أما إيليا فإنه لما وقع نظره على أبي حبيبته خفق قلبه خفقانا شديدا، وكان أول سؤال وجهه إليه بعد انطلاق سراحه هو هذا: هل وجدت السيدة أستير؟ فوضع الشيخ يده في يده، وأجاب: هلم بنا إليها.
فيا أيها القارئ العزيز، هل أضعت يوما قلبا لك على شاطئ البحر بين رماله وحجارته ثم وجدته محفوظا في إحدى أصدافه الجميلة كأنه در فيها مكنون. هل كنت في إحدى الليالى مسافرا في ظلمة ليلاء، وأحاطت بك العواصف والأمطار والوحوش واللصوص، وانسدت الطريق في وجهك، ثم بغتة طلع لك القمر أو الشمس تنير طريقك وتدفئ عظامك وتؤمن نفسك. هل كنت يوما مريضا مشرفا على الهاوية وقد نضب ماء حياتك ورأيت الموت بعينيك ثم انتفضت وعادت إليك قوتك وصحة شبابك الماضي، إذا كنت قد لقيت يوما شيئا من ذلك فإنك تعرف مبلغ السرور الذي حاق بإيليا حينما قال له الشيخ عن أستير: «هلم بنا إليها».
ولما وصل الشيخ وإيليا إلى خيمة ضرار حيث كانت أستير كان قد أمسى المساء وأخذ العرب يعودون عن أسوار المدينة، وكانوا يطيلون النظر إلى الاثنين في أثناء الطريق، ولكن لم يبالوا بهما؛ لتعودهم مشاهدة التراجمة والعيون من اليهود وأحيانا من أذناب الروم في معسكراتهم، وهذا أيضا هو السبب في تجوال أرميا بين المضارب قبل ذلك دون أن يتعرض أحد له.
وحين وصول إيليا مع الشيخ إلى خيمة ضرار كان ضرار قد عاد من ساحة القتال، وجلس في باب الخيمة يطيل النظر إلى أستير، وأخته خولة تضحك من نظراته، وأستير مطرقة تتورد وجنتاها خجلا وتذوب حياء. فصاح الشيخ حين وصوله: أستير أين أستير؟ فهبت أستير إلى باب الخيمة، ولكن ما وقع نظرها على الشخص الذي يرافق أباها حتى صاحت صياحا شديدا، وتراجعت إلى الوراء، وقد انقلب لونها الفضي الوردي إلى لون الزعفران، وصارت ترتجف؛ فأدرك ضرار بذكائه العربي الفطري سر أستير في الحال فعبس وصار يقلب طرفه في إيليا. أما إيليا فكان يتقدم والابتسام على شفتيه، ولكن الألم الشديد في قلبه، وكانت جبهته تتصبب عرقا مع شدة البرد ساعتئذ. فلما وصل إلى أستير نظر إليها نظرة هي وحدها كانت تعرف معناها، وقال: الحمد لله أيتها السيدة على أنني وجدتك بخير وسلامة، فإنني خفت عليك من المعتوه الذي رحلت معه، ولذلك ذهبت في طلبك.
فأدركت أستير أن إيليا يريد بهذا الكلام تبرئة نفسه لديها عملا بوصيتها له أن لا يتبعها. فحاولت الجواب فلم تستطع، ولكن عينيها جاوبتا عنها بدمعتين كلؤلؤتين ترقرقتا في حدقتيها.
وفي هذه الدقيقة وصل أرميا؛ لأنه كان غائبا عن الخيمة.
فلما وقع نظر أرميا على إيليا من بعيد صلب على صدره ورجع القهقري قائلا: «كيريالايسون كيريالايسون، أي شيطان جاء به إلى هنا؟»
ثم توارى؛ لأنه كان يخجل من مقابلة إيليا. أما إيليا فقد لمحه، ولكنه تركه وشأنه؛ لئلا يفتح عليه باب جنونه فيفضح حبه.
ولم يكد إيليا يجلس في الخيمة حتى دخل بدوي، وسأل عن ضرار. ثم أبلغه أن الأمير أبا عبيدة يطلب اليهودي يوسف. فاستاء أبو أستير من هذه الدعوة في تلك الساعة أمام إيليا. أما إيليا فإنه لم يفهم شيئا. فقام أبو أستير وذهب إجابة للدعوة، فبقي في الخيمة إيليا وأستير وأمها وضرار وخولة، وكان ضرار ينظر إلى أستير ويقول في نفسه: ما أجمل بنات الروم، وخولة تنظر إلى إيليا، وتقول في نفسها: ما أضعف رجال الروم، وهكذا كان كل واحد منهما يقيس أمة بأسرها على فرد منها وهو الخطأ الذي كثيرا ما يقع الناس فيه.
ولم يكد يخرج أبو أستير من الخيمة حتى سمع صوت من الخارج يقول: «السلام على أهل الإيمان» فنهض ضرار وخولة على عجل، وصاح ضرار بعد رد السلام: أهلا بفارس العرب. فدخل حينئذ رجل معتقل سيفه وفي يده رمحه وكان كبير الهامة شامخ الرأس تكفي هيئته للدلالة على نجابته وشجاعته، وكان وراءه رجل غريب الزي. فقال الفارس القادم لضرار: أجاءكم أسيري يا ضرار؟ وكان إيليا قد هب على صوت الفارس وقام إجلالا له. فلما رآه الفارس بش في وجهه والتفت إلى الرجل الذي كان وراءه. فنطق حينئذ هذا الرجل باليونانية مخاطبا إيليا بقوله: إن فارس العرب عمرو بن معدي كرب قد ساءه تركك خيمته، ولقد أذن بما أذن به أبو عبيدة من إطلاق سراحك، ولكنه يريد أن تقيم عنده لا في مكان آخر؛ لسروره بحديثك وأخبارك. فاستاء إيليا في نفسه من هذا الاقتراح؛ لأنه يفصله عن أستير، وإن كان قد سره كرم العربي ورحابة صدره فأجاب: هذا أحب شيء إلي فسأحظى في كل مساء بالمثول في حضرة الأمير، وأما في النهار فإنني مضطر أن ألزم أصدقاء لي في هذه الخيمة ما أقمت في هذا المعسكر.
ناپیژندل شوی مخ