ذلك أن غاريبالدي نزل إلى مرسالة وزبيانكي في اليوم السابق لليوم الذي وقع فيه على المعاهدة وتأهب لاجتياز حدود الأراضي البابوية، وحدثت في صقلية مأساة فاجعة أنست الناس في هذه الساعة القضية الرومانية، وتفصيل ذلك فيما يلي:
كان استبداد حكومة نابولي في صقلية والكراهية المستحوذة على العموم ضد آل بوربون وثورات الصقليين التقليدية؛ عوامل فعالة في توجيه نظر القوميين منذ سنوات مديدة نحو رسم خطة تستهدف إسعار لهيب الثورة في الجنوب، ولم يعتبر فرديناند من حوادث الزمن، وأخذ الخلل يزداد في الإدارة كلما شملت الآلام صحة الملك، وقد انتابه في آخر عمره مرض عضال ومات على إثره في 22 إيار 1859 فخلفه ابنه فرنسوا الثاني، فكان هذا الملك الفتى يجهل شئون الدولة كل الجهل؛ ولذلك استمر على سياسة أبيه الخارجية متمسكا بمعظم أسسها.
وتولى فيلانجيري رئاسة الوزارة ولو كان هذا طليق اليد لمنح الدستور، بيد أن قوى الكنيسة والجيش تألبت عليه لإحباط مشاريعه في بداية سنة 1860 فقدم استقالته وطالبت الحكومتان الإفرنسية والإنجليزية بالإصلاحات، ثم إن بروسية وروسية أيضا نصحتا الملك بالاعتدال خشية أن يوقد الاستبداد نار الثورة، فقامت الحكومة ببعض الإصلاحات الطفيفة، وشمل العفو العام المسجونين السياسيين، بيد أن الشرطة استمرت على قساوتها وسوء معاملاتها.
وأرادت فئة صغيرة من اللاجئين إنقاذ آل بوربون وحملها على حفظ مكانتها، كما أراد أشراف فلورنسة إنقاذ الدوق الكبير، فطلب هؤلاء إلى الملك تطبيق سياسة تقدمية حرة، وقد خيل لبعض أفراد قلائل منهم صيف سنة 1859 بأن الوحدة بين الشمال والجنوب ستدخل في دور سياسي عملي، ولإبعاد موراث عن العرش.
كانوا يريدون عن طيبة خاطر تمهيد السبيل لفرنسوا، وكان كافور رغبة في حشد ما يمكن حشده من القوات الإيطالية وإنزالها إلى الميدان؛ قد اقترح - قبل موت فرديناند وطالب بعد موته بإلحاح - عقد حلف هجومي ودفاعي عن مشاريعه ضد آل بوربون، ولكن فرنسوا كان لا يعبأ بالاستقلال الإيطالي، وقد أقصت عنه طائفة الحاشية في البلاط نفوذ فيلانجيري، حتى إنه سعى في الخريف إلى عقد حلف ضد بيمونته، ولولا معارضة نابليون الثالث لأرسل القوات لاسترداد الروماني لحساب البابا.
أما مشروع اللاجئين والحالة هذه فلم يظاهره إلا فئة قليلة في نابولي، ولم يكن في تلك المدينة إلا أشخاص قلائل يثقون بعض الثقة في الأسرة الممقوتة؛ فلذلك عارض أنصار موراث القوميون السياسة التي تستهدف تقوية نفوذ آل بوربون، وأصبح الجنوب بعد معاهدة فيلافرنكة من جديد في الصف الأول من طلاب الوحدة؛ إذ بذل أنصار الوحدة جهدهم في تقوية الفكرة القومية المترجرجة وتثبيتها وجعلها مرتبطة بهم بعد أن فقدوا نفوذهم في حادثة فيلافرنكة.
وقد كان إجماع أحزاب الشمال على ملكية بيمونته ووضع طوسكانه وإميليه ونفوذ غاريبالدي؛ من العوامل الفعالة التي حملت القوميين في الجنوب على الانضمام إلى صفوف أنصار الوحدة، وكان «فابريزي، وكادرويو» قد دبرا مؤامرة في صقلية وحث لافارينا المنتمين إلى الجمعية القومية في صقلية إلى الثورة بعد فيلافرنكة، ودخل كريسبي الذي كان لا يزال جمهوري المبدأ متنكرا وأخذ ينظم الجمعيات السرية لإشعال الثورة في تشرين الأول، بيد أن لافارينا غير خطته بعد ذلك وطلب إلى رجاله التريث ريثما تنضم إيطالية الوسطى.
وعلى الرغم من وعد غاريبالدي لكريسبي بأنه سينجده؛ فإن حركة العصيان قد فشلت ولم يحدث إلا تمرد جزئي بالقرب من باليرمو لكن كريسبي لم يقنط، ورغم فشله في الحصول على مساعدة رتازي؛ فإنه استعد لحركة جديدة في شهر نيسان المقبل، وقد شجعه كافور ورفقاؤه قليلا، وكان مازيني مختفيا في جنوة فاشترك في المؤامرة وطلب إلى غاريبالدي أن يترأس الثوار، إلا أن غاريبالدي لم يثق كثيرا في نجاح ثورة شعبية؛ لذلك اكتفى بالوعد بإعطاء السلاح على أن يرفع الثوار الراية الملكية.
وكان مازيني قد اختار «روزا ليوبيلو» الشريف الصقلي قائدا في حالة رفض غاريبالدي، فسافر بيلو بعد بضعة أيام مع رفيق واحد وقليل من المال ويحمل في قلبه الأمل السامي في تحرير صقلية، ولما نزل إلى الجزيرة بالقرب من سينا كانت الثورة قد نشبت، ودق ناقوس دير «ديللا جانسية» في بالرمو في صباح 4 نيسان الدقات التي تؤذن بنشوب الثورة.
ولما كانت الحكومة بالمرصاد فقد هاجم جنودها الدير ونهبوه واكتفت باليرمو بمظاهرات تافهة، أما الأطراف فلبت الدعوى وثارت، وكان يصعب على الثوار أن يقاوموا مدة طويلة؛ لذلك انقلب الجنود من متطوعة الألمان والسويسريين عليهم وانتقموا منهم شر انتقام، فغضب أكثرية لجنة جنوه على مازيني؛ لأنه لا يريد أن يتبع أي سياسة سوى سياسته، وعزمت على تسيير الأمور بنفسها وإجبار غاريبالدي على الوفاء بوعده، فوافق غاريبالدي - على كره منه - وطلب إلى الملك أن يضع تحت تصرفه لواء من الجيش الملكي؛ لأنه اقتنع بأنه لا يستطيع أن يقوم بعمل مؤثر إلا بمعاونة كافور.
ناپیژندل شوی مخ