============================================================
ميادين العلم الحديث، حتى نبهنا إلى ذلك الفضل العظيم كثير من المستشرقين، ومن بينهم " نولدكه" الذي شهد لأستاذنا المحاسبي بأنه إمام التحليل النفسي بين علماء الإسلام وغيرهم.
والذوق الأدبي الذي يشع من بين ثنايا هذا الكتاب نابع من طبيعة المحاسبي وفطرته فقد عاش في صغره حياة أبناء الموسرين من العرب بكل ما فيها من المباهج والذوق الجميل، والإحساس الرفيع بين اترابه ومعارفه.
وإذا اجتمع للزاهد خبرة عميقة بخفايا النفوس، وذوق آدبي رفيع، ومعرفة بما يجتذب إليه الأسماع مع القلوب من وسائل، وصدق في السلوك، ورجاحة في العقل، وغزارة في العلم وصفاء في الروح، كان واحد عصره، وفرد زماته، بلا نزاع. وكاتت كتبه جديرة بالبحث والدرس والتفهم. وهذه الأمور كلها تبلورت في شخصية المحاسبي الفذة بين شخصيات الزهاد العلماء في الإسلام روى أبو نعيم ، عن طريق جعفر الخواص. أن الجنيد قال : كان المحاسبي يخرجني من عزلتي إلى الطريق حتى ينتهي إلى مكان كان يجلس فيه بحيث لا يرانا أحد ثم يقول : سلني. فأقول ما عندي سؤال، فيقول: سلني عما يقع في نفسك: فتنثال علي السؤالات فأسأله عنها، فيجيبني عليها للوقت.
ثم يمضي إلى منزله فيعلمها كتبأ وتلك سمة من سمات الرجل العظيم في مواهبه الفذة في علم النفس التجريبي، فهو يضع النماذج البشرية أمامه، ويستنزف ما يدور بأخلادها من سؤالات هي في حاجة إلى جواب، وصاحب هذا المنهج لا يكتفي بالإجابة عما يوجه إليه من مسائل، وإنما يسهب ويختصر، ويلين ويقسو، ويبالغ في تحريك مواطن الاحساس أو لا يبالغ، كما يبالغ في الدقة والعمق والاستقصاء أو لا يبالغ . كل ذلك تبعا لحركات النفوس في توجيه السؤالات، أو تشبثها بمشكوك في صحته من مسائل العلم فهو. عارف بالنفس لأنه عارف بالله وليس معنى هذا أن كتبه كانت خلاصة تجارب أجراها الإمام المحاسبي على الامام الجنيد فحسب، ولا أن كتابنا هذا هو خلاصة تجاربه مع الجنيد وحده بل
مخ ۴۲