الوقف صورة كبرى من صور البر والإحسان
الحمد لله، الحمد لله على عظيم بره وجزيل إحسانه، أحمده -سبحانه- حمدًا يليق بكماله وجلاله وسلطانه، وأشكره على فضله وجوده وامتنانه، شكرًا لا يحصيه متحدثٌ بلسانه، ولا بليغٌ ببيانه.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً تبلغ الفردوس من جِنانه، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمدًا عبد الله ورسوله الداعي إلى سبيل الله ورضوانه، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه وأنصاره وأعوانه، والتابعين ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
أما بعد:
فأوصيكم -أيها الناس- ونفسي بتقوى الله ﷿، فاتقوا الله -رحمكم الله- فتقواه سبحانه هي الذُّخر الباقي، والدرع الواقي، من اتقى الله وقاه، ومن اعتمد عليه كفاه، ومن لاذ به حفظه وحماه.
أيها المسلمون: الإسلام دين الكمال والشمول، كمال وشمول يُساير متطلبات الفرد، وحاجات الأمة، ويُحقق العزة والكرامة لأهل الإسلام في دارهم الدنيا والآخرة، دينُ حقٍّ جاء بكل ما يُوثِّق عُرى التواصل بين المسلمين، ويقوِّي آواصر التكافل بين المؤمنين، حوى كل سُبل الخير، وشمل جميع أنواع البر: ﴿وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الْأِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ﴾ [المائدة:٢].
لكي يتجسد هذا التعاون، وتتجلى صور البر والتكامل، فليتأمل المتأمل! فيما وضع الله في الناس من مواهب وقدرات، لقد قسَّم سبحانه بينهم تلك المواهب والقدرات: ﴿لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ﴾ [الزخرف:٣٢].
الناس بحكمة الله ورحمته وعدله يختلفون في مواهبهم وطاقاتهم وعقولهم وجهودهم وهِمَمهم وأعمالهم، منهم من يفتح الله على يديه: ﴿وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ﴾ [الطلاق:٣] يوسع عليه رزقه، ويبسط له في ماله، وفئات أخرى قد قُدِّر عليها رزقُها، وقلَّت مواردها، إما لنقصٍ في قُدراتها، وإما لعجزٍ في مدركاتها، وإما لإعاقاتٍ في أبدانها، فيها الصِّغار والقُصَّار، وفيها أصحاب العاهات والإعاقات، لا يقدرون على مباشرة حرف، ولا يحسنون صنائع.
إن التكافل في أجلى صوره، والتعاون في أوضح معانيه، يتجلَّى في رعاية أحوال أصحاب هذه الفئات العاجزة، والقدرات القاصرة، في أبدانها وعقولها عاجزة عن تحصيل المال، غير قادرة على موارد الكسب، إنَّ لهذه الفئات نصيبًا في أيدي قادرين، وحقًا في هذه الأموال المتكاثرة والثروات المتنامية.
وإن الإحسان في الإسلام واسع الأبواب، متعدد الطرق، متنوع المسالك: ﴿لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة:١٧٧].
أيها الإخوة: وهذه وقفة مع صورة كُبرى من صور البر والإحسان في الإسلام، صُورة تُغطِّي جانبًا من جوانب التكافل، وتُعالج معالجةً حقيقةً كثيرًا من حاجات المجتمع واحتياجاته.
صورة تبرز ما للمال من وظيفةٍ اجتماعية تحقق الحياة الكريمة، وتدفع وطأة الحاجة، وينعم المجتمع كله بنعمة الأُخوة الرحيمة، والألفة الكريمة.
صورة يجد فيها العاجز المحتاج في مجتمعه مَن يُشاطره آلامَه وهمومَه، ويفرج عنه أحزانَه وغمومَه.
تلكم هي -أيها الإخوة-: الأوقاف والأحباس.
الأوقاف تبرز التعاون بنوعَيه، وتجسد التكافل بمسلكَيه:
١ - التعاون بين عموم المسلمين.
٢ - والتكافل بين الأسر والأقارب.
الوقف من أفضل الصدقات، وأجلَّ الأعمال، وأبرَّ الإنفاق، وكلما كان الوقف أقرب إلى رضوان الله، وأنفع لعباد الله، كان أكثر بركة وأعظم أجرًا.
الوقف في الدنيا بر الأصحاب والأقارب، وفي الآخرة تحصيل الثواب وطلب الزلفى من رب الأرباب ﷿.
الوقف انتفاع دارٌّ متواصل على طبقات المحتاجين، من الأقربين والأبعدين، من الأحياء والميتين إنه عمل صالح، ومسلك رابح.
الأوقاف تُجسِّد مسئولية القادرين على القيام بمسئولياتهم: ﴿وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ [القصص:٧٧] إحسانٌ بالقول والمال والعمل.
في الوقف ضمانٌ لحفظ المال، ودوام الانتفاع به، وتحقيق الاستفادة منه مُدَدًا طويلة، وآمادًا بعيدة.
14 / 2