1
فوق السطح من غير ما عمل، ولم تزل تجري بنا طول هذا اليوم حتى إذا أوشكت الشمس أن توارى بالحجاب، وقارب الظلام أن يلقي أردانه على الكون الهادئ، أشرفنا على تخوم البحر الأعظم، حيث تنهض مدينة السمريين التي ينعقد من فوقها دجن
2
كثيف وظلمات داجية، فلا تنفذ إليها شعاعة من نور، ولا يحييها رسول شمس هذه الدنيا العاملة الدائبة، التي يسطع في سماوتنا ركبها الفخم، فهي أبدا في ليل متصل مدلهم، لا تنجاب عنها غواشيه، وهنا ألقينا مراسينا، وأنزلنا الكبش والشاه إلى البر، وانطلقنا فوق سيف البحر إلى حيث أمرتنا سيرس، وتركنا يوريلاخوس بن برميد عند القربانين، وعنيت أنا بحفر الوهدة فجعلتها ذراعا في ذراع، ثم شرعت أصب تقدمات الشراب باسم الموتى، فبدأت بمزيج اللبن والعسل المصفى، وأتبعته بالخمر المعتقة، وثلثت بالماء القراح، ثم نثرت على ذلك كله دقيق الشعير، وصليت من أجل الموتى، ونذرت - إن عدت إلى إيثاكا - أن أضحي لهم بعجل جسد ذي خوار يكون أسمن وأقوى ما في قطعاني أذبحه وأحرقه في نار مجللة بكل ما يشوق الأشباح من أرواح وطيوب، وخصصت الكاهن الطيبي «تيرزياس» فنذرت أن أضحي له بأحسن كباشي وأعظمها منة، ثم شمرت عن ساعدي، وذبحت القربانين فتدفق الدم في الوهدة، وهنا أهرعت الأشباح من كل فج، وأقبلت مهطعة كأسراب الدبى!
3
يا للآلهة، هنا زرافات العذارى جرعن كأس الحمام في ميعة الصبا، وهنا جموع الشباب اليانع كأفواف الزهر غالهم عادي الردى، وثمة عرائس تسربلن سواد الحزن، فاجأتهن المنايا ليلة الزفاف، وهناك أطفال كأكمام الورد لما تفتح قطفتهم أيدي المنون وعن كثب وقفت كواكب المحاربين الذين لطخوا بالدماء وجه البسيطة، والآباء والأمهات والأجداد ... أقبلوا يتدافقون نحو الوهدة صائحين صاخبين، قاذفين في قلوبنا الرعب، ثم هتفت برجالي فشرعوا يحرقون القرابين ويصلون لرب هذا الدار - بلوتو - ولزوجه، ورحت أنا أذود الأشباح الهائمة عن دم الضحايا بسيفي أضرب به ها هنا وها هنا، حتى لمحت روح رفيقي ألينور
4
الذي تركناه في أرض سيرس دون أن نقيم له شعائر الموت؛ لما كنا بسبيله من هموم! لمحت روح رفيقي فتصدعت، ثم ذرفت عبرات وعبرات، وكلمته قائلا: «ألينور يا صديقي، كيف وصلت إلى ظلمات هذه الدار الآخرة في مثل هذه السرعة ولم تحملنا إليها سفينتنا إلا بعد لأي؟ إليها عمرك الله هل سبحت في الهواء، أم طويت إليها الرحب ماشيا؟» وانهمرت من عينيه دموع ودموع، ثم قال يجيبني: «يا ابن ليرتيس النبيل، والمعروف في العالمين بالحكمة ودقة الفهم، لقد أودى بي السكر فسقطت من سطح سيرس فدق عنقي، وأسرعت من ثمة على درج الظلمات إلى هيدز؛ على أنني أستحلفك بكل عزيز عليك؛ ببنلوب بالنار المقدسة التي تتأجج عن قبسها حياتك، بولدك الأوحد تليماك أن تجمع ما تبقى من سلاحي وعتادي إذا عدت إلى سيرس، وإنك إليها لعائد حين ترجع أدراجك من عالم هيدز، وأن تحرق جثماني في نيران هذا العتاد، ثم تصلي لي وتضرع إلى الآلهة من أجلي حتى أقر هنا، وتهدأ في الظلمات روحي، وأن تغرس فوق الكومة التي تشمس رفاتي مجدافي العزيز الذي عملت به في البحر تحت إمرتك وفي ذرى سلطانك وقيادتك، حتى يذكرني في العالم الفاني الذاكرون.» ووعدته أني فاعل، ثم لم أزل أذود الأشباح عن الدماء المتدفقة، وفجأة لمحت بين أرواح الموتى شبح أمي! أمي المحبوبة أنتكليا ابنة الشجاع أوتوليكوس التي تركتها يوم يممت طروادة قوية، غريضة الصبا ريانة الشباب، وما وقعت عيني عليها حتى أجهشت وأجهشت، ثم انهمرت من مقلتي أحر العبرات، ومع ما كان يعتلج به صدري من الأسى عليها فقد ذدتها عن الدماء كذلك، وبي من الهم لتلك الفعلة ما أوهنني وأضواني، ثم أقبل نبي طيبة وكاهنها الجليل يتوكأ على عصاه الذهبية، وما كاد يحملق في قليلا حتى عرفني وخاطبني يقول: «لم غادرت الدنيا الدافئة المشرقة أيهذا التعس، وقدمت لترى هؤلاء الموتى ولتضرب في ظلمات هذا العالم العبوس؟ ولكن نح هذا السيف قليلا حتى أجرع من تلك الدماء، وإني لمحدثك حديث الصدق عما جئت من أجله.» وأغمدت سيفي وانحنى الكاهن فعب من الدماء ما شاء، ثم قال لي: «أوديسيوس، إنك تجتهد أن تعود أدراجك إلى بلادك، غير أن طريقك إليها محفوفة بالمكاره ممتلئة بالعقبات، وإن لك فيها لعدوا لدودا يتأثرك، ذلك هو نبتيون الذي أسخطته بما سملت عين ولده السيكلوب «بوليفيم» على أنك واصل بعد أهوال جسام إلى وطنك، فإنك إن كبحت جماح شهواتك أنت ومن معك فإنك واصل يوما إلى شطآن تريناشيا، وتكون قد أفلت من روع اليم وأرزائه، فإذا كنت ثمة فاحذر أن تمس قطعان رب الشمس السائمة في الجزيرة بأذى إن كنت حريصا على العودة إلى بلادك سالما مهما اقتحمت بعد ذلك من عباب وعقبات، فإذا مسها منكم أحد بأذى فويل لكم جميعا، إن فلكك تغوص إلى الأعماق ويغرق رجالك أجمعون، أما أنت فتنجو بعد جهد، وتلتقطك سفينة عابرة وتعود بك بعد شقاء وبلاء، وعناء أيما عناء، إلى وطنك الذي ينتظرك فيه ألف ويل وويل، ستجد قصرك المنيف محتلا بطغمة أشرار من عشاق زوجك الوفية لك، يريغون خيرك ويذبحون شاءك، ويغرون بنلوب بالعطايا والرشى لتختار بينهم بعلا لها، ولكنك ستنتقم منهم وتنتصف لما قدموا من سوء، وستبيد جموعهم فإذا تم لك النصر عليهم فانطلق من فورك إلى الشعب الذي لم ير البحر أحد من أهله ولم يذق الملح أحد منهم قط، وليكن معك مجداف عظيم يدلك عليهم، فإنهم إن رأوه عجبوا من منظره، وظنوه مذراة مما يذرى به القمح، فإذا عرفتهم فاغرس المجداف في أرضهم، وضح لنبتيون رب البحار بعجل جسد وكبش سمين وخنزير كناز،
5
ثم تبتل إليه وأخبت وانطلق إلى وطنك وضح بأحسن ما تملك من الشاء والنعم للآلهة، وصل لكل منها واخشع تعش آمنا غانما، وتمت بعد حياة هادئة موتة قريرة ناعمة بعد حكم عادل طويل وشيخوخة هانئة موفورة ... هذا من أنباء الحق عرفتها لك.»
ناپیژندل شوی مخ