فلما علم عمرو بن معدي كرب بجواب إيليا التفت ليرى الأصدقاء الذين أشار إليهم الشاب فوقع نظره على أستير. فلاحظ ضرار تلك النظرة؛ لخوفه من عاقبتها أكثر من خوفه من عاقبة وداد إيليا.
وكان أرميا حينئذ خارج الخيمة يتنصت ويتجسس، فلما رأى فارس العرب يقلب نظره في أستير قال في نفسه: لقد صرنا أربعة.
أما عمرو بن معدي كرب: فإنه بعد أن أجال نظره في أستير مليا قال للترجمان: لماذا لا يصطحب أصدقاءه إلى حيث يذهب. فغضب ضرار لهذا الجواب، وظهر الغضب في وجهه. أما إيليا فإنه لما فهم جواب الأمير أبلغه أن رفيقه غائب وابنته هذه الفتاة لا تستطيع مفارقة أبيها.
فيظهر أن الامير انقلب غرضه من أخذ إيليا إلى أخذ أستير، ولذلك أجاب: سأعود غدا بعد عودة رفيقك، فوالله يهمني أن تقص علي بقية قصة صاحبك ميكائيل.
وكان الأمير يعني «بميكائيل» الراهب ميخائيل أستاذ إيليا.
فلما انصرف الأمير وترجمانه صار إيليا يفكر في ماذا يصنع للخروج بأستير وأبيها من المعسكر خصوصا بعد ما رآه من اهتمام ضرار وعمرو بن معدي كرب بها اهتماما خاصا، وبينما هو يتأمل في ذلك وإذا بأرميا قد دخل على حين فجأة، ودنا من إيليا، وأسر إليه قوله: هل تريد يا كيريه إيليا أن أحدثك على انفراد؟ فحول إيليا وجهه عن أرميا دون أن يجاوبه. فقال أرميا همسا أيضا: لا تغضب يا كيريه إيليا فإنني فعلت ما فعلته بأمر أستير نفسها، وعندي الآن لك حديث في غاية الأهمية فاسمعه مني وبعد ذلك اصنع ما تشاء.
فنهض إيليا وخرج من الخيمة، ولما صار خارجا صاح بأرميا: ماذا تقول للشيخ سليمان غدا يا أرميا بعد خطفك الفتاة من مزرعته. فأجاب أرميا: لم أخطفها وإنما هي التي طلبت مني أن أذهب بها من المزرعة لتلتقي بأبيها، ولكن دع عنك هذا فإنه ليس في شيء من الأهمية. أعرفت يا كيريه إيليا أبا هذه الفتاة؟
فأجاب إيليا: نعم عرفته. فقال أرميا مظهرا الاهتمام دائما: وهل عرفت ما بينه وبين العرب؟ فقال إيليا: لا لم أسأله عن ذلك بعد. فلعلهم أسروه كما أسروكما وكما أسروني. فهز أرميا حينئذ رأسه، وقال همسا: كلا كلا يا كيريه إيليا. فإنه جاسوس جاسوس.
فهنا خطا إيليا خطوة إلى الوراء لدهشته، وبقي مبهوتا، ولما رأى أرميا أن كلامه أثر في نفس إيليا تأثيرا شديدا أردف بقوله: وهل علمت الآن أين ذهب الرجل حين فارقكم؟ إنه ذهب إلى القائد العام؛ لأنه طلب مع بدوي مقابلته. فلعله يقصد سؤاله عن بعض الأمور، يا كيريه إيليا. قد قيل لي: إنك أنقذته على طريق بيت لحم. فأنت إذن أنقذت جاسوسا على وطنك، وابنته أستير الجميلة التي أنقذتها أنت مرة وأنا أنقذتها مرة هي ابنة جاسوس. يا كيريه إيليا، حقا ما كنت أظن أننا ننزل إلى هذه الدركة من السفالة ونحب أنت وأنا ابنة جاسوس دنيء.
فعند هذا الكلام انكشف غطاء كثيف عن عيني إيليا فذكر أقوال البطريرك، وقصة أستير تحت الأرزة، وذكر على الأخص استعانة أبي عبيدة بالشيخ أبي أستير لمعرفته قبل إطلاق سراحه، وبإرسال أبي عبيدة الساعة في طلبه؛ فلم تبق لديه شبهة في أن الرجل جاسوس. فلما تحقق ذلك في نفسه طارت نفسه شعاعا فترك أرميا بنزق، وأخذ يهيم على وجهه بين الخيام كأنه يطلب منقذا ليأسه وانكسار قلبه.
ناپیژندل شوی مخ