منذ أن أفل نجم الكاربوناريين كانت الحركة الدموقراطية والجمهورية التي تولى زمامها حزب إيطالية الفتاة قد بثت روح الوطنية الفعالة في البلاد إلى حد ما، وكان سبيلها إلى الوصول إلى أهدافها الدعاية بالكتب والنشرات والمجلات والحث على الثورة مهما كانت الظروف، ثم اقتنع رجالها بعد التجارب القاسية بلزوم التأني في إشعال نار الثورة إذا كانت الظروف لا تساعد على ذلك، فكان الحزب حامل راية الاستقلال في الاثني عشر سنة الأخيرة.
وكانت فكرة الاستقلال والوحدة قد انبثت في نفوس كثير من المثقفين الذين لم يكونوا من حزب إيطالية الفتاة، فكان للبعض منهم أيضا تأثير محسوس في بعث الفكرة القومية، فرأى حزب إيطالية الفتاة نفسه أمام حركة قومية يقودها مثقفون، تختلف طريقتهم في الحصول على الاستقلال عن طريقة حزب إيطالية الفتاة لأنهم كانوا ملكيين ينفرون من المؤامرات والوثبات الفردية، ويرون فيها إسرافا في حياة المتهوسين وحجة بيد الحكومات لاستعمال أقصى الشدة والمضي في التدابير الاستبدادية الغاشمة، من أجل ذلك فإنهم كانوا يرون أن يترأس الحركة ملك بيمونته أو البابا، وكانوا يطالبون الملوك بالإصلاحات لأنها هي في حد ذاتها توصل إلى الهدف وإذا اعتبرنا رجال حزب إيطالية الفتاة أحرارا متطرفين فيكون هؤلاء أحرارا معتدلين.
وكان المعتدلون يحملون طابع الآراء التي كانت تبثها فيما مضى الكنجلياتورة ومجلة أنتولوجيا وكتابات منزوني، وكانوا مقتنعين بأن الزمن لم يحن للقيام بالحركات السياسية العنيفة، وأن الأجدى في هذه الآونة توجيه همة الأمة نحو التعليم والإصلاحات الاجتماعية، وكانوا يدعون إلى الإكثار من المدارس وتحسين الزراعة ومد السكك الحديدية وإنشاء الصحف الأدبية وتأسيس الجمعيات العلمية.
وكان أول عمل قاموا به توجيه حملة شديدة على اللهجات المحلية فتوفقوا في جعل اللغة الإيطالية الكلاسيكية لغة العلم والأدب في جميع أنحاء إيطالية، ثم عقدوا المؤتمرات العلمية، ومع أن هدف هذه الاجتماعات كان علميا بحتا ولكنها اصطبغت بصبغة قومية؛ ذلك لأن الأعضاء كانوا يمثلون دول إيطالية وحدها، فالبحوث الاقتصادية مثلا ولدت فكرة الاتحاد الجمركي، والمسائل الاقتصادية أدت إلى السياسة، والتدقيقات الجغرافية إلى المناقشات الحرة عن موقف إيطالية، وهكذا انضمت هذه المؤتمرات العلمية إلى العناصر التي خلقت الفكرة القومية الجديدة.
ولم يوافق البابا ودوق مودينه على اشتراك رعاياهما في هذه المؤتمرات، وكان من نتائج هذه المؤتمرات أن أخذت السكك الحديدية تمتد في البلاد فتربط المراكز المهمة بعضها بالبعض الآخر، وتسهل الاتصال بين الطليان على اختلاف أقاليمهم وتنشط التجارة الإيطالية.
وقد عبر «دازجيلو» عن سياسة مد السكك الحديدية بأنها «تخيط الحذاء الطويل» إشارة إلى إيطالية التي تشبه الحذاء في وضعها على الخريطة، ومع ذلك فلم يتخلص أولئك المخلصون الاجتماعيون من تأثير السياسة فقد زجوا نفسهم فيها رغم أنفهم؛ ذلك لأن مبادئ مازيني كانت قد اختمرت وأصبحت ذات تأثير عظيم فألهبت النفوس بحب الوطن وشبعتها بآمال النصر والاستقلال، فكان جيستي مثلا ينسف العروش بأهجياته أما جيرازي فكان يلهب بها القلوب، وأخذت الأكثرية العظيمة من مثقفي الطليان الذين كانوا يكرهون الثورة، ينضمون إلى المعتدلين.
وانقسم المعتدلون في بادئ الأمر إلى زمرتين: الأولى كانت كاثوليكية قبل كل شيء أطلق أعضاءها على أنفسهم اسم «الجلفي الجديد»، وأصبحوا من أنصار مدرسة منزوني الرومانتيكية وكانوا كمازيني يبشرون بالواجب والثبات والدرس والأخلاق الفاضلة، إنما كانوا يختلفون عنه بتبشيرهم الخمود والتوكل وبما أنهم كانوا فاقدي الشجاعة الأدبية، وجلين يخشون طريق الرقي الوعر، ضعفاء أمام المعارضة فكانوا يحلمون بحياة مثالية تتصافى فيها جميع الطبقات؛ حيث العدالة والرحمة تقنعان البابا والرهبان والأمراء معا فتجعلاهم يشرفون على شعب سعيد ومعترف بالجميل.
وكان من هؤلاء «جيوبرتي»، كان جيوبرتي راهبا من أهل تورينو وقد نفي من بلده في أوائل عهد الملك شارل ألبرت فأوضح آراءه في كتابه «تفوق الطليان المعنوي والأدبي» نشره سنة 1843، وكان يدعي بأن إيطالية ذلك البلد الذي أنجب دانتي وفيكو ونابليون يجب أن يكون دائما وأبدا بلد الرجال النشطين ومهد العباقرة المبدعين، وكان يقول ما دامت روما المسيحية قد علمت العالم السلم والحب اللذين خلقا الحضارة الحديثة، وما دام الرومان هم الشعب المختار الذي بث فكرة العدالة؛ فيجب على إيطالية أن تظل الأمة المنقذة والأخت الكبيرة للأمم والمركز المعنوي والعقلي للعالم، ولن تتبوأ إيطالية هذه المكانة إلا بالاستقلال، فالاستقلال وحده يستطيع أن يجعل البلاد في الصف الأول بين الأمم.
وكان جيوبرتي لا يؤمن بالوحدة الإيطالية؛ زاعما أن التجزئة التي أصابت إيطالية منذ أمد بعيد قد فعلت فعلها بحيث يتعذر إيجاد الوحدة بصورة سليمة، أما تأسيسها بالقوة فجريمة وكان يرتئي إقامة آحاد لا وحدة بين الدول الإيطالية برئاسة البابا العليا، وكان يجزم بأن العبقرية الإيطالية من حيث أساسها ملكية، أرستقراطية، إقطاعية، وعليه فيحق للبابا أن يحتفظ بالسلطة الزمنية، وراح يطلب إلى الملوك والأمراء أن يجمعوا المجالس الاستشارية وأن يمنحوا الصحافة حريتها، أما الأشراف فينبغي أن يكونوا جديرين بألقابهم وذلك بتسليمهم زمام الأمور وبتركهم الامتيازات الإقطاعية وباحترامهم من دونهم.
وأما الرهبان فيجب أن يتعلموا وأن يتحرروا من الشبهات، وأن يكونوا متسامحين نحو المذاهب الأخرى ومخلصين للملوك والأمراء والشعب، فكان لكتاب جيوبرتي تأثير عظيم وفي رأيه أن البابا وملك بيمونته هما اللذان يمكن أن ينقذا الطليان، وطبيعي أن ينتشر كتابه في جميع الأوساط، فيرحب به الإكليروس والقوميون من رجال السياسة ولا سيما الأمراء من آل صافويه.
ناپیژندل شوی مخ