ابدءوا بالتوحيد
إن التوحيد هو الغاية من إرسال الرسل وإنزال الكتب، فما من نبي إلا وقد أمره الله أن يأمر قومه أن يوحدوا الله ويعبدوه ولا يشركوا به شيئًا؛ لهذا وغيره ذكر الشيخ أنه لابد من البداية بالتوحيد، وتكلم عن تعريف التوحيد والحث على تعليمه، وتكلم عن تعريف الشرك والحذر والخوف منه، وبين أن التوحيد داخل ومرتبط بجميع أحكام الإسلام، وهذا يدل على أهميته ووجوب تعلمه وتعليمه.
1 / 1
لماذا الحديث عن التوحيد؟
الحمد لله رب العالمين، حمدًا كثيرًا طيبًا مباركًا فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الحمد في الآخرة والأولى، وأشهد أن محمدًا عبد الله ورسوله، بعثه ربه بالهدى، فبلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وتركنا على المحجة البيضاء، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى أصحابه أجمعين من الأنصار والمهاجرين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد:-
فأحييكم بتحية الإسلام؛ فسلام الله عليكم ورحمته وبركاته ثم أشكر للإخوة الذين رتبوا لهذه الدورة ترتيبهم، كما أشكر لهم دعوتهم وإتاحتهم الفرصة لِلَّقاء بهذه الوجوه الطيبة في هذه البقعة المباركة، في هذا البيت من بيوت الله، وأسأل الله ﷾ أن يجعل ذلك في ميزان حسنات الجميع.
أيها الإخوة: الموضوع -كما سمعتم- ابدءوا بالتوحيد.
ومعلوم أن الموضوع ليس بجديد، والحديث فيه قد كثر، ولا أقول: إنه متكرر أو مردد كثيرًا، ولكنه متتابع، وينبغي أن يتتابع الحديث فيه لأمور سوف تتبين -إن شاء الله- من خلال ما سألقي عليكم من أفكار وعناصر في الموضوع، وفيما بين يدي من عناصر سوف أتكلم عن التوحيد من حيث تعريفه وإثباته، ومن حيث احتفاء كتاب الله ﷿ وسنة رسوله ﷺ به، ومن حيث جلائه فيما يسمى بآيات الأحكام أو أحاديث الأحكام، أو حتى ما يسمى بالفروع، وهذا يستدعي الحديث عن الضد، وهو الشرك والخوف منه، وكذلك قد نتحدث -إذا كان في الوقت متسع- عن طريقة تعليم التوحيد.
وسوف أبدأ بموضوع ما يسمى بأصول الدين وفروعه، وإن كانت العادة والمتبع في الترتيب العلمي أن يُبدأ بالتعريف أولًا، ثم تتدرج المعلومات في ابتناء بعضها على بعض، ولكن يبدو أن الحديث عما يسمى بأصول الدين وفروعه هو الذي يتجلى فيه.
لماذا نتحدث عن التوحيد؟
ولماذا نبدأ بالتوحيد؟
المتبع في ترتيب علمائنا ﵏ المتقدمين منهم والمتأخرين، والناظر في مناهج التاريخ أنهم يقسمون العلوم إلى: أصول الدين وفروع الدين، ويعتبرون أصول الدين هو الحديث عن التوحيد، ويسمونه -أيضًا- في بعض المصطلحات علم الكلام والعقائد وفروع الدين تعني الحديث عن الأحكام وقضايا الفقه والتشريع.
وانبنى على هذا قولهم: إن القرآن حينما تنزل في مكة كانت عنايته بالعقيدة وما يثبت العقيدة من قصص وأحوال الأنبياء مع أقوامهم، وما حل بالأقوام من عقوبات لمخالفتهم لأنبياء الله ﷿.
ثم قالوا: إنه بعدما انتقل النبي ﷺ إلى المدينة أصبح الكلام عن التشريع والأحكام، وتنزلت الفرائض.
وهذا الكلام لا شك أن له ما يسنده وما يستدل له، من حيث أن الأحكام لم تتنزل إلا في المدينة، ما عدا الصلاة فإنها شرعت في مكة بعد عشر سنين، أما سائر الأحكام فإنها ما شرعت إلا في المدينة، وهذا كلام واضح وجلي ومعلوم من تتبع تاريخ التشريع.
ولكن -وهذا هو المهم- هل توقف الحديث عن التوحيد؟ وكيف تحدث القرآن عن التوحيد في كل مراحل تنزله خلال ثلاث وعشرين عامًا؟ وكذلك كيف كانت سيرة النبي ﷺ ومسيرته منذ بعث إلى أن توفي؟ أين محل التوحيد من سيرته ﵊؟
هذه القضية -يا إخواني- جديرة بالبحث وبالتأمل لماذا؟ لأن الحديث عن التوحيد هو لب الدين، في كل وقت، بل في كل ظرف، والمخاطبون بالتوحيد ليس الكفار فقط، بل إن المسلمين يخاطبون بالتوحيد، ويخاطبون بالحديث عن التوحيد، ويخاطبون بتقرير وتثبيت التوحيد.
وذلك لأننا سوف نرى -من خلال تتبع التشريع- أن القضية ليست مجال تردد لمن أنار الله بصيرته، ولو ذكرت لكم بعض قضايا سريعة تعرفونها: حينما يقول النبي ﷺ: ﴿لقنوا موتاكم لا إله إلا الله﴾ هذه آخر لحظة من حياة الإنسان، (لا إله إلا الله) و﴿من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة﴾ الخطاب لمن؟ إنه للمسلمين وحينما كان النبي ﷺ في مرضه الذي مات فيه، كان يقول: ﴿لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد يحذر ما صنعوا﴾ في مرضه الذي مات فيه.
إذًا: حينما أتحدث عن التوحيد، فليس الأمر كما يقول بعض الناس -خاصة في خارج هذه البلاد، أو الذين لم يعرفوا طريقة القرآن- يقول: إنكم تتهمون الناس في عقائدهم أو نحو هذا الكلام.
1 / 2
الحديث عن التوحيد هو طريقة القرآن الكريم
إن الحديث عن التوحيد هو طريقة القرآن، وقد خوطب به المؤمنون، بل خوطب به الأنبياء ﵈ جميعًا، وحاشاهم أن يشركوا، وخوطب به حتى الملائكة، ولا شك أنه خوطب به الناس جميعًا بما فيهم الكفار.
حينما يقول الله ﷿ لنبيه محمد ﷺ: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.
الآية﴾ [محمد:١٩] فهذا خطاب للنبي ﷺ، بدليل أنه قال: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد:١٩] لأنه وإن كان الخطاب في البلاغة بضمير المخاطب، لكنه -كما يقولون- لمن يصلح له بمعنى أنه إذا لم يكن هناك مخاطب معين يقول البلاغيون: هذا خطاب لمن يصلح له، مثل قوله تعالى: ﴿لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا﴾ [الإسراء:٢٢] يصلح أن يكون للنبي ﷺ، ويصلح أن يكون لمن يصلح له، فهو خطاب لمن يصلح له.
لكن قوله سبحانه: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ﴾ [محمد:١٩] معلوم أن الخطاب للنبي ﷺ بدليل قوله: ﴿وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد:١٩] فدل على أن المخاطب هو النبي ﷺ وحينما خوطب النبي ﷺ هل كان محل شك في توحيده؟! لا.
بل هو الأسوة والقدوة، وهو حامي حمى التوحيد، وهو الذي سد كل طريق يوصل إلى الشرك ﵊، ومع هذا قال الله له: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ﴾ [محمد:١٩].
1 / 3
خطاب الله تعالى للملائكة بالتوحيد
ولهذا سنذكر -إن شاء الله- بعض الآيات التي تتعلق بكل هذه الفئات بالملائكة والأنبياء وبالمؤمنين والكفار، فيما يتعلق بالتوحيد وفيما يتعلق بالتحذير من الشرك يقول الله ﷿: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ [الأنبياء:٢٥] وهي قضية في التوحيد ظاهرة، والسياق في سورة الأنبياء، وحديثه عن التوحيد غليظ جدًا، وحتى ما قبل هذه الآيات كلها في التوحيد، لكن نقتصر على محل الشاهد، يقول الله: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ * وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ * لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ * يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ * وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء:٢٥ - ٢٩].
وهذا خطاب وتهديد ووعيد للملائكة فمع أن الملائكة عباد مكرمون أثنى الله ﷿ عليهم، وفي مقام آخر قال: ﴿لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ﴾ [التحريم:٦] وقال: ﴿يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ﴾ [النحل:٥٠] ومع هذا قال: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ﴾ [الأنبياء:٢٩] مما يدل على عظم قضية التوحيد، وعلى غيرة الله ﷾ على التوحيد، وعلى حقه سبحانه؛ لأن التوحيد محض حقه سبحانه: ﴿وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ﴾ [الأنبياء:٢٩].
1 / 4
خطاب الله تعالى للأنبياء بالتوحيد
أما الحديث عن الأنبياء فطويل جدًا، سواء فيما يتعلق بالأنبياء على جهة الأفراد موسى وإبراهيم ونوح وعيسى ومحمد ﷺ وجميع الأنبياء، أو على جهة العموم كل الأنبياء فمن الآيات التي تتعلق بالأنبياء جميعًا قوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ﴾ [الزمر:٦٥].
الذين أوحي إليهم هم الأنبياء، والحديث مع الرسول ﷺ وأنبياء الله جميعًا، فإنهم هم المختصون بأنهم يوحى إليهم ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ [الزمر:٦٥] وحاشاه ﵊ وحاشا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من الشرك.
لكن فيه ما يدل على أن هذه هي القضية الكبرى، وسنرى بعد قليل كيف أن الخلل تطرق إلى الناس في التوحيد، حتى ولو كانوا مسلمين، ولو كانوا في ديار مسلمين؛ وذلك أن التوحيد حقيقته إفراد الله ﷿ بما يختص به، فإن كان توحيد الألوهية فهو إفراده بالعبادة، وإن كان توحيد الربوبية فهو إفراده بأفعاله في الخلق والرزق والملك والتدبير إلى آخره، وإن كان توحيد الأسماء والصفات فهو إفراده بما يختص به من أسماء وصفات ﷾.
إذًا: التوحيد هو إفراد الله بما يختص به، فأي خلل في توحيد الربوبية ومع الأسف أن الماديين الآن دخلوا حتى في شرك الربوبية، وهذا الذي لم تفعله الأمة السابقة أو في الألوهية، وسوف نتعرض لبعض الصور في ذلك أو في الأسماء والصفات، فإنها محل نزاع شديد بين المعطلة والمشبهة، وتنزيه الله وحدود التنزيه والوصف، وإن كان هذا غالبًا أكثره بين الفرق المختصة، وإن كانت العامة قد لا تدخل فيه كثيرًا، فما يتعلق بالأسماء والصفات، فهو غالبًا بين المختصين أكثر، وإنما العامة تتلقى ما يقوله العلماء فيما يتعلق بوحدة الوجود، أو فيما يتعلق بالتنزيه، وفيما يتعلق بطريقة التنزيه وطريقة التكييف، فالتنزيه أحيانًا يكون عدمًا، والعامة تتلقى أن التنزيه يعني العدم والحديث في هذا يطول، والوقت لا يسمح أن نخوض فيه كثيرًا لكن مقصودنا هو الحديث عن التوحيد، الذي هو حق الله ﷿، وإفراده بما يختص به من أفعاله ﷾، وأفعال العباد والأسماء والصفات؛ ولهذا كان حديث القرآن كله عن هذا الموضوع، قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ * بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ﴾ [الزمر:٦٥ - ٦٦].
آية أخرى تتعلق بالأنبياء جميعًا في سورة الأنعام لما ذكر الله جملة من الأنبياء -وهي أحصى آية ذكرت الأنبياء- قال الله تعالى: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ * وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ * وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام:٨٣ - ٨٨].
يقول ابن كثير ﵀ في كلام ما معناه: إذا كان هذا الحديث مع أنبياء الله -وحاشاهم أن يشركوا- فلماذا لا يكون الخوف من الشرك، فإن الله ﷿ يقول: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام:٨٨] وهؤلاء هم الأنبياء، وفيهم أولو العزم؟!
هذا فيما يتعلق ببعض الآيات التي تدل على ما يتعلق بالتوحيد مع الأنبياء في الجملة، أما الخاصة ببعض الأنبياء، فمن أظهرها ما يتعلق بإبراهيم ﵇، فإبراهيم هو صاحب الملة الحنيفية، وقد أمر نبينا محمد ﷺ أن يتبع ملته: ﴿ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [النحل:١٢٣] إبراهيم خاطبه الله ﷿ بقوله: ﴿وإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُود﴾ [الحج:٢٦] وهو الذي حكى الله ﷿ عنه قوله: ﴿وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ * رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [إبراهيم:٣٥ - ٣٦].
والحديث في هذا لن نقف عنده طويلًا، وإنما نورد بعض الأمثلة، لنرى أن الحديث عن التوحيد لا يختص بالكفار، ولا يختص بمتهمين إن وجد متهمون، وإنما الحديث عن التوحيد غيرة على حق الله ﷿.
ويقول الله ﷿ في حق عيسى ﵇ -وهذا من أكثر ما ذكر أيضًا-: ﴿وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ﴾ [المائدة:١١٦] وغيرها من الآيات التي ذكرت في قصة عيسى مع قومه بني إسرائيل فيما يتعلق بالشرك.
وفيما يتعلق بنبينا محمد ﷺ هناك آيات كثيرة، يقول الله تعالى: ﴿وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [القصص:٨٧] ﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾ [يوسف:١٠٨].
إلى غيرها من الآيات التي تتحدث عن التحذير من الشرك في حقه ﵊، كما في قوله تعالى: ﴿اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الأنعام:١٠٦] وليس الموضوع استعراض للآيات بقدر أن المقصود هو التمثيل.
ونشير إلى آيات أخرى أيضًا
1 / 5
خطاب الله تعالى للمؤمنين بالتوحيد
فيما يتعلق بالخطاب للمؤمنين، يقول الله ﷿ في صفات عباد الرحمن: ﴿وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا﴾ [الفرقان:٦٣] صفات هي منتهى الالتزام ومنتهى الأدب ومنتهى الدين ومنتهى القيام لله ﷿، ثم قال: ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ [الفرقان:٦٨] مع أنه قبلها قال: ﴿وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا﴾ [الفرقان:٦٧].
آية أخرى، وهي من أجمل الآيات فيما نحن بصدده، وهي آية التمكين، الذين يمكن الله ﷿ لهم في الأرض، قال الله تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور:٥٥] وسيكون لنا وقفة عند قوله: ﴿لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ وذلك بعد الانتهاء من الحديث عن خطابات الفئات كلها الملائكة والأنبياء والمؤمنين والكفار، نعود إلى قضية (شيئًا).
1 / 6
خطاب الله تعالى للكفار بالتوحيد
وفيما يتعلق بالكفار هناك آيات كثيرة، يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ﴾ [البقرة:٢١] ويقول تعالى: ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [يونس:٣١] والأصل أن الخطاب فيها للمشركين، بالتوحيد والدعوة إلى التوحيد وإثباته، لكن نحن تكلمنا عما يتعلق بهؤلاء الذي هم ليسوا محل شك، بل خوطب المؤمنون منهم بوصف الإيمان، ومع هذا قال: ﴿وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ﴾ [الفرقان:٦٨] وقال: ﴿يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور:٥٥].
1 / 7
الشرك والخوف منه
نأتي إلى قضية وهي قضية الخوف من الشرك، ولا نقف عندها طويلًا وإن كانت تستحق؛ لأننا سننتقل بعدها إلى قضية التوحيد وتعريفه الخ.
قضية الخوف من الشرك تتجلى في مثل قوله تعالى: ﴿يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور:٥٥] وتتجلى في قوله تعالى: ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [الأنعام:١٥١] ولابد أن نتأمل هذه الآية في سياقها ماذا نفت وماذا أثبتت.
والآية الأخرى في سورة النساء يقول تعالى: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء:٣٦] وهنا قال: ﴿يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور:٥٥] فعندنا هنا نفي (لا يشركون) ونكرة (شيئًا) والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، كما يقول الأصوليون والبلاغيون.
وقوله تعالى: ﴿لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور:٥٥] هناك تقديران، وكلاهما صحيح، بل قد نقول: كلاهما مقصود، وكلاهما مقدر، الأول: ﴿لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور:٥٥] من الأشياء لا حجر، ولا ملك، ولا شمس، ولا أي شيء، مهما عظم ومهما صغر.
إذًا: هذا نفي لأي ذرة من الشرك، أو من الأشياء التي يمكن أو يتصور أن تصرف لغير الله وهي محض حق الله تعالى.
التقدير الثاني: لا يشركون بي أي نوع من أنواع الشرك، ولا أي شيء من الأشياء المعبودة، فقد نفى أي شيء من الشرك، ونفى أي شيء من الأشياء المعبودة فالقضية دقيقة يا إخوان، بدليل أن الله ﷿ قال: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف:١٠٦].
ولو قارنت بين هاتين الآيتين لتبين لك عظم الأمر، فخصائص الطلب الإلهي: ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [النساء:٣٦] ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ [الأنعام:١٥١] وخصائص المؤمنين: ﴿يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ [النور:٥٥] لا شيئًا من الأشياء المعبودة، ولا شيئًا من أنواع الشرك، فالمنفي هو الأمران لا شيئًا من المعبودات مهما صغرت، ولو كان ذبابًا أو أقل من ذباب أو ذرة، ولهذا نفى الله ﷿ في الآية التي تقطع نياط القلب عن سائر المعبودات من دونه امتلاك مثقال ذرة فقال: ﴿قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ﴾ [سبأ:٢٢] نفى الله ﷿ عن المعبودات من دونه أنها تملك أي شيء ولو كان مثقال ذرة.
فحق على المؤمن ألا يرد على خاطره وقلبه أي شيء من الأشياء، ولا أي شرك من التعلقات، فالقضية دقيقة جدًا.
يقول ابن كثير ﵀ عند قوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ [الأنعام:٨٨] يقول: فيه تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه وتعظيم لملابسته.
1 / 8
وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون
أما قوله تعالى: ﴿وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ﴾ [يوسف:١٠٦] قال بعض العلماء: في هذه الآية دلالة على ما يتخلل بعض الأفئدة، وتنغمس فيه بعض النفوس من الشرك الخفي الذي لا يشعر به صاحبه غالبًا، فمثل هذا وإن اعتقد وحدانية الله، لكنه لا يخلص له في عبوديته، فيتعلق بغير ربه، ويعمل لحظ نفسه أو طلب دنياه، أو ابتغاء رفعة أو منزلة، أو قصد إلى جاه عند الخلق، فلله من عمله وسعيه نصيب، ولنفسه وهواه نصيب، وللشيطان نصيب، وللخلق نصيب، والله أغنى الشركاء عن الشرك.
وهذا كلام جميل ودقيق جدًا، ومنه -فعلًا- يكون الخوف من الشرك، ومنه -أيضًا- نتبين معنى هذا النفي الدقيق: ﴿يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا﴾ ﴿وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾ ﴿قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا﴾.
1 / 9
تعريف التوحيد وتعريف الشرك
نأتي الآن إلى التعريف الحقيقي ونتكلم عنه؛ لأنه يؤكد الأهمية الحقيقية، ويؤكد لماذا نبدأ دائمًا بالتوحيد.
كما قلت قبل قليل: التوحيد: هو إفراد الله بما يختص به.
وهو يشمل التوحيد بأنواعه الثلاثة: إفراد الله بالعبادة وبأفعال العباد، وهذا توحيد الألوهية، وإفراد الله بأفعاله، وهذا توحيد الربوبية، وإفراد الله بالأسماء والصفات، وهذا يتعلق بتوحيد الأسماء والصفات.
إذًا نقول: التوحيد هو إفراد الله ﷿ بما يختص به.
وهذا التعريف يتبين من تعريف الشرك الذي يقابل التوحيد فإن التوحيد هو إفراد الله بما يختص به من أفعاله سبحانه وأفعال العباد وأسمائه وصفاته أما الشرك فهو مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله.
وهذا تعريف دقيق جدًا، وإذا عرفته عرفت التوحيد، ولهذا جاء في الحديث: ﴿أعظم الذنب أن تجعل الله ندًا وهو خلقك﴾ ندًا، أي: مساويًا لله تعالى فيما يختص به سبحانه.
1 / 10
صور من صرف العبادة لغير الله
لو أخذنا قضية الخوف، فإن الخوف نوع من أنواع العبادة، لكن الخوف نوعان: خوف جبلي، وهو ما وضعه الله ﷿ في النفوس، من أنها تخاف من أشياء في الدنيا، وهو خوف وضعه الله ﷿ في النفوس لنجاتها وسلامتها، ولتعيش في هذه الدنيا ما كتب الله ﷿ لها من أجل، فأنت تخاف من الأسد فتهرب منه، وتخاف من الظالم فتتقيه؛ إما بإعطائه وإما بالهروب منه، وتخاف ممن هو أقوى منك إما بمداراته وإما بالهروب منه وهكذا.
إذًا: هذا خوف جبلي لا إشكال فيه ولا لوم، ولهذا قال الله ﷿: ﴿فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى * قُلْنَا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى﴾ [طه:٦٧ - ٦٨] فموسى لم يكن ملومًا في هذا الخوف، وقال الله ﷿ لموسى وهارون: ﴿لا تَخَافَا﴾ [طه:٤٦] فهذا خوف جبلي، وكذلك إبراهيم أوجس من رسل الملائكة: ﴿قَالُوا لا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ﴾ [الذاريات:٢٨] فهذا خوف جبلي ليس له علاقة بتوحيد إبراهيم ﵇، وهو صاحب الملة الحنيفية.
إذًا: هذا خوف لا إشكال فيه، فأنت تخاف من الأسد؛ لأنه أقوى منك، وتخاف ممن هو أقوى منك من بني آدم؛ إما لأنه أقوى منك في بدنه، وإما لأن معه سلاحًا لا تستطيع مقاومته، كأن يكون معه سكين أو رشاش أو مسدس أو سيف وأنت أعزل، فلا شك أنك ستخاف وهذا خوف جبلي وفطري، بل قد يكون أحيانًا سبيل النجاة.
ولهذا قلنا: الشرك هو مساواة غير الله بالله فيما هو من خصائص الله، والخوف الطبيعي ليس فيما هو من خصائص الله، إنما الذي من خصائص الله أن تخاف من إنسان أو من مخلوق خوفًا مما لا يقدر عليه إلا الله هذا هو الشرك، وذلك كأن تخاف من الغائب، أو من المقبور في قبره، أو تخاف من أشياء لا حقيقة لها، وتخافها أكثر من خوف الله، إما لأنها أصلًا ليس لها قدرة فتخافها، أو لها قدرة ولكنك تخافها أكثر من خوف الله ﷿، وهذا أيضًا لا يجوز.
أيضًا: الحب، هناك أشياء محبوبات في الدنيا وضعها الله ﷿ لتقوم بها الحياة، فأنت تحب المال، وتحب أهلك وزوجك وأولادك، وتحب أشياء كثيرة، وهي محبوبات طبيعية جبلية، لكن إذا كانت أحب من الله ﷿ دخلت في دائرة الشرك، قال الله تعالى: ﴿قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ﴾ [التوبة:٢٤].
إذًا: التوحيد هو إفراد الله بما يختص به، فلا تشرك معه غيره، كما أن الشرك هو: مساواة غير الله بالله فيما يختص به الله ﷾، إذًا فتبين لك بهذا أن التوحيد والشرك هما وجها عملة التوحيد: إفراد الله، والشرك: مساواة غير الله بالله.
1 / 11
من أسماء التوحيد
التوحيد له عدة أسماء، وسوف نذكرها لبيان أهميتها فهو الفقه الحقيقي، أو الفقه الأكبر وهو علم التوحيد وعلم العقيدة، وأحيانًا يسمونه: علم الكلام، وهذا هو الذي أدخل اللبس على هذا العلم وأدخل الخوف، وهو الذي قد نشير إليه -إن شاء الله- في طريقة تعليم التوحيد، فإن الخطأ الذي وقع فيه بعض العلماء السابقين ﵏ أنهم فعلًا ما أحسنوا طريقة تعليم التوحيد حينما جعلوه علم كلام وجعلوه جدلًا، ودخلوا في قضايا لا تنفع العامة، وإنما صار دائرًا في حلقة بين علماء خاصة، أو -إن صح التعبير- بين خاصة الخاصة، ولم يغنهم شيئًا.
بينما لو أخذوا بطريقة القرآن في عرض التوحيد وإثباته وبيان مكملاته وبيان ضده الذي هو الشرك، وكذلك توابع الشرك؛ لكان هذا أوضح من حيث البرهان والحجة، ومن حيث البيان والوضوح، ومن حيث التأثير والقبول، ومن حيث مخاطبة جميع الناس، سواء البدوي في باديته، والفلاح في مزرعته، والصانع في مصنعه، والعالم في درسه، والصغير في محضنه كل هؤلاء يخاطبون والقرآن قد خاطب الجميع.
لكن -مع الأسف- صار هناك نوع من عدم وضوح الطريق في طريقة التعليم عند المتقدمين، فسلكوا مسالك أهل الكلام، فما وصلوا إلى شيء، وإنما حصروه في دوائر بين علماء، ومع هذا لم يغن عنهم فتيلًا، والعامة أصبحت لا تعرف شيئًا، إلا بعض طرق صوفية، ودخلوا في الخرافات، ودخلوا في الأشياء التي زادت الطين بلة، بل أوقعته في صور من الشرك الأكبر المخرج من الملة.
فالحقيقة أن التوحيد هو الفقه الأكبر، وهو علم العقيدة، ولهذا في قوله ﷿: ﴿فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ﴾ [التوبة:١٢٢] فأول الفقه في الدين هو الفقه في التوحيد وكذلك في قوله ﷺ: ﴿من يرد الله به خيرًا يفقهه في الدين﴾ فأول مراحل التفقه وأعظمها هو التفقه في توحيد الله ﷿.
1 / 12
التوحيد في أركان الإسلام
حينما نأتي إلى التوحيد في الأحكام، أو في أركان الإسلام، نجد أن أكثر ما يتكلم الناس عن التوحيد أنه هو أصل الدين، ولا يخصونه بأشياء، ويظنون أننا حينما نتكلم عن الصلاة أو عن الزكاة أو عن الحج أننا نتكلم عن أحكام فقط، وهذا صحيح من حيث أنها حلال أو حرام، ومن حيث أنها تتعلق بالأفعال التكليفية المتعلقة بأداء الحج وأداء الصلاة بركوعها وسجودها، وكذلك الطهارة التي تسبقها، ولكن هذا فهم خاطئ من حيث أنهم لم يُعلَّموا التوحيد من خلالها؛ وذلك لأن طريقة تعليم التوحيد لم تكن سديدة جدًا، فكان ينبغي أن يُعلم الناس التوحيد حتى من خلال الصلاة، ومن خلال الزكاة، ومن خلال الحج، من خلال الصيام؛ لأن حقيقة التوحيد هو الارتباط بالله ﷿ والتعلق به وحده، هذا هو التوحيد، أما إذا لم تكن دائمًا متعلقًا بالله وحده فإنك لم توحده.
1 / 13
التوحيد في الشهادتين وفي الصلاة
الشهادتان معروفة؛ لأنها لفظ التوحيد، لكن الذي ينبغي بيانه هنا أن النطق بالشهادة غير الاعتقاد، فإن الاعتقاد هو الأصل، وذلك أن تعتقد أن الله واحد لا شريك له، لكن أن تشهد، أي: أن تتلفظ، فإن أركان الإسلام أولهما الشهادتان، بمعنى أن تشهد وتنطق أن لا إله إلا الله ما معنى ذلك؟
المشهور عندنا أن الإنسان يشهد أن لا إله إلا الله أول ما يسلم، وهذا صحيح، لكن حينما تتأمل أحكام الإسلام، تجد أن الإسلام طلب منا الشهادتين في مواطن كثيرة جدًا، وهذا هو الذي ينقصنا في تعليم التوحيد.
المتبادر إلى الذهن أن الكافر إذا أراد أن يسلم يشهد أن لا إله إلا الله أمام قاضٍ، ويعلن الشهادة، وينطق الشهادتين، فيدخل في الإسلام.
لكن حينما ننظر في أحكام الإسلام نجد أننا في اليوم أكثر من عشرين مرة نشهد أن لا إله إلا الله، بل أكثر من ذلك أول مرة عند الأذان، قد تقول: المؤذن هو الذي يشهد أقول: نعم.
لكن نبينا محمد ﷺ يقول: ﴿إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول﴾ والمؤذن يقول مرتين (أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله) والنطق بلفظ تجديد التوحيد ليس عبثًا، وكما خوطب به الأنبياء والمؤمنون، نخاطب نحن به أيضًا، وكأني أغسل قلبي وأغسل نفسي، وأتفقد هل أنا متعلق بالله أم لا؟ هل أنا أشهد أن لا إله إلا الله حقيقة أم لا؟ المؤذن خمس مرات في اليوم يقول: أشهد أن لا إله إلا الله، على رءوس الأشهاد، وأنت تقول مثله حتى في إقامة الصلاة أذان وفيها شهادتان، وكل صلاة تصليها تتشهد تشهدًا أو تشهدين، وتقول: أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدًا رسول الله هل تأملتم هذا الكلام؟ هل ديننا يشكك في عقائدنا؟ لا، إنما هذا تجديد، ولا بد من التجديد.
إذًا هذا لفظ الشهادة فقط غير لفظ (لا إله إلا الله) الذي يرد كثيرًا، سواءٌ في الأذان أو في غيره، فإن الأذان فيه (أشهد أن لا إله إلا الله) وفيه (لا إله إلا الله) في آخره، فضلًا عن المعاني من غير النطق.
كذلك كلمة التوحيد (الله أكبر) لو تأملتها لعلمت أنها توحيد، المؤذن يقول: (الله أكبر) وأنت تقول مثله.
ماذا تعني (الله أكبر)؟
تعنى أنه ليس في ذهنك ولا في قلبك ولا في تفكيرك ولا في تصورك ولا في سلوكك أن شيئًا أكبر من الله ﷿، لا في تدبيره ولا في ملكه ولا في مراقبته ولا في قدرته عليك هذا هو التوحيد.
التوحيد أن يكون قلبك خالص التعلق بالله ﷿.
حينما تقول: (الله أكبر) ويقول المؤذن: (الله أكبر).
هذا فضلًا عن تكبيرات الصلاة، فإن في كل حركة انتقال تكبيرة تكبيرة الإحرام، ثم تكبيرات الانتقال من قيام إلى ركوع إلى سجود إلى قعود إلى قيام، كله تكبير ماذا يعني هذا؟
إنه يعني معالجة النفس ومعالجة القلب، وإخلاص التعلق بالله ﷿ والارتباط به سبحانه.
هذا فقط في هذه الألفاظ الظاهرة، ألفاظ الأذان، والألفاظ الظاهرة في الصلاة، فما بالك بالتوحيد في قوله تعالى: ﴿مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ﴾ [الفاتحة:٤ - ٥] وفي قولك: سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم، سبحان ربي العظيم! هذا هو التوحيد، وإن كان بعض العلماء يقولون: هذه فروع.
لكن هذه كلمة على الهامش.
الفصل بين التوحيد والفقه جيء به للتعليم، ما جيء به للتقسيم؛ بمعنى أن التوحيد ليس له علاقة بالفقه، وأن الفقه ليس له علاقة بالتوحيد، فهذا ليس بصحيح إنما جيء به للتعليم، وهو يسمى (تقسيم علوم) للتعليم فقط، فحينما نقول: فقه، وأصول، ومصطلح، وتفسير، وعلوم قرآن، وتخريج، وعلوم فرائض، ومواريث، وعلوم أخرى، حتى النحو والصرف، هذه التقسيمات إنما هي للتعليم، وليس للفصل بينها، وأن نجعلها فرعيات بحيث يكون الاهتمام بها قليلًا، وهذه موصولة بهذه، وكلها تخدم الدين، وكلها يخدم بعضها بعضًا.
كذلك هيئات الصلاة؛ فيها تعظيم لله ﷿، فالصلاة كلها تعظيم، وكلها خشوع، كما قال تعالى: ﴿وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ﴾ [البقرة:٢٣٨] كذلك تسبيحات الركوع، وتسبيحات السجود، وهيئة الركوع والسجود، كلها حركات لله ﷿.
1 / 14
الزكاة والصيام وارتباطهما بالتوحيد
وفيما يتعلق بالزكاة وارتباطها بالتوحيد، هناك شيءٌ عجيب من جانب ارتباط المال بالتوحيد وبالدين، ولو لاحظتم الآيات المكية التي قالوا: إنها في العقائد؛ كم ذكر فيها المال؟
يقول الله تعالى: ﴿أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ﴾ [الماعون:١] من هو؟ ﴿فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ * وَلا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ﴾ [الماعون:٢ - ٣] أي: من مظاهر التكذيب بالدين والتكذيب والتكذيب باليوم الآخر البخل بالمال.
إذًا: القضية ارتباط عقدي قبل أن تكون ارتباط أحكام، وبعدها يقول الله تعالى: ﴿فَوَيْلٌ لِلْمُصلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ سَاهُونَ * الَّذِينَ هُمْ يُرَاؤُونَ * وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ﴾ [الماعون:٤ - ٧].
فحتى منع الماعون الذي هو العارية داخل في الدين، وداخل في الوعيد بالويل والزكاة قد صار لها تعليم خاص، لكن هي كلها تخدم قضية الدين والتوحيد والارتباط بالله ﷿، ويقول الله تعالى: ﴿مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ * وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ﴾ [المدثر:٤٢ - ٤٦] فهذه أربع قضايا: اثنتان منها يسمونها فرعية.
إذًا: قضية المال وقضية الزكاة لها ارتباط عقدي كبير، وأوضح من ذلك -إذا كنتم تريدون نفس المصطلح- قوله سبحانه: ﴿وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ﴾ [فصلت:٦] من هم؟ ﴿الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ﴾ [فصلت:٧] وهناك ارتباط بين الزكاة وبين التوحيد والإخلاص، قال تعالى: ﴿خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا﴾ [التوبة:١٠٣].
وفيما يتعلق بالصيام، له ارتباط بالإخلاص وبالدين وبالتوحيد، قال ﵊: ﴿من لم يدع قول الزور والعمل به فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه﴾ والله تعالى قال عن الصائم في الحديث القدسي: ﴿يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي﴾ هذا هو التوحيد، وهذا هو الإخلاص، وهذا هو الارتباط بالله ﷿، وإن كان الصيام من الفروع.
1 / 15
الحج وارتباطه بالتوحيد
أما الحج فناهيك به في الحديث عن التوحيد، يقول جابر ﵁ وهو يحكي صفة حج النبي ﷺ، يقول: ﴿فأهل رسول الله ﷺ بالتوحيد﴾ فأول مداخل الحج: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك ولو استعرضتم آيات الحج في سورة الحج، لوجدتم ارتباط الحج بالتوحيد والتحذير من الشرك الشيء العجيب يقول الله تعالى: ﴿وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ * وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ * لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِير * ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ * ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ * حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ﴾ [الحج:٢٦ - ٣١].
ولا شك أن قضية ارتباط التوحيد بالحج، والتركيز على التوحيد في الحج مهم جدًا؛ لأنه مشاعر وشعائر تُؤدى، ومع الأسف أن هذا هو الذي أوقع بعض المسلمين فيما وقعوا فيه من التعلق بالأحجار وغيرها ولهذا كان التأكيد على قضية التوحيد في الحج أظهر منها في غيرها.
ولهذا كان وقوع بعض المسلمين في التعلق بالقبور من هذا الباب، والتعلق بالأضرحة، والطواف حولها، بسبب أن النفوس لم تُتعاهد بالتوحيد، وبالتذكير به، ولهذا كان الحديث عن التوحيد في الحج أظهر منه في غيره من الفرائض، وإن كان الأمر كما أوضحنا.
1 / 16
التوحيد وسيرة النبي ﷺ
الحقيقة عندي أشياء لا يتسع الوقت لإتياني عليها كلها، ولكني سأوجز فيما يتعلق بسيرة النبي ﷺ ومسيرة التوحيد في سيرته ﵊
كما قلت في مطلع الحديث: أن بعض الناس يظن أن التوحيد كان خاصًا بالعهد المكي، وبعدها كأن القضية انتهت، وهذا غير صحيح، فإن الرسول ﷺ من أول ما ظهر إلى أن توفي ﵊ وهو يدعو إلى التوحيد، ولم يفتر لحظة واحدة.
منذ أن نزل عليه: ﴿وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ﴾ [المدثر:٥] وهذه الآية من أوائل ما نزل -كما هو معروف- بل هي أصل دعوة التوحيد، وهذا أمر معروف، والأمر فيها أمر فردي.
ثم جاءت قضية دعوة الأقربين -لأن الدعوة كانت مرحلية- قال له: ﴿فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ * وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ﴾ [الشعراء:٢١٣ - ٢١٤] وهذا كله مكي، لكن لاحظ كيف كان التدرج في الدعوة.
ولما أمر بالصدع: ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ﴾ [الحجر:٩٤] ففيه تنبيه لقضايا التوحيد وقضايا التحذير من الشرك، وهذا التدرج شيء عجيب، وعجيب أيضًا ملاحظة العلماء لهذا، فإنهم ما تركوا شيئًا ﵏، وهذا الكلام ليس من عندي، بل هو في كتب متخصصة تبحث في التوحيد، وخاصة أن بعض العلماء لاحظ أن القضية ليست خاصة بالعهد المكي.
ثم في الهجرة قال الله عن نبيه قوله: ﴿لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا﴾ [التوبة:٤٠] وهذا توحيد.
وكذلك قُبيل الإذن بالقتال، قال الله تعالى: ﴿أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ﴾ [الحج:٣٩ - ٤٠] وهذا أيضًا تدرج، فإن المرحلة التي جاء الإذن فيها بالقتال يعتبرها الناظرون في تاريخ التشريع مرحلية، لأن الإذن بالقتال جاء متدرجًا، وحتى في هذا المرحلة كان فيها الحديث عن التوحيد، مع أن القضية المكية قد تكون انتهت بفتح مكة، قال الله: ﴿وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ﴾ [الإسراء:٨١] ومعلوم أن هذه الكلمة قالها النبي ﷺ وهو يكسر الأصنام التي حول الكعبة.
وفي كل بعوثه التي بعثها، ومعلوم أن البعوث كانت في المدينة حينما بعث عليًا، وحينما بعث معاذًا وأبا موسى، والرسل والكتابات كلها تدعو إلى التوحيد يقول ﵊ لـ معاذ: ﴿إنك ستأتي قومًا أهل كتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه شهادة أن لا إله إلا الله﴾ وكذلك علي ﵁ عندما بعثه إلى خيبر، وكما قلنا: أن النبي ﷺ وهو في مرضه الذي مات فيه كان يقول: ﴿لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد﴾ وهذا هو لب التوحيد في آخر أيامه ﵊.
وهناك نصوص أخرى غير ما ذكرنا لأن الموضوع ينبغي ألا ينتهي عند هذا، وكما قلنا في قوله ﷺ: ﴿لقنوا موتاكم لا إله إلا الله﴾ وكذلك: ﴿من كان آخر كلامه لا إله إلا الله دخل الجنة﴾ ﴿من أحق الناس بشفاعتك يا رسول الله؟ قال: من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه﴾.
وختامًا أقول: لم تخلُ فترة من فترات النبوة من إعلان التوحيد وشواهده ومحاربة الشرك وظواهره، بل يكاد ينحصر غرض البعثة كلها في ذلك، فما ترك ﵊ تقرير التوحيد وهو وحيد، ولا ذهل عنه وهو محصور في الشعب، ولا انصرف عنه وهو في مسالك الهجرة، والعدو مشتد في طلبه، ولا قطع الحديث عنه وأمره ظاهر في المدينة بين أنصاره وأعوانه، ولا أغلق باب الخوض فيه بعد فتح مكة الفتح المبين، ولا اكتفى بطلب البيعة على القتال، حيث كانت البيعة: ألا يشرك بالله شيئًا، ولم يفتر عن تكرار عرض البيعة على التوحيد ونبذ الشرك، فهذه سيرته المدونة وأحاديثه الصحيحة، والقرآن من وراء ذلك كله.
من أجل هذا كان التوحيد أولًا، وكان هو الأول، ولا بد أن يكون أولًا في كل عصر وفي كل مصر أقول هذا القول والله أعلم، وصلى الله على محمد وآله وصحبه وسلم.
1 / 17
الأسئلة
1 / 18
سبل الوقاية من الشرك
السؤال
فضيلة الشيخ: إن أمر الشرك عظيم وخطير، لذا نريد أن تبين لنا سبل الوقاية من الوقوع فيه؟
الجواب
من أهم السبل: العلم؛ لأن أكثر الذين يقعون في الشرك هم الجهال، وقد سبقت الإشارة قبل قليل إلى أن طريق تعليم التوحيد فيها بعض الخلل خاصة عند المتقدمين ﵏، فما كان ينبغي لهم أن يدخلوا في دقائق الجدل، ودقائق الأشياء، وإثبات الله ﷿، وإثبات وجود الله، وفيما يتعلق بطرق التنزيه والتعطيل، وكلام خاصة الخاصة، ولم يصلوا فيه إلى شيء، بل كان ينبغي علهيم أن يعلموا الناس بطريقة القرآن، ولهذا فإن شيخنا وإمامنا الإمام محمد بن عبد الوهاب ﵀ أتى بأحسن الطرق وأجملها فيما يتعلق بطريقة تعليم التوحيد في الحقيقة، فإن الأصول الثلاثة والقواعد الأربع، وكتاب التوحيد، من أجمل ومن أيسر السبل في أن يعلم الناس التوحيد بهذه الطريقة، ولا مانع من أنها تطور، لكن المسلك الذي سلكه فيه تبسيط وتسهيل، وخطاب للناس بما يعيشونه، وهذا هو المهم.
يقول ابن حجر الهيتمي، وهو شافعي معروف، وقد يكون له أشياء لا يوافق عليها، ولكنه قال كلامًا جميلًا، يقول: ينبغي منع من يشهر علم الكلام بين العامة؛ لقصور أفهامهم، ولأنه لا يؤمن أن يؤدي بهم إلى الزيغ والضلال، ولا بد من أخذ الناس بفهم الأدلة على ما نطق به القرآن ونبه عليه؛ إذ هو بين واضح يدرك ببداهة العقل، مع أن ابن حجر الهيتمي من الذين خاضوا في هذا، وله أمور لا يوافق عليها.
فالحقيقة أن طريقة القرآن في خطاب الناس وفي إثبات التوحيد والتحذير من الشرك، وقطع شجرة الشرك من نياط القلب، هي بطريقة القرآن، لكن أكثر ما يجنب الناس من الشرك هو العلم والتعليم والمحاضرات والدروس ووضع الرسائل الصغيرة، وخاصة فيما يتعلق بالسحر والكهانة والشعوذة، فإن هذه كلها نتيجة الخلل في التوحيد، وما أوقع الناس فيها إلا لخلل في التوحيد.
1 / 19
الحب والخوف
السؤال
فضيلة الشيخ: هل من أحبَّ شيئًا حبًا مفرطًا يقع في الشرك، أو من خاف من شيء خوفًا شديدًا يكون قد وقع في الشرك؟
الجواب
لا، إنما يقع في الشرك إذا كان يحبه كحب الله أو أعظم من حب الله، هذا هو الشرك، أن تحب الشيء كحب الله، أو أعظم من حب الله، أو أن تخاف الشيء كخوفك من الله أو أعظم، أما الخوف الجبلي فلا شيء فيه، نعم قد تخاف خوفًا عظيمًا، فإن بعض الناس إذا خاف تخرج منه أشياء، فالخوف هذا جبلي وفطري، وبعض الناس يخاف من ظلام الليل، وبعض الناس يخاف من السباع، وبعض الناس يخاف من أشخاص، فالخوف الفطري ولو ظهرت فيه مظاهر من الرعدة ومن القلق فهي أشياء طبيعية جبلية، إنما المقياس والميزان ألا يخافه كخوف الله، وألا يحبه كحب الله، ولهذا قال ﷿: ﴿وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ﴾ [البقرة:١٦٥].
قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى في قول الله: ﴿تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ﴾ [الشعراء:٩٧ - ٩٨] قال: إن الناس ما سووهم في الخلق والرزق، وإنما سووهم في المحبة والتعظيم، وكذلك في قوله تعالى: ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ﴾ [الأنعام:١] أي: يعدلون بربهم غيره في التعظيم، وفي الحب وفي الخوف وفي الرجاء، لا في الخلق والرزق، بل أحيانًا قد لا يعتقدون فيهم النفع والضر، ولكن يجعلونهم زلفى.
1 / 20