وفي روما عاد «كونسالفي» ممثل البابا في مؤتمر فينا ظافرا في مهمته، فتولى رئاسة الحكومة، وكان مقتنعا بأهمية التطورات التي طرأت على العالم، وميالا إلى الأخذ بالإصلاحات، فأراد أن يقوي الدولة التي أنقذها بإدارة لا مركزية وإصلاحات معتدلة، ورغب في أن تحكم الدويلات البابوية حكما صالحا وأن يرى أهلها مرفهين، وصرح أيضا بأن على البابوية أن تعترف بالعادات والأفكار الحديثة والآراء الجديدة التي أحدثها علم الاقتصاد السياسي وبثها، وكان يطمح إلى إيجاد إدارة تتبع البابا مباشرة بعيدة عن سيطرة المطارنة والأهلين معا، ومع ذلك فإنه لقي معارضة شديدة حينما حاول إصلاح القانون وتشجيع التعليم.
أما في نابولي فقد تظاهر الملك فرديناند بأنه أكثر أخذا بمبادئ الحرية من مورات، وتأهب لنشر بيان يعد فيه الناس بالدستور الجديد، ولكنه حين علم بسقوط خصمه سرعان ما تنصل من وعوده، وعاد المهاجرون ورجال الإكليروس يطالبون بحقوقهم، ثم استلم المهاجرون أملاكهم ولقيت صقلية التي التجأ إليها الملك أيام نكبته كل جحود منه فيما بعد، وكانت الجزيرة تعتز بدستور - يمنح الأشراف بعض الحقوق - حصلت عليه بعد جدال عنيف وبتدخل قائد الحامية الإنجليزية، ورغم أن الملك أقسم يمين المحافظة على الحريات الممنوحة وكفلت إنجلترة ذلك أدبيا، فإنه لم يرتح إلى وجود إدارة دستورية بالقرب من مملكته، خشية سريان مبادئ هذه الحريات، وعملا بالمعاهدة التي عقدها مع فينا فإنه أوقف الدستور الصقلي وألحق صقلية بمملكة نابولي وألغى الجيش والراية الصقليين.
ذكرنا فيما تقدم خلاصة ما أصاب الدول الإيطالية من تبدلات بعد مؤتمر فينا، وعلى الرغم من أن هذه التبدلات تحمل في باطنها الآراء الرجعية إلا أنها لم تكن شديدة القسوة، وإذا استثنينا فرديناند ملك نابولي فإن الأمراء كانوا بصورة عامة صالحين وذوي رغبات حسنة.
ومع أنهم كانوا بعيدين عن فهم روح العصر الجديد فإن نفوسهم كانت تتوق إلى رؤية رعاياهم سعداء، وعليه فإن الإدارة في حكومات المقاطعات قد تدرجت من حسن إلى أحسن، ومع ذلك فقد ظل رجال تلك التبدلات يعتبرون القانون الإفرنسي من العوامل الهدامة لدعائم الأخلاق التي تستند إليها الهيئة الاجتماعية، ولاح لهم أن القانون المذكور قد أضعف الدين وأضر بروابط الأسرة، فراحوا يطالبون - ملحين - بفسخ الزواج المدني وإلغاء قانون الطلاق وترك أمر التعليم إلى الإكليروس.
فأعدت العدة لأن يكون التعليم الإجباري بموجب تعاليم الكثلكة، ونظرا إلى الريبة فيما تبثه الجامعات فإنها روقبت من قبل الشرطة، واتخذ الأمراء دوق «مودينه» قدوة لهم في أعمالهم، وقد كان هذا الأمير - في الحقيقة - من أفظع المستبدين في إيطالية الحديثة، يخشى النتائج السياسية التي قد تنشأ من التعليم، واعتبر المدرس الذي يبث في تلاميذه المبادئ التقدمية الحرة من أكبر المذنبين، وطالما صرح «بأن الأحرار آثمون، علينا أن ندعو لهم أن يتوبوا وأن نجازي غير التائبين منهم.»
بيد أنه مهما أعد للحركة الرجعية من عدة فإنه كان مقدرا لها أن تصطدم بجميع المستنيرين من رجال الرقي والتقدم في الأمة، أما طبقة التجار التي أدركت ما بلغت قوتها في العهد الإفرنسي؛ فقد رأت ما أصاب تجارتها من فشل من جراء المكوس الجمركية التي وضعت بين دولة ودولة أخرى.
أما الجيش فقد كان متشبعا بالأفكار الديموقراطية، وكان دائم الانجذاب إلى طريقة نابليون، حانقا من جراء ضياع الحريات الاجتماعية والترقيات التي نالها الضباط الذين عادوا من المنفى، وضاق ذرعا بسيطرة النمساويين الذين كثيرا ما كسروهم في المعارك، فأخذت النظريات الحرة ومبادئ الحكم الدستوري تنتشر، وكان عملاء روسية في المدة القصيرة التي تظاهر بها الإسكندر قيصر روسية بميله إلى الآراء الحرة؛ يشجعون المستنيرين على بث تلك النظريات، أما السياح الإنجليز فكانوا ينقلون معهم مبادئ الحكم الحر فأخذ الناس يتتبعون - بكل دقة - أخبار المجالس النيابية في إنجلترة وفرنسة وحركة الهيتاريا
Hetaria
في بلاد اليونان.
وهكذا فإن حياة عقلية جديدة كثيرة النشاط قد دبت في الشمال وفي الوسط، وأخذ الجيل الحديث يقرأ مؤلفات «الفيري
ناپیژندل شوی مخ