعين ألفا من الجند؛ أفسخ الهدنة غدا.» ولكنه اعتزم قبول السلم إذا كان شريفا.
وفوجئ الناس في 26 آذار بتبديل وزاري، وخلف رتازي الذي نبذه المعتدلون لوناي وهو من المحافظين من أهل صافو وكان معروفا بمعارضته للدموقراطيين، فحل لوناي المجلس وصدرت الأوامر بإجراء انتخابات جديدة، وفي أوائل أيار خلف لوناي دازجيلو وكان شعاره: «لا حرب ولا عار»، وأنه إذا خير بين الأمرين فإنه يرجح الحرب ولا يريد أن يضحي باللاجئين مهما كلف الأمر، واستمر على سياسة سلفه المعارضة ضد الأندية، وكادت المفاوضات التي جرت بعد الهدنة تنقطع بسبب الشروط الثقيلة التي فرضها النمسويون ورفض بيمونته إياها، وكانت النمسة عازمة على عقد الصلح على أية صورة بشرط أن ترضي حكومة فيكتور عمانوئيل الثاني بتعديل الدستور والاتفاق معها فتسلم بذلك من دفع غرامة حربية وتضم إيالة بارمه إلى بيمونته، إلا أن الملك ووزراءه لم يلبوا الطلب.
ولما طالبت النمسة بغرامة حربية تبلغ 230 مليونا من الليرات وحل اللجنة اللمباردية كان جواب «لوناي» لها أنه لا يفاوض ما لم يعلن الإمبراطور العفو عن رعاياه الطليان ويتخلى عن دعواه بالسيادة على دوقية لمبارديه، ولما رفض النمسويون هذه المطالب واحتلوا ألكسندرية قطعت الحكومة المفاوضات وطلبت توسط فرنسة وإنجلترة.
ولم يكن حينئذ تفاهم أوروبي على التدخل بين الغالب والمغلوب، وأراد لويس نابليون أن يعلن الحرب بعد حادثة نوفاره على أن يحتل إيالة صافويه ومدينة جنوة مكافأة له على صنيعه، ولكن حكومة بيمونته لم ترغب في دخول القطعات الإفرنسية في أرض بيمونته إلا في آخر لحظة.
ومع ذلك فإن دول الغرب قامت بمساع جدية في فينا، وكانت النمسة منهمكة في مشاكلها المالية وبالثورة الناشبة في هنغارية والبندقية، بحيث عجزت عن احتمال هذا الضغط، فأخلت ألكسندرية واستأنفت المفاوضات، وظل الفريقان عند رأيهما لأن دازجيلو كان لا يريد سلما لا تكون فيه ضمانة لحياة اللمبارديين.
وكان النمسويون يتوقعون قيام حركة رجعية في بيمونته، وفي شهر آب قررت وزارة فينا بضغط فرنسة منح عفو شبه عام وتخفيض الغرامة إلى 75 مليونا بشرط أن يتخلى الملك عن بيازنسه، ثم عرضت المعاهدة على المجلس المنتخب حديثا، وقد دلت الانتخابات على أن البلاد لم ترحب بوزارة لوناي، وكان أكثر النواب من الدموقراطيين رغم أن نواب العاصمة كانوا من المعتدلين والرجعيين.
وعليه فإن المجلس قد ورث الحرب عن النواب القدماء وبانتخاب «بارينو» لرئاسة المجلس أظهر النواب نياتهم، وكان الجميع يدرك بأن المعاهدة لا مناص منها ولا رغبة له في رفضها، ومع ذلك فإن النواب عدوا بعض موادها مخزية؛ لأنها وإن كانت تصون أرض بيمونته إلا أنها تحول دون المطالبة بالتوسع، وحاول عبثا بالبو إقناع المجلس المجلس بقبول المعاهدة باحتجاج صامت، وكان العفو قد استثنى ما يقارب مائة شخص من اللمبارديين والبندقيين وكان المجلس يخشى مطالبة النمسة بتسليمهم إياها، وكان المجلس قد أقر اقتراحا بمنح الجنسية لجميع الطليان المولودين في حدود الدولة البيمونتية، ومع أن الوزراء كانوا قد اشتركوا في التصويت لهذا الاقتراح إلا أنهم أوقفوه في مجلس الأعيان ووافق المجلس في شهر تشرين الثاني على قرار بأكثرية ضعيفة يقضي بتأجيل تصديق المعاهدة حتى يضمن مصير اللاجئين.
فأدى فشل الوزراء إلى أزمة أخذت تتهدد الموقف، ولو كان الحزبان المعتدل والدموقراطي على وفاق لأصبح من السهل التفاهم بينهما على حل قضية اللاجئين، إلا أن الاختلاف بينهما كان خطرا يتناول المعنى والشكل، ورغم أن رئيس الوزراء رفض توقيف الدستور عملا بتوصية بنيلي وريفيل؛ فإنه أصدر إرادة ملكية بحل المجلس وإجراء انتخابات جديدة، وليس في هذا الأمر ما يمس الدستور، إلا أن ما ورد في الإرادة من تعابير تهاجم الأكثرية وتهدد باستعمال الشدة إذا لم ينتخب مجلس ملائم ينافي روح الدستور، فلم يبق أمام أحرار إيطالية إلا الاحتفاظ بالدستور.
حقا إن السنوات العشر التي مرت بتاريخ بيمونته هي تاريخ إيطالية وإن الموقف الحازم الذي وقفته بيمونته في مفاوضات السلم بشأن الجنسية الإيطالية وثباتها في القضية الدستورية؛ جعلا الأمة الإيطالية تنظر إليها نظرة إكبار، وتعتبرها الدولة المجاهدة الباسلة.
ومما قاله «كافور» في مفتتح خطابه في أثناء المذاكرة حول قوانين «سيكاردي»: «على بيمونته أن تجمع حولها جميع قوى إيطالية الحية وأن تقود أمتنا نحو الغايات السامية التي خلقت لأجلها.»
وكانت تورينو قبل هذا وطنا لأبطال الثورة الذين أقصوا عن بلادهم، وقد زاد عددهم في المدن الكبيرة حتى قيل إنهم بلغوا نحو خمس نفوسها، وقد جلبوا لبيمونته حياة وحرية جديرتين وجهزوها بعدد من أقدر المفكرين المشبعين بالروح الإيطالية، أمثال المؤرخين فاريني ولافارينا وسكيالوجيا والاقتصادي ممياني وتوماسيو وغيرهم من علماء وراء الطبيعة، وفريق من أنبل أشراف اللمبارديين والدموقراطيين أمثال كوردوفا وكريسبي من صقلية وكورانتي من ميلانو.
وانخرط في الجيش ضباط من مودينه ولمبارديه ومعلمين من جامعة نابولي وكان المجلس النيابي نفسه يحتوي على رجال سياسة من جميع أنحاء إيطالية، وكان البعض منهم في الوزارة نفسها.
الارتجاع
طغت موجة من الارتجاع على جميع إيطالية، وكانت شديدة الوطأة في روما ونابولي، وخفيفة في الأقطار الأخرى، وأعطى الإفرنسيون روما إلى البابا الذي كان يعتقد بأن مستقبل الكنيسة يتوقف على استمرار تمتعه بالسلطة الزمنية، وكانت صدمة تلك الثورة القومية قد أفزعته فما دخل روما حتى تخلى عن ميوله السابقة للحرية؛ ليحيي عهد جرجوار بكل فظاعته.
وكان المتعصبون من رجال الدين الذين اجتذبوا البابا إلى جانبهم؛ حريصين على الانتقام، ومتلهفين للقضاء على كل ما تم في السنوات الأخيرة الثلاث.
لقد احتج مائتان وستون مجلسا من مجالس النواحي - بما فيها جميع المدن المهمة بين روما ووادي بو - على استعادة السلطة الزمنية، وأيقن وكلاء البابا في الروماني أن إعادة الحكومة في الولايات لن تتم إلا بمساعدة الحامية النمسوية، فحالما كان النمسويون ينسحبون من مدينة يسارع أهلها إلى ركز شعار الجمهورية.
وكان الإفرنسيون قد اطلعوا تماما على هذه الحالة الروحية، فأخذوا على عاتقهم حماية المؤسسات الحرة، وكان أكثر الأعضاء اعتدالا في وزارة روما وقتئذ يريد ذلك، وكان أودينو القائد الإفرنسي، قد اتخذ أشد التدابير لمنع الجمهوريين من رفع رءوسهم واشترك المعتدلون في الحكومة ومنحت جوازات السفر بلا عائق، فحصل عليها آلاف من الناس؛ بغية الخلوص من نقمة البابا، الأمر الذي أغضب الكرادلة الذين رافقوا البابا في جايته.
وأخذ البابا يتذمر من تسامح الإفرنسيين ولينهم وأصبح بلاط جايته يتشوق للتخلص من أصدقائه، ليلقي بنفسه في أحضان النمسة العطوف، ولما كان الإفرنسيون يريدون أن يجعلوا من البابا أداة مساومة ضد النمسا؛ فقد سارعوا لجلبه إلى روما تحت إشراف جيشهم، وأعلن أودينو إعادة سلطة البابا إليه في 14 تموز، وفي نهاية الشهر خول أودينو سلطاته إلى الكرادلة الثلاثة الذين أطلق عليهم اللجنة الثلاثية الحمراء.
وقد كان بين مظالمها الشديدة وبين اعتدال سلطة مازيني فرقا عظيما، وظهرت للميدان شرطة البابا ومجلس التفتيش وأخلي سبيل مجرمين السانفيديست وحلت الرشوة في المالية محل الإدارة الجمهورية الصالحة النزيهة، وكان مونتانلي قد عرض على ممثلي الدول الكاثوليكية في جايته مشروعا وعد إياها فيه برعايته الحكومات المحلية ومساعدة العلمانيين على الاشتراك في الوظائف بمقياس واسع، والقيام بإصلاح الإدارة والقضاء، وتأسيس مجلس دولة منتخب ولجنة استشارية خاصة بالشئون المالية، فلما طلب منه الممثل الإفرنسي أن يمنح اللجنة المالية سلطة تنفيذية بدلا من سلطة استشارية وحثه على عقد مجلس تمثيلي؛ أجابه مونتانلي فورا أن الحكم البرلماني لا يتفق مع حرية البابا الروحية.
وكان لويس نابليون قد أظهر مقته بكتاب أرسله إلى زعيم «كولونيل» في جيش الاحتلال الإفرنسي بتاريخ 18 آب هاجم فيه الكرادلة قائلا: «إن الجمهورية الإفرنسية لم ترسل إلى روما جيشا للقضاء على الحرية الإيطالية وإنما أرسلته لأجل تنظيم هذه الحرية وإنقاذها من الغلو.»
وفي الكتاب يقول بضرورة صدور عفو عام، وإقامة إدارة مدنية، والأخذ بقانون نابليون المدني، مشيرا بمرارة إلى الجحود الذي أنسى البابا الوفاء بتعهداته نحو فرنسة، وقد كتب لويس نابليون هذا المكتوب على مسئوليته ولم توافق الوزارة على إرساله إلا لاعتقادها بأنه لا ينشر.
ولما شاع خبر المكتوب اتخذه مونتانلي وسيلة ليعلن استقلاله وشكوكه في نيات فرنسة، وانسحب البابا إلى قصر ملك نابولي في بورتيجي وأعلن للملأ أنه لن يعود إلى روما ما لم تتجاهل فرنسة هذا المكتوب وتتركه طليقا في الإصلاحات التي يراها ضرورية، وقال إن أقصى ما يتسامح به إرادة يعد بها بعفو غامض وإقامة مجلس دولة وتأليف لجنة مالية ومجالس إدارية في الولايات وسلطة واسعة لمجالس النواحي وإصلاحات في القضاء.
وكانت الاستثناءات التي وردت في العفو تتضمن إما إنزال بعض العقوبات أو نفي جميع أعضاء المجلس التأسيسي وجميع أعضاء الحكومات المؤقتة ومعظم رجال الجيش من ضباط الحرس الذين غض عنهم في سنة 1846 وكل من كان له ضلع في الثورة، وقد اضطر آلاف من المواطنين المخلصين أن يقبلوا النفي والبؤس؛ خيفة الاضطهاد.
وقد أظهرت السنوات التي تلت تفاهة قيمة الوعود بالإصلاح، ولقد عاد البابا في 12 نيسان إلى روما محفوفا بالجنود الأجانب دون أن يلاقي أي حفاوة من شعبه وأخذ البابا يفخر بأن بلاطه مجرد من النفوذ الداخلي والخارجي، وأنه يعاضد النظريات اللاهوتية الملائمة في إيطالية وفرنسة وإنجلترة وتشجيعها، ويعهد للرهبان بالإشراف على التعليم ويضع عقائد جديدة ويقمع أية نزعة حرة.
وإذا كانت البابوية قد أضاعت مركزها في إيطالية؛ فإنها أصبحت قوية في الخارج، وقد غدت الكنيسة تحت رحمة اليسوعيين بكل معنى الكلمة، ومع أن المعارضة الوطنية والحرة لم يقض عليها القضاء الكلي إلا أنها أصيبت بالعجز تدريجيا أمام الاقتراع الكاثوليكي العام في الأمم اللاتينية الذي كان يفضل الاستبداد الروحي على الحرية، ويضع الكنيسة فوق الوطن.
أما في نابولي فبعد أن تحرر فرديناند من كل نفوذ أجنبي انطلق نحو استبداد لا مثيل له، ومن ظريف ما يذكر أنه حمل المعلمين على أن يقولوا لتلاميذهم: «بأن الأمير في حل من الحنث في يمين الولاء للدستور، إذا كان ذلك اليمين منافيا لمصلحة الدولة العامة وأنه لا معنى لأي وعد يقطعه الأمير ويحدد فيه سيادته وسلطانه.» وقد هنأه قيصر روسية بصفته منقذ النظام الاجتماعي، وبعد أن لاقت منه صقلية عقابا صارما هوت على قدميه مضرجة بدمائها.
وقد أسرع فرديناند فمحا آثار الرقي الحر الذي تم في السنة المنصرمة، فوضع التعليم في مخالب الإكليروس، وألزم التلاميذ في كل جامعة بأن ينتموا إلى هيئة روحية وسمح لليسوعيين بالعودة، وأصبح الوزراء عبارة عن مستشاري الملك لا أكثر، وكاد الوزراء الجديدون رغم هذا أن يثقوا حينا من الزمن بوعود فرديناند بأن يرعى الدستور ولكنه تعهد للنمسة بأن لا يفي بوعوده.
ولكي يسوغ ما بيته للدستور؛ أرسل صنائعه للولايات للحصول على استدعاءات يلتمس فيها موقعوها إلغاء الدستور، وقد حمل الكثيرون على التوقيعات قسرا، ومع أن رئيس أساقفة نابولي رفض التأثير في رجاله رفضا باتا ورغم أن المجلس البلدي في العاصمة امتنع عن التواقيع؛ فالمؤامرة نجحت وأصبح في اليد عدد من الاستدعاءات يسوغ تعطيل الحياة الدستورية.
ولم تقنع جماعة الكاماريلا بكل ما تم، وسارت في نابولي مظاهرة معارضة، لعل الشرطة هي التي دبرتها، وانفجرت قنبلة بين الجماهير المتظاهرين، وانتهز أذناب البلاط هذه الفرصة لتنظيم حركة الإرهاب فقبض على اثنين وثمانين من وجوه الأحرار بتهمة انتمائهم إلى جمعية وحدة إيطالية الثورية، وكانت المحاكمة التي استمرت ثمانية أيام أشهر عبارة عن مهزلة قضائية زورت فيها الكتب، واختلقت التهم، وأجبرت الشرطة الناس على الشهادات المزورة، ولجأت إلى كل أساليب الضغط والإرهاب لإجبار المتهمين على الاعتراف.
وألقي المتهمون في السجون مع المجرمين العاديين، ثم حكمت المحكمة على ثلاثة وعشرين منهم بالأشغال الشاقة المؤبدة أو الطويلة الأمد، وكان بينهم بويرتو وسبتمبريني، وأدهشت هذه المحاكمة الرأي العام حتى إنها جلبت شفقة أهل سانتالوقا للمضطهدين وأخذ الفقراء يبيعون الخبز لشراء الشموع، ويشعلونها في الكنائس للحصول على عناية القديسين.
وقد احتج السفراء على مهازل تلك المحكمة وعلى سياسة البطش الظالمة، فكان جواب فرديناند أنه أرسل المحكوم عليهم مكبلين بالحديد إلى سجون وينسيده وأيشجيه، وكان المستر جلادستون وقتئذ في نابولي فاتصل بالمحكوم عليهم خفية، واطلع على فظاعة ما يجري، وقد شرح ما شاهده من فظاعة بكتاب أرسله إلى الكونت واميردن في نيسان سنة 1851، ونشر الكتاب في لندن فأحدث هزة اشمئزاز في جميع أنحاء أوروبا.
وظل الملك يزدري بالرأي العام العالمي؛ إذ قبض على ستة وأربعين عاملا لمقاومتهم المظاهرة التي قام بها الجمع الموالي للملك قبل ثلاث سنوات وحكم على أكثر من نصفهم بالأشغال الشاقة لثماني عشر سنة، ثم تلا ذلك حبس ثلاثمائة شخص ومن بينهم عشرون نائبا.
ومما يلفت النظر أن شهادة شخص كان قد حكم عليه خمس مرات بالاحتيال، كانت كافية لإدانة خمسة وعشرين متهما، وقد بلغ عدد المحكوم عليهم خلال سنوات الرجعية الأربع ما يربو على الاثني عشر ألفا، ولم تنكر الحكومة أن عدد المسجونين السياسيين يبلغ أربعة آلاف، ويظن أن أربعين ألفا من الناس قد وقفوا أمام المحاكم.
أما حركة الارتجاع في طوسكانه فلم تكن شديدة الوطأة شأنها في روما ونابولي بعد عودة البابا وفرديناند إليهما؛ ذلك لأن الحركة التي عاكست الثورة كانت شعبية من جهة؛ إذ انحاز إليها القرويون بحماسة وإخلاص، ثم لأن الأحرار المعتدلين من جهة أخرى كانوا يرون في عودة الدوق خلاصا من الدموقراطية الشديدة ومن الاحتلال النمسوي.
وكان أحرار طوسكانه كما وصفهم ريكاسولي: «صبيانا ليس لهم عقل سليم ولا خلق ولا دراية؛ إذ تركوا الثورة تتلاشى من الضعف واهتموا كثيرا بأنفسهم وبأموالهم.»
ثم بوغت الأعيان الذين ألفوا الهيئة الحكومية بنشوب ثورة في ليفورته وأدركوا أن خطر هذه الثورة قد تؤدي إلى الاحتلال النمسوي، فالتمسوا من فرنسة وإنجلترة أن ترسلا أسطولهما لتهديد الحركة، ولولا معارضة الدوق لقبلت فرنسة الدعوة ثم ولى الوجهاء وجوههم شطر بيمونته، ولكن حكومة تورينو أجابت بأنها لا توافق ما لم تشترك حكومة نابولي في الأمر وما لم يوافق الدوق الكبير نفسه على ذلك، وكان هذا سبق فارتبط بالنمسة واشترك في وضع الخطة لاستيلاء راديتسكي على البلاد.
وكان حين قابله المندوبون من هيئة الحكومة في جايته وعدهم بإعادة الدستور وأكد لهم بأنه لا يساعد على حركة استيلاء من جانب النمسويين، بيد أن رسوله «سريستوري» الذي أوفده ممثلا عنه إلى فلورنسة كان يعلم بتواطؤ سيده مع النمسويين على الاحتلال، وقد اجتاز لواء من قوات القائد النمسوي أسبر الحدود واحتل لوكا وتقدم نحو ليفورنه فقاومت المدينة الجمهورية مقاومة المستميت، ولما أعلن سريستوري أن النمسويين إنما أتوا من دون رضاء الأمير غضب أسبر بسبب هذه الكذبة، وأعلن بأنه لم يتحرك إلا بناء على رجاء الأمير نفسه، وراح النمسويون يتهددون الأمير بالخلع إذا لم يسلك مسلكا مرضيا فلم ير بدا من الخضوع لهم ودخل أسبر فلورنسة في 25 أيار، وفي اليوم ذاته تألفت وزارة جديدة ومارست أعمالها وكانت مؤلفة من المعتدلين الذين كان يظن أنهم راغبون في إنقاذ الدستور.
وبينما كانوا يخافون أن تترك الحامية النمسوية المدينة؛ كانوا من جهة أخرى يسعون إلى تخفيض قوتها إلى الحد الأدنى القرويين المضطهدين إلى العصابات التي كانت تنافس الحكومة في أعمال العنف والإرهاب وخربوا إحدى المدن وقبضوا على المتفرجين في إحدى صالات المراسح وأفرغوا ما في جيوبهم.
أما دوقيتا وادي بووهما مودينه وبارمه فظلتا كالسابق تابعتين للنمسة، وقد عاد فرنسوا الخامس إلى عرش مودينه وشارل لويس إلى عرش بارمه بمساعدة الجند النسموي وأخذا يحكمان دوقيتهما بحماية هذا الجند، ولم يكن فرنسوا مستبدا مثل أبيه ولم يكن بطبيعته كثير الميل للظلم، ومع أن الأحكام التي صدرت ضد الأحرار كانت كثيرة وقاسية ومع أنه انتقم بلا رحمة من القرويين؛ فإنه لم يعاقب المتهمين السياسيين عقوبات شديدة إذا قورنت بالفظاعة النمسوية في لمبارديه والروماني؛ فلذلك كانت الرجعية خفيفة الوطأة في مودينه.
وعلى نقيض ذلك جاوز الاضطهاد في بارمه جميع الحدود، وبعد أن أعلن شارل لويس عدم مشروعية جميع الأعمال التي قامت بها الحكومة المؤقتة تنزل عن الملك لابنه شارل الثالث، واعتبر الأمير الجديد رعيته ألعوبة لشهواته وظلمه، فألغى الدستور الموعود وظلت الإدارة العرفية مستمرة وأغلقت الجامعات وفرضت الغرامات الباهظة على أعضاء الحكومة المؤقتة، وأرغم الموظفون والأساتذة والتجار والقضاة على حلق لحاهم وشواربهم، ولم يسمح للأطباء والمحامين بمزاولة مهنتهم ما لم يبرزوا شهادة تؤيد حسن سلوكهم السياسي.
ولأجل معاقبة القرويين الذين اشتركوا بالثورة بأجمعهم منعوا من تسريح أي خادم ما لم يوافق عليه الموظف، بيد أنه أبرز ما يميز استبداده الجنوني إحياؤه عهد السوط، تصاغرت أمامه المظالم التي ارتكبها ضباط راديتسكي، فجلد ثلاثمائة شخص على الملأ خلال الخمسة الأشهر الأولى من حكمه، جلد بعضهم لأنهم أنشدوا نشيدا وآخرون لأنهم حاولوا أن يسكروا ضابطا نمسويا، وبعضهم لأنهم انتقدوا قرارات الدوق، أو لأنهم حازوا نشرة حرة أو اقتنوا جريدة من تورينو، وضرب الأمير بيده بعض المارة لأنهم لم يحيوه.
يزعم «فليكس فون شوار فتسبرج» رئيس الحكومة النمسوية أن الطليان لا يستحقون المؤسسات التمثيلية التي قد تقودهم إلى الاصطدام بالنمسة، ذلك الاصطدام الذي كان رجال الدولة في العهد الرجعي يسمونه الفوضى، وكانوا يصرحون بأن الحرية البلدية والإدارية التي تتمثل في اقتراع ضيق هي وحدها تلائم تقاليد إيطالية وتسد حاجتها، وأن دموقراطية تظل مقيدة بسلاسل الشرطة والتعليم الديني هي التي تكفل وجود حكومة أبوية تعين على وفاء الشعب الأدبي والمادي.
وكان شبح الاشتراكية والتشاؤم الأحمر يثير الفزع في رجال الدولة في بلد تجهل الاشتراكية والريبييه، وكانت هوة سحيقة تقذف بين الأحرار والكاثوليك، فالنزعة الحرة في نظر الكاثوليك تعني ضياع الدين، ثم إن كل ضربة تصيب البابوية ينعكس صداها في الكنيسة وفي كل ما يهم الكنيسة، ويرى الكاثوليك أن الناس إذا تخلوا عن السير وراء الكنيسة تفسد أخلاقهم وكانوا يخشون التفكير الحر ويعتقدون أن سلطة الأب المطلقة هي وحدها التي تحفظ الشبيبة من عدوى الحركات الشائنة المشئومة.
وقد يكون التعليم ضارا إذا لم يشرف رجال الدين على التعليم الديني وإذا لم يجبر التلاميذ على التمسك بفكرة دينية واحدة، فالنكاح المدني مثلا يسهل الطلاق والطلاق يدنس الطقوس، فالدولة يجب عليها أن تراعي الفضيلة وفوق ذلك كله يجب أن تبقى البابوية في مقامها الرفيع مصدرا لكل سلطة، وبينما كان الكاثوليك في إيطالية يفكرون بما ذكرناه؛ كان الكاثوليك في العالم يعتبرون البابوية هي مؤسسة كاثوليكية أكثر مما هي إيطالية.
وكان رجال الدولة في العهد الرجعي يقولون أيضا بهذه النظريات، فالعلاقات الخارجية للاتحاد الكاثوليكي الملكي يجب أن تصبح حلفا جديدا ، وكانت مودينه وبارمه قد جددتا الاتفاقية الخارجية مع النمسة التي فرضتها عليها بالقوة، وكان فليكس فون شفارتسنبرج يرغب في أن يوسع هذه الاتفاقية بحيث يحولها إلى حلف سياسي يجمع كل الدول الرجعية في إيطالية، فتدخل النمسة فيه باعتبارها مالكة إيالات إيطالية ويستهدف منع الحلف القيام بعمل مشترك لمكافحة الأحرار والصحافة وتأسيس جيش اتحادي وأن يتعهد المتعاقدون بأن يؤسسوا حرسا وطنيا وأن لا يمنحوا حق الاجتماع وأن لا يقوموا بإصلاحات ما لم توافق عليها جميع الدول الداخلة في الحلف، وكان «بلداسيروني» رئيس وزراء طوسكانه في طليعة الرجعيين بالفكرة.
وأظهرت بارمه وروما استعدادهما للسير وراء بلداسيروني، بيد أن فرنسوا دوق مودينه لم يرحب بهذا المشروع. أما ملك نابولي فرفض الانضمام إليه رفضا باتا، وكان رفضه هذا ضربة قاضية على المشروع، وبما أن الاتفاق كان موجودا بالفعل بين النمسة والدوقيات؛ فإن الباب ظل مفتوحا لمن يريد أن يلجه، أما المواد الوحيدة التي روعيت في المشروع - باستثناء الاتحاد التجاري - فهي الاتفاق البريدي بمنح النمسة حق فتح مخابرات الوطنيين واتفاقية ربط السكك الحديدية بين طوسكانه ولمبارديه والروماني.
أما النظريات التي أيدها الاتفاق فكانت ذات نتائج إيجابية من الناحية الدينية، وكانت الكنيسة الكاثوليكية ضرورة لازمة لرجال الدولة الذين أدركوا ما في سلطة البابا من قوة يمتد سلطانها في كل أنحاء البلاد بواسطة الرهبان، ولكي تنال النمسة وطوسكانه حماية هذه السلطة فإنهما استعدا للتخلي عن الاستقلال الإكليروكسي وكانت طوسكانه أول من تنزلت عن هذا الحق، فوقع بلداسيروني في 25 نيسان 1851 اتفاقية تمنح روما جميع ما كانت تطلبه وبذلك ظفر الأساقفة بحرية المخابرة مع المقام البابوي ومنحت لهم سلطة الرقابة على جميع المؤلفات الدينية.
وسلكت النمسة الخطة نفسها وكانت الحكومة سنة 1850 قد منحت الأساقفة حرية المخابرة مع روما، ووعدت بأن تقدم السلطات المدنية مساعدتها للإكليروس في المحافظة على الضبط الديني في بعض الحالات، وأضحت الاتفاقية التي عقدت في سنة 1855 عهد خضوع تام للكنيسة؛ إذ جعلت الحكومة التعليم الكاثوليكي تحت إشراف الأساقفة في جميع المدارس الأولية والثانوية ومنحتهم حق الرقابة على المؤلفات اللاهوتية وحق القضاء في جميع الشئون الخاصة بالنكاح، واستمرت الكنيسة في سيرها الظافر حتى تناول سلطانها أخيرا مودينه، وبهذا يكون مشروع الحلف الرجعي العظيم قد أصاب بعض الفوز.
الفصل الحادي والعشرون
كافور
1850-1851
حسب «بلداسروني» أن بيمونته ستنضم إلى الحلف لا محالة؛ إذ كان يشك في أنها تظل محافظة على مؤسساتها الحرة وبعد أن طوقتها الحركة الرجعية الظافرة، كان يجابه هذه الدولة الصغيرة التي تبلغ نفوسها خمسة ملايين اثنان وثلاثون مليونا من نفوس النمسة ويضاف إليهم قوى إيطالية الحكومية بأجمعها.
وقد كان هم رجال الدولة في فيينا أن يحملوا بيمونته على التخلي عن دستورها، وكانت بيمونته ذاتها مصابة بعناصر الوهن والتفرقة، فالإكليروس في تورينو وبعض المناطق الريفية يسيطر على قسم كبير من الناحيتين، حتى إذا ما حرضته روما؛ استطاع أن يساعد الحزب النمسوي والحركة الرجعية.
وكان الأميون في الدولة ويبلغ عددهم ثلاثة ملايين ونصف مليون؛ مرتعا خصبا لاستغلال رجال الدين، أما المثقفون من الأشراف فكان ميلهم للنمسة وروما أكثر من حبهم للوطن، إن هيبة الحكومة أصيبت في حادثة نوفاره بضربة حالت شدتها دون أن تستعيد مكانتها بسرعة، أما الطبقة المنحطة من اللاجئين فقد جلبت جراثيم من الشغب سارية لولا تقاليد البلاد في رعاية القوانين لأدت إلى اضطرابات اجتماعية خطيرة وكان الحصاد رديئا، وأخذ الحلف النمسوي يهدد تجارة بيمونته ويسد أبواب نصف إيطالية في وجهها، أما البلاد الأجنبية بما فيها فرنسة وإنجلترة فكانت لا تعطف عليها إلا قليلا، ناهيك بالرجعيين في أوروبا الذين كانوا يعتبرونها خطرا يهدد سلم القارة.
على أن في سياسة الحكومة نفسها ما يكفي لخلق الصعوبات، فحكومة بيمونته حذت حذو حكومتي فيينا ونابولي بإظهار سخطها على الثورة، وصارت تدعو إلى احترام حدود جاراتها وتجهر بأنه ليس لها أي مطمع في تجاوز حدودها ولم يكن والحالة هذه أمام دازجيلو طريق آخر، وأصبح من المتعسر استئناف سياسة 1848-1849 من دون مساندة فرنسية، وكانت حكومة فرنسة تبذل كل نفوذها لإبقاء بيمونته ساكنة ولكبت ميولها ومطامحها، على أن الحكومة كانت تعلم جيدا أن الفرصة إذا حانت للتقدم فإن احترام الحدود يصبح مجرد ألفاظ ليس إلا، وكانت المعارضة حينئذ ضعيفة جدا لا تستطيع أن تعمل أكثر من مظاهرة وتأييد منهج دازجيلو.
وكان المجلس قبل صدور الإرادة بحله قد أبدى رأيه الصريح في استنكار سياسة التساهل مع النمسة والحرص على صيانة شرف الراية الإيطالية، واستمر على المطالبة بمنح جنسية إلى الإيطاليين المولودين في بلاد بيمونته، ومن الراجح أن الدموقراطيين لم يكونوا يمثلون مطلقا شعور الأكثرية الحقيقي في البلاد، فقد كانوا أقوياء بين الطبقة المتوسطة كالتجار والصناع والموظفين في النواحي، بينما كان أكثر الناخبين من المحافظين، وكان المرسوم الذي استصدره مونكالييري بالحل من جملة الأسباب التي ضمنت للبرهان الجديد أكثرية محافظة.
وقد جاء انتخاب المئتين والأربعة أعضاء في المجلس النيابي البيمونتي جوابا قاطعا يفند التهمة الموجهة إلى الطليان بأنهم غير جديرين بالمؤسسات التمثيلية؛ إذ ظفر المجلس بنواب رزينين أذكياء وطنيين، ولم يؤلف الأعضاء أحزابا متبلورة بل كان الأعضاء يتنقلون من فئة إلى فئة أخرى، وكانت أكثرية الوزارة من عناصر لا تضامن بينها، وكان يجلس في أقصى اليمين عدد ضئيل من الرجعيين انتخبوا من إيالة صافويه، وكانوا قدماء في مجلس الأعيان ولو أتيحت لهم فرصة لضربوا بالدستور عرض الحائط، وكانوا يدعون بأن من واجب الحكومة الكاثوليكية أن تخضع للكنيسة ويعارضون بشدة كل سياسة تقدمية ويسعون إلى تخفيض قوة الجيش، وكانوا يتهددون قائلين: «إذا كان البيمونتيون إيطاليين فيجب إذن أن تكون جبال الألبة هي الحد الفاصل بين فرنسة وإيطالية.» إلا أنهم كانوا يسندون الحكومة حين مهاجمة الدموقراطيين إياها.
وكانوا يتلقون الأوامر من روما ومن فيينا أحيانا، ويجلس في اليمين نواب أكثرهم من الدستوريين المعتدلين الذين قبلوا الدستور مخلصين له واشتركوا في الحرب وعطفوا على فكرة الاستقلال الإيطالي، بيد أنهم كانوا يقاومون كل حركة تهدد استقلال بيمونته الذاتي أو تؤدي إلى نقل العاصمة من تورينو إلى مدينة أخرى.
وكانوا يؤلفون حزبا محافظا حقيقيا، ويخشون جانب الدموقراطيين وينزعون إلى تأييد امتيازات الكنيسة وحقوق الملك، وكان دازجيلو وبالودينللي ينتمون إليهم ، وظل كافور بطلهم القوي إلى أن رأى صعوبة السير معهم في القضايا الإكليريكية والمالية، وكان ريفل رئيسهم الحقيقي وهو من مدينة نيس وقد تولى وزارة المالية من سنة 1844 إلى 1848 وكان أشد رجال المدرسة القديمة محافظة.
أما حزب اليسار فكان قويا في المجلس السابق، أما في المجلس الجديد فظفر بقوة كافية تمكنه أحيانا من التأثير في الحكومة وتوجيهها، لكنه كان مشتتا وغير متجانس؛ ففيه الأحرار المعتدلون، وهؤلاء كانوا فيما عدا القضايا الإكليريكية لا يختلفون عن المعتدلين في اليمين إلا قليلا، وفيه المتطرفون الاشتراكيون المعتدلون. وكانت سياسته الخارجية هي نفس السياسة التي روعيت زمن الحرب وأبى أن يبدلها رغم الظروف.
ولكن هذا الحزب كان خير عضد للحكومة في نزاعها مع روما، وأما منهجه الاجتماعي فلم يكن - على تفاهته - يخلو من قيمة، ومهما كانت معارضته قوية وهي معارضة لم يسر فيها على منهج واحد؛ فإنه لم يكن يرغب في إسقاطها؛ لأنه من الضعف بحيث لا يستطيع أن يتولى الحكم فضلا عن أن سقوط الحكومة قد يؤدي إلى أن يتولى ريفل الحكم.
أما نواب أقصى اليسار فيتألفون من ثلاثين نائبا، وقد أيدوا دازجيلو بعض التأييد، واعتقدوا بإخلاص الملك للدستور، ثم أخذوا يثقون شيئا فشيئا بنزعة كافور الحرة «الليبراليزم» حتى إنهم اعتبروا أن اشتراكه في الوزارة ضمين لسياسة الرقي والتقدم، ثم انقلب موقفهم الودي نحو الوزارة إلى تأييد تام.
وهكذا، تألف - بالتدريج - حزب وسط اليسار الذي كان يعتنق معظم آراء جماعة اليسار، إلا أنه يختلف عنها لأسباب انتهازية، وكان من حيث العدد ضعيفا لا يتجاوز العشرين، لكن الكثيرين من أعضائه كانوا من أقدر رجال المجلس، ولم يكن زعيمه رتازي ذلك الرجل المتطرف في مبادئه كما كان يشاع عنه في أوروبا المحافظة بأنه لم يكن دموقراطيا بالمعنى المطلوب، بل تدل جميع مظاهره على أنه كان من المعتدلين الأحرار.
ولم يكن قويا متصلبا حتى إنه كثيرا ما كان يفسح لحزبه مجال الكلام فيما يخالف آراءه هو. وقد اعتاد أن يتغاضى عن أخطاء الملوك، الأمر الذي جعله صديق الملك الحميم، ومع أنه كان من القوميين إلا أنه لم يكن يقول بتوسيع حدود بيمونته إلى أبعد من وادي «بو»، ولم يكن يؤمن بوحدة إيطالية، وكان يشعر بضرورة وجود حكومة قوية ويدرك صعوبة إنجاز الأعمال بلا أكثرية منظمة في المجلس، وكان ذا موهبة برلمانية تجعله يتساهل - وأحيانا يتخلى - إلى حد ما عن منهجه السياسي لأجل ضمان
بيمونته أحوج ما تكون إلى سياسة حرة معتدلة ثابتة، وكان كافور يشاطره هذا الاقتناع.
وأسفرت الانتخابات في نهاية سنة 1849 عن ظفر دازجيلو بأكثرية ساحقة في المجلس، فأصبح بذلك قادرا على تنفيذ سياسته، وكان دازجيلو هذا ذائع الصيت في جميع إيطالية، دلت شهرته أبعد من ذلك في الخارج؛ إذ كان يمثل تراث الحكومة الدستورية في بيمونته، ولكنه كانت تعوزه الصلابة التي يجب أن تتوفر في الزعيم.
وجعلته حوادث سنتي 1848-1849 يخاف الدموقراطية كثيرا، ولا ريب في أن الذين انتقدوا عدم اهتمامه بمصير روما والبندقية كانوا على حق، ومع أنه اعتزم المقاومة حتى النفس الأخير إذا هاجمت النمسة، ورغم تقديره بمكانة بيمونته في إيطالية فإنه لم يتخذ أي تدبير لتتأهب المملكة إلى تقدم جديد، وكانت سياسته سلبية لا ترمي إلى أكثر من الاحتفاظ بكرامة الأمة واطلاع الناس على أن الحكم الدستوري لا ينافي النظام بأي صورة والعمل على كسب احترام الأمم الأخرى. ولا شك في أن هذه السياسة لم تكن جبارة تكفي كفاية عظيمة، ولعل ذلك هو سر نجاحها.
وفي الواقع أن جل ما كانت تحتاج إليه بيمونته في ذلك الحين الاهتمام لتعيش بسكون وهدوء، وبذلك أنجز دازجيلو نبوءته القائلة: «سيحين الزمن الذي يكون النجاح فيه حليف أكثر الناس نزاهة، لا أشدهم قوة أو أعظمهم قدرة وكفاية.» ولكن دازجيلو فشل في سياسته الداخلية؛ فبينما كانت الجرائد الإكليركية تتمتع بحصانة واسعة كانت الشرطة تزعج الجرائد المتطرفة، ولما هاجم بعض الضباط دار إحدى الجرائد لم يتخذ في حقهم أي تدبير.
أما الاجتماعات العامة فقد منعت، وكان يميل إلى طرد اللاجئين الكثيري الشغب كما أنه لم يسع في جعل مؤسسات البلاد تتمشى مع روح الدستور وإصلاح حالتها العامة وتطهير الإدارة من الفساد الطارئ عليها إلا يسيرا.
وعلى الرغم من حرصه الشديد على الاحتفاظ بالسكون؛ فقد تعذر عليه أن يتحاشى النزاع مع روما، وتفاصيل ذلك أن بيمونته كانت متأخرة كثيرا في شئون التشريع الإكليريكي، فالكنيسة كانت لا تزال تحتفظ بامتيازات ألغيت منذ مدة طويلة في نابولي وطوسكانه ومودينه وفي الإمبراطورية النمسوية.
فكانت المحاكم الدينية تنظر في جميع الأمور المدنية والجنائية، وكان لأغلب الكنائس حق الحمى، فإذا استطاع المجرم أن يلتجئ إليها نجا من حكم القانون، وكان الأساقفة يشرفون على المؤسسات الخيرية وعلى قسم من المدارس، وقد منحهم الدستور نفسه حق منح تداول الكتب المقدسة والمؤلفات اللاهوتية التي يحضرونها هم ولم يكن في الإمكان عقد النكاح إلا بواسطة الراهب.
وبوجود الدستور يتعذر إبقاء مثل هذه الامتيازات؛ لأنها تخل بشروطه الأساسية، ولقد أدركت أول وزارة دستورية أن الاتفاقية مع روما التي تثبت امتيازات الكنيسة يجب معالجتها من جديد، وكان روسميني قد أوفد بدون جدوى للمفاوضة على شروط أحسن، وكان أمام الإصلاحيين سياستان فكافور يرى اجتناب إرهاق الكنيسة بأملاكها ونظامها الداخلي، ومقابلة التعصب بالتسامح، وإلغاء إشراف الحكومة الضئيل المنصوص عليه في الاتفاقية القديمة.
وكان يعتقد بأن الكنيسة سوف تتخلى عن السياسة إذا سلمت من العقبات المزعجة، بيد أن أكثرية الأحرار تجنبت القيام بتجربة كانت تبدو خطرة كثيرا على شعب ذي ثقافة قليلة ولا يتمتع باستقلاله الروحي إلا قليلا؛ حيث كانت الكنيسة تتوعد بأن تصبح قوة سياسية عظيمة تستطيع أن ترغم المؤسسة الدستورية، وأن تكون خطرا دائما لحكومة حرة، ومع ذلك كان الحزبان قد اتفقا على إلغاء المحاكم الإكليركية.
وتظاهر رئيس أساقفة «تورينو» فرنسوني بمقاومة كل إصلاح وكان زميله أسقف «آستي» قد اتهم بأمور شائنة، فهرب أمام تهديد الجماهير وأرسل دازجيلو في نهاية سنة 1849 القاضي سكاردي وهو أحد المعتدلين المعروف بنزاهتهم؛ إلى روما يطلب تبديل فرانسوني وأسقف آستي والتساهل في بعض ما يتعلق بتنفيذ الاتفاقية ولكن ما أسرع ما عاد دون أن يحصل على شيء سوى أن أنتونللي عرض عليه اقتراحات يتعذر قبولها، ودخل سكاردي الوزارة فعرض في بداية سنة 1850 لائحة باقتراحاته الشهيرة، وهي تتلخص بإلغاء المحاكم الإكليركية، وإلغاء حق الحمى واتخاذ العقوبات بحق المجرمين من رجال الدين على السواء واقتراحات أخرى.
كما أنها تتضمن وعدا من الحكومة بتقديم لائحة تقضي بمشروعية النكاح المدني، وقاوم نواب اليمين هذه اللائحة بحجة أن موافقة روما على أي تعديلات في قانون الإكليريكي لا بد منها، ولكن كان على الحكومة أن تختار بين الاتفاق مع البابا والدستور، وطبيعي أن تختار الثاني، وكان الفريق الأكثر اعتدالا في اليمين وجميع أعضاء اليسار بجانبها، واندفع الرأي العام في تورينو في تأييدها وبلغت نقمته على الرهبان حدا اضطرت معه الحكومة إلى استعمال القوة لمنع إحدى المظاهرات العدائية.
وقد مر قانون سكاردي من المجلس بعد أن أقره بمائة وثلاثين صوتا ضد ستة وعشرين صوتا، ثم مر من مجلس الأعيان بتأييد أكثرية اثنين ضد واحد، وأبت روما الاعتراف بما جرى، ووقف البابا من هذا الاختلاف موقفا غير معقول؛ إذ رفض أن يمنح حقا منح مثله الأمم الكاثوليكية جميعها؛ ذلك لأنه يكره هذه الدولة الإيطالية الحرة الوحيدة ويخشاها كثيرا.
وغادر سفير البابا تورينو ورأى الأساقفة شبح الثورة، وأصدر فرانسوني كتابا يأمر به الإكليروس بأن لا يكترثوا للقوانين الجديدة، وأن لا يحضروا أمام المحاكم المدنية إلا مكرهين، ولما اتهم بالتحريض على عدم الإطاعة، وطلب منه الحضور أمام المحكمة؛ امتنع فحكم عليه غيابا بالسجن شهرا واحدا.
وعلى إثر ذلك اشتد سخط رجال الدين حتى إنهم تهددوا بالحرمان كل من اشترك في وضع القانون الجديد، ولما أصبح «ساتناروزا» وزير الزراعة على حافة الموت؛ رفض الراهب زيارته فمات من دون تزكية، ثم رفض الإكليروس - بتحريض من فرانسوني - القيام بمراسيم دفنه، مما أثار سخط الناس حتى كانت جنازة ساتناروزا مظاهرة وطنية عظيمة.
وقبضت الحكومة على فرانسوني واعتقلته
الصيف محاولتان للتفاهم ففشلتا ؛ ذلك لأن أنتونللي لا يريد أن يرجع عن رأيه القائل بأنه لا يجوز خرق الاتفاقية من دون رضاء الفريقين، هذا من ناحية ولأن الرأي العام في بيمونته كان يطالب بإلحاح باتخاذ تدابير جديدة ضد الكنيسة من ناحية أخرى.
وقد ألغيت زكاة ساردينه مقابل تعويض، وطالما ألجأ المجلس بشدة اندفاعه هذا الكبير الحكومة إلى السير في طريق الشدة، وأصر حزب اليسار على الحكومة أن تفرض حقوقها في الإشراف على كراسي تدريس اللاهوت في الجامعات؛ للقضاء على مهاجمة الأساتذة للدستور، ولكن كافور كان مخالفا لكل تحديد يمس حرية التدريس، وبناء على تدخله تأجلت المذاكرة حول القانون فانتهز البابا هذه الفرصة للانتقام من جامعة تورينو فحرم «نوئيز» أستاذ اللاهوت فيها لأنه أيد حقوق الدولة في الإشراف على الشئون الإكليريكية.
وربما كانت الحكومة تميل إلى التساهل في هذه القضية، وفي بعض القضايا الأخرى المختلف فيها، فقد تأجل البحث في القضايا الخطيرة كالنكاح المدني وموازنة الإكليروس، ولما ظهر للعيان أن اختلافا شديد الخطورة مجهول العواقب يوشك أن يقع تجلت الحاجة إلى وجود يد أقوى من يد دازجيلو يستطيع أن يواجه الأزمة.
وكانت شهرة كافور المتزايدة قد طغت على شهرة دازجيلو، لم تكن بداية حياة كافور البرلمانية موفقة، فقد جعلته علاقاته الأرستقراطية والآراء الرجعية التي كانت تعزى إليه غير محبوب من الشعب، بيد أنه استطاع بعد ذلك أن يفرض شخصيته وأن يوطد نفوذه فدل على متانة خارقة وإرادة صلبة وجرأة نادرة وذاكرة متوقدة ومقدرة على العمل فائقة.
وكانت خطاباته ذات تأثير في المجلس النيابي، وكان متحليا بكل ما يقتضى لجلب ثقة الوسط من الناس، وكان تقريبا يرقب الرأي العام ويتحاشى الانسياق في تيار لا يلائم ظروف الزمن العملية إلا فيما ندر، وكانت سياسته سياسة حزم بكل معنى الكلمة، وكان يقول: «إن على إيطالية أن تنشئ نفسها بالحرية ولا فائدة من إنشائها عن غير طريق الحرية.»
وكان قانعا - كل القناعة - بأن الشعب سيدرك الحقيقة، عاجلا أو آجلا؛ ولذلك فإنه كان يرفض تقييد حرية الصحافة، ويتذمر من إعانة الحكومة جرائدها.
وقد طبق المبادئ الحرة نفسها في معالجة قضايا الكنيسة والدولة، فكان يعتقد أن الكنيسة المصونة من سيطرة الحكومة؛ تستطيع أن تلعب دورا خصبا في التطور الاجتماعي، ولو خير في الأمر لترك الكنيسة تحتفظ بكامل حريتها في أنظمتها الخاصة وفي طقوسها، وكان شعاره في ذلك «كنيسة حرة في دولة حرة.»
وكان يتوقع أن يرى النمسويين يوما ما مطرودين من إيطالية والسلطة الزمنية ملغاة، ومما لا شك فيه بأنه كان يؤمن بإيطالية دولة حرة موحدة، ولكنه ظل في هذه القضية شأنه في القضايا الأخرى؛ ذلك الانتهازي الذي يترقب الفرص ولا يتقيد بأية طريقة.
وكان هدفه وقتئذ السعي لرفاه بيمونته واستخدام نفوذه في مصلحة البلاد الإيطالية الأخرى إذا ما سنحت الفرصة، ولم يكن في البدء ينتمي إلى حزب ما ولكنه زج نفسه في اتجاه حر بتأثير الحماسة سنة 1848.
ثم جعله الشطط الذي حدث في الشتاء الذي تلا تلك السنة من المحافظين، ولكنه أيقن على إثر الرجعية التي عقبت نوفاره أن الاستبداد أشد خطرا من تهويش حكم الدهماء، وحركت نقمته من ضعف دازجيلو ساكن نزغته الحرة وجعلته يقدمها على كل شيء.
وقد قال بضرورة تأليف حكومي قوي، كما ارتأى رتازي وسعى كثيرا قبل صدور الإرادة بحل المجلس في التأليف بين الأحزاب، وكان يفضل الاستناد إلى اليمين إلا أنه رأى صعوبة الاتفاق مع قسمه المتطرف في القضايا الدينية والتجارية، وقد شرع يتهدد الوزارة بلطف في خطبة بالمجلس، مما جعلها تسير بحذر في الإصلاح، وشعر الوزراء بحاجتهم إلى رجل قوي وبتأثير من القائد لامارمورا والملك عين في 11 تشرين الأول 1850 في وزارة الزراعة والتجارة الشاغرة.
وقد تنبأ الملك بأن كافور سرعان ما يجعل الوزراء طوع إرادته ويصبح الرئيس الفعلي بينهم، وتنفس الأحرار الصعداء بتعينه واعتبروه بشيرا في رغبة الوزارة في القيام بإصلاحات إكليريكية أخرى، بيد أن كافور انصرف إلى الأمور الاقتصادية حتى إنه شرع قبل أن يصبح وزيرا للمالية في نيسان بتنفيذ سياسته في حرية التجارة إلى حد بعيد، وكان اشترع قوانين لتنظيم الجمعيات باسم النقابات، والتسليف الزراعي ومشاريع التعليم الزراعي وإصلاحات البريد والسكك الحديدية بعض ما تم على يديه في سبيل رقي بيمونته وإعانة تجارتها. وقد ألغيت الضرائب الإقطاعية التي كانت لا تزال تجبى في بعض المناطق وأبطل حق البلديات في تقدير سعر الخبز، بيد أن جميع هذه المشاريع ذات شأن إذا قورنت بما قام فيه من إصلاحات عظيمة في الشئون المالية.
وكان كافور يرى أن تحسين المالية وتنظيمها وتقويتها أمور جوهرية تمس حياة الدولة ووجودها ولا سيما لأن الخزينة كانت مثقلة بسبب الغرامات الحربية الواجب دفعها إلى النمسة ونفقات الجيش والإعانات التي تدفع إلى السكك الحديدية، وقد بلغ عجز ميزانية سنة 1851 ستين مليونا من الليرات،
1
وزادت نسبة الضرائب ثلاثين في المائة وتجاوزت فائدة الديون من مليونين إلى ثلاثين مليون ليرة سنة 1852، فاقتضى بعد النظر للأخذ بسياسة الاقتصاد من النفقات، وذلك يتطلب وجود مالي جريء يستطيع أن يطلب إلى البلاد بأن تستعد لزيادة ديونها.
وإذا كانت بيمونته تريد أن تستعد لحرب جديدة، فينبغي لها الاحتفاظ بالجيش وتنظيم الأسطول وصرف نفقات كبيرة لإقامة الحصون، كما أنه يجب مد سكك حديدية لإنماء صناعتها وفتح نفق عبر جبال الألبة، وقد أدت هذه الأعمال إلى تضخم في القروض وزيادة في الضرائب، فرأى كافور أنه يجب أن يكون للبلاد من القدرة ما تستطيع بها أن تجابه هذه التكاليف الجديدة فلا يتسنى لها ذلك إلا بزيادة مصادر الثروة فيها.
وقد اعتقد أنه يستطيع أن يجعل الصناعة والتجارة كفيلتين بتحقيق تلك القدرة، وذلك بالأخذ بمبدأ حرية التجارة قدر الإمكان، بيد أنه لاحظ بأن الرأي العام لم يكن متهيئا ليتقبل مبدأ حرية التجارة في أوسع معانيه فقصر عمله على عقد اتفاقيات تجارية، وقد استطاع أخيرا بالاتفاقيات التي عقدها مع فرنسة أولا ومع بلجيكة وإنجلترة بعد ذلك، ثم مع سويسرة والاتحاد الجمركي البرلماني والنمسة نفسها؛ أن يفخر بعد بضع سنوات بأن التعريفة الجمركية البيمونتية أكثر سخاء من تعريفات القارة، وظهرت أول نتائجها الاقتصادية فكاد التهريب يزول من الوجود، ولم تصب الجمارك بأية خسارة في الواردات واندفعت بيمونته في طريق التقدم التجاري السريع حتى أصبحت مخزنا لحرير إيطالية، وأخذ كافور بعد ذلك يحلم بإقامة حلف بين بيمونته والدول الغربية ليجابه به الحلف الاستبدادي الشرقي التي عقدته النمسا مع أمراء إيطالية.
الفصل الثاني والعشرون
زعامة بيمونته
1851-1853
وكانت المعاهدات التي عقدها كافور فاتحة نجاح باهر ظل يرافق ما قامت به بيمونته من أعمال حتى غدت بيمونته المملكة الصغيرة الباسلة البلد الذي توجهت إليها جميع الأنظار في أوروبا، والحق أن دازجيلو شق طريق استجلاب عطف الرأي الأدبي العالمي فسار عليه كافور وقد رضي الدموقراطيون عن وقوف كافور موقف الخصم للنمسا، أما الأحرار والمعتدلون من المحافظين فاغتبطوا بالفشل الذي لاقاه الديموقراطيون وكذلك فرح البروتستان والجماعات المعارضة للإكليريكيين بقوانين ساكاردي.
ولم تبق البلاد منعزلة كما كانت سنة 1849، وكان دازجيلو قد نال ثقة الرأي الأوروبي العام الأدبي بإخلاصه، فأبدى بالمرشتون تقديره الحار لموقف بيمونته، وأخذ السياح الإنجليز ومن بينهم جلادستون الذين زاروا تلك المملكة يبشرون بارتقاء هذه الدولة المنظمة التي تختلف عن البلدان الإيطالية الأخرى، وفي بيمونته نفسها كاد شعور الفخار بالفوز الذي استحقته ينسي سوء أثر كارثة نوفاره.
وقد أصدر جيوبرتي من محل انزوائه في باريس كتابه المعنون «أحياء إيطالية المدني» شرح فيه آماله في وجود بابوية مصلحة، وبين أن زعامة إيطالية قد انتقلت إلى بيمونته فأصبحت مهمتها إنقاذ الأمة بمساعدة فرنسة وجعل إيطالية دولة موحدة عاصمتها روما.
وأخذت النخبة الممتازة من الأمة تتلهف على استئناف الحرب ضد النمسة حربا لا تبقي في يدها شبرا من الأرض في جنوبي جبال الألبة، واتجه جميع الأحرار - على اختلاف مشاربهم - بأبصارهم نحو الملك فيكتور عمانوئيل؛ ليسير على رأسهم؛ ولا سيما بعد أن أخذ نفوذه بين الشعب يتغلغل ويزداد، وكان يقضي حياته الخاصة بين اللهو العادي والألعاب الرياضية، فبينما كانت زوجته على قيد الحياة أسكن خليلته في الحديقة الملكية.
ثم إنه كان رجلا خشنا ولكن طيب القلب، وكان شجاعا لا يهاب الموت، وبقدر ما كان يجيد الفروسية كان لا يحسن القيادة، وكان يحمل في جنبه حبا للدموقراطية، ويغتبط كثيرا بمحبة الشعب على الرغم من أن مظاهراته كانت تتعبه.
وكان ظريف الروح يتصل بجميع الطبقات ينفر من المراسم، وكان الجمهور في إيطالية يعتبره الأمير الدستوري والملك الشريف الذي لم يحنث أمام الشعب، والجندي الذي حارب النمسة ولن يتخلف عن محاربتها، وبذلك كسب إخلاص الشعب له وولاءه، وكان يكره النمسة ويتوق إلى حرب ينتقم بها لشرف أبيه ويغسل عار نوفاره، ومما زاده في سخطه عليها تدبيرها الدسائس مع الرجعيين، وقد قرأ كتاب جيوبرتي وأشر عليه وصرح بعزمه على أداء الرسالة التي ألقيت على عاتقه في الكتاب المذكور.
وقد اجتمعت الأحزاب - ما عدا الرجعيين - على التأهب لحرب قادمة،
ومقاطعتي «شلزويح وهلشتاين» في ألمانية تنذر بنشوب حرب أوروبية، وأخذ اليساريون يبشرون بمناهضة النمسة ويضاعفون بإكرام اللاجئين والترحيب بهم، وأطلقت الجريدة التي هي لسان حال فاليريو العنان للوزارة واندفعت في تأييدها على أن تقوي الجيش والأسطول، وقام «باللافيجو» قبل ذلك بدعاية نشيطة لبيمونته وسط إيطالية وجنوبها، وكاد حزب اليمين يطالب بأكثر من ذلك وأعاد الجنرال مارمورا تنظيم الجيش بحيث يستطيع أن يقذف بتسعين ألفا من الجند إلى الميدان.
وبينما كانت سياسة الإرهاب في لمبارديه مستمرة بعد استقالة كارل شفارتسنبرج، وبينما كانت النمسة تفتقد مكانتها في نظر الرأي العالم المتمدن في أوروبا، كانت بيمونته تعتز بقوتها ورقيها وتنظيمها، ومع ذلك فقد كان المحافظون وقد يشترك معهم في رأيهم آخرون كثيرون؛ لا يعتقدون بأن بيمونته تستطيع أن تقهر النمسة دون مساعدة، وكانت سياسة دازجيلو الخارجية تقوم على تأمين منزلة محترمة لبيمونته في فرنسة وإنجلترة، ولم يكن ينتظر أن تساعد إنجلترة بيمونته بالسلاح، ما لم تنشب حرب عامة في أوروبا.
ومهما كانت مودة بالمرستون لبيمونته عظيمة؛ فإنه أصر على التمسك بسياسة السلم، أما في فرنسة فكان الأمر على عكس ذلك وتفصيل الأمر أن القوة التي أوفدها نابليون إلى روما جلبت سخط الدموقراطيين، ولكن ساعده الكتاب الذي أرسله إلى الجنرال ني قائد القوة على أن يحتفظ بمكانته في قلوب الطليان.
ولعب نابليون بعد ذلك عشرين سنة دورا خطيرا في السياسة الإيطالية، وقد أصاب في تقديره ما اكتسبته الفكرة القديمة في ذلك العهد من القوة الفعالية في السياسة الدولية، واعتقد أن في مكنة فرنسة بصفتها حاملة علم القومية أن تضمن لأوروبا استقرارا دائما وعهدا للسلم جديدا، وكان يرى بأن إيطالية الموحدة وألمانية الموحدة وبولونيه المستيقضة وتحرر السلاف في الإمبراطورية النمسوية؛ سوف تساعد أوروبا على أن تنصرف إلى الرقي التجاري والتجارة الحرة وإلى تسوية القضايا الاجتماعية.
وكانت قضية إيطالية وبولونيه من أهم مواضيع أحلام نابليون في ذلك الحين، وكانت إيطالية أول من جلبت انتباهه، وقد أدرك رجال بيمونته السياسيون ذلك، وكانوا قد فكروا قبلا في محالفة فرنسة حينما دخل كافور الوزارة، وقد صبروا ريثما يصبح رئيس الوزارة قادرا على العمل، ولما نجح نابليون في 2 كانون الأول 1851 في حمل فرنسة على المناداة به إمبراطورا لفرنسة؛ هاجمته جرائد تورينو وجنوة؛ لعمله المنافي للدستور، فغضب لهذا الهجوم الماس بكرامته، وطلب إلى دازجيلو أن يعدل قانون المطبوعات وأن يكمم أفواه اللاجئين.
ومع أن دازجيلو رفض اتخاذ تدابير شديدة ضد اللاجئين وتقييد حرية الانتقاد في الشئون الداخلية؛ فإنه أخذ يشعر بضرورة التفاهم مع نابليون؛ لأن النمسة كانت تهدد بالهجوم، فضلا عن أن سقوط بالمرستون قضى على آخر أمل يرتجى من إنكلترة، وعليه فإنه إرضاء لنابليون نفى بعض الدمقراطيين المتطرفين وعرض على المجلس قانونا يتعلق بمعاقبة من يقترف إثم الطعن بالملوك، فارتاح نابليون لهذه التدابير ووعد بمساعدة فرنسة عندما تحتاج إليها بشرط أن تحافظ على الهدوء وأن تراقب الفرص.
وكان الانقلاب الحكومي في فرنسة قد أدى إلى تطور ذي شأن في سياسة بيمونته، وأخذ المعتدلون وجماعات اليمين واليسار يميلون إلى الاندماج في حزب مركزي موحد، وكانت الاتفاقيات التجارية سببت خلافا وانفصالا بين أنصار حماية التجارة وأنصار حريتها من حزب اليمين، فأخذ العقلاء من الجانبين يدركون خطر الأكثرية المترجرجة التي تستطيع في كل لحظة أن تحدث أزمة وتنصب وزارة يترأسها ريفل، وكانت الوزارة تعلم أن ريفل نفسه قد يحترم الدستور لكنه يوجد في جماعته أناس لا يحترمونه، وكان الاختلاف الموجود ضئيلا بين وسط حزب اليمين ووسط حزب اليسار إذا قورن بوسعة بالاختلاف الذي يفرق جناحي حزب اليمين؛ فلذلك أصبح ممكنا تأليف حزب قوي متجانس يجمع بين الوسطين المذكورين، وقد فرح كافور للتقرب الذي بدأه بين الوزارة واليسار؛ لأن الانقلاب الحكومي في باريس والخصومة الصريحة التي أبداها بعض أنصار ريفل ضد الدستور قد أقنعتاه بضرورة الحصول على قوة ضد الرجعيين.
وكان يشارك غيره شعور الاستياء المتزايد من رغبة دازجيلو في التفاهم مع روما والنمسا بثمن فاحش جدا، وكان يريد أن يخلق الفرص لا أن يترقبها كما هو شأن دازجيلو، وكان رتازي - منذ مدة طويلة - متشوقا إلى اندماج الوسطين، وما إن أقتنع كافور بصواب الفكرة إلا وتم الاتفاق بينهما على الأساس.
ولما عرض الوزير ديفورستا تعديل قانون المطبوعات على المجلس قرر رتازي أن يؤيد الحكومة بجماعة الوسط في حزبي اليسار، وقرر كافور - من جانبه - أن يقطع علاقته تماما مع أقصى اليمين، وطلب إلى زملائه أن يسيروا معه في سياسة تقدمية، وإذا علمنا أن الأمر تم باتفاق خصوصي عقد بين كافور ورتازي؛ يتضح لدينا جسارة كافور وجرأته.
وهكذا تم اتحاد الحزبين الذي أعلنه أثناء المذاكرة حول قانون ديفورستا، وكان من نتيجة هذا الاتحاد الجديد أن انتخب المجلس رتازي رئيسا له منافسا بذلك مرشح الحكومة، وبعد أزمة استمرت مدة من الزمن استقال كافور وزميله فاريني من الوزارة في شهر أيار.
ولم ير كافور الوقت مساعدا لاستلامه الحكم، فأخذ يتساهل مع دازجيلو ليحول دون مجيء وزارة رجعية وليستغل صيت دازجيلو في إنجلترة لاكتساب عطفها، وأخذت خصومة كافور تشتد بعد ذلك حتى سقطت وزارة بالمرستون فتحرج الموقف السياسي كثيرا، وكان لا يزال يميل إلى التريث لو لم يحدث حادث فجائي نشأ عن موقف الملك بشأن قانون النكاح المدني.
إذ مر هذا القانون من المجلس النيابي بعد أن أقره، لكن البابا عارضه معارضة شديدة، على الرغم من أنه كان مرعيا في النمسة منذ مدة طويلة وفي فرنسة منذ عهد الثورة، وحاول دازجيلو عبثا أن ينال موافقة البابا، فأرسل الملك إلى البابا كتابا يلتمس فيه تذليل الصعاب في وجه الموضوع، فأجابه البابا بجواب قاس اتهمه بأنه يروج التسري إشارة إلى أن النكاح المدني لا يحلل الزواج بين الزوجين، فما كان من الملك إلا أن انحاز إلى جانب الإكليريكيين رغم أنه طالما ظهر بأفعاله احتقاره للروابط الزوجية وأعلن بأن ضميره لا يطاوعه على إقرار القانون، الأمر الذي شجع الأعيان على رفضه، فقدم دازجيلو على إثر ذلك استقالته في 22 تشرين الأول، وانزوى في معمله؛ ليكسب معيشته بريشته.
وكان كافور الخلف الطبيعي لدازجيلو، فاضطر الملك مكرها أن يكلفه بتأليف الوزارة مشترطا عليه أن يتعهد بالاتفاق مع روما، ولما رفض كافور ذلك انتهز الملك الفرصة ودعا بالبو وريفل إلى تقلد الحكم على أساس البرنامج الآتي: «الدستور لا أكثر ولا أقل»، ومعنى ذلك الاكتفاء بالحد الأدنى من الإصلاحات والتساهل فيما هو مصلحة روما، إلا أن وسط اليمين رفض معاضدة بالبو وريفل، ومع أن الأول كان يعارض كل تشريع ضد الإكليروس؛ فقد أبى أن يتساهل في قضية فرانسوني، واعترف بإخفاقه في تأليف وزارة دستورية، فاضطر الملك ثانية إلى الالتجاء إلى كافور بشرط أن لا يجعل قانون النكاح المدني مسألة ثقة.
وقد ظل أكثر أعضاء الوزارة المستقيلة أعضاء في الوزارة الجديدة التي سارت على أثر الوزارة السابقة، فأهمل قانون النكاح المدني. أما السياسة الخارجية فلم يطرأ عليها أي تبدل، وقد أسرع كافور إلى تهنئة نابليون بمناسبة العيد السنوي للانقلاب الحكومي الذي نودي فيه نابليون إمبراطورا.
وبرهن التقدم الهادئ على رضاء الشعب على الحكم الملكي الدستوري، فاعتادت الناس الحياة الدستورية حتى كأنها وليدة أجيال مديدة مع أن بيمونته لم تظفر بها إلا حديثا، وكذلك دل فشل الرجعيين المستندين إلى نفوذ الكنيسة على قلة نفوذهم بين الشعب، وكان الجمهوريون أقل من أن يستطيعوا تأليف حزب، ودلت النشرات التي كانت تحمل على مازيني خصومة الرأي العام له.
وكان القسم الأكبر من الجمهوريين قد التجأ إلى باريس ولندن، ومكث مازيني في لندن مع فئة صغيرة من أصدقائه الخلص غير مستسلم للفشل، وظل يحلم باليوم الذي يهب فيه الشعب من سباته، فيسود فيه الحق.
وكان الكثير من أصحابه قد انفصلوا من حوله إلا عددا قليلا من الجمهوريين في وسط إيطالية وجنوبها، وكانت كل مدينة تحتوي البعض من جمهوري سنة 1848، وكانت جمعيات التعاون للعمال عبارة عن تشكيلات جمهورية وراء المظهر الاجتماعي، وقد كانت هذه التشكيلات في ريبة من حركة بيمونته الدستورية شأنها في ذلك شأن مازيني، وكان لها في لمبارديه بطبيعة الحال منبع الشغب رغم موت عدد كبير من زعمائها ونفيهم؛ إذ لم يعتر الروح القومية الوهن.
وظلت الأبواب موصدة بوجه الضباط والموظفين النمسويين،
للمباردي تؤدي للبراز مما أودى بحياة كثير من النمسويين والطليان، وقد مال كثير من أحرار لمبارديه إلى سياسة التريث إلا أن الأشراف الأحداث ظلوا متمسكين بأحرار بيمونته وباللاجئين في تورينو، وكانت جماعات من أصحاب الحرف وبعض الرهبان يعدون المؤامرات فيقمعها النمسويين في شدة هائلة.
وقد نشطت التشكيلات السرية واتسعت، حتى اتصلت بلجنة مازيني المركزية في لندن، وأعدت في سنتي 1850 و1851 مؤامرة قوية واسعة النطاق تستهدف القيام بثورة حين حدث الانقلاب الحكومي في فرنسة إلا أن العقلاء من أعضائها اعتقدوا بأن العصيان قد فات، وأن الأنظار يجب أن تتجه نحو بيمونته، ولكن السلطات النمسوية قد ارتابت من الأمر، وقبضت على أحد المشتبه منهم، وبعد جلد استمر ثلاثة أيام أجبر على الاعتراف بأسماء الزعماء، فقبضت على الراهب تزولي في مانتويه وأوقفت مائتي صانع وتاجر وأنزلت بهم أفظع أنواع التعذيب؛ للحصول على اعترافات أخرى، ولما لم توفق إلى ذلك صلبت تزولي وأربعة آخرين.
فأغضب هذا الحادث اللمبارديين، وفكر البعض في الانتقام من السلطات النمسوية بإحياء الأيام الخمسة، ودعت جماعة من الصناع في ميلانو مازيني لمساعدتها، ولما شجعها على العمل تقرر أن تكون الثورة في أحد الأعياد الدينية يشترك في الاحتفال بها، ولما لم تكن الظروف ملائمة فقد فشلت الحركة في مهدها وفر الزعماء إلى الخارج وعدل جمهوريو جنوة عن مساعدتها في اللحظة الأخيرة.
وكذلك أخفقت الحركة في الروماني وفي روما، وانتهز النمسويون الفرصة لإنزال الضربة القاضية على الأحرار، فشنقوا أربعة وعشرين شخصا من المتآمرين، وأجلوا ستة آلاف من أهل تسينا كبارا وصغارا، رجالا ونساء إلى خارج الحدود؛ نكاية بسويسرة لقبولها اللاجئين.
ولم يكف ذلك كله للتخفيف من غضب المارشال الشيخ زاديتسكن، فقد كان يحنق كل الحنق على أشراف ميلانو الأحرار، وقد التجأ أكثرهم منذ خمس سنوات إلى تورينو وجنوة، فصار يوجه المسئولية على بيمونته ويتهمها بتحريض اللاجئين الأغنياء إليها؛ لأنها آوتهم في بلادها وتشجعهم على المؤامرة ضد جارتها.
وقد صدرت إرادة الإمبراطورية بمصادرة أملاك جميع الذين تركوا البلاد لأسباب سياسية، فجاء هذا العمل مخالفا الحقوق التي أيدتها المعاهدات؛ لأن الأشراف كانوا قد تجنسوا بالجنسية البيمونتية، وقد كفلت المعاهدات صيانة أملاك البيمونتيين في لمبارديه وفينسية، مع العلم بأن كافور قد اتخذ أشد التدابير لمراعاة أحكام الاتفاق، وأقام سياجا من الجنود على طول الحدود؛ ليحول دون تسرب المساعدة من جانب بيمونته إلى المتآمرين، وقد صادر - بصورة غير مشروعة - بيان مازيني، وطرد كريسبي وآخرين من الجمهوريين من البلاد.
وعليه، فإنه استدعى السفير البيمونتي من فيينا وقدم احتجاجا شديد اللهجة على مخالفة النمسة للاتفاقيات ولو لم يمنعه دازجيلو لقابل عمل النسمة بالمثل، فصادر أملاك الرعايا النمسويين في بيمونته.
وقد عاضدت فرنسة وإنجلترة بيمونته في حملتها معاضدة قوية، وبذلك حكمت أوروبا على النمسة حكما أدبيا، وكان ذلك فوزا باهرا لسياسة كافور، وظهر تأثيرها في المجلس النيابي حينما اقترح على لائحة التضمينات الكبيرة لتعويض ضحايا الإرادة الإمبراطورية، أما الجدال الذي تلى الاحتجاج فبرهن على صعوبة بقاء بيمونته والنمسة متجاورتين مدة طويلة.
الفصل الثالث والعشرون
مؤتمر باريس
1853-1856
كانت سنة 1853 حافلة بالكوارث والبؤس؛ إذ فتكت الهيضة بالنفوس وقضى المرض على الكروم وانتشرت الفاقة في جميع الأطراف؛ بسبب رداءة المحصول والأزمة التجارية، وأدت الضرائب الباهظة والدسائس الإكليريكية إلى اضطرابات خطيرة في منطقة «آوسته»، وهاجمت الجماهير في تورينو دار كافور وكادت تقضي على حياته.
وعلى الرغم من أن الحكومة قد أصلحت شئون المالية فإن الموازنات كانت لا تزال تحتوي قروضا جديدة وضرائب جديدة، ولم يمنع هذا أكثر البيمونتيين من التمسك بالدستور كل التمسك، ولما رفض مجلس الأعيان مشروع كافور بشأن تنظيم المصرف القومي قرر كافور استفتاء الأمة بإجراء انتخابات جديدة، وقد جاءت الأكثرية في جانب الحكومة فأعيد انتخاب جميع أعضاء الوزارة، وكادت الواردات تزداد ثلاثة أضعافها، أما الصادرات فزادت خمسين بالمائة؛ فلذلك كانت الحكومة قوية في البلاد وفي البرلمان رغم الفاقة والضرائب ودسائس الرهبان المستمرة.
ودل دخول رتازي في الوزارة على مقدار الثقة التي تتمتع بها الحكومة من حزب الوسط، وقد أدت المكانة التي نالتها الوزارة العظيمة إلى إقدامها على القيام بأعمال موفقة في السياسة الداخلية والخارجية، وإنقاذ البلاد من نير الكنيسة وتوثيق عرى التحالف مع فرنسة، وعرضت الحكومة في أوائل سنة 1855 مشروع الإصلاح الإكليريكي الثالث الخطير الشأن، وكانت قوانين سكاردي قد حالت دون تدخل الكنيسة في وضع القوانين.
وكما مر معنا؛ فإن قانون النكاح المدني يستهدف منع كل تدخل إكليريكي في حياة الأسرة، وقد استحسن الرأي العام تأجيل هذا المرسوم حينذاك، إلا أنه ألح على أن تشرف الحكومة على واردات الكنيسة، وحالما دخل رتازي الوزارة وعدت الحكومة بإلغاء الأديرة، وبمشاطرة الإكليريكية في وارداتها، وإلغاء الإعانات السنوية التي تدفعها الخزينة للإكليروس.
وحسبنا في إدراك أهمية ذلك أن نعلم أنه كان في المملكة التي يبلغ عدد نفوسها خمسة ملايين 604 أديرة وصومعة يقطنها 8500 شخص فلكل 214 نفسا من الأهالي إكليريكي واحد، بينما الحال في بلجيكة لكل 500 شخص، وفي النمسة لكل 615 شخصا، وكان الذين يعطفون على الإكليريكيين أو الذين يميلون إلى وجود «كنيسة حرة» مثل كافور؛ يؤثرون ترك الكنيسة حرة التصرف في أملاكها؛ معتبرين تقسيم الواردات الإكليريكية من القضايا التي تخص الكنيسة، ومقابل هؤلاء هناك المطالبون بإصلاح الكنيسة وخصوم الإكليروس الذين يرتئون أن تقوم الحكومة بإدارة أراضي الإكليروس، وأن يكون لها حق إلغاء الإدارة، وتخفيض عدد الأسقفيات، ومقاسمة الإكليروس وإرادته.
وعارض كافور بشدة سياسة من هذا النوع؛ إذ كان يقول بأن الإكليروس الذي يعيش بأموال الحكومة من دون أن يكون له عائلة وأملاك خاصة، يغدو طائفة محرومة من الرابطة الاجتماعية التي تربطها بباقي الهيئة الاجتماعية، لا علاقة لها بتشكيلات الدولة، وسوف تظل خطرا على الدول. على أن كافورا كان يدرك بأن البلاد تمقت الإكليروس حتى إنها لتفضل الخضوع إلى النمسة على أن تخضع للرهبان.
وظل البابا بيوس متمسكا بسياسته التي لا تعرف التسامح واللين، وكان كافور يلجأ إلى مفاوضة روما؛ آملا الحصول على موافقتها، ولكن المفاوضات أسفرت عن رسالة بابوية عامة شديدة اللهجة، اتهمت المشروع بالإباحية، وهددت بالحرمان الكنسي فيما إذا نفذ، فأجاب دازجيلو بعنف أنه يعتبر تلك الرسالة العامة خروجا على الدولة، وكانت الحكومة قد نشرت لائحة القانون قبل مدة وجاوزت فيها حدود اقتراحات دازجيلو بإلغاء الجمعيات الدينية والإدارة والمرتبات الدينية التي تنفق على الأنفس أو على جماعات دينية، ولما عرضت اللائحة على المجلس النيابي أيدها حزب الوسط واليسار، وقبلت بأكثرية ساحقة.
أما الإكليريكيون فكانوا يستندون إلى مجلس الأعيان، وإلى الملك، وأيقنوا أنهم سينجحون في تمثيل الدور الذي مثلوه في قضية قانون النكاح المدني، وقد تخابر الملك قبل ذلك مع روما مخابرة ودية؛ مؤملا أن يصل إلى تفاهم، وحدث في خلال هذه المخابرات أن أصيب بنكبة هائلة زادت في مخاوفه، ذلك أنه فقد أمه وزوجه وولده في شهر واحد، فسرعان ما استغل الإكليريكيون هذا الحادث واعتبروه غضبا من الله.
واقترح الأساقفة المعتدلون الذين بذلوا جهدهم في التأليف بين الحكومة وردها أن يدفعوا من وارداتهم الكنيسة مدة ما قدر الإعانة التي تدفعها الحكومة، على أن تسحب الحكومة قانون الإلغاءات.
ولما رأى كافور أن الملك يميل إلى هذا الرأي قدم استقالته، فكلف الملك «دوراندو» وزير الحربية لتأليف الوزارة، ولكن هياج الرأي العام بلغ الذروة، حتى إن دوراندو أخفق في إيجاد زميل يؤازره في تحمل المسئولية، فأدرك الملك أنه سوف يفقد حظوته لدى الشعب، وأن تورينو في حالة شغب خطرة، وأن تمادي الأزمة يؤدي إلى اضطراب وسفك الدماء .
وبناء على مشورة دازجيلو عاد فأناط رئاسة الوزراء بكافور، ولم يستطع كافور أن يحصل على موافقة مجلس الأعيان على القانون إلا بأكثرية ضعيفة وبعد تعديلات تكاد تستثني نصف الأديرة، الأمر الذي أسخط الرأي العام واعتبر هذا الحل تواطؤا.
وكان كافور بين أمرين: فإما أن يوافق على التعديلات وإما أن يسبب أزمة دستورية قد تهز العرش وتهدر السياسة الخارجية، وكان كافور يرمي في سياسته الخارجية إلى جلب رضاء فرنسة؛ آملا أنه قد يحين الوقت الذي تسوق فيه جيوشها عبر الألبة؛ لطرد النمسويين من لمبارديه وفنيسيه، وكان قانعا بأن بيمونته وحدها لا تستطيع أن تنتصر في حرب هجومية، ومع ذلك كان يقدر وعورة الطريق التي يريد أن يسلكها بالاعتماد على حليف طموح لا ضمير له.
على أن كافورا لم يكن من الرجال الذين يحجمون عن استخدام الوسائل المريبة؛ إذ لاح له بأنها توصله إلى الهدف المقصود، وكان يؤثر سلوك الطرق السياسية على الالتجاء إلى الطرق الثورية، ونشبت الحرب الأوروبية ضد روسية فطورت الموقف؛ إذ كان الحلفاء على أتم الأهبة لشراء أو استجداء أية مساعدة من أي جهة كانت، وكانوا يرغبون أولا في استمالة النمسة التي تستطيع أن تشل توغل الروس في البلقان، وكانت النمسة تريد أن تبقى طليقة اليد لا تتقيد بشيء، وأخذت تساوم في مقترحات الحلفاء، وحجتها في ذلك أنها إذا حشدت جيشها في الشرق فإن بيمونته تنتهز الفرصة للهجوم على لمبارديه.
وكان الحلفاء قد عرضوا صيانة الحدود الإيطالية طول مدة الحرب إلا أنهم رأوا أن أحسن جواب لمساومة النمسة هو أن يقنعوا بيمونته بالدخول في الحلف وإرسال قسم من جيشها إلى الشرق، فأخذوا منذ أوائل سنة 1854 يلاطفون حكومة تورينو ملوحين لها - باستمرار - بأنهم سيقنعون النمسة بالتخلي عن لمبارديه لقاء ممتلكات جديدة يعطونها إياها في الشرق، ولكنها إذا ترددت في الأمر فإنهم سوف يساعدون النمسة على احتلال ألكسندرية.
وكانت هناك حوافز للإصغاء إلى الدول الغربية أهم من كل ما مر، فكافور أدرك بثاقب نظره أنه إذا أصبحت النمسة حليفة للحلفاء بدلا من بيمونته، فستظل فرنسة وإنجلترة مدينتين لعدوتها ومستاءتين منها وهنا أصبحت سياسة كافور بأجمعها في الميزان، فقبل مقترحات الحلفاء بلهفة وعرض عليهم إرسال قوة إلى القريم.
ومع أن الملك كان بجانبه فإنه لم يلق أي معاضدة لمشروعه هذا في الوزارة، حتى إن وزيرين من وزرائه هدداه بالاستقالة، وكانا يريان أنه من الطيش والمجازفة نهك قوى بيمونته وبذلها في نزاع ناشب بين الآخرين، مع أنه يجب الاحتفاظ بها لتسخيرها في مطامعها القومية الخاصة، وقد تريث كافور حتى استطاع في نهاية الخريف استمالة زملائه إلى رأيه، ولما طلب الحلفاء في كانون الأول سنة 1854 إلى بيمونته محالفتهم بصورة رسمية قررت الحكومة تلبية الطلب مشترطة أن تمنحها إنجلترة قرضا لا يقل عن مليون جنيه إسترليني، وأن تعتبر بيمونته حليفة لا أجيرة، فتشترك في جميع المؤتمرات المحتمل عقدها مدة الحرب، وبعدها أن تتعهد الدول الغربية في معاهدة سرية بأن تقدم بمسعى جديد لإلغاء عملية حجز الأملاك في لمبارديه، وأن تنظر بعين الجد في موقف إيطالية من حيث آمالها القومية.
فلم تمل إنجلترة وفرنسة إلى قبول هذه الشروط لأن النمسة قد انضمت إلى الحلف ورفضتا أن تسجلا في المعاهدة أي تعهد، وبهذا أصبحت الوزارة أمام أمرين، إما الحلف بلا قيد ولا شرط أو العزلة.
وكان الملك يؤثر انسحاب الوزارة على ترك الحلف، كما طلب اللاجئون اللمبارديون العدول عن الشرط المتعلق بالحجز على أملاكهم.
وبهذا وقعت الوزارة على المعاهدة في 9 كانون الثاني 1855، ودهش الرأي العام البيمونتي لذلك كل الدهشة، وبدا له أن هذا المشروع جريء عجيب؛ إذ لا يكاد المرء يرى أية مصلحة للبلاد، ولكن كافورا بذل جهده وسخر ذكاءه وحذاقته؛ لحمل المجلس النيابي في إقراره، وقد لقي كافور في ذلك صعوبة عظيمة فلم يستطع الناس أن يفهموا كيف يجوز لبيمونته أن تحارب روسية التي لم تخش مطامعها يوما ما، بينما ظلت بروسية محايدة والنمسة متفرجة فضلا عن أن هذه الحركة تتطلب التضحيات في النفوس والأموال وتستدعي قروضا باهظة سيحمل الناس عبئها على كاهلهم، وسيكبدون ضرائب جديدة .
والأغرب من ذلك كله أن تقف بيمونته بجانب النمسة وتساعد مضطهدي السلاف الثائرين، والواقع أن البلاد بأجمعها لم تشعر بخطر العزلة إلا قليلا، ولم تكترث لأهمية منح بيمونته صوتا في المؤتمرات الأوروبية ورفعها إلى مصاف حليفة الدول الغربية، وجعلها المحامية عن قضية إيطالية، مما تتضاءل معه كل تضحية مهما كثرت، وأخيرا أقر المجلس النيابي المعاهدة بخمسة وتسعين صوتا ضد أربعين صوتا.
وكان صيف سنة 1855 دور قلق لبيمونته
يؤدي حتما إلى انتصار الإكليريكيين في الداخل انتصارا حازما، وقد مثلت القوة الصغيرة البيمونتية البالغة عددا 17000 دورا سلبيا لا شأن له في المعارك ولكنها أدت واجبها في حماية جناح الخلفاء الأيمن كما يجب، وتفوقت بخدمات ميرتها وشئون صحتها السيارة الجيدة فكانت على نقيض ما قد انتاب الميرة الإنجليزية من فوضى.
ولما اشترك الجنود البيمونتيون في القتال في وادي جونايا ي وسط آب، وهنا يجب ألا ننسى أن الإفرنسيين هم الذين واجهوا صدمة القتال؛ فإنهم أدوا واجبهم بكل بسالة حتى زعم كافور أنهم غسلوا عار نوفاره، وأخذ الناس يصدقون القول بأن «طريق القريم يوصل إلى لمبارديه.» وأن «في خنادق القريم تبنى الوحدة الإيطالية.» وأخذ الناس في إيطالية يستبشرون باشتراك بيمونته في الحلف ويعتبرونه رصاصة في مسدس انطلقت من أذن النمسة، والواقع أن الظفر في القريم خدم مصير إيطالية أكثر من جميع الخطب والمقالات التي دافعت عن قضيتها في أوروبا الصماء.
وكان كافور على حق حين طلب إلى الحلفاء بأن يهتموا لحالة إيطالية، فلم يكن في روما إلا الفساد والفوضى وليس في لمبارديه والروماني سوى استبداد عسكري غاشم، وساد الطغيان نابولي ففي روما لم يؤبه لمجلس الدولة إلا قليلا، وقد حاول المجلس المالي أن يدعم حقه الأسمى في الإشراف على الميزانية، بيد أن الحكومة أهملت أمره حتى أمسى بمرور السنين لا شأن له ولا قيمة، وأصبحت الدعوى التي كثيرا ما تكررت بقبول العلمانيين في جميع الوظائف؛ حبرا على ورق؛ فالعلمانيون لم يشغلوا إلا المناصب الثانوية ، وكان جميع الرؤساء في الوزارات - ما عدا الحربية - وجميع الولاة وجميع كبار القضاة؛ من رجال الدين، وكانت المجالس العمومية خاضعة لإرادة الحكومة كل الخضوع، ولم يمنح حق الانتخاب إلا لأولئك الذين سلموا من الأخطاء السياسية والدينية، فاقتصر التمتع بهذا الحق على جماعة صغيرة من أغنياء الملاكين.
ولم يكن الحكم الصالح في نظر رجال الإدارة في روما إلا من الأمور الثانوية، فهم الكرادلة اقتصر على محاربة التفكير الحر والحيلولة دون تقدم علم الطب، ناهيك ما كانت تقترفه محكمة التفتيش من مظالم، وقد زج أحد الناس في السجن؛ لأنه لم ينزع قبعته في الكنيسة، وعذب أحد مواطني فيرمو إلى حد الموت لأنه كفر، وبينما كان أنتونللي والكرادلة السياسيون يذرون الرماد في عيون أوروبا أو أنهم يهددون فرنسة بالنمسة؛ كانت عصابة السانفيديست المحمية من قبل الكرادلة تقبض على زمام الدولة.
وقد أصبح «جاللي» بفضل الطريقة المخزية التي اتخذها في إدارة الخزينة؛ ثريا، كما أثرى أنتونللي بطريقة غير مشروعة، حتى اضطر إلى تقديم استقالته على إثر الفضيحة التي شاعت عن علاقته بمصرف روما وظل «ألبير» الرجل الذائع الصيت مراقبا أول لشئون الجمارك إلى أن اضطر إلى الهروب ليسلم من يد القضاء.
أما شريكه ماردوني الذي حكم عليه فيما مضى لثبوت جرائم الغش والسرقات عليه، فكان يرأس الشرطة السرية، وكانت المحاكم تتخذ جميع الوسائل لمطاردة الأحرار، وبلغ الاضطهاد حدا يصح القول معه إن أربعة آلاف من الأهليين كانوا في السجون، وزاد عدد الموقوفين السياسيين على ألف شخص كانوا كلهم في حالة مزرية من حيث السكنى والمعيشة.
وكانت المحاكم النمسوية قد أعدمت منهم مائتي نفر رميا بالرصاص في إيالة بولونيه وحدها، وكانت الحكومة لا تستطيع الاعتماد على جنودها ولا على شرطتها، فالمعتدلون الذين اتخذوا كافور قدوتهم، والجمهوريون الذين اتخذوا مازيني أملهم كانوا يتزعمون جماهير الأهليين كلهم، وكان أنتونللي يعلم جيدا أن القوات النمسوية وحدها هي التي تحمي حكومته من سقوط فجائي.
أما في نابولي فقد قبض فرديناند على زمام الحكم بيد شديدة جدا، وكان مغتبطا بأنه الأمير الوحيد الذي يعلم السر الذي يستطيع به إنقاذ الهيئة الاجتماعية الأوروبية، وأن الثورة لا تقمع إلا بيد من حديد وأن التساهل مع الأحرار ينتهي إلى الخضوع إليهم، ولم يأبه قط للرأي العام الأوروبي الذي كان ينعته بالوحش عدو البشر، وكان يعتبر انسحاب بالمرستون نصرا باهرا لقضية المحافظة على نظام العالم الأدبي، وكان يعتمد على عون قيصر روسية وإمبراطور النمسة، ولا يعبأ بفرنسة وإنجلترة.
أما في صقلية فبعد أن دشن نائب الملك أعماله باضطهاد فظيع أخذ يحاول استرضاء أهل الجزيرة بتخفيف وطأة الشدة، وإصلاح حالة الطرق التي كانت اقتصاديات الجزيرة في أشد الحاجة إليها، وقد أغضب ذلك فرديناند، فاضطر إلى الاستقالة ثانية وعين أحد صنائعه في البلاط بدلا عنه، واشتد طغيان الملك حتى أخذ اليسوعيون أنفسهم يتذمرون منه ويمقتون عليه.
وكان الجواسيس والشرطة زبانيته والآلة في هذا الإرهاق، وأعد سجلات خاصة عن سلوك الموظفين السياسيين، ولما كانت الطبقة الوسطى هي العنصر الحي في البلاد، فقد غدا إرهاقها شغل الملك، ولكن كان يوجه رعايته للطبقات المنحطة وشبه المجرمة ويسخرها في مآربه، فكانت تعتمد عليه وعلى شرطته لتعيش من دون عمل.
وكانت الأمور في الشمال - شأنها في كل وقت - في حالة لا بأس بها؛ ذلك لأن النمسة أخذت على إثر الاحتجاجات التي أقلقت راحتها لمناسبة الحجوز؛ تخفف الوطأة عن الناس، وكف موظفوها عن المظالم الفظيعة وألغي قانون الأحكام العرفية ورفع الحجز عن كثير من الأملاك، وأعيد تأسيس الجمعيات المركزية، ولكن هذا كله لم يرق في أعين القوميين، فكتب مانين من انزوائه: «نحن لا نريد من النمسة أن تكون شفيقة بنا وذات سياسة حرة في بلادنا لأن ذلك فوق قدرتها، حتى إذا هي تمنت ذلك، وإنما الذي نريده منها هو أن تذهب.»
ولا يفوتنا القول بأن صرامة الإدارة العسكرية قد منت التجارة بخسارة فادحة، وظلت الشركات المساهمة مترددة خشية الأزمات السياسية المحتملة الوقوع دائما، وبلغ ما أنفق على الإدارة النمسوية من الضرائب غير الاعتيادية والقروض ثلاثمائة مليون من الليرات خلال السنوات العشرة التي تلت سنة 1849، ومع ذلك فإن الحالة هناك كانت أحسن مما هي عليه في روما ونابولي.
وكادت هذه السياسة التخديرية التي روعيت نكاية بالأحرار؛ أن تخدر البلاد فعلا وتبسط عليها ظلا من الاستسلام الكئيب، وقد استحوذ على الناس شعور عام من الكآبة والتعب، فأرسل مازيني في أيلول سنة 1854 كالفي الشجاع البطل الذي دافع عن مضائق كادورة في سنة 1848 لإيقاد نار الثورة في المنطقة نفسها، إلا أنه قبض عليه وصلب، فكان لهذا الحادث تأثير تثبيط في عزائم الوطنيين، وطلب بعض اللاجئين الذين لم يحتملوا النفي المديد العودة إلى بلادهم فسمح لهم بالعودة، وأعيدت إليهم أملاكهم المحجوزة، بيد أن هذا الخضوع كان سلبيا ظاهريا؛ إذ كان يخفي بطياته حقدا دفينا على النمسويين أشد فعلا وأكثر شمولا من سنة 1840، وتفاهمت الجماعات القومية في ميلانو بعد فشل ثورة 1853 وأخذت تجد في الاستعداد ليوم الخلاص.
وبينما كانت لمبارديه تنتظر اليوم الموعود كانت الدوقيات المجاورة لها ترزح تحت إرهاق شديد ومات شارل الثالث قتيلا بطعنة خنجر، فخلفته الأميرة الوصية، وهذه بدأت عهدها بالوعد بالإصلاحات، ولكن ما كاد يشيع الخبر الطائش بأن غاريبالدي قادم حتى شبت الثورة في العاصمة بارمه.
أما دوق مودينو فرانسوا، فكان في جدال مستمر مع الحجارين في كرارة الذين غضبوا أشد الغضب بانسلاخ أرضهم عن حكم طوسكانه العطوف، ورغم أعمال الشدة التي قام بها فرانسوا وضباطه النمسويون فقد ظلت كرارة وكر الاستيلاء والتذمر، ومثلت في الحركة دورا خطيرا.
تلك هي حالة إيطالية التي أراد كافور أن يحكم أوروبا في قضيتها وقد زار الملك فيكتور عمانوئيل ملوك الحلفاء بعد سقوط سواستيبول في أيديهم الحلفاء، فاحتفلت إنكلترة بمقدمه واعتبرته دعاية الإصلاح الجديد في إيطالية، وقد دل ذلك الاحتفال على أن سياسته الرشيدة كانت موضوع عطف الإنجليز ورضائهم، أما في باريس فقد كان أثر هذه السياسة بالغا، حتى إن الإمبراطور - وقد أعجب بكافور - تساءل ماذا يستطيع أن يعمل في سبيل بيمونته وإيطالية؟ ولكن حدث أن دخلت القضية الشرقية في دور غير ملائم، فبيمونته كانت تنظر إلى استمرار الحرب بعين الارتياح للحصول على أكاليل ظفر الجديدة وربط الحلفاء بتعهدات جديدة لمصلحتها.
ولكن السياسة النمسوية الماهرة استطاعت في باريس أن تنفر فرنسة من الحرب، وأن تحمل الإمبراطور نابليون الثالث على أن يسلك سياسة سلمية، وأدى ذلك إلى عقد مؤتمر باريس الذي قد ينتهي إلى إقرار السلم، وذلك نصر باهر لسياستها.
وقد غدت النمسة في ذلك الحين سيدة الموقف، وأظهرت فرنسة استعدادها للسير وراءها، فأدرك كافور مدى الخطر الذي ينتج عن استعادة النمسة منزلتها التي فقدتها أخيرا، فبذلك تذهب التضحيات التي تكبدتها بيمونته هدرا، وليس من علاج لذلك إلا أن يدوي صوت بلاده في المؤتمر، وقد بذل كافور طول سنة 1855 جهدا جبارا لمكافحة الدسائس النمسوية التي كانت تسعى لإبعاد بيمونته عن مؤتمر باريس مستغلة رغبة فرنسة وإنجلترة العظيمة في الحصول على مساعدة مسلحة من جانب النمسة، وقد أصرت أخيرا على أن يقتصر اشتراك المفاوضين البيمونتيين على القضايا التي تخص بلادهم فقط، وأبى كافور أن تكون بيمونته في مركز ثانوي.
وما كانت الدول المعظمة لتستطيع أن تنكر وجه الحق في مطالبه، وعلى كل فقد ذهب إلى باريس وهو قليل الأمل في النجاح، وناضل هناك وما كاد المؤتمر يفتح جلساته حتى وافق بالإجماع على أن يشترك كافور في جميع محادثاته.
وكانت أهداف كافور المهمة أربعة:
أولا:
الحصول - جهد المستطاع - على أراضي بيمونته.
ثانيا:
إخراج النمسويين من الروماني ومنح هذه الدولة استقلالا ذاتيا.
ثالثا:
استغلال الرأي العام الأوروبي لحمل البابا وفرديناند على القيام ببعض الإصلاحات.
رابعا:
إظهار بيمونته في جميع المواقف بمظهر المكافح عن إيطالية جميعها أو الأحرى حمل الدول على اعتبار بيمونته ممثلة إيطالية وزعيمة حركتها.
وكان يتوقف بلوغ هذه الأهداف - قبل كل شيء - على معاضدة فرنسة وإنجلترة لها.
وكان بالمرستون يعطف على الآمال الإيطالية كل العطف؛ شأنه في كل حين، وقد قابل الأحرار الطليان عودته للحكم في نهاية 1852 بحماسة شديدة، وكان كرهه للنمسة وصلته بلويس نابليون ورغبته في شمول الحكم الدستوري جميع أنحاء القارة؛ ذلك كله أوشك أن يحفزه على إعارة قوة إنجلترة المسلحة لبيمونته.
ولكنه لم يكن طليق اليد والبلاط الإنجليزي كان يضع العراقيل أمام سياسته الجريئة، فضلا عن أنه لم يكن وزيرا للخارجية فإنه يعلم أن بلاده لم توافق على خوض غمار حرب ضد النمسة في سبيل حرية إيطالية، وذلك لا يمنع كون الرأي العام الإنجليزي رفع صوته عاليا بتشويق من جمعية محبي إيطالية في استنكار الاستبداد الجاري في روما ونابولي، حتى إن هدسن السفير البريطاني في تورينو كان يستخدم نفوذه الواسع في مصلحة الحكومة البيمونتية، وقد قررت الحكومة الإنجليزية أن تضغط على فرديناند والبابا باذلة في ذلك كل نفوذها.
أما عطف فرنسة على القضية الإيطالية فلم يكن أقل من عطف الإنجليز، وقد وضع الإمبراطور منذ مدة طويلة نصب عينيه إقصاء النمسويين عن إيطالية، ومنذ حدوث الانقلاب الحكومي الذي أصعده إلى منصة الإمبراطورية توقع حلول اليوم الذي يزحف فيه جيشه نحو بيمونته، ولكن الحرب في الشرق جعلت التحالف مع النمسة في ذلك الحين أمرا لا بد منه.
بيد أنه في إبان حروب القريم هدد النمسة وبروسية بسحب قواته وإرسالها إلى نهر الراين ونهر بو فيما إذا تخلتا عنه، وحين كانت سياسته ترمي إلى مصادقة النمسة كان يأمل أن يقنعها بسحب قواتها من الروماني وترك بارمه لبيمونته حتى بلغ به التفاؤل أن ظن بأنها توافق على التخلي عن ممتلكاتها الإيطالية؛ لقاء حصولها على الإمارات الدانوبية.
ثم إنه كان لا يريد أن يقوم بعمل يغضب البابا؛ اجتنابا لخصومة الكاثوليك الإفرنسيين، إلا أنه كان يمقت فرديناند ويندد بأعماله الاستبدادية، حتى إنه ساهم في الدسائس التي حيكت لنصب ابن عمته لوسيان مورات ملكا على نابولي.
لقد علق كافور في مفتتح عهد المؤتمر آمالا كبيرة على ما لقيه من تشجيع الإمبراطور والمندوبين الإنجليز في المؤتمر وأمل أن يضم بارمه أو ماسة كرارة إلى بيمونته، وأن يرى الروماني دولة مستقلة وملحقة بطوسكانه أو بندقية بارمه، وحين أدرك أن تصلب النمسة العنيد سوف يقضي على مشاريعه؛ اضطر إلى تعديل سياسته، فقدم مذكرة إلى السفير الإفرنسي والإنجليزي اقترح فيها منح مقاطعتي الروماني والمارك حكما ذاتيا تحت سيادة البابا، على أن تتمتعا بنوع من التمثيل الدستوري.
وكان موقنا أن النمسة لا توافق على هذا المقترح فيتخذ من رفضها حجة يستغلها ضدها لمصلحة القضية الإيطالية من جهة، وليعلن من جهة أخرى للملأ استحالة قيام حكومة البابا بأية إصلاحات، وقد وعده السفير الإنجليزي والفرنسي بأن يهيئ فرصة للبحث في القضية الإيطالية بعد ما يبت المؤتمر في القضايا المهمة.
وكانت بروسية تقف من القضية موقف العطف، أما روسيا فكانت تريد الانتقام من النمسة، وقبل أن ينفض المؤتمر عرض المفاوض الإفرنسي عليه قضية روما ونابولي وانتقد الحال فيهما باعتدال ثم عقبه المفاوض الإنجليزي بتوجيه التهم لحكومة البابا، والتنديد باستبداد فرديناند طالبا تدخل العالم المتمدن، وأصر المفاوض النمسوي على رفضه الموافقة على البحث في هذه القضية رفضا باتا حال دون الحصول على أي نتيجة.
ولكن كافور نال مبتغاه؛ إذ تأكد أن أكثرية المؤتمر تعطف على القضية عطفا صادقا وأنه ظفر بنقمة أوروبا على الاستبداد، ثم إنه لن يترك الفرصة تمر سدى بل قدم توا مذكرة إلى السفيرين الإفرنسي والإنجليزي عقب ارفضاض المؤتمر؛ أوضح فيها وضع النمسة المسيطر في إيطالية وصعوبة الاحتفاظ بالسلم تجاه تحريكاتها.
وكانت النقطة المهمة في تلك المذكرة كما قال مازيني لفت نظر العالم إلى أنه إذا فشلت الأساليب الدبلوماسية في الحصول على الإصلاحات فإن الأساليب الثورية هي الكفيلة بالحصول عليها، والواقع أن كافور أخذ يفكر في الحرب تفكيرا جديا بعد أن شاهد إخفاق مساعيه السياسية، وراح يتهدد بالتحريض على الثورة في نابولي وباليرمه وإشهار حرب السكاكين على النمسة فيما إذا أخفق في الوصول إلى حل سلمي، والواقع أنه لن يتأخر في زج بيمونته في الحرب فيما لو اقتنع أن الظروف ملائمة حينذاك.
وبعد أن اطلع المفاوض الإنجليزي على المذكرة قال لكافور بعض كلمات اعتبر كافور - خطأ - أنها وعد بالمساعدة من جانب إنجلترة مما جعله يتحفز لخوض غمار الحرب، ولكن إنجلترة عادت إلى صداقتها التقليدية مع النمسة ولم ترغب في تقويض دعائم تلك الصداقة، كما أن فرنسة لم توافق على إغضاب البابا، وعليه فإن المؤتمر لم يسفر عن فائدة عملية لقضية إيطالية، فهاجمته المعارضة في بيمونته ونددت بالنفقات الباهظة التي ذهبت سدى، وتحدثت عن الآمال الخائبة ولكن الواقع أن الربح المعنوي كان عظيما، اعترفت به إيطالية بأجمعها؛ إذ حلت القضية الإيطالية من الآن فصاعدا في المقام اللائق بها من الاهتمام والعناية، وأما النسمة فقد فقدت منزلتها بالدور المخزي الذي مثلته في حرب القريم، وبالدفاع التافه الذي قدمته للمؤتمر حول القضية الإيطالية وكان كافور محقا حين صرح أمام المجلس النيابي: «بأن النمسة أصبحت أمام محكمة الرأي العام.» وأن أوروبا قد اعتبرت بيمونته محامية عن القضية المذكورة، ولما طالبت إحدى صحف تورينو بجمع إعانات لتجهيز قلعة ألكسندرية بمائة مدفع تدفقت التبرعات من جميع أنحاء إيطالية ومن جميع الطليان في أنحاء العالم.
الفصل الرابع والعشرون
الجمعية القومية
1855-1857
لا شك في أن كافور نال مبتغاه في مؤتمر باريس، فقد كسب جانب فرنسة، ومهما كان التدخل الذي أقدمت على القيام به فرنسة وإنجلترة للضغط على روما ونابولي طفيفا؛ فإن ذلك من صنعه، وكان يعلم جيدا أن جيش لويس نابليون سوف يعبر جبال الألبة عاجلا أو آجلا لطرد النمسويين، وكان الرأي العام قد قدر نجاح كافور في المؤتمر، وازداد نفوذه حين صار دكتاتورا في بيمونته، وغدت الأكثرية في المجلس النيابي بيده، أما مجلس الأعيان فخضع له بعد أن هدده بإحداث كراس جديدة فيه.
هكذا أصبح كافور في جميع أنحاء إيطالية رمز الإنقاذ
يعقد جلساته تألف في إيطالية حزب جديد لتأييد سياسة كافور وتنشيطها وانتزاع القيادة المعنوية من أيدي الجمهوريين وتسليمها لحزب الأحرار الكثير العدد الذي نادى بكافور رئيسا ...
وكانت ثورة ميلانو المشئومة سنة 1853 ضربة قاضية على نفوذ مازيني وقد قضى على سمعة جمهورية روما، أما في فرنسة فإن الانقلاب الذي قام به لويس نابليون أدى إلى تشتت شمل الجمهوريين، وكذلك أخذ أنصار مازيني في روما ونابولي ولمبارديه يلتحقون زرافات بالقوميين الذين ساروا وراء فكتور عمانوئيل وكافور، وكان سقوط مازيني ذا مغزى يفوق مغزى سقوط الحزب الجمهوري؛ إذ به ينتهي الدور الذي بلغ سماكه فيما بين السنوات 1846-1849، وبدأ للعيان أن الحماسة التي لا تستند إلى القوة تعجز عن مقاومة حراب الجيوش الدائمة، على أن القضية لم تقترب من النجاح إلا يوم عاضدتها قوى فعالة، أعني: الجيش البيمونتي والسياسة البيمونتية، أما الحماسة المحرومة من الضغط والآراء السياسية المبتسرة فقد فشلت.
وكان شعار السياسة الجديدة الحصول على أكثر شيء ممكن بأقل جهد وتضحية، وهكذا حلت نزعة كافور الحرة محل نظريات ميماني ومونتانللي وبروفيريو الاجتماعية، وكانت حركة مازيني وجيوبرتي قد سارت مدعمة بتقديس الكنيسة، فحمل متطوعوها الصليب فوق صدورهم وكانوا يتضرعون إلى الله لنيل مقاصدهم.
أما الجيل الجديد فأخذ يهتم كثيرا بمخزن العتاد، وكان للأولين شعراؤهم ومؤلفاتهم الأدبية المهمة، وكانوا يرجعون إلى التاريخ، أما الأخيرون فصاروا يكتبون الرسالات ويوزعون النشرات ويتكلمون بلسان الصحافة التي ارتفعت منزلتها بعد سنة 1847 فضمت المفكرين الوديعين توماسيو وباتسي ونابت النظرية العقلية
Rationalism ، مناب المثالية
idealisme ، وأخذت الروح الجديدة تهتم بالحال أكثر من اهتمامها بالمستقبل وتجنبت الإفراط في آمالها، وسلكت سبيل الحذر والتربص عازمة على ألا تجازف على الطريقة الدون كيخوتية منصرفة للاستعداد لا تنزل إلى المعركة إلا بعد أن تضمن النجاح.
وجعلت الحركة الجديدة كل اعتمادها على الضبط والنظام وأعرضت في سبيل المحافظة على الوحدة عن المغامرات المفاجئة والاعتداء على الخصوم وسحق الأقلية، وصرفت همها إلى إزالة كل ما يسبب الخلاف حتى لا يقع مثل الانشقاق بين الملكيين والجمهوريين الذي شل حركة لمبارديه صيف سنة 1848، وكذلك إزالة الشكوك التي جعلت المحافظين يكادون يغتبطون بهزيمة نوفاره، وقد تمشت الحركة على أن ملك بيمونته هو الزعيم الوحيد، وأن دستور بيمونته هو الأنموذج الذي يجب أن تحاكيه دساتير إيطالية وأن جيش بيمونته هو الأداة الوحيدة للخلاص.
وكان جيوبرتي إلى حد ما رئيس دعاة هذا المذهب الجديد وكما أن كتابه بمريماتو كان قد أوجد جماعة الجلفي الجديد ، فكذلك كان كتابه «البعث المدني» إنجيل جماعة الوحدة الجديدة، ولما مات جيوبرتي سنة 1852 انتقل تراثه إلى يد رجلين ممتازين: الأول «جيور جيوباللا فنجينو» من أهل لمبارديه، وقد قضى هذا في سجن شبيلبرج زهاء 14 سنة وعاد إلى بيمونته من جملة اللمبارديين اللاجئين سنة 1848، وكان من المؤمنين بالجمهورية، بيد أن اختلاطه للملكيين واتصاله الشخصي بالملك سرعان ما جعلاه من الملكيين، ومع ذلك فقد ظل راديكاليا متحمسا جم النشاط واسع الطموح إلا أنه قليل الكفاية في السياسة، وكان يميل إلى حمية غاريبالدي النزيهة ولا يثق بسياسة كافور الكثيرة الحذر، وثانيهما مانين وكان قد التجأ إلى باريس بعد سقوط البندقية، واكتسب - بنزاهته وإخلاصه ونبل سيرته - احترام جميع اللاجئين، وكان متخلقا بالصفات التي يندر أن يتخلق بها رجال الدولة.
وبينما كان كافور يقنع الناس بالعقل والمنطق كان مانين يمس قلوبهم، وكما فعله زميله باللافجينو ترك مانين الآراء الجمهورية وأدرك أن لإيطاليا قوتين أساسيتين هما: الرأي العام والجيش البيمونتي، ولاكتساب القوة الثانية يجب تنظيم القوة الأولى واستخدامها في حمل فكتور عمانوئيل، على أن يترأس الحركة القومية، وهكذا، فإن مانين كان يتوخى تثبيت الشعور القومي الذي يشتد ميلا نحو بيمونته، وأصبح يتتبع باهتمام تطورها الدستوري وجهادها ضد البابوية، ويصفق استحسانا لها حين احتجت على حجز أملاك اللمبارديين من قبل النمسة مغتبطا بتحالفها مع الدول المعظمة على الرغم من إخفاقها في تحقيق الآمال.
وظل يعتبر أن بيمونته هي بطل إيطالية المجاهد التي قدر لها أن تحتضن سياسة الإنقاذ القومي، وكان لافارينا المؤرخ وزير صقلية السابق هو القائم بالدعاية لهذا المذهب.
وكان لافارينا رجلا نزيها نشيطا، مجتهدا كادحا هادئا، يقبل على العمل بكليته، وقد ظل ثلاث سنوات يكتب بيده كل المراسلات الخاصة بالجمعية التي مثلت المذهب الجديد، وقد أسس أولئك الذين ذكرت أسماؤهم الجمعية القومية غير متأثرين بنفوذ رجال السياسة والصحافة، وكان شعارهم: «الاستقلال والوحدة وطرد النمساويين والبابا معا.»
وكانت هذه أول جمعية أسسها رجال غير ثوريين، فكانوا على خلاف أنصار مازيني الذين كانوا يفضلون الجمهورية على إيطالية، وعلى خلاف البيمونتيين الأقحاح الذين يضحون في إيطالية في سبيل تورينو، وقد عاهدوا أنفسهم على أن يظلوا مخلصين لآل صافويه شريطة أن يعتنق الملك سياسة الوحدة، أما إذا تردد فقد هددوه برفع علم آخر.
وقد كتب مانين للملك يقول له: «كون إيطاليا الموحدة، فنحن رجالك، وإلا فلا.» ولما تأكدوا من تعلق الملك بقضيتهم؛ التفوا حوله ناشطين، فأصبح شعارهم الوحيد «الوحدة والاستقلال، فكتور عمانوئيل ملك إيطالية»، وكان الطليان يرغبون في الوحدة، ومن العدل والإنصاف أن ينالوها.
ولكن خصوم الوحدة كانوا يدعون بأن الاتحاد لا الوحدة هو الذي يقود الأمة إلى الانتعاش الاقتصادي والرقي الاجتماعي الحقيقي، وبه تزول الحواجز الجمركية وتتوحد العملة والموازين والمقاييس وهو يساعد على وضع قوانين عامة، وقد يؤدي إلى الأخذ بسياسة خارجية وعسكرية موحدة ويجعل العلاقات بين الدويلات أكثر نشاطا ويكون نوعا من الوحدة الأدبية، أما الوحدة فكانت بنظرهم عملا يتعذر تحقيقه.
إن توحيد الدول الملكية القديمة لا يتم إلا إذا بلغ أعضاء الاتحاد من القوة ما يستطيع بها أن يملي سياسته على جميع أعضاء الاتحاد، ولو فرضنا أن بيمونته قد استولت على إيطالية الشمالية كلها فلم يكن لها من التفوق ما يكفي للتغلب على نابولي، أضف إلى ذلك مشكلة سلطة البابا الزمنية الخاصة وكونها عقبة دون الوحدة، وفضلا عن ذلك كله للفروق الموجودة بين الشمال والجنوب محاذيرها وأثرها.
بيد أنه فات هؤلاء الاتحاديين أن تمركز القوى بيد دولة تحكم إيطالية جميعها والنخوة الوطنية التي تجمع كافة الطليان في صعيد واحد، أضف إلى ذلك اتساع نطاق العمل لدولة عظيمة تضاهي دول أوروبا الغربية، كل ذلك أمور لا شك في أنها تتفوق على رخاء شحيح في بلاد صغيرة.
وكان مانيين مقتنعا بأن الجمهوريين سوف ينضمون إلى معسكره الجديد، والواقع أنهم أخذوا ينشقون عن مازيني ويتخلون عن سياستهم الخاصة ويلتحقون بمعسكر مانين أفواجا، وظل مانين يأمل بأنه يقنع مازيني بالانضمام إليه، ولكن جل ما حصل عليه من مازيني هو وعده بأن يقف موقف الحياد، وأن يتجنب كل ما من شأنه أن يعرقل سير العمل للاستقلال والوحدة، على أن يترك شكل الحكومة القادمة إلى المجلس بعد أن تنال حريتها، وكان مازيني لا يثق بالملك إلا قليلا، ومع ذلك فقد اقتنع الآن بأنه لا يطرد النمسويين إلا الجيش البيمونتي.
وقد خيل له بأن بيمونته لن تتحرك ما لم تجبرها على ذلك حركة خارجية، فإذا ما بدأت الثورة في نابولي وفي صقلية أو في كراره اضطر فيكتور عمانوئيل وجيشه إلى التدخل لمساعدتها.
غير أن مانين وباللافيجينو عارضا هذا الموقف الحيادي خشية أن يتخذه أنصار الحكم الذاتي وأنصار موارت في نابولي ودعاة الانفصال في صقلية والقائلون بالجمهورية في جنوة ستارا، ومعنى ذلك الانشقاق الذي حدث سنة 1848 ونجاح حركة الاتحاد دون الوحدة، فضلا عن أن فكتور عمانوئيل وحكومته لن يحبذا منهجا من شأنه أن ينحيهما عن الميدان بعد انتهاء العمل.
ولكن مازيني بينما كان يميل إلى التفاهم من جهة كان يجهر من جهة أخرى بعدم ثقته بالملك وباقتناعه بأنه لا يصلح لإيطالية إلا الجمهورية، وقد اشتد الخلاف بين مانين ومازيني حتى أصبح هذا الأخير عدوا لدودا للجمعية القومية، وحين فتح باب الاكتتاب لشراء مدافع للكسندرية سارع مازيني إلى فتح اكتتاب لشراء عشرة آلاف بندقية «تخصيص لأول إيالة إيطالية تثور ضد العدو المشترك.»
وشرعت الجمعية القومية بالقيام بدعاية متقنة، ولما كان الحزب البيمونتي قويا في شمال إيطالية؛ فإنه أخذ يوطد قدمه في الأنحاء الأخرى، وقد استطاعت الجمعية أن تجذب إليها جميع الناس في لمبارديه وفنيسيه وفي الدوقيات، أما في طوسكانه فظل أنصار الحكم الذاتي من الأحرار أقوياء، ولكن نفوذهم أخذ يتضاءل أمام دعاية الجمعية القومية، ثم انحاز معظم أنصار مازيني إلى جانب الجمعية، وشرع الشبان من أهل طوسكانه ينخرطون في سلك جيش بيمونته وأخذ ريكاسولي يبشر بالثورة وبالوحدة.
وقد رسخت الجمعية أقدامها في الروماني وفي روما نفسها، وانحاز معظم أنصار مازيني إلى صفوفها، وكان نفوذ الجمعية في نابولي وكلبريه وفي لاباسيلكانة عظيما بفضل مساعي الحزب البيمونتي فيها وجمعية الوحدة الإيطالية.
أما في بيمونته التي كانت مطمح الآمال ، فلم تتقدم الفكرة الجديدة فيها بادئ الأمر إلا قليلا، وكانت الجمعية القومية قد استهدفت في منهاجها ملكية تتعدى حدود إيطالية الشمالية، ولا تريد أن تختار تورينو ولا ميلانو قاعدة للحكم، بل ترغب في أن تجعل فلورنسة أو روما عاصمة إيطالية المتحدة.
واتخذت الجرائد - ما عدا واحدة منها - خطة الحذر من الجمعية وأظهرت حكومة بيمونته نفسها ترددا تجاه «المنهج العظيم الشأن» وعادت سياسة كافور، بعد أن خفت الهياج الذي أحدثه المؤتمر، كما كانت، سياسة تقدمية حذرة، وظل هدفه في هذه السياسة ترقب الفرص؛ للظفر بمحالفة فرنسة مهما كلف الأمر وتجنب - جهده - كل عمل ثوري، قانعا بمراقبة الأمور وسحق الجمهوريين، واستغلال الحركة القومية لمصلحة الملكية، وحث الآخرين على السير بالحركة إلى الأمام وعدم السير وراءهم إلا في حالة نجاحهم.
وقد رفض كافور أن يتنزل عن آرائه في النقاط الجوهرية التي كان على خلاف مع البابا بشأنها، رغم رغبة الملك في المهاودة معه، واستعد لمساجلة طوسكانه وبارمه الخصومة، وكان يميل إلى إعادة العلاقات السياسية مع النمسة؛ إذ بادرت النمسة إلى طلب ذلك، بيد أنه كان يحذر كثيرا سلوك سياسة تتعارض ومشاريع الإمبراطور نابليون، ثم اتجهت ميوله نحو السير إلى الأمام بخطى واسعة وإقدام إذا سمحت الظروف بذلك، حتى إنه قال لفارينا في تلك السنة: «إنه يؤمن بأن إيطالية سوف تصبح دولة موحدة عاصمتها روما.»
وقد تظاهر بميله إلى الجمعية القومية لا لأنه كان يعتبرها واسطة مكافحة للآراء الجمهورية فقط، بل لأنها احتملت تبعة السير على نهج جريء، وإذا استطاعت الجمعية القومية أن تكون في إيطالية قوة تساعد على الاستغناء عن الإمبراطور وتقود الثورة على ألا تمس العرش، فإن ذلك هو ما يرجوه وينشده وكان يترقب الحوادث ويقول: «لا فائدة من وضع الخطط فكل شيء يتوقف على الحوادث فيما إذا كنا نستطيع أن ننتهز الفرص.»
إذ ليس من مصلحة البلاد أن يخاطر بالحكومة أو بنفسه من أجل تقاعسه عن تقديم مساعدة للثورة في «بنتي فيجنه» في صقلية، وامتنع من تشجيع الحركة الثورية في طوسكانه وساعد على قمع الثورة في كرارة، واتخذ جميع التدابير لمنع التبرعات لشراء البنادق، بيد أن ذلك كله لم يمنعه من تشجيع رجال الطليعة سرا واستطاع بمقابلاته لفارينا في اجتماعاته الصحفية والسرية أن يدير أكثر حركات الجمعية القومية.
وقد اجتمع بغاريبالدي وقال له بأن يشجع أصحابه الآخرين، كذلك شجع حركات الانفصال في صقلية ومشروع بانيزي بإخراج سيتمبريني ورفقائه من السجن، حتى إن مازيني نفسه اعترف بأن كافور إيطالي قلبا وقالبا.
على أن كافور وقف في أوائل حركة الجمعية القومية موقف السياسي المتردد، ولما كان باللافيجينو خصما لفكرة الحلف الإفرنسي على الضد من كافور؛ فإنه كان لا يثق بكافور، وأراد أن يسقطه من رئاسة الوزارة مؤملا أن يخلفه مانين، بيد أن مانين استطاع بمحاكمته الهادئة أن يقنع باللافيجينو بأن كافور يسير وراء الجمعية القومية إذا استطاعت أن تهدي الرأي العام، وأن أحسن سياسة تقضي باكتساب كافور في الاستيلاء عليه وحمله على الانضمام إلى معسكر أنصار الوحدة.
على أن مانين نفسه كان لا يعتمد على كافور إلى الحد الذي يضع فيه جميع ثقته، فاعتزم أن يكسب جانب الملك، وكانت طبيعة الملك أكثر انبساطا في إباحة الأسرار وأشد صفاء، بينما كان كافور يتجنب الانفتاح، ومع أن عطف كافور على الحركة القومية كان لا يقل حماسة عن عطف الملك ولكن هذا الأخير كان بصفته جنديا يمقت النمسويين كل المقت وينتظر - بفارغ الصبر - يوم المعركة والانتقام، حتى إنه قال ذات يوم لبلافيجينو: «إذا لم تبكروا بالشروع فسأبدأ أنا.»
ولم يحل وجود فيكتور عمانوئيل زعيما للحركة دون حاجتها بطلا شعبيا، وقد استطاع باللافيجينو أن يجد هذا البطل في شخص غاريبالدي، وقد استحق غاريبالدي هذه المنزلة بفضل شجاعته الخارقة في مونته فيديئو وروما، وشمائله الكريمة النزيهة التي كونت منه رجلا دموقراطيا نبيلا، أما جرأته الخارقة وتفانيه في القيادة فقد جعلتاه معبود إيطالية، وكان يكره الدسائس السياسية ويمقت ألاعيبها وكان ذا ثقافة محدودة، قاصر الرأي في المفاهيم السياسية.
ولقد كان يتحين الفرص فتارة يحسن انتهازها وتارة تفلت منه، وأحيانا يتمسك بها في عناد، على الرغم من أن الظروف قد تتطلب التخلي عنها، وكثيرا ما كانت أساليبه مؤثرة لبساطتها ونزاهتها، إلا أنها يعوزها التبصر واتساع الأفق، وكان يؤثر الدكتاتورية على الحكم البرلماني.
وخلاصة القول: كان غاريبالدي عبارة عن قوة جمة النشاط لكنها غير منظمة، تستطيع ببطولتها أن تسطر صحيفة خالدة في التاريخ، كما كان يمكن أن ينجم عنها ضرر بليغ.
وقد أقصي غاريبالدي عن بيمونته سنة 1849، ثم سمح له بالعودة بعد انقضاء أربع سنوات على نفيه فأقام في كاربيره، تلك الجزيرة الصحرية الصغيرة القريبة من ساردينه، وعاش فيها عيشة مزارع، تلك هي الحياة التي كان يتعشقها وكان وقتئذ لا يزال جمهوري النزعة، يمقت النمسويين والبابا مقتا شديدا.
ولكن جميع الظروف ومقتضيات الأحوال كانت تعمل على استجلابه إلى حظيرة الحزب الجديد، وقد انتهى الأمر أخيرا كأكثر الجمهوريين إلى وضع ثقته في فيكتور عمانوئيل وفي كافور إلى حد ما، وكان على استعداد لمحاربة النمسة مع أي حليف كان حتى مع الشيطان نفسه إذا كان الشيطان خصما للنمسويين، وانضم بناء على إلحاح رجال لافارينا إلى الجمعية القومية في صيف سنة 1856.
وبينما كانت الجمعية القومية تعد العدد وترسم الخطط التي تضمن المستقبل كان أهل الجنوب يتشوقون إلى ظفر عاجل، وكانت إنجلترة لا تريد أن تقوم بأي عمل يساعد إيطالية الشمالية، بيد أنها كانت في الوقت ذاته ملتزمة أدبيا مثل فرنسة بالضغط على روما ونابولي، وكاد الإمبراطور يسحب جنوده من روما ويجبر النمسة بالقوة إذا اقتضى الحال على إخلاء الروماني لولا خضوعه في أغلب الأحيان لنفوذ الإمبراطورة والإكليريكيين.
وطالما كان ينصب نفسه مدافعا حارا عن الإصلاحات، أما الوزير المفوض البريطاني «كلارندن» فكان طليق اليد لا يهاب من ناحيته الإكليريكيين؛ فلذلك نراه يستعمل كلمات قاسية في وصف الاستبداد، إلا أن أنتونللي أجابه بحذق بأن الشغب الذي ولده مؤتمر باريس حال دون أي تساهل مع الأحرار وتوقع بأن يعتصم ضد اتهامات الإمبراطور برسالة التبرئة التي أرسلها السفير الإفرنسي إلى الإمبراطور، ولعل أنتونللي كتبها بنفسه، أما الإمبراطور فلم يقتنع بتلك الرسالة بل استدعى سفيره وخاطب البابا بكلام قاس حتى أظهر أنه سيطالب بمنح الروماني والمارك حكما ذاتيا مما اضطر أنتونللي إلى أن يتظاهر بعزمه على التساهل فطبعت لائحة قانون منقح للعقوبات إلا أنها لم تنشر أبدا، وبت في مصير انسحاب الحاميات النمسوية من بولونيه وإنكونه.
وشرع البابا في جولة في أنحاء الروماني، وقد تلقى الأوامر بتنظيم مظاهرات الإخلاص إلا أن الأحرار - بالاشتراك مع كافور والسفير البريطاني في تورينو هدسن - قاموا بتدابير معاكسة، وتقدمت المجالس البلدية بطلبات الإصلاحات، ولما منعت الحكومة المجالس من عقد الاجتماعات الرسمية قدمت هذه مذكرات غير رسمية، واستقبل الناس البابا بفتور، أما في بيروزه فاستقبلوه بصرخات «الخبز والدستور».
وحين بدأ البابا يميل أخيرا إلى تلبية طلب الأهلين؛ اعترف بمرارة بأنه ليس لديه الجرأة الكافية بالإصلاحات، وبذلك حكم على نفسه بالعجز وقضى على آخر ما يمكن أن يعقد عليه من الآمال، وقد اشترك أهل روما أنفسهم أيضا بالطلبات ولكن حكومتي باريس ولندن ارتأتا أن تصرفا النظر في الوقت الحاضر عن اتخاذ تدابير جدية.
وكانت الأمور في نابولي أسوأ مما هي عليه في روما، وقد ألح والويسكي وكلارندن كثيرا على فرديناند أن يمنح العفو وأن يصلح الحكومة، وكانا يقولان له بأن لهما الحق في التدخل لأن وضع المملكة ينذر بالثورة ويدعو لها ويهدد السلم في أوروبا، ولكن فرديناند رفض إجراء أي إصلاح بتعنت شديد، وكان المسجونون السياسيون على الرغم من الصرخات الاستنكارية التي تصاعدت من أنحاء أوروبا المتمدنة يعاملون دائما في وحشة زائدة، وقد حبط المشروع الذي رتبه هدسن وبانيزي لإخراج المسجونين من السجن.
وقد تظاهر فرديناند في حرب القريم بخصومته للحلفاء ورفض مساعدتهم على شراء الكبريت من صقلية، ولما قابله ممثلا الدولتين لمباحثته في هذه الشئون أجابهما بخشونة أنه كان يوشك أن يمنح العفو ولكنه عدل عن ذلك مؤثرا أن يظل أمر هذا العفو مطلقا على أن ينفذه بالإكراه، وقال لهما: «إن دولته مستقلة ولا يوافق أن يمنح أي امتياز إلى حكومات تحمي الثوار.» وأخذ يستعد للحرب أملا أن تساعده النمسة وروسية، ولما نصحته النمسة نفسها بأن يتساهل خفف من غلوائه وارتأى الاقتصار على نفي المسجونين السياسيين إلى جمهورية الأرجنتين، ومع أن الحليفتين كانتا قد استدعتا سفيريهما في تشرين الأول 1856 فإنهما لم يخجلا بعد ذلك من قبول هذا الحل المخزي؛ خشية إغضاب النمسة وروسية، وأن يؤدي ذلك إلى إعلان الحرب، والأغرب من ذلك أن فرديناند عاد فصرف النظر عن النفي فلم يتجاوز عمل الحليفتين قطع العلاقات.
وكان لوسيان مورات ابن ملك نابولي السابق يواكيم مورات يقيم في ذلك الوقت في باريس، وقد أوصى إليه ابن عمه الإمبراطور بأن له بعض الحق في المطالبة بعرش نابولي، واتخذه أداة خاضعة بيده، ووضع سالسيتي وزير فرديناند السابق بتحريض من مورات رسالة يدعو فيها إلى تأييد مورات في حقه بالجلوس على العرش فيما إذا رشح نفسه له، وكانت الرسالة عبارة عن نداء لبق وجهه للأحرار يدعو إلى تقسيم إيطالية بين بيمونته ونابولي والتعاون على طرد النمسويين والأمراء وترك روما ولاكورماكا للبابا.
وقد لعبت هذه الدعوة شطرا وافرا من النجاح، وكانت البلاد بأجمعها - باستثناء جمعية لازاروني - تطالب بخلع فرديناند، وكان أنصار الوحدة في مملكة نابولي ضعفاء، وقد أحبط كافور مساعي جميع أنصار الانضمام إلى نابولي، ولما كان الأحرار ضعفاء فإنهم لم يستطيعوا القيام بأي عمل جدي، فلاح للناس أن في تنصيب مورات بدلا من فرديناند ما يبشر بخلاص عاجل.
وكانت إنجلترة وفرنسة تتشوقان لطرد آل بوربون إلا أنهما لا ترغبان في تحبيذ أي حركة ترمي إلى الوحدة، وقد استطاع مورات أن يكسب تأييد الكثير من الأشراف واللاجئين من حزب الاعتدال في باريس وتورينو، ولا سيما بعد أن لوحت له فرنسة بمساعدتها الأدبية وكان له أنصاره الأقوياء في نابولي، وفي نفس صقلية كان له بعض الأنصار.
كاد كافور نفسه أيضا ينجرف بهذا التيار، لولا أنه خشي أن يثير المشروع حسد إنجلترة، بيد أنه لما تأكد من أن الإمبراطور يعاضد مورات لم يجرؤ على أن يظهر بمظهر المعارض له، ولاح له أخيرا بأن المشروع قد ينقذ نابولي من حالتها البائسة، وقد يؤدي إلى التحالف مع مورات ضد النمسة، وقد يساعد نفوذ إنجلترة على إلحاق صقلية إلى بيمونته، فإذا ما ارتقى مورات عرش نابولي أصبح من الصعب - بل من المستحيل - خلعه، أضف إلى ذلك أنه في حالة انضمام صقلية إلى بيمونته سيقف مورات موقف الخصم من بيمونته فتعاضده في ذلك جميع العناصر التي تكره الوحدة في شمالي إيطالية فضلا عن مساعدة فرنسة له.
وإذا ما تولت حكومة حرة زمام الأمور في عهد مورات؛ فإنها تستطيع أن تستميل إلى طرفها جماعات الشعب المعارضة؛ لذلك اعترض مانين على هذا المشروع وصرح بأنه إذا ارتقى مورات العرش سوف يصبح خصما لفكتور عمانوئيل بتأثير الظروف، ويكون بهذا حليفا للنمسا بالسر والعلانية، واحتج البارزون من اللاجئين على المشروع، أما المسجونون السياسيون فصرحوا بأنهم يفضلون الموت في السجن على أن يصافحوا ذلك الأجنبي الأفاق.
أما مازيني فدبر ثورة تبدأ من نابولي وصقلية وتمتد في جميع أنحاء الجزيرة وتجرف بتيارها فرديناند والبابا والنمسويين معا، فقد أصبح الحزب الانفصالي في صقلية في خبر كان، وسارت السياسة التي ترمي إلى صب الشعب في بوتقة إيطالية واحدة، وكانت صقلية في نظر الثوار «جزيرة البدء بالعمل ونقطة الشروع نحو الوحدة الإيطالية وكان نيكولا فابريزي تلميذ مازيني الشجاع أخذ يسعى في مالطة ناشطا منذ خمس سنوات لتنظيم عناصر الاستياء والاشتياق للعمل.
وقد تباحث مازيني وغاريبالدي في إعداد خطة لإرسال قوة لإثارة الجزيرة، ولكن غاريبالدي لم يوافق على الذهاب ما لم يعد كافور بالمساعدة، واستطاع لافارينا تنظيم حزب أنصار بيمونته في الجزيرة، وأكد بالمرستون بأنه يوافق على إنزال القوة الإنجليزية الإيطالية إلى صقلية حين عودتها من القريم، وفي نهاية سنة 1856 رفع البارون الفتى بنتي فيجنة العلم المثلث الألوان في الجزيرة قرب ترميني؛ آملا أن تنجده إنجلترة وفرنسة، ولكن لم يلب النداء من أهل صقلية إلا قليل منهم، وقد طارده رجال الحكومة وأعدم رميا بالرصاص.
وثمة هيئة عرفت (بلجنة النظام) لجماعة الأحرار كانت تعمل في الجزيرة، لها دعاتها وصحافتها السرية، ولكن الجميع كانوا يعتقدون أن الثورة في العاصمة باليرمو غير مضمونة النجاح، وكان أحرار لاباساليكانة ونابولي منظمين تنظيما جيدا، وقد اتخذوا للثورة الأهبة وأعدوا مئات من الرجال المسلحين.
ومما يلفت النظر أن أنصار مازيني وأنصار بيمونته كانوا يعملون متفقين، واشتد صخب الناس على آل بوربون حتى إن أحد الجنود من كلبريه حاول اغتيال الملك حين استعراضه الجنود في 8 كانون الأول 1856، واستطاع الملك فرديناند بهدوئه أن يحول دون تبادل الجنود السويسريين والطليان إطلاق النيران من بنادقهم، وحدثت بعد ذلك انفجارات دمرت مخزن بارود بالقرب من البلاد وسفينة حربية كانت راسية في الميناء، وكان أخو الملك وعمه متصلين بالأحرار.
وكان مازيني رغب في تدبير حركة ثورية في جنوة وليفورنه، غير أنه قرر أخيرا أن يضل الحركة بمؤامرة دبرها أحرار نابولي ولاباسيلكانة وبعض اللاجئين النابوليين والصقليين في جنوة، وحاول كارلوببساكانة أحد دوقات نابولي مع آخرين الاستيلاء على الباخرة كاجلياري - وكانت تمخر بين جنوى وساردينية - والسفر بها إلى بونزي بالقرب من جايته؛ لإخراج المسجونين من السجن وإنزالهم إلى سابري ليلتحقوا بثوار باسيلكانة، ويعقب ذلك الزحف على نابولي، وأنيطت بالدموقراطيين في جنوة وقتئذ مهمة الاستيلاء على المدينة وحصونها وإرسال المدد، ومع أن المتآمرين أنكروا أي محاولة لقلب حكومة جنوة وزعموا أنهم لا يريدون سوى الحصول على السلاح والرجال مددا للحركة؛ فإن مازيني كان يعتبرها ثورة جمهورية مما حدا بعقلاء الدموقراطيين كغاريبالدي وبرتاني إلى الإعراض عن مظاهرتها.
لقد استولى بيساكانة على الباخرة كاجلياري في 25 حزيران 1887 وفق برنامجه، إلا أنه بإنزاله أربعمائة سجين من المحكوم عليهم إلى سابري؛ قد أضر بسمعة الحركة، فضلا عن أن أهل باسيلكانة - بسبب إهماله - لم يكونوا على أهبة للحركة حتى إن القرويين قاوموا رجاله، وأخيرا - وبعد عراك - تغلب القرويون والملشيا على عصابة الصغيرة، ومات بيساكانة ونصف رجاله، أما النصف الباقي فوقع في مخالب قضاة فرديناند وانتهت الحركة في جنوة وليفورنة دون أن تجدي، وبعد أن سببت خسائر على غير فائدة.
وقد عاملت حكومة بيمونته المتآمرين المقبوض عليهم معاملة قاسية، لا تقل في قسوتها عن معاملة فرديناند للثائرين، وجاءت حركة باسيلكانه هذه آخر ضربة طعنت نفوذ مازيني، وعاد أخلص رجاله لا يثقون بزعامة رجل كان الفشل نصيبه في جميع الحركات، فضلا عن أن تلك الحادثة قد قضت على مشروع مورات أيضا، وطبعت حركة الوحدة في الجنوب بطابع جديد.
وكان من نتيجة الحركة المذكورة أن اشتد التوتر بين نابولي وبيمونته، واستولى أسطول نابولي على الباخرة كاجلياري بعرض البحر، وألقى ببحارتها وبينهم ميكانيكيان إنجليزيان في السجن النابولي، وطلب سفير ملك تورينو الباخرة، وطلبت الحكومة الإنجليزية إخلاء سبيل الرعايا البريطانيين، ولكن فرديناند رفض أن يسلم الباخرة وبحارتها.
وأخذت الحادثة تهدد بنشوب الحرب، فتدخلت وزارة دربي البريطانية في الأمر وبإطلاق فرديناند سبيل الإنجليزيين تخلت الحكومة البريطانية عن التدخل في الأمر، فحنق الرأي العام في إنجلترة على حكومته؛ لخضوعها المزري وأكره الحكومة على طلب الغرامة والعمل مع حكومة تورينو في الموضوع، فخشي فرديناند سوء العاقبة وأخلى سبيل الباخرة وقدم تضمينات للميكانيكيين، فأضافت هذه الحادثة إكليلا جديدا من النصر إلى سياسة كافور.
وبلغت سلطة كافور في بيمونته المرتبة التي لا تعلى، وقد تمتعت بيمونته في العهد الذي تولى فيه كافور رئاسة الوزارة على الرغم من العجز السنوي الذي أصاب الميزانية والزيادة الخطيرة المطردة في القرض القومي؛ رخاء لا مثيل له، فنمت الزراعة وراجت التجارة وعمت السكك الحديدية.
وفي عهده توفق «لانزه» وزير المعارف إلى رفع مستوى المدارس الأولية والثانوية، وأوجب القانون الذي صدر سنة 1848 ففتح مدرسة أولية في كل ناحية، فبلغ عدد المسجلين في المدارس عشرة بالمائة من مجموع الأهالي رغم النقص البارز في المعلمين الأكفاء، وترك قانون لانزه المدارس الخصوصية إلا أنه أقر لوزارة المعارف بسلطات محدودة لمراقبة تلك المدارس، وفرض المعلمين اختيار الامتحان وفتح دور المعلمين وحدد الحد الأدنى لأجور المعلمين، واقترح تأسيس مدارس للصناعة.
بيد أن لانزه جابه معارضة شديدة، فالإكلريكيون عارضوا في فرض رقابة على المدارس الخصوصية، ومع أن كافور وكثيرا من الأحرار كانوا يقولون بقول رجال الدين في ضرورة إطلاق حرية التعليم إلا أن رجالا كثيرين آخرين كانوا يقولون بضرورة رقابة الدولة على التعليم، وكانوا يحذرون امتداد نفوذ الإكليروس عن طريق إطلاق حرية التعليم، ضاربين المثل بما كان يتمتع به الإكليريكيون في فرنسة وبلجيكة من نفوذ باسم حرية التعليم، واضطر كافور أن يضحي برأيه الشخصي ثم أقر المجلس القانون.
وكان تأثيره في المدارس الثانوية مباغتا؛ ففي خلال سنوات بلغ عدد التلاميذ فيها أربعة أضعاف ما كان قبل القانون، وأقر مجلس الأمة مشروع لامارمورا الذي يقضي بإقامة شبكة حصون بين ألكسندرية وكاساله وفالانسه لإعاقة تقدم النمسويين في حالة نشوب الحرب ريثما ترد النجدات الإفرنسية، وقد دشن اللمبارديون من وراء نهر نستينا زيارة الإمبراطور فرنسوا جوزيف للمبارديه بفتح اكتتاب لإقامة تمثال في تورينو باسم الجيش البيمونتي، مما اضطر حكومة النمسة إلى استدعاء القائم بأعمالها من تورينو، إلى تبادل الكتب الشديدة اللهجة بينها وبين حكومة تورينو، ثم إلى قطع العلاقات بينهما، ولم ينجح بالمرستون في إقناع بيمونته بإعادة العلاقات.
وأدت دعاية الجمعية القومية إلى لم شمل الأحرار في إيطالية كلها، وبذرت بذور الثورة في جميع الدول المستبدة، وأدى فشل الجمهوريين النهائي إلى زوال احتمال خطر الانشقاق في صفوف الأحرار، حتى إن بعض أعضاء حزب أقصى اليمين كانوا على استعداد لمعاضدة الحركة القومية ضد النمسة، واستمرت بيمونته في مساعيها للتأهب للحرب ولاح لها احتمال معاضدة فرنسة إياها، فراحت تنتظر بثقة بدء المعركة بعد أن اطمأنت إلى إمكان الظفر بجيش حليف يساعدها في الميدان، وبعد أن تأكد لها إقبال أحسن العناصر في إيطالية على تأييدها.
بيد أن العناصر الرجعية قررت أن ترمي آخر ما في جعبتها من سهام وأن تقدم بتجربة أخيرة، ولاح لها أنه يمكن استرضاء إنجلترة ببعض إصلاحات تجرى في لمبارديه والروماني، ولا سيما لأنها كانت تميل إلى النمسة وتخشى مطامع فرنسة، وشجعهم على الإقدام ارتيابهم بإقدام فرنسة على مساعدة بيمونته؛ لأن الإمبراطور كان يتحاشى الاصطدام بروما، فضلا عن أن الانتقادات التي وجهتها إليه الصحافة المتطرفة في تورينو وجنوة قد أغاضته كثيرا.
ورأى الرجعيون أن سبيلهم للعمل هو تقوية مركزهم في الداخل وخوض غمار انتخابات تضمن فوز أكثرية لهم، وهذه الانتخابات تجرى قريبا في بيمونته فيستعدوا لها، وكانت هذه الخطة محكمة التدبير فالضرائب الباهظة كانت جمة يسهل استغلالها لإثارة الناس، وكانت إيالة صافويه نفسها لا تعطف على الآمال الإيطالية إلا قليلا، وكان الأشراف ورجال الدين ذوي نفوذ كبير فيها، أضف إلى ذلك أن الأحرار في بيمونته كانوا متفرقين يهاجم بعضهم البعض الآخر بدلا من التضامن في مقاومة العدو المشترك.
وقد تزعمت روما هذه الحركة واستعدت لها في الخفاء استعدادا عظيما شرع بالعمل بأن دوت في جميع الأنحاء صرخة: «الكنيسة في خطر»، وجرف التيار حتى أكثر الأساقفة وطنية، فآثروا الكنيسة على بلادهم وجرت الانتخابات في تشرين الثاني سنة 1857، ولم يبد الأحرار حتى النهاية أي تخوف ولم تأبه الحكومة للأمر ولم تستخدم نفوذها في الانتخابات كالمعتاد.
وتقدم في اللحظة الأخيرة مرشحون إكليريكيون في جميع الدوائر الانتخابية، فانتخبت صافويه وريفييرا وجنوة نفسها التي كانت إلى ذلك الحين معقل أقصى اليسار جماعة من الرجعيين، أما في بيمونته فقد خسر الأحرار بعض الكراسي في الدوائر الريفية، ولو لم يجمع الأحرار شملهم ويلموا شعثهم في الساعة الأخيرة؛ لكانت أكثرية المجلس النيابي الجديد من الإكليريكيين، ولكنهم بيقظتهم الأخيرة واتحادهم أديا إلى تغلب الأحرار على العناصر الرجعية على الرغم من كل المساعي التي بذلتها.
وكانت نتيجة المنافسة أن تلاشت جماعة اليسار وجماعة اليمين المعتدل وأن أصبح الحزبان الكبيران وحدهما وجها لوجه: الأحرار والرجعيون، ودل فوز واحد وأربعين من الأشراف بمقاعد في المجلس النيابي على ما بذله المحافظون من رجال المعارضة من المساعي، وعلى أن طبقة الأشراف أخذت تشترك في الحياة السياسية.
وبنتيجة الانتخابات صار كافور يستند إلى أكثرية متجانسة عاهدته على أن تسير وراءه حتى إن بروفيريو وفاليريو كفا عن انتقاداتهما حين أدركا الخطر، وطالبت الأكثرية - لأسباب مختلفة - باستقالة رتازي. ولما كان كافور ينقم على وزيره لنكثه بوعده في مساعدته على التفريق بين الملك وخليلته؛ فإنه استوصى مصلحة الدولة أكثر من واجب الصداقة ، ورجا رتازي أن يتخلى عن منصبه ففعل في وقار وعدم اكتراث.
الفصل الخامس والعشرون
بلومبير
1858-1859
لم تكد تنتهي الانتخابات حتى جابه كافور أزمة غير متوقعة، وتفصيل تلك الأزمة أن وطنيا إيطاليا اسمه «أورسني» كان مازيني يثق به ويعتمد عليه في مشاريعه الثورية، وقد أبعد عن بيمونته ووقع بيد الشرطة النمسوية فزجته في السجن، ثم استطاع أن يفر منه بأعجوبة أدهشت أوروبا كلها، ثم انفصل عن زعيمه مازيني فحنق المازنيون عليه حنقا حمله على أن يقدم على عمل جريء عظيم؛ بغية إسكات الذين بالغوا في انتقاده والتهجم عليه، فعقد النية على اغتيال الإمبراطور لويس نابليون؛ لأنه يعتبره المستبد الذي سحق الجمهورية في روما وباريس والذي اتخذ من نفسه أداة لمقاومة الثورة.
وكان يعتقد أن الإمبراطور قد تحالف مع النمسة لسحق إيطالية، واقتنع بأنه لن تنال إيطالية حريتها إلا إذا انسحب الإمبراطور من الميدان، وفي ذات مساء من شهر كانون الثاني 1858 بينما كان الإمبراطور وزوجته الإمبراطورة يستقلان المركبة نحو الأوبرا ألقيت عليهما ثلاثة قنابل فلم يصابا بأذى، وإنما أصابت القنابل مائة وخمسين رجلا من الجماهير المحتشدة بين قتيل وجريح، تلك هي حادثة أورسيني.
وقد أخذت جرائد باريس عقيب الحادث تصب لعناتها على إنجلترة التي حمت أورسيني، وعلى بيمونته التي أصبحت مخبئا للجناة وقاتلي الملوك، وطالبت الحكومة الفرنسية لندن وتورينو بأن تحد من نشاط اللاجئين وتسكت جرائدهم.
وقد تأزمت الحالة حينا وخشي الأحرار أن يؤدي الحادث إلى فقدان عطف الإمبراطور على إيطالية فأصبح موقف كافور صعبا، وقد حاول قبل حادثة أورسيني كثيرا تهدئة الإمبراطور فطارد المتآمرين من أهل جنوة بشدة وطرد اللاجئين بالمئات، إلا انه لم يشأ أن يهين كرامة بلده بالخضوع إلى رغبات الإمبراطور، فأخذ البعض من أنصار كافور المتحمسين من زملائه يتذمرون، وأبت عليه عزة نفسه وكرامة وطنه أن يذعن.
فلما أرسل الإمبراطور كتابا بخط يده يتوعد فيكتور عمانوئيل؛ أجابه الملك عملا بنصيحة كافور بأنه لا يرضى قط بالضغط عليه، واقتصرت التدابير التي اتخذها كافور على تعديل قانون المطبوعات بحيث صار يخول الحكومة معاقبة من يكتب، محبذا المؤامرة ضد الملوك الأجانب بناء على طلب الحكومة ذات الشأن.
وعلى الرغم من أن لائحة القانون كانت معتدلة فإن أعضاء اليسار لم يتحمسوا إليها، ولكن رتازي أيدها فأقرها المجلس بأكثرية ساحقة.
وما كاد الذعر في باريس يزول حتى أخذ الإمبراطور يعطف على القضية الإيطالية أكثر من قبل كأن حادثة أورسيني دفعته إلى ذلك بدلا من أن تزيد في غضبه؛ ذلك لأنه رغب في استمالة جانب بيمونته في حالة وقوع حرب مع إنجلترة، كما وإن أورسيني قبل إعدامه أرسل إلى الإمبراطور كتابين ناشده فيهما بالدم الإيطالي الذي يجري في عروق الإمبراطور، وأنذره بأن السلم في أوروبا لن يستقر وأن عرشه لن يتوطد ما لم تبلغ إيطالية أمانيها القومية، وكتب له يقول: «أنقذوا إيطالية؛ تنالوا تقديس خمسة وعشرين مليون إيطالي.»
وكان لهذه الاستغاثة تأثير عميق في نفس الإمبراطور، وبعد أن ضحى ببولونيه التي كان يعطف قبلا على آمالها رغبة في التقرب من روسية؛ اشتدت حماسته في تنفيذ الرغبة التي طالما تاقت نفسه إليها لإنقاذ إيطالية وهنغارية، وكان كافور قد جلب رضاء الإمبراطور بالوقوف إلى جانبه في خصومته ضد إنجلترة والنمسة في مسائل ثانوية أثارتها معاهدة باريس، وكان الأمير جيروم نابليون ابن عم الإمبراطور الذي يدير جماعة الأحرار وأعداء الإكليريكيين في بلاط الإمبراطور قد بذل كل نفوذه في وضع أساس حلف إفرنسي-إيطالي.
ودعا الإمبراطور كافور في 20 تموز إلى لقاء في قصر بلومبير خلسة؛ بغية عقد ميثاق نهائي لإنقاذ إيطالية، وأسفر الاجتماع عن توفيق لكافور؛ إذ وعده الإمبراطور بأن يهاجم في الوقت المناسب وأنه سيجهز لذلك مائتي ألف جندي على أن تجهز بيمونته نصف هذا العدد، وكان الإمبراطور قد توقع حياد روسية وإنجلترة في نزاع ينشب بين فرنسة والنمسة، ووعد أن يطلب إلى النمسة بأن تتخلى عن جميع ممتلكاتها في إيطالية، ولم يشأ الإمبراطور أن يمس أراضي البابا.
بيد أن كافور ألح على ذلك فتم التفاهم بينهما حول ضم أراضي الرسالة إلى بيمونته بالإضافة إلى لمبارديه وفنيسيه والدوقيتين ، ومن المحتمل ضم المارك أيضا وبذلك تتأسس في شمال إيطالية دولة ملكية يبلغ نفوسها أحد عشر مليونا، أما طوسكانه وأومبريه فتؤلفان دولة ملكية في وسط إيطالية قد تملكها الأميرة الوصية في بارمه، أما البابا فيحتفظ بروما والكماركة بحماية حامية إفرنسة ويترك فرديناند لرحمة رعيته.
وكان الإمبراطور يفضل بأن يرفض مورات عرش نابولي بعد الثورة التي لا بد من نشوبها في نابولي، ثم تؤلف هذه الدول الأربع الاتحاد الإيطالي، ثم جرى البحث حول مغنم الإمبراطور من هذه المساعدة واشترط الإمبراطور ما يلي:
أولا:
لا تستغل الحرب لتشجيع فكرة الثورة بل يجب أن تستند الثورة الإيطالية أو الحرب إلى أسباب سياسية تسوغها وتدل على مشروعيتها في بلاده وفي إنجلترة، فتقرر اتخاذ وطنية مقاطعة «ماساكراره» التي كانت في حالة عصيان مستمر ضد دوق مودينه حجة يسهل التذرع بها.
ثانيا:
أن تتزوج الأميرة كلوتيلدة بنت ابنة فكتور عمانوئيل من الأمير نابليون، وأخيرا وهنا الثمن الحقيقي التخلي عن إيالة صافويه ونيس لفرنسة، ثم لوح باستعداده لتأجيل البحث حول نيس ولكن أصر على أخذ صافويه لتمتد حدود فرنسة إلى جبال الألبة، وبذلك تنال فرنسة - على الأقل - حدودها الطبيعية في الجنوب الشرقي، ولا سيما لأنه يطمع أن تساعده هذه الحدود في المستقبل على توسيع أرض فرنسة إلى ضفاف الرين.
وظل الموقف - رغم النجاح الذي ناله كافور في بلومبير - صعبا والغاية بعيدة المنال، ولقد أظهر كافور جرأة فائقة في زج بلاده في مأزق لا يمكن الرجوع عنه، وأخذت بيمونته تتقدم نحو الحرب في سرعة وعزم، وما هي إلا أشهر قليلة حتى صار لا بد لبيمونته من أن تخوض غمار حرب فاصلة، هي حرب حياة أو ممات للمحافظة على شرفها وسمعتها، وإذا لم تقم فرنسة بمساعدتها فلا بد من أن تسحقها جيوش النمسة، وما لم تحارب القطعات الإفرنسية في جانبها فإن الشجاعة البيمونتية وحدها لن تخلصها من مخالب جارتها الجبارة على أن المساعدة الإفرنسية لما تضمن.
ولا شك في أن الإمبراطور كان صادقا في وعده لكن الصعوبات التي يلاقيها في تمهيد المجال كانت عظيمة، وحسبنا أن نذكر قدرة الحزب الإكليريكي على حشد قواه للحيلولة دون حرب تؤدي حتما إلى الهجوم على سلطة البابا الزمنية، وكان الإمبراطور لا يجرؤ على إغضاب هذا الحزب، ثم إن رجال المال في باريس كانوا يخشون الحرب وتأثيرها في السوق، ولم ينظر الأحرار بعين الرضا إلى سياسة من شأنها أن تقوي سمعة الإمبراطورية، وأن تزيد من نفوذ الإمبراطورية بحيث تقضي على الاستياء في الداخل. وكان وزراء نابليون يجهلون نبأ اجتماع بلومبير جهلا تاما، ولما اطلعوا عليه لم يكتموا الملك معارضتهم إياه.
هذه بعض العقبات في الداخل، أما في الخارج فكانت أشد منها في الداخل، وكان تذليلها أصعب منالا، فمنها أن الإمبراطور كان يعلم أن إنجلترة سوف تبذل كل جهدها للمحافظة على السلم مع أن الوزارة البروسية وقتئذ كانت حذرة من فيينا، إلا أن الرأي العام الجرماني الذي يعطف على فكرة الاتحاد الجرماني كان يعتبر لمبارديه وفنيسيه من أراضي الاتحاد المنشوي وأن «فيرونه ومانتويه» من المواضع الأمامية للوطن الجرماني، فهو - والحالة هذه - قد يضغط على حكومة برلين ليحملها على محالفة النمسة.
ثم إنه رغم أن صداقة فرنسة لروسية كبيرة، ورغم أن بروسية تغتبط لضياع لمبارديه من النمسة؛ فإنه كان من المشكوك فيه جدا بأن تقدم روسية المستبدة مساعدتها أو عطفها المثمر في حرب تستهدف فوز القضية الوطنية، ولم تكن العقبات التي تعترض كافور في سبيل خلق الفرصة أقل شأنا من تلك التي يلاقيها الإمبراطور.
وقد عزم كافور أولا: على أن يجبر النمسة إلى الحرب بإغضابها، ولما لم يوفق إلى ذلك أخذ يترقب سنوح فرصة قد تنجم عن تطورات القضية الشرقية أو عن تمرد يحدث في كراره، وظل مترددا في قضية دولة آل لورين في طوسكانه، هل يدبر الدسائس ضدهم بغية إلحاق طوسكانه ببيمونته في الوقت المناسب، أم عليه أن يصرف النظر عن ذلك لأن الدول الكبرى قد لا توافق على ذلك.
ثم إنه كان - في الوقت نفسه - ينظر بعين القلق إلى رغبة الإمبراطور لويس نابليون في تأسيس ملكية إيطالية الوسطى، ونصب أمير إفرنسي على عرشها؛ ولذلك فإن استبقاء آل لورين في عرشهم ضمان ضد تنفيذ رغبة الإمبراطور، وعليه تلقى مندوبه في فلورنسة تعليمات تقضي عليه بأن يبذل جهده في استمالة أمير طوسكانه إلى جانب الأحرار.
وبعد أن وثق كافور من معاضدة الإمبراطور إياه وجه اهتمامه لحل المشاكل الداخلية، التي لا تقل خطورة عن المشاكل الخارجية، إنه لم يكن يخشى شيئا من جانب بيمونته، وكان يعلم بأنها سوف تلبي نداء الملك وتقاوم العدو مهما كانت قوته، ولما عرض لائحة قرض جديد بأربعين مليونا من الليرات وافق المجلس عليها بأكثرية ساحقة، واقترح حزب اليسار بزعامة رتازي ضد اللائحة المذكورة، ولكن كافور أطلع رتازي على محادثات بلومبير فوعده بالمساعدة.
ثم دلت موافقة مجلس الأعيان على اللائحة على انحياز المحافظين الشيوخ إلى جانب القضية القومية، ولكن جهود بيمونته وحدها لا تكفي لظفر القضية الإيطالية، وإنما الواجب كان يقضي عليه بأن يمهد في إيطالية توافق تام في الآراء تتحطم أمامه كل معارضة سياسية ويكون من القوة بحيث تظفر فرنسة إلى الأخذ بيده وتشجع على ألا تقبل من حليفتها إلا مغنما شريفا.
وكانت الجمعية القومية قد سعت كثيرا إلى تنظيم هذا الاتفاق في الآراء، وأخذ كافور يسعى - من جانبه - لإكمال العمل الذي بدأت فيه الجمعية، وكانت سياسته في جر النمسة إلى الحرب تستند في مجموعها إلى التذرع بالحجة القائلة بأن لمبارديه وفنيسيه تكابدان اضطهادا لا يطاق، وأما إذا لم يستطع التذرع بهذه الحجة فإن الحرب تفقد سببها الأصلي.
ولم يكن للنمسة حليف سوى إنجلترة، أما فرنسة وروسية فأخذتا تضمران لها الخصومة أكثر من قبل، وأما بروسية فكانت تترقب بفارغ الصبر الفرصة التي تمكنها من استلام صولجان الزعامة في ألمانية فما على النمسة إذن سوى أن تظهر أمام العالم المتمدن بمظهر غير المستبد ولا سيما بعد أن اتهمها مؤتمر باريس بالاستبداد فرفعت الحجز عن الأملاك في نهاية 1856، ونصبت الأرشيدوق مكسمليان أخا الإمبراطور الصغير حاكما عاما على لمبارديه وفنيسيه لتهدئة الحال وإزالة الاستياء فيهما .
وكانت آراء مكسميليان السياسية مشبعة بالتسامح، ولو خير في الأمر لاختار إعطاء الدوقيتين إلى بيمونته وإنقاذ الروماني من الاضطهاد بضمها إلى الإمبراطورية وتأليف اتحاد إيطالي بزعامة البابا، ولكان منح لمبارديه وفنيسيه حكما ذاتيا واسع النطاق ومؤسسات تمثيلية وجيشا إيطاليا.
وكانت شمائله الشعبية وإسرافه في الإنفاق واعتماده على استشارته رجال البلد دائما، ورغبته الصادقة في مداواة أمراض الإيالتين والنشاط الذي بذله في هذا السبيل، ذلك كله جعل المعارضة تلقي سلاحها، والتف حوله بعض الأشراف المحافظين وبقايا الحزب المعارض لبيمونته، ذلك الحزب الذي أخلى الميدان بسرعة، وتخوف الأحرار وكافور من عواقب هذه السياسة التي يسلكها ماكسميليان وأن تؤدي إلى إقبال لمبارديه على التفاهم مع الأجنبي، ولم تكن مخاوفه في محلها لأن أهل لمبارديه وفنيسيه كابدوا من سوء الحكم القاسي منذ عشر سنوات ما يجعل التفاهم مستحيلا، وما جعل وداعة الميلانيين تنقلب إلى شراسة شديدة.
وقد صم الأحرار آذانهم عن سماع وعود مكسيميليان الخلابة، ولما رفضت الحكومة المركزية في النمسة مقترحات مكسيميليان انهار آخر أمل في التفاهم، وكان الحزب العسكري ما يزال مسيطرا على الأمور في فيينا.
وحدثت حادثتان جنونيتان قضتا على مساعي الأرشيدوق: أولاهما تخفيض قيمة العملة بتوحيدها في جميع أنحاء الإمبراطورية، وثانيها توسيع نطاق التجنيد بمنع المكلفين بالخدمة العسكرية من الزواج قبل الثالثة والعشرين من العمر، الأمر الذي أحدث تأثيرا سيئا في نفوس الناس وبث روح النفرة في نفوس القرويين.
وغدا كافور طليق اليد في تنفيذ خططه المتعلقة بباقي إيطالية، وتجنيد جميع عناصر الأمة وكفاياتها لاستخدامها في المعركة القادمة، وكان أنصاره المخلصون الذين يغتبطون بتأسيس مملكة قوية في شمال إيطالية؛ هم الأكثرية في بيمونته ولمبارديه وفنيسيه والدوقيات، ثم إن دعاة الوحدة الذين يؤلفون الجمعية القومية كانوا يزدادون يوما فيوما.
أما أنصار الحكم الذاتي، ولا سيما في طوسكانه ونابولي وهم القائمون باستغلال الدول الصغيرة والذين ينفرون من روح بيمونته العسكرية المحافظة؛ فكانوا مشتتين هنا وهناك. وأما الجمهوريون فقد أخذ عددهم يتضاءل ولكن صفوفهم لم تكن تخلو من العناصر ذات الرجولة القومية والحيوية .
ولكي يستميل كافور أنصار الحكم الذاتي إليه اجتنب كل سياسة رسمية تستهدف ضم إيطالية الوسطى والجنوبية إلى بيمونته، وسعى إلى استمالة الأمراء إلى القضية القومية بالقضاء على الشكوك التي ولدتها الحركة الإلبرتية سنة 1848.
وبموت مانين في خريف سنة 1857 أصبحت الجمعية القومية تحت سيطرة باللافيجيو وسكرتيره الغيور لافارينا، مع أنها لم تكن أداة بيد كافور، إلا أنها كانت تلبي أوامره في الأزمات، ولما كان موضوع الوحدة دون الاستقلال هو مثار الخلاف؛ فإن شعار الاستقلال حل محل الوحدة الإيطالية، وصدرت الأوامر بإيقاف أي جدل سياسي في نهاية الحرب الاستقلالية، وكانت الجمعية القومية قوية النفوذ في الإيالات النمسوية وفي الدوقيات، وبلغت الحماسة الوطنية والوعي القومي في لمبارديه حدا عظيما، حتى أصبح العمل للحيلولة دون الانفجار من مشاغل الجمعية الصعبة.
أما في الروماني فاتحدت التشكيلات القومية المختلفة بانضمام بعضها إلى البعض الآخر وانبثت لجانها في جميع أنحاء الإيالة، أما في صقلية فكان تفوق الجمعية على الجمهوريين مستمرا، بيد أنها لم تستطع أن تقوم باستعدادت فعلية في نابولي.
واستخدم كافور الجمعية القومية في جمع المتطوعين من جميع أطراف إيطالية، وهو لم يكن يعلق كبير أهمية على استخدام هؤلاء من الوجهة العسكرية، إنما كان يدرك خطورة إرسال أكبر عدد ممكن من هؤلاء إلى ساحة الوغى، وأثر ذلك في منع الإمبراطور من الحصول على جميع أكاليل الانتصار، ولإعطاء بيمونته أقوى صوت فعال في التنظيم الذي يلي الانتصار، فضلا عن أن حركة التطوع قد تدفع النمسة إلى إعلان الحرب، وسار كافور في خطته في إحداث الشغب في ماسة كراره لخلق ذريعة الحرب.
وقد أقر مشروع لافارينا في إعداد الثورة بإرسال غاريبالدي مع المتطوعين لمساعدة الثوار مؤقتا بأن الحركة المذكورة سوف تضطر النمسة إلى اتخاذ تدابير حاسمة، فاستدعى غاريبالدي إلى تورينو وكان يثق وقتئذ بكافور والملك ثقة عمياء، وعهد إليه بالأمر فقبل المهمة التي أنيطت به في شوق ولهفة ورجع مغتبطا بقرب نشوب المعركة.
وعلى الرغم من ذلك كان الكثير من الأحرار لا يزالون مترددين، ويرجح سبب ذلك إلى تقصير كافور في مساعيه السرية، ومع أن المقربين إليه كانوا يعلمون بأن الحرب سوف تنشب في الربيع القادم، إلا أن كافور لم يستطع إقناع الجماهير بنياته.
وكانت لمبارديه تترقب الحرب بفارغ الصبر، وفي المراسم التي جرت في أوائل سنة 1850 فاجأ الإمبراطور السفير النمسوي بقوله بأنه يأسف «لأن العلاقات بين الإمبراطوريتين لم تكن حسنة كما يجب أن تكون.» وكان من تأثير هذا القول أن اشتد التوتر بين فرنسة والنمسة وعدته أوروبا نذيرا بالحرب.
ومع أن كافور فزع لهذا التصرف المبتسر إلا أنه علم بأن مصير بيمونته أصبح في الميزان، فما عليها إلا أن تستغل ذلك التصريح الجريء بمناسبة افتتاح المجلس النيابي في 7 كانون الثاني، كتب كافور خطاب العرش وأشار فيه «إلى أن السنة الجديدة ليست صاحية، تمام الصحو.»
ولما اعترض زملاؤه على هذا القول واعتبروه شديد اللهجة، استشار الإمبراطور فصححه بما هو أشد لهجة؛ إذ أضاف إليه العبارة التالية بدلا من عبارة كافور: «ولا يسع الملك إلا أن يصغى إلى صرخات الاستغاثة الموجهة إليه من أكثر أبناء إيطالية.» ودلت الحماسة البالغة التي تجلت في المجلس وأروقته حين تلاوة ذلك الخطاب على أن تلك الكلمات الجريئة قد أصابت المرمى.
وهكذا اتضح للعالم أجمع بأن الإمبراطور عازم على الحرب في القريب، وكان جواب النمسة على الخطاب أنها أرسلت فيلقا إلى لمبارديه ورغم أن الإمبراطور كان يميل إلى تأجيل المخاصمات إلى أن تتم استعدادت جيشه وتصبح النمسة منعزلة تماما؛ فإنه لم ير بدا من أن يأمر سرا قواته المرابطة في ليون بأن تستعد لاجتياز الألبة، وسافر الأمير نابليون إلى تورينو لطلب يد الأميرة كلوتيلدة، وحين وصول هذا الأمير إلى تورينو عقد الحلف الهجومي بين فرنسة وبيمونته في 18 كانون الثاني، وقضت معاهدة التحالف على أن تنظم في حالة الانتصار إيالتا لمبارديه وفنيسيه والدوقيات والروماني.
وإذا أمكن ضم المارك أيضا إلى بيمونته وتضم فرنسة إلى أملاكها لقاء ذلك إيالة صافويه، أما مدينة نيسي فينظر في أمرها فيما بعد، ونصت الاتفاقية العسكرية التي عقدت في الوقت نفسه على أن تبدأ الحرب بين منتصف نيسان ونهاية تموز، وأن تقدم فرنسة مائتي ألف جندي.
وباغت الإمبراطور وزراءه في أوائل شباط بعزمه على إصدار بيان بشأن القضية الإيطالية، ثم صدر البيان في صورة رسالة بعنوان: «نابليون الثالث وإيطالية»، أوضح فيها الإمبراطور آراءه في القضية الإيطالية، أما النقاط الواردة فيه فتدور حول تطمين الشعور القومي الإيطالي، ونشل البابا من موقفه الحالي بتنفيذ خطة الاتحاد الإيطالي.
وأشارت الرسالة إلى أن الوحدة الإيطالية غير ممكنة، وأن نابولي وطوسكانه يجب أن تحتفظا بعرشيهما، وأن تقسم إيطالية إلى ثلاثة أقسام تقسيما يتم على حساب النمسة والبابا، ويقول البيان بأن روما يجب أن تصبح عاصمة الاتحاد على أن تترك المدينة للبابا مع إعادة إصلاح الحكومة ويكون لها جيش تجنده البلاد، ومن ثم تنسحب الحامية الإفرنسية، وأظهرت الرسالة بأن النمسة المانع الأصلي للإصلاحات في روما وأنها ضد كل مشروع اتحادي ونوهت بأن فرنسة إذا ما وقعت في الحرب ستحارب في سبيل روما «أم الأمم».
وكان نبأ حديث الإمبراطور للسفير النمسوي وخطاب العرش قد أضرم النار في إيطالية، فاشتدت الحماسة في نفوس أهلها وتضاعف نشاط جميع الوطنيين وانهارت جميع الشكوك التي كانت تساور النفوس في إخلاص كافور وترتاب في أي حلف أجنبي لا يثق بمساعدة الإمبراطور، وأدرك الناس أن خطاب الملك قيد الملك في خوض غمار حرب قريبة الوقوع، وكان من قوة تأثيره أن انحاز بقية الجمهوريين إلى جانب الحكومة البيمونتية.
ومع أن الجمعية القومية كانت قد أمالت قسما كبيرا من الجمهوريين إلى جانبها، فإن فئة قوية من الجمهوريين كانت لا تزال في جنوة تتردد بين غاريبالدي ومازيني، فعزم مديجي ونينومديكسو وبرتاني - وسيلعب هؤلاء الثلاثة دورا خطيرا في المعركة القادمة - على مساعدة حكومة بيمونته مساعدة فعالة، أما مدينة جنوة التي كانت لا تزال منقسمة بين الإكليريكيين والجمهوريين الذين عارضوا سياسة كافور، فقد انتهى بها الأمر إلى تأييد كافور والملك، أما مازيني فرفض بأن يؤيد سياسة التحالف مع فرنسة أو أية سياسة لا تستهدف الوحدة وظل في عزلته .
ودلت حماسة المتطوعين على قوة الشعور القومي الكامن في النفوس، وقد تفاهم كافور مع غاريبالدي على تنظيم قوة من المتطوعين إلا أن السنة مضت دون الحصول على نتيجة مجدية، وبدأت حركة التطوع بهروب المجندين اللمبارديين في شهر شباط، وكان لقانون التجنيد الجديد الذي استغلته الجمعية القومية تأثير نافذ في هذا الهروب وعلى الرغم من جميع التدابير التي اتخذتها السلطات النمسوية فإنها لم تستطع أن تحول دونه.
أما حكومة بيمونته فرحبت بالهاربين، ودلت بذلك على أنها مقدمة على الحرب، وامتدت حركة التطوع إلى الدول الأخرى وأصبح الذهاب إلى بيمونته محك الوطنية، وأخذ الفتيان مع جميع أنحاء إيطالية يجتازون حدود بيمونته بالمئات، وكانت الحكومات الإيطالية ترى ذلك ثم لا تنبس ببنت شفة، وكان هؤلاء المتطوعون يهرعون للتطوع آتين من مودينه وبارمه وطوسكانه والروماني وأرميريه والمارك، حتى إن كتيبة من كتائب البابا هربت بأجمعها، وكادت مناجم الحجارة في كراره تخلو من العمال، وكان المتطوعون في صقلية ونابولي يفرون بقوارب الصيد.
وقد بلغ عدد المتطوعين الذين انضموا إلى الجيش النظامي أو كتائب غاريبالدي قبل نشوب الحرب بين 20 و25 ألف متطوع، وقابل غاريبالدي الملك وأباح له أن يختار ضباطه، وأصبح نشيد غاريبالدي الذي وضعه «لويجي موكانتي» نشيد المارسليز في إيطالية.
وسعى القوميون المعتدلون وقتئذ لحمل الدوق الكبير على الانحياز إلى جانب القضية الوطنية، وكان الهدوء قد خيم على طوسكانه منذ ألغوا الدستور سنة 1852، ومن سنة 1855 أخلت بقية القوة النمسوية البلاد ولم تكن الحكومة على درجة من السوء بحيث يعم الاستياء في البلد وينجم عنه ثورة أو اضطراب، ولم يستطع الأحرار الذين فقدوا الثقة في أنفسهم أن يكتسبوا ثقة الجماهير.
على أن الناس أخذوا تدريجا ينشدون حياة حرة أكثر من قبل، ولا سيما بعد أن توغلت الجمعية القومية في البلاد وأسست فيها حزبا شعبيا قويا يدعو لبيمونته ويغتبط بمشاهدة فيكتور عمانوئيل ملكا على البلاد.
أما الأشراف الأحرار من أنصار الحكم الذاتي، فكانوا يرون أن الحيلولة دون الثورة تقضي بإقناع الدوق الكبير بالسير شوطا في ميدان القومية الحرة، ومن بين هؤلاء ريكاسولي، ولم يكن يثق بآل بوربون، ويعلم عن خبره بأنه من العبث أن يتوقع المرء إصلاحات من أمراء طوسكانه.
وكان يعتقد باستحالة بعث إيطالية إلا بطرد النمسويين، وعليه ينبغي أن توضع الثقة في بيمونته، وإذ اقتضى الأمر فعلى بيمونته أن تقود حرب ثورة شاملة في سبيل استقلال البلاد، ومع أن ريكاسولي - باتفاق مع الأشراف الآخرين - رفض العمل بنصيحة كافور للمطالبة بالدستور خشية إثارة الحزازات الهامدة بين القوميين؛ فإنه وافق على أن يسعى لإنقاذ الدوق الكبير باشتراكه في الحرب.
وكان البيان الذي صدر في 15 آذار بعنوان «طوسكانه والنمسة»، الذي تحمل ريكاسولي وأشراف مهمون آخرون تبعة نشره؛ يتضمن نقدا لاذعا ومعقولا ضد النفوذ النمسوي في طوسكانه، وجاء في البيان المذكور ما يلي:
لقد انتظرنا عشر سنوات حتى تكمل بيمونته مهمتها وتظهر للعالم بأن الإيطاليين يستحقون الحرية، أما الآن فينبغي لطوسكانه أن تقف بجانب بيمونته.
وكان كافور قبل شهر قد استطاع - بواسطة الجمعية القومية - إيجاد حركة سياسية في فلورنسة تدعو إلى عقد حلف عسكري مع تورينو وعرض مندوب كافور على ريكاسولي باسم بيمونته حماية عرش الدوق الكبير، إذا انضم هذا بصورة رسمية إلى بيمونته ووافق على إناطة حكومة طوسكانه بعهدة ريكاسولي في الحرب التي سوف تنشب.
وبينما كان الطوسكانيون ينضمون إلى الأحرار كان الهياج في الشمال يخف نوعا ما، بيد أن رائحة البارود في بيمونته أخذت تؤثر في نفوس أشد الناس كرها للحرب، واستمر جدل خفي بين حزب بيمونته القديم وبين أنصار الوحدة في الجمعية القومية، وكان كل من هؤلاء يشك فيما إذا كانت صافويه تصبح فريسة تضحي بها بيمونته، وكانت أجوبة كافور في المجلس النيابي في هذا الشأن لا تشفي غليلا، وأخذ البعض من أعضاء الوزارة نفسها يفكرون قلقين في الخطر العظيم الذي قد ينجم عن المعركة القادمة، ولكن الأكثرية أيدت - بسرور - سياسة الحرب؛ لأنها هي وحدها كفيلة ببلوغ القسم الأول من الآمال، وقد وافقت راضية على أن يتولى كافور تنفيذ تلك السياسة.
وإذا استثنينا رجال صافويه السياسيين ، فإن الجميع قد اتفقوا - بصورة عامة - على ترك الحزازات الحزبية، وقد عبر غاريبالدي عن الشعور العام بالعبارة التالية: «الكل يرغب في وجود دكتاتور للحركة، فلتزل الأحزاب وليكن كافور الكل في الكل.» هكذا نرى أن الأحرار قد فازوا في الداخل فوزا عظيما، ولكن الصعوبات الخارجية كانت ما تزال ماثلة، فالناس كانوا يظنون أن الحلف الإفرنسي قد تم في كانون الثاني، وها هم الآن في شهر آذار ولم تنجل آثاره، من أجل ذلك أخذ الشك يخامر النفوس في عزم الإمبراطور على الوفاء بوعوده.
والواقع أن الإمبراطور بعد أن هدأت أعصابه أخذ يتأمل في الأخطار التي قد تنجم عن خططه الجريئة، وعاد إلى تردده المعتاد وشغفه بالتسويف، ولا سيما لأن سياسة الحرب أهاجت جماعة من المعارضين له وأصبح محتملا أن يناوئوه، وأخذ الوزراء يقولون له الحرب تضر بالإمبراطورية حتى إن المجلس النيابي أعرب في شباط عن مخاوفه من تلك السياسة وأيقن الإمبراطور أن في مصير الحرب حياته ومماته؛ ولذلك فإنه لم يطمئن إلى أن مصير الحرب سيكون نصرا له وقبل أن يستعد جيشه استعدادا تاما.
ولم تكن القوانين الدولية تسيغ مهاجمة النمسة بحجة الدفاع عن المبادئ القومية، فقد يؤدي ذلك إلى ظفر خصمه بمساعدة أوروبا الأدبية وربما المادية أيضا، فلم يكن له مندوحة عن السعي لعقد حلف مع روسية يضمن له حيادا وديا، ويحمل روسية على حشد جيش على حدود غاليسية لتضطر النمسة إلى تقسيم قواتها ويهدد بروسية فيما إذا أرادت أن تساعد النمسة، وكان الإمبراطور يشترك مع اللاجئين الهنغاريين في حبك الدسائس باستمرار، ومما يجدر ذكره هنا أن لفرنسة في بلاد الجبل الأسود حينذاك نفوذ قوي بحيث يمكن أن تصبح قاعدة لإثارة السلاف على النمسويين.
ومع ذلك فإن الموانع كانت لا تزال عظيمة إذا ساعدت بوروسية النمسة، وإذا ظهرت إنجلترة بمظهر المنتظر، الأمر الذي قد يؤدي إلى الخصومة، وكانت الوزارة الجديدة البروسية تعارض في عقد أي حلف مع النمسة، وجاء في نشرة صدرت في برلين وقتئذ وتعزى إلى بسمارك ما يدل على عطف البروسيين على إيطالية، بيد أن بلاطات الدول الألمانية كانت خاضعة للنمسة وترغب كثيرا في إجبار الديت «مجلس الاتحاد»، على أن يتعصب للنمسة في النزاع باعتبار أن القضية تخص ألمانية بأجمعها.
ولا ننكر هنا أن الرأي العام في ألمانية كان ساخطا على الصحافة الإفرنسية وتهجمها المستمر، ومع ذلك لو استطاع نابليون أن يضمن عطف إنجلترة لاضطرت الوزارة البروسية إلى البقاء على الحياد، ولكن وزارة دربي لم تشاطر الشعب البريطاني عطفه على إيطالية إلا قليلا، وكانت تهدد كل من يخل بالسلم، وكان مالسيوري وزير خارجية إنجلترة يجهل السياسة الإيطالية كل الجهل، ولا يكترث مطلقا للآمال القومية الإيطالية؛ لذلك أخذ يسعى لإصلاح البين بين فرنسة والنمسة وكانت سياسته ترمي إلى إزالة جميع الحجج التي تسوغ نشوب الحرب، وكانت الحجج المذكورة في نظره أربعة: (1) الاحتلال الأجنبي لدويلات الباب. (2) الاستبداد المخيم على البلاد. (3) توتر العلاقات بين بيمونته والنمسة. (4) معاهدات سنة 1847 التي عهدت للنمسة بقمع كل حركة في الدوقيات. فإذا ما استطاعت إنجلترة بتوسط ودي أن تتلافى هذه الأسباب أصبح اجتناب الحرب ممكنا، وقد وافق الإمبراطور على المنهج الإنجليزي بتحفظ، أما النمسة فظهر أنها مستعدة للتساهل وأرسلت إنجلترة اللورد «كوله ي» إلى فيينا بمهمة خاصة، ولكن الإمبراطور ظل على تردده المعهود، وأخذ هو وكافور ينكران المرة تلو المرة أي تصميم على مهاجمة النمسة.
ثم مال الإمبراطور إلى الاقتناع بتأجيل المخاصمات إلى أجل غير مسمى، وازداد تهديد ألمانية وأخذ وزراء نابليون الذين كانوا يجهلون معاهدة 18 كانون الثاني يبذلون جهدهم لمسك الإمبراطور، وفي 5 آذار ظهر مقال في جريدة المونيور يؤكد بأن الإمبراطور غير ملزم بمساعدة بيمونته ما لم تهاجم، ولما اطلع فيكتور عمانوئيل على المقال المذكور، أرسل إلى الإمبراطور كتابا يهدد فيه باعتزال عرشه إذا تخلى الإمبراطور عنه.
ولما رأى الإمبراطور أن الأمور سوف تنعقد في تورينو؛ أرسل إلى فيكتور عمانوئيل رسالة مطمئنة، ورأى أخيرا أن أحسن وسيلة للتخلف من تعهداته لبيمونته أن يحيل الأمر على مؤتمر دولي، وربما كان يتوقع أن يحمله ضغط الدول المنظمة على التخلص من تعهداته، وأما إذا كانت الحرب لا مناص منها فإنه يكون قد كسب الوقت لمقاتلة النمسة وهو على استعداد حسن، وبإيعاز منه طلبت روسية عقد المؤتمر في 18 آذار فوافق مالسيوري على ذلك وحذت بروسية حذوه، أما النمسة فوافقت بتحفظ زائد طالبة أن تسرح بيمونته قواتها والمتطوعين قبل انعقاد المؤتمر.
وحاولت إنجلترة الضغط على بيمونته لحملها على الموافقة وقالت إنها تتعهد بالاشتراك مع فرنسة الوقوف في وجه أي هجوم نمسوي عليها ولكن كافور رفض الموافقة على تسريح القوات، ووعد بألا يهاجم النمسة إذا كفت في المستقبل عن أي تجاوز، بيد أنه كان يشعر بخطورة ما قد يولده عدم الاعتراف بالمؤتمر من استقرار أوروبا كلها، ومع ذلك فإنه اقتنع بأن تفاهم الدول الخمس في المؤتمر المذكور سيؤدي إلى القضاء على آماله ولن تبقى لديه أية وسيلة يتخذها لحمل النمسة على إعلان الحرب، وعليه فإن بيمونته تصبح منعزلة وعاجزة.
ثم خيل إليه أن المؤتمر إنما هو إدارة اتخذها الإمبراطور للتعمية واكتساب الوقت؛ فرأى أن يشاطر الإمبراطور الخداع، ولكنه ظل يتردد بين الشك واليقين وينذر ويتوعد الإمبراطور بأنه سيضع البارود في النار إذا نكث الإمبراطور بوعده، وقد استدعى الإمبراطور كافور إليه وأخذ يسعى لتهدئته، وربما حاول بكل جهده أن يحمل كافور على الموافقة على تصريح الجنود.
والمعروف أن كافور هدد الإمبراطور بتنزل الملك عن عرشه وذهابه إلى أمريكا الجنوبية ونشر كتب الإمبراطور وتفاصيل محادثات بلومبير، وقد أحس الإمبراطور أنه أصبح في قبضة هذا الرجل، وأن في طوق كافور أن يثير سخط أوروبا عليه فبذل جهده لمراضاته، وذهب كافور إلى تورينو واثقا بأن الحرب واقعة لا محالة منها، وأن النمسة لم توافق بادئ بدء على عقد المؤتمر إلا مرغمة؛ إذ كانت ترتاب من النية التي دفعت إلى عقد المؤتمر وأنه لا يقصد منه سوى إعطاء الوقت اللازم لفرنسة حتى تتهيأ جيوشها.
وكانت الأمور جميعها في النمسة تتجه نحو إحباط سياسة السلم ووضع مقاليد الأمور بيد أنصار الحرب، ولا سيما بعد أن شجعت إنجلترة بواسطة مندوبها كوله ي النمسة بأن وعدتها بمساعدتها إذا تحرجت الأمور، أما في ألمانية فهناك أسباب وجيهة تنبئ بأن الهياج فيها سيضطر بروسية والدول الصغيرة إلى عقد اتفاق مع النمسة، وكان الإمبراطور فرنسو جوزيف والحزب العسكري في النمسة يرغبان أشد الرغبة في معاقبة بيمونته البغيضة ويظنان أنهما يستطيعان سحقها قبل وصول النجدات الإفرنسية إليه.
ومع أن رئيس الوزراء النمسوي وعد رسميا بأن لا يهاجم بيمونته إلا أنه أصبح في موقف لا يستطيع معه أن يفي بوعده، وظلت النمسة مصرة على المطالبة بتسريح الجنود في بيمونته ورفضت اشتراك مندوبي بيمونته في المؤتمر، فسنحت بذلك لكافور الفرصة؛ إذ رفض تسريح الجنود أو الاشتراك في المؤتمر ما لم يكن في وضع الند للند بالنسبة إلى الدول الأخرى، وأدرك مالسيوري أن هذا الرفض ضربة قاضية على المشروع، ثم قدم اقتراحا أصر عليه باعتباره آخر تدبير ممكن لتسوية الأمور، وهذا الاقتراح كانت فرنسة اقترحته قبلا وهو يقضي بتخفيض عدد الجيوش الثلاثة «الإفرنسي، والنمسوي، والبيمونتي» إلى الملاك السلمي، فتظاهرت فرنسة بقبول الاقتراح وطلبت من بيمونته رسميا الموافقة عليه، بيد أن كافور - وفقا لتحريض الإمبراطور الخفي - أخذ يماطل ويقدم طلبات يعلم بأنها لا تقبل بسهولة، وفي الموعد الذي طالب مالسيوري فيه بتسريح عام دعت النمسة جنود الاحتياط إلى النمسة رغم أنها وافقت على التسريح.
وفي 9 نيسان عزمت الحكومة النمسوية على إرسال إنذار إلى بيمونته تطلب إليها فيه تخفيض جيشها إلى ملاك السلم وتسريح المتطوعين وإلا فهي تعلن الحرب عليها، وخشي الإمبراطور لويس نابليون أن يسحق الجيش النمسوي قبل وصول قواته إلى إيطالية ومخافة أن تسبق النمسة الحوادث؛ فأرسل إلى تورينو برقية يطلب فيها إلى الحكومة تخفيض الجيش، واستلم كافور هذه البرقية ليلة 18 نيسان فأضاع رشده وقال إنه سوف ينتحر، ثم أجاب - والحزن يملأ قلبه - أن بيمونته سوف تخضع لمشيئة أوروبا ولكن ما أسرع ما انقلب حزنه إلى فرح؛ لأن النمسة قبل أن تعلم بموافقة بيمونته على تسريح جيشها أرسلت الإنذار.
ووصل حامل كتاب رئيس الوزراء النمسوية إلى تورينو يطلب فيه إلى بيمونته أن تسرح جيشها بعد ثلاثة أيام وينذرها بالزحف العاجل إذا هي رفضت، وهكذا في الوقت الحرج الذي كاد كافور فيه أن يخفق إخفاقا كليا؛ انفرجت أزمته وأصبح سيد الموقف بفضل خطأ خصمه المشئوم.
بهذا الإنذار ظهرت النمسة بمظهر المعتدية ثم إنها أصبحت البادئة بالخصومة، ولقد قطعت النمسة علاقاتها السياسية ببيمونته وتأكد كافور بأن فرنسة سوف تمد يد المساعدة إليه وأن عدوه فقد عطف أوروبا السياسي، أما نابليون فقد أعلن الحرب على النمسة رسميا في 29 نيسان 1589.
الفصل السادس والعشرون
حرب سنة 1859
نيسان-تموز 1859
لقد كان الإنذار الذي وجهته النمسة إلى بيمونته خطأ سياسيا؛ إذ أغضب أصدقاءها وجعلها منعزلة ومتهمة من قبل الرأي العام الأوروبي، وقد انقلب العطف الإنجليزي إلى غضب، وبذلت كل من الوزارتين الإنجليزية في لندن والروسية في بطرسبرج نفوذهما للحيلولة دون انضمام البلاطات الألمانية الصغيرة إلى النمسة، أما بروسية فقد سخطت على عمل النمسة الأهوج وصممت - بعزم - على أن لا تنجرف إلى الحرب خلافا لرغبتها، وعقدت النية على أن لا تعير أهمية إلى أي قرار يتخذه مجلس الاتحاد يتعلق بإعلان الحرب.
ثم ما كاد الخبر يصل إلى باريس حتى تفجرت الحماسة الشعبية التي شملت فرنسة بأجمعها ما عدا الحزب الإكليريكي انتصارا للقضية النبيلة التي احتضنتها، أما في بيمونته فتنفس الناس الصعداء لانتهاء الأزمة على هذا الشكل بعد أن توترت مدة طويلة، وقد عين مجلس الأمة الملك دكتاتورا طول مدة الحرب ثم عطل جلساته، وأخذ معظم الأشراف الذين يمقتون السياسة القومية يقدمون أولادهم للدفاع عن شرف بيمونته، ووقف كافور في المجلس النيابي خطيبا قبيل حله يقول:
إن هذا المجلس هو آخر مجلس بيمونتي، أما المجلس القادم فسيكون مجلس المملكة الإيطالية.
وهكذا نزلت الأمة إلى ساحة الوغى بعزم وثبات، وكان الناس يدركون خطورة العمل الذي أقدمت الحكومة عليه، والذي مصيره إما إلى انكسار يؤدي إلى أن يحتل العدو تورينو وفي هذا القضاء على الحرية والاستقلال، وإما إلى انتصار وهذا يتطلب تضحيات جسيمة وآلاما لا حد لها، فلم يكن بد للأمة من أن توطد القدم على اجتناب أي شيء يخل بالثقة والاعتماد على الملك والحكومة التي هيأت لإيطالية مثل هذه الفرصة السعيدة.
بدأت الحرب في 26 نيسان، وشرعت القوات النمسوية بعد ثلاثة أيام باجتياز نهر تسينا في سرعة استهدفت فيها سحق الجيش البيمونتي قبل وصول النجدات الإفرنسية، مع أن وزير الحربية البيمونتي قد استعد منذ سنوات لدرء هذا الخطر فأسس معسكرا حصينا في مثلث «ألكسندرية، فاليزه، وكساله»؛ حيث احتشد ستون ألف جندي من الجيش البيمونتي، وكانت قوة النمسويين تبلغ مائة وستين ألفا، فلو كان على رأسها قائد ماهر نشيط؛ لسحق الجيش البيمونتي قبل مجيء القوات الإفرنسية ودخل تورينو، ولكن القائد النمسوي أضاع وقته في حركات ثانوية ثم تقدم نحو تورينو، فوصلت مقدمته في 8 أيار إلى بضعة فراسخ من العاصمة، فاستعدت تورينو لدفاع مستميت اضطلع به حرسها القومي وثمانية آلاف من الإفرنسيين الذين قدموا نجدة إليها، وحمل الأهلون في الأرياف السلاح ونزل غاريبالدي ومتطوعته إلى الميدان، وبعد ثلاثة أسابيع من الشروع في الحركات تقدم الجيش الإفرنسي والبيمونتي نحو المواضع التي احتلتها القوات النمسوية، وفي 30 أيار هاجمت القوات البيمونتية مواضع النمسويين وراء نهر «سيسيه»، واستولت عليها قبل وصول القوات الإفرنسية إليها، وكان الملك فيكتور عمانوئيل يقود الهجوم بنفسه.
وبعد أن حارب غاريبالدي في أطراف البحيرات توجه نحو لمبارديه على رأس المتطوعين البالغ عددهم خمسة آلاف، وكانوا خليطا من جميع الطبقات منهم أشراف ومنهم فنانون وطلاب وأطباء وعمال، وكلهم تركوا مساكنهم وضحوا براحتهم في سبيل الحرية.
وتوغل غاريبالدي في بلاد العدو في جرأة؛ لتشجيع اللمبارديين على الثورة بعيدا عن ساحة الحركات، ومعتمدا على صداقة الأهلين، وقد تغلب بثلاثة آلاف جندي على عدد يفوقه بثلاثة أمثاله، وكانت إيطالية تتلقى أخبار انتصارات غاريبالدي بفرح لا حد له، وفي أوائل شهر حزيران تغلب الجيشان الإفرنسي والبيمونتي على الجيش النمسوي في معركة «ماجنتا»، واضطراه إلى الانسحاب إلى القلاع الأربع فافتتح بذلك طريق ميلانو أمام البيمونتيين والإفرنسيين.
وما كاد خبر الانتصار يصل إلى ميلانو حتى أعلن المجلس البلدي اتحاد لمبارديه ببيمونته، ودخل الإمبراطور والملك في 8 حزيران ميلانو باحتفال مهيب واستقبلها الأهلون بحماسة بلغت حد الجنون، وقد أثر هذا الاستقبال في نفس الإمبراطور تأثيرا حسنا، حتى قال في بلاغ له ما يلي: «إنما يحارب جيشي أعداءكم ويحافظ على الأمن في بلادكم، ولن يكون عثرة في سبيل إظهار رغباتكم المشروعة بحرية.» وكانت ماسة كرارة قد ثارت في بدء الحرب وطردت طوسكانه أميرها وأعلنت ولاءها للملك، وأعلن فيكتور عمانوئيل انضمام لمبارديه إلى بيمونته وهرب دوقا مودينه وبارمه مع حاميتهما النمسويتين، فجددت الدولتان المذكورتان معاهدة الانضمام سنة 1848 في 13 حزيران، وتركت الحامية النمسوية بولونيه من 11 حزيران، وفي خلال أسبوع امتد لهيب الثورة إلى الروماني والمارك وإلى قسم من أومبرية، ومع أن قوات البابا استطاعت أن تسيطر على الموقف في القطرين الأخيرين إلا أن الروماني نادت بفكتور عمانوئيل دكتاتورا عليها.
وفي 18 حزيران وقف الجيش النمسوي وراء مينجيو، وتولى الإمبراطور فرنسوا جوزيف قيادة الجيش الاسمية بعد أن عزل القائد السابق، وزحف الجيشان الإفرنسي والبيمونتي يتقدمهما غاريبالدي بمتطوعته وفيلق جيالديني البيمونتي، وفي 24 حزيران نشبت المعركة بهجوم الإفرنسيين والبيمونتيين على مواضع النمسويين في «صولفرينو وسان مارتينو»، وبعد قتال استمر من الصباح إلى ساعة متأخرة من المساء تغلب الحليفان على عدوهما فكانت خسارة الإفرنسيين في هذه المعركة الدامية اثني عشر ألفا بين قتيل وجريح، أما خسارة البيمونتيين فكانت أعظم من خسارة الإفرنسيين إذا قيست بنسبة عدد الجيشين.
وكانت معركة صولفرينو بشيرا بسرعة انتهاء الحرب، ويتلخص الموقف الحربي بما يلي: كان الجيش النمسوي يستطيع المقاومة في القلاع الأربع مدة طويلة، ولكن عدوه إذا استطاع أن يضبط البندقية من البحر، وإذا ما انتصر الحليفان عليه وراء بيجيو أصبحت طريق العاصمة فينا مفتوحة أمامهما وبذلك يتم تحرير إيطالية، وقد يؤدي انتصارهما إلى انفصال هنغارية عن النمسة وانهيار النفوذ النمسوي في ألمانيا كلها، هذا بالنسبة إلى النمسة، أما بالنسبة إلى فرنسة فإن الحرب قد دلت الإمبراطور لويس نابليون على عجز قادته في القيادة، وجعلته يشك في مقدرته العسكرية ولا سيما لأن النمسة رغم ارتباك ماليتها وخزائنها الخاوية، ورغم تأهب الهنغاريين والسلاف للثورة عليها؛ فلا تزال تسيطر على مصادر عسكرية جسيمة؛ إذ لها في إيالة فنيسيه مائة وخمسون ألفا من الجنود، ومائة ألف آخر بين تريستة وفينا، فإذا انتهت المعركة القادمة على غير ما انتهت إليه سابقتها فإن الإمبراطور يقع في مأزق لا مخرج له منه ويفقد بذلك السمعة التي كسبها من أجل ذلك، ففترت حماسته لإيطالية فتورا عظيما، وأخذ يتذمر - بمرارة وعلى غير حق - من عجز الإيالات المحررة من تجهيز قوات مدربة إلى ميدان القتال، وزعم أن التقارير «وكانت كاذبة.» تخبره بأن القرويين وراء منيجيو أعداء للحركة.
ومن عوامل فتوره حنقه على الحوادث التي كانت تجري في إيطالية الوسطى، وكانت لا تتهدد مشروعه الاتحادي فحسب بل تجره إلى نزاع مع الحزب الإكليريكي الإفرنسي، وهو غير راغب فيه، ثم إن الرأي العام في طوسكانه والروماني قد أعرب - بعزم - عن رغبته في الانضمام إلى بيمونته، وكان مؤكدا أن تحذو أومبريه والمارك حذوهما حالما تسنح أقل فرصة إلى ذلك.
إن الإمبراطور كان يعلم بأن كافور يسعى بكل قوته إلى توحيد إيطالية الشمالية وإيطالية الوسطى بإدماجها في مملكة ضخمة، فإذا ما خرج الطليان من هذه الحرب منتصرين الانتصار كله أصبحت السيطرة عليهم عسيرة، وفضلا عن ذلك أنه أتى إلى إيطالية معلنا بأنه لن يقدم على الإخلال بسلطة البابا، ومع أن ميثاق بلومبير كان يقضي بمساعدة بيمونته في الاستيلاء على الروماني، فإن خشية جانب الإكليريكيين جعلته يرغب أحيانا في التنصل من وعده، ولقد قرر أخيرا أن يترك الروماني تختار المصير الذي ترضاه، كما اعتزم أن يترك أومبريه والمارك للبابا، وأن يحول دون انضمام طوسكانه إلى بيمونته.
وهناك عامل خطير هو الذي جعل الإمبراطور يغير خططه ويميل إلى سياسة السلم، ذلك هو موقف ألمانيا، لقد شجعه موقف بروسية - بادئ الأمر - على المضي في طريقه، ولا سيما بعد أن بلغت حكومة برلين روسية نصيحة مشفوعة بتهديد بأن لا تتحرك، فضلا عن أنها كانت تعلم أن انكسار النمسة من شأنه أن يفسح لها مجال الزعامة في ألمانية، وإذا انتصرت فرنسة فإنها ستهاجم بروسية عاجلا أو آجلا.
وحنق الرأي العام في ألمانية على بروسية واتهمها بالخيانة الوطنية في وقوفها موقف المتفرج في حرب يقهر فيها العدو الإرثي العريق لألمانية دولة ألمانية، فقررت الحكومة البروسية مخاصمة ذات وجهين تجاه المخاصمين، فأعلنت النفير بعد معركة ماجنتا، وعرضت على النمسة وساطتها المسلحة إذا هي تخلت لبروسية عن رئاسة الاتحاد الألماني، وفسخت المعاهدة المعقودة مع الدوقيات الإيطالية؛ إرضاء للرأي العام الأوروبي، وأعقبت ذلك بدعوة أربع فيالق من جيش الاتحاد للسلاح في 24 حزيران وطلبت إلى روسية وإنجلترة أن تتفقا وإياها، وبدأت روسية ترتاب من الحركات في إيطالية وأخذت تخشى سريان عدوى الثورة في هنغارية إلى بلاد بولونيه؛ لذلك رضيت بأن تشترك في الوساطة السلمية، ومع أن الوزارة البروسية والت مساعيها السلمية فإنها عادت بعد معركة صولفرينو فأخبرت النمسة بوضوح بأن لا تتوقع مساعدة ألمانية مسلحة، وحشدت في الوقت نفسه قواتها على نهر الرين الأمر الذي أفزع الإمبراطور؛ إذ أدرك بأنه إذا رفض التوسط فقد تجتاز الجيوش البروسية حدود فرنسة غير المحمية.
ومن كل ما مر معنا يظهر أن جميع الأحوال كانت تحث الإمبراطور على الرغبة في إنهاء الحرب، إلا أنه لم يكن يريد أن تكون بروسية هي البادية؛ فلذلك أبرق إلى سفيره في لندن بعد معركة صولفرينو ببضعة أيام، يطلب إليه أن يجس نبض الحكومة الإنكليزية فيما إذا كانت ترغب في هدنة تكون أساسا للسلم وتقضي بترك لمبارديه وبارمه لبيمونته، وإدارة الروماني من قبل فكتور عمانوئيل على أن يبقى تحت سيادة البابا، وتؤلف فنيسيه ومودينه دولة مستقلة يحكمها أرشيدوق نمساوي وتعاد طوسكانه لحكم الدوق الكبير، ثم تؤلف جميع الدول الإيطالية اتحادا برئاسة البابا.
وكانت وزارة دربي قد سقطت وخلفتها وزارة بالمرستون وتولى اللورد رسل وزارة الخارجية فيها، وكان بالمرستون يستهدف في سياسته إيجاد مملكة إيطالية قوية تستطيع مقاومة النمسة وفرنسة معا. وحدث أن تحادث السفير الإفرنسي مع رسل وزير الخارجية حديثا أخطأ السفير في فهمه ، وأرسل إلى الإمبراطور يخبره بأن إنجلترة توافق على التوسط بموجب الشروط التي اقترحها.
وقبل أن يصل جواب السفير إليه ارتأى الإمبراطور أن يفاتح إمبراطور النمسة، وأخذ في الوقت نفسه يتأهب للقتال فيما إذا رفض تكليفه السخي، ثم اجتمع بكوسوت الوطني الهنغاري ووعده بإيفاد قوة عسكرية إلى هنغارية فيما إذا استمرت الحرب، وفي 9 تموز جاء رسول نابليون يكلف فرنسوا جوزيف بالهدنة في الوقت الذي أدرك أنه لا يستطيع إنقاذ فنيسيه وأن بروسية خذلته، وعلى إثر ذلك اجتمع الإمبراطوران في فيلافرنكة، وكان نابليون الثالث في موقف يستطيع فيه أن يملي شروطه على عدوه، وجرت المفاوضات بين الاثنين ورفض فرنسوا جوزيف تكليف نابليون بتشكيل مملكة مستقلة يحكمها الأرشيدوق ماكسمليان، وعرض على نابليون أن يترك له لمبارديه شريطة أن يسلمها هو إلى بيمونته، ورغم موافقته أن تنضم إيالة فنيسيه إلى الاتحاد الإيطالي إلا أنه فضل الاستمرار على الحرب على ترك هذه الإيالة والقلاع الأربع، وتم الاتفاق على أن تعطى دوقية بارمه إلى بيمونته، بيد أنه نص في شروط الهدنة على أن ترجع مودينه وطوسكانه إلى أميريهما، وكذلك تعود الروماني إلى البابا وتعهد الإمبراطور بأن يساعد على تأسيس الاتحاد الإيطالي برياسة البابا.
وكان وقع خبر الهدنة على الطليان كصاعقة في جو ملبد بالغيوم، وقد عقدت دون أن يطلع عليها أحد حتى الملك فيكتور عمانوئيل نفسه لم يعلم بها، ولما اطلع على هذه الخيانة قال حانقا: إنه سوف يستأنف القتال وحده، إلا أنه أدرك عجزه ذلك ورضي بالتوقيع على المعاهدة المخزية، أما كافور فامتنع الخضوع للأمر الواقع وسارع حين اطلع على الخبر المشئوم إلى المعسكر، فضغط على الملك وأعاد الضغط عليه لكيلا لا يقبل الشروط، ولما رفض الملك تكليفه وجه إليه كلاما لاذعا، خرج فيه عن حدود الاحترام.
الفصل السابع والعشرون
بعد فيلافرنكة
تموز-أيلول 1859
أثارت أخبار فيلافرنكة استياء عاما في إيطالية، فكأن الحرب قد نشبت للاشيء، وكأنما ذهبت جميع الأموال التي أنفقت والنفوس التي أزهقت والجنود التي بذلت سدى، ولم تكسب بيمونته من كل هذا الغرم إلا لمبارديه فقط، أما فنيسيه وطوسكانه والروماني فلم تكد تتنفس الصعداء بضعة أسابيع حتى رأت جميع آمالها تنهار؛ إذ خانها حليفها وتآمرت أوروبا كلها ما عدا إنجلترة ضدها، وأخذ الطليان يجهرون بسخطهم على الإمبراطور الذي وهن عزمه في الساعة الحاسمة، وقد استقبلته ميلانو وتورينو حين عودته بإعراض وصمت بليغين وهما اللتان استقبلتاه منذ أسابيع بحماسة فائقة، وعلقت صور أورسيني في أوجه الدكاكين، وقد شاع أن الملك أخبر الإمبراطور بأنه لن يوقع على المعاهدة.
أما كافور فقدم استقالته، وقال لكوسوت ذات مرة: «لقد أهانني الإمبراطور أمام ملكي ... لن يتم الصلح ... وإذا اقتضى الأمر فسأصافح ديللا مرجريتا بيد ومازيني باليد الأخرى وسأغدو ثوريا متآمرا.» ولما أفاق الطليان من ذهولهم وجدوا في نفوسهم من القوة ما يستطيعون بها المقاومة، فكاد الشعب بأجمعه يتآمر لإحباط مشاريع الملوك العظام والعمل في سبيل سلامته وحريته واستقلاله.
وهنا يجدر بنا أن نسجل ما حدث في أقطار إيطالية في هذه الفترة ونبدأ بطوسكانه فنقول: لقد كان الدوق الكبير قبل الحرب مصرا على التمسك بسياسة الحياد، فرفض تلبية طلب النمسة بإرسال كتيبة إليها، وقد طلب إليه مندوب كافور بون كومباني الدخول في الحلف وأرادت حكومتا فرنسة وبيمونته إغراءه على قبول هذا الطلب بالإعراب عن استعدادهما لحماية عرشه، وكان بعض الأشراف في طوسكانه لا يزالون يقولون بوجود حكم ذاتي في طوسكانه، ويرغبون في إنقاذ آل لورين ويرون أن تحقيق ذلك يكون بتحالف الدوق مع بيمونته.
ثم إن الدومقراطيين أنفسهم كانوا على استعداد للتساهل فيما إذا وافق الدوق الكبير على شروط كافور، بيد أن لئوبولد بقي متصلبا في رأيه ولم يكترث لنصائح الأشراف المخلصين ولم يلتفت إلى إرشادات وزرائه ولم يقم وزنا لنفور جيشه منه، وقد جعل رفضه الحلف الثورة أمرا لا مناص منه، فاتفق الحزبان القوميان ضده وقرر تأليف حكومة تكون حليفة لبيمونته.
وبلغ من تضامن الأحزاب في هذا الشأن أن أنصار مازيني بأن يتولى الأشراف الأحرار قيادة الحركة، وقد اضطرهم عناد الدوق الكبير إلى أن يبدءوا بالعمل توا ، وأخذ الشعب والجيش يهددان بالثورة وصمم الأشراف - بتحريض من كافور - على القيام بمظاهرة تجبر الدوق الكبير على اختيار أحد الحالتين: «الحلف مع بيمونته أو التنزل عن العرش مؤقتا.»
وفي صباح 27 نيسان تأكد الدوق الكبير من خيانة الجنود بمطالباتهم إياه السماح لهم برفع العلم المثلث الألوان، ولما حاول ابنه تحريض المدفعية الموجودة في القصر على التأهب لقصف المدينة أجابه الضباط بالرفض البات، فما كان من الدوق الكبير إلا أن أنكر موقفه السابق، وعرض على المتظاهرين منح الدستور وعقد الحلف مع بيمونته، ولكن المتظاهرين رفضوا الموافقة على هذا المنح وطلبوا إليه التنازل عن العرش فاضطر في مساء ذلك اليوم إلى الهرب من فلورنسة.
وحذت مدن طوسكانه الأخرى حذو فلورنسة فأرسلت 217 ناحية من 246 ناحية موافقتها العاجلة على ما تم، وتأسست على إثر ذلك حكومة وقتية نادت بكافور عمانوئيل دكتاتورا عسكريا طول مدة الحرب، وقد خشي كافور أن يمانع نابليون في ذلك؛ لأنه كان ينوي أن ينصب أميرا إفرنسيا على عرش مملكة إيطالية الوسطى إذا استطاع أن يقوم بذلك من دون أن يجلب سخط أوروبا.
ولكي يحول الإمبراطور دون أي حركة جمهورية أرسل فيلقه الخامس إلى طوسكانه تحت إمرة الأمير نابليون؛ ليمهد سبيل ارتقائه العرش، ولكن كافور توفق إلى إقناع الإمبراطور بالتخلي عن نيته بشأن عرش طوسكانه، ولكن الإمبراطور لم يكن جادا في هذا التخلي، وإنما أدرك أن مشروعه يثير شكوك أوروبا نحوه.
أما الأمير نابليون فقد جس نبض فلورنسة بعد وصوله إليها واقتنع بأنه ليس ثمة أمل له في النجاح، وقد تأثر بالاستقبال الحافل الذي استقبل به وغدا المدافع الغيور عن فكرة إلحاق طوسكانه ببيمونته، وبذلك دلت الأمور على أن البلاد سائرة نحو الوحدة، وقد عين بون كومباني مندوب كافور مندوبا ساميا عن بيمونته في طوسكانه، وكانت وزارته تتألف خصيصا من الأشراف؛ أي أنصار الحكم الذاتي ربما كانوا يتوقعون عودة آل لورين، إلا أن وطنيتهم جعلتهم لا يتخلون عن كومباني، وأصبح ريكاسولي الذي تولى وزارة الداخلية فيها المهيمن على الوزارة، وقد امتلأت نفسه غبطة بمشاهدة الرأي العام يشتد ميله نحو الانضمام إلى بيمونته والخروج بطوسكانه من عزلتها المخيفة.
وأرسل الطوسكانيون بعد أول انتصار في باليسترة بيانا يعلنون فيه فيكتور عمانوئيل ملكا على إيطالية، ووقع «ريكاسولي» وزميله «سالفا جنولي» عليه رغم غضب المتحزبين لفكرة الحكم الذاتي، بيد أنه حينما أخذ كافور يشجع الدعاية الانضمامية بشدة خشية أن يعود الإمبراطور إلى مشاريعه القديمة؛ احتج ريكاسولي على هذه الدعاية التي ترمي إلى القضاء على الامتيازات الطوسكانية المحلية؛ لأن ريكاسولي لم يكن يستهدف الاندماج الكلي ببيمونته حتى تصبح إيالة محرومة من تشريعها الاجتماعي الأكثر رقيا منه في الدول الأخرى ومن تقدمها في الناحيتين الثقافية والفنية، بل كان يرغب في أن تصبح طوسكانه عضوا متساويا للأعضاء الذين تتألف منهم مملكة إيطالية العظيمة.
وأخذ أمثال كابوني الذين ظلوا مترددين طويلا بين شعورهم القومي وتعلقهم بالعرف والاستقلال الطوسكاني؛ يجهرون برغبتهم في الوحدة مع بيمونته بشروط وعلى ألا يكون هناك اندماج تام، أما أنصار الحكم الذاتي الأقحاح فكانوا يريدون أن يحولوا دون تأسيس دولة نابليونية مهما كلفهم الأمر، فكان الانضمام إلى بيمونته وحده يقيهم شر ملكية الأمير نابليون وجمهورية مازيني معا، فأبرقت الوزارة بهذا النبأ وعلى أثر إعلان ميلانو الانضمام بأسبوع واحد قررت الوزارة - بالإجماع - سيادة فيكتور عمانوئيل على البلاد، وارتأى كافور أن سبيل إقناع الإمبراطور بالرضاء عن انضمام طوسكانه لبيمونته إنما يكون بالبرهنة على أن الطوسكانيين يريدون الانضمام إلى بيمونته بالإجماع، وقد تجلى ذلك الإجماع بورود طلبات الانضمام المختومة من 225 ناحية من مجموع 246 وهذه النسبة تمثل أحد عشر من اثني عشر من نفوس الأهلين.
وبينما كانت الحركة القومية في طوسكانه تعم وتتقوى أسبوعيا؛ كانت الأمور في دول البابا تسير في صعوبة وعسر، وقد حذت جميع مدن الروماني حذو مدينة بولونيه، وفي أسبوع واحد امتدت الثورة إلى جميع أنحاء المارك إلى أنكونه وفي أوميريه إلى «بيروزه».
وبعد أن أصدر البابا قرار تحريم بحق القائمين بالحركة استعد للقضاء عليها بالقوة، فهاجم الجنود السويسريون مدينة بيروزه في 20 حزيران، ومع أن أحسن رجال المدينة كانوا قد ذهبوا للقتال في لمبارديه، ولم يكن بيد المدافعين عنها سوى بضع مئات من البنادق القديمة؛ فإن الذين دافعوا عنها استماتوا في دفاعهم.
وأمرت حكومة البابا قائد السويسريين بأن يستعمل أقصى الشدة؛ لتصبح عبرة لغيرها، فأباح القائد لجنوده نهب المدينة وانتهكت حرمات الكنائس وأحرقت الدور ودكت دكا وقتل النساء والشيوخ، وقد كان البابا يقدس هؤلاء القساة على فظائعهم وأعد وساما لتخليد هذا العمل الشنيع، وأدى سقوط بيروزه إلى خضوع أوميريه والمارك فأعادت حكومة البابا نفوذها إلى حدود الروماني، ولم تستطع القوات السويسرية التقدم أكثر من ذلك لأن بعض الجنود البيمونتية كانوا في بولونيه، وأخذ المتطوعون يحتشدون لدفع أي عدوان.
وكان أول عمل قامت به الجمعية «لاجونتا» الوقتية في الروماني إعلانها قبول دكتاتورية فيكتور عمانوئيل من دون قيد، ولم يكن في الروماني من أنصار الحكم الذاتي سوى أفراد قلائل، وعلى إثر ذلك نصبت حكومة تورينو دازجيلو مندوبا ساميا عن الملك، بيد أن الإمبراطور نابليون عاد فقابل هذا العمل بالرفض مع أنه صرح إلى أحد أعضاء جمعية جونتا بأنه لن يوافق على إعادة سلطة البابا إلى بولونيه، إلا أنه كان من جهة أخرى يخشى معارضة الحزب الإكليريكي في فرنسة، وكان عازما على سحب جنوده من روما حالما يتم طرد النمسويين من شبه الجزيرة، وكان نابليون - دون ريب - لا يزال يحتفظ بأمل ضعيف في حل القضية بإقناع البابا على التخلي - في طيبة خاطر - عن بعض أجزاء دويلاته، وأن ينضم إلى مملكة إيطالية الوسطى. وكان الأحرار الإفرنسيون يتمزقون غضبا لمظالم بيروزه.
ويظهر أن الإمبراطور كان قد أفهم كافور قبل فيلافرنكة بأنه يساعده على أخذ الروماني، ولعله اشترط عليه بأن يمارس البابا حق سيادته عليها، وبعد مرور بضعة أيام على هذا الحديث وصل دازجيلو إلى بولونيه متزودا بصلاحيات جعلت محدودة؛ وذلك عملا برغبات الإمبراطور، بيد أنه ضرب بالتعليمات التي أصدرت إليه عرض الحائط وقبض على زمام الحكومة بالفعل، وكان كافور قد تخلى في ذلك الوقت عن خطته بشأن أوميريه، فأخذ يشجع أهل المارك على الثورة بهمة .
يتضح لنا مما مضى أن الرغبة في الوحدة قبل فيلافرنكة قد اشتدت في جميع أنحاء إيطالية، وكان اكتشاف المؤامرة التي دبرت في قصر الدوق الكبير ووجود ابنه في الجيش النمسوي في معركة صولفرينو قد أزالا اعتبار آل لورين في نظر أشد المخلصين لهم، كما أن حادثة بيروزه حملت أهل الروماني على التسلح لمقاومة متطوعة البابا مهما كلفهم الأمر.
وأخذت الرغبة في تأسيس مملكة قوية تحتوي جميع أقسام إيطالية الشمالية والوسطى؛ تقوى وتشتد باستمرار في نفوس الجماعات القومية على اختلاف نزعاتها، على أن بعض الناس كانوا لا يزالون يميلون إلى الحكم الذاتي وأمثال كابوني وريد ولفي قد وافقوا على الانضمام مكرهين؛ لأنهم لم يجدوا حلا آخر غير الانضمام، وجاءت حادثة فيلافرنكة فعدلت الآراء؛ إذ ظهر أن الاتحاد أمر يصعب إنجازه ما دام النمسويين في فنيسيه وما دام جيش البابا يهدد مقاطعة لاكاثوليكة في الروماني ودوقة مودينه يتحين الفرصة لاجتياز نهر بو بجنوده، فالاتحاد في حالة وجود هذه العوامل سيظل حبرا على ورق أو ساحة نزاع بين المبادئ سيجر إلى الحرب عاجلا أو آجلا.
وأصبحت فكرة الوحدة عقيدة ولما حاول رتازي الذي تولى رئاسة الوزارة بعد كافور أن ينفذ شروط المعاهدة، وجد نفسه أمام اجتماع شعبي عام وتآمر شامل للقضاء على هذه المعاهدات والحيلولة دون تنفيذ شروطها، ووجد الطليان في الوسط زعيمين من الطراز الذي يحتاجون إليه رجلين عنيدين صلبين، حازمين لا يخافان المسئولية ولا تؤثر فيهما المخاطر والدسائس ولا التملق ولا الوعيد.
أما الأول فهو لافارينا، وقد برهن كافور عن نظر ثاقب بعيد بإرسال زميله وصديقه لافارينا إلى مودينه لما ثارت بعد معركة ماجنتا، وكان لافارينا طبيبا من أهل رافينة، وقد اشترك في عدة مؤامرات، وبعد أن ظل في المنفى مدة قصيرة عاد بعد العفو الذي أعلنه البابا بيوس، ولعب دورا خطيرا بين الأحرار المعتدلين في إيالته، والتجأ سنة 1849 إلى بيمونته ولعله غدا أول نصير لكافور في مجلس الأمة، وكان لافارينا رجلا شعبيا شجاعا نزيها متحليا بإرادة قوية وعزيمة ماضية، وقد جعلته معاهدة فيلافرنكة لا يعبأ بأوامر فرنسة وبتهديدات النمسويين.
أما الثاني فكان ريكاسولي زعيم طوسكانه وهو أجمل وجوه تاريخ إيطالية الحديثة، كان بتينو ريكاسولي من الأشراف الأحرار الذين أسسوا جمعية جورج فيس، وتزعموا حركة الدستور في طوسكانه سنة 1847-1848 إلى أن تسلم زمام الحكم للدموقراطيون، وأصبح منذ سنة 1856 شديد التحزب للوحدة مؤمنا بأن إيطالية سوف تنال حريتها بيدها، وكان يكره الاعتماد على سياسة الأجنبي والاستعانة به، ومع أنه لم يرتح للحلف الإفرنسي إلا أنه اعتزم أن يجعل طوسكانه مثلا في الضبط والتضحية في سبيل الوحدة إلا أنه لم يكن يرغب قط في أن تصبح إيطالية الجديدة بيمونته مكبرة، ولم يوافق على أن تتخلى طوسكانه عن حضارتها القديمة ومؤسساتها الإنسانية.
وكان ريكاسولي يمت إلى أسرة عريقة في زعامتها أوتوقراطيا بكل معنى الكلمة، وجريئا قوي الاعتداد بنفسه، وكان ملاكا خشن الطباع نشيطا، يعامل مزارعيه بقسوة شديدة في سبيل تمدينهم وإغنائهم، وكان يأنف من الانحناء أمام الملك أو الشعب.
أما من حيث العقيدة السياسية فكان دموقراطيا صادقا يكره البلاطات كره الجمهوريين لها، ويحتقر الإكليروس احتقارا، ويدعو إلى أن تخضع الكنيسة للدولة، ويمقت البلاط البابوي أشد المقت.
وحالما بت في معاهدة فرنكة أبرقت حكومة تورينو إلى مندوبها في بولونيه وفلورنسة ومودينه وبارمه طالبة إليهم أن يتركوا مناصبهم وأن يعودوا، غير أن كافور قد عقد النية على أن لا يتخلى عن مناصبه - كان يتولى إذ ذاك عدة وزارات - قبل أن يبذل آخر جهد لإنقاذ مشروعه فأبرق لفارينا «السلاح والمال.» وأوعز إلى دازجيلو بأن يستمر على عمله من دون أن يهتم بمعاهدة فيلافرنكة، وأوصى ريكاسولي بأن يبقى في منصبه وأن يدعو إلى عقد مجلس تمثيلي، وحثهم الملك على أن يكونوا أهل مضاء وعزيمة، وكان المندوبون من الرجال الذين خلقوا لاقتحام العقبات وتذليل المصاعب، فانسحب بون كومباني وترك منصبه لريكاسولي رجل الساعة، أما دازجيلو فرفض العودة قبل أن يقيم حكومة مستقرة وقبل أن يجهز قوة من المتطوعين لحماية الحدود ضد الجنود السويسريين في أوميريه.
أما لافارينا فقد ذهب إلى مودينه بلا جنود ولا مال تاركا مهمته التمثيلية ليصبح في اليوم التالي دكتاتورا على مودينه أولا وعلى بارمه ثانيا، وقد قال: «سأموت قبل أن أطرد.» وأبرق إلى ريكاسولي يقول: «أنا صاحب الشعب، بالاتحاد في العمل ننال الظفر وإذا اقتضت الأمور الجرأة فأنا لها.» ولو تخلى المندوبون عن مناصبهم لانقطع الرجاء في إيطالية الوسطى، وكان الشعب يسير وراءهم كالبناء المرصوص حتى إن لافارينا قال: «إن إيطالية لم توقع على معاهدة فيلافرنكة.» ولم يحدث أي اختلاف في الرأي بين الأحرار والمحافظين في موضوع المعاهدة واستنكارها، فبينما كان ولفي الديمقراطي وصاحب المصرف في فلورنسة يجهز حرسا قوميا راح ريد ولفي الذي ظل إلى تلك الساعة مترددا يطالب باستئناف القتال، وهكذا، لم يكن في إيطالية إلا شعب مقدام يقوده رجال لا ترهبهم المخاطر قد صمموا على أن لا يتركوا الميدان.
وكانت وزارة تورينو إذ ذاك فاقدة الشجاعة تعوزها العقيدة والجرأة، قد ارتضت أن تتخلى عن الأهداف التي جاهد الشعب لبلوغها، وحدت الدويلات الأربع صفوفها حالا للدفاع عن نفسها، ولا سيما لأن جنود البابا كانوا على أهبة اجتياز الروماني من حين لآخر، وكان محتملا أن يعاونهم مدد من نابولي وإسبانية كما أن دوق مودينه قد يستطيع التقدم من فنيسيه ثم يجتاز نهر بو ويهدد فلورنسة، وكان ثمانية آلاف من المتطوعين في لاكاثوليكة على حدود أوميريه.
وقد استبقى لافارينا بالاتفاق مع ريكاسولي القوات الطوسكانية التي عادت من ميدان القتال لتقوم بحراسة خط بو، وبإيعاز من دازجيلو دعا إلى إقامة حلف عسكري بين الدويلات الأربع، وتجنيد جيش لا تقل قوته عن خمسة وعشرين ألفا، وقد تم التحالف بين مودينه وطوسكانه والروماني ثم انضم إلى هذا الحلف أخيرا بارمه، وأوفدت حكومة تورينو - بعد تردد طويل - الجنرال «فانتي» أقدر قادة بيمونته لتنظيم جيش الحلف وجعلت غاريبالدي معاونا له، وبذلك أصبحت إيطالية الوسطى في مأمن من الاستيلاء عليها، ورأى نابليون استحالة عودة الأمور إلى حالتها السابقة من دون استخدام السلاح، كما أدرك أن طوسكانه نفسها لا ترغب في عودة الدوق الكبير إليها.
وقد رفض الإمبراطور في أول الأمر كل تدخل أجنبي في شئون إيطالية، وفرح جدا بالحصول على حجة تساعده على التخلص من الوعد الذي أعطاه للنمسة، وارتأى عقد مؤتمر من الدول المعظمة فيحتمي وراء حكمه ويتخلص من عهوده المتناقضة، واستند إلى احتجاج رسل الشديد، وأعلن أنه لا يوافق على تدخل النمسة في شئون طوسكانه والروماني.
وترك في لمبارديه خمسين ألفا من جنوده وأيقن أن التهديد يكفي لإيقاف النمسة عند حدها. وبعد أن اطمأنت حكومات الوسط إلى نيات الإمبراطور شعرت بأن الثبات والشجاعة وحدهما الكفيلان ببلوغ آمالهما، وما دام الإمبراطور يرفض أن يحميها وما دامت بمعزل عن تدخل النمسة؛ فإنها أصبحت قابضة على مصيرها بيدها، وقررت قبل ذلك دعوة المجالس التمثيلية في كل من الدويلات، وجرى انتخاب عام لهذه المجالس، فاز الأحرار فيها في جميع الأنحاء وقد قررت هذه المجالس - بالإجماع - سقوط الحكومات القديمة وإلحاق الدويلات الجديدة بمملكة فيكتور عمانوئيل. وأمام هذا الإجماع الرائع تلاشت النعرات الحزبية، وأظهرت إيطالية الوسطى من التساند ما جلب إعجاب أوروبا.
فلم يبق الآن أن نرقب ما تتخذه حكومة بيمونته من إجراءات وتدابير، وكان معلوما أن وزارة رتازي لم تؤلف إلا لمدة مؤقتة ريثما يعود كافور للحكم، وكانت مهمة هذه الوزارة احترام أحكام معاهدة فيلافرنكة والأخذ بتعليمات الإمبراطور إلى حد ما، ومهما كانت الفكرة البيمونتية الضيقة الحدود فإن رئيسها رتازي لم يكن يخلو من بعض إيمان بالوحدة، فلم يكن في مقدور هذه الوزارة أن تتخلى تماما عن القوميين.
وكان الملك لا يزال على اتصال ودي بغاريبالدي مما دل على أنه يرغب في استخدامه عند الملمات، ويظهر أن مخاوفه بشأن ممتلكات البابا قد زالت حين لمس شدة الشعور الساخط الذي ولدته معاهدة فيلافرنكة، أما وزراؤه فكانوا لا يعبئون بلعنات البابا وإنما كانوا لا يجرءون على إغضاب الإمبراطور، ويدركون صعوبة التخلص من هذا الحليف الإفرنسي الذي غل إرادتهم والذي سيطالب في حالة انضمام إيطالية الوسطى إلى بيمونته بصافويه تعويضا له، يتهدد بيمونته ويجعلها وجها لوجه أمام النمسة إذا ما غضب الإمبراطور وسحب جنوده وجماعته وفسح المجال لتدخل النمسة، ومع أن رتازي كان راضيا بالتخلي عن صافويه إذا استطاع إنقاذ نيس، إلا أن زملاؤه لم يجرءوا على الاضطلاع بهذا العبء ومواجهة ما سيولده من التذمر العام إذ هم ضحوا بمهد الأسرة المالكة وبوطن غاريبالدي، وقد رفضوا في أول الأمر الموافقة على مبدأ الاتحاد آملين أن يظفروا بموافقة الدول الأوروبية في المؤتمر المنوي عقده على قرار الدويلات بشأن الانضمام إلى بيمونته، وقبل أن تصل وفود الدويلات الأربع إلى تورينو رأى الوزراء أن يجسوا نبض نابليون.
وكانت سياسية الإمبراطور تقضي بمعارضة بيمونته في ضم الروماني وطوسكانه إليها لا خوفا من استياء الكاثوليك الإفرنسيين فحسب، وإنما كانت سياسة فرنسة التقليدية تعارض تأسيس مملكة إيطالية قوية كي لا تنضم يوما ما إلى حلف ضد فرنسة، وكان الإمبراطور في الوقت ذاته يأمل في إقناع البابا بيوس بمنح الحكم الذاتي إلى الروماني على أن يحتفظ البابا بسيادته عليها وبذلك يرضي القوميين.
ثم إنه كان يعارض - كل المعارضة - في إلحاق طوسكانه ببيمونته؛ لعلمه بأن اتساع مملكة فيكتور عمانوئيل إلى ما وراء جبال الأبنين سيؤدي عاجلا أو آجلا إلى وحدة إيطالية، وبذلك تتعقد القضية الرومانية وتزداد خطورة، على أن سير الأمور كان يتوقف إلى حدبعيد على موقف إنجلترة وعلى تصرف وتدبير الطليان أنفسهم.
وقد تمسك الإمبراطور الآن بمشروعه الاتحادي لدفع احتمال الوحدة والانضمام، ولما وردت إليه رسالة تورينو تستفتيه رأيه في الانضمام؛ عارض المشروع فورا، فلما جاء وفد طوسكانه في 3 أيلول إلى بيمونته قررت الحكومة عدم الموافقة على الانضمام، وطلبت إلى الملك أن يتهرب في جوابه، غير أن الملك في محادثة خصوصية مع الوفود شجعهم على المضي في طريقهم كأنما الوحدة أمر لا ريب فيه.
الفصل الثامن والعشرون
انضمام الوسط
أيلول 1859-نيسان 1860
وطبيعي ألا ترتاح إيطاليا الوسطى إلى جواب الملك، ولم تقبل به إلا بعد تأكيد من الملك ووعد من كافور بأن الوقت لا يساعد على العمل أكثر من ذلك، وكان على حكومة تورينو أن تنظر بعين الاعتبار الصعوبات السياسية التي تواجهها، وأن تحول دون قطع صلاتها بالإمبراطور، ولكن ريكاسولي وفاريني استطاعا أن يهملا تعليماتها من دون خوف، وأن يفسرا حديث الملك تفسيرا بعيد المدى، وأن يصرحا بأن فكتور عمانوئيل أصبح ملكا على طوسكانه واستنادا إلى رضائه الخاص.
وقد بلغ جيش الحلف ذلك الحين خمسة وأربعين ألف جندي وبرهنت طوسكانه عن تحليها بصفات الصبر والثبات الفائقة، ولم تجد جميع الدسائس التي حاكها أنصار الأمراء المخلوعين، وسارت حكومتا ريكاسولي وفاريني بلا عائق وأصبح ريكاسولي دكتاتورا بالفعل، وقد تملك قلوب الشعب بثباته وصراحته وامتناعه عن الأخذ بسياسة التستر والمراوغة، وقام فاريني بالإصلاحات في مودينه وبارمه في همة ونشاط عظيمين، وقد طهرا الإدارة من مفاسدها وطردا اليسوعيين، أما في بولونيه قد خلف روازجيلو «سيبريماني» قائد ثورة ليفورنه سنة 1848.
وكانت سياسة فاريني ترمي إلى جعل دويلات الوسط خاضعة إلى حد ما لحكومة مشتركة وجعل قوانينها وقوانين بيمونته واحدة، حتى إذا ما استلم فكتور عمانوئيل زمام الحكم وجد أن الاندماج بين الإيالات القديمة والجديدة قد تم فعلا، وقد ارتأى أن يأخذ الحلف العسكري الموجود بسياسة دولة واحدة من أعضائه فيدل ذلك على تضامن الحكومات الأربع ويكون حائلا دون اختلافها، وذلك من دون أن تلغي الحكومات الموجودة.
وقد أيدت حكومة بولونيه هذا المشروع أما ريكاسولي فاعترض عليه خشية أن يشجع ذلك أنصار وجود مملكة في إيطالية الوسطى، ولاح له - كما لاح لكافور - أن الحلف المذكور يكون بذلك عثرة في سبيل الوحدة مع بيمونته بدلا من مساعدتها، أما في طوسكانه فحمل الدموقراطيون مع بعض أنصار الوزارة وبتشجيع من رتازي على جعل المؤسسات المحلية على طراز المؤسسات البيمونتية، وقام ريكاسولي بأعمال تقدمية عظيمة في الصناعة والإدارة، وسعى ريدولفي لجعل فلورنسة مركزا للثقافة والفنون في المملكة الجديدة.
وكانت الوحدة بنظر ريكاسولي لا تطلب قبول القوانين والمؤسسات البيمونتية، ومع ذلك فقد وافق على قبول نظام العملة والنقد البيمونتي وعلى إلغاء الجمارك وجوازات السفر، وتأسيس اتحاد بريدي، على أن هذه الأمور كلها كانت بنظر ريكاسولي قليلة الأهمية إذا قورنت بقضية الانضمام، ومهما كان التفاوت في الآراء بين ريكاسولي وفاريني فإنهما كانا على اتفاق تام في رفض الخضوع لأي ضغط أجنبي رفضا باتا، ولم يكن المرء يحتاج إلى كثير من الفراسة حتى يدرك بأن الإمبراطور سيعود فيلجأ إليهما.
وقد تعدلت آراء الإمبراطور بشأن طوسكانه بسرعة فأرسل في نهاية أيلول رسالة يلح فيها على الحكومات الأربع بصيانة استقلالها بثبات، وفي اليوم التالي لورود هذه الرسالة تفاهمت الحكومات المذكورة فيما بينها على دعوة المجالس التمثيلية، وتعيين الأمير «كايجناتو» ابن عم الملك فيكتور عمانوئيل وصيا إذا لم يوافق الملك على أن يتولى الملك بصورة مباشرة، وقد رفع العلم البيمونتي فوق سراي فيكيو في فلورنسة في اليوم الأخير من أيلول، ولكن الإمبراطور كان بعيدا كل البعد عن الموافقة على الانضمام.
ولم تكن رسالته تدل إلا على مزاجه المتبدل، فكان لا يزال يأمل بأنه يستطيع إقناع البابا بمنح الحكم الذاتي للروماني وتعيين فيكتور عمانوئيل نائبا عنه، كما أنه وعد بإعطاء بارمه لبيمونته، ومع أنه كرر قوله بأنه يحمي إيطالية ضد أي تدخل نمسوي فقد قال للوفد الفلورنسي بأن على مدينتهم أن تقبل ابن فرديناند، فأجابه الوفد بأن طوسكانه لن ترضى بأمراء اللورين، وتوعده بأن الطليان إذا فقدوا ثقتهم في نياته سوف يعملون على أن يمتد لهيب الثورة إلى نابولي وصقلية.
وكان لهذا الوعيد مفعوله الحسن بيد أن الإمبراطور كان ناقما على الانتقادات المرة التي كانت صحافة تورينو توجهها إليه، وحانقا على رتازي لضغطه على جرائد صافويه الانفصالية، على أنه بعد مرور بضعة أيام كتب للملك كتابا مفتوحا أصر فيه بشدة على آرائه الاتحادية مقترحا مرة أخرى عليه الانضمام، وقال فيه: إذا قبلت بيمونته مرة أخرى شروطه فسيمنح فنيسيه الحكم الذاتي، وسيجبر النمسة على جعل «مانتويه وبشييرا» من قلاع الاتحاد الإيطالي.
وأصبحت وزارة تورينو التي كانت تهب تارة مع رياح باريس وأخرى مع فلورنسة؛ أي ذات اليمين وذات الشمال؛ موضع مقت العموم، وكان رتازي الذي خشي أن يتهم بالخيانة مستعدا للموافقة على وصاية الأمير «كاريجناتو» ولولا أن زملاءه كانوا لا يزالون يتخوفون من قطع العلاقات مع فرنسة، وعليه فإن الوزارة أجابت الإمبراطور بأنها ترفض فكرة الاتحاد وتركت قضية الانضمام إلى الظروف دون أن تحرك بشأنها ساكنا.
وكان مازيني قد عاد إلى فلورنسة بعد معاهدة فيلافرنكة؛ حيث ساعده ريكاسولي على الإقامة فيها بشرط أن يعده بأن لا يظهر أمام الناس، وقد وافق مازيني على تعضيد فيكتور عمانوئيل بعد أن أبدى تحفظاته المعلومة إذا اقتنع بأن إعلان الجمهورية في مثل تلك الساعة يضعف شأن الحزب القومي من جهة ولا يفيد حزبه من جهة أخرى، ثم إنه عظم في نفسه خطر قيام مملكة نابليونة في الوسط.
وقد أوفد كريسي إلى صقلية لإثارة الثورة فيها، وألح على استرداد بيروزه، الأمر الذي «حسبما كان يعتقده» من شأنه أن يمد لهيب الثورة إلى أومبريه والمارك حتى إيالة بيروزه وبذلك يجعل آل بوربون بين نارين، فإذا تمت الوحدة الإيطالية قبل اجتماع المؤتمر فلا بد للمؤتمر من أن يقبل بالأمر الواقع، وبث لافارينا بالاشتراك مع الجمعية القومية من دون الاتصال بمازيني لجان الجمعية في جميع أنحاء الروماني، فاجتازت هذه اللجان الحدود وتوغلت في أومبرية والمارك وأخذت تجمع السلاح وتعد الناس للثورة في الإيالات المضطهدة حتى أصبح الانفجار على وشك الوقوع.
ولو ثار أهل أومبريه لصعب منع المواطنين من أهل الروماني عن الإسراع إلى نجدتهم، ولكان قد حالوا دون توغل جنود البابا في الروماني، واشتدت نفرة الناس من سياسة تورينو الهوجاء ورغبتهم في إجبارها على السير حتى إن أناسا لم تكن لهم أي علاقة بالدموقراطية أخذوا ينجرفون مع التيار.
وقد أرسل فاريني وفانتي من قطعات طوسكانه ومودينه إلى الحدود من دون علم ريكاسولي ووضعاها تحت قيادة غاريبالدي وأمراه أن يصد كل هجوم وأن يطارد المهاجمين إلى وراء الحدود.
وإذا ما نشبت ثورة في المارك وأومبريه فليسارع إلى إنجادها، وافتتح غاريبالدي اكتتابا لشراء مليون بندقية واستطاع ببياناته المثيرة أن يجعل الرأي العام في هياج محموم، وفزع ريكاسولي من كل هذا وخشي من معارضته الرأي العام الكاثوليكي في أوروبا لفكرة الانضمام وإجبار الإمبراطور على سحب وعده بصيانة الاستقلال الإيطالي.
وبلغ الذعر في الوزارة البيمونتية التي تأثرت بالرسالات الواردة من باريس حتى فكرت معه في فسخ الحلف العسكري وتسريح نصف الجنود، ولكن ريكاسولي عارض هذا المشروع الطائش معارضة شديدة وحال دون تنفيذه، ثم نزل الملك إلى الميدان واستدعى غاريبالدي إلى تورينو في 29 تشرين أول وأجبر الجنرال فانتي على الانسحاب من منصبه.
ووصل غاريبالدي إلى تورينو فلم يشأ الملك أن يضغط على قائده الجزوع غاريبالدي الذي امتنع من الوعد بعدم اجتياز حدود أومبريه بعد أن تعهد بمساعدة الثورة إذا ما نشبت، ولما عاد إلى ريمني توقع أن يتسلم القيادة العامة لمناسبة استقالة فانتي وراح يشرع في استعداداته لاجتياز الحدود، وأخذ رجاله يحرضون الناس على الثورة في المارك.
وكان المجلس التمثيلي في بولونيه قد ألجأ سبيريماني على الانسحاب، وأناط الدكتاتورية بفاريني الذي وحد بين الروماني والدوقيتين بعنوان إميليا، وطلب إلى فانتي بأن يعود إلى منصبه ثم أخذت الاعتراضات والشكاوى ترد من جميع بلاطات أوروبا ضد ما يجري في إيطالية الوسطى، فاستعمل كافور جميع نفوذه في معارضة مشروع الثورة في أومبريه والمارك، ولم يظهر أهل أومبريه استعدادهم للثورة؛ ولذلك قرر فانتي وفاريني منع اجتياز الحدود واستدعيا غاريبالدي إلى بولونيه، وأخذا منه وعدا بالكف عن مشروعه، غير أن خصومه الألداء زوروا برقية تخبره بنشوب الثورة فأمر غاريبالدي على إثر ورود البرقية جنوده باجتياز الحدود، ولكن فانتي أسرع فأصدر إليهم أمرا مناقضا لأمر غاريبالدي فامتثل الجنود لأمره الأخير، ومني غاريبالدي بخيبة مرة شديدة فعاد على جناح السرعة إلى بولونيه وأصر على فانتي وفاريني بأن يستقيلا فأجاباه بالرفض البات، ولم يكن غاريبالدي يستطيع أن يجبرهما على الاستقالة.
وبعد مرور يومين على هذا الحادث دعي إلى تورينو؛ حيث أقنعه الملك بترك القيادة والعودة إلى حياته الخاصة، والحقيقة أنه لو تقدم غاريبالدي برجاله لوجد أمامه قوات روما ونابولي الممتدة، ولو أقدمت النمسة على التدخل لوجد نفسه بين نارين لا يستطيع أن يتملص منهما ، ومع ذلك فإن حادثة غاريبالدي لم تكن سوى أمر ثانوي كما عبر عنها ريكاسولي، بيد أنها دلت على مقدار ما تتعرض له الحركة القومية من الأخطار بسبب الفوضى وفقدان التنظيم.
وكان استمرار الحالة بصورة وقتية قد يولد أخطارا جمة، واستطاع الحزب المتطرف أن يرفع رأسه، أضف إلى ذلك أن قتل إنفيتي والتشهير به من قبل الدهماء وتساهل فاريني في معاقبة المجرمين قد حرج الموقف ودل على فقدان الأمن.
وقد دبرت مؤامرة قليلة الشأن في طوسكانه وكانت جنود البابا على أهبة الهجوم في كل لحظة، وكان الأمر في نظر ريكاسولي هو إضعاف شأن حكومة تورينو بتنفيذ مشروع الشهر الماضي القاضي بتعيين الأمير كاريجنانيو وصيا، وقد رأى أن حادثة غاريبالدي قد هيأت له الفرصة، وأبرق له مندوبه في لندن يخبره بأن وزير خارجية إنجلترة يميل إلى قبول مشروع الوصاية، وأن الإمبراطور يرغب - قبل كل شيء - في المحالفة مع إنجلترة؛ ولذلك فإنه سيضطر إلى الكف عن معارضته.
واتضح أن وزير الخارجية الإنجليزية قد تحدث عن ميله لفكرة الوصاية إلا أن بالمرستون كان يرى أن الأمر لا يزال مبتسرا وأن الإمبراطور لا يزال يعارضه، أما ريكاسولي وفاريني فعقدا النية على العمل رغم كل شيء، فاجتمعت المجالس الأربعة في 2 تشرين الثاني وانتخبت الوصي.
كانت وزارة بيمونته قد بذلت كل جهدها لتحول دون هذا الانتخاب، ولما فشلت أصرت على الحصول على موافقة الإمبراطور ولكن الإمبراطور أرسل رسالة قارصة صرح فيها بأنه إذا رضي الملك بوصاية كاريجنانو فلن ينعقد المؤتمر وتتحمل بيمونته وحدها تبعة إغضابها للنمسة، وكانت النمسة قد أنذرت بأنها تعد دخول الجند البيمونتي في الدويلات الأربع عملا عدائيا، ولعل حكومة تورينو كانت تأبى الخضوع لو اطمأنت إلى معاهدة إنجلترة إياها، ولما لم تجد تشجيعا منها عاد الوزراء حسب عادتهم إلى المماطلة والتسويف، وبتحريض من كافور قرروا بأن يرفض كاريجنانو الوصاية وينتدب بون كومباني حاكما عاما على إميلية وطوسكانه.
ثم أخبروا الإمبراطور بقرارهم هذا وجعلوه أمام أمر واقع فرضي عن طيبة خاطر بهذا الحل ، أما ريكاسولي فلم يقبل بهذا الحل وقال: «الأمير أو لا شيء.» وكان لا يريد أن يتخلى عن سلطته ولا يريد أن يقيد يده التي اعتقد أنه يصون الأمن بها، ولم يوافق على تعيين بون كومباني إلا بشرط، وهو أن يصبح كومباني نائبا للوصي، وأخيرا استطاع الملك أن يوفق بين الفكرتين بتعيينه بون كومباني حاكما عاما على الدولتين «إميليه وطوسكانه»، ويشرف على إدارتهما إشرافا رسميا.
ولكن هذا الحل لم يؤد إلى الغاية المقصودة من انتخاب الوصي فبقيت الأمور على ما كانت عليه، غير أن الإمبراطور أخذ يقتنع شيئا فشيئا بعدم إمكان عودة الأمراء إلى عروشهم وأن الاتحاد لا يمكن تطبيقه وأن القوة وحدها هي التي تمنع دويلات الوسط من الانضمام، وكانت النمسة على الرغم من إنذارها ضعيفة لا تستطيع التدخل، ولو فرضنا أنها كانت قوية تستطيع أن تدعم قولها بالعمل فإن الإمبراطور لا يرضى بأن تصبح نافذة الكلمة مسيطرة على بيمونته، ثم أيقن أن عدم الاستقرار يؤدي إلى اندلاع النار وامتداد حركة الوحدة إلى الجنوب - كما سبق - فأخبره الوفد الطوسكاني بأن إيطالية تصبح بؤرة ثورية قد تخلق أورسيني آخر وتنتقل منها روح الثورة إلى فرنسة.
وكان السلم قد عقد في زوريخ في 12 تشرين الثاني، فجعل الإمبراطور طليق اليد تجاه النمسة، فالاستفتاء العام في إيطالية إذا جاء مؤيدا للانضمام هو الوسيلة الممكنة، وإذا ما ألحقت صافويه ونيس بفرنسة جزاء موقفه فسيصبح قويا بحيث لا يعبا بالإكليريكيين، فضلا عن أن الروماني تدخل بذلك في حوزة حكومة قوية حرة، تصونها عن الفوضى.
وكان لا بد لهذا التبدل في موقف الإمبراطور من تبدل في سياسته أيضا، فقد كان حتى ذلك التاريخ يبذل جهده لإقناع إنكلترة بتأمين عقد المؤتمر، غير أن المؤتمر قد يكون ضربة قاضية على خططه الجديدة؛ لأنه لا يستطيع أن يصرح فيه نياته ومطامحه في صافويه ونيس، أضف إلى ذلك أنه كان يعلم بأن الدول الكاثوليكية لن ترضى عن تقليل ممتلكات البابا، فعليه إذن أن يحول دون انعقاد المؤتمر والاستناد إلى محالفته إنجلترة في تنفيذ سياسته ضد البابا، وكان حينذاك قادرا على إخفاء مقاصده بشأن صافويه ونيس، فجس نبض إنجلترة لمعرفة فيما إذا كانت توافق معه على أن يصبح دوق جنوه ابن فيكتور عمانوئيل الصغير وصيا على طوسكانه والروماني باسم أبيه.
وكانت وزارة بالمرستون تستهدف في سياستها الإيطالية ثلاث نقاط: (1) تحقيق الآمال الإيطالية بطرد النمسة من إيطالية. (2) القضاء على النفوذ الإفرنسي في إيطالية. (3) إضعاف سلطة البابا الزمنية وإزالتها.
ولما وافق وزير الخارجية الإنجليزية على عقد المؤتمر كان قد اشترط قبل انعقاده أن تقلع الدول عن فكرة التدخل المسلح وألح على ذلك، ولكن النمسة أجابت - بصراحة - أنها ترغب في إعادة الأمور في إيطالية إلى حالتها وظهر أن روسية وبروسية تحذوان حذوها فتشجع نابليون في عزمه على إحباط مشروع عقد المؤتمر.
وصدرت في باريس قبل عيد الميلاد رسالة عنوانها «البابا والمؤتمر»، وكان محور البحث فيها يدور حول ضرورة تصغير ممتلكات البابا مبرهنة على أنه كلما صغرت ممتلكات البابا كبرت سلطته الروحية، ومع أن الرسالة لم تتعرض للبحث عن المارك وأومبريه فإنها اقترحت بأن تقتصر أوروبا على حمايتها لروما ولاكوماركة.
وتلا ذلك أن أبعد الإمبراطور وزير خارجيته والويسكي، وعين نوفنيل عدو الإكليريكيين ونصير الحلف الإنجليزي، وسرعان ما بلغت السياسة الجديدة هدفها الأول؛ إذ استوضحت حكومة النمسة الحكومة الإفرنسية فيما إذا كانت فرنسة تقف في المؤتمر موقف المدافع عن المبادئ الواردة في الرسالة فلما تلقت جوابا إيجابيا انسحبت من المؤتمر.
وسارت الأمور في إيطالية وفي باريس سيرا سريعا، فبعد أن رفضت النمسة الاشتراك في المؤتمر بخمسة عشر يوما تقلد كافور رئاسة الوزراء، ويجدر بنا هنا أن نتحدث عن المناورات السياسية المحلية التي انتهت بعودة كافور إلى الحكم، فنقول لقد كان رتازي يعلم بأن وزارته سوف تسقط حالما يجتمع المجلس النيابي ولا سيما لأن أصدقاء كافور قد لموا صفوفهم وأخذوا يهاجمون الوزارة ليضمنوا عودته إلى الحكم، وكان الملك لا يزال يحقد عليه بسبب التفريق بينه وبين خليلته، ولم ينس الكلام القارص الذي وجهه إليه كافور على إثر معاهدة فيلافرنكة، ولعله اعتقد بأنه لن يقتصر في المستقبل إلى دعوة وزيره العظيم إلى الحكم فقبل بروفيو وفاليريو في بلاطه، فأخذا مع أنصارهما من حزب اليسار يسعون للحيلولة دون عودة كافور إلى استلام زمام الحكم.
وفي بداية شهر كانون الأول نظموا صفوفهم باسم اللجنة الحرة، وأخذوا يدسون الدسائس ويحيكون المؤامرات ضد كافور، الأمر الذي أدى بأصدقاء كافور في المجلس أن يعملوا لمكافحة هذه المؤامرة بتأليف حزب سموه: «الاتحاد الحر»، ونجح هذا الحزب وامتد نفوذه امتدادا أفزع الملك وجعله يفكر مضطرا في الموافقة على إيفاد كافور إلى المؤتمر المنوي عقده بعد أن تردد طويلا في إيفاده اعتقادا من الوزراء بأن نجاحه في المؤتمر يقوي مركزه في البلاط.
وقد سعى الدساسون إلى جلب غاريبالدي إلى جانبهم لاستغلال سمعته، وكان هذا قد ترك الروماني حانقا مكسور الخاطر رافضا الترضية التي قدمها له الملك، ولا شك في أن الملك ورتازي قد لعبا دورا في هذه المناورة وشجعا غاريبالدي على سياسته المتطرفة وربما على هجومه على أومبرية، ولعل الملك كان جادا، أما رتازي فقد خدع غاريبالدي ليستغله لمصلحة حزبه الخاصة، وطلب غاريبالدي أن تبدل اللجنة الحرة اسمها وأن تتسمى باسم «الأمة المسلحة» أملا منه بالقدرة على جمع المال لشراء المليون بندقية.
وقد وافقته اللجنة على تكليفه وعين رئيسا لها ولكن هذه الحركة المستهينة لم تلق تشجيعا لا في مجلس الأمة ولا في البلاد، حتى أسرعت الحكومة إلى التنصل منها، فتأثر غاريبالدي وغضب من هذا العمل وأمر بإلغاء اللجنة.
وأما في إيطالية الوسطى فأخذ الهياج والقلق ينذران بالخطر في إيطالية الوسطى، وأيقن أعضاء الاتحاد الحر وجميع القوميين في مجلس الأمة - على اختلاف نزعاتهم - لما أدرك دازجيلو بأنه لا يمكن القيام بأي عمل ما دام رتازي على رأس الوزارة، وأمام هذا الإجماع وضغط الرأي العام لم ير هذا بدا من الاستقالة، فتولى كافور في 16 كانون الثاني رئاسة الوزراء ففرح الناس لهذه النهاية وتنفسوا الصعداء.
واستطاع كافور أن يستفيد أقصى الاستفادة من الظروف التي مهدت له الطريق وأعادته إلى الحكم، وقد وعد بأن تكون سياسته سياسة إيطالية إلى أقصى الحدود، فأخذ يستهدف في عمله تحقيق الوحدة بمعناها الأوسع، واعتقد أنه إذا ما انضمت طوسكانه والروماني إلى بيمونته فإن الثورة كفيلة بعد ذلك بضم نابولي وصقلية إلى المملكة، أما أومبريه والمارك، فبعد أن تصبح إيطالية الحرة الجديدة في جانبهما فستتخليان عن البابا ثم يأتي بعد ذلك اليوم الذي تستجمع الأمة فيه كل قواتها للاستيلاء على القلاع الأربع واحتلال فنيسيه.
ومع أن كافور كان يشجع أنصار الوحدة الصقليين سرا فإنه كان في الحين ذاته حريصا على عدم وقوع حوادث مربكة في الجزيرة، وإذا اقتضت الضرورة بأن ينتظر بضع سنوات قبل أن يقدم على فتح إيطالية الجنوبية، ولكن كان هدفه الأول الاستيلاء على أميلية وطوسكانه، وظل في هذا الشأن صلب العود لا يلين ولا يتراجع؛ أملا أن يرى نواب إيطالية الوسطى في طليعة نواب مجلس الأمة حين ينعقد.
وجاء تعيين فانتي وزيرا للحربية - وكان لا يزال يقود جيش الحلف - مظهرا عمليا ودليلا فعليا على الوحدة، وكان كافور يدرك أن التخلي عن نيس وصافويه أمر لا بد منه في سبيل بلوغ الغاية المثلى وهي الوحدة الإيطالية، وقد استعد هو وفيكتور عمانوئيل لاحتمال هذه التضحية ومواجهة سخط الرأي العام الذي أفزعه زملاء رتازي.
وكان كافور يتألم كثيرا لهذه الضرورة القاهرة، ولكنه كان قانعا بأن تقديم هاتين الإيالتين الصغيرتين للإمبراطور في حالة إصراره هو الذي سيؤدي إلى حماية إيطالية الوسطى، وكان يعلم جيدا بأن هذا العمل قد يقضي على سمعته لدى الشعب، غير أنه كان على استعداد بتضحية نفسه على مذبح النفع العام، وأن يبيع في سبيل وحدة إيطالية كل شيء: الأصدقاء والضمير والسمعة الحسنة، وأن يتقبل كل التضحيات التي تنيله آماله، وقد عقد النية على أن يكسب الإيالات الوسطى مهما كلفه الأمر.
وكان يرغب في أن يكسبها برضاء الإمبراطور إن أمكن؛ لأن وقوف بيمونته وحدها في وجه النمسة كان خطرا عظيما عليها، وكانت الحكومة الإنجليزية قد اقترحت إيجاد تفاهم إفرنسي إنجليزي لتنظيم القضية الإيطالية ، وكان بالمرستون ورسل يذهبان إلى أبعد من ذلك ويميلان إلى عقد حلف بين الدولتين للدفاع عن المصالح الإيطالية، غير أن ملك إنجلترة عارض هذا المشروع.
وكان جلادستون الوزير الوحيد الذي حبذه بين أعضاء الوزارة،
إنجلترة لا تعارض في انضمام الإيالات إلى بيمونته إذا قررت المواد الأربع التي تؤلف دعائم السياسة الإنجليزية بالنسبة للقضية الإيطالية، ولما اطلع كافور على هذه الأخبار السارة رأى أن العقبات زالت وأن الطريق ممهدة له.
ولكن بعد أن تم التفاهم الإفرنسي الإنجليزي حدث ما قوضه؛ ذلك أن السياسة الإنجليزية الخارجية كانت تحذر من فرنسة وتترقب سياستها، وكان حذرها من السياسة الإفرنسية في إيطالية أقوى من ميلها وصداقتها لإيطالية.
وقد استطاع الإمبراطور بادئ الأمر أن يخفي نياته نحو صافويه وأن ينجز المفاوضات بلباقة ولكن هذا السر تسرب بغتة، وحاول كافور وتوفنيل وزير خارجية فرنسة عبثا إخفاءه بالتكذيب الجريء، ولكن إنجلترة اعتقدت أنها خدعت فحنقت حنقا شديدا وخشي الإمبراطور أن يقع كافور في أحضان إنجلترة في سبيل حرصه على ضم إيطالية الوسطى بمساعدتها، وبهذا يخسر نابليون صافويه ونيس بينما كان يعتبر كسب هاتين الإيالتيين أمرا جوهريا، ولا سيما بعد ذلك السخط الذي جلبته الرسالة والكتاب المرسل للبابا من الكاثوليك في فرنسة، فاعتزم أن يأخذ صافويه بأي ثمن كان حتى إنه وافق على أن تتقدم بيمونته في إيطالية نحو الناحية التي تستطيع أن تصل إليها.
وبينما كان يفاوض إنجلترة كان يساوم كافور ويلوح له بالحكم في الروماني نيابة عن البابا، وبتأسيس دولة منفصلة في طوسكانه والموافقة على اعتلاء أمير من آل صافويه عرشها، وراح يتردد بين طوسكانه أو صافويه ونيس، وأمسى يهدد بيمونته بسحب القوات الإفرنسية من لمبارديه وترك البلاد تحت رحمة النمسة، وهنا تتجلى لنا الصعوبات التي كان يجابهها كافور في توجيه دفة السياسة.
وقد تباينت الحلول والوجهات فكان عليه مثلا أن يستند إلى محالفة إنجلترة بضم طوسكانه والروماني، وأن يرفض التخلي عن صافويه ونيس، أو أنه كان يجب أن يحقق رغبات الإمبراطور فارضا أن سيادة البابا الغامضة على الروماني لا يؤبه لها، وأن اعتلاء دوق جنوة وعرش طوسكانه وتعيين ريكاسولي وصيا إنما يعين انضمام طوسكانه في الواقع، ولكن التخلي عن فكرة الضم المطلق من شأنه يجرح الشعور القومي وأن يغضب أهل طوسكانه وأن يساعد أنصار الحكم الذاتي على رفع رءوسهم، وأخيرا قرر بأن يضحي بصافويه وإذا قضت الضرورة بنيس أيضا.
ووافق على إرضاء نابليون في جميع الأمور الثانوية واجتنب - في حذر - التلميح لإنجلترة في الحرب وأعد العدة لإجراء الاستفتاء في إيطالية الوسطى بالاقتراع العام، وكان يعلم بأن الإمبراطور لن يستطيع أن يرفض حق الشعب في الاقتراع؛ ذلك لأن الاستفتاء الشعبي بالاقتراع في فرنسة هو الذي أقعده على عرش فرنسة، وكان إصرار كافور على إلحاق طوسكانه شديدا لا يتزحزح عنه، وكان يعتمد في رفضه التخلي عن طوسكانه على معاضدة إنجلترة الأدبية وعلى معاضدة بروسية إلى حد ما، وأما إذا ساءت الأمور فإنه اعتزم على مقاومة النمسة وحده بدلا من أن ينزل الراية القومية التي خفقت في طوسكانه.
وقد حرص فانتي على تنشيط حركة التسلح سرا وبسرعة، وقدر بأن على المملكة أن تنزل إلى الميدان مائتي ألف جندي، وعجل في إجراء الاقتراع العام بأن استصدر إرادة ملكية في 1 آذار يقضي بإجراء الاقتراع في دويلات الوسط حالا، وإذا ما جاء الاقتراع مؤيدا لفكرة الانضمام فسيعقبه توا انتخاب النواب إلى البرلمان الإيطالي.
ورأى الإمبراطور حينئذ بأن معارضة إجراء استفتاء عام لا تجدي نفعا، وكانت اعتراضاته الأخيرة ترمي قبل كل شيء إلى تأمين الحصول على صافويه ونيس، وقد وعد رسل وزير الخارجية الإنجليزية بأن يستشير الدول العظمى قبل أخذه الإيالتين «صافويه ونيس»، وتعهد بأن يجري فيهما استفتاء شعبي باقتراع عام، وكان أشد ما يخشى أن تبذل حكومة تورينو جهدها ليأتي الاقتراع ضد الانفصال عن بيمونته ولا سيما لأن كافور وعد بألا يتخلى عن الإيالتين إذا اقترعتا لبيمونته.
وعليه فإن الإمبراطور أصر على بيمونته بأن توقع معاهدة سرية قبل الشروع بالاقتراع العام في إيطالية الوسطى، تتعهد فيها التخلي عن صافويه ونيس فلم يسع كافور أن يرفض هذا الطلب، ولا سيما لأنه كان يعلم بأن المعاهدة السرية لا قيمة لها من الوجهة الدستورية، ومع هذا فإنه أراد أن يساعد نابليون في كفاحه للاحتفاظ بعرشه في فرنسة، ولعله شعر بأن التخلي عن الإيالتين من شأنه أن يجعل إيطالية في حل من تعهداتها تجاه فرنسة، ويجعلها مستقلة أدبيا ويمهد لها الطريق نحو إيطالية الجنوبية، وقد وقع على المعاهدة الخفية في 12 آذار.
بيد أن الإمبراطور طالب بمعاهدة علنية ليسكن بها الاستياء المتزايد في فرنسة، وأرسل مندوبه بنديتي إلى تورينو لهذه الغاية، وقيل إن كافور رفض إذ ذاك التوقيع لو لم يهدده بنديتي باحتلال بولونيه وفلورنسة من قبل القوات الفرنسية التي لا تزال في لمبارديه.
وكانت تلك الساعة أشق ساعة في حياة كافور العامة؛ إذ وقع فيها على المعاهدة العلنية في 24 آذار وقلبه يحترق ألما، وجاءت نتائج الاقتراع العام الذي جرى بين 11 و12 آذار فوزا مبينا لفكرة الانضمام، وكانت الإرادة الملكية تقضي بأن يمنح حق الاقتراع لكل ذكر بلغ سن الرشد، وكان على المصوت أن يختار بين الانضمام إلى بيمونته وبين قيام مملكة منفصلة فاقترعت دولة أميلية لفكرة الانضمام بما يكاد يكون إجماعا، أما في طوسكانه فقد استطاع أنصار الحكم الذاتي أن ينالوا خمسة عشر ألف صوت ونال أنصار الانضمام 386000 صوت.
وقبل انقضاء خمسة عشر يوما صدرت الإرادات الملكية بإعلان إميلية وطوسكانه جزءا لا يتجزأ من المملكة الحديثة، ثم جرت الانتخابات في اليوم التالي واجتمع البرلمان الإيطالي في 2 نيسان في تورينو، وقد تألف من النواب البيمونتيين واللمبارديين والطوسكانيين وأهل الروماني لتدشين المملكة الجديدة التي استطاعوا بثباتهم وصبرهم تكوينها، وبذلك زاد عدد نفوس المملكة الصغيرة من خمسة ملايين إلى أحد عشر مليونا رغم خسارتها 700000 نسمة في صافويه ونيس، وأصبحت نفوس تلك المملكة تقارب نصف عدد نفوس شبه الجزيرة.
ومع أنه ظل شبح نيس يخيم على المجلس النيابي إلا أن نشوة الفوز التي ولدها النصر الباهر تغلبت على ما ولده الشبح من كآبة، حقا لقد كانت نتيجة الانتخابات فوزا عظيما لكافور، وقد امتنع أكثر الإكليريكيين عن التصويت فلم يؤلفوا بعد ذلك حزبا سياسيا، أما الدموقراطيون فلم يفوزوا كما كانوا يأملون، والتف خمسون نائبا حول رتازي، وبهذا تأكد كافور من أن ثلثي أعضاء المجلس يسيرون وراءه بإخلاص.
لما وجدت المذاكرة بشأن التخلي عن صافويه ونيس في المجلس ثارت عاصفة عنيفة من السخط فيه، ولاح للمرء أن البرلمان قد يدشن أعمال المملكة الجديدة بإسقاط الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يدير دفتها، وحاول غاريبالدي أن يربك الموقف في موجة من الغضب استولت عليه، إلا أن المجلس منح الثقة للحكومة وجرى الاقتراع العام في صافويه ونيس في 15 و22 نيسان وجاءت نتائجه بجانب فكرة الانضمام لفرنسة، بيد أن عدد الذين اشتركوا بالاقتراع لم يدل أبدا على رغبات الأهلين الحقيقية.
وإذا كان أهل صافويه يميلون إلى الانضمام إلى فرنسة لأسباب عرقية واقتصادية فإن أهل نيس كانوا ضد الانفصال عن بيمونته، وقد اشتركوا في حركات إيطالية القومية، وكانوا إيطاليين لحما ودما، وقد بذلوا جهدهم للتخلص من المصير الذي فرض عليهم، ولما جرت المذاكرة على المعاهدات في المجلس كان غاريبالدي قد سافر إلى الجنوب، وكان على وشك أن يقاتل في صقلية فأسكتت قضية إيطالية الجنوبية كل شيء وكبحت جواب المعارضة.
الفصل التاسع والعشرون
أنصار الوحدة
كانون الثاني-آذار1860
أدركت الجماعات القومية بأن العمل لما يتم، وأن ضم إيطالية الوسطى لم يكن سوى الخطوة الأولى، وأنه ما لم تنضم إيطالية الجنوبية وفنيسيه وما بقي من ممتلكات البابا إلى المملكة الجديدة فلن تهدأ الأحوال، وإذا هدأت فلمدة قصيرة فقط، ولم تختلف هذه الجماعات فيما بينها إلا على الوقت الذي ينبغي أن يتخذ فيه التدبير الأول وعلى كيفية هذا التدبير، فمازيني كان مقتنعا بأنه لا يمكن أن ينتظر من كافور بأن يبدأ بالسعي؛ فلذلك استمر على العمل الذي توقف حينما استدعى غاريبالدي إلى الروماني، وكانت خطته لا تتخلف عن سابقها وهي إعداد العدة لإيقاد الثورة في صقلية وأومبريه في آن واحد وتوجيه قوى الثورة نحو نابولي ، وإذا ما بدأت الثورة فإن الرأي العام كفيل بإجبار حكومة بيمونته على مد يد المعونة إليها.
وكان كريسبي أحد زملائه الأشداء قد أسعر ثورة في صقلية في كانون الأول وأمال إلى جانبه فاريني ولعله أقنع رتازي بتقديم مساعدة الحكومة للحركة، وكان مازيني وكريسبي يسعيان لكسب غاريبالدي حتى يصبح قائدا لحركتها، أما العقلاء من الحزب المتطرف مثل مدويجي وبرتاني فكانوا يخشون أن تنتهي الحركة بالفشل كما انتهت مشاريع مازيني المشئومة؛ ولذلك اشترطوا بأن يتسلم غاريبالدي زمام الثورة وكانوا يرغبون من صميم قلوبهم بأن يتم التفاهم بين كافور وغاريبالدي.
أما كافور فقد اشتدت عزيمته للظفر بالوحدة وهو الذي قال بعد معاهدة فيلافرنكة: «إنهم منعوني من تكوين إيطالية بالسياسة بادئا من الشمال، فسأخلقها بالثورة بادئا من الجنوب.» وكان أحيانا يرى بأن على الجنوب أن ينتظر وأنه يحسن بأن تبدأ الحركة أولا بالهجوم على فنيسيه، ومهما يكن الرأي فإنه عزم بكل قوته على تنفيذ منهج الوحدة بأجمعه عاجلا أو آجلا، وقد كتب دازجيلو يقول: «لقد أصبحت الوحدة منارنا.» وكان الملك جزوعا أيضا ولم يكن أي اختلاف بين كافور ومازيني وريكاسولي وغاريبالدي والملك فيما يتعلق بضرورة السير إلى الأمام، وإنما كانوا يختلفون في الهدف الأول: أيكون فنيسيه وممتلكات البابا أم الجنوب.
وكانت فنيسيه توشك أن تفقد رجاءها بعد معاهدة فيلافرنكة وأخذ أهلها يفرون بالآلاف مجتازين الحدود؛ للانخراط في سلك الجيش الإيطالي، أو لتدبير المؤامرات في مودينه أو ميلانو، ولما فازت القضية القومية في إيطالية الوسطى تنفست الإيالة الصعداء وامتدت شبكة من الجمعيات السرية في جميع أنحائها، وقد شجع اضطهاد الحكومة النمسوية والضرائب الباهظة على الثورة، فأخذ كافور يقرع آذان العالم الأوروبي بالحديث عن الآلام التي تكابدها فنيسيه.
وكانت الحركة قومية لا بابوية بطبيعة الحال، ومن شأنها أن تؤدي عاجلا أو آجلا إلى انهيار السلطة الزمنية للبابا، وقد شرع كافور حملته بالقيام بالإصلاحات في جميع الإيالات المحررة، فاشترع فيها نظام النكاح المدني وألغى فيها الأديرة، ولعل الإصلاحات سارت فيها شوطا بعيدا لم تبلغه بيمونته، فطرد اليسوعيون من جميع الأنحاء وأصبحت أملاكهم ملكا للأمة، وألغيت الاتفاقية الدينية في لمبارديه وتمتع الناس بحرية العبادة.
أما في بودينه وبارمه فنفدت قوانين سكاردي وأباح جيرباني في الروماني التعبد ومنع الإكليروس من مراقبة التعليم والأمور الخيرية، أما في طوسكانه فألغى ريكاسولي وصالفا جنولي الاتفاقية الدينية وأعاد قوانين لئويولد، ولبى رهبان لمبارديه الذين يفوقون جميع زملائهم في إيطالية بالوطنية أوامر حكومة بيمونته وتحرر رهبان طوسكانه من نير الاتفاقية التي فرضت عليهم الخضوع للأساقفة، أما الإكليروس الفقير فتلقى التشريع الذي يزيد في وارداته الضئيلة بسرور وارتياح.
أما روما فلم تلق فيها الدعوة إلى المصالحة والسلم آذانا صاغية، وإذا كان بعض الرهبان الأحرار يرضون عن المبادئ الواردة في رسالة «البابا والمؤتمر»، ويوافقون على أن تتقلص ممتلكات الحكومة؛ فإن أكثر أنصار البابا كانوا يعتبرون حقوق البابا مقدسة لا يجوز مسها، وأن التخلي عن الروماني معناه الاعتراف بالتخلي عن الإيالات الأخرى أيضا، وكان البابا منذ مدة طويلة قد حرم جميع الذين اشتركوا بالثورة، وحكم بكفر دازجيلو؛ لأنه قال لأهل بولونيه: «خلق الله الإنسان حرا في آرائه الدينية والسياسية.»
وقد صب أنصار البابا كل سخطهم على بيمونته وكانوا يعتبرون بيمونته مرادفة للثورة فهما شيء واحد، وفي شهر تشرين الأول سلمت الحكومة البابوية الممثل البيمونتي في روما جواز سفره، ثم رفض البابا بعد ذلك كل سعي في التفاهم وكان أنتونللي يعتمد قبل كل شيء على الجيش، ولكنه كان لا يستطيع أن يركن أبدا إلى الجنود من الأهليين؛ لأنهم كانوا يجندون من سقط المتاع. وعليه، فقد وجه نداء إلى أوروبا الكاثوليكية يستمد منها فيه الجند والمال للدفاع عن العرش البابوي ضد الحملات الإلحادية، ومع أن الكاثوليك لم يجودوا بما لهم فقد تدفق المتطوعون من النمسة وسويسرة وبلجيكة وفرنسة وأيرلندة أفواجا للدفاع عن مصلحة الكنيسة ضد الإلحاد الثوري الذي يهدد أوروبا!
إن عملهم هذا لا يمكن تصويبه لأنهم قد أتوا لصيانة الفساد الذي لم يتحملوه هم في بلادهم، وجاءوا يقاومون الشعب المضطهد جد الاضطهاد، والذي يجاهد للحصول على حريته، وكان بينهم فتيان مثقفون من الشجعان الأتقياء الذين ينتمون إلى أشهر الأسر، وقد تركوا قصورهم الهادئة من بريطانية وبلجيكة وهرعوا للدفاع عن قضية لا يليق بهم أبدا أن يضحوا بأنفسهم لأجلها.
ولقد أصبح لدى أنتونللي في نهاية آذار خمسة عشر ألفا من المتطوعين ما عدا خمسة آلاف هم قوام الجيش البابوي المنظم، وإذا أضفنا إليهم الحامية الإفرنسية في روما، ونظرنا بعين الاعتبار إلى وجود جيش نابولي في الخط الثاني؛ أدركنا تحشيد قوة كافية في أومبريه والمارك للدفاع عنهما، وقد توقع أن يسترد بهذه القوات الروماني أيضا، واختار أنتونللي القائد الإفرنسي الجنرال «لاموسيير» قائدا للقوات وكان هذا القائد قد ترك فرنسة على إثر الانقلاب الحكومي فيها، وأصبح الآن البطل المكافح عن البابوية.
وصمم القوميون على أن لا يتركوا أومبريه والمارك رغم خصومة العالم الكاثوليكي ونقمته وهم لم ينسوا حادثة بيروزه الفظيعة، أما الحكومة البيمونتية فقابلت أعمال أنتونللي بإنزال الضربة على الأساقفة المعارضين، وتهدد قسم كبير من البيمونتيين بعدم حضور القداس.
وأما الأحرار الكاثوليك المتدينون الذين كانوا يدركون الخطر؛ فكانوا يرون أن الدواء في انهيار السلطة الزمنية، فلا توجد - في نظرهم - أية مغالطة تستطيع أن تخفي بطلان الأسباب التي يستند إليها في إثبات مشروعية استقلال البابا بينما يقوم عرشه على حراب فرنسة، وبينما هو نفسه يستند إلى النمسة لحمايته الخاصة ضد رعيته.
وأخذ الناس يشعرون بأن البابا لا يريد الإصلاح ولا يستطيع أن يعمل به، ولن يرضى بقيام المؤسسات التمثيلية ولا بحرية الصحافة ولا بالمدارس العلمانية ولا بالمساواة بين الإكليروس والمدنيين أمام القانون، وأدرك القوميون في إيطالية بأنه ما دامت روما تغدو عشا للدسائس للأمراء المخلوعين؛ فإن أنتونللي لا بد من أن يسعى لجر الإكليروس إلى مؤامرة واسعة النطاق ضد حرية إيطالية واستقلالها، وبذلك تكون السلطة الزمنية خطرا دائما على المملكة الجديدة، فما لم يسرح البابا متطوعة، وما لم تصبح روما عاصمة إيطالية فإن خطر الحرب الأهلية التي يثيرها التعصب الديني متوقع في كل لحظة.
ولم يكن هدف القوميين في ذلك الحين يتعدى الاستيلاء على أومبريه والمارك، ولم يفكر أحد بالاصطدام بالحامية الإفرنسية المرابطة في روما إلا بعض المتطرفين، وكانت أكثرية الرعية البابوية تنتظر التخلص من حكومة البابا بفارغ الصبر، ولم يكن القوميون في الخارج أقل تلهفا على إنقاذ مواطنيهم وقد سخط المعتدلون من أمثال كانوثي ودازجيلو سخطا عظيما من هذا النوع الجديد من التدخل في الشئون الإيطالية من قبل جماهير الأفاقين من متعصبة الكاثوليك، وقد قال ريكاسولي: «إننا إذا هوجمنا سنعرف كيف ندافع عن أنفسنا، ونغدو بعد ذلك مهاجمين.»
واتصل باللجان الوطنية في أومبريه اتصالا وثيقا حاثا إياها على التأهب للثورة؛ طالما توعز الحكومة بإسعار نارها.
وفي 7 شباط كتب فكتور عمانوئيل إلى البابا كتابا طلب إليه فيه أن يمنحه سلطة الحكم ليس على الروماني فحسب، بل على الإيالتين الأخريين نيابة عنه، مؤكدا له في الوقت نفسه إخلاصه للكنيسة، بيد أن هذا النداء لم يلق أذنا صاغية لدى البابا، ومع أن الملك بعد الاقتراح كتب مرة للبابا عارضا عليه - لمصلحة السلم - الاعتراف بسيادة البابا الاسمية على الروماني من دون أن يذكر الإيالتين الأخريين؛ فإن أنتونللي رفض كل مفاوضة رفضا باتا، وكان كافور وحده - من دون الجميع - يتوقع بعض الخير من هذه المفاوضات.
وقبل أن يصل رفض أنتونللي البات كان قد سعى لحمل نابليون على الاستعجال في سحب جنوده، والآن بعد أن امتنع البابا عن القيام بأي إصلاحات؛ فإن الإمبراطور لم يرض أن تصبح روما عشا للدسائس؛ فلذلك اتخذ تدابير شديدة ضد الصحافة الكاثوليكية الإفرنسية، وتهدد البابا بسحب جنوده إذا هو لم يقبل نصائحه.
واقترح في شهر نيسان بتبديل جنوده بجنود نابليون، ولما رفض الملك نابولي هذا الاقتراح؛ خشية أن يؤدي إلى حرب بيمونتي ونابولي؛ عاد الإمبراطور فاقترح تأليف جيش أهلي يكفي للدفاع، وأغرى البابا بقبول الفكرة بقوله بوجوب دفع الدول الكاثوليكية نفقات هذا الجيش للبابوية، وحينئذ ينسحب الإفرنسيون.
وما أسرع ما يقبل أنتونللي الذي كان يكره الحماية الإفرنسية هذا التكليف بشوق ورغبة، وقد وافقت النمسة ونابولي وإسبانية على الاقتراح، وكان البابا والقائد لامارسيلير يرغبان في الاحتفاظ بالإفرنسيين في روما وترك الكتائب الأهلية والمتطوعين طليقي اليد في الحركة ضد الروماني، ولكن ممثل الإمبراطور في روما توفق إلى عقد اتفاقية تضمن انسحاب الإفرنسيين في 1 تموز، ثم حدثت حوادث حالت دون تنفيذ هذه الاتفاقية.
ذلك أن غاريبالدي نزل إلى مرسالة وزبيانكي في اليوم السابق لليوم الذي وقع فيه على المعاهدة وتأهب لاجتياز حدود الأراضي البابوية، وحدثت في صقلية مأساة فاجعة أنست الناس في هذه الساعة القضية الرومانية، وتفصيل ذلك فيما يلي:
كان استبداد حكومة نابولي في صقلية والكراهية المستحوذة على العموم ضد آل بوربون وثورات الصقليين التقليدية؛ عوامل فعالة في توجيه نظر القوميين منذ سنوات مديدة نحو رسم خطة تستهدف إسعار لهيب الثورة في الجنوب، ولم يعتبر فرديناند من حوادث الزمن، وأخذ الخلل يزداد في الإدارة كلما شملت الآلام صحة الملك، وقد انتابه في آخر عمره مرض عضال ومات على إثره في 22 إيار 1859 فخلفه ابنه فرنسوا الثاني، فكان هذا الملك الفتى يجهل شئون الدولة كل الجهل؛ ولذلك استمر على سياسة أبيه الخارجية متمسكا بمعظم أسسها.
وتولى فيلانجيري رئاسة الوزارة ولو كان هذا طليق اليد لمنح الدستور، بيد أن قوى الكنيسة والجيش تألبت عليه لإحباط مشاريعه في بداية سنة 1860 فقدم استقالته وطالبت الحكومتان الإفرنسية والإنجليزية بالإصلاحات، ثم إن بروسية وروسية أيضا نصحتا الملك بالاعتدال خشية أن يوقد الاستبداد نار الثورة، فقامت الحكومة ببعض الإصلاحات الطفيفة، وشمل العفو العام المسجونين السياسيين، بيد أن الشرطة استمرت على قساوتها وسوء معاملاتها.
وأرادت فئة صغيرة من اللاجئين إنقاذ آل بوربون وحملها على حفظ مكانتها، كما أراد أشراف فلورنسة إنقاذ الدوق الكبير، فطلب هؤلاء إلى الملك تطبيق سياسة تقدمية حرة، وقد خيل لبعض أفراد قلائل منهم صيف سنة 1859 بأن الوحدة بين الشمال والجنوب ستدخل في دور سياسي عملي، ولإبعاد موراث عن العرش.
كانوا يريدون عن طيبة خاطر تمهيد السبيل لفرنسوا، وكان كافور رغبة في حشد ما يمكن حشده من القوات الإيطالية وإنزالها إلى الميدان؛ قد اقترح - قبل موت فرديناند وطالب بعد موته بإلحاح - عقد حلف هجومي ودفاعي عن مشاريعه ضد آل بوربون، ولكن فرنسوا كان لا يعبأ بالاستقلال الإيطالي، وقد أقصت عنه طائفة الحاشية في البلاط نفوذ فيلانجيري، حتى إنه سعى في الخريف إلى عقد حلف ضد بيمونته، ولولا معارضة نابليون الثالث لأرسل القوات لاسترداد الروماني لحساب البابا.
أما مشروع اللاجئين والحالة هذه فلم يظاهره إلا فئة قليلة في نابولي، ولم يكن في تلك المدينة إلا أشخاص قلائل يثقون بعض الثقة في الأسرة الممقوتة؛ فلذلك عارض أنصار موراث القوميون السياسة التي تستهدف تقوية نفوذ آل بوربون، وأصبح الجنوب بعد معاهدة فيلافرنكة من جديد في الصف الأول من طلاب الوحدة؛ إذ بذل أنصار الوحدة جهدهم في تقوية الفكرة القومية المترجرجة وتثبيتها وجعلها مرتبطة بهم بعد أن فقدوا نفوذهم في حادثة فيلافرنكة.
وقد كان إجماع أحزاب الشمال على ملكية بيمونته ووضع طوسكانه وإميليه ونفوذ غاريبالدي؛ من العوامل الفعالة التي حملت القوميين في الجنوب على الانضمام إلى صفوف أنصار الوحدة، وكان «فابريزي، وكادرويو» قد دبرا مؤامرة في صقلية وحث لافارينا المنتمين إلى الجمعية القومية في صقلية إلى الثورة بعد فيلافرنكة، ودخل كريسبي الذي كان لا يزال جمهوري المبدأ متنكرا وأخذ ينظم الجمعيات السرية لإشعال الثورة في تشرين الأول، بيد أن لافارينا غير خطته بعد ذلك وطلب إلى رجاله التريث ريثما تنضم إيطالية الوسطى.
وعلى الرغم من وعد غاريبالدي لكريسبي بأنه سينجده؛ فإن حركة العصيان قد فشلت ولم يحدث إلا تمرد جزئي بالقرب من باليرمو لكن كريسبي لم يقنط، ورغم فشله في الحصول على مساعدة رتازي؛ فإنه استعد لحركة جديدة في شهر نيسان المقبل، وقد شجعه كافور ورفقاؤه قليلا، وكان مازيني مختفيا في جنوة فاشترك في المؤامرة وطلب إلى غاريبالدي أن يترأس الثوار، إلا أن غاريبالدي لم يثق كثيرا في نجاح ثورة شعبية؛ لذلك اكتفى بالوعد بإعطاء السلاح على أن يرفع الثوار الراية الملكية.
وكان مازيني قد اختار «روزا ليوبيلو» الشريف الصقلي قائدا في حالة رفض غاريبالدي، فسافر بيلو بعد بضعة أيام مع رفيق واحد وقليل من المال ويحمل في قلبه الأمل السامي في تحرير صقلية، ولما نزل إلى الجزيرة بالقرب من سينا كانت الثورة قد نشبت، ودق ناقوس دير «ديللا جانسية» في بالرمو في صباح 4 نيسان الدقات التي تؤذن بنشوب الثورة.
ولما كانت الحكومة بالمرصاد فقد هاجم جنودها الدير ونهبوه واكتفت باليرمو بمظاهرات تافهة، أما الأطراف فلبت الدعوى وثارت، وكان يصعب على الثوار أن يقاوموا مدة طويلة؛ لذلك انقلب الجنود من متطوعة الألمان والسويسريين عليهم وانتقموا منهم شر انتقام، فغضب أكثرية لجنة جنوه على مازيني؛ لأنه لا يريد أن يتبع أي سياسة سوى سياسته، وعزمت على تسيير الأمور بنفسها وإجبار غاريبالدي على الوفاء بوعده، فوافق غاريبالدي - على كره منه - وطلب إلى الملك أن يضع تحت تصرفه لواء من الجيش الملكي؛ لأنه اقتنع بأنه لا يستطيع أن يقوم بعمل مؤثر إلا بمعاونة كافور.
وكانت أفعال كافور وأطواره في هذه الأزمنة متناقضة، ولكن سياسته في نهاية آذار أخذت تتجلى، ولا سيما بعد أن بلغه خبر الاقتراح القائل باحتلال الروماني من قبل الجنود النابوليين، وخشي أن تؤدي هذه الحركة إلى الاستيلاء على الروماني فعلا، فاعتزم حالا بأن يعتبرها عملا عدائيا.
وقد كانت سياسة كافور منذ أربع سنوات ترمي إلى منع أي حركة تسبب انشقاق القوميين واستغلال كل حركة من حركات الثورة، ولا بد من أنه علم بأن الثورة ستقع في صقلية؛ فلذلك قرر أن يغمض عينه عما يقع فيها وأن يدبر الحركة ولكن بصورة خفية؛ بحيث لا تتحمل الحكومة أية مسئولية، وأخذ يفتش عن قائد يترأس الحركة ولما لم ينجح وعلم بنبأ مراجعة غاريبالدي الملك نسي الهجمات العنيفة التي وجهها إليه يومئذ وأدرك بأنه الرجل الوحيد الذي يستطيع أن يخرج من هذه الحركة ظافرا، فأخبر لافارينا بأنه سوف يمنح غاريبالدي كل المساعدة وسوف يجهزه بالبنادق المخزونة في مخازن الجمعية القومية، ووافق على أن يستعمل غاريبالدي البنادق التي اشتريت في ميلانو بالمبالغ المجموعة بالاكتتاب.
وكان غاريبالدي حينئذ على الساحل قريبا من جنوة، وكان يميل إلى الذهاب إلى نيسي سرا ؛ للشروع في مقاومة يائسة ضد الإفرنسيين، ولكنه حين اتصلت الأخبار السيئة عن أحوال صقلية تردد في الأمر، وتلقى كافور خبرا من مندوبه فيلا مارينا بأن الثورة تبشر في النجاح في صقلية، وكان يعلم بأن النمسة لن تتدخل، وقد طمأنه لافارينا من ناحية إخلاص غاريبالدي للعرش.
ولما جست جنوة نبضه في 23 نيسان قوي أملها - على ما يظهر - بأنه سوف يساعدها، وبينما كان كافور يتردد في الأمر كان غاريبالدي يضطرب من التردد ويلوح له بأن واجبه الذهاب إلى المحل الذي يقاتل فيه الطليان مضطهديهم ولكن وضع كافور يفزعه، ولما وصلت البرقية التي زورها كريسبي تحمل أخبارا سارة عن صقلية؛ زال تردده وأعلن عزمه على الحركة حالما يتمكن.
أما كافور فكان في رأي آخر؛ إذ أصبح يعتقد بأن إرسال قوة إلى الجزيرة إنما هو طيش وجنون ... فالأسئلة أخذت تتوالى من الحكومات الأجنبية تسأل عن هذه الاستعدادات التي تجري في جنوة، وكان كافور قد قال للسفير الإفرنسي بأن الحكومة صرفت النظر عن الحركة، وفي هذه الساعة وصل إليه نبأ عزم غاريبالدي على السفر فأوشك أن يضيع رشده، وأسرع إلى بولونيه يطلب إلى الملك القبض على غاريبالدي، أما الملك فلم يلب طلبه فأدرك كافور استحالة الوقوف دون الحركة؛ بسبب هياج الرأي العام فعزم على أن يهيئ كل ما يقتضي سوقه من القوات لإنجاح الحركة.
وذهب لافارينا إلى جنوة لتسليم بنادق الجمعية الوطنية ولكن لأسباب مجهولة لم يستلم غاريبالدي إلا بعضها، وأرسلت التعليمات إلى السلطات الجمركية في جنوة لتغمض عينها عن مرور الأسلحة، وكان «برسانو» الأميرال البيمونتي قد تلقى أمرا بتوقيف القوة البحرية التي يقودها غاريبالدي إذا رست في ميناء سارديني؛ لأنه كان يعلم بأن كافور إنما كان يرمي بذلك الأمر ذر الرماد في العيون؛ فلذلك رأى سفينتي غاريبالدي تمخران البحر من دون أن يقلقهما.
الفصل الثلاثون
غاريبالدي في صقلية
أيار-آب 1860
في اليوم الخامس من أيار تركت الحملة الصغيرة جنوة فوق باخرتين وقد طلب الالتحاق بها كثيرون؛ إذ إن لجنة جنوة التي يرأسها برتاني وسمعة غاريبالدي؛ قد جذبتا المتطوعين من جميع أنحاء إيطالية، ولقي غاريبالدي صعوبة عظيمة في تقليل عددهم إلى ألف رجل ونيف؛ ليستطيع أن يأخذهم معه على الباخرتين، وكان معظم هؤلاء من إيطاليي الشمال، فكان بين ألف وسبعين من ذوي القمصان الحمراء ثمانمائة وخمسون من أهل لمبارديه وإميلية وفنيسيه، وكانت هذه العصبة تتألف من خليط من الوطنيين القوميين والمغامرين الذين تربطهم بغاريبالدي رابطة الإخلاص له والشجاعة الفائقة.
وكان شرف تهيئة هذه الحملة يعود إلى إقدام لجنة جنوة وليبرتاني وكريسبي ومازيني الذين استطاعوا بإيمانهم القوي أن يتغلبوا على تردد غاريبالدي، وأن يجبروا الملك وكافور على السير وراءهم، وكان إعداد الحملة يومئذ تدبيرا محفوفا بالمخاطر لا يقدم عليه إلا الشجعان المغامرون، وكان لآل بوربون في صقلية ثلاثة وعشرون ألفا من الجند ومائة ألف وغيرهم في القارة مع مدفعية قوية وقلاع يكاد يتعذر اقتحامها.
ولعلنا لا نجد في أوروبا كلها رجلا - ما عدا غاريبالدي - يستطيع بهذه النواة الصغيرة ومن دون مساعدة، وفي هذه الظروف أن يقاتل وأن ينتصر على قوات فائقة ساحقة، حقا لقد خلقت سفرة الألف إيطاليا خلقا جديدا، لقد توجهت السفينتان نحو الجنوب سالكتين طريق الساحل ترمقهما أنظار جميع الإيطاليين وتتجه نحوهما أفئدة الأمة في قلق عظيم؛ ذلك لأن القوة لم تأخذ معها ما يكفي من العتاد لسلاحها لأسباب لعل باعثها الخيانة حتى لتكاد الحملة تصبح بلا سلاح.
وقد أمر غاريبالدي رجاله بالوقوف في الميناء الطوسكاني الصغير «بالامونه»؛ ليتلافى فيها النقص في العتاد أولا إذا استحصل على ما يحتاج إليه من العتاد وثلاثة مدافع، وأراد بالوقوف ثانية أن يلبي رغبة مازيني ورفقائه في إرسال قوة إلى الممتلكات البابوية في الوقت الذي تذهب فيه الحملة إلى صقلية، وكان يتوقع بهذه الحركات أن يلفت أنظار عدوه إلى هذه الناحية ويخفي الهدف الأصلي الذي استهدفه من رحلته.
وقد نزل إلى
طوسكانه وأن يتحرك كوزنسي ومديجي من جنوة بعده بقوات كبيرة، ومع أن غاريبالدي كان يجهل - بلا شك - خبر المفاوضات التي كانت تجرى لإخلاء الإفرنسيين ممتلكات البابا فإنه - لا بد - أدرك المكاره التي ولدها للحكومة بحركته هذه، وكان من جراء تصلب مازيني في مغامرته الجديدة ومساعدة غاريبالدي له أن تأجل إخلاء الحامية الإفرنسية للممتلكات البابوية، واضطرت إيطالية أن تنتظر عشر سنوات أخرى لإنقاذ روما.
وما كاد خبر إنزال القوة يصل إلى كافور حتى أرسل أوامر شديدة إلى ريكاسولي يأمر فيها بأن يحول دون خرق حياد الأراضي البابوية، بيد أن الشعب كان متحمسا للحركة فاجتاز زمبيانكي الحدود في 20 أيار، ولكن قوات البابا هاجمته وأرجعته إلى أرض طوسكانه؛ حيث جرده ريكامبولي من السلاح وأوقف جماعته.
ووصل غاريبالدي إلى مارسالة في 11 أيار، وقد استطاع أن يتملص من السفن الحربية النابولية عرض البحر، ولكنه ما لبث أن اقترب من الساحل حتى شاهدته طرادتان تعقبتاه على مقربة منه حتى دخوله الميناء، ولو استطاعت الطرادتان أن تحسنا صب نيرانهما وتوجيهها لما استطاع نصف الحملة النزول إلى البر.
وبينما كان يتقدم غاريبالدي نحو باليرمو كان «لاماسا» يبذر بذور الثورة في الأنحاء الريفية وأخذ رجال «السكوادرة» الباقون من ثوار ديللا جانسية يصلون إليه زمرا، وفي اليوم الخامس عشر من أيار قابل غاريبالدي في منتصف الطريق القوات النابولية التي احتلت قبل ذلك موضعا منيعا، وكان معه ثمانمائة رجل من أتباعه وألف وخمسمائة من عصابة السكوادرة الذين يعوزهم السلاح وينقصهم الضبط، بينما كانت قوة عدوه تبلغ ثلاثة آلاف وخمسمائة جندي كامل العدة جيد الضبط، ومع ذلك فقد تغلبت شجاعة الوطنيين على كثرة الجند النابولي.
وبعد قتال عنيف استمر عدة أيام استولى غاريبالدي على موضع العدو الذي كان يدافع عن باليرمو، إلا أن الموقف كان لا يزال حرجا للغاية رغم تحرر وسط الجزيرة وإرسال نجدة مؤلفة من خمسة آلاف رجل إليه، لم يكونوا سوى عصابات ينقصها النظام وينتابها الذعر بسهولة، ولا يزال ينتظره في باليرمو عشرون ألفا من الجيش النابولي النظامي.
وكان تفوق القوات الملكية من حيث العدد والسلاح والضبط حتى إنها لتستطيع بقيادة أي قائد أن تسحق عصابة الأبطال الصغيرة هذه دون عناء، وأدرك غاريبالدي بأن مخرجه الوحيد من هذا المأزق هو القيام بحركة جريئة فذة تتغلب على القوات المتفوقة، ولما لم يجرؤ على مهاجمة المدينة قام بحركة التفاف ووصل بعد مسير يومين على قوس طويل في الجبال إلى ميسلميري الواقعة جنوب شرقي المدينة، بينما كان عدوه يسير في رتلين نحو الجنوب باتجاه خاطئ. وكانت خطة غاريبالدي ترمي إلى مهاجمة المدينة ليلا؛ يقينا منه أنه إذا ما دخل المدينة فستصبح الدور معاقل له، وتسرع الجماهير لمساعدته.
ولما فشلت خطته في ضبط المدينة بغتة بسبب ذعر جماعة السكوادرة؛ شرع بالهجوم فورا واستولى على ميناء ترميني في صباح 27 أيار، وأخذت نواقيس الكنائس تدق داعية الناس إلى القتال، وأخذ الشعب يتحرك ويثور، واستطاع غاريبالدي بذلك أن يحتل المدينة خطوة بعد خطوة إلى أن أقصى جنود نابولي، الذين لجئوا إلى قلعة «كاستل مارة» وما جوارها وإلى بعض المباني المنفردة في أطراف القصر، وكانت مذبحة هائلة وصفها أحد الحاضرين بقوله: «لقد ضبط كل ما بقي تحت وابل مدرار من القنابل واستولى على كل قدم من الأرض في لظى اللهيب المتأجج وطقطقة الدور المتداعية وعويل المصابين، الذين ينشدون الإفلات من الأنقاض، وصيحات الضحايا الذين ذبحهم الجنود الضواري حين لاذوا بالفرار.»
وانقطع القصف صباح 29 أيار لمساعدة الحامية على القيام بحركة خروج، بيد أن الهجوم الذي قام به الجند توقف أمام المتاريس، ووهنت عزيمة قائد الحامية وفقد شجاعته، وبعد قتال استمر أربعة أيام طلب قائد الحامية إلى قائد الأسطول البريطاني الراسي في الميناء المتوسط، وتلقى غاريبالدي طلب إيقاف القتال تمهيدا للهدنة بلهفة ووافق على مهلة أربعة وعشرين ساعة، ولما انقضت هذه المدة طلب قائد الجنود تمديدها للاتصال بنابولي، ولما علم الملك بأن سبيله الوحيد إنما هو التفاهم مع إنجلترة وفرنسة أرسل أمرا بإخلاء المدينة، وفي 20 حزيران ركب آخر جندي السفينة مغادرا الجزيرة، وقد انتشرت الثورة في الجزيرة كلها قبل ذلك التاريخ.
وبحركة غاريبالدي هذه تحررت الجزيرة من الحكومة ما عدا مسينة وسيراكوزة اللتين كانتا تخافان القصف من قبل الأسطول النابولي، وقلعة ميلانو وأوجوستة.
إن هذه الحركة ترينا كيف تغلب ألف رجل على أربعة وعشرين ألفا من الجنود في شهر واحد، واستولوا على جزيرة يبلغ عدد نفوسها مليونين.
وانهار في الجزيرة ذلك الاستبداد الذي يكمن الشر والفساد في طياته، وكان تأسيس حكومة تحل محل ذلك الاستبداد من أشق الصعوبات؛ ذلك لأن الصقليين رغم كونهم استقبلوا الثورة بكل جوارحهم وبترحيب قلبي عظيم، حتى إن الإكليروس نفسه انضم إلى القضية العامة، وتجول الرهبان والخوارنة في الجزيرة يبشرون بالحرب المقدسة، لم يكونوا على استعداد لتقديم تضحيات، وحسبهم أن جزيرتهم تحررت وأنهم تخلصوا من النابوليين البغيضين.
أما الوحدة الإيطالية فلا تهمهم كثيرا، وقد وقف الأغنياء الأنانيون موقف المتفرج، تملأ نفوسهم الريبة من حاشية غاريبالدي، وفشل مشروع التجنيد الذي رسمه غاريبالدي أمام مقاومة الشعب السلبية، ولم يجتمع لديه سوى ألف من المتطوعين.
وأخذ جماعة السكواردة يطالبون برواتبهم صاخبين، فاضطر غاريبالدي إلى تسريحهم وإعادة تنظيمهم، وكانت الحكومة المركزية عاجزة كل العجز، وكانت توجد عناصر خطيرة في باليرمو نفسها، وقد فتحت أبواب السجون أيام القتال، وأخذ المجرمون يتجولون في الطرقات ويتهددون خصومهم الشخصيين، ولم ينقذ صقلية من فوضى الجرائم التي تعقب الثورات إلا سمعة الدكتاتور المطلق التصرف وحدها.
حقا لقد عجز الدموقراطيون عن تأسيس حكومة في الجزيرة، وكان كريسبي الذي أصبح الرئيس الحقيقي في الحكومة لا يزال يجهل قيادة الناس، لقد كان عنيدا نشيطا ولكن لم يكن محبوبا من الناس إلا قليلا، وكان من الرجال الذين يستطيعون أن ينجزوا عملا كثيرا، وربما كان الشيء الكثير أقرب إلى الإساءة منه إلى الصلاح، وقد فشلت مساعيه في تأسيس حكومة من الهواة.
وعلى الرغم من أن الشعب أظهر كل احترام ومحبة نحو غاريبالدي فإنه لم يقدم على تأدية الضرائب، وأصبح غاريبالدي دكتاتورا بالاسم وألعوبة بيد الرجال الذين اعتمد عليهم، واكتفى بالتوقيع على الأوراق التي يضعها كريسبي أمامه، وأخذ كريسبي يغمر البلاد بقوانين جديدة زادت في الارتباك، فسدت المحاكم أبوابها أو كادت بعد أن أقصي القضاة من مناصبهم ، وأحدثت أخبار الفوضى في الجزيرة قلقا عظيما في نفس كافور.
وقد هبت العاصفة السياسية الأوروبية إلا أنها لم تكن مخيفة كما توقع كافور أن تكون؛ إذ اقتصر الأمر على إنذار من روسيا تقول فيه إن موقعها الجغرافي وحده هو الذي حال دون تدخلها، أما إنجلترة فكانت كثيرة العطف على الحركة وأما فرنسة فقبلت اعتذار كافور بكون الحكومة لا تستطيع أن تحول دون حركة غاريبالدي من دون أن تعرض للخطر الشديد؛ فلذلك قرر كافور - بعد قليل من التردد - تسهيل سفر النجدات الخصوصية.
وقد توقع أن يعبر غاريبالدي بعد بضعة أيام إلى كلبريه، فوافق في نهاية شهر حزيران على تجهيز النجدات المرسلة إلى غاريبالدي بالسلاح المخزون في دار صناعة الحكومة في جنوة، ومع ذلك فإن كافور ظل مترددا بين إسداء المعونة إلى حدها الأقصى والسير إلى آخر الشوط، والتملص من تبعة الحركة بتضحية غاريبالدي إذا اقتضت مصلحة الحكومة ذلك، أما فيما يتعلق بالاعتداء على ممتلكات البابا فإنه كان يرغب في عدم التدخل؛ ولذلك أقنع مديجي وكوسن بالكف عن نياتهما بشأن أومبريه على الرغم من أوامر غاريبالدي لهما وسوقهما النجدات إلى صقلية.
وأدرك كافور أن الحركة الديموقراطية المعادية للملكية البيمونتية قد تفرق صفوف القوميين وتؤدي إلى حرب أهلية، وقد ينحرف الناس في تيار الجمهورية، فعقد النية على توقيف تلك الحركة في بدئها، وأوفد لافارينا إلى باليرمو لكي يقوي غاريبالدي ضد النفوذ الديموقراطي، ويتولى تنظيم شئون الحكومة ويعمل في الانضمام.
وكان كريسبي في باليرمو وبرتاني في جنوة يبذلان جهدهما ليحولا دون الانضمام المطلق، أما غاريبالدي فكان يعتقد بأن إيطالية تحتاج إلى دكتاتور نزيه ولو إلى حين، ولاح له أن يؤجل أمر الانضمام ريثما يكمل مهمته، وأخذ يقتنع بأن السياسة الخارجية قد تتدخل فيما إذا استلم فيكتور عمانوئيل حكومة الجزيرة وقد تمنعه من العبور إلى القارة لإكمال مهمته في توحيد إيطالية.
أما كافور فلم تكن نفسه تتوق لضم الجزيرة فحسب بل بضم نابولي أيضا حالما تسنح الفرصة، ومما يؤسف له أن اختيار لافارينا للمهمة التي أنيطت به لم يكن موفقا؛ ذلك لأنه كان عدوا شخصيا لكريسبي وكان الحزب الديموقراطي يكرهه، وكان من السهل إقناع غاريبالدي الدكتاتور بأن الرجل الذي وقع على وثيقة التخلي عن نيس مسقط رأس غاريبالدي لا يمكن أن يكون صديقا له.
وقد كان أول عمل قام به لافارينا أن هاجم حكومة كريسبي بشدة ونشب الجدال بينهما، وبذلك سيطرت الحزازات الشخصية، وعبثا حاول غاريبالدي الاحتفاظ بصاحبه واضطر أخيرا إلى إقصاء كريسبي بعد أن رأى مناصرة الرأي العام لفارينا، بيد أن كريسبي ظل الرجل المسموع الكلمة لدى الدكتاتور؛ ولذلك امتنع غاريبالدي عن الموافقة على الانضمام مع أنه سبق فأراد الحركة نحو روما؛ ليستولي عليها ويجعلها عاصمة إيطالية الموحدة وأخيرا أبعد لافارينا من الجزيرة.
فغضب كافور لهذا العمل غضبا شديدا وأنذر غاريبالدي في أواخر حزيران بمنع سفر النجدات فيما إذا ظل كريسبي الدموقراطي المفرط وكيلا له، ولم يكد لافارينا يرجع إلى تورينو حتى منع المخازن من تقديم التجهيزات الحكومية إلى غاريبالدي، على أن كافور لم يكن شديد الرغبة في معاكسة غاريبالدي أملا في الاستفادة منه، فأوفد «ديبرتيس» بعد أن استطلع رأي غاريبالدي فوافق عليه لأن ديبرتيس كان قد استقال محتجا على التخلي عن نيس، وقد نجح ديبرتيس بالقيام بإصلاحات عظيمة في الإدارة وخطا نحو الوحدة في إدخاله القوانين البيمونتية إلى الجزيرة خطوات واسعة، وأراد كافور أن يتعاون ديبرتيس مع كريسبي، ولما عاد هذا للعمل اشترط بأن لا يبحث في الإلحاق ما لم تتحرر نابولي.
وتقصير كافور هنا أنه لم يعمل بعزم، فلو أمر بإجراء الاقتراع العام في الجزيرة للانضمام أو ضده لوفر على إيطالية كثيرا من الجهود والمتاعب ولتقبلت أكثرية الجزيرة هذا الطلب بارتياح، بيد أن مثل هذه السياسة الجريئة كانت تتطلب رجلا أكثر عزما من ديبرتيس.
وبث نجاح غاريبالدي الفرح في جميع أنحاء إيطالية، وأصبح مطمح أكثر الفتيان أن يجاهدوا تحت رايته، وقد تجند من بولونيا وحدها - كما قيل - سبعة آلاف وهرب جنود بيمونتيون من وحداتهم للالتحاق به، وسارع الطوسكانيون الذين كانوا يكرهون التجنيد من كل حدب وصوب للالتحاق بقوات مديجي وكوستر، وأخذت الاكتتابات لشراء مليون بندقية تتدفق وأظهر برتامن في جنوة كفاية عظيمة في تنظيم النجدات والإسراع في إرسالها. ووصل إلى صقلية قبل 30 تموز أكثر من تسعة آلاف رجل.
وحدث أن اصطدم مديجي بقوات يوسكو قائد الجند النابولي بالقرب من ميلازو في 17 تموز، فأسرع غاريبالدي إلى إرسال جميع الرجال الذين استطاع أن يحشدهم، وهاجم موضع يوسكو الحصين في برزخ ميلانو، وحدثت في 20 تموز معركة عنيفة، وكان جنود نابولي قد تحصنوا وراء الجدران والأسياج، ولكن رجال غاريبالدي استطاعوا - بعد قتال شديد - أن يحتلوا المدينة فالتجأ يوسكو إلى القصر، ورغم أن غاريبالدي لم يكن يملك مدافع حصار فقد استولى على القصر بعد ثلاثة أيام ثم أخلى جنود نابولي سيراكوزه وأوجسته، ولم يبق في الجزيرة بيد آل بوربون سوى قطعة مسينة.
ولم يقتصر اجتياح الحماسة التي ولدها غاريبالدي على الفتيان الذين سارعوا للانضمام إليه فحسب، بل انجرف في التيار رجال عرفوا بالرصانة من أمثال دازجيلو ولانزا، وقد كتب كافور في رسالة له: «إن أكثر الرجال تعقلا ورصانة وأشد المعتدلين والمحافظين؛ أصبحوا من أنصار الوحدة.» وكان خوفهم تلاشى رويدا رويدا كلما اتضح لهم أن بلادهم سوف تصبح مملكة متحدة كبيرة.
وقد طلب ريكاسولي إلى كافور بأن يكف عن سياسته المترددة، وأن يفسح للملك المجال ليتزعم الحركة بشجاعة، بيد أن المصاعب كانت ترى أكثر مما تصورها ريكاسولي، وكانت خطة كافور في السياسة الخارجية أن لا يقطع الحبل ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وكان يحسب لخطر هجوم النمسويين حسابا عظيما ويخشى ألا تستطيع إيطالية وحدها الوقوف بوجهه، من أجل ذلك كانت فكرة الاحتفاظ بعطف الإمبراطور عاملا أساسيا في سياسته الخارجية.
وأوشك فرانسوا ملك نابولي بعد موقعة باليرمو أن يقطع أمله في التغلب على قوات غاريبالدي فالتمس من نابليون بأن ينقذ عرشه المترجرج بالتوسط بينه وبين الثوار، ولكن الإمبراطور رفض التوسط ما لم تنل الجزيرة استقلالها التام، وأن يحكمها أحد أمراء آل بوربون، وأن يمنح الدستور النابولي ويتحالف مع بيمونته .
وكان الشرط الأخير الذي أصر عليه الإمبراطور أقسى الشروط على فرانسوا؛ لأنه هو الذي أقام الدنيا وأقعدها لتضرب بيمونته في الروماني، وبذل جهودا جبارة ليتجنب ذلك الشرط الذي يحمله على الخضوع لخصمه البغيض، وقد يزجه في حرب مع النمسة، وحيث إن وزراءه فقدوا كل شجاعتهم فقد أشاروا عليه بعد قليل من التردد بالموافقة على طلبات الإمبراطور، وقد وافق عليها طالبا تبديل الاستقلال التام في الجزيرة بالحكم الذاتي.
وضغط الإمبراطور على كافور لقبول الشروط، وسعى لإقناع الحكومة الإنجليزية بإقرار هذه التسوية مقترحا عليها عقد هدنة، وإرسال الأسطول إلى مضيق مسينة لمنع قوات كافور من عبوره، ولما كان الرأي العام في بيمونته يعارض في شدة فكرة محالفة نابولي فإن كافور قرر إحباط المفاوضات، إلا أنه لم يشأ أن يرفض جهرا وصايا الإمبراطور.
وفي اليوم الذي أبدى ميله بقبول فكرة الحلف مع نابولي كان يود لو أن غاريبالدي اجتاز المضيق؛ لذلك وضع شروطا كان يعلم أن فرنسوا لن يقبلها، ولما طلب الإمبراطور إلى الملك أن يبذل نفوذه لمنع غاريبالدي من الحركة وافق كافور على أن يكتب الملك للدكتاتور كتابا في هذا المعنى على أن لا يقوم فرنسوا بأي عمل لاسترداد صقلية، وقد أصر على هذا الشرط لأنه كان يعلم بأن إنجلترة تعطف عليه.
أما فرنسوا فسرعان ما تخلى عن بطولته لحماية ممتلكات البابا وعرض على بيمونته تجزئة تلك الممتلكات بينه وبين بيمونته، فلم يسع كافور بعد ذلك أن يؤجل إرسال الكتاب، وحمل الملك على الكتابة إلى غاريبالدي في 22 تموز يدعوه إلى التخلي عن نياته بشأن نابولي إذا أراد فرنسوا أن يترك صقلية حرة، وكتب الكتاب في أسلوب يحمل غاريبالدي على رفض الطلب حتما، كما أن كافور أفهم غاريبالدي بأنه يتلقى رفض طلب الملك بالترحيب.
وقد رفض رسل مقترحات الإمبراطور؛ لارتيابه من نياته بشأن ساردينيه، وأيقن نابليون بأن انهيار آل بوربون أصبح أمرا لا بد منه، وأرسل الأمير نابولي كتابا سريا إلى غاريبالدي يذكر له فيه أن الإمبراطور يوصيه بأن يتحدى السياسة بالأمر الواقع وهكذا نجح كافور في سياسته، فغاريبالدي سيرفض حتما تلبية أوامر الملك، ولن يقوم الفرنسيون بأي عمل ليحولوا دون عبور المضيق، ولما كان كافور لا يزال يشك في إخلاص غاريبالدي للملكية ويخشى أنه إذا ما نجح في مشروعه أن يخضع لإيحاءات الدموقراطيين المتطرفين، وأن يمتنع من سماع وصايا الحكومة البيمونتية وحينئذ تسوء الأمور في الجنوب كما ساءت في صقلية، وقد تؤدي إلى انشقاق بين الشمال والجنوب وربما ينتهي إلى قيام الملكية في الشمال والجمهورية في الجنوب، فقد فكر في اجتناب ذلك كله لو استطاع أن يسبق غاريبالدي في العمل بحمل أهل نابولي على الثورة، وإعلان رضائهم بالانضمام قبل أن يصل الدكتاتور إليهم، وإذا ما ثار النابليون من أنفسهم فإن كافور يستطيع ساعتئذ أن يسوغ تدخله أمام الدول ولا حاجة إذن لمفاوضة آل بوربون.
وكان قوي الأمل بأن تلبى الدعوة، وما أسرع ما نهض الحزب البيمونتي من خموده وأظهر نشاطه وقوته، ولما أعلن فرنسوا الدستور في 25 حزيران ملبيا دعوة الإمبراطور قابل الناس هذه المنحة بالاستخفاف، وكانوا يعلمون بأنه هذه هي المرة الخامسة يمنح فيها آل بوربون الدستور، وأخذت «لجنة النظام» التي تألفت في نهاية 1859 لتأمين الضبط بين الجماعات القومية المختلفة تتراسل مع لافارينا وبرتاني، وكان كافور يعتمد كثيرا على المتآمرين الموجودين في مركز الحكومة نفسها، وكان بعض الموظفين يخونون الدولة سرا لمصلحة الجمعية القومية، حتى إن «نوزيانته» أحد القواد الذين يثق بهم فرنسوا كل الثقة وعد كافور بأن يحرض القطعات على مخالفة أوامر آل بوربون، ثم إن عم الملك دوق سيراكوزة اشترك مع نوزيانته هذا في المؤامرة، وكان «ليبوريو رومانو» وزير الداخلية من أخطر المتآمرين؛ إذ كان المسيطر الحقيقي على المدينة بعد أن نظم حرسا قوميا فيها واتصل بجمعية كامورا، وكانت هذه الجمعية بعد أن خدمت الاستبداد لمصالح خاصة عادت فباعت نفسها لمعاضدة الثوار، واستطاع رومانو هذا بحركة جريئة أن يبدل الشرطة برجال الكارا مورا.
وما إن فشلت المفاوضات بشأن الحلف حتى أوعز كافور في 3 تموز إلى ممثل بيمونته في نابولي «فيلا مارينا» بالاتصال مع المتآمرين، وفي اليوم ذاته أمر الأميرال برسانو بالسفر إلى نابولي بقسم من أسطوله وإنزال شحنة من البنادق خلسة بالاتفاق مع رومانو، وبينما كانت لجنة النظام تهيئ ثورة شعبية برعاية رومانو كان نوزيانته يحوك الدسائس في الجيش بنشاط، ولكن المتآمرين أخبروا في 23 آب كافور بأن مساعيهم في كسب الجيش قد حبطت وأن العصيان في العاصمة أمر مشكوك فيه، ولكن الإيالات أخذت تتململ وأرسلت بعض البنادق البيمونتية إلى باسيلكانة، وأعلنت «كورليتو» الثورة في 16 آب، وفي اليوم الثالث نصبت بوتنزه قاعدة الإيالة حكومة مؤقتة باسم فيكتور عمانوئيل وغاريبالدي، وما إن أبحر غاريبالدي المضيق حتى امتدت الثورة إلى «آبولي» في الشرق و«ساليرنه» في الغرب، وقبل أن يجتاز كلبريه أضاع آل بوربون ملكهم واجتمع عشرة آلاف متطوع تحت السلاح.
ولكن نابولي ظلت هادئة واشتد الشقاق في لجنة النظام بين المعتدلين والديموقراطيين حتى أدى إلى فقدان التعاون النزيه، الأمر الذي شل جهود اللجنة، وبينما كان أصحاب كافور يريدون طرد فرنسوا توا والاستيلاء على الحكم باسم فيكتور عمانوئيل كان العنصر الديموقراطي المتطرف قد انشق وألف لجنة عمل بتحريض مازيني، واستهدفت توقيف الحركة إلى حين وصول غاريبالدي، لينال غاريبالدي وحده شرف طرد آل بوربون، ولتصبح الحكومة في قبضة يدهم.
ولما اقتنع كافور بعدم إمكان نشوب ثورة في نابولي فكر في الخطة التي ربما احتفظ بها لتنفيذها عند الضرورة، وكانت هذه الخطة حاسمة جريئة ذات خطورة ترمي إلى فتح إيطالية بأجمعها وإعلان ملكية فيكتور عمانوئيل فيها، ولا سيما بعد أن خشي زيادة نفوذ الديموقراطيين المتطرفين وارتاب من تفاقم سيطرة غاريبالدي، وعليه فليس من سبيل للاحتفاظ بمكانة بيمونته وضمان بلوغ أهدافها إلا أن تكون في الصف الأول من الجهاد، وقد قال كافور: «إذا لم نكن نحن في فلتورنة
1
قبل أن يصل غاريبالدي إلى كاتوليكا
2
فستنهار الملكية.»
وقد رسم منهجا للعمل يقضي بإيفاد حملة كبيرة لفتح أومبريه والمارك؛ ابتغاء اكتساب جيش الملك الصيت الحسن، ولسحق قوات القائد الإفرنسي لامورسيبر والقضاء على أنصار آل بوربون، وتقضي الخطة بإيفاد الملك إلى نابولي على رأس قوة كبيرة إذا اقتضى الأمر لإبقاء غاريبالدي في الصف الثاني.
وكانت هناك أسباب أخرى تستدعي اتخاذ هذه الخطة، فلا يزال لدى آل بوربون جيش قوي يبلغ مائة ألف جندي، يضاف إلى هذا أن لاموسيبر قد يعير قسما من جنوده لتقوية الجيش البوربوني، فيضطر غاريبالدي إلى خوض غمار قتال عنيف قبل أن يصل إلى نابولي، وعمت إيالات البابا النقمة من سوء تصرف المتطوعين ولا سيما الأيرلنديين المغرورين الفاقدي النظام، وكان المتطوعون القوميون في الروماني وطوسكانه متحفزين لاجتياز الحدود، وقد سعى مازيني طول الصيف في نشاط عظيم للقيام بحركة زحف نحو أومبريه وكان لديه ستمائة رجل في جنوة وألف رجل في الروماني، ومثل ذلك في «سيجنه» بقيادة الجمهوري «نيكوتيره»، وقد وعد ريكاسولي بتجهيز رجال مازيني بالبنادق إذا لم يعارض كافور ذلك، وقد رحب غاريبالدي بهذا المشروع من كل قلبه، موقنا بأن جيوش الثورة ستزحف نحو روما.
ولما اطلع كافور على ذلك كانت الإنذارات الصاخبة الأجنبية قد أفزعته، بيد أنه كان يريد أن يظل مصانعا لرجال غاريبالدي من جهة وأن يستخدم متطوعي طوسكانه لتنفيذ خطته الخاصة من جهة أخرى، وقد اتصل بالملك ورجاه أن يوافق على تحريك الحملة ووعده بأن يضمن على مسئوليته عدم الهجوم على أي موقع فيه قوات إفرنسية، ولكن لافارينا أجابه باسم الحكومة بأنها لا توافق على حركة المتطوعين من جنوة للنزول في سواحل البابا أو طوسكانه بأي صورة كانت، ولكن هذه القوة تستطيع أن تسافر بمفرزات متفرقة صغيرة على أن تجتمع في خليج «أرانكي» بالقرب من ساردينية على أن تمر أولا من صقلية، فوافق برتاني على هذه الشروط ولم يبت فيما يتعلق بالمتطوعين في سيجنة، ثم سافر على رأس قوته معتزما العهد إذا تمكن من ذلك واثقا بقدرته على إقناع غاريبالدي بأن يتولى قيادة المتطوعين وتوجيههم نحو «الأهداف المطلوبة».
وقد ذهب مازيني إلى فلورنسة من دون أن يكون له علم بذلك العهد، وقرر بالاتفاق مع نيكوتيره اجتياز الحدود والهجوم على بيروزه، ولما اطلع كافور على هذه الأخبار خشي عاقبة هذه الاختلاطات واتخذ التدابير الصارمة ضدها، فأصدر فارينا بلاغا شديد اللهجة منددا بكل من يتدخل في شئون الحكومة، كما أنه لم يساعد المتطوعين على الحركة، وأوعز إلى كافور وريكاسولي بأن يسرح رجال نيكوتيره فورا، بيد أن ريكاسولي احتج على هذه الشدة المفاجئة، ثم تفاهم وكافور على أن يجرد المتطوعين من السلاح بهدوء ثم تتولى الحكومة تسفيرهم إلى صقلية.
وقد قوت هذه الحادثة - من دون شك - اقتناع كافور بضرورة الإسراع في الحركة، ولكنه كان يقدر أهمية عواقب هذه الحركة والعقبات التي تقف في وجهه، فهو إذا شرع في تنفيذ برنامجه من دون موافقة الإمبراطور فإن ذلك سيؤدي إلى بقاء الإفرنسين في روما مدة غير معينة، وقد يصبح الجيش الإيطالي وجها لوجه أمام القوات الإفرنسية، بينما تترقب النمسة الفرصة لجمع الأسلاب.
ثم إنه إذا استطاع أن يكسب موافقة الإمبراطور فسيواجه خطرا آخر أشد؛ إذ بينما تقاتل أحسن القوات الإيطالية في الوسط قد تنتهز النمسة الفرصة للهجوم، وإذا انضم الإفرنسيون ولامورسيبر بقواتهم إليها وسحقوا غاريبالدي فسيبقى الجيش الإيطالي بين قوات عظيمة في الجنوب والجيش النمسوي في الشمال.
وكانت الخطوة الأولى التي خطاها كافور لاتقاء شر النمسة وفرنسة بالحصول على موافقة الإمبراطور، فأوفد إليه في شامبره فاريني وجيالديني لجس نبضه ومعرفة آرائه بشأن أومبريه، وقد قالا له في 28 آب بأن الثورة على وشك الانفجار وأن نجاح غاريبالدي ينذر بزج إيطالية كلها في جحيم الثورة، وأن الخطر لا يمكن اجتنابه إلا إذا سبق فيكتور عمانوئيل غاريبالدي وزايده بالثمن باحتلاله إيطالية الوسطى، ووعدا الإمبراطور بأنه إذا وافق على حركة الاستيلاء فإن حكومة بيمونته تعتبر روما بلدا مصونا.
ولعلهما تعهدا بأن لا يتوغل الجيش البيمونتي في أرض البابا ما لم تنشب ثورة فيها، وكان نابليون على استعداد لأن ينصت إليهما، ولا سيما لأن تعنت البابا كاد أن يفقد الإمبراطور رشده، وكان يعلم بأن جيش لامورسيبر أصبح عشا للمؤامرات، وتوقع أن يؤدي تقدم البيمونتيين إلى فزع البابا واضطراره إلى الهروب، وبذلك يزول السبب في بقاء الجنود الإفرنسيين.
من أجل هذه الاعتبارات كلها أبدى الإمبراطور موافقته ورضاءه، ورجع فاريني وجيالديني إلى تورينو في 29 آب، وفي 31 آب قررت الوزارة الشروع بحركة الاستيلاء على أن تنشب الثورة في 18 أيلول فيجتاز الجيش البيمونتي الحدود حالما تنشب، وحجته في ذلك منع إعادة مجزرة بيروزه، وقد قال كافور عقيب اتخاذه هذا القرار:
أن ستكون إيطالية بعناية الله قبل انقضاء ثلاثة أشهر.
الفصل الحادي والثلاثون
إلحاق الجنوب
آب 1860-شباط 1861
استلم غاريبالدي كتاب الملك، فأجاب عليه بأن الوعد الذي قطعه لأهل نابولي يحول دون تلبية أوامره، وقد عسكر رجاله بعد ظفر «ميلازو» على ضفاف مضيق مسينه، وكانت طرادات نابولي تراقب البحر، ولكن مفرزة بقوة مائتي شخص استطاعت في 8 آب اجتياز المضيق إلا أنها اضطرت إلى الانسحاب إلى «أسبرومونته».
وبعد بضعة أيام قدم برتاني وفهم منه غاريبالدي أن الحملة التي أعدت لبريطانيا الوسطى تعسكر في خليج «أرانجي»، وعلم غاريبالدي - في الوقت نفسه - أن الحكومة جردت نيكوتيره من السلاح، واعتزمت إرسال قوات للمارك، ولما ضاق ذرعا بالبقاء عاطلا ذهب إلى ساردينه لتسخير القوة المعسكرة فيها في حركة ضد نابولي، ولكن علم حين وصل إلى الخليج أن قسما من القوة قد سافرت، فعاد أدراجه إلى باليرمو مصمما على اجتياز المضيق.
وفي 20 آب أنزل أربعة آلاف رجل قرب «ميلتو» في منتهى المضيق الجنوبي واحتل «ريجيو» عنوة، وكانت ترابط في كلبريه قوة مؤلفة من 30000 من جنود نابولي، إلا أنه كان يتوقع أن يتغلب عليهم بحركاته الجريئة السريعة كما فعل في صقلية، وبالفعل لقد فاز بأكثر مما كان يتوقع، وفي سان جيوفاني سلم تسعة آلاف من جند نابولي أنفسهم طائعين بعد أن اغتالوا قائدهم «بريغانتي»، وهكذا قبض غاريبالدي على ضفتي المضيق، واجتازته قواته الباقية من دون مشقة وانضم إليه الثوار في القرى الواقعة على أطراف إسبرومونته.
ولما تقدم سالكا طريق الساحل التحق به آلاف من أهل كلبريه، وكان لا يزال لدى الحكومة النابولية في الإيالات عشرون ألفا يستطيعون المقاومة بثبات، متحصنين بالموانع الطبيعية المنيعة التي تعترض الطريق ، بيد أن الذعر انتشر بينهم بسرعة واختل ضبطهم بالدعاية الحرة ودسائس نوزيانته حتى أخذ الجنود والضباط يطالبون تسريحهم والعودة إلى بيوتهم.
وفي «كوزنزه» ألقت قوات كالداريلي سلاحها فور مطالبتها بذلك ويبلغ عددها سبعة آلاف، وفر القائد «فياله» ناجيا بنفسه؛ خشية أن يصيبه ما أصاب بريغانتي، وكان يسيطر على مضيق «مونته لئونه» وتبلغ قوته اثني عشر ألفا، ولما رأى أن العصابات الكلبريه قد أحاطت به سلم نفسه بلا مقاومة، وثارت إيالة باسيلكانة قبل خمسة عشر يوما من ذلك، وبهذا تحرر نصف المملكة من دون أن يطلق رجال غاريبالدي رصاصة منذ استيلائهم على ريجيو.
وأخذ غاريبالدي يتقدم في البلاد على رأس طليعته، ويكاد يكون بلا حرس بين حماسة الجماهير وهتافاتهم، وارتبك بلاط آل بوربون ارتباكا عظيما، وولد مجرد اجتياز غاريبالدي للمضيق الرعب في نفس فرنسوا حتى عرض على غاريبالدي في 27 آب بأن يعيره خمسة آلاف جندي لمقاتلة النمسويين أو لامورسيبر فيما إذا كف عن القتال.
وأخذ رومانو يتآمر جهارا، واجتمع أخيرا بغاريبالدي ودعاه إلى نابولي، ولما ورد نبأ عصيان الجنود في القرب من ساليرنه، وعزم الأسطول على التخلي عن الخدمة؛ ترك فرنسوا نابولي في 6 أيلول، وفي صباح اليوم التالي وصل غاريبالدي مع بعض رجاله إلى نابولي بقطار السكة الحديدية، رغم أن القوات الملكية لا تزال تحتل مواضع قوية من شأنها أن تجعل غاريبالدي والمدينة كلها تحت رحمتها، إلا أنه استقل القطار وأتى إلى المدينة دون أن يكترث للخطر المحدق به، أما الجنود فانسحبوا دون أن يقلقوا راحة الضيوف القادمين.
ويوم دخل غاريبالدي نابولي أرسل كافور إنذارا إلى أنتونللي وطلب فيه أن يسرح المتطوعين الكاثوليك الأجانب؛ لأن وجودهم يهين كرامة الطليان ويهدد سلامة أهل أومبرية، وبعد مرور يومين أنذر فانتي قائد القوات المحتشدة على الحدود لامورسيبر بأنه إذا أقدم على أي عمل يمس الحركة القومية أو يعرقل سيرها فإن ذلك سيؤدي إلى احتلال الأملاك البابوية.
وقد وردت الرسالتان إلى روما في اليوم ذاته فاعتزم الكرادلة القتال، ولم تكن قوات لامورسيبر المختلطة تبلغ العشرين ألفا أكثرها من المتطوعين الذين يعوزهم النظام، وكانت القطعات النظامية مستاءة، فقد اعتزم لامورسيبر أن يقمع كل معارضة بأقصى الشدة.
اجتاز المتطوعون القوميون الحدود في اليوم المقرر، وكانوا يتقدمون الجيش البيمونتي المتفوق الذي شرع بالحركة في 10 أيلول؛ أي قبل أن يصل جواب أنتونللي وكانت قوته تبلغ 35000 بقيادة فانتي، وقد انقسم إلى قسمين: القسم الأول بقيادة «ديللا روكا» وتقدم في أومبريه نحو بيروزه، والقسم الآخر بقيادة جيالديني توغل في المارك نحو الكاثوليكا، وهدفه إنكونة. وكان لامورسيبر قد وزع قواته في أومبريه والمارك متخذا إنكونه قاعدة لحركاته.
وقد نشبت في 18 أيلول معركة فوق روابي «كاستل فيد اردو» استطاع فيها جيالديني أن يسحق بقواته البالغة ثلاثة عشر ألفا خمسة آلاف من الجنود الباقية لدى لامورسيبر الذي هرب مع بعض جماعته إلى إنكونه تاركا الجنود المبعثرين بلا قائد، على أن إنكونه دافعت عن نفسها ببسالة ضد مدافع جيالديني وأسطول برسانو واستسلمت في 24 أيلول.
وكانت أرتال ديللا روكا قد اقتربت من روما حتى وصلت إلى موقع يبعد نحو مسيرة ثلاث ساعات، وعلى الرغم من وجود الحامية الإفرنسية في روما فإن المدينة كانت تنتظر دخول البيمونيين بفارغ الصبر، وقد أعد كل بيت العلم المثلث الألوان ليحيي به الملك فيكتور عمانوئيل، وكان البابا ينوي الهروب لولا المشقة العظيمة التي لقيها «جرامون» في ردعه.
وبانخذال لامورسيبر نستطيع أن نقول: إن الوحدة الإيطالية قد تمت وهي تكاد تتم، فما عدا فنيسيه وطرانتينا في الشمال وروما وممتلكات البابا في الساحل؛ حيث لا تزال القطعات الإفرنسية تحتلها بين «كابوليه وجايته»، فقد تحررت جميع إيطالية بيد أن الخطر أخذ الآن يهدد إيطالية بانشقاق القوميين، فغاريبالدي يسيء الظن بكافور وأخذ هذا الظن يتزايد بتأثير الحاشية التي تحيط به، ولا سيما بعد أن بلغه خبر مكذوب يقول بأن كافور قد تخلى عن ساردينه لفرنسة لقاء حرية الحركة في إيطالية، وقد صمم على أن لا يضع سيفه في غمده إلا بعد أن يحرر روما، واعتزم على أن يبقى دكتاتورا في صقلية ونابولي ما دامت المهمة التي أخذها على عاتقه لم تنجز.
وكان كافور أيضا - بدوره - يرتاب في غاريبالدي ويدرك مقدار الخطر الذي يهدد البلاد من بعض خططه الطائشة ضد روما، وأخذ يخشى أن تعم الفوضى في نابولي كما عمت في صقلية، وقد حاول كافور حتى بعد فشل رجاله في نابولي أن يسبق غاريبالدي بتعيين برسانو أو فيللا مارينا أو كونت سبراكوزة دكتاتورا على نابولي قبل وصول غاريبالدي إليها، ولما قيل له بأن هذا العمل يؤدي إلى حرب أهلية تحدى غاريبالدي بأن عمل على تأسيس حكومة مؤقتة، ومع أن اللجان الثورية أقامت حكومة مؤقتة في نابولي بعد فرار فرنسوا إلا أنه تم الاتفاق على أن تعلن الحكومة المؤقتة غاريبالدي دكتاتورا باسم فكتور عمانوئيل.
ولما وصل غاريبالدي إلى نابولي أقصى أعضاء الحكومة المؤقتة عن العمل ووضع الأسطول النابولي تحت إمرة الأميرال برسانو وسلم دار الصناعة إلى قوة بيمونتية وأعلن بأن جميع أعمال الحكومة تحت اسم الملك، وبعد بضعة أيام أصدر إرادة تقضي بأن يكون الدستور البيمونتي مرعيا وأن تكون القوانين البيمونتية في القضاء والجيش نافذة، وألغى المصالح القنصلية الخاصة بمملكة نابولي كما ألغى جميع الحواجز الجمركية الموجودة بين المملكة وباقي أقسام إيطالية، ولكن الرجال المحيطين به استطاعوا أن يوغروا صدره ضد كافور بحيث أصبحت نابولي عشا لأعداء كافور، وسارع مازيني بالمجيء إلى نابولي وأصبح برتاني سكرتيرا للدكتاتور ورسم منهجا واسعا معقولا للإصلاحات الاجتماعية، وكان يتضمن إدخال طريقة تدريس منتجة مؤثرة، وتحويل أرض الكنيسة وأملاك الأشراف إلى خزينة الدولة، وتوسيع شبكة السكك الحديدية والخطوط البرقية، وتأسيس صناديق للتوفير وتنظيم الأعمال الخيرية وإصلاح مؤسساتها، وتعميم الخدمة الصحية، وهدم مواخير الرجس في نابولي.
ومما يؤسف له أن يصبح برتاني مرجعا للحزب الذي يحول دون وجود حكومة مستقرة، وظل غاريبالدي مصمما على الذهاب إلى روما وتأخير إعلان ضم نابولي ريثما يتوج فيكتور عمانوئيل في الكابيتول، وعبثا حاول برسانو أن يردعه عن ذلك وعبثا أبان له السفير البريطاني «أليوت» عواقب تلك الخطة وأخطارها، ولم يعبأ بكل ذلك بل إنه كان موقنا بأن الأربعين ألف جندي الذين كانوا لا يزالون مخلصين لآل بوربون سوف يؤسسون نواة الجيش الإيطالي في نابولي.
واعتقد بأن الإفرنسيين لن يقاتلوا في سبيل السلطة الزمنية وأن هنغارية تنتظر الإشارة لتثور وتصبح فنيسيه لقمة سائغة للقوات المتحدة المؤلفة من جنود جميع أنحاء إيطالية، ولما رأى دبريتسي في صقلية لا يزال يسعى لضم الجزيرة أقصاه عن العمل وعين بدلا عنه «موردينو» وهو من المعارضين لفكرة الانضمام.
وقد نشب الجدل ذاته بمقياس أوسع في نابولي على أن شبه الجزيرة كلها كانت متشوقة للانضمام كصقلية، ومع ذلك فقد نجمت أمور لم تكن تدعوا إلى الارتياح فالشرطة من رجال الكامورا لم تتمسك بحسن السلوك مدة طويلة، ثم إن عناصر الاضطراب والجنود غير المنظمين والمجرمين الذين أطلق سراحهم أخذوا يعيثون بالأمن ويبثون الفوضى كما أن الحركة الرجعية أخذت ترفع رأسها.
ومما زاد في فساد الإدارة أن برتاني ملأها بالأفاقين كما فعل كريسبي في صقلية، وضاعت ثمانون ألف بندقية كانت قد أرسلت لتجهيز الحرس القومي، ووقعت بأيد خطرة، وحين تولى كريسبي وزارة الخارجية نشب النزاع في الحكومة بينه وبين أنصار كافور.
على أن الانتصار الباهر الذي أحرزه جنود غاريبالدي حسن هذا الموقف المخزي، وكان فرنسوا ومعه من أربعين إلى خمسين ألف جندي يرابط وراء نهر فولتورنه، يستند إلى قلعة كابوته بمثابة رأس جسر في الضفة اليسرى من النهر، والخطر يأتي من تقدم هذا الجيش المتفوق بالعدد وتغلبه على المتطوعين واسترداد نابولي.
فلكي يحمي غاريبالدي المدينة من هذا الخطر المتوقع نشر قواته البالغ عددها أربعة وعشرين ألفا، منها عشرة آلاف من كلبريه على خط طوله اثنان وثلاثون كيلو مترا، وفي 1 تشرين الأول هجمت قوات آل بوربون على طول هذا الخط، وكان لديها خيالة ومدفعية كافية وكانت قوتها تفوق قوة المتطوعين ضعفين، فلم يتمكن «ميلينز» في سانتا ماريا ومديجي في سانت أنجليو من الاحتفاظ بموضعهما إلا بشق الأنفس.
وقد احتفظ غاريبالدي باحتياطه إلى الساعة الأخيرة ثم قذف به في المعركة حين خارت قوات الجند النابولي من التعب، فاستطاع غاريبالدي أن يهزمهم وأن يستولي على مواضعهم وأن يطاردهم حتى جدران قلعة كابونه، وكان بيكسيو مع خمسة آلاف من رجاله يشتت شمل ثمانية آلاف صمدوا له في «مدالوني»، ثم إن «برونزيتي» تغلب بثلاثمائة رجل على أربعة آلاف من الجنود في «كاستل مورونه»، وبلغت خسائر غاريبالدي في هذه المعركة 1800 نفس، ويصح القول بأن معركة فولتورنه هذه من ألمع انتصارات إيطالية الحديثة؛ إذ أظهر فيها المتطوعون من المتانة والحمية ما لا تقل عما أظهره جنود بيمونته النظاميون، وكان معظم قطعان آل بوربون من المرتزقة السويسريين والنمسويين الذين قاتلوا قتالا مجيدا، وقد أبرز الرؤساء والرجال مقدرة وشجاعة في الدفاع عن المواضع الضعيفة أمام تفوق عددهم في العدد والعدد.
وظل غاريبالدي رغم هذا النصر الباهر عاجزا عن إنهاء الحرب في الجنوب، وبينما كان الهرج والمرج سائدا في نابولي أقدم غاريبالدي على المطالبة بإبعاد كافور من رأس الحكومة، وأجاب على طلبات كافور في 15 أيلول بأنه لن يكون صديقا للرجل الذي أهان كرامة الأمة وباع إيالة إيطالية، ثم كتب للملك يطلب إليه إبعاد كافور وفاريني عن الحكم عارضا عليه استعداده لضم صقلية ونابولي توا.
تعذر على كافور أن يتخذ التدبير الذي يقهر به الدكتاتور، وقد لحظ أن عزم غاريبالدي قد اشتد على التقدم نحو روما، وأوجس خيفة من أن يعلن الدكتاتور الجمهورية، فدعا البرلمان إلى الاجتماع في 2 تشرين الأول ليطلب إليه الصلاحية المطلقة لضم الجنوب إلى المملكة الجديدة، حتى إذا ما وافق البرلمان على طلبه هذا يتولى الملك قيادة الجيش في إنكونه حالما يتم حصارها ويتقدم نحو نابولي فإذا خضع غاريبالدي فنعم العمل، وإلا فإن أقل ما تعمله الحكومة إرسالها قوة إلى باليرمو لضم صقلية، صرح كافور قائلا: «إذا كان غاريبالدي يريد القتال فليفعل ذلك، وإني أشعر بأن لدي من القوة ما يكفي لمقابلته.»
وحاول أن يكسب صداقة غاريبالدي مرة أخرى بأن أوفد برسانو وكتب إليه قائلا: «سنذهب يوما ما إلى روما لا محالة ومن الطيش التفكير بها؛ إذ علينا الآن أن ننجز أمر فنيسيه معا وألا نضيع وقتنا في الأحلام.»
وفي 4 تشرين الأول خول المجلس النيابي الوزارة بما يقارب الإجماع صلاحية جمع إيالات الوسط والجنوب على أن تعلن بالاقتراع العام رضاها عن ذلك، وبعد يومين من اتخاذ ذلك القرار وصل الملك إلى إنكونة، ووصل في الوقت ذاته باللافيجينو يحمل رفض غاريبالدي، وكان باللافيجينو هذا من الوطنيين المتصلبين وكان يكره كافور، إلا أنه كان يدرك ما في سياسة غاريبالدي من طيش فاعتزم أن يبذل جهده في مظاهرة أنصار الانضمام، وكان كريسبي قد خلف برتاني في سكرتيرية الدكتاتور فسعى إلى قهر أنصار الانضمام بالقوة، وأوشك أن يقع الاصطدام بين الجيشين القوميين، وشاع أن برتاني أرسل برقية إلى قائد الحرس القومي على الحدود في «أبروزه» يبيح له إطلاق النار على قوات الملك، ولكن الخبر كان مكذوبا مما حمل غاريبالدي على أن يرسل برقية يطلب بها استقبال البيمونتيين إخوانا، ثم كتب إلى الملك يحثه على إرسال القوات، ورأى باللافيجينيو ضرورة الإسراع في العمل والبت في الأمور قبل أن يقوم الدكتاتور بعمل مشئوم يزج البلاد في حرب أهلية فحرض الوزارة على تقرير إجراء الاقتراع العام، وقد قررت الوزارة ذلك ظنا منها أن غاريبالدي قد وافق عليه.
وكان غاريبالدي يريد مجيء الملك إلا انه كان دائما متمسكا برأيه في ضرورة الزحف على روما، وكان يعلم بأن الإلحاق يقضي على خططه، وترأس كريسبي المعارضة واقترح الدعوة إلى عقد مجلس تمثيلي بدلا من إجراء الاقتراع العام ولكن قد يعارض المجلس فكرة الإلحاق، وفي هذه الحالة لا يمكن اجتناب الحرب الأهلية، ولكن غاريبالدي رغم هذا المحذور أيد رأي كريسبي فما كان من باللافيجينيو إلا أن هدد بالاستقالة من الوزارة، ومن حسن الحظ أن الشعب أدرك خطورة الموقف فقام أهل نابولي بمظاهرة صاخبة طالبين الانضمام، ورأى غاريبالدي نفسه بأن الشعب كله ضده فمال فورا إلى رأي باللافيجينيو ووافق على إجراء الاقتراع العام، وناشد البلاد بأن تنسى وجود الأحزاب السياسية وتتناسى أحقادها الحزبية.
وجرى الاقتراع العام في 21 تشرين الأول وأعلنت نتائجه بعد خمسة عشر يوما، واقترع لفكرة الانضمام في شبه الجزيرة 1310000 ضد 10000 صوت، واقترع في صقلية 432000 صوت ضد 600 صوت، وفي مدينة نابولي ذاتها اقترع 106000 للانضمام ضد 31 صوتا فقط، ثم جرى الاستفتاء بالاقتراع بعد بضعة أيام في المارك وأمبرية وكان عدد القائلين بالانضمام في الأولى 133000 ضد 1200 وفي الثانية 97000 ضد 380 واقترعت إيالة «فيتريه» للانضمام على الرغم من أن الجنود الإفرنسيين كانوا يحتلونها.
وعلى إثر ذلك أخذ كافور يدعو الملك للعجلة في المسير؛ لأنه أصبح يخشى هجوما يباغت به النمسويون لمبارديه ولم يكن يستطيع إرسال الجيش لمقاتلة العدو، ومع أن بولونيه وبيازنسه كانتا محصنتين وأن لمبارديه وبيمونته تنفران للجهاد بكلتيهما إلا أن آخر القوات الإفرنسية كان قد ذهب من لمبارديه في حزيران، وأصبحت القوات الإيطالية الضعيفة معرضة لخطر شديد، وكان من المحتمل جدا أن تنتهز النمسة هذه الفرصة السانحة للهجوم، وكانت النمسة تريد الحرب من دون ريب.
صحيح أنها رفضت التدخل لمصلحة البابا على الرغم من دعوة أنتونللي لها غير أن استيلاء الجند البيمونتي على أومبريه ولد في المحافل السياسية سخطا عظيما على بيمونته، فاستدعت روسية سفيرها واحتجت بروسية بلهجة شديدة، حتى الإمبراطور نابليون نفسه تهدد بالمعارضة مع أنه شجع كافور خفية على المضي في عمله واستدعى سفيره من تورينو، وظلت إنجلترة وحدها موالية إلا أنه لم ينتظر منها بأن تخوض غمار حرب في سبيل إيطالية، وعليه فقط ظهرت إيطالية وحيدة منعزلة تماما، وأحس كافور بدنو الخطر شيئا فشيئا؛ إذ توقع توجيه الإنذار من النمسة، وساوره القلق الشديد حتى إنه في نهائية تشرين الأول طلب إلى الملك وفانتي العودة توا، ثم حدث بعد ثلاثة أيام ما طمأنه أن إيطالية أصبحت في سلام.
وكان الإمبراطور نابليون الثالث هو الذي أنقذها في هذه المرة أيضا؛ إذ استمال قيصر روسية إلى جانبه وهدد النمسة، ولعل الوزارة الإنجليزية بذلت هي أيضا نفوذها في برلين فكف فرنسوا جوزيف عن مشروعه الحربي، وحين كان الجو متلبدا تقدم الملك نحو الجنوب مع فانتي رئيس أركان حربه وفاريني حاكم نابولي المقبل واجتاز نهر «ترونتو»، ثم دخل أرض نابولي في 15 تشرين الأول فاستقبله الشعب في كل مكان استقبالا عظيما واعتبره البطل المنقذ، حتى إن رجال الإكليروس وعلى رأسهم الأساقفة هرعوا لاستقباله بالمراسيم الدينية.
وبينما كان غاريبالدي يقمع حركة بعض القرويين الموالين لآل بوربون الذين ثاروا ضد رجاله وفتكوا بالأحرار؛ كان الملك يجتاز - على مهل - منطقة «أبروزه» سالكا ضفة نهر فولتورنه اليسرى ليستطيع الإحاطة بجيش آل بوربون، ولما رأى فرنسوا نفسه بين نارين ترك اثني عشر ألفا من جنده في كابونه وانسحب بالباقي وراء نهر جاريجليانو.
وما علم غاريبالدي باقتراب الملك حتى ذهب لمقابلته، وقد اقتنع بأن التغلب على مقاومة آل بوربون لا يمكن أن تتم إلا بمجيء جيش الملك، وأدرك صعوبة الحركة نحو روما في تلك الآونة وقرر تأجيلها حتى الربيع، وبهذا قد يكون قد شعر بأن سياسته قد فشلت، ولعل لنصائح أصدقائه من ذوي البصيرة تأثيرا في ذلك.
وتمت المقابلة المشهورة بين الملك والدكتاتور في 26 تشرين الأول ولكن بعض أفراد الجيش البيمونتي أخذوا يهزأون بجنود غاريبالدي وقلة ضبطهم وسوء لباسهم، وراح جنود غاريبالدي يظنون بأن البيمونتيين إنما أتوا ليغتصبوا منهم انتصاراتهم، وكان الكثيرون منهم من الجمهوريين والدموقراطيين الذين حز في نفوسهم أن يروا إيطالية الجنوبية تترك لحكومة كافور، بيد أن الجميع كانوا يتحسسون حسا قوميا صادقا.
وحال وجود العدو على جاريجليانو دون انفجار الغضب ثم حوصرت مدينة كابونه وسرعان ما سقطت، ثم تقدمت على إثر ذلك قوات بيمونته الرئيسية لمهاجمة جند آل بوربون في مواضعهم الحصينة على نهر جاريجليانو، وقد استطاعت أن تجتاز النهر وأن تضطر العدو إلى الانسحاب إلى قلعة «جاتيه».
وفي 5 كانون الأول بدأ الحصار واجتاز الملك نابولي على المركبة وبجانبه غاريبالدي، وكانت الجماهير تستقبلهما تحت المطر استقبالا عظيما ولعل التصفيق لغاريبالدي كان أشد حرارة، ثم حنق غاريبالدي لأسباب منها تعيين فاريني صديق كافور الأمين حاكما على نابولي، ومنها أنه يوم دخول الملك نابولي طلب أوسمة للقيادة ورتبا لجميع ضباطه في الجيش البيمونتي بعد أن عرض نتائج الاقتراع العام وتخلى عن عنوانه الدكتاتور، فلم يجبه الملك إلى طلبه فورا وأجاب بما لم يرض غاريبالدي فانصرف، ثم حاول الملك بعد ذلك أن يلاطفه إلا أن غاريبالدي رفض هدايا الملك، وطلب إليه حمايته للمتطوعين ومنحه عنوان نائب صقلية مدة سنة، فوافق الملك على أن يبقى المتطوعون في مناصبهم الحالية إلا أنه رفض كل امتياز يتعلق بالنيابة، فأبحر غاريبالدي مع بضع مئات من رجاله إلى كابربره وفي جيبه قليل من الدراهم، وفي حقيبته قليل من الفاصولية، وذهب إلى مزرعته.
وفي خطابه الذي ودع به المتطوعين ناشد الناس الولاء للملك ودعاهم إلى التمسك بالانسجام والوحدة، وراح ينتظر حلول الربيع؛ حيث يهرع مليون نفس إلى تقلد السلاح لفتح روما وفنيسيه وضمهما إلى الوطن، وكان فرنسوا قد تحصن في قلعة جايتة مع عشرين ألفا من الجند ولم يجد له في محنته صديقا سوى نابليون الذي عارض في حصار القلعة من البحر، وظل أسطوله يراقب الجانب البحري؛ ليحول دون الحصار من قبل الأسطول البيمونتي، إلا أنه أذعن أخيرا لإلحاح الحكومة الإنجليزية وسحب أسطوله.
وقد كابدت المدينة أضرار القصف، وتفشى فيها مرض التيفوئيد، وأخيرا أدرك فرنسوا أنه خسر المعركة فاستسلم في 13 شباط 1861، ثم استسلمت قلعة مسينة بعد ذلك لشهر واحد، وبسقوط قلعة «سيفيتلكلا ديل ترونتو» في البروزه في 21 آذار انتهى عهد آل بوربون.
الفصل الثاني والثلاثون
المملكة الجديدة
1860-1861
ها هي إيطالية تصبح إحدى الدول الكبرى في أوروبا ومع أن النمسة لا تزال تحكم فنيسيه وتراتينه، وكان البابا - بفضل الحماية الإفرنسية - يملك روما ولاكوماركه، فإن المملكة الجديدة تعد واحدا وعشرين مليونا من النفوس، حقا لقد أصبحت الوحدة الإيطالية التي كانت أضحوكة السياسيين والتي بشر بها مازيني وبعض المؤمنين ولم يعتبرها أكثر القوميين - حتى في الأوقات الأخيرة - إلا احتمالا بعيدا، لا أمرا واقعا، تلقاه حتى المعارضون بسرور، وأنسى الزهو القومي الرجعيين وأنصار الحكم الذاتي مثلهم؛ الضيق؛ إذ صاروا يشعرون بأنهم مواطنون يمتون إلى أمة عظيمة.
وقد تم هذا العمل الجبار في ثمانية عشر شهرا، وكانت الأخطار التي حدثت في سنة 1848 قد زالت، ثم انتظر الناس عشر سنوات أخرى،
أنفسهم وعلموا كيف يسيرون إيطالية كلها، وقد حدث في ساعة ما توتر خطير بيد أن العقل ووطنية جميع الأحزاب صانت غاية الكفاح من المشاحنات الحزبية، وكانت أهم معضلة جابهها زعماء الأمة ورجال الحكومة تدعيم كيان هذه الأمة الفتية، وكانت أعظم مصاعب هذه المعضلة قضية الجنوب وانسجامه انسجاما كليا مع الشمال، ومما قاله كافور إن إيجاد الانسجام بين الشمال والجنوب أشق من مقاتلة النمسة أو غزو روما.
وكانت طريقة الرئاسة على الرغم من أنها ملغاة نظريا منذ مدة طويلة لا تزال مرعية فعلا، فالقروي كان لا يزال يشتغل بالسخرة ويبيع ما ينتجه لسيده الشريف، وكان هذا الشريف مولاه ودائنه معا، يستغله مثلما يريد، فضلا عن أنه كان يقبض على زمام الحكومة المحلية ويستخدمها في مصلحته الخاصة، أما الفتن فكانت من العلل المزمنة في الجنوب ففقراء الإيالات الذين لا يملكون أرضا ولا يجدون عملا يتركون مساكنهم بالمئات ويؤلفون العصابات ليكسبوا رزقهم بالنهب والسلب.
وكان شعار كافور في سياسة الجنوب: «التوحيد للإصلاح والإصلاح لتوطيد الأمور»، ولعل الفساد العام الذي ظهر في الإدارة بعد سقوط آل بوربون أشد خطرا من انحطاط الأخلاق.
وكان مما أجج حماسة بعض الأهلين للثورة أملهم في الحصول على الوظائف بعد فوزها، فأخذ الجمهور يملأ الساحات والدهاليز في كل وزارة، وكانت جمعية الكامورا الخفية تمتد إلى كل ناحية، وأخذت جماعات الأفاقين تنساب نحو نابولي وتدعي بأنها من المتطوعين.
وأخذ الغاريبالديون الغير الصادقين الذين لم يشموا رائحة البارود يطالبون بنصيبهم من الربح، ويقبضون الفدية من أنصار آل بوربون ويتآمرون لقلب كل وزارة، وعمت الفوضى في الإيالات، وكان فساد حكومة آل بوربون قد قضى على ثقة الناس منذ مدة طويلة.
وقد شجعت مقاومة فرنسوا في قلعة جايتة أنصار آل بوربون وأخذوا يرفعون رأسهم، وكان معظم كبار الملاكين في إيالات البروزه ولاباسليكانه وكلبريه من أنصار الأسرة الساقطة، أضف إلى هذا أن الإكليروس في المدن والأرياف؛ كانوا في جانب الملاكين المذكورين وأعداء للأحرار .
ومع أن الشقاوة كانت وليدة أسباب اجتماعية إلا أنها أصبحت أداة سياسية بيد العملاء المرسلين من جايته وروما لتحريض العصابات على النهب والقتل في سبيل العرش والكنيسة، فقد كان في نابولي أناس من طراز الذين رأيناهم في باليرمو، ومع أن الفساد لم يعم صقلية كما عم في شبه الجزيرة؛ فكان هؤلاء يتآمرون على الوحدة ويقفون في وجه الانسجام.
وفي طليعة هؤلاء الموظفون الذين فقدوا وظائفهم وصنائع كريسبي ومورديني الذين أصبحوا يخشون أن يفقدوها والمتطوعون الذين تركهم غاريبالدي في الجزيرة واللصوص والسفاكون الذين قاتلوا في الثورة ولكنهم حرموا من الغنمية، أفلا يجدر في بلد انتشر فيه الفساد إلى هذا الحد أن يتولى شئونه دكتاتور إلى حين؟ لقد كانت أمنية غاريبالدي وجود الدكتاتورية مع أنه كان السبب الأول لهذه الفوضى، ومهما يكن الأمر فينبغي الوصول إلى طريقة تساعد الحاكم على توطيد الأمور من دون أن يخشى تدخل الحكومة المركزية أو مجلس الأمة.
وأوصى فاريني بإرسال ريكاسولي مؤقتا إلى صقلية مزودا بسلطات واسعة، ومع أن ريكاسولي رفض هذا التكليف فقد أوصى بإقامة دكتاتورية عسكرية، غير أن كافور كان لا يريد أن يصغى إلى هذه الوصايا؛ لأنه كان يخشى أن تمس سمعة البلاد في نظر إنجلترة وأوروبا ويقول: «النضال من مقتضيات الحكومة الدستورية.»
ورفض الملك أيضا بأن يصغي للوصايا من دون قيد، وحجته في ذلك أنه لا يريد أن يحنث بيمينه الدستورية، وبعثت الحكومة «مونته زومولو» نائبا للملك في صقلية وأرسلت معه لافارينا وكوردونه، وكانت إدارة الشرطة في الجزيرة بيد صنائع كريسبي ومورديني، فتآمرت ضد نائب الملك ووضعت العراقيل في وجه الإدارة الجديدة، فاضطر إلى ترك الجزيرة.
أما صعوبة الحكم في نابولي فكانت أشد منها في صقلية، بعثت الحكومة فاريني نائبا للملك في نابولي، إلا أن هذا أيضا لم يوفق في مهمته فتآمر ضده أنصار البوربون والغاريبالديون وأنصار مورات، وكتب بعض الدموقراطيين بعد أن خاب رجاؤهم إلى كافور يرجونه أن يستدعي فاريني قبل أن تخسر المملكة نابولي، وكان الخطر المباغت يتأتى من الشقاوة التي كانت ترفع رأسها من وقت لآخر وتجد ملجأ لها في الأحراج الكبيرة والجبال الوعرة.
وقد انتشرت في المنطقة الجبلية في جوار «تاجليا كوزو» من إيالة أبروزة طول الشتاء، وكان يقويها أنصار البابا الذين يخزنون السلاح في الأديرة المجاورة ويجهزونها برجال يستقدمونهم من روما لتأليف العصابات، مما أدى إلى اشتداد حقد الوطنيين على البابا الذي يهب الأشقياء حمايته.
وكان فرنسوا في روما يدبر الدسائس بنشاط، فتآمر مع المجرمين السابقين واستخدمهم في النهب والقتل، وكان على اتصال باللجان المنبثة في جميع أنحاء الجنوب، أما الإكليروس الذي زاد غضبه بسبب الإصلاحات الإكليريكية الحديثة؛ فأخذ يعمل في شوق لإلحاق الضرر بالحكومة الإيطالية أو إسقاطها، وأخذ الجنود الهاربون ينخرطون في سلك العصابات؛ لكيلا يعودوا إلى وحداتهم.
ولم تكن قضية نابولي سوى أخطر مظهر لمعضلة تناولت جميع الدول الملحقة ببيمونته، فمع أن زعامة بيمونته قد قبلها بصدق وإخلاص أغلب القوميين؛ فإن الحركة القومية في بيمونته أصبحت تحت تأثير فكرتين مختلفتين أشد الاختلاف: الفكرة الأولى ويعتنقها الرجال القدماء المحدودو الفكر والنافذون في الإدارة والجيش، وهي تقول بأن تحكم إيطالية وتدار من قبل البيمونتيين، وهي تنفر من كل دعوة لنقل العاصمة من تورينو، وكانت ترضى فكرة وجود إيطالية الكبرى، آملة أن تسيطر قوانين بيمونته وآراؤها على جميع الإيالات الملحقة.
أما الفكرة الثانية فيعتنقها الفريق الواسع النظر من أركان الجمعية القومية، والذي يترأسه كافور، فهذا الفريق كان يدرك بأن دولة صغيرة ذات أربعة ملايين من النفوس لا تستطيع أن تتحكم وأن تستأثر في مملكة يبلغ نفوسها أكثر من عشرين مليونا، فما على بيمونته إلا أن تندمج في إيطالية على كل حال، ولم تكن قوانين بيمونته تضاهي قوانين لمبارديه وطوسكانه وبارمه ونابولي في كثير من النقاط.
فلا يمكن إدخال نظام بلدياتها من دون استثارة كثير من الحنق مع أن الأمل في نجاحها ضعيف في مناطق طوسكانه ولمبارديه التي كانت تتباهى بتقاليد حياتها البلدية القديمة المديدة العمر، فضلا عن أن مدينة تورينو واقعة في طرف إيطالية، ليس لها تذكارات تاريخية وفنية ، ولا يمكن أن تكون عاصمة دائمة لشبه الجزيرة، وكانت ميلانو وفلورنسة ونابولي وباليرمو تتمسك بشرف قاعدتها وتتذمر من فكرة التخلي عن مقامها لأية مدينة أخرى سوى روما، وأخذ بعض المستائين يندد ببيمونته زاعما بأنها احتكرت معاهد الحكومة، وقدمت الموظفين البيمونتيين في المناصب الفنية، ووجهت التجارة والصناعة نحو قاعدة الحكومة، وأهملت شئون الدول الأخرى.
وقد قربت هذه الحوادث وتلك المخاوف بين ريكاسولي وكريسبي، مع أنهما كانا يحملان نزعتين مختلفتين، وساقتهما إلى معارضة الفكرة البيمونتية، وقد أعلن بيبولي في كلمات مبالغ فيها أن الإدارة البيروقراطية في تورينو أكبر عدو لإيطالية، وكان ريكاسولي قد شن حربا شعواء على فكرة إدخال القوانين البيمونتية في طوسكانه وطالب بإدارة شبه مستقلة لدولته. وكان كافور يؤمن - كل الإيمان - باللامركزية وعين في شهر تموز لجنة لوضع مشروع حكومة محلية.
وقد شرح فاريني - بصفته وزيرا للداخلية - أمام تلك اللجنة الاقتراحات التي ربما أوحى إليه بها كافور، وتتلخص زبدة مشروع فاريني بتأسيس دوائر محلية كبرى تدعى بالمناطق، تكون واسطة بين الإيالات والدولة، وتكون في مراكز الحياة الطبيعية الإيطالية، على أن لا تنطبق حدودها بأي صورة كانت على حدود الدول القديمة؛ خشية تشجيع نزعة الحكم الذاتي، فهي - والحالة هذه - عبارة عن وحدات إدارة ليس لها مجالس منتخبة.
وكان فاريني يستهدف بمشروعه هذا أن تستند هذه الوحدات - كما في السابق - إلى مجالس الإيالات، التي تسيطر على الطرق والأنهار والصحة العامة والتعليم الثانوي والصناعي والمؤسسات الخيرية المهمة.
أما الذين كانوا يرون بأن عمل الدولة يجب أن يكون نافذا واسعا؛ فكانوا يطالبون بمركزية أكثر سعة، ومنهم من يرغبون في تمشية الأمور ويعارضون مشروع المناطق ويرون أن من شأنه أن يقيد نشاط الحكومة المركزية وتدخلها.
وفي الحقيقة أن البون الشاسع بين الشمال والجنوب كان يتطلب معالجة الأمور في الجنوب بتدابير خاصة، وفي صقلية قبلت اللجنة التي عينها غاريبالدي في آخر عهد دكتاتوريته بأن تمنح سلطات نائب الملك لنائب كل منطقة مما ينافي حقوق السلطة الإجرائية المركزية، أما في القارة فقد ألفت المنافع بين الاتحاديين والجمهوريين والبوربونيين في نابولي وجعلت منهم عصبة تصر على الاحتفاظ بالمؤسسات القديمة واتخاذ نابولي عاصمة.
واشتدت بعد ذلك حركة قوية تدعو إلى مضاعفة أهمية المناطق (ليس لتقليدها أهم سلطات الإيالة فحسب) بل بجعل المالية والإدارة فيها شبه مستقلة عن البرلمان والحكومة المركزية، وأنيط بمنجيني وزير الداخلية بعد تعيين فاريني لنابولي؛ أن يضع مشروعا جديدا، وكانت اقتراحاته - على العموم - تطابق في خطوطها العامة مشروع سلفه، فاستهدف في مشروعه تحوير الطريقة الإفرنسية بتخليص الناحية أو الإيالة في كل مراقبة مباشرة يقوم بها موظفو الحكومة المركزية، وينتخب النقيب (العمدة أو الوكيل) من قبل الناحية، وتصبح المجالس في الإيالات مستقلة عن الوالي، وتتمتع بصلاحيات أوسع من تلك التي اقترحها فاريني.
فمجلس المنطقة الذي ينتخب من قبل مجالس الإيالات يدير - بالاشتراك مع حاكم المنطقة - شئون التعليم العالي بما فيه مراقبة الجامعات والطرق الأميرية وأشغال النافعة الكبيرة، ويمارس بعض السلطات التشريعية المتعلقة بالزراعة، ويتمتع بحق اقتراح قوانين جديدة تعرض على البرلمان لتصديقها، وبهذا يكاد الحاكم أن يكون نائب الملك؛ إذ هو الذي يشرف على إدارة الولاية، ويمثل الحكومة المركزية في كثير من الأمور.
وكان منجيني يرى أن يجرب طريقة المناطق مدة من الزمن تساعد على الانتقال من الحالة القديمة إلى الحالة الجديدة، أما أنصار الحكم الذاتي فلم يعلقوا أهمية كبيرة على اقتراحات ترمي إلى تجزئة طوسكانه أو إدخال بارمه ومودينه في إميلية، ثم وجهت إلى المشروع معارضة وطنية شديدة من قبل الذين كانوا يخشون أن مشروع المنطقة يجر إلى فكرة الاتحاد ويصبح عثرة في سبيل تقوية المملكة وتوحيدها، وخشوا كذلك أن يصبح الحكام شبه المستقلين ساعتئذ خطرين جدا، مع أن الظروف في ذلك الوقت إنما تتطلب قيام حكومة مركزية متينة. ثم درس كافور الحالة وغير رأيه وعزم على الأخذ بالطريقة المركزية وتأجيل فكرة الحكومة المحلية إلى حين آخر.
وعلى الرغم من توسلات ريكاسولي سلبت طوسكانه استقلالها الإداري في 14 شباط وبعد مرور شهر قام بالعمل نفسه في نابولي وصقلية ثم حل وزارته، وألف وزارة جديدة وأدخل فيها أعضاء من ممثلي جميع الدول القديمة ، وقصر سياسته وقتئذ على تأسيس حكومة قومية واحدة قوية تخسر بها بيمونته كثيرا مما كانت تتمتع به سابقا، إلا أنه يقضي بذلك على اتهام تورينو بالجشع ويحصل على قرار من البرلمان باتخاذ روما العاصمة في المستقبل.
وأخذ شوق الناس إلى امتلاك روما وفنيسيه يزداد لهفة ويهصر حياة الأمة الداخلية في كل لحظة، وفيما يتعلق بفنيسيه فعلى الرغم من مطالبة غاريبالدي بالشروع بالهجوم في الربيع القادم؛ فإن الناس أدركوا ضرورة الصبر الآن، وبما أن غاريبالدي كان قد سرح الجيش النابولي وأن ما بقي منه ظل على إخلاصه لفرنسوا فقد خابت آمال كافور في مضاعفة قوة الجيش الإيطالي بإدماج القوات البوربونية فيه، فصحيح أن المملكة كسبت الأسطول النابولي، ولكن لم ينخرط في سلك الجيش الوطني غير ثلاثة آلاف ضابط وعدد قليل من الجنود، ولم يبق في اليد سوى أربعة آلاف من المتطوعين، وأخذ كافور يقول: «نحتاج في سبيل تنظيم الجيش إلى سنتين، فيجب أن نتمسك بالسلم طيلة ذلك الوقت.»
وقد صمم كافور على أن لا يعيد المعونة الضارة من فرنسة إلا إذا ألجأته الظروف إلى ذلك، ومع أن الحرب ضد النمسة من شأنها أن تعجل الاندماج بين الشمال والجنوب بقوة السلاح فإنه ظل يحذر المخاطرة ويسعى لمنع كل حركة اعتداء على فنيسيه من قبل القطعات غير النظامية، وكان يفضل أن ينال فنيسيه بطريقة المفاوضات السلمية مع النمسة على أخذها بقوة السلاح؛ لأنه كان يأمل بأن المصاعب الداخلية التي تجابهها النمسة وكثرة النفقات التي تتكبدها في سبيل الاحتفاظ بجيش كبير في فنيسيه ونمو الآراء الحرة في المجلس النيابي الجديد في فيينا، كل ذلك قد يؤدي إلى حل سلمي بين النمسة وإيطالية لقضية فنيسيه.
وقد صدرت رسالة أخرى في باريس في 14 كانون الأول توصي ببيع فنيسيه لإيطالية على أن تشتري النمسة مقابل ذلك إيالتي بوسنة والهرسك، ولما فشل الحل السلمي ولاح لكافور أن الحرب آتية عاجلا أو آجلا اختمر في رأسه مشروع الحلف مع بروسية، فأوفد الجنرال لامارمورا إلى برلين ليرفع الاقتراحات للملك الجديد ، وليقنع رجال الدولة البروسية أن الروابط الطبيعية بين إيطالية وبروسية تحتم عليهما بأن تصبحا صديقتين.
الفصل الثالث والثلاثون
إيطاليا وروما
1860-1861
واقتنع الطليان بأن على فنيسيه أن تصبر، إلا أنهم كانوا يتلهفون على المسير نحو روما، وكانت ممتلكات البابا عبارة عن شقة من الساحل بين الضفاف الطوسكانية والنابولية، يتفاوت عرضها من ثلاثين إلى خمسين كيلو مترا، تحتوي «فيتربه وتيفولي وفيللتري وفروسينونه»، وقد أعلنت فيتربه في الخريف انضمامها إلى ملكية فيكتور عمانوئيل فاحتلها بيبولي حاكم أومبرية إلى أن ألح الإمبراطور على إرجاعها إلى البابا رغم وعده لإنجلترة، وكان البابا يحكم تلك الأرض، والعالم كله يعلم بأن حكمه لا يستقيم أسبوعا واحدا إذا انسحبت الحامية الإفرنسية.
حقا لقد أظهر القوميون بعض النشاط في روما نفسها، وكان خمسة آلاف من خيرة رجالهم في المنفى، ومع أن الحامية الإفرنسية وقوات البابا كانت تقبض على المدينة بيد من حديد، وعلى الرغم من أن الجند والشرطة فقد وقع عشرة آلاف رجل على نداء يرحبون فيه بسياسة كافور، وأخذ الطليان يتجهون بأبصارهم نحو روما كلما امتد الزمن، وقال ريكاسولي: «إيطالية من دون روما لا شيء، أما فنيسيه فتستطيع أن تصبر وسيأتي يوم الاستيلاء عليها، أما روما فلا يسعها الانتظار.»
ولما اجتمع البرلمان اقترح - بالإجماع - على اتخاذ روما عاصمة المملكة، وكان عار الاحتلال الأجنبي يدمي في قلب الأمة ويغضبها، وبينما كان أنصار البابا يحتجون بأن السلطة الزمنية لازمة لاستقلال البابوية كان الطليان يجيبونهم بأن امتلاك روما لازم لاستقلال إيطالية.
وقد انقلب هذا الشعور إلى سخط حين أباح البابا للبوربونيين المغامرين أن يجعلوا مقرهم في روما، وأن يجهزوا عصابات الشقاوة متمتعين بحماية البابا، وهكذا انفتحت هوة سحيقة بين البابوية وإيطالية يتعذر سدها ما دامت السلطة الزمنية ذلك المرض المزمن الذي يفسد أنقى دم في الأمة.
وانتشرت الكراهية للكنيسة بسرعة ولا سيما بين الطبقات الوسطى والصناع فأخذوا يقولون: «إذا أرغمت إيطالية على الاختيار بين القومية والكاثوليكية فستختار الأولى.»
وراح رجال الماسون يبثون دعاية مستمرة صامتة في سبيل الفكر الحر، وأخذت البروتستانتية تزداد في فلورنسة، بيد أن كافور كان يدرك بأن القضية تتعدى الكفاح بين إيطالية وبلاط روما، وأن الأمر يتعلق بالسياسة الأوروبية التي لا تستطيع أن تتجاهلها إيطالية، وأن تكون بمعزل عنها، فالأمر يمس جميع الأمم الكاثوليكية، وقال للإمبراطور بأنه لن يعقد مع البابا أية معاهدة تتخلى بها إيطالية عن حقوقها في روما، وشاهد الخطر الداهم الذي يتهدد البلاد من وجود حكومة في قلبها تستند إلى حرب الأجانب، وأدرك الفائدة العملية التي تنجم عن اكتساب المدينة التي إذا ما أصبحت العاصمة اضمحلت الخصومات الناشبة بين تورينو وفلورنسه ونابولي، غير أنه لا يمكن اكتساب روما بالقوة ما دامت الحامية الإفرنسية فيها.
وأدرك كافور بأن الرأي العام الأوروبي الكاثوليكي كان قويا مخاصما، ولا سيما لأن الأحداث الأخيرة قد أسخطت أنصار البابا على بيمونته وعلى الإمبراطور أكثر من قبل، وكان استيلاء أومبريه وهزيمة لامورسيبر والقلق الذي استحوذ على روما ونفاق نابليون وجهود الحكومات الكاثوليكية؛ قد بث الذعر والغيظ في العالم الكاثوليكي، فكلما ألحقت إيالة بالمملكة سارعت إلى وضع قوانين ضد الإكليريكية، وكثيرا ما كانت هذه القوانين أشد من القوانين المرعية في بيمونته.
وقد ألغى بيبولي في أومبريه وفاليريو في المارك، وكانا يعملان - بلا شك - بموجب وصايا تورينو الأديرة وشرع النكاح المدني واستغلال أملاك اليسوعيين في تأسيس مدارس النواحي وجردا الأساقفة من محاكمهم الكنيسية وحق الإشراف على التعليم والأمور الخيرية.
وجعل غاريبالدي قبل ذلك أملاك اليسوعيين من ممتلكات الأمة في صقلية، وفي شهر شباط ألغى مانجيني وزير المذاهب في نيابة كاريجنانو الاتفاقية الدينية المعقودة في سنة 1818 كما ألغى الأديرة، وجرد الأساقفة من حق إشرافهم على الأمور الخيرية، وكان ريكاسولي منذ مدة طويلة يطالب الحكومة بأن تستعد لجعل أملاك الكنيسة من الأملاك الأميرية في طوسكانه وبيع الأراضي الكهنوتية وتخصيص حاصلاتها لموازنة وإرادات الإكليروس. وأدى ذلك كله إلى إثارة حنق رجال الدين وغضبهم، وأخذوا يرغون ويزبدون، ولما أخفق متطوعو البابا أصبح أملهم الوحيد في تهييج الرأي الكاثوليكي في أوروبا حتى تضطر الحكومات إلى التدخل.
وكان خطر ضياع ما بقي من السلطة الزمنية يثير مخاوف الكاثوليك أكثر مما تثيره القوانين المعاكسة للدين والمراعية في المملكة الجديدة، ومن الحق أن يقال إن هناك كانت جماعة من الكرادلة المتساهلة، تقول بضرورة التفاهم حتى إنه تألف مجمع ديني لدرس القضية من الوجهة اللاهوتية، وقرر بأن البابا يستطيع أن يتخلى عن السلطة الزمنية إذا قضت مصلحة الكنيسة ذلك، إلا أن المجمع كان عبارة عن فئة قليلة من جمهرة كثيرة، وبينما كان هناك أمة فتية معتزة بقوتها فخورة بعملها وبطالعها، كثيرا ما تتوق إلى سحق العدو الذي يحول بينها وبين هدفها في جانب؛ كانت حكومة البابا بقوتها النافذة في الخير والشر تقف في جانب آخر.
وكانت قد ارتفعت أصوات منذ مدة طويلة من الوسط الإكليروسي الكاثوليكي؛ تدعو إلى إيجاد التفاهم بين الكنيسة وبين النزعة الحرة، وكان لامينس ومونتا لامبرون في فرنسة وروسميني وفنتورا وجيوبرتي في إيطالية؛ يبشرون بالإصلاح وبضرورة الأخذ بالاصطلاحات الحديثة، وكان أتباعهم بين الإكليروس وبين العلمانيين كثيرين، حتى إن الثورة في نابولي وصقلية كانت في طابعها دينية قادها الرهبان.
وقد أدى الاستياء الذي ولده تصلب بلاط روما الطائش والشعور بالخطر المحدق بالكنيسة والرغبة في سد الثغرة بين الكنيسة وبين العلمانيين إلى انسياق قسم كبير من الإكليروس وراء التحزب لفكرة التفاهم، وقد وقع في روما ذاتها خمسون من رجال الدين على نداء موجه لكافور، وكانت هذه الحركة في مجملها تمرد الإكليروس الرفيع وثورة الخوري الذي يتضور جوعا على المطران الغني الخليع، وراح رجال الإصلاح يقولون بأن الأساقفة لا يسعهم إلا صب اللعنات، فقد أضاعوا قدرة التقديس.
وكان على رأس هؤلاء المصلحين اليسوعي «بشاجليه»، وقد وجه وأتباعه نداء للرهبان ودكاترة اللاهوت قالوا فيه إن الكنيسة اعتادت أن تعترف بالحكومات تجاه الأمر الواقع، وإن التحريم بلا استناد إلى أسباب خطيرة قاهرة أو إنزال العقوبات الدينية بالجماهير أمور أنكرها رؤساء المذاهب الكاثوليكية وأحبارها.
على أن معظم كتابات هؤلاء لم تصدر إلا بعد بضعة أشهر حين شجعتهم أعمال الحكومة الإيطالية على الجهر بها، وكانوا قبل ذلك قد أظهروا نفوذهم فكان كافور - اعتمادا على معاضدة هؤلاء - يتوقع أن يدخل روما برضاء العالم الكاثوليكي، وقد قال في المجلس النيابي في شهر تشرين الثاني: «لا يمكن أن تحسم القضية الرومانية بالسيف، بالقوى الأدبية وحدها نستطيع أن نتغلب على الموانع الأدبية.»
وإذا تسنى البرهنة على أن إلغاء السلطة الزمنية لا يتعارض مع استقلال روحي أوسع حدودا مما كانت البابوية تتمتع له في الأزمنة المتأخرة؛ حينئذ يجرد الكاثوليك من سلاحهم الوحيد، ولكن ظهر بأن الأمل في عدول روما عن خصومتها إنما هو خائب، ومع ذلك فقد اندفع كافور بكل قوته نحو بلوغ هذا الأمل، وكان شعار المصلحين: «قيام كنيسة حرة في حكومة حرة».
وقد انتهت المعركة المديدة التي نشبت قبل قرن بين الكنيسة والدولة بهزيمة الأولى؛ إذ أرغم جوزفي الثاني في النمسة ولئوبولد في طوسكانه وتنوكي في نابولي البابا على عقد اتفاقات دينية جعلت الكنيسة خاضعة للدولة.
وكان كافور قرر إلغاء هذه الاتفاقيات إذا تخلت البابوية عن السلطة الزمنية، ومن البديهي ألا يكون للكنيسة امتيازات تتعارض وحرية الحكومة فتعترف الكنيسة بالنكاح المدني ويصبح العلمانيون ورجال الدين متساوين أمام القانون، ولا تفتح أبواب الأديرة الملغاة ولا يتمتع الإكليروس بحق الإشراف على مدارس الحكومة والجامعات، فإنها تصبح حرة في التصرف بأملاكها وبإدارتها كل الحرية، ثم إن الحكومة تضمن لها بعض الواردات، ويستطيع البابا أن يمارس القانون الكهنوتي من دون قيد على أن لا يطلب معاضدة السلطات المدنية، ويستطيع أعضاء الإكليروس أن يعظوا وأن يدرسوا ما يشاءون في مدارسهم الدينية الخصوصية.
ثم إن الدولة تتخلى عن حق تعيين الأساقفة الذين سوف ينتخبون فيما بعد من قبل إكليروس الأسقفية، ويحتفظ البابا بعنوان الملك الأسمى، ويتقاضى راتبا ضخما له ولبلاطه ويصبح مجمع الكرادلة طليقا من كل نفوذ حكومي.
تلك كانت خلاصة آراء كافور في حل قضية روما، وكان يعلم بأن الرأي العام لا يقابل مقترحاته هذه بادئ الأمر بالاستحسان، ولعل الرأي العام - ولا سيما في بيمونته ونابولي وصقلية - يعارض التخلي عن الحقوق التي اكتسبها من الكنيسة ، إلا أن كافور كان موقنا بقدرته على إقناع المعارضين العلمانيين، وقد قال: «إن انفصال الكنيسة من الدولة سوف يكون أمرا واقعا، يوافق عليه جميع الأحزاب في الجيل القادم.»
وقد استطاع أن يبدد شكوك الجماعات البارزة من العلمانيين، وأن يضعهم إلى جانبه في الأخذ بمشروعه، كما أن الإكليروس الحر صرح بأن هذا المشروع يفتح عهدا جديدا للكنيسة وأن في الحياة الموعودة ما هو أثمن من ضياع السلطة الزمنية، وأوشك كافور بسمعته ومزايا مشروعه أن يوفق إلى استمالة البرلمان والشعب نحو المشروع، وسبق أن حاول كافور استمالة البلاط البابوي إليه، وبعد أن اطلع بنجيتي على مشروعه أرسل تاجلية وبانتالتوني أحد الدكاترة من أهل روما بمهمة غير رسمية إلى الكرادلة الأحرار، وكان اثنان من الكرادلة قد رحبا بالمشروع ترحيبا حارا، أما الآخرون فأظهروا عطفهم عليه وأخيرا بسط أحد المظاهرين للمشروع تفاصيله أمام أنتونللي والبابا، ويلوح أن البابا وافق عليه.
أما أنتونللي فبعد أن بذل آخر جهد لإقناع النمسة بمهاجمة بيمونته تظاهر بتأييده للمشروع، وسرعان ما شرع كافور بمفاوضته رأسا وقدم إليه مقترحات مغرية ويكاد يكون مؤكدا أنه قدم مبلغا كبيرا من المال إلى أنتونللي فلم يرفضه، ومن جملة المقترحات التي عرضها أن يتمتع الكرادلة بالامتيازات التي يتمتع بها الأمراء أصلا ويدخلون في مجلس الأعيان.
وحين قبل أنتونلي الأسس التي اقترحها كافور مال إلى قبولها تسعة كرادلة آخرون ربما خافوا من خطر الانشقاق، أما البابا فكان لا يثبت على رأي لكنه قبل بها أخيرا مكرها؛ لأن قلعة جايته استسلمت، وأدرك أن مساعدة النمسة أصبحت بعيدة المنال، وتقدمت المفاوضات كثيرا ثم اعترضها بغتة عائق، وبعد أن اضطر كافور إلى أن يتساهل مرة أخرى في مفاوضاته عاد فقطعها في آخر شهر شباط.
ومن المؤكد أن أنتونللي كان في أوائل آذار يعمل مع إسبانيا والحصول على تدخل الدول الكاثوليكية، وكان اليسوعيون - في الحين ذاته - يبذلون جهدهم لإثارة البابا ضد أي مشروع للتفاهم فضاع كل رجاء في النجاح، وترأس أنتونللي المعارضة وطرد بانتالئوني من روما.
ولو نجحت تلك المفاوضات لكانت الكنيسة قد أثبتت صداقتها للدولة ولكانت الكنيسة والدولة قد كسبتا شيئا كثيرا في بعض النواحي ولتزايدت سطوة الكنيسة؛ لأن العقد كان يضمن للكنيسة حياد الأشخاص ذوي النفوذ البالغ في البلاط أو أنه يكسب الكنيسة صداقتهم، وكان البابا قد جعل منهم أخصاما له، ومع أن نفوذ الإكليروس بين القرويين وأهالي الجنوب الجاهلين قد يصبح خطرا، إلا أن من شأن التعاقد أن يصون إيطالية من معظم التوتر الذي حدث بعد ذلك بين الفاتيكان وقصر الكيرنال (بلاط ملك إيطالية في روما) وأن يزيد في استقرار الدولة باشتراك الكاثوليك الأقحاح من الأهلين في شئون الدولة اشتراكا عمليا.
بيد أن كافور أدرك أخيرا أنه لا يمكن إنجاز تلك السياسة في ذلك الوقت فانصرف إلى حل آخر إذا كان أقل كمالا فهو عملي ممكن التنفيذ؛ إذ تبين له أن الإمبراطور نابليون الثالث قد اعتزم أخيرا على سحب جنوده من روما؛ لأنه كان يتذمر من كون روما أصبحت ملجأ لأعدائه كما أخذ يعتمد على مساعدة الأحرار في فرنسة، وهدد الأساقفة الإفرنسيين وألغى الجمعيات المؤسسة لجمع المال للبابا.
ثم أخبر كافور في منتصف نيسان بأنه سوف يسحب الجنود من روما، على أن تتعهد الحكومة الإيطالية بصيانة أراضي البابا الحالية من كل تعد، ولسوف يتسنى للبابا بأن يجهز جيشا خاصا به، إلا أنه إذا استطاع الرومانيون في ظرف بضعة أشهر أن يقلبوا حكومتهم وأن ينضموا إلى إيطالية بالاقتراع العام فإن فيكتور عمانوئيل يستطيع إذ ذاك أن يذهب إلى روما، ولكن ينبغي له أن يذهب إليها بدعوة الأهلين لا غازيا، لقد كان من حق الرومانيين أن تكون لهم حكومة صالحة طبيعيا، أما حجة الكاثوليك في التدخل في شئون روما فكانت واهية؛ فحين كانت إيطالية والعالم الكاثوليكي يهتمان كل الاهتمام بمصائر روما كانت سبعمائة ألف نسمة - وهم مجموع رعايا البابا - لا يستطيعون أن
وكان معلوما أن الرومانيين إذا ثاروا فسيقترعون بفكرة الانضمام، وكان هذا التدبير الوسيلة التي تنجي الإمبراطور من تبعاته .
أما كافور فكان لا يتوقع بأن ينجح الرومانيون في ثورتهم وأدرك صعوبة إمالة الرأي العام إلى مثل هذا المشروع، وكان موقنا بأن البرلمان والرأي العام سرعان ما يستنكران اتفاقا يرمي إلى أن يجعل إيطالية حارسة للسلطة الزمنية، أما الغاريبالديون فسيبذلون قصاراهم لخرق ذلك الاتفاق، بيد أن كافور فضل مواجهة غضب الشعب على التخلي عن الحلف الإفرنسي ورفض تكاليف الإمبراطور، فقرر الملك ومنجيني - وبعد كثير من التردد - ريكاسولي معاضدته، فاستعد كافور للتوقيع على الاتفاق إذا اعترف الإمبراطور رسميا بتأسيس المملكة الإيطالية، واستعمل نفوذه في إقناع البابا باستئناف المفاوضات المنقطعة، وقد تعذر في باريس قبل العاشر من مارس تخلية رومة من الجند الإفرنسي في نهاية حزيران.
بيد أنه حدث في هذه المرة كما حدث في السنة الماضية؛ أن خاب الرجاء في اكتساب جانب روما، وقد انعقد المجلس النيابي الإيطالي في 18 شباط وظلت الكتلة التي تؤيد الوزارة أكثرية ولم يمثل الإكليريكيون فيه إلا قليلا، وكان من بين أربعمائة وثلاثة وأربعين عضوا ثمانون عضوا في أقصى اليسار، ويدعون وقتئذ بالغاريبالديين، أما المعتدلون الجديدون فكانوا من أعضاء الوسط البيمونتي ومن الجمهوريين والغاريبالديين الذين أصبحوا من المعتدلين، والدستوريين الملكيين من الإيالات الجديدة، وكانوا يمثلون الفئة التي أيدت سياسة كافور في السنتين الأخريين، تلك السياسة التي أنقذت إيطالية الوسطى وأكسبت المملكة جنوب الوطن، ولم يكونوا أقل من الغاريبالديين حماسة للذهاب إلى روما وفنيسيه، إلا أنهم كانوا من ذوي البصيرة ويحرصون على أن يضمنوا الانتصار قبل أن تنازل قواتهم قوات النمسة، وكانوا يأملون أن يكسبوا روما من دون أن يغضبوا الدول الكاثوليكية، ومع كل التردد الذي كان يبدو في سياستهم والحيطة التي ترافق تصرفاتهم فإن سياستهم كانت خيرا من سياسة الغاريبالديين نظريا وعمليا.
وكان اليسار قد فتح صدره للسياسيين من شتى المذاهب، دموقراطيين واتحاديين وبوربونيين ... وكانت معارضة الحكومة وحدها تؤلف ما بينهم، أما الحزب الغاريبالدي القح فأعضاؤه أتوا من نابولي وألفوا جماعة متماسكة قوية بالسمعة التي حازتها سنة 1861، ثم إنها كانت تمثل الشعب القلق الطامح إلى الحصول على روما وفنيسيه، وكانوا يرفضون التأني والتفاهم من دون أن يكترثوا للصعوبات العسكرية والسياسية، وكانوا يعتقدون بسهولة تجديد الوقائع الموفقة التي نالها غاريبالدي من سفرته في صقلية ويريدون حشد المتطوعين لتمهيد الطريق نحو فنيسيه وأغروا رومانو.
أما إذا رفض منهاجهم للحركة فإنهم كانوا يطالبون من الحكومة بأن تسمح لهم بأن يعملوا مستقلين عن الحكومة، وبذلك تتجنب البلاد شقاقا أوشك أن يصبح شؤما في الخريف الماضي، إلا أنه مهما كانت هذه الجماعة ذات شأن خطير في البلاد فإنها كانت في البرلمان حزبا مهملا، ولكن المحذور الوحيد الذي كانت الحكومة تحسب حسابه هو احتمال تأليف معارضة من المركز تجتمع حول رتازي؛ إذ كانت العلاقات بينه وبين كافور لا تزال متوترة، وكان يستطيع أن يستخدم لباقته البرلمانية بدون ضوضاء يمد اليد الواحدة إلى الحزب البيمونتي الضيق التفكير واليد الأخرى إلى الغاريبالديين.
أما حزب اليسار القديم فلا يختلف في سياسته عن سياسة أنصار الوزارة، إلا أنه كان يحتفظ بتقاليد المعارضة باسم حزبه الأكثر والأقل، وهكذا انبعثت من هذه العناصر المتنافرة بالتدريج حزب ثالث قليل العدد، لا مبدأ يوحد أهدافه إلا أنه كان قويا بمفرده ومؤيدا من قبل أكثرية الرأي العام.
ومع ذلك فإن نسف مركز كافور كان أمرا صعبا مستحيلا؛ إذ جاهر بإخلاصه لمبادئ القوميين بأوسع معانيها وآفاقها، وظاهر المطالبين بروما وصرح بأن الأقطار الجديدة يجب أن تكون متساوية مع بيمونته فعاضده معظم الأحرار، ومع ذلك فإن تسيير الأمور في المجلس النيابي لم يكن بالأمر السهل، فالملك حين كان في نابولي وعد المتطوعين وعودا جريئة اعتبرها فانتي وزملاؤه القواد ماسة بكرامة الجيش؛ لأنها كانت تمنح رتبا لعدد كبير من الضباط المرتجلين غير المجربين، وقد اعترض كافور على قسم من مشروع الملك الذي يضع جيش الجنوب في موضع شبه المستقل، فاضطر الملك - بضغط الوزراء والجيش - إلى الإذعان وحضر نحو من ثلاثة آلاف وخمسمائة ضابط؛ أي نصف مجموع الضباط أمام لجنة لتدقيق حقهم في حمل رتبة في الجيش النظامي، ويلوح أنهم عوملوا بعدل إلى أن صدر أمر الحكومة في 11 نيسان بإحالتهم إلى التقاعد.
وقضى غاريبالدي الشتاء في كاربيره حانقا بسبب تسريح المتطوعين على تلك الصورة، ولكنه ظل يخلص للملك، وقد تخلى وقتئذ عن خططه المستعجلة بشأن روما وفنيسيه، وكان يحمل حقدا مستمرا على كافور إلا في فترات نادرة، ولا يتحول عن رأيه في إيجاد أمة مسلحة، تستطيع أن تقذف إلى الميدان عاجلا أو آجلا مليون رجل لفتح فنيسيه وروما، وإذا كانت الحكومة لا ترغب هي في القيام بهذا الواجب فإنه يطالب بأن يسمح له هو وأصدقائه بأن يمهدوا السبيل، وأن يجهزوا عددا من الحرس القومي وأن يقوموا بتنظيم التدريب على السلاح وتأسيس لجان تموين لجمع المال والسلاح. وقد وافق كافور وتساهل مع جميع هذه المشاريع إلى حد ما.
وترك غاريبالدي كاربيره في شهر نيسان، وبعد أن ألقى في جنوة خطابا طائشا تظاهر فيه بقلة الاحترام للملك وللبرلمان حضر بغتة إلى المجلس النيابي فاستوضحه ريكاسولي حقيقة الخطاب الغريب، ودعى الحكومة في الوقت نفسه لتسويغ القرار الجديد الذي أصدرته بشأن المتطوعين، ولما قام فانتي (وزير الحربية) وازدرى به بدلا من أن يجيب، انفجر غضب غاريبالدي الدفين وأطلق لنفسه العنان فهاجم الحكومة ووجه لها قارص الكلام متهما كافور بكل نقيصة، ومحتجا عليه قائلا بأنه لن يصافح يد الرجل الذي خلقه، وليس كافور سوى أجنبي يعيش في بلده «غاريبالدي» الخاص.
وأغضبت حركته الطائشة الجانب الآخر، فما كان من الجنرال جيالديني إلا أن نشر - بعد بضعة أيام - كتابا مملوءا بالوشايات أبدى فيه غضب الجيش والرأي العام على تصرفات غاريبالدي، ولما طلب هذا من جيالديني المبارزة أدرك المتزمتون من كلا الجانبين ضرورة إنهاء الحادثة، فهدأ مديجي وبيكسيو جأش غاريبالدي الذي شعر بخطئه، وتدخل الملك في التوفيق بين المتخاصمين، ثم تقابل كافور وغاريبالدي في 24 نيسان.
ومع أن المقابلة كانت باردة فكان الإخلاص يسودها وتلاها تراض أشد حرارة مع الجنرال جيالديني، ثم عاد غاريبالدي هادئا إلى كاربيره؛ حيث كتب منها إلى كافور كتابا وديا أبدى فيه موافقته على الحلف الإفرنسي، ورجا فيه بأن يسلح الأمة لكي تتضافر جميع الجهود في سبيل تحرير إيطالية.
ولكن كان كافور كئيبا في أثناء تلك الحادثة حتى قال بأنها سمته، وقد هدمت الأشغال الشاقة التي تحملها في خلال السنتين الأخيرتين بنيته، وكان منذ مدة يشكو الأرق والصداع، وظهرت عليه في نهاية شهر أيار أعراض مرض التيفود، وقد مضى ساعاته الأخيرة بالانكباب على أمور نابولي وقضاياها، وكان آخر رسالة بلغها لأصدقائه ضرورة تأمين حاجات منكوبي الجنوب، وكان آخر قوله: «بعثت إيطالية ونجى كل شيء.» ومات في 6 حزيران فبهتت البلاد أمام هذه الضربة المفزعة المفاجئة، وشوهد الناس يسكبون دموعهم في الطرقات وفي البرلمان وأعلنت تورينو الحداد عليه بالصمت وكأن وباء انتابها، لقد مات كافور في أتم نضوجه، وكان في الواحدة والخمسين من عمره، وقضى حين كانت البلاد في أشد الحاجة إليه، وهكذا أبى القدر في ساعة انتصار إيطالية إلا أن ينزل بها ضربة اهتزت لها فزعا وأسى.
الفصل الرابع والثلاثون
اسبرومونتة
تشرين الأول 1861-كانون الأول 1862
ومن النقاط الأساسية في سياسة ريكاسولي أن سيكون المسير نحو فنيسيه من روما، وكان يود لو أمكن أن تقنع الدول النمسة بالاستيلاء على البوسنة والهرسك بدلا من فنيسيه، وكان يعلم أن إيطالية لم تكن مستعدة لقتال النمسة بلا مساعدة؛ فلذلك يقتضى تأخير القتال إلى وقت آخر وعلى إيطالية ألا تفكر في الحرب قبل أن تتحسن الشئون المالية وتنظيم الجيش وتقمع الشقاوة، وتصبح قضية روما في طريق الحل، كما أن تأجيل قضية فنيسيه قد يفيد من كسب معونة إنجلترة الأدبية الذي يمكن إيطالية من استغلال هذه المعونة تجاه النفوذ الإفرنسي، وربما يستطاع الحصول على موافقة بروسية على قيام الكيان الجديد.
وكان بالمرستون قد أوصى بسياسة التريث بيد أنه كانت هناك دواع قوية تدعو إلى حرب عاجلة؛ إذ إنه قد تملكت فيكتور عمانوئيل منذ مدة طويلة - لأسباب وطنية بلا شك - فكرة ترمي إلى أن يلعب هو الدور الأول في السياسة الإيطالية مستقلا عن وزرائه، وكان كافور إلى حد ما قد قبض على عنانه غير أنه أصبح في زمن ريكاسولي قلقا، وأخذ يعمل في الخفاء على إثارة الحرب ضد النمسة، فشجع الهنغاريين اللاجئين وفاوض الإمبراطور سرا؛ للحصول على معونة فرنسة، ولم يحاول إخفاء مقاصده عن وزيره الأول.
ولما رأى أن ريكاسولي معتزما مقاومة هذه الفكرة نشط في حياكة الدسائس ضد وزيره مستغلا حنق رتازي لصعود ريكاسولي منصب الحكم، وكان رتازي يميل إلى سياسة حذرة ويتحاشى من منهج متطرف، وكان يرى أن سكونا جديدا وسياسة اقتصادية أمران حيويان لتنظيم المالية وتأمين النظام في الإدارة.
أصبح الإمبراطور العضو الثالث في عصبة المؤامرة؛ إذ كان هذا أيضا كريكاسولي يحبذ حسم القضية الإيطالية في الشرق بإعطاء النمسة الإياليتين البلقاليتين مقابل تخليها عن فنيسيه، وكانت الشئون المالية في فرنسة قد جعلته يتجنب الحرب في تلك الساعة، كما أن علاقاته مع بروسية كانت توحي إليه بأن يراعي جانب النمسة.
وكان يرى من جهة أخرى أن حربا في فنيسيه قد تصرف أنظار إيطالية عن روما، ومهما يكن الأمر فإن الإمبراطور كان يحبذ ويشجع أي مؤامرة ضد ريكاسولي، ولعله كان يعتقد بأن النفوذ الإنجليزي في تورينو يفوق نفوذه ما دام ريكاسولي رئيسا للوزارة، فشجع «بنديتي» سفيره الجديد على الدسائس لإسقاط ريكاسولي كما أن رتازي ذهب إلى باريس بتحريض من الإمبراطور في شهر تشرين الأول، ولعله ألقي في روع رتازي أنه سوف تتقدم إيطالية حالا نحو روما وفنيسيه، كما وعده نفوذه للحصول على موافقة روسية وبروسية والوصول إلى نوع من التفاهم مع روما.
وبعد عودة رتازي ضاعفت عصبة المؤامرة نشاطها وبذل رتازي جهده لإسقاط ريكاسولي في البرلمان ليهيئ للملك فرصة يشكر له إياها، وكان يعلم أن مركز ريكاسولي من المتانة بحيث يتعذر عليه وحده إسقاطه، وقد استغل فيما مضى نفوذه غاريبالدي ثم تنحى هذا عنه، ولكنه أراد الآن أن يعيد الكرة.
وكان غاريبالدي يقضي حياة العزلة في كاربيره، وكان يميل هو أيضا إلى مهاجمة روما قبل فنيسيه، أما مازيني فكان يدرك استحالة الهجوم على روما ما دام الإفرنسيون فيها، وحيث إن هنغارية وبوهيمية على أهبة الثورة فإن الفرصة سانحة للاستيلاء على فنيسيه، وكان الدموقراطيون قد جن جنونهم لسياسة معاكسة وأقلقهم الانشقاق الذي وقع بين شبه الجمهوريين الذين أخذوا يطالبون بالسير بموجب منهج متطرف على أن يعملوا مستقلين عن الحركة، وبين الملكيين المخلصين الذين يوشكون أن يقطعوا صلاتهم بالبرلمان، وقد بذلت مساع لاندماج هاتين الفئتين في مؤتمر انعقد في جنوة في 15 كانون الأول انبثقت منه «جمعية التحرير»، وقد قبل غاريبالدي رئاسة الجمعية وتخلى في الظاهر عن نياته بشأن روما ووافق على أن تتجه الحركة نحو الهجوم على فنيسيه.
وأثار انعقاد المؤتمر واحتمال انعقاده مرة ثانية في آذار المعتدلين، فطالبوا بإلغائه، ولا سيما لأنه كان خصما للبرلمان إلى حد ما، ولكن ريكاسولي يعلم بأن إلغاء المؤتمر يحمل الناس على العمل في الخفاء والتآمر في السر وفي هذا ما فيه من حذر بالغ، كما أنه كان يدرك قيمة المؤتمر ووطنيته، فرفض أن يتدخل في اجتماعات الدموقراطيين ما دامت تتعارض مع القانون، واعتقد أن الخطة التي وضعها منجبيتي والمعتدلون لسحق المتطرفين غير عملية ولا هي شريفة، فنفي مازيني وإهمال غاريبالدي في صومعته لم يمنع علم التحريكات من أن يرفرف دائما، ولم يكن لريكاسولي رجاء في كسب جانب مازيني؛ إذ كان يعلم بأنه لا تلين له قناة فليس أمامه من طريق عملي سوى أن يتفاهم مع غاريبالدي.
وكان ميل غاريبالدي الطبيعي يتوجه نحو الملك وكان خطر غاريبالدي في حاشيته التي تحيط به في كاربيره وتؤثر فيه، ولما علم ريكاسولي من وكلائه أن رتازي يحيك الدسائس في كاربيره أصبحت ضرورة التفاهم مع غاريبالدي أمرا لا بد منه.
أما رتازي فأقنع غاريبالدي بأنه إذا تسلم الحكومة فسيهاجم فنيسيه فورا ويساعده على سوق حملة إلى أي مكان في روما الشرقية يستطيع منه أن يهاجم النمسة من الخلف، وكان ريكاسولي يعلم بأنه إذا أثيرت آمال غاريبالدي فإنه لا يطيق صبرا على الحركة، فإذا امتنعت الحكومة من الحركة فسيلقي بنفسه غزوة طائشة نحو فنيسيه أود الماسية، قد تسعر النار في أوروبا وتجر إيطالية إلى حرب شعواء لم تكن قد استعدت إليها مطلقا، فأصبح العلاج الوحيد اكتساب ثقته للاستفادة منه في مقاصد الحكومة القادمة، وإقناعه بالتريث ريثما تعطى له الإشارة وإشغاله الآن بشئون جمعية الرمي التي تألفت لتدريب الشباب على إطلاق النار، ولكن هذه المحاولة لم تستطع أن تتغلب على نفوذ رتازي الذي أوقع غاريبالدي في شرك عصبة الدس، ولم يبق أمامها سوى زعزعة مركز ريكاسولي في المجلس النيابي.
وما إن اجتمع البرلمان في تشرين الثاني حتى تجلت العراقيل التي أخذت تعترض سبل الوزارة وكانت الوزارة غير قوية سواء أكان ذلك في الوزارة نفسها أم في الحزب، وأخذ اختلاف الرأي يفرق بين أنصارها ... فأعضاء اليمين آلمهم وأثار حنقهم تساهل ريكاسولي أمام تحريكات تجرى في طوسكانه وإميليه جهارا، وأسخطهم تزايد عطفه على اللجان الدموقراطية.
ولما مال القسم البيمونتي المعاضد للوزارة إلى جانب رتازي راح هذا يحرض العناصر المعارضة جهارا، ويضاف إلى هذا أسباب أخرى كانت تدعو إلى مهاجمة الوزارة، نذكر منها السياسة المركزية الجديدة والفوضى والتذبذب الإداري والخلل في الجنوب واستدعاء جيالديني والمفاوضات التي كانت تدور حول روما، وقد هبت العاصفة المناسبة قضية التساهل الذي أبدته الحكومة تجاه لجان التجهيز، وكان المجلس قد اجتنب الاقتراع ضد الوزارة غير أن المذاكرات دلت بوضوح على أنه ليس لدى ريكاسولي الأكثرية، فانتهز الملك الفرصة للتخلص منه.
وكان ريكاسولي في كانون الأول قد باغت الملك في قوله إنه لا يستطيع البقاء تجاه دسائس البلاط والأزقة، كما أنه رفض حينئذ أن يقدم استقالته ما دام البرلمان معه إلا إذا أتاه أمر قطعي من العرش، وقد أدرك اليوم؛ أي في نهاية شباط، أنه أضاع تأييد المجلس النيابي فاستقال في آذار، وسارع الملك إلى قبول استقالته واستدعى رتازي ليحل محله، وبذلك دخلت المملكة في مأزق خطير، ووجه الخطورة أن رتازي والملك بعثا الروح الثورية التي سعى كافور وريكاسولي كثيرا لتهدئتها، وكانت هذه الروح تضع إيطاليا تحت رحمة غاريبالدي المشهورة، وكان رتازي يظن أنه يستطيع دائما - بلباقته المعهودة - أن يوقف التيار بهدوء حين الحاجة.
وقد خرج غاريبالدي إلى جنوة حين استقال ريكاسولي وحالما بلغه تعيين رتازي أسرع إلى تورينو، ورجع منها بحماسة شديدة بفضل الوعود التي قطعها له فيكتور عمانوئيل ورئيس الوزارة الجديدة، ويظن أن رتازي السياسي الحذر قد قصر حديثه على مشروع غامض لا يتعدى تجهيز الحرس القومي، إلا أن مخيلة غاريبالدي جعلته يفهم من تلميحات رتازي معنى الحرب العاجلة للاستيلاء على فنيسيه وعلى روما أيضا.
ومع ذلك لا يجوز الشك مطلقا من أن رتازي لم يشجع غاريبالدي ولم يعده بالرجال والمال؛ فلذلك راح غاريبالدي يفكر في تجهيز حملة دون أن يبت في تعيين جهتها ... فكانت الوجهة تارة دالماسيه لمساعدة الهنغاريين وتارة بلاد اليونان لنصب فيكتور وصيا عليها، إلا أن أهم أهدافه كان نهك قوات النمسة بتحريض الإيالات الشرقية على العصيان، ولا سيما لأن الوقت كان مساعدا؛ إذ كانت رومانية والجبل الأسود ودالماسيه تتململ في هياج عظيم، وكان الكفاح الدستوري في هنغارية على وشك أن ينقلب إلى ثورة، وسيطر غاريبالدي على الحكومة في ذلك الحين، فعين رئيسا لجمعيات الرمي وسلمت لابنه كتيبة من جنود الكارابنيري جهزت بحجة ضرب الأشقياء، وألحق المتطوعون بالجيش النظامي وأوفد غاريبالدي إلى لمبارديه على نفقة الحكومة بمهمة رسمية لتنظيم جمعيات الرمي فاستقبل فيها كما يستقبل الملوك، وكانت الجماهير في كل مكان تقصد إليه تطالب بروما وفنيسيه فلم يبخل بكيل الوعود.
وبذلك نال رتازي بغيته في استغلال شهرة غاريبالدي لمصلحته، واستطاع بذلك أن يكسب رضاء البرلمان عنه وانضمام الدموقراطيين إلى جانبه، ولعل رتازي نوى أن يضع غاريبالدي أمام الإمبراطور وأن يؤكد له بأن ضغط الشعب وخطر نشوب الثورة يحتمان - لمصلحة الحكومتين - تحقيق الآمال القومية في الحصول على روما، وكانت الحفاوة الباهرة التي قوبل بها غاريبالدي في لمبارديه قد كسفت نجم الملك، فاضطرت الحكومة لكي تحول الأنظار إلى الملك أن تقرر سفره إلى نابولي؛ حيث حياة الأسطول الإفرنسي الراسي فيها، وأقبل الأمير نابليون للسلام عليه فاستقبل الملك بحفاوة بالغة.
أما غاريبالدي فذهب إلى ناحية التيرول لتنظيم حمله، ومع أن الحكومة حاولت جهدها أن تتجاهل عزمه هذا ، ولكنه لم يحاول وأصدقاؤه إخفاء الأمر، وقد شجعته الحفاوة التي قوبل بها في لمبارديه على الحركة بجرأة واندفاع، واعتقد أنه إذا استولى على فنيسيه أو التيرول فلن ترى البلاد والحكومة بدا من السير وراءه، ومع أن رتازي أراد - حسبما يظهر - أن يصده عن هذه المغامرة الجديدة فإن هناك احتمالا بأنه كان يلقى تأييدا من دبريتيس عضو الوزارة، حتى إنه حصل على وعد جديد بإمداده بالسلاح والمال، ولكن سرعان ما كشرت الحكومة له عن أنيابها بغتة، وكانت حجتها الرسمية في ذلك أن الشرطة اكتشفت - لأول مرة - دلائل على وجود حركة تستهدف الاستيلاء على التيرول، ولعل رتازي أدرك أخيرا أن غاريبالدي أصبح خارجا عن قبضة يده، ولا بد من اتخاذ تدابير صارمة لإيقافه عند حده، ومهما كان السبب فإن الحكومة قد لجأت في 15 أيار إلى سياسة الحزم، فأوقفت مائة متطوع وأرسلتهم إلى بريسيه، وهناك حاول الغاريبالديون اقتحام السجن، فوقع اصطدام بينهم وبين الجند، وأثار هذا الحادث غضب الدموقراطيين، وقامت مظاهرات في ميلانو وجنوة ونابولي وباليرمو تهدد الحكومة، ونعت غاريبالدي الجنود بالقتلة، وطلب إلى الحكومة إخلاء سبيل رجاله، ثم لم يلبث أن هدأ وكف عن إعداد الحملة، واجتمع برتازي وبدبريتس وانسحب إلى الريف وأصدر أوامره بتوقيف حركة تجنيد المتطوعين، وبعد مقابلة خفية مع الملك ورئيس الوزراء رجع إلى كاربيره.
وحدث بعد ذلك أن فوجئت إيطالية بغتة بخبر نزول غاريبالدي إلى باليرمو، ولا شك أنه نوى أن يجعل صقلية قاعدة لقوته كما جعلها سنة 1860، ولربما كان لا يزال يتردد في تعيين وجهة تلك القوة، ويغلب على الظن أنه كان ينوي الذهاب إلى بلاد اليونان، وأنه يترقب مساعدة الملك الموعودة؛ ليستخدمها في الهجوم على روما.
وقد قوبل في باليرمو بحماسة فائقة وكان الغاريبالديون فيها أقوياء، وحدثت في إحدى نواحيها ثورة جمهورية لم تقمع إلا بسفك كثير من الدماء، مما دل على أن العناصر الفوضوية التي تؤيد فكرة الحكم الذاتي المنفصل في الجزيرة كانت لا تزال قوية، وبعد مرور بضعة أيام هاجم غاريبالدي الإمبراطور حين خاطب أهل باليرمو قائلا: «على نابليون أن يترك روما وإلا نعيد مأساة أفعى صقلية.» أما باللافجينو والي باليرمو فلم يحتج على خطابه.
وفي مارسله صرخ أحد المستمعين قائلا: «روما أو الموت.» ثم أقدم على دعوة الشعب للقسم على المذبح في الكتدرائية، وبذلك أعلنها حربا مقدسة شبيهة بالحروب الصليبية، وأثار مشروع غاريبالدي الجديد في البلاد هياجا شديدا، وخيل للبلاد أن زحف سنة 1860 سيعاد للاستيلاء على روما كما استولى غاريبالدي على نابولي قبلا، وقررت فيتربه العصيان، وبينما كان بعض القوميين في روما يبرقون لرتازي طالبين تعليماته اتصل البعض الآخر بغاريبالدي وتأهب للحركة، وكان جميع الناس قانعين بأن الحكومة تؤازره، وبهذا دخلت الحكومة في مأزق لا مخرج لها منه، ولعل رتازي كان يتوقع أن يستخدم غاريبالدي وحركته لحمل الإمبراطور على الإذعان، وعليه فإنه بدلا من أن يعترض على مشروع الثورة في روما اكتفى بأن نصح الرومانيين باجتناب الاصطدام بالإفرنسيين فقط، وترك باللافجينو من دون تعليمات سوى أمر غامض يقضي بإحباط عمل المتطوعين، وقد رؤي ذات مرة يشرب نخب غاريبالدي راجيا أن يتوج فيكتور عمانوئيل في أقرب وقت في الكابيتول.
وهرب أفراد مختلفو الرتب من الجيش؛ للالتحاق بجيش غاريبالدي من دون أن يلاقوا أي عائق، إلا أن الوزراء فزعوا هذه المرة أيضا كما فزعوا في شهر أيار، ويغلب على الظن أن موقف نابليون هو الذي أقلق الحكومة فعزلت باللافيجينو، وسعت لمنع وصول المتطوعين إلى الجزيرة وصدر بيان ملكي في 3 آب يصف الحملة بأنها عصيان ومدعاة للحرب الأهلية.
والواقع أن الحرب الأهلية كانت - على ما يظهر - قريبة الوقوع، وعلى إثر ذلك تراجع أصدقاء غاريبالدي الخلص وأفزعتهم خطورة الحال حتى إن أحدا من قواده القدماء لم يرغب في السير معه، وبذل تابريزي ومديجي والنواب الدموقراطيون جهدهم لردعه عن السير في هذه الحركة الطائشة، بيد أن غاريبالدي رفض التريث معتمدا على مؤازرة الملك ومطمئنا إلى أن الإفرنسيين لن يقاوموه، وشجعه إقبال المتطوعين والهروب من الجيش النظامي على المضي في منهجه، وترددت السلطات ذاتها حينئذ في مقاومته، ولعل رتازي كان لا يزال يتوقع أن يعيده إلى رشده، ولما أصر على موقفه قطعت الحكومة صلاتها به في 17 آب، وأعلنت بأنه أصبح عاصيا وأرسلت القائد جيالديتي إلى صقلية لإعلان الإدارة العرفية فيها.
ووصل غاريبالدي في اليوم التالي إلى كتانيه وكاد الاصطدام يقع بينه وبين الجند لو لم يرغب الفريقان في اجتناب حرب أهلية، ولم يكن لدى غاريبالدي سوى 4000 رجل أكثرهم من الفتيان المتشردين، ولو قامت السفن التي كانت تحاصر الميناء بواجبها لكان من الصعب أن يجتاز غاريبالدي المضيق إلا أنها أغمضت عينها وساعدته على أن يستولي على باخرتي نقل، فحرق خط الحصار مع 2000 من رجاله ليلا في 24 آب ونزل في ساحل كلبريه ولكنه لم يلاق من الأهلين إلا قليلا من العطف، وكانت قطعات قوية تحتل ريجيو فاضطر إلى الانسحاب برجاله الذين أخذوا يتضورون جوعا وانطلق بهم إلى روابي «أسبرومونته» الجرداء، وتلقت قطعة تزيد على الثلاثة آلاف جندي أمرا بمهاجمته فورا وإجباره على الاستسلام، وكان اضطراره إلى مسيره الشاق لجمع المتخلفين والحصول على الغذاء فرصة سانحة للقطعة المطاردة التي أحدقت به، فلم يبد غاريبالدي أية مقاومة، وحاول منع جنوده من إطلاق النار على الجند الطلياني إلا أنه نشب قتال استمر عشر دقائق وجرح فيه ما يقارب العشرين من كل فريق، وسلم غاريبالدي نفسه بعد أن جرح برصاصة إيطالية في عقب رجله، وعلى كل حال فإن حادثة أسبرومونته قد أفادت البابا ودفعت قضيته إلى الأمام بصورة أزعجت الأحرار.
وكانت الحكومة قد أظهرت ما يكفي من القوة لإحباط عمل الحزب الثوري، فأدرك إذ ذاك رجال - أمثال فانتي - كانوا إلى ذلك الحين يفضلون تأجيل الزحف على روما إلى حين؛ بأن سياسة أصبحت وقتئذ محفوفة بالصعوبات، بيد أن فانتي وجميع الموظفين كانوا يعلمون بأن محاولة الذهاب إلى روما من دون رضاء الإمبراطور هي مجرد طيش، ولو اقتنع نابليون بأن لديه القوة الكافية لكان ترك فيكتور عمانوئيل يتوج في الكابيتول عملا بمشروع نيابة الملكية القديم، وفي هذه الظروف ذاتها كتب كتابا مفتوحا يقترح فيه استدعاء الحامية الإفرنسية ، بشرط أن تعترف إيطالية بسلطة البابا في الأراضي التي كانت لا تزال في حوزة البابا، على أن تؤلف تلك الأراضي نوعا من الاتحاد مع الملكية.
بيد أن البابا ظل متصلبا شأنه سابقا آبيا التفاهم، وأيده مجمع كبير من الأساقفة يكاد يكون أغلبهم غير طليان، وكان اجتمع لتقديس أحد الشهداء اليابان ورفض أي تساهل وأعلن تمسكه بالسلطة الزمنية، وكان الإمبراطور - على ما يظهر - متمسكا بقراره بسحب قطعاته، لولا أن الكاثوليك الإفرنسيين استطاعوا بنفوذهم أن يحملوه على التراجع الوقتي فرفض وزير خارجيته ضمنا إخلاء روما.
وأدى هذا الفشل الذي مني به رتازي في الحصول على تساهل الإمبراطور أو تأييده إلى زلزلة موقف الوزارة من جديد، ولم يستطع رئيس الوزراء رغم لباقته أن يضمن له أكثرية مستقرة، وكانت الشكوك دائما تخالج حزب اليمين ولم يمنحه هذا الحزب الثقة إلا بسبب نفرته الشديدة من الغاريبالديين، وأخذ «بيروزي» الذي كان يترأس الفرع اللابيمونتي يهاجمه؛ لأنه سعى لتوسيع بيمونته بدلا من تكوين إيطالية، أما الغاريبالديون فراحوا يقيمون الدنيا ويقعدونها احتجاجا على ما جرى في أسبرومونته.
ولما اجتمع البرلمان في شهر تشرين الثاني هبت الزوبعة من جميع الأطراف وصدق كثيرون من الناس الشائعة التي زعمت بأن الحكومة شجعت غاريبالدي ثم تخلت عنه، وكان من السهل أن يدرك المرء سخط نصف إيطالية وحقدها لما علمت بأن غاريبالدي سقط جريحا برصاصة إيطالية، وأخذ الخطر يهدد المملكة وينذر بحرب أهلية في صقلية؛ إذ طارد جيالديني المتطوعين في صقلية وقتل سبعة من الجنود الهاربين الذين التحقوا بهم، وبدلا من أن تعفو الحكومة عن غاريبالدي حالا عاملته معاملة فيها قسوة غير لائقة، ولم تجرؤ على سوق غاريبالدي أمام المحاكم؛ خشية أن يفشي أسرارها ويسود وجهها، ولم يصدر العفو عنه إلا في شهر تشرين الأول، فلما اجتمع البرلمان اتحد جناحا اليسار واليمين، وهاجما الوزارة معا حتى اضطر رتازي إلى تقديم استقالته في 1 كانون الأول 1862.
الفصل الخامس والثلاثون
ميثاق إيلول
كانون الأول 1862-إيلول 1864
وكان هناك مشاكل جمة تثقل كاهل المملكة الفتية وصعوبات تعترض سبيلها ، وقد كشفت وقائع أسبرومونته عن الجروح المميتة التي ولدتها البابوية وفرنسة في قلب روما، وأي حل قاس فرض على المملكة؟ فإما المخاطرة باصطدام مخيف مع فرنسة وإما ترك النار تحت الرماد لتؤججها الرياح وتقلبها إلى ثورة، ولو كان كافور حيا لاستطاع أن يتغلب على تلك الصعوبات، وكانت لا تزال أمام إيطالية صعوبات أخرى: صعوبة تخفيض قوة الجيش ما دامت فنيسيه خاضعة لحكم الأجانب؛ لأن الأزمة المالية التي نشأت من زيادة قوة الجيش وأخذت تشتد باستمرار كانت تهدد بالإفلاس، يضاف إلى ذلك خلل الإدارة في الجنوب والمنافسة بين بيمونته والأقطار الجديدة والفساد الذي دب في الحكومات القديمة.
وساءت السياسة الداخلية كثيرا حتى أصبح بوسع المرء أن يتساءل: أليس من الأجدر أن تترك إيطالية روما وفنيسيه مدة من الزمن وأن تتفرغ للإصلاحات الداخلية الاجتماعية؟ بيد أن هذا السؤال هو منطق نظري لأن العاطفة هي التي تتغلب دائما على المنطق حين يشتد الهياج، فسياسة ترمي إلى جعل فكرة التوسع القومي في المرتبة الثانية من الاهتمام مستحيلة التطبيق، وقد سعى «باسوليني» بعد سقوط رتازي وتلاه سان مارتينو؛ لتأليف وزارة إدارية بدون تمييز بين الأحزاب، ففشل مسعاهما، وكان كلما مر حين أو انقضى شهر يتجلى عظم الخسارة التي منيت بها إيطالية بفقدها كافور، وكان ريكاسولي ورتازي يدركان - على الأقل - بعض ما تحتاج إليه البلاد ويفهمان ما تتطلبه الكرامة القومية، ولكن الحكومة بعدهما غدت بأيدي أناس لا جرأة لهم ولا كفاية فيهم.
وكان الرئيس الأسمى في الوزارة الجديدة فاريني، إلا أن المرض ألجأه في شهر آذار إلى اعتزال الخدمة، فأصبح الرئيسان الفعليان في الوزارة منجيني وزميله ومنافسه بيروزي، وكان بيروزي قد اشتهر بالعبارة التي ابتدعها وهي: لا يمكن أن تحكم إيطالية من تورينو، وأصبحت إدارة وزارة الداخلية في إدارته وإدارة «سبافينته» مركزا لشرطة سرية سارت على أساليب ترجع إلى دور الاستبداد القديم، ولا يجوز أن تصدر عن حكومة حرة كقمع الصحافة أو فسادها بالخفاء واستخدام الرجال السريين من فاسدي الأخلاق، وكانت سياستهم قتل الوقت وكانت سياسة قتل الوقت في إيطالية تعني المصيبة.
وسارت مالية الدولة من سيئ إلى أسوأ، وأديرت صقلية ونابولي من قبل السلطات العسكرية، ولعل أشد ما اتهمت به وزارة منجيني تشجيعها فكرة مهاجمة زعماء بيمونته، وكان بعض البيمونتيين الذين اشتركوا في الوزارة قد شغلوا المراكز الثانوية، فانجرفت الوزارة إلى جانب عصبة الدسائس حتى شاع أنها أفسدت الصحافة بإقناعها بالدفاع عن موضوع نقل العاصمة إلى فلورنسة، وأصبح من السهل أن تتشرب السياسة بالتحزب، وكان عدد كبير من النواب قد تعلم في المنفى أو في حياة قضاها في المعارضة عادة جعلتهم يصلحون للحياة النيابية وراحوا يفضلون التنفيذ على القيام بواجبات التشريع، أما الأكثرية الكافورية القديمة فقد تجزأت وانقسم المجلس النيابي إلى جماعات صغيرة تستند إلى مصالح شخصية أو محلية أكثر من استنادها إلى المبادئ، مما جعل الحكومة لا تستطيع أن تعتمد على أكثرية مستقرة.
أما فضيحة السكك الحديدية في الجنوب، فقد أظهرت للعيان الروح الحزبية التي كانت تسيطر على المجلس النيابي، وتفصيل الأمر أنه كانت من أهم واجبات المملكة الجديدة تشجيع إنشاء السكك الحديدية ولا سيما في الجنوب، ومما قاله ريكاسولي في هذا الشأن «إن السكك الحديدية تعمل للقضاء على الشقاوة أكثر مما تعمله عشرة ألوية من الجند.»
وكان المجلس النيابي قد منح امتيازا بتمديد السكك الحديدية من الجنود إلى «باستوجي» أحد أصحاب المصارف من ليفورنه وزير المالية في وزارة كافور، وانتشرت في ربع سنة 1864 شائعات عن سوء استعمال في المشروع وبتحريض اليسار تألفت لجنة للتحقيق عن الفضيحة، ومع أن تقرير اللجنة اتهم باستوجي ونائبا آخر فإنه لم يتعرض للآخرين، وفي الحقيقة ظل رؤساء الوزارات نزيهين؛ إذ لم يتطرق الفساد إليهم، وكان جميع رجال الدولة في الثورة من الذين لا ثروة لهم وقد ماتوا فقراء، ومع ذلك ظلت الشائعات تتهم اللجنة بأنها لم تقم بواجبها بل تأثرت بالروح الحزبية، وكان بدهيا أن يشجع عجز الحكومة والبرلمان الحزب الثوري.
وظلت سياسة مازيني تستهدف فنيسيه قبل روما، وكان مازيني لا يعتبر المعركة لإنقاذ فنيسيه مجرد خطوة نحو إكمال كمال الوحدة الإيطالية فحسب ، بل إنها جزء من سياسة أوروبية ترمي إلى تجزئة الإمبراطورية النمسوية إلى أجزاء حسب القوميات التي تتألف منها، وكان يدعو إلى نجدة الثوار البولونيين بتحرير السلافيين من غاليسية، ويأمل في حمل الحكومة على خوض غمار الحرب للاستيلاء على فنيسيه، ولكنه كان يدرك تعذر طرد النمسويين من القلاع الأربع من دون الجيش، كما أنه كان مقتنعا بأن الحكومة لن تكون هي البادئة بالحركة.
فكانت خطته ترمي إلى تدبير عصيان من ترانتو إلى فريول وإدخال المتطوعين في إيطالية الحرة لمساعدة الثوار، والتآمر على إثارة الرأي العام بحيث يتعذر مقاومته ويكون من القوة بحيث يجر الحكومة إلى الحرب، ومن الغريب أن الملك مد يده إلى مازيني ليعمل وإياه.
وكان الملك دائم التذمر من القيود الدستورية ويسلك سياسة خفية غير رسمية، وقد أزعجه تريث الوزراء وأراد الاستعجال في الاستيلاء على فنيسيه وإنزال الضربة القاضية على النمسة، وقد شرع في أيار من سنة 1863 يتقرب من مازيني بواسطة وكيل خفي، أما مازيني فبعد أن يئس من نجاح التدابير في فنيسيه رحب باتجاه الملك ووعده بالمساعدة مشترطا بأن لا تتطلب معاضدة فرنسة، وبعد مساومات سياسية مملة يظهر أن الحليفين؛ أي الملك ومازيني اتفقا على أن يدبر مازيني عصيانا ليصبح وسيلة لتدخل الحكومة، فيجهز الملك السلاح للعصاة وكان يعلم بأنه لا يستطيع التغلب على النمسة بمفرده، ولا سيما بعد أن أخذت قضية شلزفيج وهولشتاين بين بروسية تسير نحو التفاهم، كما أن أغلبية الوزارة أبدت عزمها على قمع كل حركة غير نظامية، فألح مازيني على الملك بأن يقصي وزراءه، وأن يعيد ريكاسولي إلى منصة الحكم والرجوع إلى رأي البلاد، وكان يعتقد بأن أكثريتها تحبذ الحرب، بيد أن الملك تردد في قبول هذا الطلب فحنق مازيني عليه وكان ينعي عليه تردده منذ حين بعيد وقطع المفاوضات معه.
ولعل فيكتور عمانوئيل كان منذ بضعة أشهر يعلق آماله على غاريبالدي طامعا في إيفاده إلى غاليسية إذا نشبت الثورة فيها بمساعدة الطليان كي يدير شئونها، لكنه لم يوافق على هذا المشروع سوى بيزوزي وحده، أما غاريبالدي فمنذ عام وهو يتشوق لمثل هذا المشروع، يقصد من ورائه إزعاج النمسة وقهرها أكثر من مساعدته للبولونيين.
وقد تناسى الملك الخصومة الموجودة بين الهنغاريين والسلافيين، واتصل باللاجئين الهنغاريين، واتفق غاريبالدي ومازيني على أن يدبرا معا ثورة في فنيسيه وكان غاريبالدي حينئذ في إنجلترة، ولما تلقى اقتراح فكيتور عمانوئيل قبله وذهب إلى إيشية عقيب رجوعه؛ ليبحر نحو رومانية على سفينة حربية هيأها الملك له، وقد احتفظ بهذا السر جيدا إلى ذلك الحين، بيد أن الشائعات أخذت تدور حول الحملة.
وسعى أصدقاء غاريبالدي الخلص لإثنائه عنها؛ اعتقادا
لمنعه من إدارة العصيان في فنيسيه، فأصدر برتياني وبعض نواب اليسار احتجاجا أذاعوا فيه على الملأ خبر هذا المشروع واعتبروه دسيسة ملكية حيكت لغاية ملكية، ففزع الملك من هذا البيان الذي أفشى سر تواطئه أمام الحكومات الأجنبية ووزرائه أنفسهم، ووردت في الحين ذلك أخبار سيئة من رومانية؛ حيث تحزب الأمير «كوزا» الروماني ضد الملك بعد أن اشترك في المؤتمر وعاد غاريبالدي إلى كاربيره مغتاظا.
وبينما كان الملك والمتآمرون معه يدبرون المؤامرات لتجزئة الإمبراطورية النمسوية وإعادة تأسيس أوروبا الشرقية بحرب ثورية، كان وزراؤه يسعون للحصول على فنيسيه عن طريق السياسة وكانوا يدركون بأن إيطالية ليست في موقف تستطيع به أن تحارب النمسة منفردة، وخيل إليهم أن الموقف السياسي في أوروبا يساعدهم على انتهاز الفرصة للحصول على فنيسيه بالطريقة التي ارتئوها؛ ذلك أن الحكومة الروسية حرضت البولونيين على الثورة؛ فثاروا في كانون الثاني سنة 1863.
ومع أن بيسمارك أظهر عطفه على الأساليب المستعملة من قبل الحكومة الروسية فإن روسية بعملها هذا أثارت شكوك الرأي الأوروبي العام النزيه ضدها؛ لأن إنجلترة وفرنسة كانتا تشعران بعطف شديد نحو البولونيين، فلاح للناس أن الحرب محتملة الوقوع وأن الدول الغربية توشك أن تخوض غمارها ضد روسية وبروسية، وسيؤدي هذا إلى انضمام النمسة إلى أحد الفريقين، ويصعب على إيطالية في هذه الحالة أن تحتفظ بالحياد ، ومن هناك انبعث الأمل في الحصول على فنيسيه مهما كان الفريق الذي ستنحاز إليه النمسة، فإذا انحازت إلى جانب روسية فالحصول على فنيسيه سيكون ميسورا بتحالف إيطالية مع فرنسة، أما إذا انحازت إلى جانب الدول الغربية فيمكن إقناعها من قبل هذه الدول ببيع الإيالة أو بتبديلها بممتلكات في الشرق لمصلحة الحلف.
وكان في إيطالية توجد معارضة قوية متزايدة لفكرة التحالف مع فرنسة، إلا أن الشرف والمنفعة بالأقل توصيان بمعاضدة الجانب الذي يستهدف الحرية ويدافع عنها، فأوفد آريسة إلى باريس؛ ليقترح مشروع حلف بين الدول الثلاث، ووجد أن هذا الإمبراطور يرغب في إيجاد طريقة حل بين إنجلترة والنمسة، وكان يفضل في حالة إمالة النمسة وحدها إلى جانبه أن يبدأ بالحرب حالا؛ فلذلك كان لا يريد أن يقطع الحبل مع النمسة، الأمر الذي جعله يعود إلى مشروعه القديم الذي يرمي إلى إعطاء البوسنة والهرسك إلى النمسة؛ لقاء تخليها عن فنيسيه.
وكان اللورد رسل أشد رغبة بهذه المعادلة من نابليون، فوافق على أن تأخذ النمسة رومانية أو بولونيه لقاء تخليها عن فنيسيه، واستعد بالمرستون لعقد الحلف مع النمسة والإقدام على خوض غمار الحرب، ثم اضطر للكف عن ذلك أمام ميول وزرائه السلمية، وحاول الإمبراطور أن يدعو إلى مؤتمر يعقد في باريس في 1 تشرين الثاني، بيد أن جميع الحكومات - ما عدا إيطالية - أجابت بالرفض البات، وكان موت ملك الدانمارك في ذلك الوقت قد جعل قضية شلزفيج هولشتاين من القضايا اليومية.
وبما أن إنجلترة اغتاظت من المعاملة التي سلكتها بروسية والنمسة، فلقد رغبت في محالفة فرنسة؛ لتساعدها في مساعيها للمحافظة على الدانمارك، ولاح أن الحلف لم يكن حينئذ صعب المنال؛ لأن تحريكات الأحرار في فرنسة دفعت الإمبراطور إلى البحث على مشاريع يتمكن بها من تحويل الأنظار عن الشئون الداخلية، وذلك بالأخذ بسياسة خارجية متطرفة، وبما أن الاتفاق بين الدولتين الجرمانيتين كان يجعل التقدم نحو نهر الرين صعبا؛ ارتأى الإمبراطور أن يستعمل السيف لإجبار النمسة، ويظهر أنه توقع مساعدة إنجلترة في هذا الشأن. أما منجيني فبعد أن فقد كل أمل في الحصول على فنيسيه بواسطة الإمبراطور التفت إلى روما، وكانت السياسة الأولى في الوزارة إهمال قضية روما.
لقد اشتدت خصومة أوروبا الكاثوليكية بعد حادثة أسبرومونته وجرت محاولة ضعيفة من جديد للتفاهم على أساس مقترحات الكنيسة الحرة، ولما فشلت هذه المحاولة حدث بعض التطور في الحزب المعتدل رغم حادثة أسبرومونته، وكاد يرحب بالتخلي عن الإيطالية بروما، ويقول بتأجيل المطالبة إلى أجل غير مسمى أو بفكرة التعويض، وذلك بإعطاء ضمانات وقتية للممتلكات التي كانت لا تزال بيد البابا لقاء وحدة تجارية بينها وبين إيطالية، ووعد أهل روما بمنح حكومة صالحة إلى حين حدوث تطور في شعور الكاثوليك ينتهي بانهيار السلطة الزمنية من نفسها.
وكان الرأي العام يرى أن نجاح مثل هذه السياسة مستحيل؛ لأن السلطة الزمنية ستظل - إلى حين الاستيلاء على روما - تشجع الاضطرابات وحركات الارتجاع في الداخل وتسبب في الخارج اختلافات جديدة مع فرنسة دائما.
وكان الإمبراطور يرغب - كالسابق - في التخلص من روما، وبسبب احتمال وقوع الحرب على ضفاف الرين كان لا يجرؤ على إغضاب إيطالية، وقد أظهر نجاح الأحرار في الانتخابات في فرنسة ضرورة القيام بعمل للتفاهم معهم، فلما تولى «روهر» الوزارة الإفرنسية في نهاية سنة 1863 اشترط أن يخلي الإفرنسيون روما بلا تأخير، ولكن نابليون كان يخشى - كالسابق - أن يقطع الحبل مع الإكليريكيين الذين كانوا - رغم عدم رضائهم - لا يزالون يسندون الحكومة كما أن أكثرية الوزارة كانت الإكليريكية، أضف إلى هذا أن الإمبراطورة كانت خصمة مغرضة لإيطالية.
ولو أن الإمبراطور كان قوي الإرادة واستند إلى الأحرار وحذر من الإكليريكيين؛ لقوى مركزه في الداخل ولحسن سمعته المكسوفة في أوروبا بمحالفة إيطالية، ولكنه كان يزداد ترددا كلما اختلت صحته وتقدم في السن، ولم يجرؤ على أن يقف بجانب الحرية موقفا صريحا، ثم خضع لنفوذ الإكليريكيين، فدفعوه إلى الهاوية التي انتهت في معركة سدان.
إنه لم يخضع لهم بالكلية - بادئ بدء - كل الخضوع، فالتجأ حسب عادته إلى طريقة التفاهم، واقترح سحب قطاعاته بشرط أن تضمن إيطالية ممتلكات البابا الحالية ، وأن تكف - إلى حين - عن حقوقها بشأن روما، ولم يكن هذا الحل من حيث المبدأ يختلف عن آخر مشروع من مشاريع كافور؛ ففي صيف سنة 1864 بدأ الميثاق يأخذ شكله النهائي، واحتوت نصوصه التي نشرت في أيلول أن تضمن إيطالية الممتلكات البابوية ضد أي اعتداء من الخارج، وأن يتعهد الإفرنسيون مقابل ذلك بسحب قطعاتهم خلال سنتين، فالميثاق لا يختلف عن أسس كافور.
بيد أن نجاح المفاوضات يتوقف - قبل كل شيء - على تعريف ماهية الضمانة، أهي حقيقية أم ظاهرية، وهل لا تحنث إيطالية بالمعاهدة؟ وباقتراح نحس من بيبولي تقرر وضع ملحق - ربما كانت النية أن يبقى سرا - يجبر الحكومة الإيطالية على نقل العاصمة من تورينو إلى مدينة أخرى كنابولي أوفلورنسة؛ فإن نقل العاصمة من تورينو يقدم دليلا لدى أوروبا الكاثوليكية على أن إيطالية قد اختارت عاصمتها وتخلت عن حقوقها في روما.
وقد تفاهمت الحكومتان على أن القصد من الميثاق هو ذر الرماد في عيون الكاثوليك، وكانت النقطة الحيوية في الميثاق هي الإحجام عن الكلام، وأهمل فيه عمدا احتمال نشوب ثورة في روما. وأخيرا تم الاتفاق على أنه إذا جعل الرومانيون استمرار حكومة البابا مستحيلا، وإذا ظهرت حالات استثنائية بكل من فرنسة وإيطالية في حل من المعاهدة وحرة في تصرفها، ورضي الفريقان بإضافة العبارة الآتية: «إن الميثاق يضع السيادة البابوية في مصاف جميع السيادات الأخرى.» ومعنى ذلك أن بقاء السيادة يصبح منوطا برضاء الرعية عنها أو بعجزهم عن الثورة عليها، وهنا تجلت حقيقة قول كافور المأثور بأن الطليان سوف يذهبون إلى روما بالوسائط الأدبية، وإذا كانت مزاعم الطليان بأن أهل روما يرغبون في الاندماج في المملكة صحيحة إلى حدبعيد؛ فإن انشقاق الأحرار في روما وحق احتفاظ البابا بالجيش بموجب نصوص الميثاق كانا يحولان دون نشوب ثور فجائية من قبل الرومانيين، أو ثورة غير مهيأة ومؤيدة من الخارج، وإذا نشبت ثورة بغير هذا الشكل فمصيرها الفشل.
وقد فسر أحد المتقدمين الطليان «الوسائط الأدبية» بالاستيلاء على روما بالدعاية، مع أن روح الميثاق يحرم الدعاية كما يحرم استعمال القوة، فالقوة - والقوة وحدها - هي التي تعطي روما لإيطالية، وبينما كان الوزراء الإفرنسيون يزعمون بأن الميثاق قد جعل إيطالية هي المدافعة عن السلطة الزمنية كان رجال الدولة الإيطالية يحتجون بأن روما ظلت مطمح أنظار الطليان، وأن نقل العاصمة من تورينو إلى محل آخر ليس سوى مرحلة في المسير نحو الكابيتون.
وقد أثار حنق مازيني القول بأنه «إذا ترك الإفرنسيون روما فسننتهز الفرصة للإخلاف بوعدنا.» وإذا كان الميثاق مشروعا ينبغي للمجلس النيابي أن يلغي قراره السابق الذي حيا فيه روما باعتبارها عاصمة المملكة.
لقد كان تبديل العاصمة خطأ تجلت فداحته في الأشهر التي تلت، ويدل على خضوع شائن لأوامر فرنسة أو على حسد معيب لبيمونته، فإذا كانت روما ستصبح العاصمة فيما بعد فإن تبديل قاعدة الحكومة من تورينو إلى محل آخر غير روما لا يؤدي إلا إلى انفعالات وارتباكات لا جدوى فيها، وقد قال منجيني منذ سنتين: «لا تستطيع أمة أن تنقل عاصمتها مرتين.» بيد أن زعماء عصبة الدسائس انتهزوا الفرصة التي سنحت لهم للقضاء على تفوق تورينو، على أنه من الحق أن نقول إن المعاهدة باستثناء الملحق كانت تتفق إلى حد ما مع الكرامة القومية.
وقد خففت من شدة الجفاء بين فرنسة وإيطالية، ولعلها استطاعت أن تخيف البابا حتى اضطرته إلى كبت خصومته قليلا، ولكنها وضعت إيطالية في موقف كله زور سيحملها على حماية عدوها، ولم تكن أغلبية الأمة تريد أن تتساهل بالتخلي عن حقوقها في روما اسمية كانت أو فعلية، فزمجر ريكاسولي قائلا: «لقد جلب الإمبراطور الارتباك لهذا الوطن.» وكانت الحجة الوحيدة التي تسوغ عقد الميثاق أنه خير سياسة ممكنة في الظروف الراهنة؛ لأن سياسة الاستيلاء على روما بالقوة تؤدي إلى الاشتباك بحرب مع فرنسة.
ولقد وقع على الميثاق في 15 أيلول وكان الوزراء يجهلون العاصفة القادمة، ولكنهم كانوا يدركون بأن وراء الأكمة ما وراءها، وكانوا يحاولون اتقاءها بقبول بعض البيمونتيين في الوزارة، بيد أن لامارمورا ولاتزه وسللا رفضوا الدخول في وزارة زال اعتبارها وأصبحت على وشك السقوط ، وفي 18 أيلول اطلع الملأ على نص المعاهدة والملحق، فأصبح الدموقراطيون عليها حانقين وتجلى في تورينو شعور من السخط، ومع أن أهلها تركوا منذ مدة طويلة فكرة التمسك بأن تكون مدينتهم عاصمة الدولة، وكان لديهم من الوطنية ما يكفي بأن يضحوا بمدينتهم في سبيل روما، ولكنهم كانوا يدركون أن نقل العاصمة إلى فلورنسة أو نابولي في وقت جاهدت فيه بيمونته وسفكت دماءها وبذلت مالها لإنقاذ إيطالية يعني - وفي ذلك بعض الحق - نكرانا للجميل وإهانة للبلد المجاهد.
وقد أجمعت الطبقات كلها على استنكار هذا التخلي والاحتجاج عليه بشدة، وأخذ المتظاهرون يهتفون «روما أو تورينو»، وفي 21 أيلول هوجم الجمهور المتظاهر من قبل الجنود الكاربانيري فوقع منهم خمسون قتيلا وجريحا من الرجال والنساء، وراجت شائعة بأن بيمونته تركت لفرنسة بموجب مادة خفية في الميثاق ولكن الوزارة المذعورة لم تبذل أي جهد لتهدئة الخواطر، مع أنه لو أنيطت في مثل ذلك الوقت الحرج دورية الطرقات بالحرس القومي لحيل دون سفك دماء أخرى.
وقد أسخط الشعب حشد الجنود دون مسوغ واستفزهم الأمر، حتى وقع مساء 22 أيلول اصطدام أكثر خطورة بين الجنود والشعب، وخر فيه خمسة وعشرون قتيلا وجرح مائة ونيف في طرقات مدينة تورينو التي عرفت بإخلاصها ورزانتها.
الفصل السادس والثلاثون
قائمة التخطئة
أيلول 1864-حزيران 1865
لقد أصبح بقاء وزارة منجيني في الحكم متعسرا بعد مذبحة تورينو، فانسحبت وتركت لخلفها ميراثا من الخلل الذي ولدته، ولما رفض رتازي تأليف الحكومة توجه الملك نحو لامارمورا بصفته أصلح وزير في مثل هذه الأزمات، وكانت ولادته في بيمونته وميوله البيمونتية تساعده على تسكين بعض الحدة والتخفيف من شكوك تورينو، وكان يصعب على القوميين من أهل الأقطار الأخرى أن ينتقدوا وطنيته بسبب اتصاله المديد الخاص بكافور، وكان رجلا نزيها شجاعا ذا بصيرة نافذة ورزانة محتفظا بمعظم تقاليد المدرسة الصالحة التي هيأت رجال الدولة البيمونتية.
وكانت صلابة هذه المدرسة وشغفها بالعدل والعقل قد جعلتا أعضاءها ينشئون سياسيين، وكان لامارمورا يكره الميثاق لا من حيث المبدأ ولا لأنه يقول بنقل العاصمة، بل لأن طبيعته الصادقة كانت تنفر من الالتباس الذي ينطوي عليه الميثاق؛ ولأنه كان يعلم بأن منع الغارة على الحدود متعذر، وقد قبل المهمة مؤملا أن يستطيع سد الثغرة بين بيمونته وإيطالية وقانعا بأن قبول الميثاق بجميع مساويه خير من قطع العلاقات مع فرنسة برفض معاهدة قد وقع عليها، وقد عزم على أن يعرض الميثاق والملاحق على المجلس النيابي وألا يبقى في منصبه إلا إذا قبلهما المجلس، أما المجلس فقد أقدم على المذكرة وأخر الميثاق خشية أن تؤدي استقالته إلى إثارة العاصفة، ولم تستطع جماعات اليسار والبيمونتيين حين الاقتراع عليه أن يظفروا بأكثر من سبعين صوتا معارضا.
وأما خارج المجلس فكاد الرأي المعارض للميثاق أن يكون قويا مرعبا، ولا سيما في أوساط الجماعات الدموقراطية، أما غاريبالدي فصرح قائلا: «لا يربطنا ببونابارت سوى ميثاق واحد يمكن تنفيذه وهو: خلصوا البلاد من وجوده.» وقد أدمى نقل قاعدة الحكومة قلب بيمونته ولم يسلم الملك نفسه من نقمة المدينة، وقد أصاب ذات مرة ضيوفه حين ذهابهم للحضور في حفلة رقص رسمية سخرية من الجمهور، وأرسل إليه بعض النواب كتابا يسخرون منه ويطلبون إليه أن يحيط قصره بالجنود ليستطيع من في البلاط أن يرقصوا بأمان.
ولقد اشتد الهياج وانقلب إلى غضب شديد حين صرح مازيني في آذار سنة 1865 بأن الميثاق يتضمن ملحقا خفيا آخر نص فيه على أنه إذا استولت إيطالية على روما أو فنيسيه بدون مساعدة فرنسة فإنها سوف تتخلى عن جميع بيمونته حتى «سيسيه»، ولا شك في أن الإفرنسيين كانوا يحيكون الدسائس بنشاط بيمونته الغربية، الأمر الذي ساعد على أن يلقى تصريح مازيني آذانا صاغية في تورينو، وعلى الرغم من سمعة لامارمورا الحسنة ونزاهته فلم يستطع أن يعيد إلى الناس طمأنينتهم، وبلغ هياج جميع الطبقات درجة أصبح يفضل معها أن يرى قيام الجمهورية في تورينو بدلا من انضمامه إلى فرنسة.
لقد قضى قيام الحرب «الدائم» على الذعر في المجلس النيابي ولكن المستقبل كان ينذر بالخطر؛ إذ أصبح من المتعذر الحصول على أكثرية مستقرة في المجلس ، وأخذ النزاع بين الأحزاب لأتفه الأسباب يزيل من أهمية ومنزلة البرلمان، وأوشك أن يصبح الدستور في موضع خطر، وحاول ريكاسولي وأصدقاؤه أن يمنعوا اليسار من المعارضة التافهة، وأن يدمجوه بالمعتدلين المتطرفين ولكنهم فشلوا، أما الوزارة فعلى الرغم من أن أعضاءها المهمين كانوا من البيمونتيين فقد احتفظت بحيادهم بين الحزب الدائم وحزب الكونسورتيريا «عصبة الدس»، ولم تبذل أي جهد لتهدئة الأحقاد على أنها هي أيضا أصيبت بالشلل بسبب النزاع القائم بين لانزا وسيللا، وكانت لانزا مثال البيمونتي الحقيقي الدائب على تأييد سياسة الحرب.
وقد انتقل بعد سنة 1850 بلا ضوضاء إلى يمين الوسط وأصبح من المعجبين بكافور وتلاميذ كافور، ومع أنه كان كاثوليكيا مخلصا في كاثوليكيته فهو لم يتردد في القول بمبدأ الكنيسة الحرة، أما سيللا فكان مثل لانزا من الأسر البورجوازية الفقيرة في بيمونته، وكان بصفته وزيرا للمالية ذا بصيرة وخبرة وصلابة، وكان حين يضع القوانين يفكر في حاجات الخزينة أكثر من تأثير تلك القوانين الاجتماعية، وكان من حيث المذهب الاقتصادي ينتسب إلى جماعات الأحرار، وإذا كانت آراؤه المالية تضعه في مصاف رجال اليمين فإنه كان في القضايا الدينية ينحاز إلى اليسار، وكان يؤمن بالكنيسة الحرة.
وكان من الطبيعي أن يحدث الاصطدام بين رجلين مختلفي الطباع وقوى الإرادة، فسيللا يريد مثلا أن يسد عجز الميزانية بفرض ضريبة على الحبوب، أما لانزا فكان يخشى أن ترمز هذه الضريبة إلى الاستبداد القديم، كما أنه كان حريصا على ألا يتزايد الاستياء، وقد أوصى بسياسة تفاهم مع الكنيسة، وحاول أن يقلل من تدخل الحكومة في شئونها إلى الحد الأدنى، وكان لامارمورا لا يعتقد كثيرا بالكنيسة الحرة.
ولما شاهد لانزا أن أكثرية الوزارة ضده استقال في آب 1865 وترك الوزارة في ساعة حرجة، والواقع أن موقف الحكومة غدا صعبا بعد استقالته. اعتزمت الوزارة حل المجلس النيابي ظنا منها بأن البلاد قد تنتخب أكثرية مستقرة، وكانت نتائج الانتخابات في جميع الأنحاء - ما عدا بيمونته - فشلا للنواب السابقين أو كادت؛ إذ خرج منها حزب الكونسرتسريا ضعيفا جدا، أما حزب اليسار الذي كان يتمسك بمنهج ديمقراطي غير إكليركي فنال ما ناله المعارضون الأحرار الذين التفوا حول الحزب الدائم واستعدوا لتأليف حزب في مركز اليسار ويخضع لرتازي إلى حد ما، وهكذا أصبحت الأحزاب الثلاثة متوازنة بحيث أصبحت الوزارة عاجزة عن أن تضمن لها أكثرية، وفشل ريكاسولي أيضا بجهود لإدماج اليسار بأصلح رجال اليمين وساد الارتباك أكثر من قبل، وزاد نقل العاصمة في الارتباك بدلا من أن يساعد على إعادة النظام على أي صورة كانت.
وكانت ميزانية سيللا الجديدة مبدأ الخصومة؛ إذ كانت تفرض ضريبة على الحبوب والأبواب والنوافذ، فأثارت عاصفة من النقد حين لم يمر على البرلمان أكثر من شهر، وأخفقت الحكومة في مسألة ثانوية، وسبب هذا الإخفاق اقتراع معارض من قبل اليسار ومركز اليسار اللذين اتفقا ضدهما فاستقالت، ووافق لامارمورا على إعادة تأليفها آملا أن يستطيع تنفيذ المشاريع التي تؤدي إلى الاستيلاء على فنيسيه أولا ولأن الموقف كان في أشد الخطورة ثانيا، ومع ذلك فكان لا بد للقضية الرومانية من أن تظهر في كل حادثة من حوادث السياسة الداخلية، ورغم أن الميثاق عالج قضية السلطة الزمنية إلى حين، ولكن لم يمس العلاقات بين الكنيسة والدولة إلا عرضا، وكان وقعه على الإكليريكيين كالصاعقة واعتبروه نذيرا بتخلي فرنسة عنهم؛ إذا كان الميثاق جعل روما أحيانا أكثر تساهلا في أمور فرعية فإنها كانت لا تزال تشتد صلابة حينما يجري البحث حول النقاط الخطيرة.
ومع أن أنتونللي كان لا يزال يتمتع بقوة مكنته من إعادة «دي ميرودة» إلا أن إخلاصه كان موضع الريبة وكان نفوذه قد تضعضع، فأصبح البابا في قبضة رجال كان تعصبهم أكثر خطرا من أساليب أنتونللي المعوجة، وكانت سياستهم داخل الكنسية سياسة مركزية، فبينما كان الأساقفة خاضعين كل الخضوع لروما؛ كان الإكليروس الوضع تابعا للأساقفة، وكان الراهب الذي يتظاهر بالاستقلال في الرأي عرضة لأن يحرم من كثير من المزايا إن أمكن ذلك، فكاد يقضي على الرهبان الأحرار في إيطالية.
ومع ذلك ظل الذين وقعوا على مذكرة بساجلية يناضلون ولو ساعدتهم الحكومة أو الشعب لنجحوا، ولما أهملت وزارة منجيني سلاحها الماضي وتخلت عن حمايتها التي شملتهم بها، إلى ذلك التاريخ اضطر كثير من الرهبان الأحرار بعد أن يئسوا؛ إلى الإذعان، وراحت الكنيسة تزدري بالعودة إلى الرقي، بالرسالة العامة والسيلابوس؛ أي قائمة الأخطاء: «خلاصته الأحكام العامة» الملحقة بها التي أصدرتها البابوية في 8 كانون الأول 1864 تدل على أن الهوة السحيقة والبون الشاسع بين البابوية وبين الحكومة المتمدنة، وقد ذكرت قائمة الأخطاء: «بأنه من الخطأ الاعتقاد بأن البابا يستطيع أو يجب عليه أن يتفاهم أو ينسجم مع ما يسمونه بالرقي والحرية أو التمدن الحديث.»
والقائمة تهاجم الفكر والنقد الحديث من جهة وتكيل التهم للمصلحين الكاثوليك من جهة أخرى، وقد نددت بمن ينكر على الكنيسة سلطتها الزمنية أو بمن يطالب بحرية الفكر فيما يخص النظام الكنسي، وقد حملت على دعاة التسامح الديني وعلى المدارس المدنية والنكاح المدني والطلاق في البلاد الكاثوليكية، وهي تطالب بأن يكون للإكليروس بعض الإشراف على المدارس وعلى انتخاب المعلمين، وأن يعاد تأسيس المحاكم الكنسية وأن تتخلى الحكومة عن حقها بتعيين الأساقفة.
وكان من الطبيعي أن يعتبر المنورون وحملة الآراء الحرة في أوروبا قائمة الأخطاء هذه حكما قاسيا فكان بدهيا أن تحتج الحكومات المتمدنة على هذه الأحكام التي تؤدي إلى تقويض أساس الحكومة، ولم تكظم الحكومة الإفرنسية غيظها واشتد هياج الرأي العام في البلاد حتى اضطر «دوبانلوب» أسقف أورلئان لتنفيذ النقاط الرجعية في القائمة.
أما في إيطالية فأثارت القائمة الشعور الكامن وألهبته، وبلغ من شدته أن أحبطت كل محاولة تقوم بها الحكومة للتفاهم مع روما على أساس التسامح معها، فانقلب شعور الوطنيين الطليان فجأة إلى خصومة شديدة مما ألهم غاريبالدي أن يصرح في جريدة دموقراطية: «بأن الهدف النهائي للثورة الإيطالية هو القضاء على الكنيسة.» وأخذ أهل مودينه يحيون ريتان واقترح نائب في المجلس النيابي بأن يجبر كل راهب على أن يؤدي يمين الولاء والإخلاص للحكومة.
وكان القانون المدني قد حسم قضية النكاح المدني العويصة؛ فجعل المراسم المدنية إجبارية والطقوس الدينية اختيارية، واغتبط قسم عظيم من الناس بقرار المجلس النيابي القاضي بفرض الخدمة العسكرية على طلاب المدارس الدينية، ولو أن وزارة منجيني شجعت الإكليروس الحر لأقامت في الكنيسة قوة تضطر روما إلى الإذعان.
واستمرت وزارة لامارمورا على السياسة المثيرة ذاتها بمهاجمتها المدارس الدينية ومساعدتها رؤساء البلديات على التدخل في الشئون الطقسية، وبممارستها السلطات القديمة التي تخول الحكومة فرض العقوبة على أعضاء رجال الإكليروس الذين يسيئون استعمال سلطتهم، وقد انقسمت الوزارة في الرأي إلى فريقين متباينين: فريق لم يوافق أبدا على سياسة كافور الإكليريكية، وكان يرى أن منح الكنيسة حريات جديدة هو سياسة خطرة جدا، وكان يرغب في الوصول إلى حل لا يمس الأسس الجوهرية التي سبق أن نظمت الصلات بين الكنيسة والدولة، وأن يتجنب أسباب الاختلاف المهمة، لا سيما المتعلقة بالأسقفيات الشاغرة، على أن تمنح امتيازات جديدة للأساقفة.
أما الفريق الثاني الذي يتمسك بتقاليد كافور؛ فكان لا يرى هذه السياسة حلا للقضية، وكان يعلم بأنه أصبح متعذرا الآن مطالبة روما بالتخلي عن السلطة الزمنية باختيارها، وانحصرت سياسته - في ذلك الوقت - في تمهيد الطريق بإزالة بعض الموانع القائمة بين الكنيسة والهيئة الاجتماعية الحديثة، وكان الفريقان متفقين على إلغاء الأديرة وبيع أملاك الكنيسة، وكان القانون البيمونتي لسنة 1855 قد أعفى نحو نصف المساكن الدينية في الإيالات القديمة، وكان تشريع سنة 1860 وسنة 1861 قد شمل أومبريه والمارك ونابولي، بيد أنه أعفيت في هذه الإيالات أيضا بعض المساكن.
أما في صقلية وفي إميلية ولمبارديه فلم ينفذ إلغاء الأديرة؛ فلذلك كان ما يزال في جميع البلاد نحو من 2400 مسكن يسكنها 47000 من المنتسبين للكنيسة منهم 13000 شخص ينتمون لجمعيات المتسولين ويقدر دخلهم بسبعة عشر مليونا من الليرات يجبى نصفها من صقلية، ولم يك معقولا - أو ممكنا - الاحتفاظ بأديرة دائمة في قسم المملكة، بينما كانت الأديرة ملغاة في الأخير؟ وقد اقتضت بعض الأسباب الاقتصادية استغلال أراضي واسعة لا حق للتصرف بها.
وكانت واردات الأديرة والأسقفيات والجمعيات الكهنوتية نحو خمسين مليونا من الليرات، فإن استمرار الدولة والبلديات على دفع ملايين كثيرة لحاجات الكنيسة أمر لا يطاق، يضاف إلى ذلك الشعور السائد بأن الأديرة تؤلف مراكز لمقاومة كل ما هو حديث نافع، وأنها معسكرات قائمة يستند إليها البابا في كفاحه ضد إيطالية.
وبينما كان العلمانيون المتطرفون يريدون إلغاء جميع الأديرة من دون استثناء؛ كان هنالك شعور قوي بضرورة استبقاء الجمعيات التعليمية التي تهذب 100000 صبي في بعض البيئات الكاثوليكية، وبينما كان جميع الأحرار متفقين على بيع الممتلكات الكنيسية؛ فإن اختلافا عظيما احتدم بينهم حول مصير ثمن ما يباع، وإذا كان الاتفاق قد تم على أن يقوم قسم من تلك الواردات مقام الإعانات التي كانت تدفعها الدولة والناحيات، إلا أن الكلمة لم تتفق على مدى الحصص التي يجب تخفيضها وأية حاجة تقدم على الأخرى أهي حاجة الخزينة أم هي حاجة الكنيسة؟
وبينما كان الفريق الكافوري - ولا سيما ريكاسولي العضو النافذ فيه - يريد إما إيداع الإكليروس المبلغ للتصرف به كما يشاءون، أو وضعه تحت تصرف المجالس التمثيلية في الإيالات والناحيات التي تمثل الإكليروس والمدنيين معا، من دون أن يكون للحكومة دخل فيها؛ كان الفريق الآخر يريد إيداعها إلى مؤسسة حكومية، وكانت وزارة منجيني قد أعدت لائحة قانونية في أوائل سنة 1864 تعالج فيها القضية إلى حد ما بموجب المبادئ التي أثرت عن كافور.
بيد أن وزارة لامارمورا بذلت سياستها بغتة ووضعت لائحة قانون تستند إلى مبادئ الفريق المتطرف، وتصرح - بجرأة - بأن حاجة البلاد المالية أو بالأحرى منفعة الخزينة تتقدم على جميع الاعتبارات، وهي تقترح الاستيلاء على معظم الواردات باسم الخزينة، وذلك بوضع جميع أملاك الكنيسة والأديرة تحت إشراف وزارة المذاهب، وبذلك يصبح الإكليروس هيئة تتولى الدولة إعالتها، فتردد الجميع باللائحة ما عدا الحزب اللاإكليريكي المتطرف، وكان طبيعيا أن يهاجمها الأحرار المعتدلون الذين كانوا يعتبرون أملاك الكنيسة خاصة بالكنيسة. أما الإصلاحيون الكنيسيون فلم يسعهم الموافقة على أن تدير مؤسسة حكومية واردات الأبرشيات القروية.
أما أنصار الكنيسة الحرة من إصلاحيين أو غير إصلاحيين؛ فلم يسعهم قبول الاقتراحات التي من شأنها أن تحدث معارضة شديدة في الأوساط الكنيسية جميعها، فأعد الإصلاحيون الكنسيون لائحة أخرى تضمن صيانة المساكن الخاصة بالتعليم والشئون الخيرية وتضع واردات الأملاك الكنيسية تحت تصرف مجلس الأساقفة المنتخب من قبل جميع الكاثوليك البالغ أعمارهم أكثر من ثلاثين سنة.
وأصبح التوفيق بين اللائحتين المتباينتين عسيرا ويظهر أن المجلس نفسه كان أشد من الوزارة شعورا ضد الإكليروس، ولما يئست الحكومة من الوصول إلى تسوية؛ اعتزمت التفاهم مع روما مبتدئة بتسوية المقاعد الأسقفية الشاغرة، وكان قد بلغ عدد تلك المقاعد الشاغرة 108 مقاعد من 229 مقعدا، وقد شغر بعضها بفصل أربابها والبعض الآخر بالموت أو الالتجاء إلى روما أو إلى الخارج.
وكانت جميع الأحزاب السياسية ترغب في تقليل عدد الأسقفيات وتخفيض وارداتها التي تبلغ ثلث واردات الأسقفيات في فرنسة وإسبانيا معا، وما عدا ذلك فكانت هناك مشكلة البراءة
Exquatein
ويمين الإخلاص، وكان قانون بيمونته القديم كقوانين البلاد الأخرى؛ يحتم على الأسقف ألا يباشر أعمال منصبه في المملكة إلا بعد حصوله على براءة ملكية، وكانت البابوية قد اعترفت بذلك رسميا في إيطالية الشمالية ولكن لم يتجاوز الاعتراف إلى إيالات البابا القديمة وإلى نابولي، إذ إن ذلك معناه الاعتراف بسيادة الملك عليها الأمر الذي لا تريد روما أن تقره، ثم إن روما كانت تعمل بشدة على فكرة إجبار كل أسقف جديد على أداء يمين الإخلاص والولاء لقوانين الدولة.
وكانت وزارة منجيني قد أهملت قضية الأسقفيات الشاغرة، بيد أن لامارمورا راي ألا منتدح عن البحث فيها وتسويتها، ولما قدم البابا في آذار سنة 1865 بعض مقترحات لتسويتها انتهز لامارمورا هذه الفرصة للمفاوضة، وأوفد إليه مندوبا زوده بالتعليمات التي تقضي بأن يعترف بأكثرية التعيينات التي أجراها البابا، وأن يوافق على عودة الأساقفة المنفيين ما عدا الذين كرههم الشعب؛ لأن عودتهم قد تحدث اضطرابات، على أن يؤدي جميع الذين يعينون حديثا يمين الإخلاص، وأن يحصلوا على البراءة.
وهذان الأمران تكاد تجمع البلاد الكاثوليكية على الأحرار بضرورتها، وقد أظهرت روما - بادئ الأمر - ميلا نحو التساهل، وكان البابا يتوق إلى إشغال الأسقفيات الشاغرة، وقد جال في خاطره استدعاء حامية إيطالية حين ذهاب الإفرنسيين، بيد أن المنفيين في روما عارضوا كل حدث يؤدي إلى الاعتراف بالمملكة الجديدة، وكان لانزا يستطيع أن يجرد المعارضين هؤلاء من السلاح لو قبل اقتراحه بالكف عن المطالبة بيمين الإخلاص والبراءة معا، بيد أن أكثرية الوزارة رفضت ذلك، وانتهى الأمر بأن قطع أنتونللي المفاوضات، ولما علم الناس بفشل المفاوضات تنفسوا الصعداء، وكانت الجماعات المتنفذة والمعتدلون والدموقراطيون ينفرون من كل ما يتعلق بمشروع أو مبدأ الكنيسة الحرة، حتى إن الرهبان الأحرار أنفسهم أقدموا على الانضمام إلى المحتجين فاشتد سخط البلاد على روما.
الفصل السابع والثلاثون
فتح فنيسيه
1865-تشرين الأول 1866
أصبحت قضية فنيسيه بعد أن قطعت روما المفاوضات من القضايا اليومية، ولو منح النمسويون الحكم الذاتي عملا بأحكام فيلافرنكة لكان في ذلك احتمال إذعان فنيسيه لهم ولو على مضض، أما الذي وقع فعلا فهو أن النمسويين بذلوا جهدهم للقضاء على الحيوية الإيطالية بإملاء الإدارة بالموظفين الألمان وبنشر القوانين باللغة الألمانية، وقد قوبلت تصرفات النمسة من قبل أهل فنيسيه باشمئزاز وسخط تجليا بالمقاومة السلبية؛ إذ إنهم رفضوا الاشتراك في انتخابات النواب للمجلس النيابي الإمبراطوري، وأعلنوا إخلاصهم وولاءهم لفيكتور عمانوئيل غير هيابين.
وقد تألفت في جميع المدن لجان ثورية، وظلت عصابة صغيرة مواظبة على الثورة في الجبال في صيف سنة 1864، وفي خريفها انتهت الثورة بالفشل المحتوم، ولكن مازيني انتهز فرصة الشغب الذي حدث في بيمونته ودعا إلى مساعدة أهل فنيسيه، وأصبحت الاتصالات بين مازيني وبين بعض أعضاء الحزب الدائم في أوائل سنة 1865 نشطة جدا.
وقد أخذ رسله يثيرون الرأي العام، وانكبوا على جمع المتطوعين لنجدة الثائرين من أهل فنيسيه وكان منتظرا أن تشب الثورة في نيسان، بيد أن مازيني اعتبر بالوقائع الماضية، واجتنب زج نفسه في ثورة مبتسرة، ولما أدرك أن المواد غير كافية لإيقاد الثورة واستمرارها؛ أجلها إلى ربيع سنة 1866.
ولم تقتصر الرغبة في حسم قضية فنيسيه بالقوة على مازيني ورفقائه المتآمرين من الحزب الدائم فحسب، بل إنه كان حتى بين الذين اهتموا كثيرا بروما رجال كلانزا؛ يرتئون بأن طريق روما إنما يمر بفيرونه، وكان كثير من الوطنيين القلقين على مصير بلادهم يشعرون بأن الحرب تقوي الأمة وتحول دون التفسخ الذي أخذ يصيب البلاد، وكانوا ينتظرون - بفارغ الصبر - الساعة التي يطرد فيها النمسويون من إيطالية فتنصرف البلاد إلى الاقتصاد الممكن في النفقات وتستطيع تنظيم أمورها.
ويظهر أن لانزا كف عن سياسة وضع العثرات أمام استعدادات مازيني وأولى اللجان الفنيسية بعض رعايته، على أن خروجه من الوزارة أنهى علاقة الحكومة بالثورة، وكان رجال الدولة الإيطالية مجمعين على أن الثورة أمر ثانوي وأن المهم هو الحصول على حليف في الخارج يكون عدوا للنمسة، وكان الكثيرون من رجال الدولة يدركون ما لدى النمسة من قوة وبأس، ويعلمون أن تنظيماتها العسكرية تفوق تنظيمات الجيش الإيطالي الفتي، وكانوا يخشون أن تتحطم إيطالية مرة أخرى أمام القلاع الأربع.
وكان الرجاء في إمكان زج الإمبراطور في حرب جديدة ضعيفا، وأضعف منه رغبة الناس فيه، وقد لحظ رجال الدولة الإيطالية أن الحوادث تسوقهم إلى حليف آخر، ربما كان أقل قوة من حليفهم الأول ولكنه أقل منه مطالبة، وكانت بروسية مضطرة - عاجلا أو آجلا - إلى أن تشهر الحرب على النمسة؛ في سبيل الهيمنة على ألمانية، وكان تعيين الأمير ويلهلم وصيا زمن أخيه الملك فردريك ويلهلم الرابع في سنة 1858 فاتحة سياسة جديدة جريئة، وقد أخذ رجال الدولة الألمانية يرون - منذ سنة 1856 - أن بيمونته حليفة طبيعية، وقد أكد «شلايخ» في السنة ذاتها لمارامورا بأن بروسية لن تقوم بأي عمل يحول دون حسم قضية فنيسيه، وبعد انقضاء عشرين شهرا على هذا التصريح تقلد بيسمارك رئاسة الوزارة في بروسية، ولم تكد تقترب سنة 1862 من نهايتها حتى جس نبض وزارة منجيني بالنسبة لموقف إيطالية في حالة مهاجمة بروسية للنمسة، وكان كافور قد قال للسفير البروسي سنة 1859: «ستشكر بروسية ذات يوم لبيمونته ذلك المثل الذي أعطته إياها.»
وقد أتقن بيسمارك هذا الدرس، وكانت سياسته تقوم على اقتناعه بأن بروسية والنمسة لا تستطيعان البقاء معا في الاتحاد الألماني ولكنه كان وحيدا في رأيه؛ فالملك والبلاد كانت تعارض في نشوب أية حرب ضد شعب جرماني آخر.
ويضاف إلى هذا أن بلاط برلين كان غير موال لإيطالية، وأن النظرية القائلة بأن القلاع الأربع لازمة لأمن ألمانية، وأنه يجب أن تحتفظ ألمانية بها ما دام الإفرنسيون يحتفظون بروما؛ لا تزال قوية. وقد صرح بيسمارك - في أثناء أزمة شلزويج وهولشتاين - للسفير الإيطالي بأنه لم يستخدم النمسة إلا للوصول إلى أهدافه، وأن إيطالية هي الصديقة الطبيعية لبروسية.
وكانت وزارة الخارجية الإيطالية تضع فكرة محالفة بروسية نصب أعينها، وكان باسولين قد قال لبيسمارك سنة 1862 إن إيطالية تنضم دائما لجانب أعداء النمسة، وقد وجه لامارمورا نظره منذ قبض على زمام الحكم نحو برلين مع علمه بأن اتفاقا رسميا بين إيطالية وبرلين لا يزال بعيدا، ثم إنه كان يتوقع بأن تذعن النمسة فرضي ببيع فنيسيه أو باستبدال إيالة البوسنة تعويضا لذلك خشية اتفاق إيطالية مع أعدائها.
وربما كان يقدم على الاتفاق معها ومع فرنسة إذا قضى الاتفاق على التخلي عن فنيسيه، أما بيسمارك فانتهز فرصة المفاوضات لعقد معاهدة تجارية مع إيطالية، وسعى لأن يأخذ من لامارمورا وعدا بأن يساعده في حالة خلاف مع فينا، حتى إنه ارتاب في وقت من الأوقات من وجود ائتلاف بين فرنسة والنمسة، وكان لامارمورا يدرك بأن إيطالية لن تكون بالنسبة لبيسمارك سوى بيدق في لعبة الشطرنج.
وبحلول سنة 1866 انهارت جميع الشكوك؛ لأن النمسة رفضت بيع فنيسيه، ولما علم لامارمورا أن بيسمارك زار الإمبراطور في بياريج زالت مخاوفه من إغضاب فرنسة بمحالفته بروسية واطمأن بذلك من ناحية فرنسة، وقد نجح في عقد الاتفاقية التجارية في آذار وأوفد في بداية شهر آذار الجنرال «جوفونه» إلى برلين يطلب من بيسمارك مخولا سلطات مطلقة في المفاوضات لقيام حلف هجومي ودفاعي فيما إذا كانت بروسية جادة في رغبتها، وكان لامارمورا قلقا من نيات الإمبراطورا ولم يطمئن إلى جانبه إلا في نهاية هذا الشهر حين علم أن نابليون يعطف على إيطالية إذا هي قامت بالهجوم.
وكان بيسمارك بلا شك راغبا كل الرغبة في محالفة إيطالية غير أن الميول السلمية في برلين كانت لا تزال قوية جدا، ومع ذلك فقد ظفر في نهاية آذار بموافقة الملك على عقد معاهدة سرية تقضي على الحليفين بشن الحرب على النمسة، وكانت الحجة التي تسوغ شن الحرب على النمسة رفضها إصلاح دستور الاتحاد الجرمني، وقد تعهد الفريقان باستخدام جميع قواتهما وبأن لا يوقعا على أي سلم أو هدنة إلا بموافقتهما المشتركة وعلى أن تأخذ إيطالية فنيسيه، وتأخذ بروسية أرضا تساوي فنيسيه سعة ونفوسا، وإذا لم تعلن بروسية الحرب قبل انقضاء ثلاثة أشهر ينتهي حكم المعاهدة، وقد حاول لامارمورا عبثا إدخال ترانيتا أيضا ضمن المكافأة المرجوة لإيطالية، ثم وقع على المعاهدة في 8 نيسان.
وأصبح هدف رجال الدولة واحدا وهو جعل الحرب أمرا لا بد منه، وكانت الأمور لا تزال تجري على عكس ما يرغبان، واستخدمت إنجلترة نفوذها كله في سبيل إحلال التفاهم محل الحرب، ولما تعذر على بيسمارك مقاومة هذه التيارات المستمرة وافق في منتصف نيسان على تسريح الجيش إذا وافقت النمسة على أن تقتدي به حالا فتسرح هي جيشها.
وحدث أن وقعت حادثة أنقذت الموقف، وتفصيل الخبر أن ملحقا إنجليزيا قدم تقريرا غير صحيح جعل حكومة فينا تعتقد بأن الطليان يحشدون قطعاتهم على نهر بو، فسارعت إلى جعل جيشها في فنيسيه في حالة النفير بدلا من بقائه على ملاكه السلمي، وبذلك أعطت الحجة التي كانت تنتظرها إيطالية لإعلان النفير ولمساعدة بيسمارك على قطع المفاوضات بيد أن لامارمورا فوجئ بصعوبة جديدة؛ ذلك أن بيسمارك أخبر حكومة فلورنسة بأن بروسية لا تساعدها إذا هاجمت إيطالية فنيسيه قبل أن يعلن الحليفان الحرب على النمسة، ولعل بيسمارك فعل ذلك نزولا عند رغبة البلاط واستنادا إلى تأويل المعاهدة غير طبيعي.
وخشي لامارمورا - وهو محق في ذلك - من أن تقنع النمسة بروسية بأن تبقى ساكنة لقاء تعويض وتزج هي جميع قواتها في إيطالية، وأخيرا أدركت حكومة النمسة حراجة الموقف وانتابها الذعر فعرضت على إيطالية التنزل عن فنيسيه مقابل وعد بسيط تقطعه إيطالية على نفسها؛ يقضي بوقوفها على الحياد، الأمر الذي يساعد النمسة على زج جميع قواتها في بروسية وحصولها على تعويض في سيلزية، وبهذا لاح لإيطالية أنها ستصيب بسهم واحد أكثر مما ترجو.
ولعل زملاء لامارمورا كانوا فرحين بهذا العرض المغري، ولكن لامارمورا يعتبر الشرف القومي أثمن من أي أرض، وأبى أن يعير هذا العرض أذنا صاغية، ولكنه سرعان ما نال ثمرة موفقة لأن بروسية فزعت للشائعات التي دارت حول العروض النمسوية وسارعت إلى قطع الوعود الإيطالية بالمساعدة.
وما كاد لامارمورا يأمن جانب بروسية حتى تهدده خطر آخر، ذلك أن نابليون قد تلقى - بارتياح - بوادر الخصومة بين الدولتين الجرمانيتين الكبيرتين، آملا أن ينتهز فرصة هذه الخصومة فيبلغ الهدفين الذين توخاهما منذ بضع سنوات في سياسته الخارجية، وهما: توسيع الحدود الإفرنسية حتى ضفاف نهر الرين والوفاء بالوعود التي كان قطعها للطليان بفسح المجال لإيطالية بأن تصل إلى ضفاف الأدرياتيك بأخذها إيالة فنيسيه.
ومما لا شك فيه أن خير سياسة كان ينبغي له أن يسلكها هي محالفة النمسة وتأمين حياد إيطالية على الأقل بإصراره على تخلي النمسة عن فنيسيه والقضاء على نمو بروسيه الهائل، وكان الرأي العام الإفرنسي قد وقف موقف المعارض للحرب، وأصبح يعتقد - كما يعتقد أكثر النقاد الحربيين - بأن النمسة سوف تنهزم أمام إيطالية إلا أنها تتغلب حتما على بروسية، فتكون النتيجة الطبيعية لذلك أن تكسب إيطالية فنيسيه وأن تكسب النمسة سيلزية، وأن تنال فرنسة لقاء حيادها حق توسيع حدودها إلى الرين بموافقة بروسية.
وكان الإفرنسيون يكرهون بروسية كثيرا حتى إن إعلان الحرب عليها قد يقابل بارتياح شعبي عام، ثم إن مجرد وجود جيش مرابط على الرين من شأنه أن يشل حركة البروسيين، بيد أن الحكومة النمسوية اعتبرت التخلي عن فنيسيه حينئذ موضوع شرف، ولجأ الإمبراطور إلى الطريقة التي كان يلجأ إليها في جميع الحالات، وذلك بالرجوع إلى فكرة عقد مؤتمر.
وتتلخص المقترحات التي ينوي عرضها على المؤتمر فيما يلي: أعضاء فنيسيه لإيطالية وإعطاء جزء من سيلزية للنمسة، أما بروسية فتحصل على شلزويج وهولشتاين وبعض الدويلات الألمانية الصغرى وتؤلف بالانتينة وإيالات الرين محمية إفرنسية، وقد ماتت فكرة عقد المؤتمر فورا؛ لأن بروسية وإيطالية رفضتا تسريح الجيش مقدما، أما النمسة فرفضت أي مشروع يتضمن التخلي عن فنيسيه رفضا باتا.
وبفشل عقد المؤتمر أصبحت الحرب قاب قوسين أو أدنى، ومع أن الملك ويلهلم أخذ يتجه نحو سياسة الحرب رويدا رويدا، فإن النفوذ السلمي كان لا يزال في بروسية قويا؛ ولذلك لقي بيسمارك صعوبة في خلق ذريعة يتذرع بها، فطلب إلى إيطالية أن تسبق النمسة بالعمل فتهاجمها ولكن لامارمورا ظل حذرا كما في السابق، وخاف من أن تتراجع بروسية في الساعة الأخيرة فتتحمل إيطالية وحدها أعباء الحرب، إلا أن تحريض الدول الألمانية الصغرى كان على وشك أن يقنع النمسة بأن تكون هي المعتدية.
وفي 14 حزيران قرر مجلس الاتحاد الجرمني مساعدة النمسة ضد بروسية، وبعد مرور يومين على هذا الحادث توغل البروسيون في سكسونية وهانوفر، فأعلنت إيطالية الحرب على النمسة في 20 حزيران.
وقد قوبل إعلان الحرب في كل البلاد الإيطالية بمزيد الارتياح والامتنان، وكانت الحماسة لإنقاذ فنيسيه واستئناف السير في طريق الوحدة كبيرة جدا، وقد أيقظ الشعور بأن الحرب قريبة الوقوع في البلاد روح سنة 1860، فتلاشت جميع الأحزاب وتخلى لامارمورا عن منصبه مؤثرا الذهاب إلى ميدان القتال، فخلفه ريكاسولي في الرئاسة وتوفق في تأليف وزارة صامتة للاتفاق بين الجماعات.
وقد حولت الحكومة جميع السلطات لفرض الضرائب بإرادة ملكية، وبناء على اقتراح كريسبي صدر قانون شديد بحق المشبوهين؛ لقمع المؤامرات في الداخل، وناشد مازيني الجمهوريين أن يعاضدوا الحكومة بقوة، واستدعى غاريبالدي من كاربيره ليتولى قيادة المتطوعين، وكان لامارمورا قد هيأ العدد اللازمة لأربعة عشر ألف متطوع، وقد تقدم في أسبوع واحد أكثر من ثلاثين ألف رجل للتطوع، ولو تمكنت الحكومة من تسليحهم لتضاعف العدد.
لم يرحب الشعب الإيطالي كثيرا بمحالفة بروسية، وكان البعض يميلون إلى الاعتقاد بأن صداقة بروسية للنمسة أكثر من صداقتها لإيطالية، ثم إن الإيطاليين يكرهون بيسمارك لاحتقاره للحكومات البرلمانية، ويحنقون على الأمة التي استسلمت، وكان لامارمورا وحده يعتمد بعض الاعتماد على الجيش البروسي .
لقد خاضت إيطالية غمار الحرب وهي واثقة من النصر، وكان جيشها يفوق جميع القوات التي تستطيع أن تحشدها النمسة لقتاله، فإيطالية تتمكن أن تحشد 220000 ألفا ما عدا المتطوعين وجنود الاحتياط؛ للقاء مائة ألف جندي يؤلفون الجيش النمسوي في فنيسيه والتيرول باستثناء الحاميات، وكان الناس في إيطالية لا يعلمون شيئا عن سوء الإدارة في الجيش الإيطالي، وربما كانوا يجهلون الفساد الذي أخل بتنظيم الجيش وحسد القادة وعدم كفايتهم التي شلت قيادته وقد مات فانتي وكان لامارمورا وجيالديني يمثلان - إلى حد ما - مدرستين مختلفتين خصمتين.
وقد تولى الملك قيادة الجيش على ضفاف مينجيو، وجعل الجنرال لامارمورا رئيس أركان حربه، وتولى الجنرال جيالديني قيادة جيش بو، وبينما سلك لامارمورا الخطة السوقية الأكثر حذرا بتقدمه وجميع القوات من الغرب نحو القلاع الأربع وإجبار النمسويين على خوض المعركة في ميدان القتال السابق بين نهري مينجيو وإديجة، اختار جيالديني الخطة السوقية الجريئة بالتقدم من ضفاف نهر بو السفلي وإجبار النمسويين على خوض المعركة في «بادويه»، وقد ترك قوة كافية لمهاجمة القلاع الأربع من الشرق في حالة انتصاره في هذه المعركة، ثم التقدم بالجيش الأصلي نحو الدانوب لتحريض الهنغاريين على الثورة، وكان سفير بروسية في فلورنسة يؤيد هذه الخطة كل التأييد، وربما حرضه بسمارك عليها لأنه كان معدا لحركة عصيان في هنغارية منذ مدة طويلة.
وكان ريكاسولي الذي أخذ يتصل بالمتآمرين الهنغاريين والسلاف موافقا على تلك الخطة، كما أن الملك رحب بها كل الترحيب بيد أن القادة عارضوا الخطة السوقية الجريئة ولا سيما لأن مارمورا كان لا يعتمد على الحركات غير المنظمة، وقد رفض طلب الزعيم الهنغاري كوشوت إثارة العصيان في هنغارية وإرسال المتطوعين إلى التيرول لستر جناح الجيش الإيطالي الأيسر، وقد أصاب - بلا شك - في ارتيابه في الوعود الهنغارية؛ لأن كوشوت قد فقد مركزه كما أن الزعيم الهنغاري ديك لم يشأ أن يقطع الحبل مع النمسة، وكانت خطة لامارمورا إسقاط القلاع الأربع أولا ثم التقدم نحو التيرول، وتلك هي الخطة المثلى ، ولكن القيادة المزدوجة ويا للأسف ! أفسدت الخطة واختطت خطة ثالثة جمعت بين الخطتين السابقتين، وهي ترمي إلى مهاجمة القلاع الأربع من الجانبين.
وبدأ القتال في صباح 23 حزيران، وكانت خطة الحركات تستهدف اجتياز لامارمورا بجميع قواته نهر منيجيو وجذب النمسويين إلى الغرب؛ ليسهل على جيالديني مرور نهر بو من «فراره»، إلا أن لامارمورا تقدم قبل أن يتأهب جيالديني للحركة، وبدأت الحركة في الصباح الباكر ليوم 24 حزيران، وهي لو نجحت لمكنت الطليان من الظفر بالموقع المنيع القوي، بيد أن النمسويين كانوا عصر اليوم المنصرم قد تركوا فيرونه وتقدموا ليلا واحتلوا الروابي قبل الطليان، وكان عددهم تسعين ألفا مما استطاع بذلك القائد النمسوي الماهر الأرشيدوق ألبرت أن يسبق الطليان، وبينما كان الجيش الإيطالي يتقدم مهملا أمر الاستطلاع كان الجيش النمسوي يتحرك في سبعة أرتال تسير على سبع طرق، ثم يباغت القوات الإيطالية ويتغلب على فرقها المتفوقة الواحدة تلو الأخرى ويكسب معركة «كوستوزه»، ويضطر الطليان إلى التقهقر إلى ما وراء نهر منيجيو وقد نهكهم التعب وأثرت فيهم قلة الأرزاق.
ولم تكن معركة كوستوزه كارثة قاصمة من الوجهة السوق الجيشية، إلا أن وقعها كان سيئا وتأثيرها في معنويات الجيش كان عظيما، فاستولى الذعر على القادة وأبرق لامارمورا إلى جيالديني ولغاريبالدي بالنبأ على صورة تثبط العزائم، وانسحب في 26 حزيران إلى ما وراء نهر «أوجليو» بعد أن أزعجته خيالة العدو، أما غاريبالدي فأمر بالانسحاب لحماية بروسية، وقد أحسن لامارمورا صنعا بعد كوستوزه بتولية مهمة القيادة العامة إلى جيالديني؛ ليتلافى ما نجم عن خطأ القيادة المزدوجة، ووعد الملك ريكاسولي بألا يتدخل في سير الحركات، وتعذر القيام بهجوم مصطنع في 29 حزيران على «بورجوفورته» بينما يجتاز جيالديني بو الأسفل، وحينما تتصل قوات لامارمورا بقوات جيالديني يتولى هذا القيادة العامة، وبذلك تعود إلى الجيش ثقته بنفسه، ولا سيما لأن تفوقه بالعدد كان يبشر بالنصر.
وبينما كان الطليان يهمون باستثناء الهجوم وإذ بنابليون يبرق لهم بغتته بأن النمسة عرضت عليهم تسليم فنيسيه إليه ليتولى هو إعادتها إلى إيطالية ويقترح عقد هدنة على هذا الأساس، ولقد ارتبك نابليون لبناء معركة «صادوفة» التي وقعت في 3 تموز بين البروسيين والنمسويين، وقد أعقب برقيته بعد ثلاثة أيام بتهديد ينذر فيه إيطالية بإعادة فنيسيه إلى النمسة والاتفاق معها إذا هي رفضت الهدنة، وأصبحت إيطالية تجاه أزمة خطيرة ووقعت بين نارين: فالإصرار على الحرب ورفض الهدنة مخاطرة تؤدي بقطع الصلات بفرنسة، وهذه قد تجر إلى أخطار عظيمة، أما قبول الهدنة والجيش لا يزال سالما وملوثا بهزيمة كوستوزه فمعناه القضاء على السمعة العسكرية للأمة الفتية، وقبول فنيسيه صدقة من أجنبي لم يكن سوى إهانة تصيب عزة نفس الملك والوزراء والشعب في الصميم.
وكان الشرف والمصلحة يقضيان بأن لا تعقد إيطالية أية هدنة من دون رضاء بروسية، وعليه فقد أجابوا الإمبراطور بأنهم لن يعقدوا أية هدنة إلا بموافقة بروسية، وأنهم حتى إذا تمت هذه الموافقة فلم يوافقوا على المقترحات قبل أن تسرع النمسة بالتخلي عن قلاع فنيسيه وتعلن فرنسة تأييدها لمطالبهم في ترانتينة، وكان ينبغي لإيطالية أن تسرع إلى الاستفادة من هذه الفترة فترجع سمعتها في ميدان القتال بفتح فنيسيه بحد السيف والحصول على ترنتينة وإيسترية، فتصبح بذلك ذات حق اكتسبته بجهادها في أثناء المفاوضات المقابلة.
وأثار الفتور أو الكسل الذي تلا معركة كوستوزه بعض المخاوف في برلين؛ إذ خشيت من أن يؤدي تخلي الإمبراطور إلى بطء الحركات، كما خشيت أن تغري إيطالية بخيانة حليفتها، فأصر ريكاسولي - بكل قوته - على السير إلى الأمام ... مضى الوقت وحل منتصف شهر تموز ولم يتسن للقادة الموافقة على الخطة التي لا تختلف كثيرا عن خطة جيالديني الأصلية، واعتزموا ترك قسم من الجيش لمراقبة القلاع الأربع ومعاونة المتطوعين في ترنتينة، بينما يتقدم جيالديني بالقسم الأكبر من القوات نحو فنيسيه وإرسال مفرزة لضبط إيسترية، وكان قسم كبير من القوات قد استدعيت بين 9 و13 تموز من القلاع الأربع للدفاع عن فينا، وفي 14 و15 تموز احتل جيالديني بادوية فنيسيه بينما كان مديجي يتقدم في وادي سوجالة ليتحصل بغاريبالدي، وفي تموز تركت قوات لامارمورا مواضعها على أوجيلو وسارعت للاتصال بجيش جيالديني، وهكذا سار جيالديني نحو الشرق في جيش يبلغ 150000 كان في 25 تموز على أهبة اجتياز الحدود والمرور من «كارينولبة».
وكانت متطوعة غاريبالدي البالغة 38000 متطوع تتقدم رويدا رويدا في التيرول وتحارب النمسويين والتيروليين، ومع أنها حاربت ببسالة إلا أنها لم تكن صالحة للحرب في الأراضي الجبلية وقد روعي في اختيار ضباطها اعتبارات سياسية أكثر منها عسكرية حتى قيل عنهم: «إن رجالا تدربوا في السجون أو في البرلمان أصبحوا الآن قادة الألوية.» وأزال الفوز اليسير الذي ناله المتطوعون بعض العار الذي لصق بإيطالية في كوستوزه، ولكن إيطالية منيت بهزيمة بحرية سببت ذلة جديدة؛ إذ ظل الأسطول الإيطالي عاطلا في أنكونه، ممتنعا عن قتال الأسطول النمسوي الضعيف إلى أن تلقى أوامر قطعية أجبرت الأميرال برسانو على أن يخرج إلى البحر وأن يهاجم جزيرة ليسة الدلماسية ومرفأها البحري المهم، وكان الأسطول قد نال قسما من هدفه؛ إذ ظهر الأسطول النمسوي في 20 تموز، وكان عدد قطعه قليلا ونشبت معركة خسر فيها الطليان دارعتين من عشر دارعات وأسفرت المعركة عن انكسارهم، وهكذا خسروا المعركة البحرية كما خسروا المعركة البرية في كوستوزه.
ورأت إيطالية أن النصر يكاد يفلت من يدها حينما اتصل بها نبأ توقيع بيسمارك على مقدمات الصلح في نيكولسبرج في 26 تموز؛ إذ خان بيسمارك حليفه مرة أخرى وتفاوض في شروط السلم من دون أن يكترث لحليفه، ولم يبق لدى بروسية ما يدعو إلى الاستمرار على الحرب وكان بيسمارك لا يزال يخشى نيات نابليون، ولكي يضمن رضاءه عرض عليه أن يتحالفا حلفا هجوميا يعطيه لقاءه بلجيكة، ولكن الإمبراطور لم يكن قط يرغب في بلجيكة وكان يرجو الحصول على لوكسمبرج أو بالاتينة وعزم على أن يحول دون ضم بروسية وألمانية الجنوبية إلى الدول الجرمانية الخاضعة لبروسية، إلا أنه كان يرتئي الوصول إلى غايته بالطرق السلمية، فعقد النية على إجبار إيطالية على الإذعان وكان يعلم بأنها لا تستطيع أن تحالفه وألح عليها بقبول الهدنة حالا، وتخلى عن الوعد الذي وعده بانتقال فيرونه ومانتويه حالا إلى إيطالية ورفض أن يتعهد بأي شيء بشأن التيرول.
وقد وافق ريكاسولي على قبول الهدنة على أساس أخذ ما يمكن امتلاكه وينص على انتقال فنيسيه إلى حوزة إيطالية من دون شروط مهينة فيجري الاقتراع العام، وبحسب الاقتراع تكون إيطالية قد أخذت الإيالة الجديدة برغبة الشعب لا هبة من فرنسه، وافق الإمبراطور على الشروط اسميا إلا أنه اجتنب حالا وعده بالدفاع عن أساس أخذ ما يمكن امتلاكه، أما بيسمارك فرفض أن يجعل المدعيات بالتيرول ذريعة لاستئناف الحرب، وكانت النمسة تعلم بأنها تستطيع أن ترفض إعطاء التيرول من دون أن ترى في ذلك بأسا، فأنذرت إيطالية باستمرارها على الحرب فيما إذا لم يتخل الطليان عن التيرول.
وكان ريكاسولي بين أمرين فإما أن يجازف كثيرا بدلا من أن يتخلى عن ترنتينة وإما أن يطأطئ الرأس أمام رغبة الإمبراطور، وكان يقول: «إن شرف إيطالية أثمن من فنيسيه.» بيد أنه لما اطلع على أخبار الموقف الحرج في الجيش أخذ يتراجع شيئا فشيئا، وانتهى به الأمر إلى استسلام يرثى له، وقد انتهزت النمسة فرصة الهدنة التي عقدتها مع بروسية وحشدت قواها، وقد بلغت 250000 بين إيزونزو وتريستة و60000 في التيرول الشمالي، وأصبحت بهذا إيطالية بين أمرين: إما السلم المهين وإما حرب تكاد تنتهي بالفشل.
وكانت الهدنة قد تمددت خمسة عشرة يوما ظل الطليان متعنتين في أثنائها، ولكن حدث في اللحظة الأخيرة أن أبدى ريكاسولي موافقته، وقد سبق أن عزم لامارمورا أن يأخذ على مسئوليته الخاصة التوقيع على الهدنة فكل ما تم الحصول عليه بعد ذلك كله هو الحصول على فنيسيه بشروط مشرفة، ويظهر أن الإمبراطور لمجرد الصلف رغب - جهده - في تذليل إيطالية فحاول تحريض فنيسيه على طلب حماية فرنسة، وبسبب الاختلاف أجل التوقيع على شروط الصلح إلى تشرين الأول، وبذلك أضيفت أسباب جديدة إلى عوامل الجفاء بين إيطالية وفرنسة.
الفصل الثامن والثلاثون
البلاد والمجلس النيابي
وبانضمام فنيسيه إلى المملكة الإيطالية أصبحت إيطالية في مصاف الدول العظمى، وإذا كانت من حيث المساحة السطحية الدولة الثامنة بين دول أوروبا فقد كانت من حيث النفوس الدولة الخامسة بينهم، فقد بلغ سكانها باستثناء السبعمائة ألف نسمة الخاضعين للبابا نحو خمسة وعشرين مليونا، وكانت كثافة النفوس فيها رغم جبال الإبنين والماريمة تقدر ب 221 نسمة لكل ميل مربع، وبذلك كادت تعادل النفوس في الجزر البريطانية وتفوق كثافة النفوس في فرنسة وألمانية.
وكان أبرز ظاهرة إحصائية فيها فقرها، فصحيح أن وارداتها زادت منذ سنة 1840، وبينما كانت تجارتها الخارجية تقدر ب 900 مليون ليرة
1
أصبحت الآن أكثر من مليار ونصف مليار ليرة، ومع ذلك فإن السوية العامة كانت فقيرة، ورغم أن مجموع الضرائب بلغ 635 مليونا من الليرات وكان نصيب المكلف من الضرائب الأميرية والمحلية أقل من 38 ليرا على الشخص الواحد فإنها كانت باهظة، ودلت الضرائب على الدخل على الذين يتجاوز دخلهم 250 ليرة 1313 شخصا فقط، مع أن سللا قد أحصى سنة 1868 الذين يزيد دخلهم على عشرة آلاف ليرة فبلغوا 3300 شخصا وشركة، ويمكن الاطلاع على ما بلغه مستوى المعيشة من الانخفاض في رواتب الموظفين، فكان سكرتير الدولة يتقاضى 20000 ليرة سنويا، أما أقصى ما كان يتقاضاه الحاكم فخمسة عشر ألفا سنويا ويتقاضى السكرتير الدائم في الدائرة ثمانية آلاف ليرة في السنة، أما متوسط دخل الراهب السنوي فأقل من 800 ليرة وراتب معلم المدرسة لم يكن يبلغ 400 ليرة في السنة.
على أنه كان علاج فقر البلاد لا يزال ممكنا وميسورا فتجارة البلاد إنما أرهقتها الحماية الحكومية والجمارك الداخلية، وفقدان السكك الحديدية والقوانين التجارية الصالحة، ثم إن مليوني هكتار من الأراضي الخصبة كان يمكن استغلالها بتجفيف المستنقعات فيها، ثم إن الزراعة في صقلية كانت لا تزال تستعمل وسائط القرون الوسطى، ومع ذلك فإنه مما لا يجوز إنكاره أن الحكومة القومية بذلت جهودا كبيرة في هذا المضمار منذ سنة 1859، فألغيت الجمارك المحلية وشملت الرسوم الجمركية البيمونتية وهي أكثر حرية من جميع الرسوم في شبه الجزيرة، ومع أنها قضت على بعض الصنائع الصغيرة المحمية فإنها نشطت التجارة بصورة عامة عظيمة، وامتدت السكك الحديدية في البلاد بسرعة وتضاعف طول السكك الحديدية التي كانت في حالة الإنشاء بين سنتي 1860 و1861، كما ضوعفت الخطوط البرقية من سنة 1861 إلى سنة 1867، وصرفت على الموانئ والري وتجفيف الأرض غير المزروعة مبالغ طائلة فأنفقت المدن الثمان الكبيرة منذ سنة 1860 نحو 150 مليونا من الليرات على الأشغال العامة وتقدم التعليم الفني، وكانت نتائج هذه الأعمال عظيمة واشتد النشاط التجاري حتى صعد رأس مال الشركات المساهمة من 1351000000 ليرة سنة 1860 إلى 2576000000 سنة 1864 وكان أكثر هذه الزيادة يخص السكك الحديدية.
وأما الحياة الصناعية فكانت لا تزال ضعيفة وكان ريكاسولي يشكو خضوع البلاد لفرنسة تجاريا؛ إذ كانت تضطر لشراء السفن الحربية والمكائن والعمل النقدية والكسوات الرسمية من الإفرنسيين، وليس في البلاد معامل ذات شأن سوى بعض مغازل الحرير وكانت معظم صادرات البلاد من المواد الابتدائية (الخام) أو المواد التي لا تحتاج إلى صناعة تامة كغزل الحرير وزيت الزيتون والفاكهة والحنطة والكبريت غير المصفى، على أن إيطالية كانت بلدا زراعيا قبل كل شيء، وكان خمسة ملايين ونصف مليون من الأهليين يسكنون المدن التي لا يتجاوز عد نفوس الواحدة منها 6000 نسمة، وكانت نابولي المدينة الوحيدة التي يتجاوز عدد نفوسها 250000 نسمة، وكان عدد المدن التي يتجاوز سكانها 100000 نسمة تسعا فقط، وكان عدد الذين يزاولون الزراعة وقتئذ ضعفي عدد الذين يزاولون الصناعة والتجارة، وكان جهل البلاد متناسبا مع فقرها، فقد قال المؤرخ فللاري بعد الحرب: إن القلاع الأربع الحقيقية التي وقفت في سبيلنا هي السبعة عشر مليونا من أبنائنا الأميين والخمسة ملايين من الهاوين، وكان الأميون سنة 1861 أكثر من ثلاثة أرباع السكان، وبلغت نسبة الأميين في نابولي وصقلية أكثر من تسعين في المائة من سكانها.
وفي بيمونته ولمبارديه قدر عدد الذين لم يكونوا يحسنون القراءة والكتابة بثلث الرجال ونصف النساء، وقد شنت المملكة الجديدة حربا شعواء على الجهل والفساد، وكان القانون الذي أصدره رتازي سنة 1859 قد نظم شئون التعليم في البلاد وفرض على الأقضية أن تمد موازنة التعليم الابتدائي بالمال، وجعل الدولة والمجالس المحلية معا مسئولة عن التعليم الثانوي والعالي كما أنه جعل التعليم في المدارس الابتدائية إجباريا، وكانت الحكومات السابقة تنفق على التعليم 8000000 ليرة سنويا، ولكن الدولة والمجالس المحلية أنفقت معا سنة 1868 خمسة أضعاف ذلك المبلغ، وبينما كانت مدينة تورينو تنفق 50000 ليرا على مدارسها أنفقت سنة 1859 280000 ثم تصاعدت هذه النفقات إلى 700000 بعد عشر سنوات، أما نابولي فكانت تنفق 50000 ليرا سنة 1861، ولكنها أنفقت بعد عشر سنوات؛ أي سنة 1871 820000.
ولما كان الفقر والجهل يحملان معهما ثمرتهما الطبيعية وهي الإجرام، فقد ظلت جمعية الكامورا في نابولي وجمعية المافيا في صقلية وعصابات السفاكين في الروماني ممعنة في الإجرام، ما دل على تعذر القضاء على هذه التقاليد الإجرامية المتأصلة في بعض المناطق دفعة واحدة، وكانت نسبة قضايا القتل التي تعرض على المحاكم للقضايا الأخرى أربع عشرة من المائة، وكان حق الانتخاب البيمونتي كما جاء في قانون الانتخابات البيمونتية الصادر سنة 1848 يشمل جميع السكان الذين يدفعون 40 ليرا من الضريبة المباشرة ما عدا الأميين، كما أنه كان يشمل التجار والصناع الذين يمتلكون أملاكا ذات قيمة معينة، وكان واحد من كل أربعة وأربعين من السكان يتمتع بحق الانتخاب.
أما في المناطق التي كان التعليم فيها منحطا كالمارك وأومبريه فنسبة الذين يحق لهم الانتخاب انحطت إلى واحد من خمسة وسبعين رجلا، وبلغ مجموع الناخبين الذين يشتركون فعلا في الانتخابات أقل من ذلك كثيرا، وقد جعلت تقاليد الإدارة والفقر والجهل ونفوذ الإكليروس أمر تربية الشعب تربية سياسية بطيئا شاقا، وكانت عقلية الشعب غالبا ما يلائمها الحكم المستبد أكثر مما يلائمها الحكم الدستوري، وأما واجبات المواطن كالانخراط بالمجلس القومي والخدمة في هيئة المحلفين والاقتراع نفسه فكانت تعتبر تكليفا أكثر منها أن تكون امتيازا، حتى كان أكثر ثلثي الناخبين يتخلفون عن الاشتراك في الانتخابات بصورة عامة، وكان المجلس النيابي ينتخب بأقل من 150000 مقترع، وكان معظم الناخبين المقترعين من الموظفين أو الذين يستوحون الحكومة، وكان الوزراء لا يترددون في استخدام نفوذهم والتأثير في المقترعين حتى إن ريكاسولي ذاته اعتبر سنة 1867 أن أول واجب من واجبات رئيس البلدية السعي في توجيه الانتخابات، وكان لانزا وهو من المعتصبين المتشددين يعتبر أن تخلي الحكومة عن استخدام نفوذها في الانتخاب ضرب من الحماقة بشرط أن لا تسيء استعمال هذا النفوذ، أما الناخبون فأظهروا أنهم لا يدركون الحاجات القومية إلا قليلا، وكان خلو الأحزاب من مناهج معينة يجعل من السهل النجاح أو الفشل في الانتخابات لاعتبارات محلية تافهة أو لمجرد رغبة الناخبين بالتغيير.
فكان طبيعيا أن لا تعلو سوية البرلمان على سوية الناخبين، وقد جعل النقص في تنظيم الأحزاب انتخاب المرشحين في قبضة زمر صغيرة محلية، ولما كان النواب - مع الأسف - لا يتقاضون أية مخصصات فقد كان إقناع البعض بترشيح نفسه أمرا صعبا، فأصبحت أغلبية النواب إما من الأغنياء الذين لا يعطفون على الجمهور، وإما من الفقراء الذين يتصيدون فرص الانتفاع من المناصب لقلة وارداتهم، وقد قال أحد الصحفيين الأحرار: «إن رجال السياسة من أسوأ عناصر المجتمع الإيطالي، وكان المجلس يغتبط بإسقاط جميع الوزارات المتعاقبة من دون أن يعبأ بالضرر الذي تسببه تبدلات الوزارة المستمرة، وكانت الأزمات الوزارية تهم المجلس أكثر مما يهمه التشريع الإنشائي، وكاد أن يكون الضبط الحزبي مفقودا، وكانت المصالح الشخصية والأطماع الذاتية والتفاخر التافه تقلل من نفوذ البرلمان وتحول دون سد جروح البلاد.
ولقد أصاب منجيني أكثر من سللا حين أجهر برغبته في أن يرى حزبين يتأسسان في المجلس كما هو جار في مجلس العموم الإنجليزي، إلا أن تنفيذ هذه الرغبة ربما كان متعذرا وكان الخط الفاصل الحقيقي بين الجماعات هو الذي يفصل بين القوميين والإكليريكيين ولم يمثل الإكليريكيون في المجلس، وكانت الحواجز الفكرية بين الجماعات في حزب الأحرار ضعيفة مترجرجة، وكان نواب كل من الدويلات القديمة يعملون معا إلى حد بعيد ليس في القضايا العامة أيضا، وكانوا يؤلفون جماعات حسب أقاليمهم فمنهم طوسكانيون ومنهم نابوليون ومنهم لمبارديون، وكان الحزب الدائم برئاسة سان مارتنيو يجمع بين رجال ذوي آراء سياسية مختلفة، هدفهم المشترك الوحيد الدفاع عن بيمونتيه ضد هجمات حزب الكونسورتارية «عصبة الدس» والانتقام الشديد من كل حكومة تساعد خصومهم، وبعد سنة 1864 أصبح حزب اليمين القح ينتمي للكونسورتارية وكان يتألف من الدستوريين الذين كانوا غير إكليريكين إلى حد ما وفي الوقت نفسه محافظين في سياستهم الاجتماعية ، وكانت أهداف ريكاسولي الاجتماعية البعيدة المرمى وتطلعه بلهفة نحو روما كثيرا ما تجعله في ناحية اليسار، وكانت نفسه تتوق دائما إلى إدماج الرجال النزيهين في مركز اليمين واليسار والعمل بمقتضى سياسة حرة تقدمية مستقرة.
ومع أن مركز اليسار كان ينحدر أصلا من سميه في البرلمان البيمونتين فقد أضاع مقامه الأسمى، وكان يتألف من أنصار رتازي، وقد بدأ سنة 1867 يدرك ضعفه وأخذ يميل نحو اليسار المعتدل كثيرا ولم تبق لدى اليسار سياسة مشتركة أكثر من الحزب الدائم، وكان بؤرة المعارضة التي يلتجئ إليها خصوم الوزراء على اختلاف ألوانهم، وكانت سياسة هذا الحزب إجمالا سياسة راديكالية، وكان يتشوق للذهاب إلى روما ولديه منهج غير محكم بالإصلاحات الاجتماعية، وقد انقسم تدريجيا إلى فرعين بينهما بعض الاختلاف، أما كريسبي فقطع صلته بمازيني متخذا الشعار الآتي: «الملكية تجمعنا والجمهورية تفرقنا»، فالتف حوله بعض زعماء حزب العمال وكانوا يرغبون في تأليف اتحاد مع جماعة رتازي والحزب الدائم لإقصاء رجال اليمين عن الحكم.
ثم تأتي بعد هؤلاء جماعة صغيرة من المناضلين انطوت تحت راية برتاني، وألفت أقصى اليسار، وسلكت سياسة أكثر نزاهة ووضوحا من سياسة غيرها، وناوأت سياسة كريسبي ورتازي.
ومع كل ما ذكرنا فقد كانت للمجلس حسناته، فكان أغلب النواب ذوي نيات حسنة شابها فتورهم الصبياني وقلة اختبارهم، وحينما كان الموقف يتحرج ويتأزم كان المجلس يظهر كثيرا من إنكار الذات وكانت استقامته لا غبار عليها، ولم يلعب الدساسون ورجال المال فيه الدور الذي لعبوه في فرنسة في الإمبراطورية الثانية قط، ولم يترك أحدا من رجال الدولة الحكم وهو أغنى مما كان قبل تسلمه الحكم بل مات بعضهم معدما، وكان ينبغي للبرلمان أن يقوم بانقلاب سياسي اجتماعي، وكان يتحتم عليه أن يوحد القوانين وأن يعيد تنسيق الإدارة وأن يصلح الحكومة المحلية وينشئ جيشا وأسطولا قويا ويجهز البلاد بالسكك الحديدية والمدارس، وأن يحسم معضلات الكنيسة والدولة وأن يقوم بالإصلاحات الاجتماعية وأن يحل مشاكل الجنوب الخاصة. وكانت المعضلة المالية تتقدم جميع المعضلات الاجتماعية، وكانت المملكة الفتية تجادل عن نفسها للتخلص من الورطة التي وقعت فيها التي كادت أن توصلها إلى هاوية الإفلاس.
وقد حالت القروض الثقيلة دون التقدم المنشود وقد ناء الشعب تحت وطأتها وكان سهلا على الأعداء في الداخل والخارج أن يطعنوا بها، وكانت الضرورة القاهرة تقضي بأن تظل نفقات الجيش والأسطول باهظة إلى حين الاستيلاء على فنيسيه، وقد أصر الاقتصاديون حتى سنة 1865 على تخفيض هذه النفقات ولكنهم لم يستطيعوا أن يخفضوها إلى أقل من 300 مليون ليرة، وكانت البلاد تتطلب مشاريع عامة لإنماء منابعها الاقتصادية كالموانئ وتجفيف المستنقعات وإنشاء الطرق، وكانت الحاجة إلى السكك الحديدية أكثر منها إلى شيء آخر، وقد استنفذت الأشغال العامة والسكك الحديدية معا أكثر من مائة مليون ليرة سنويا بين سنتي 1861 و1867، وتأثرت مصالح البريد والبرق بعجز مالي كبير ولم تبدأ بتسديد نفقاتها إلا في سنة 1865، وقد بلغت فوائد القرض سنة 1861 143 مليونا واتضح أن نفقات الدولة ستبلغ 900 مليون ليرة سنويا.
وقد سعى عقيب سنة 1862 وزراء المالية جميعهم سعيا حثيثا لتخفيض النفقات وكانت مهمتهم شاقة؛ لأن إدارة مالية الدولة كانت مختلة، وعلى الرغم من كل الصعوبات فقد تم تخفيض النفقات بنجاح باهر، وإذا قورنت موازنة 1867 بموازنة 1861 يشاهد المرء اقتصادا في نفقات الإدارة بلغ عشرين مليونا وتخفيضا كبيرا في موازنة النفقات الحربية والبحرية، فبينما بلغت 390 مليونا سنة 1862 نراها بلغت سنة 1867 191 مليونا وبلغ مجموع الاقتصاد في النفقات 251 مليونا من سنة 1861 إلى سنة 1867 أعني: أكثر من الثلث، بيد أن جميع المساعي للاقتصاد أصبحت عقيمة؛ بسبب تضخم الديون العامة تضخما هائلا، فبلغ مجموع هذه القروض سنة 1861 مليارين وربع مليار وقد انتقل نصف هذا المبلغ من دولة بيمونته، وكان يصيب كل شخص 106 ليرات بينما كان - في الوقت نفسه - يصيب كل شخص من فرنسة 252 ليرا، وفي النمسة 161 ليرا، ومع ذلك فإن جميع الموازنات كانت تمنى بعجز مخيف، وفي خلال ثماني سنوات من 1860 إلى 1867 أصبح العجز المتراكم يتفاوت بين ثلاثة مليارات ونصف مليار وأربع مليارات، وسرعان ما ظهر جليا بأن إيطالية بدلا من أن تكتفي بصرف مجموع وارداتها البالغ نصف مليار في عهد الحكومات القديمة أصبحت مضطرة إلى أن تنفق أربعمائة مليون ليرة أكثر من ذلك.
ورغم أن إصلاح الإدارة كان أقل شأنا من القضية المالية إلا أنه كان يمس أساس الحكومة نفسها، ولا شك في أن البيمونتيين كانوا يحتكرون أكثرية الوظائف المهمة وكانوا تعلموا في مدرسة التجارب البصيرة والتدبير، وكانوا نزيهين فعالين إلا أنهم كانوا لا يأخذون بالمقتضيات الحديثة إلا ببطء، وكانوا متمسكين - حسب عادتهم - بالأصول التقليدية وغير محبوبين لخصالهم الحسنة السيئة معا.
وكان لا بد من أن يكون عدد كبير من موظفي الحكومات الملغاة موظفين في الحكومة الجديدة، وقد احتفظ هؤلاء بتقاليدهم التي ورثوها من تلك الحكومات، وقد دخل كثيرون من طلاب الوظائف في مصالح الدولة سنة 1860 فأفسدوا الإدارة بكسلهم وعدم استقامتهم، ومما زاد في الإدارة سوء الطريقة التي اتبعت لأول مرة في التوظيف، والتي تعفي الموظف من تأدية الامتحان قبل انتسابه إلى الوظيفة ولا تصنف الدرجات تصنيفا معقولا، فكان الكاتب الوضيع يرتقي إلى منصب موظف كبير بالقدم والالتماس، ومعنى ذلك اندحار الكفاية أمام المحسوبية، وعليه فإن المكانة الحكومية كانت فاسدة تجعجع ولا تطحن، أولها صرير ولكن بلا إنتاج، وكان معظم رؤساء البلدية وكلاء الحكومة السياسيين وقد جعلهم عدم مسئوليتهم ونفوذهم البالغ خطرا دائما يهدد إدارة المؤسسات الحرة.
وكانت اللامركزية أنجع دواء لإصلاح تلك الفوضى، وكانت الحكومة المحلية كأنها في حالة وقتية كما كانت وخاوية إلى حدبعيد، وكان الانقلاب قد وجد في كل محل حكومة بلدية قوية وكادت توجد في كل محل حكومة إيالة تتصرف مستقلة في طرق المواصلات والتعليم الثانوي وبإدارة المؤسسات الخيرية، على أن تنظيمات الإيالة في طوسكانه ولمبارديه - على الأقل - كانت أرقى ما عليه في بيمونتيه.
ولما أصبح إيجاد نموذج مشترك للدول المختلفة أمرا ضروريا كان التدبير المصيب يقضي بوضع لائحة تحتوي مزايا جميع هذه الأساليب، ولكن القانون المتعجل الذي أصدره رتازي سنة 1859 قد حال دون وضع لائحة من هذا النوع في عناية ودقة، وقد سوى قانون رتازي بين الناحيات مهما كانت سعتها من أكبر مدينة إلى أصغر قرية وجعلها في حالات متشابهة تقريبا، وكانت سلطات مجالس البلدية ولجانها الإجرائية خطيرة الشأن تشمل الإشراف على أرض المنطقة وطرق مواصلاتها والتعليم الابتدائي والحرس القومي فيها والسجلات الانتخابية، وكان النقيب (العمدة) الذي يترأس المجلس يعين من قبل الحكومة، ثم إن الوالي ومجلس الإيالة كانا يتمتعان بسلطة إشراف واسعة جدا، أما مقترحات منجيني فكانت لا تكتفي بتوسيع سلطة المجالس فحسب بل كانت ترمي إلى إنقاذها من إشراف الولاة، أما لائحة ريكاسولي سنة 1861 فكانت تمنحها السلطة لا الاستقلال؛ لأنها تقترح وضع طرق الإيالات والكليات والملاجئ تحت إشرافها ولكن دون أن تنقذها من إشراف الوالي أو النقيب، وبعد انقضاء سنتين رجعت لائحة بيروزي إلى مبادئ أكثر حرية من مقترحات منجيني، فوسعت حق الانتخاب ونحت الوالي والنقيب عن رئاسة المجالس وأضافت مراقبة الأنهر والغابات والوثائق إلى السلطات التي منحت لمجالس الإيالات في لائحة ريكاسولي.
بيد أن كل هذه التدابير فشلت الواحدة بعد الأخرى وكان من نصيب لانزة أن يستصدر من البرلمان حكما أثناء التشريعات المستعجلة التي سبقت نقل العاصمة سنة 1865، وكان قانون لانزة كلائحة ريكاسولي يخول وظائف واسعة ذوي استقلال محدود، فقد منح الإيالات سلطة إشراف على طرق المواصلات في الإيالات والجسور والسدود والمنارات والتعليم الثانوي والفني ودور المجانين مع بعض واجبات قليلة الأهمية نحو المدارس الابتدائية والصحة العامة، وقد فرضت على الناحيات لقاء الصلاحيات التي منحتها إياها أن تشرف على شئون الموانئ الصغيرة والمنارات وتسجيل الولادات والوفيات والشرطة المحلية، وكانت مهمة الوالي في إيطالية مراقبة المجالس المحلية أكثر من قيامه بواجبات الحكومة المركزية.
ومع أن قانون لانزة كان خيرا من لائحة رتازي؛ فإنه ترك كثيرا من الأمور مرتبكة، وقد حنقت البلاد التي تأصلت فيها تقاليد بها المدنية على القيود التي قيدت حرية البلديات، ويجدر بنا أن نقول إن أهم المعطلات الداخلية في السنوات العشر تناول المشكلة المالية والإدارة والحكومة المحلية وعلاقات الكنيسة بالدولة.
وكان الاستياء شديدا؛ حيث تكون الفاقة فيها على أشدها وكانت ست سنوات لا تكفي للقيام بأعمال جسام لتطهير الجنوب وحل مشاكله وبعثه من جديد، وقد ساعدت حكومة لامامورا الحازمة في نابولي في قمع الفتن وسحق جمعية الكامورا، ولم تتنفس نابولي الصعداء إلا بالقبض على رجال الكامورا في إيلول سنة 1862، وكانت أعراض الفوضى الاجتماعية والسياسية في بعض أنحاء صقلية كثيرة الخطورة، وإذا كان الناس هناك قد كفوا عن الكلام في الانفصال ما عدا البوربونيين فإن رغبتهم في الحصول على الحكم الذاتي تحت أي شكل من الأشكال كانت لا تزال شديدة، وقد حال تبديل الولاة المستمر دون تأسيس إدارة قوية مستقرة لا يتم أي شيء من دونها، فكانت صقلية إذن في حاجة ماسة إلى حكومة حازمة تستطيع أن تسحق الشغب الإكليريكي، وتقضي على الفوضى التي سببتها الطبقة الوسطى والقرويون وتمهد السبيل وتعد العدة لجيل يكون أكثر مدنية وحبا للنظام من سابقه.
وقد جاء في إحصاء أحد المسئولين أن ألفا وخمسمائة حادثة قتل قد وقعت في المدينة خلال عشر سنوات، أما في باليرمو فقد ظلت جمعية مافيا تتحين الفرصة التي أضاعتها سنة 1860 لنهب قصور العاصمة، وكان التجنيد عاملا جديدا في تعميم الاستياء، وكان الإعفاء من الخدمة العسكرية في صقلية قد زال، وبلغت شدة المعارضة للتجنيد حدا نال فيه الجنود جزاءهم في بعض الحالات النادرة جدا، وكان في باليرمو وحدها نحو أربعة آلاف متخلف أو هارب من الجندية في السنوات الثلاث التي تلت الوحدة، وقد قتل ستون جنديا من الكارابيزي حين تفتيشهم على الفارين من الجندية بطلقات نارية كانت تصوب إليهم من وراء السياجات والجدران، ولم تلق الحكومة أية معونة من أي حزب من الأحزاب الصقلية، فالأحرار كانوا يخافون من الاندفاع وأما أنصار الحكم الذاتي والغاريبالديون فقد ظلوا خلال ست سنوات يهاجمون الحكومة هجوما عنيفا لا هوادة فيه، وأخذ الشعب الذي لقن كره الحكومة الجديدة يميل إلى أنصار الحكومة السابقة، حتى إن خيرة الغاريبالديين بدءوا يندمون بعد فوات الفرصة على سلوكهم السابق وما ولده من ضرر للمصلحة القومية، وأصبح الاستياء الذي أوجدوه أداة بيد الرهبان والبورنتيين الذين كانوا يتلقون الوحي من روما، ولعلهم كانوا يترقبون المعونة للقيام في الجنوب بعصيان يئول إلى ثورة عامة في صقلية، وقد أعد الإكليريكيون ثورة إجرام والفقر فيها، وظلت الحكومة عمياء عاجزة وساعد فقدانها هيبتها في الحرب على الاستهانة بها، فهاجمت العصابات الثائرة في 16 أيلول باليرمو واستولت عليها وحاولت فتح أبواب السجون، ولما فشلت في ذلك نهبت القصر ومثلت بالجنود وبالمباني الحكومية أربعة أيام حتى جاءت النجدة من الخارج واستطاعت طرد الثوار.
وقد أظهر هذا العصيان خطورة الموقف مرة أخرى، وأيقن ريكاسولي أن أخطر مهمة يجب أن يضطلع بها القضاء على هذا الفساد الذي أهلك البلاد، وتطهير الإدارة وتقويتها وإنماء الصناعة والتعليم وإعادة التوازن للمالية من دون ضرائب جديدة، ومما يؤثر عنه قوله: «أجدر بمال الدولة أن ينفق على الأشغال العامة بدلا من إنفاقه في قمع الثورات وإقامة السجون.»
ولقد شغلت قضية روما باله في الماضي والحاضر، وحين ألغى البرلمان الأديرة في الصيف انتقلت أراضي تلك الأديرة وأملاك الكنيسة كلها إلى الدولة فأقدمت على بيعها مما سبب نقمة روما، وأضاف جفاء إلى جفائها الأول، ولا سيما لأن قانون المشبوهين قد نال من الإكليريكية اللاقومية وأصابها منه اضطهاد عظيم، ولكن لم تخل روما من فئة صغيرة من الأساقفة كانت تريد التفاهم وتوافق على مشروع الكنيسة الحرة الذي وضعه ريكاسولي كما وافقت على مشروع كافور سنة 1861.
وكان بعض الأساقفة قد مل من المنفى، وتاقت نفسه للرجوع إلى أسقفيته، وأدرك أنتونللي أن روما لا تستطيع أن تصر على رفض التفاهم وقد حمله جلاء الإفرنسيين المزمع على تغيير موقفه والكف عن عناده، أما فريق بلاط روما فقد ظل عنيدا كالسابق غليظ القلب تجاه إيطالية، وتردد البابا بين هذين الفريقين إلا أنه كان أكثر ميلا للثاني.
وكان ريكاسولي قد اغتم للهوة التي أخذت تتوسع بين إيطالية والبابوية، ومع أنه حزن كثيرا للروح المسيطرة على روما؛ فكان يدرك بأن الفريق الثاني قد سلك مسلكا غير سمح، وأنه من المستطاع تجنب مشكلة الأسقفيات الشاغرة، وأن قلب مباني الأديرة والأسقفيات إلى الأملاك العامة كان قد جرى بشدة لا داعي لها، وكانت لهفته للحصول على روما قد أخذت تهمد منذ أخذت القضية تتأخر كثيرا، وتتلخص الفكرة التي اختمرت في رأسه بما يلي: يجب أن ينتهي التدخل الأجنبي، ويجب أن تكف روما عن أن تظل عشا للدسائس ضد المملكة وأن تعرف أوروبا أن روما جزء من الأرض الإيطالية، وليست إقطاعا للعالم الكاثوليكي، وإذا ما تم الاتفاق على ذلك فسيوافق على تفاهم يقوم على الأسس الآتية: إما أن تنفذ المقترحات التي عرضت في فرص عديدة منذ سنة 1860 وتقضي بأن يحتفظ البابا بمدينة ليونين «قسم روما الذي يحتوي كنيسة القديس بطرس والفاتيكان» مع ثقة من أرض الساحل، وإما أن تصبح روما عاصمة الشرف الإيطالية؛ أي المحل الذي يتوج فيه ملوك إيطالية من قبل البابا بينما تظل فلورنسة قاعدة الحكومة.
وكان مستعدا لأن يتخلى عن هذا وعن جميع مطامحه السياسية لو تسنى له الحصول على رضاء روما، وكان الوقت حرجا فالإفرنسيون على أهبة ترك روما والميثاق يتطلب منهم الجلاء قبل 11 كانون الأول، وستبحر - بعد انقضاء ثلاثة أيام من ذلك التاريخ - آخر قطعة من قطعاتهم من جيفيتا فيكيا، وكانت أوروبا بأجمعها تنتظر بفارغ الصبر ماذا سيعمله الرومانيون، وأخذ بعض المعتدلين ينظم حركة مشروعة ترمي إلى حمل البابا على استدعاء الحكومة الإيطالية لتكون حكما بينه وبين رعيته، أما ريكاسولي فيظهر أنه كان يخشى نشوب اضطراب شديد في تلك الساعة في مصلحة السلم، ففرض مشروع الكنيسة الحرة واقترح فيه تخليص الكنيسة الكاثوليكية من إشراف الحكومة الذي يوجبه الاتفاق، أي أن الحكومة تتخلى عن حقها في تعيين الأساقفة والكف عن إعطاء البراءة الملكية وتخسر الكنيسة لقاء ذلك الإعانة التي كانت تدفعها الخزينة العامة لها، وبذلك تصبح الكنيسة من الوجهة القانونية عبارة عن منظمة عادية، حرة في إدارة أملاكها وفي نظامها وانضباطها الداخلي، وتدار بموجب قوانينها الدينية، وينص القسم الثاني من المشروع على بيع الأراضي الخاصة بالأديرة الملغاة ويضيف إليها جميع أراضي الكنيسة مهما كان نوعها.
لقد قوبل هذا المشروع بضجة من الاستنكار شديدة فرفضه الأساقفة ولم تستطع كل المزايا التي وعدهم المشروع أن تقنعهم بالتخلي عن النفوذ الذي سوف يحرمهم إياه، أما الأحرار والدموقراطيون فعارضوه معارضة شديدة وأدت عودة الأساقفة إلى مظاهرات صاخبة ضد المكروهين منهم.
وكان الرأي الشائع أن الحكومة لم تقدم على التضحية بامتيازات التاج وهيبة البرلمان فحسب، بل إنها أقدمت على تقديم امتيازات تجعل مقام الدولة في خطر، واتفق ذوو الرأي الحر والقوميون الذين ورثوا تقاليد إشراف الدولة على الكنيسة على مهاجمة المشروع معتقدين بأنه سيتخلى عن حقوق ثمينة، وسيلقي على الأجيال القادمة حملا ثقيلا شديد الخطر عظيم الضرر، وقد امتنع عدد كبير من هؤلاء عن الموافقة على هذا المشروع؛ لأنه يهمل جانبا من حقوق طبقة الإكليروس الدنيا والعلمانيين، وينذر بعودة الأساقفة في روما إلى عهود الاستبداد، أما أعداء الإكليروس المتطرفون - ومن بينهم غاريبالدي - فاعتبروا المشروع هبة جديدة تمنح للطائفة الممقوتة، ونادوا بضرورة استخدام أملاك الكنيسة، وهي من أملاك الأمة في حاجة الدولة ورعاية الفقراء.
وسرعان ما تبين أن المشروع لا يمكن أن يقبل وكان ريكاسولي قد أغفل عرضه على الوزارة، وأصبح زملاؤه الذين كانوا يتسامحون في المفاوضات مع روما أكثر فتورا وصدوفا عن مشروع الكنيسة الحرة، ولما انتشر الشغب في البلاد أضاع ريكاسولي التوازن واشتد في تفسير القانون خلافا لمبادئه وتنفيذه بشدة؛ لكي يستطيع أن يمنع الاجتماعات العامة التي أخذت تنعقد في فنيسيه، وكانت أكثر صخبا من غيرها فسهلت على اليسار مهاجمته واتهامه بالرجعية وتخلى عنه بعض أفراد الحزب الوزاري، ثم وجه المجلس إليه اللوم على عمله هذا في 11 شباط بمائة وستة وثلاثين صوتا ضد مائة وأربعة، فلم يبق أمام ريكاسولي سوى الاستقالة أو حل المجلس واستفتاء الأمة فآثر الرأي الأخير، وقد حوى النداء الذي وجهه إلى الناخبين خلاصة معقولة للسياسة الحرة التي سينهجها وتتلخص بما يلي:
مشروع الكنيسة الحرة مع ضمانات الطبقة الإكليروس الدنيا والاقتصاد في النفقات ومد السكك الحديدية وسياسة ليست بسياسة مغامرات ولا هي بسياسة رهيبة، وكانت هيبة الحكومة قد هبطت بسبب الضرائب الباهظة وفضائح حياة الملك الخاصة، وجرت الانتخابات في 10 آذار بكفاح جديد لا مثيل له وزج الدموقراطيون غاريبالدي في معركة الانتخابات في فنيسيه، فوجه للإكليريكيين وشركائهم مطاعن عديدة قد هزت سامعيه وأثارت حماستهم إلا أنها لم تؤثر في نتيجة الانتخابات، فانتخبت فنيسيه أفواجا من المعتدلين، وبنتيجة الانتخابات ظلت نسبة قوة الأحزاب في المجلس كالسابق، وظهر أن المجلس الجديد معارض لسياسة ريكاسولي كالمجلس السابق، وكان الملك قد ظاهر ريكاسولي إلى ذلك الحين، غير أن نفوذ رتازي قد جذب الملك نحو المعارضة بحجة أن سللا غير محبوب من الشعب، فاضطر ريكاسولي إلى الاستقالة في 4 نيسان سنة 1867.
الفصل التاسع والثلاثون
لائحة قانون الكنيسة الحرة
أيلول 1866-نيسان 1867
حصلت إيطالية على فنيسيه إلا أن ثمنها كان باهظا؛ إذ كانت الحرب نكبة عليها في البر والبحر، ولم يغسل عار الهزيمة فوز المتطوعين اليسير، ولم يجد التفوق العددي شيئا؛ لأن سوء التنظيم وعدم كفاية القادة ذهبا بقيمة التفوق، وقد أذعنت النمسة؛ لأن بروسية لا إيطالية قد تغلبت عليها وفلتت منها ترنتينة وإيسترية بعد ما كانتا في متناول اليد، أما فنيسيه فكانت هدية قدمها الأجنبي إليها، وقد غدر بإيطاليا حليف لا ضمير له، ولا ننسى أن الهزيمة في ميدان القتال قد جرحت كرامتها، أضف إلى ذلك أن ماليتها كانت لا تزال مرتبكة وأن سياستها كثيرا ما منيت بالخذلان، وها هي تصبح منعزلة من دون صديق، وها هي الآن تنتقل من حلم الانتصار إلى صحوة زلزلت اعتقادها في الناس وفي المؤسسات القائمة، وعم فيها السخط على الزعماء والحنق على الموظفين العاجزين الذين سببوا الهزيمة.
وبينما كانت فنيسيه تغتبط بخلاصها ساد القسم الباقي من إيطالية شعور قوي بأن في كيان الدولة فسادا يستطيع في كل حين أن يكون مصدر الفرقة، ومنه يسهل نزول الكارثة، ولم يكن أحد يفكر في إعادة الأسرات المالكة الساقطة إلى عروشها وخسرت الحكومة سمعتها حتى كادت تفقد الأمل في استرجاعها، وعاد المتطوعون من ميدان القتال فأصبحوا قوة مستقلة، وفي خلال المفاوضات التي انتهت بالصلح كان ثمة خطر حقيقي ينذرها باحتمال هجوم المتطوعين على النمسويين بمحض رغبتهم، وكان مازيني يصطاد في الماء العكر، وقد دل الاستمرار على انتخابه في مسينة على الرغم من تأجيل البرلمان إجراء هذا الانتخاب في كل مرة وتقديم استدعاء يحمل أربعين ألف إمضاء بالتماس العفو عنه؛ على بوادر الاستياء السياسي بين الناس، وكان كثيرون من الناس يعتقدون اعتقاد مازيني: «الملكية هي التي كانت سبب الفساد.»
وكان هذا التشخيص للداء لا شك سطحيا، وقد نسي الشعب ما لقيته إيطالية من مصاعب في الوصول إلى ما وصلت إليه، وأخذت طبقات العمال تتذمر وتقول ها إن الوحدة لم تأت بالعهد الذهبي الموعود، وعم السخط على الضرائب التي أخذت تزداد، وانتقد الناس كون التقدم التجاري لم يحقق الآمال المفرطة التي عقدت عليه مضافا إلى ذلك كله أن جروح الجنوب الاجتماعية الدامية لما تضمد.
ووجهت للحكومة حملات؛ لأنها أصبحت خاضعة للبورقراطية تقتفي في الأغلب أثر الاستبداد، ولا تنجو من فساد الطريقة القديمة، ولا ننسى في هذا المجال عناصر الشعب القديمة التي ظلت صامتة حينما طغت الحماسة القومية فأخذت الآن ترفع صوتها، ولا بد لإخماد هذا الشعور الصاخب من أن يمر جيل تتولى الأمور فيه حكومات صالحة حازمة.
الفصل الأربعون
مينتانة
نيسان-كانون الأول 1867
تقلد رتازي رئاسة الوزارة في 11 نيسان مستندا إلى أحزاب المركز، وكان يرجو أن يؤلف الوزراة بالاتفاق مع اليسار ومع الحزب الدائم إذا أمكن إلا أنه لم يوفق إلى ذلك؛ إما لأن رتازي وكريسبي كان لا يعتمد أحدهما على الآخر، وإما لأن كريسبي أدرك أن وقوع نزاع بين الحكومة وبين غاريبالدي لا بد منه، أو لأنه اشترط على رتازي شروطا يتعذر قبولها؛ ولذلك انقطعت المذاكرات بينهما فاستند رتازي إلى أنصاره فقط وألف وزارة من رجال ثانويين، وكان موقفه تجاه البرلمان أشد حراجة من موقفه سنة 1862، ومع أنه وجد متكأ له وعضدا في الرغبة التي كانت تسود جميع الأحزاب في اجتناب إحداث أزمة جديدة إلا أنه لا اليمين ولا اليسار كانا على استعداد لمظاهرته مظاهرة جدية يذهبون فيها إلى أبعد من التساهل الذي اقتضته الظروف.
وعليه فإن رتازي رأى أن سلامته في السير على سياسته اللبقة القديمة التي تستند إلى التوازن بين الأحزاب، فطلب معاضدة ريكاسولي ولوح لليسار بما يغريه على الاشتراك في الحكم، وأخذ على عاتقه بعض التعهدات لكريسبي، بيد أن كريسبي ذاته على الرغم من نفوذه لم يستطع إقناع اليسار بالاشتراك مع رجل إسبزومونتة عن طيبة خاطر، أما الجماعة المتطرفة التي كان يرأسها برتاني فجاهرت بمعارضتها إياه، وكانت هناك حزازات ترجع إلى عهد قديم تحول دون الاتفاق مع اليمين، وبمجيء رتازي للحكم انتعشت الآمال التي استيقظت قبل خمسة سنوات، أما القوميون الذين عيل صبرهم فرجوا أن يفسح لهم مجال الذهاب إلى روما، آملين أن يتواطأ معهم، أما المتحمسون الذين يريدون روما فكانوا ككل المتحمسين أقلية في المجلس إلا أنها أقلية قوية تتمتع بعطف الأكثرية.
وندد بالميثاق رجال سياسيون؛ كانوا ينشدون إكمال وحدة الأمة وعلمانيون يعتبرون البابا وريث «تروكويمادا أولويولا» وعدو الرقي الأزلي، مستندين في شوقهم هذا إلى القرار المكرر الذي أعلن فيه البرلمان أن روما عاصمة إيطالية.
وطبيعي أن يعتمد المتحمسون على غاريبالدي؛ ليقودهم نحو روما، وكان غاريبالدي قد انسحب إلى كاربيره مقتنعا بأن سياسة التريث هي السياسة المثلى لإنقاذ روما، وقد استدعي في شهر شباط من عزلته لاستغلال نفوذه في الانتخابات ضد مشروع الكنيسة الحرة؛ حيث أخذ يبشر بدين غامض «باسم الله وعيسى الحر»، وكان يؤكد بأن على الطليان أن يقتحموا روما بالقوة إذا كانت الوسائط المشروعة لا تجدي للاستيلاء عليها، وكان موقنا بأن فرنسة لن تتدخل وأن بروسية ستقدم المساعدة، وكان يحسب أن القضية ستحسم من دون سفك دماء.
ولقد لقنه أصدقاء كريسبي فكرة الوسائط المشروعة وحالوا دون التأليف بينه وبين رتازي وكانت معرفة حقيقة سياسة رتازي أمرا صعبا، ومع أن آراءه بشأن القضية الرومانية يحتمل أن تكون قد تطورت منذ وصوله إلى فلورنسة إلا أنه ربما كان يود لو تظل راقدة في سياستها فيستفيد من هذا التأجيل لإنقاذ البلاد من الإفلاس.
وكان قد حمل على الامتيازات التي منحها ريكاسولي للكنيسة إلا أنه لم يشأ أن يخاطر بقطع الحبل مع فرنسة؛ لذلك وعد بأن يراعي الاتفاق نصا وروحا آملا أن تمل أوروبا من القضية البابوية فتسمح لإيطالية بأن تسلك طريقها بلا عرقلة، ولم يكن يستطيع أن يبقى في الحكم إذا لم يعاضده اليسار وما كان اليسار يأمن جانبه إلا إذا قطع وعودا علنية سرية بأن يأخذ بالسياسة المتطرفة، وكان رتازي على اتصال بأحرار روما حتى ظن كريسبي بأن رتازي وغاريبالدي يضعان خطة للعمل مشتركة، أما التصريحات التي فاه بها رتازي في البرلمان فاعتبرت تحريضا للرومانيين على الثورة، ولعل رتازي توقع أن تمنى مشاريع غاريبالدي بالفشل فعمل على أن يجعل حزب العمل في قبضته فيستطيع أن يستخدمه كما يشاء، فإما أن يقضي عليه وإما أن يرمي به عرض الحائط كما تقتضيه الظروف، وكان يتوقع أن تثير قضية لوكمسبورج الحرب بين بروسية وفرنسة فتساعد الصدف على المسير نحو روما.
وكان هناك حل يرضى عنه جميع الأحزاب ما عدا اليسار المتطرف ومازيني، وذلك أن يثور الرومانيون ثورة تؤدي إلى قلب البابا وهو الحل الوحيد المشروع الذي يسوغ إهمال الاتفاقية، وعلى الرغم من حركة الارتجاع في فرنسة ومن تهديد الحكومة الإفرنسية؛ فإنه لن يتصور أبدا أن الإمبراطور يستطيع أن يعترض على استفتاء عام يقرر انضمام روما إلى إيطالية، وكان كثيرون من الوطنيين يعتقدون - كل الاعتقاد - بأن الرومانيين هم الذين سيتولون إنقاذ أنفسهم.
وكانت اللجنة القومية في روما ترقص على عزف تورينو وفلورنسة وتأخذ المساعدات المالية من الحكومة الإيطالية، وكان بعض رؤسائها يتصلون بأنتونللي، وكانت هناك لجنة أخرى هي لجنة العمل المنبثقة عن اللجنة التي ألفها مازيني بعد سقوط الجمهورية، والتي حال نفوذ مازيني دون اندماجها في أي تنظيم غير جمهوري، وكانت هذه اللجنة - حسبما يظهر - على استعداد للتخلي عن آرائها الجمهورية والتعاون مع أي تنظيم لا يكون كثير الولاء للمعتدلين كاللجنة القومية، وقد حث ذهاب الإفرنسيين اللجنتين على مضاعفة نشاطهما، غير أنه بينما كانت سياسة اللجنة القومية ترمي الآن إلى ترك روما للأقدار وتخليص الحدود؛ كانت لجنة العمل تعد العدة للثورة في المدينة نفسها، وتنوي طلب مساعدة أوروبا؛ لتكون الحكم بعد أن تنال روما حريتها ثم يجري الاستفتاء العام لمصلحة الوحدة، وقد ألغيت هذه اللجنة قبل تعيين رتازي بمدة قصيرة لبلوغ غايتها جميع الفروع القومية الرومانية باستثناء اللجنة القومية، وتطوع غاريبالدي لقيادة هذه الحركة الجديدة، وكان ينوي إرسال عصابات المتطوعين ليعيثوا في الحدود وليشغلوا جنود البابوية، ولما وردت رسالة من روما تفيد بأن القوميين أصبحوا على أهبة العصيان؛ سارع غاريبالدي إلى إيفاد قوة إلى جوار تيرني، والواقع أنه لم تتم أية استعدادات لا في تيرني ولا في روما؛ فلذلك استطاع الجنود الإيطاليون - بسهولة - أن يطوقوا المائة شخص الذين لبوا نداء غاريبالدي قبل أن يجتازوا الحدود، وأن يقبضوا عليهم في 18 حزيران.
أما غاريبالدي فلم يثن عزمه شيء وأسلم نفسه إلى تهور خاطئ ولربما بالغ في تقديره جزع الشعب وظن أنه يستطيع أن يجر البلاد وراءه فيتحدى الحكومة، وجهر بعزمه على الذهاب إلى روما وأرسل السلاح إلى الحدود؛ ليجس نبض رتازي ولعله أراد بأن يتعاون مع الجمهوريين، وأخذ في أوائل شهر آب يجند المتطوعين من جميع الإيالات المتاخمة بالحدود، وحين تجول في جنوب طوسكانه لم يتردد في الجهر بنياته قائلا: «نريد أن نذهب إلى روما على الرغم من بونابرت، فينبغي لنا أن نحرق الميثاق فوق الكابيتول.»
ولقد نجح في تهييج البلاد، وحدث أن قامت في عيد القديس بطرس السنوي مظاهرة بابوية صاخبة أثارت الشتائم التي وجهت فيها للقوميين سخطا شديدا في إيطالية، وأثبتت تصريحات الجنرال الإفرنسي «دومون» صحة ما كان الطليان يظنون منذ مدة طويلة، وهو أن بعض القوة البابوية في آنيتب تتألف من جند المشاة الإفرنسيين المتنكرين بلباس المتطوعين، وأحدث ذلك سخطا شديدا على أسلوب الختل الذي استعمله الإمبراطور ليتجنب الميثاق، وقد عقدت اجتماعات عامة في المدن الكبيرة طالبت باحتلال روما والاستيلاء على الأملاك الكنيسية، حتى إن عددا كبيرا من المعتدلين انضموا إلى القائلين بضرورة إحداث ثورة في روما، وأخذ بعض الجنود والضباط والموظفين يحيون غاريبالدي وحسب الناس جميعهم أنه على تفاهم مع رتازي بواسطة كريسبي، وأن الحكومة لن تعارضه.
أما رتازي فصرح بأنه سيعارض - بكل قوته - أية حركة نحو الأمام إذا أدرك بأن سياسته المبهمة المتوسطة عادت لا تصلح، وأن عليه أن يتخذ مع غاريبالدي سياسة صريحة، فإما معه وإما عليه، فإذا اختار أن يؤيد غاريبالدي فإن روما ستقع في قبضة يده وإليه سيرجع فضل الاستيلاء على العاصمة الإيطالية، بيد أن الأخطار التي قد تنجم عن هذا وقد يؤدي ذلك العمل إلى قطع الصلات مع فرنسة وربما إلى حرب هائلة تنتهي باحتلال الإفرنسيين لبيمونته، أما إذا هو ألغى المتطوعين بالقوة فقد تتكرر بذلك حادثة إسبرمونتة فضلا عن احتمال نشوب الحرب الأهلية ونشاط الحركة الجمهورية التي قد تجر إلى قلب العرش، وقد كان شغف غاريبالدي بإثارة الثورة ينذر بمضاعفة الصعوبات المالية أكثر من قبل، بينما كان معظم الناس - باستثناء المتحمسين - المندفعين يرون بأن مهمة الاستيلاء على روما تأتي بعد واجب تخفيف الأعباء التي ترزح تحتها البلاد في الأهمية، وكان رتازي قد أصدر في 28 تموز قانونا عن أراضي الكنيسة استهدف به تخفيف أعباء الخزينة على الرغم من أن الحصة التي خصصها للدولة كانت أقل مما جاء في مشروع ريكاسولي.
وأخذت الأسابيع تمر والصلات مع فرنسة تتوتر حتى أصبح اجتناب قطع الصلات صعبا جدا، ولو كان الإمبراطور لا يزال قويا يستطيع بها أن يسلك السياسة التي يريدها؛ لما كان ثمة محذور من موقف فرنسة، إلا أن الكاثوليك كانوا أقوياء في البلاط وكانت الحكومة لا تجرؤ على إغضابهم، وكان الإفرنسيون يكرهون إيطالية لأنها عدوة للبابا وحليفة لبروسية، وكانوا يحسون في قرارة نفوسهم بالألم لأن البلاد التي حاربت فرنسة من أجلها قد تخلت عن فرنسة، وقد نسوا أن فرنسة حين أعطت لمبارديه لإيطالية قد أخذت منها لقاءها صافويه ونيس، وأن إيطالية قد سفكت دماء أولادها سنة بعد أخرى في سبيل نابليون الأول، وكان وزير خارجية فرنسة قبل سقوط ريكاسولي قد أنذر بتدخل جديد إذا اضطر البابا إلى الهروب وبالقيام بهجوم من الداخل أو من الخارج، ومع أن رئيس وزراء فرنسة كان من الأحرار وكان يعارض سياسة التدخل إلا أنه كان يخشى فيما إذا وقعت ثورة أن يحول ضغط الرأي العام دون وقوف فرنسة موقف المتفرج وعلى الحياد، وقد دل إنذار وزير الخارجية الإفرنسية على أن الحكومة الإفرنسية قد أطلقت مواد الميثاق الخفية واعترضت بتواطؤها في قضية قوة انتب.
وبلغ السخط في إيطالية من جراء ذلك أشده، ولعل رتازي حاول أن يشهر بأحكام الميثاق، إلا أن سياسته كانت تقضي بأن لا يعطي فرنسة أية فرصة للتدخل.
وكان قد تعهد مرات عديدة بالاهتمام على محافظة الحدود بقدر ما تساعده على ذلك منابع الحكومة بالمحافظة على الحدود باهتمام تساعده عليه قدرة الحكومة، حتى إنه ذهب إلى أبعد من ذلك بقبوله استشارة السلطات البابوية بشأن التدابير التي يجب اتخاذها للمحافظة على الحدود، بيد أن وعده باستخدام القوة عند الحاجة كان يناقض الأوامر التي أوعز بها لسلطات الحدود في السعي لاجتناب سفك الدماء، فضلا عن أنه رفض أن يمنع تجنيد المتطوعين وتدريبهم.
ولعل رتازي وافق على أن يخاطر حزب العمل في حركة ترمي إلى إنقاذ روما ما دامت فرنسة منهمكة في قضية لوكمسمبورج، إلا أنه اشترط بألا تتحمل الحكومة تبعة المباشرة بالعمل، ولما انقشعت الغيوم عن الرين وظهر أن فرنسة حشدت أربعين ألفا في طولون كانوا على أهبة الإبحار نحو جيفيتافيكيا؛ تراجع رتازي على أعقابه أمام هذا الخطر، ومع ذلك فإنه لم يجرؤ على الجهر بمعارضته حزب العمل رغم إنذاره لغاريبالدي بالقبض عليه إذا ما اجتاز الحدود، وقد كان كريسبي وأنصاره مستعدين للتعاون معه؛ لأنهم كانوا لا يعتمدون كثيرا على بصيرة غاريبالدي، حتى إن بعض المتهوسين من أعضاء الحزب حملوا على غاريبالدي على تأجيل الحركة إلى وقت آخر؛ فوافق مكرها على تأجيلها شهرا واحدا على الأقل، وكان مؤتمر السلم على وشك الانعقاد في جنيف، وكان أصدقاء غاريبالدي البرلمانيون قد وعدوه بالمساعدة؛ آملين أن تفتر حماسة المتطوعين حين غيابه، وكانت اتهاماته الشديدة ضد البابا قد وقعت كالصاعقة حين المذاكرات في المؤتمر، ولعله استاء من الاستقبال الذي استقبل به في جنوة فقفل راجعا إلى فلورنسة في 17 آب.
ولم يكن الرومانيون - وقد كانوا مشلولين بسبب انشقاقهم - على استعداد لأن يأخذوا على عاتقهم تبعة الحركة، وكان السبيل الوحيد لتشجعيهم على العصيان اجتياز الحدود فعاد كريسبي وأصدقاؤه مجددا يضغطون على غاريبالدي لتأجيل الحركة، بيد أنه رفض تأجيل حركته إلى أكثر من نهاية أيلول، زاعما في اغترار بأن وراءه مائة ألف طلياني، وبعد أن أصدر أوامره للعصابات لتجتمع على الحدود سافر في 23 أيلول ليلتحق بها، وبعد عودة غاريبالدي من جنوة تجددت المفاوضات بين رتازي وحزب اليسار فوعد الحزب على ما يظهر بأن يساعده على أن يعود غاريبالدي إلى كاربيره ويبقى فيها مدة من الزمن، فأدرك غاريبالدي أنها مصيدة له، وكان قد نشط كثيرا في إكمال استعداداته، وعلم رتازي بأن قطعات من القوات الإفرنسية في طولون كانت على أهبة الحركة، وحثه الملك على الأخذ بسياسة الحزم فصرف النظر بغتة عن سعيه للتفاهم وأصدر بيانا في 21 أيلول ينذر فيه ويتوعد كما أنه لم يكف عن دسائسه، فحاول شل حركة المتطوعين ببذر بذور الشقاق بينهم.
وكان جليا أنه إذا كان لا بد من الحركة فيجب أن تجرى حالا، وعزم الرؤساء الغاريبالديون على الحركة بعد تردد كبير ولكن بعد فوات الأوان؛ لأن الحكومة أوقفت غاريبالدي في طريقه إلى الحدود وساقته إلى قلعة ألكسندرية، ولكنه كان قد وجه نداء حارا إلى الرومانيين والطليان؛ داعيا الأولين للعصيان وطالبا إلى الآخرين بذل المعونة لهم، وقد قبض على عدد كبير من المتطوعين كما قبضت الحكومة على بعض اللاجئين وسلمتهم إلى السلطات البابوية، الأمر الذي ينافي الكرامة والمروءة، وسيق غاريبالدي بعد مرور ثلاثة أيام إلى كاربيره، فانتشر خبر توقيف غاريبالدي غير القانوني في البلاد انتشار الكهرباء، ولولا احتلال الجنود لجنوة لحدث فيها اصطدام دام، أما في فلورنسة فلقي رتازي الأمرين في خروجه منها سالما معافى، وكان الجنود أنفسهم يهتفون تحت نوافذ سجن غاريبالدي: «إلى روما.»
وأراد نواب حزب اليسار التريث أيضا آملين أن يؤدي تأخير الاستيلاء حتى عصيان الرومانيين إلى انضمام الحكومة إلى جانبهم، بيد أن الرءوس الفائرة التي كان يقودها مينوتي بن غاريبالدي رفضت الانتظار واكتظت منطقة سابينة وإيالة فيتربه في الأسبوع الأول لشهر تشرين الأول بالجند، بينما كان مينوتي غاريبالدي في «باسو كوريزه» أقرب نقطة من روما وأخذ مئات المتطوعين بثياب رثة قد قتلهم الجوع وبللهم المطر يتحملون ما هم فيه بلا تذمر ويقاتلون بشجاعة، يذهبون إلى هنا وهناك من دون غاية مرسومة، يقودهم رؤساء لا خبرة لهم ولا يلقون من القرويين المنقادين لرهبانهم شيئا من العطف.
ولم يحاول حزب اليسار أن يوقف الحركة ولم يجرؤ رتازي على الاعتراض، حتى إن أهدأ المحافظين ارتئوا بأن الضرورة أخذت تقضي بالذهاب إلى روما للمحافظة على الأمن وإنقاذ المتطوعين الطليان من هزيمة يكبدها إياهم جنود البابا المرتزقة، فلم يبق لدى رتازي سوى اختيار أحد الأمرين: فإما أن يخلف وعده، أو أن يقمع القوميين، فاختار الأمر الأول، وكان الملك ذاته بعد أن رغب رغبة صادقة في الوفاء للميثاق؛ قد رأى أن شخصه وأسرته كانتا معرضتين للخطر إن هو لم يأخذ بهذا الرأي، وأدرك بأن كرامة الأمة إذا أهينت أيضا من قبل فرنسة فإن سمعة الملكية ستهوي بحيث يصبح انتشالها من وهدتها متعذرا، وقال رتازي: «هنالك ساعات لا تفكر الأمة فيها بالخطر بل تفكر في حقوقها.»
وقد وافق على حشد المتطوعين بصورة علنية ساعيا في الوقت نفسه بواسطة كريسبي في تثبيط همتهم، وقد قدم لهم الحرس القومي سلاحه، وكثيرا ما ساعدهم الجنود على اجتياز الحدود حينما كانت القطعات البابوية تطاردهم وأرسل رتازي إلى اللجنة القومية يلح عليها بأن تثور مهما كلف الأمر، وقد أرسل إليها المال والسلاح وربما بتحريض منه وقع اثنا عشر ألف روماني على استدعاء بطلب التدخل الإيطالي لصيانة الأمن؛ ولكي يحافظ على طابع الحركة الرومانية المفاجئة عمد إلى تشكيل لجيونا «فرقة رومانية» مؤلفا من اللاجئين الرومانيين.
وكان رتازي لا يزال يأمل أن يتجنب الاختلاف مع فرنسة، ويغلب على الظن أنه كان يوافق على احتلال مشترك إذا قضت الضرورة بذلك، بيد أنه في تلك اللحظة اعتزم أن يقاوم أي احتلال تقوم به فرنسة وحدها مهما كلفه الأمر، ولو أدت الحرب إلى الفشل فإن أقل ما في ذلك أن تعود إلى الملكية هيبتها وحرمتها وإلى توحيد الأمة، فجس نبض بروسية لمعرفة فيما إذا كان يوجد أمل في الحصول على مساعدتها، ويظهر أنه أوفد «بريم» إلى إسبانية للتحريض على ثورة عسكرية يلهي بها أنصار البابوية المتطرفين الإسبانيين، وكان الإمبراطور لا يزال يقف موقف الصديق ولا يرغب في أن يتورط مرة أخرى بإرسال قوة عسكرية إلى روما، وخشي أن يجر ذهاب القوات الإفرنسية إلى روما إلى الحرب مع إيطالية وربما مع بروسية أيضا، وأسهب الأحرار في وزراته في بيان محاذير التدخل، وأما رئيس وزرائه فأصر على أن يجري التدخل من قبل الدولتين إفرنسة وإسبانية معا.
وحينما أرسل رتازي سفيره في باريس إلى بياريج؛ حيث كان الإمبراطور في 4 تشرين الأول ليخبر الإمبراطور بالمحاذير التي قد تنجم عن ثورة جمهورية في روما تضطر الحكومة إلى التدخل، وقد عده الإمبراطور بأنه لن يتخذ أي تدابير من دون أن يستشير إيطالية وأخذ الكاثوليك يطالبون بالتدخل صاخبين، ومع أن البابا كان يعتبر الإمبراطور خائنا فقد كتب مذكرة بسابق وعده بالمساعدة حينما يهدده الخطر، وعلم الإمبراطور بمساعي رتازي للحصول على مساعدة بروسية فغضب وأرسل رسالة ينذر فيها الحكومة بالحركة فيما إذا هي لا تستطيع أن تحافظ على الحدود، فأجابه فيكتور عمانوئيل بشجاعة قائلا بأن إيطالية ستحتل فورا جزءا آخر من أراضي البابا إذا خرقت فرنسة أحكام الميثاق وأرسلت جندها إلى روما، ويظهر أن متانة الملك كانت قد أوهنت عزم الإمبراطور فلم يعقد النية على التدخل إلا بعد أن ضغطت عليه الوزارة ضغطا شديدا، فأرسل رسالة أخرى يقول فيها إذا لم يقمع رتازي حركة المتطوعين بشدة فإن فرنسة ستجبر إيطالية على احترام الميثاق، ولكن رتازي وأكثرية زملائه رفضوا الإذعان للقوة وشجعوا الطليان على احتلال روما مهما كلف الأمر، ثار الرومانيون أم لم يثوروا بيد أن رفض الملك لهذا الرأي أوقف الوزارة وصرح في اجتماع عقده مجلس الوزراء في 19 تشرين الأول بأنه يعارض في التدخل، ومع ذلك أبرق في اليوم نفسه إلى الإمبراطور يقول بأنه إذا أخرج الإفرنسيون قواتهم إلى جيفتا فيكيا فإنه؛ أي الملك، يجتاز الحدود حالا.
ويظهر أن الأمر باجتياز الحدود كان قد صدر ثم سحب بسرعة، فما كان في وسع رتازي إلا أن يقدم استقالته، وظهر غاريبالدي في فلورنسة في 22 تشرين الأول فجأة، وبينما كانت تسع بواخر حربية تحاصر جزيرة كاربيره استطاع أن يفلت منها على قارب صغير، ولما وصل إلى فلورنسة لم يكن في البلاد حكومة مسئولة؛ إذ كان جيالديني الذي كلف بتأليف الوزارة لا يزال يفتش عن زملاء يشتركون معه في الحكم، وكان جيالديني عازما على القتال فيما إذا خرج الإفرنسيون إلى جيفتا فيكيا إلا أنه كان لا يزال يرجو إمكان التفاهم، فسعى بواسطة كريسبي إلى إقناع غاريبالدي بأن يبقى في الخط الثاني ولما رفض غاريبالدي ذلك لم يجرؤ جيالديني على توقيفه، فذهب هذا إلى الحدود يتواطأ مع رتازي واجتاز الحدود في باسو كوريزه في اليوم التالي؛ أي في 23 تشرين الأول.
وكانت الثورة قد نشبت في روما في مساء اليوم الفائت، فهب الرومانيون من سباتهم وأخذ المتآمرون يدبرون الخطط بأناة ويستهدفون للأخطار، فقد كان ألف فتى ونيف يتشوقون إلى القتال، ويتمتعون بعطف كثيرين من الناس وكانت الطبقات الفقيرة في جانب القوميين، وكانت الحامية البابوية ضعيفة، قليلة الشجاعة، وكان فيها متواطئون مع المتآمرين يخبرونهم عن خطط حكومة البابا ولم يكن ينقص المتآمرين سوى السلاح، وقد فشلت عدة محاولات لتهريب السلاح إليهم، وما أمكن الحصول عليه عثرت عليه الشرطة.
وقد حدث أن استولى رجال من العصاة المسلحين بالمسدسات والقنابل اليدوية على أحد الأبواب، وتقدموا نحو الكابتول، إلا أنهم ردوا على أعقابهم قبل حلول الظلام تاركين الباب لأعدائهم، على أن الشعب رفع رأسه وتحرك وحدث قتال عنيف في «ترنس نيفيرة» ولكن تلك المحاولات كانت كلها مجهودات يائسة؛ إذ أحبطت الثورة أخيرا في روما.
وجعلت مجازفة غاريبالدي وثورة روما تدخل الإفرنسيين أمرا لا مناص به، وقد تملك أنصار البابا الذعر رغم انتصارها المهيمن وكانوا يشكون في مقدرتهم على مقاومة غاريبالدي مقاومة فعلية، ويعلمون أن مقاومتهم للجيش الإيطالي إذا تقدم لن تجدي غير سفك الدماء، وأخذ الكاثوليك الإفرنسيون يطالبون بالتدخل منذرين مرعدين ولكن الإمبراطور ظل نهبا للحيرة والتردد حتى قيل إن الأوامر التي أصدرت للأسطول في طولون بدلت ثلاث مرات في أربعة وعشرين ساعة، ثم أذعن أخيرا للضغط في 26 تشرين الأول وانطلق اثنان وعشرون ألف جندي في طولون نحو جيفتا فيكيا.
وقد عدل جيالديني عن تأليف الوزارة فألفها «مينه بريه» في 27 تشرين الأول من رجال اليمين وأقصى اليمين، وكانت عبارة عن وزارة إنقاذ مهمتها إنقاذ ما يمكن إنقاذه في هذه الأزمة المخيفة التي سادت إيطالية، وضاعف وجود غاريبالدي في المقدمة عزم لجنة العمل على الكفاح وجعل خروج القطعات الإفرنسية إلى جيفتا فيكيا الاصطدام على وشك الوقوع، وكان على الحكومة إذا قهر الإفرنسيون غاريبالدي إما أن تحمي انسحابه باشتباكها في الحرب مع فرنسة وإما أن تتركه يحتمل مخاطر الثورة ونتائجها، وكانت الصعوبات قد ازدادت لتعذر حشد قوة كافية وقد خفض ملاك الجيش بحيث تعذر حشد اثني عشر ألف جندي إلا بمشقة كبيرة.
وأصدر مينه بريه الرئيس الجديد بيانا ندد فيه المتطوعين قائلا فيه بأن على إيطالية أن تتمسك بتعهداتها وأن تتجنب حربا أخوية مع فرنسة، وحيث إن خروج القطعات الإفرنسية قد أيقظ روح السخط العنيف؛ فقد اعتبر بيان الحكومة ضد المتطوعين تواطؤا مع الإمبراطور فحدثت حوادث عنيفة خطيرة في ميلانو وفلورنسة وتورينو ذات صبغة شبه جمهورية، حتى إن المعتدلين أنفسهم أجابوا على بيان الوزارة بأن الحرب ضد فرنسة أقل أخوة من مقاتلة المتطوعين الطليان، ثم اضطرت الحكومة إلى أن تنجرف مع التيار شاءت أم أبت، وفي 30 تشرين الأول؛ أي في اليوم الذي دخل فيه الإفرنسيون روما اجتازت القطعات الإيطالية الحدود.
وأصبح الوضع موقوفا على الطالع الذي سيرافق غاريبالدي، ولما وصل غاريبالدي إلى الحدود في «تيريني» وجد الأمور مرتبكة وأن عزيمة المتطوعين قد وهنت ومعنوياتهم قد خفت بسبب الأخطاء التي ارتكبها قادتهم، وقد غامر بعضهم فحاول إدخال السلاح إلى روما ولكنه هوجم حين اقترب من المدينة ورد على أعقابه فانسحب، ومع أن المدن البابوية كانت قومية النزعة متحمسة للقضية؛ فإن القرى ظلت إلى جانب البابا ولم تساعد المتطوعين، وبعد أن حشد غاريبالدي سبعة آلاف رجل في باسوكويزة في سرعة عظيمة هاجم قصر «مونته روتوندو» القديم، وهو موضع منيع يبعد عن روما تسعة عشر كيلو مترا ونصف كيلو متر ويسيطر على طريق السكة الحديدية وكانت حامية القصر ثلاثمائة جندي، وقد استطاع غاريبالدي بعد عشر ساعات من القتال العنيف أن يحتل القصر فنشر احتلال القصر الذعر في روما، ولما كان الناس حينذاك لا يعلمون فيما إذا كان الإفرنسيون سيأتون فقد أسرع أنصار البابا إلى إخلاء البلاد من حدود المدينة، وبذلك مكنوا المتطوعين من احتلال فيتربه وفيلليتري ثم تقدم غاريبالدي نحو روما إلا أن الأمطار عاقت حركته وأنهكت رجاله، ومع ذلك فقد أوشك أن يصل إلى أسوار المدينة واتصل به خبر كاذب عن نشوب ثورة في المدينة فعزم على مهاجمة موضع الستار الحصين في مونته ماريو، ثم تبين كذب الخبر وأدرك خطورة موقفه، ولم يبق أمامه سوى حركة واحدة، وهي الرجوع إلى مونته روتونده وحشد باقي المتطوعين، وأحدث عزمه على الانسحاب تمردا بين المتطوعين وتضاعف التمرد بسبب ضعف الأمل في بلوغ الهدف والخوف من أن يصبحوا بين نارين بعد صدور بيان الملك، وربما فعلت دسائس الجمهوريين فعلها وبلغ فقد الانضباط بينهم أن فر منهم ألفان في يومين.
وأخيرا وصل الإفرنسيون وكانت الحكومة الإيطالية قد أوقفت في الحدود النجدات والذخيرة، وكان منع المتطوعين من الفرار أمرا صعبا فعزم غاريبالدي على السير نحو ميتفولي؛ حيث يجد فيها النجدات ويترقب سنوح الفرصة المناسبة مستندا إلى جبال الأبنيين حيث يستطيع أن يدبر حرب عصابات، على أن هذه الخطة خطرة؛ لأنها تعرض جانبه للعدو المتقدم، ولو أسرع غاريبالدي لوصل إلى متفولي سالما غير أن ضباطه لم ينفذوا التعليمات التي بلغهم إياها واستمع إلى آراء ابنه، فنشأ عن ذلك أن تأخر السير بضع ساعات، وأرسل إليه القوميون في روما تفاصيل خطة هجوم الإفرنسيين إلا أنه أبى أن يصدقهم، وهكذا وقع في الفخ في قرية «منتانة» الصغيرة وبوغت خمسة آلاف من المتطوعين في موقع غير ملائم ومن دون قادة فدافعوا دفاعا صحيحا أمام قوة تعادل قوتهم من جند البابا إلى أن لم صفوفهم غاريبالدي وقام بهجوم بالحراب، وبينما كان يكبد العدو خسارة وينزل به الضربات ظهر الإفرنسيون في الخط الثاني، وظل المتطوعون يقاتلون ببسالة ولكن قوة العدو أصبحت تفوق قوتهم بنسبة الضعف، وأخذت نيران بندقية الشاسبو تحصدهم فخسروا المعركة في الساعة الرابعة من عصر ذلك اليوم، وانسحب في اليوم نفسه معظم المتطوعين نحو الحدود.
لقد كانت منتانة ضربة أليمة لمعنويات إيطالية وقد رفعت منزلة البابوية ومست كرامة إيطالية وخلقت بذور الفتنة في الداخل والارتباك السياسي في الخارج، وساد البلاد في تلك اللحظة سخط شديد على فرنسة، وهتف الناس في ميلانو للحرب ضد فرنسة، وسارت في فيرونه مظاهرات صاخبة ضد الرهبان وتنادى بمقاطعة البضائع الإفرنسية، تلك هي بعض أعراض الحمى التي انتابت البلاد.
أما الحكومة فرأت أن السياسة الوحيدة الممكنة هي اجتناب الاصطدام مع فرنسة وعدم إعطاء أية حجة لبقاء الإفرنسيين، وعليه فإنها أبت أن تعترف بنتائج الاستفتاء من فيتربه وفيللتري؛ لأن فرنسة أنذرتها بأن الاعتراف بالاستفتاء سيؤدي إلى إشهار الحرب، وأسرعت فسحبت القطعات الإيطالية من أراضي البابا وألقت القبض على غاريبالدي وأرسلته إلى كاربيره وطالبت فرنسة بأن تتمسك بوعدها في سحب جندها.
وكان نصر منتانة قد أنعش آمال الكاثوليك وراح الإكليريكيون يطلبون من فرنسة في صرخات دواية بأن تسترد بولونيه وإنكونه، وأمل الإمبراطور أن يتملص من كل تبعاته بدعوة الدول المعظمة إلى مؤتمر يكون الحكم بين روما وإيطالية، ولكن الدول كلها لم تقبل هذه المهمة المكروهة ما عدا إسبانية واغتبطت بروسية بهذا الارتباك واعتبرته ضمانا لسلامتها، أما إيطالية فبذلت جهدها لإحباط المؤتمر، وبينما كانت المفاوضات تطول كان المجلس النيابي الإفرنسي يتذاكر حول الحملة الأخيرة، فرأى تيرس المجال واسعا لإظهار سخطه على إيطالية وخشي رئيس الوزراء سوء العاقبة فأسرع إلى القول: «بأن فرنسة لن تساعد إيطالية على أخذها روما.» وحصل رئيس الوزراء على ثقة المجلس بعد ذلك إلا أنه ساعد على حفر هوة بين إيطالية وفرنسة، هوة ستكلف فرنسة دموعا وبكاء ولم يجرؤ الإمبراطور على إغضاب الكاثوليك بالتنصل من حمايته للبابا، وإذا كانت قطعاته قد تركت روما قبل نهاية السنة إلا أنها لم تنسحب من جيفتا فيكيا.
الفصل الحادي والأربعون
نحو روما
كانون الأول 1868-1871
حين جرى في المجلس النيابي الإيطالي في 22 كانون الأول اقتراع على الاقتراح بتأييد حقوق إيطالية في روما واستنكار معركة منتانة وعدها عملا لا ينطبق على الحقوق الدولية؛ رفض الاقتراح بأكثرية صوتين، فاضطر مينا بريه إلى الاستقالة، ثم أعاد تأليف الوزارة، على الرغم من إخراجه الأعضاء المتشددين في رجعيتهم فإن الوزارة ظلت من أشد الوزارات المحافظة التي شهدتها المملكة.
لقد كان مينا بريه من أهل صافويه، وكان وطنيا ينتمي سنة 1848 إلى الأحرار المتحمسين، ولكنه أصبح بعد أن انسلخت الإيالة من المحافظين في السياسة الداخلية حتى كاد أن يكون رجعيا، والتف حوله الباقون من حزب اليمين السابق ممن كانوا يدعون للتفاهم مع البابوية ولا يرغبون في الذهاب إلى روما فيما إذا أمكن اجتناب ذلك وكانوا يحذرون من المؤسسات الحرة ويخشون الفكرة الدموقراطية.
ويؤيد هؤلاء قسم من حزب الكنسورتيرية الذي اشتهر بعدائه للأفكار الحرة اشتهاره بمقته لبيمونته، كما كان يؤيده بعض حديثي القول بالفكرة القومية من أنصار الأسرات المالكة الساقطة الذين فقدوا كل أمل في عودة الحكم السابق ولكنهم ظلوا يتمسكون بروح الحكومات الغابرة.
حقا لقد أحدثت منتانة حركة ارتجاعية ضد الحرية، حتى إن الصحافة المعتدلة أخذت تطالب بتعديل الدستور، ودل اضطهاد مينا بريه للأحرار وحوادث العنف وتفتيش الشرطة للبيوت والناس وإرهاق الصحافة؛ على التخلي عن السياسة الحرة، فاستولى القادة العسكريون على معظم السلطة الإجرائية وبدل الحكام بغيرهم، وصودرت الأوراق وحلت الجمعيات الدمقراطية ، ولم يسمح لجمعية الإكليروس الحرة في نابولي بأن تعقد الاجتماعات، وكان فرعا اليسار وحلفاؤهم في المركز أشد خصوم الوزارة، واقترع الحزب الدائم ضد مينا بريه في شهر كانون الأول، وعلى الرغم من مساعي منجيني فإن هذا الحزب رفض أن يعاضد وزارة أخذت بسياسة ضعيفة تجاه روما ولم يكن لانزا أو سيللا ولامارمورا يرتاحون إليها، ومع أن أغلبية النواب كانوا على اتفاق في الحذر من الحكومة والشك في سياستها فإن الناس كانوا يحارون فيمن يستطيع أن يخلفها، وقد علم توالي الأزمات في البرلمان الروية والرصانة، ففضل أن يتسامح مع مينا بريه بدلا من إحداث تبديل وزاري أو الانحراف في تيار انتخاب مجهول العاقبة، وحدث أن عرض على المجلس مشروع انحصار التبغ فقبله على الرغم من إسهاب لانزا في شرح مضراته، وشاعت روايات عن مساعدة بعض الوزراء والنواب في هذا المشروع، فهاج الرأي العام واتهم أحد نواب اليسار بعض أعضاء الوزارة في إحدى جلسات المجلس النيابي.
ثم حدث بعد عشرة أيام من هذا الاتهام أن جرح النائب المذكور بضربة خنجر في أحد شوارع فلورنسة مما أدى إلى فضيحة حملت الوزارة على الاستقالة، واستمرت الأزمة الوزارية نحو الشهر ثم حمل المجلس الملك على دعوة لانزا لتأليف الوزارة فألفها في 14 كانون الأول، وكان سللا و«فيسكونتي فنستة» من الأعضاء البارزين فيها.
وقد تسلم سللا وزارة المالية بعد أن حصل على عهد بتمكينه من تطبيق سياسة اقتصادية معينة، وكان يأمل أن يقتصد 23 مليون ليرة من نفقات الجيش والأسطول، وكان الرأي العام يسنده ولا سيما لأن البلاد منذ معركتي كوستوزه وليسا سلبت ثقتها من الجيش والأسطول، وحاول جيالديني وبيكس عبثا أن يبرهنا على الخطر الذي يحيق بالبلاد فيما إذا بقيت محرومة من وسائط الدفاع، بينما كانت تنذر الحوادث بقرب وقوع الحرب في أوروبا، وعبثا سعى الملك ليحافظ على قوة الجيش ليستطيع الأخذ بسياسة فيها احترام وجراءة وقال جيالديني: «إنكم تخافون من الموت جوعا أما أنا فأخاف من أن أخنق.» بيد أن الأكثرية كانت تشارك الوزير خوفه من الإفلاس، ومع أن سللا لم يوفق في توفير أكثر من خمسة عشر مليونا من الليرات فإنه استطاع أن يؤمن بعض التوازن في مالية إيطالية.
وواجه لانزا خارج البرلمان استياء جديدا من ضعف الحكومة والبرلمان، وقد أصبح اهتمام الناس بتأمين أقوات معيشتهم يفوق اهتمامهم بالحركة السياسية؛ إذ ارتفع سعر الخبز بسبب تداول الأوراق النقدية وانتشرت الهيضة فولدت شعورا ثوريا من اليأس والقنوط، وقد فتك الشعب بكثير من الناس في المدن ظانا بأنهم سمموا غذاءه مقتنعا بأن المرض إنما نشأ عن إفساد المواد الغذائية، وراح الأجراء الجياع والعمال القانطون في الشمال والجنوب ينشدون النجدة خارج البرلمان وحدثت ثورات ضد ضريبة الطحن، حتى إن القرويين الوادعين في بيمونته اتفقوا فيما بينهم على أن لا يدفعوا الضريبة.
وعاد مازيني إلى بث آرائه الجمهورية وأخذ يعلن للملأ بأن سبب جميع المصائب التي أحاقت بإيطالية تندمج في العرش، وأخذ كثيرون من المستائين الذين قد ترددوا سنة 1866 في قطع صلاتهم مع الملك؛ يقولون بالجمهورية، وتسربت الآراء الجمهورية في صفوف الجيش الدنيا ولا سيما بين ضباط الصف، وأخذ بعض نواب اليسار يشجعون هذه الآراء وانضم نيكيتره سنة 1869 ومعظم نواب أقصى اليسار إلى حزب الاتحاد الجمهوري الذي أسسه مازيني، وبرأت هيئات المحلفين العدول ساحة الجرائد الجمهورية حين قدمت للمحاكمة، وأخذت الصحافة تهزأ بالملك والأمراء وأخذ المتطوعون يتدربون في الخفاء.
وفي سنتي 1868-1869 نفذ صبر مازيني؛ لأنه لم يتيسر له تدبير ثورة، ووقعت في ربيع سنة 1870 ثورات صغيرة في مختلف المراكز ولا سيما في أميلية، ولكنها لم تبلغ درجة الجد والخطورة إلا بتواطؤ الحاميات علنا، وأعلنت عصابة غاريبالدي مؤلفة من 300 رجل الجمهورية في ماتيدة في كلبريه وذلك في شهر أيار وبدأ فتيان غاريبالدي ينضمون إليها، بيد أن هذه الثورة أخفقت كما أخفقت ثورة في الشمال، فوجه مازيني أنظاره نحو صقلية؛ حيث عزم على أن يستخدم السلاح الذي مده به بيسمارك ضد مواطنيه، فكان هذا العمل آخر مرحلة لسقوط مازيني، وبه انتقل من وطني أمين إلى متآمر ضد بلاده، ولما وصل إلى باليرمو متنكرا قبض عليه بأمر الحكومة وسجن في جايته في آب سنة 1870.
على أن هذه الارتباكات الداخلية وعواقبها في هذه اللحظة لم تكن أشد خطورة مما بين الكنيسة والدولة، فقد أعاد الانتصار إلى البابا كثيرا من نفوذه بعد أن استطاعت حكومته قمع الثورة في المدينة حين أخذت تؤكد بأنها قد تغلبت على غاريبالدي قبل وصول الإفرنسيين إلى مينتانة، وجاهرت النسمة في عهد «بويست» رئيس الوزراء البروتستاني بخصومتها للبابا فخرقت الاتفاقية المقدسة وقررت مشروعية النكاح الذي يعقد بين أزواج ذوي مذاهب مختلفة، أما بيسمارك فقد كان يتملق للبابوية لكسب جانب الكاثوليك في جنوب ألمانية، وقد استولى القنوط على إيطالية وأصبح رجال الدولة من أحزاب اليمين وحزب اليسار - وكانوا يستطيعون أن يساعدوا كثيرا على العودة إلى الميثاق - لا يجرءون على قطع الحبل مع فرنسة، وكان لانزا ولامارمورا ومينا بريه ورتازي؛ متفقي الرأي على التخلي عن كل أمل في الحصول على روما، أما القوميون الخلص فأخذوا يعتزلون الحياة العامة شيئا فشيئا.
ومع أن وزارة مينا بريه كانت قد أصدرت قانونا بضغط المجلس النيابي يقضي بجعل رجال الكهنوت خاضعين للتجنيد فإنها ساعدت الأساقفة الجدد على اضطهاد الإكليروس الحر، ومع ذلك فإن القنوط الذي استحوذ على النفوس كان مؤقتا فالجميع يعلمون بأن يد فرنسة هي التي أنقذت السلطة الزمنية من السقوط، فمتى سحبت فرنسة يدها وبدلت موقفها راضية أو مضطرة فإن روما ستلحق بإيطالية لا محالة.
غير أن روما البابوية ظلت متمسكة بسياستها المزدرية ولكي تؤيد سلطانها التجأت إلى المجمع المسكوني المؤلف من أساقفة الكنيسة الكاثوليكية، حملته على الاجتماع في روما وأخذ البحث يجري في عصمة البابا، ثم صدر مرسوم أطلق يد البابا في جميع الشئون الخاصة بنظام الكنيسة وحكومتها فأفزع هذا المرسوم السلطات المدنية؛ لأنه سلح كنيسة روما بسلاح هجومي مخيف.
وقد احتج الفاليكان العلمانيون في فرنسة والكاثوليك الأحرار في مدرسة مونتالمبرت منددين باستبداد روما الجديد، وشن دوللينجر وأنصاره في ألمانية الهجوم على الأحكام الواردة في المرسوم المذكور، أما في إيطالية فإن الرهبان الأحرار والعلمانيين قد نظروا إلى هذه المناورة الجديدة التي قام بها أنصار السلطة الزمنية بعين القلق والجزع، وشاركت بعض الحكومات قلق العلمانيين في أوروبا فاحتجت بروسية وأنذر بويست رئيس وزارة النمسة فيما إذا أيد المجمع ذلك المرسوم بأنه يمنع نشر السيللابوس، وطلبت حكومة بافاربه إلى الحكومات الأخرى اتخاذ التدابير المشتركة للقضاء على المجمع وشجعت الحكومة الفرنسية الأساقفة على معارضة هذه القرارات الجديدة، ووقف مائة وخمسون أسقفا بزعامة دوبا نلوب وداربوي وشتروسماير في صف المعارضة لهذا الهجوم، وكان هؤلاء من الأساقفة البارزين في عالمهم وخطورة أسقفياتهم وكانوا يمثلون باريس وميلانو وتورينو وقسما كبيرا من ألمانية الكاثوليكية، إلا أنهم أصبحوا عاجزين تجاه جمهرة الأساقفة من ذوي الألقاب والأساقفة الدنيا، وبعد اجتماع المجمع بسبعة أشهر انتصر أنصار السلطة الزمنية المتطرفين وأعلنوا في روما عصمة البابا، وقد جاء هذا عقيب إعلان الحرب بين فرنسة وألمانية في يوم 20 تموز 1870، فالمجمع المسكوني - والحالة هذه - يجب أن يعتبر من الأسباب التي قضت على السلطة الزمنية بدلا من دعمها؛ لأنه حمل جميع حكومات أوروبا على الحذر والارتياب بنزعة السلطة الزمنية المتطرفة، ولم تجد البابوية في المستقبل حماسة تسوق الناس للدفاع عنها.
لقد اتضح بعد سنة 1866 أن الحرب بين فرنسة وبروسية واقعة لا محالة، فقد نشرت المعاهدات بين بروسية والدول الألمانية الجنوبية في ربيع سنة 1867، وهذه كانت كفيلة لحث فرنسة على النزول إلى الميدان وإلقاء القفاز إيذانا بالنزول للبراز، كانت قضية لوكسمبورج قد جعلت البلد على قاب قوسين من الحرب في آذار سنة 1867، غير أن فرنسة ما كانت تستطيع أن تخوض حربا عظيمة دون أن يكون لها حليف، وكانت النمسة وإيطالية صديقتيها الطبيعيتين، أما النمسة فلأنها تريد أن تنتقم من بروسية وأما إيطالية فلمراعاتها جانب فرنسة، وكلاهما لأنهما تنشدان حربا تعيد سمعتهما اللتين أضاعتاهما سنة 1866.
ويظهر أن مفاوضات جرت بين فينا وفلورنسة منذ سنة 1865 ثم استؤنفت في صيف سنة 1868 بمكاتبات سرية بين الإمبراطور فرنسو جوزيف والملك فيكتور عمانوئيل ولم يطلع الملك حكومته عليها مدة من الزمن، وقد ظاهر الملك مشروع الحلف الثلاثي بحرارة وكان يتوق إلى غسل عار كوستوزه والانتقام لصولفرينو، بيد أنه لم يكن في إيطالية سوى رجال قلائل يشاركون الملك حسن ظنه بفرنسة وانعطافه لها، ولربما كان الرأي العام يرحب بمحالفة النمسة؛ لأنه لم يبق بعد أن تخلت عن فنيسيه ما يعكر العلاقات بينها وبين إيطالية سوى قضيتي التيرول وإيسترية الثانويتين، وقد أدرك الجانبان بأنهما أصبحا حليفين طبيعيين يحملان نفس الآراء المشتركة ويناضلان ضد نزعة السلطة الزمنية المتطرفة، أما محالفة فرنسة فإنها لا ريب غير محببة لدى الشعب.
ولما وصل ولي العهد البروسي إلى فلورنسة سنة 1868 قوبل بحفاوة بالغة مما دل على ميل الشعب الإيطالي إلى أي جانب، وكان رجال الاقتصاد يحذرون الناس من الحرب وعواقبها وينذرون بالإفلاس الذي يؤدي إليه، ولم يكن لفرنسة أصدقاء سوى حزب البلاط أو الحزب العسكري والمحافظين المتطرفين، ولما عرض الملك مشاريعه على مينا بريه وبعض زملائه كانوا راغبين في الأخذ بسياسة الحلف الإفرنسي النمسوي إلا أنهم كانوا موقنين بأن ذلك يجعلهم بمعزل عن الأمة، فلم يكن أمامهم لاستمالة الرأي العام الإيطالي إلى الرضا عن هذا الحلف سوى وضع شروط ثقيلة على فرنسة والنمسة وإيغار ظهرهما بكثير من المطاليب، مثال ذلك جعل عودة فرنسة إلى ميثاق شهر أيلول والجلاء عن جيفتا فيكيا شرطين أساسيين، والاشتراط بأن تتواطأ الدول الثلاثة على اختيار مرشح يخلف البابا في حالة موته وأن تتخلى النمسة عن التيرول وأن يسمح لإيطالية بأن تقيم لها قاعدة بحرية على شاطئ تونس، وكان بويست على استعداد للموافقة على جميع طلبات إيطالية، فطالب بشدة بأن يسمح لإيطالية بأن تحتل الأراضي البابوية ورضي بتصحيح حدود تيرول وربما حدود الألب الشرقية أيضا.
إلا أن المفاوضات فشلت؛ لأن فرنسة رفضت التخلي عن البابا رفضا باتا، وكان بيسمارك قد جر الإمبراطور نابليون للوقوع في الفخ وفرح للحماقة التي ارتكبتها فرنسة بإصابتها إيطالية بجرح فاغر حال دون كل اتفاق، وقد طلب مازيني منه مالا وسلاحا لمهاجمة روما ، وفاوضه بيسمارك إلا أنه كان حريصا على ألا يتعهد بشيء من قبيل الحرب، وكانت الدسائس قد أصابت المرمى وقوت عزم الإفرنسيين على عدم الجلاء ولكن يظهر أنهم رضوا بأن تصحح إيطالية حدودها فتعيد جزءا من إيالة نيس، بيد أنهم أبوا أن يتخلوا عن جيفتا فكيا وأن يسمحوا لإيطالية بالذهاب إلى روما.
ثم نجحت المعارضة في فرنسة في انتخابات سنة 1869 نجاحا باهرا، وأقنع إميل أوليفيه نابليون بأنه لا سبيل للاحتفاظ بعرشه إلا إذا هو فسح المجال للأحرار، ويتلخص منهج الإمبراطورية الحرة بالعبارة الآتية: «الحرية في الداخل والسلم في الخارج.»
ورأى أوليفيه أن وقت الوقوف أمام توسع بروسية قد فات فلا تجدي محاربتها، وقد تنفست أوروبا الصعداء من جديد، إلا أن قضية جديدة ظهرت بغتة على المسرح السياسي وتلك هي قضية الاستخلاف على العرش الإسباني، وهذه قربت وقوع الحرب وقد عزمت الحكومة الإفرنسية في 14 تموز على القتال لسببها، وكان ذلك قبل أن تطلب فرنسة من النمسة وإيطالية محالفتها بأربعة أيام، ولبى بويست وفيكتور عمانوئيل ذلك الطلب بشوق؛ إذ كان فيكتور يعتقد بانتصار الجيوش الإفرنسية السريع ويأمل أن يؤدي الحلف المذكور إلى ظفر الطليان بروما، وقد يمد في حدود إيطالية نحو نيس أو التيرول، بيد أن الوزارة التي وعدت بالاقتصاد ترددت كثيرا في جر البلاد إلى الحرب، فلانزا كان يميل إلى جانب فرنسة أما سيللا فكان يميل إلى جانب بروسية وكلاهما يعارض الحلف، وكان سيللا يرى بأن انتصار فرنسة يعني نجاح الأحكام التي وردت في مرسوم البابوية والسيللا بوسي وهدمه المبادئ الحرة وتجديد عقد البابوية بممارسة السلطة الزمنية مدة غير معينة، ولكن هناك فئة من الوزارة رأت رأي الملك، وأخيرا تفاهم الفريقان على تلبية طلب فرنسة بشرط أن تعترف فرنسة بحق إيطالية في روما.
ولعل فرنسة كانت تستطيع في تلك اللحظة أن تشتري حلف إيطالية بالرجوع إلى ميثاق أيلول، إلا أن أوليفيه لم يجرؤ على إغاظة الكاثوليك والحرب على الأبواب، وعبثا حاول بويست أن يقنع فرنسة بأن ذهاب الحكومة الإيطالية إلى روما خير من ذهاب الغاريبالديين إليها، وأبى أوليفيه أن يعد بالرجوع إلى الميثاق أو بالجلاء إلا في 23 تموز، إلا أنه كان يمتنع عن الموافقة على دخول الطليان في روما، فساعد التلكؤ والتأخر أنصار الرفض في وزارة لانزا على استحالة فريق المسالمين الذين قرروا هم أيضا رفض التحالف مع فرنسة، وقد ظاهرتهم في اتجاههم الآراء المعادية للإفرنسيين التي انتشرت في البلاد، وجرت في فلورنسة وميلانو وتورينو مظاهرات ضد الحلف، وطلب حزب اليسار من الحكومة وعدا برفض التحالف إلا أنه لم ينجح، أما الدعوة إلى الحرب التي وجهها جيالديني للمجلس فلم تلق قليلا من التأييد، أما في النمسة فقد أظهر الأهلون من الهنغاريين والألمان تمسكهم الشديد بسياسة الحياد وأسفر الأمر عن تراجع فرنسو جوزيف عن الانغمار في حرب ثالثة مخربة، أما روسية فأنذرت بالتدخل فيما إذا تحركت النمسة فنشطت المفاوضات بتحريض بويست لتأسيس حياد مسلح بين النمسة وإيطالية لمصلحة فرنسة.
على الرغم من معارضة سيللا فإن الحكومة الإيطالية وافقت على الحلف المذكور مشترطة أن ترضى فرنسة باحتلال إيطالية لروما، وأوفد الملك فيكتور رسولا إلى الإمبراطور في مدينة «متز» في 3 آب فوجد نابليون يشارك وزراءه ويرفض منح أي امتياز لإيطالية، وكانت الإمبراطورة تقول: «إن وجود البروسيين في باريس خير من وجود البيمونتيين في روما.» وكان الإفرنسيون قانعين بالنصر العاجل إلا أنه سرعان ما خابت الآمال؛ لأن الجنرال مكماهون انكسر بعد ثلاثة أيام في «ورط» أمام زحف البروسيين، فاستيقظت الحكومة الإفرنسية أخيرا بعد أن جبهتها الحقيقة وتضرعت إلى إيطالية بأن ترسل 50000 من جندها عن طريق «مونت سنس»، وهنا بذل فريق التحالف مع فرنسة جهدا آخر، وكادت الوزارة أن تعلن الحرب لو لم تصل إليها رسالة نيجرا في 8 آب تنبئ بأن الجمهوريين في فرنسة أخذوا يتحفزون وأن الإمبراطورية في طريق الانهيار.
وفي 18 آب أظهرت هزيمة «جرافلوط» فداحة الكارثة وقد بدا للإمبراطور الآن أن سلامة فرنسة وعرشه في خطر، فصار مستعدا لأن يضحي بالسلطة الزمنية على الرغم من معارضة الإكليريكيين وربما معارضة وزرائه أيضا، فأوفد الأمير نابليون إلى فلورنسة في 20 آب ليقول للطليان بأنه يستطيع أن يطلق يدهم في روما على أن يرسلوا جيشهم لنجدته، ولكن الملك نفسه رأى أن الإفرنسيين سيخسرون الحرب لا محالة، وهكذا تسلسلت الحوادث وارتبطت حادثة منتانة بهزيمة الإفرنسيين المنكرة في سيدان، التي خسر فيها نابليون الثالث عرشه ووقع أسيرا بيد البروسيين.
ورأت إيطالية في هذه المعمعة فرصة سانحة لتحقيق الوحدة وكان فيكونتي فنوستة قد وعد رسميا برعاية إيطالية للميثاق، كما أن الملك تعهد بذلك للإمبراطور أيضا ولكن الرغبة في إخراج الإفرنسيين من إيطالية قد اشتدت في البلاد وبلغت حدا لم يفكر أحد معه في الوفاء بالعهد ومراعاة الشرف، وكان بعض الوزراء يعتبرون حرب فرنسة في ساعة محنتها خيانة، بينما كان آخرون مثل سيللا عازمين على فسخ الميثاق حالما تنهار الإمبراطورية، وقد أدت الظروف في فرنسة إلى أن يترك آخر جندي جيفتا فيكيا في 19 آب، واقترح حزب اليسار في اليوم التالي على المجلس تقرير إلغاء الميثاق ولكنه فشل، غير أن المظاهرات التي تلت تقديم الاقتراح أثبتت بأن البلاد كانت تغلي وأنها في جانب اليساريين، وأنذر حزب اليسار بالانسحاب من المجلس كتلة واحدة وإثارة البلاد فيما إذا لم يلغ الميثاق، ولم ينقذ الموقف إلا تهديد سيللا الوزارة بالاستقالة منها فيما إذا هي لم تقرر الزحف على روما.
وأخيرا أسرعت الوزارة إلى قبول آراء حزب اليسار وعزم لانزا كما عزم سيللا على الاستيلاء على روما، إلا أنه كان يريد أن يوصي للعالم الكاثوليكي بالثقة فيه؛ ليظهر أمامه في مظهر المحامي للبابا، وليقنعه بأن البابا يستطيع أن يبقى في الفاتيكان في حرية وأمان.
من أجل هذه الغاية حاصر غاريبالدي في كاربيره وقبض على مازيني واتخذ تدابير جدية لمنع أية حركة متجهة نحو الحدود وليحبط كل ثورة تقوم في الإيالات الرومانية، وفي 22 آب قررت الوزارة احتلال روما حالما تعلن الجمهورية في فرنسة، وحجتها في ذلك أن الميثاق إنما عقد مع شخص الإمبراطور وليس مع فرنسة، وهناك قضية أخرى أمام الوزارة وهي البت فيما إذا كانت روما ستصبح العاصمة ، وكان لانزا يأمل بأنه سيستطيع بالروية والصبر الحصول على موافقة البابا، وكان بين الكرادلة فريق مسالم وكان الخوف من نشوب ثورة شعبية قد جعل هذا الفريق يستقبل الجند الطلياني كمحررين.
وانتظر لانزا ريثما ينجلي الرأي العام فيطلب إليه بأن تصبح إيطالية الحامية للبابوية الأمر الذي لا يسعه إلا أن يوافق عليه، وبينما كان في تردده وردت إلى فلورنسة في 3 أيلول أخبار الاستسلام الإفرنسي في سيدان، فأنذر حزب اليسار أيضا بالاستقالة وربما استشف لانزا حركة جمهورية إذا لم تعتزم الوزارة الذهاب إلى روما، ولكن الوزارة ظلت في ترددها حتى انقضاء يومين حينما علمت أن الجمهورية قد أعلنت في باريس، وحينئذ أوفدت سان مارتينو إلى روما ليطمئن البابا وليحصل على موافقته إذا أمكن على دخول القطعات الإيطالية بصورة سلمية إلى روما.
وفي 7 أيلول بلغ فكيسنتي فنوسية وزير الخارجية الدول بأن حكومته لن تحتل إلا بعض الأماكن من أراضي البابا وأنها ستترك الرومانيين أحرارا في البت في مصيرهم، ويظهر بأن فيسكونتي ولانزا كانا ينويان النظر في تعيين وضع البابوية في طلب مؤتمر تشترك فيه الدول الكاثوليكية، وقد تجلى عزم الوزارة على احتلال المدينة حين انجلى موقف أوروبا أيضا.
أما جول فافر الوزير الإفرنسي فمع أنه يرفض باسم الجمهورية الإفرنسية أن يعتبر بأن الميثاق ملغى إلا أنه عده غير مشروع وعده مثلا سيئا، أما بيسمارك فوافق على خطط الطليان وأما إنجلترة فلم تبد أي اعتراض، وأما النمسة فبعد أن طمأنتها الحكومة الإيطالية بمشروع الضمانات التي تعطى للبابا رضيت مختارة.
وفي 10 أيلول قررت الحكومة أن تجتاز القطعات الحدود في اليوم التالي، وكانت قد حشدت خمسين ألفا بعد جهد ومشقة، وكان لانزا يأمل بأن يستطيع هذا العدد المتفوق إحباط أية مقاومة دون سفك الدماء، وقد سلكت أرتال الجنرال كادرونا الطريق الطويل الشاق ليعطي بهذا التأخير أنصار البابا الوقت الكافي للتفكير وترك كل محاولة للمقاومة.
وقد احتلت هذه القطعات فيتربة وجيفتا استلانا في 12 أيلول بلا قتال واستسلمت جيفتا فيكيا للجنرال بيكسيو من دون إطلاق نار المدافع، ولم يقرب كادرونا أسوار روما إلا في 17 أيلول ولم تنجح خطة لانزا السوقية، وعاد سان مارتينو يحمل رفض أنتونللي البات للمفاوضات وقرر البابا المقاومة جهد استطاعته والشروع بالمفاوضة حالما تفتح ثغرة في أسوار المدينة.
وأخيرا هاجم كادرونا المدينة في 30 أيلول وبعد قصف المدفعية إياها بضع ساعات دخل الطليان في ثغرة بالقرب من «بورتابيا» وقوبلوا بعاصفة من التصفيق الحاد من قبل الشعب المحرر، لقد رمى ببصره نحو روما منذ أربعين سنة طلب كافور اتخاذها عاصمة لإيطالية منذ عشرة سنوات، وها هي اليوم تفتح وتحقق الأحلام وتظفر إيطالية بعاصمتها الطبيعية إلا أنه لما يعقد أي سلم ديني في الكابتيول.
فأصبح هم لانزا الشاغل إقناع البابوية بعقد السلم وأخذ يتجنب - في حذر - التوغل في بلدة ليونين قبل أن يلتمس منه البابا إرسال جنود لصيانة سلامته، وقد أصر على أن يشمل صيغة الاستفتاء بشأن الوحدة الاقتراع على بقاء سلطة البابا الروحية أيضا، ودفع بناء على طلب أنتونللي خمسين ألف سكودي باعتبارها الإعانة الشهرية الأولى التي وعدت بها الحكومة بدفعها، قد شاركته الوزارة بأجمعها رأيه للبرهنة لأوروبا على أنه لن يلجأ إلى الشدة حين احتلال روما وأن سلطة البابا الروحية سوف تصان كما كانت تصان من قبل رايته الخاصة، على أن لانزا لو سلك سياسة أجرأ لأصاب كثيرا وإنما اختار سياسة الاعتدال فكان لا بد له من احتمال عاقبتها؛ إذ ما أسرع ما تأكد بأن أي اقتراح في التفاهم لم يلاق آذانا صاغية من الفاتيكان.
وقد عزم البابا على الرغم من ضغط اليسوعيين البقاء في روما فأيد أنتونللي هذا العزم بشدة، وقدمت له الحكومة الإنجليزية وربما حكومات أخرى ملجأ وقتيا إلا أن هذه الدعوات كانت باردة، فكان النزاع مع الطليان أمرا لا بد منه، وأثار استياء الحكومة على قصر الكردينال العائد إلى البابا سخط الكاثوليك، وامتنع البابا من استلام إعانة الحكومة بعد ذلك وشهر سلاح الحرمان الأعظم في وجه كل من اشترك في حركة قلب السلطة الزمنية، وكانت نتيجة الاستفتاء العام الذي جرى في 20 تشرين الأول أن نالت الوحدة 133000 صوت ضد 1500 صوت من 167000 مقترح مسجل، فدل هذا على مقدار تعلق الرومانيين بالوحدة، أما الصيانة التي كانت الحكومة تنوي أن تمنحها لمدينة ليونين عن طيبة خاطر فيما إذا رحب البابا بالفاتحين؛ فقد قضي عليها باحتلال تلك المدينة في 21 أيلول بعد أن رفض أنتونللي المفاوضات محاولا جعلها عشا للمجرمين والثوريين، ثم قررت الوزارة بعد ذلك نقل قاعدة الحكومة إلى روما.
بقي الآن تقديم قانون الضمانات الذي ينظم العلاقات بين الكنيسة والدولة، ويمنح البابا الحرية الروحية الموعودة، وكان البرلمان قبل ثلاثة سنوات قد رفض مشروع ريكاسولي بشأن الكنيسة الحرة، وبينما كان البعض لا ينشد من تحبيذ قانون الضمانات الحديثة سوى الأهداف السياسية وهي: تبرئة إيطالية في أنظار أوروبا الكاثوليكية وإخراج البابا من موقف الخصومة وفسح المجال للمهادنة بين الكنيسة والدولة؛ كان ريكاسولي وحزبه يحرصان قبل كل شيء على معرفة إذا كان التنظيم الجديد سيأتي بثمرات روحية طيبة إن كانوا يستهدفون إحياء الكنيسة وتضميد الجروح التي فرقت بين الكنيسة والوطنية، ومنح الكاثوليكية حياة جديدة ومنح الناس الروح الدينية.
بيد أنه كان من الصعب التوفيق التام بين غايات المصلحين وأهداف رجال السياسة، وأخيرا استحال مشروع الكنيسة الحرة بشكله الضيق أغلبية الأحرار كحل للاختلافات بين إيطالية والبابوية، وأصبح أولئك الذين يخشون سلطة الكنيسة المحررة على استعداد لقبول المشروع باعتباره الوسيلة الوحيدة لإرضاء الرأي العام الكاثوليكي ولفسح المجال لأن يعيش الملك والبابا في روما جنبا إلى جنب بسلام.
ولم يكن سيللا وكثيرون من أنصاره يرغبون في منح الكنيسة أكثر من حرية محدودة ويريدون أن تحتفظ الدولة بحق الدفاع تجاه الخصومة الإكليريكية حتى كاد المشروع أن يخفق في المجلس النيابي لولا تدخل الوزارة، وقد كفل قانون الضمانات للبابا حقوق السيادة وامتيازاتها وصرح بأن شخصه مصون، وعاقب من يتعرض له بعقوبة التعرض للملك، وضمن له حرية التصرف في قصر الفاتيكان وقصر لاتران ودفع مبلغ سنوي جسيم، واعتبر قصوره والمحلات التي ينعقد فيها مجمع الكرادلة والمجمع العام من الأماكن التي لا يشملها تشريع الدولة، كما أنه منح للبابا تسهيلات خاصة بالبريد والبرق؛ ليستطيع الاتصال بالعالم الكاثوليكي بحرية تامة، وكان موقف المجلس تجاه هذه المواد صريحا حين ناقش الصعوبات التي تنجم عنها، وذلك حين المذاكرة في القسم الثاني من القانون الذي يحدد الحريات الجديدة للكنيسة في إيطالية.
وقد جاء في هذا القسم أن الدولة تضمن للبابا حرية مطلقة في ممارسة رسالته الروحية وفي مخابراته مع أساقفته، وتتخلى عن حقها في تعيين الأساقفة وتصرف النظر عن يمين الإخلاص وبراءة التعيين، وقد دلت النتيجة على مبلغ الحكومة في الاحتياطات التي اقترحها سللا وحزبه؛ لأن التوزيع بمقتضى النموذج الجديد لواردات الإكليروس لم يتم أبدا ولو تم لاقتضى أن تنتهي واجبات الإكليروس.
وقد فسرت تلك الأحكام من قبل المحاكم بأن الحكومة احتفظت بسلطة واسعة للإشراف على الإكليروس، فكل كهنوتي لا يؤدي واجباته بموجب ما يتطلب منه القانون الديني أو يسيء استعمال تلك الواجبات في الانتخابات؛ فإنه يتعرض للحرمان من مخصصاته، حقا لقد وضع قانون الضمانات بحيطة كبيرة إلا أنه وضع بحسن نية تامة، ولو رغب الفاتيكان في السلم لروعي نصا وروحا.
مر القانون بالبرلمان في 21 آذار سنة 1871 ولكن لم يكد ينقضي شهران حتى امتنع البابا عن الاعتراف به أو الموافقة عليه، وفي 2 تموز أقام الملك في مقره في روما وافتتح في 27 تشرين الثاني البرلمان في العاصمة الجديدة وبذلك تمت الوحدة الإيطالية، وبصدور قانون الضمانات أسدل الستار على الفصل الأول من فصول النزاع مع البابا، وإذا كانت الوحدة الإيطالية لم تحقق الخبر المنشود والذي بولغ في تقديره؛ فإنها على كل حال قد أنقذت خمسة وعشرين مليونا من النفوس من شر الشرطة والجواسيس الذي كان يحول دون أية زيادة في النفوس، وأنقذت الناس من استبداد كنسي تدعمه يد الدولة القوية وأنقذتهم من حكومات لا تجرؤ على التقدم والعمل للرقي، فقد زادت الوحدة مدى حياة الناس ومنحت إيطالية السكك الحديدية والقوانين الصالحة والتطور الصناعي، وجهزتها بالمصارف الشعبية وجمعيات الإسعاف المشترك التي قد ساعدت الجيل القادم على القضاء على الاستجداء والفقر، وخلقت الوحدة في جميع الطليان شعورا بالعزة القومية؛ إذ أصبحوا ينتمون إلى دولة عظيمة لها وزنها في سياسة العالم، ولم تبق إيطالية بلد العاطفة والانتكاس وغدت إلى حدبعيد عملية تقدمية وجدية.
وبعد، فإن إيطالية دولة فتية نعمت الآن بالسكينة والدعة، وفيها تضحية ولها مثل أعلى بشري فضلا عن سياسة سامية، وإذا كانت فضائلها السياسية أقل شأنا من نوايا بعض الأمم الأخرى إلا أنها سالمة من بعض معايب تلك الأمم، وإذا كانت لا تملك كثافة النفوس والثروة اللازمتين لكي تلعب دورا خطيرا في السياسة الأوروبية؛ فإنها تمثل بالإجمال دور السياسة الرصينة الحرة في وقت أصبح العقل والحرية فيه في حالة الانحطاط، وحينما تنظم بيتها فإن سكينتها واعتدالها وزد على ذلك رغبتها في الخير؛ ستمنحها نفوذا عظيما فعالا.
ناپیژندل شوی مخ