مقدمة
بين مينرفا وتليماك
تليماك يجادل العشاق
في بيلوس؛ تليماك يسائل نسطور عن أبيه
العشاق يتآمرون
أوديسيوس يبحر من جزيرة كاليبسو
حفل أولمبي
في أرض المردة (السيكلوبس)
أوديسيوس يروي قصته
أوديسيوس يروي قصته: رحلة أوديسيوس إلى العالم الثاني
ناپیژندل شوی مخ
تمام قصة أوديسيوس
أوديسيوس يصل إلى إيثاكا
مع الراعي
عودة تليماك
أوديسيوس يلقى تليماك
أوديسيوس في قصره
أوديسيوس يتشاجر مع شحاذ
المرضع العجوز تعرف أوديسيوس
نذير من السماء
وما رميت إذ رميت ...
ناپیژندل شوی مخ
الانتقام الهائل
بنلوب، وأخيرا ... بنلوب!
أوديسيوس يصل إلى إيثاكا
مقدمة
بين مينرفا وتليماك
تليماك يجادل العشاق
في بيلوس؛ تليماك يسائل نسطور عن أبيه
العشاق يتآمرون
أوديسيوس يبحر من جزيرة كاليبسو
حفل أولمبي
ناپیژندل شوی مخ
في أرض المردة (السيكلوبس)
أوديسيوس يروي قصته
أوديسيوس يروي قصته: رحلة أوديسيوس إلى العالم الثاني
تمام قصة أوديسيوس
أوديسيوس يصل إلى إيثاكا
مع الراعي
عودة تليماك
أوديسيوس يلقى تليماك
أوديسيوس في قصره
أوديسيوس يتشاجر مع شحاذ
ناپیژندل شوی مخ
المرضع العجوز تعرف أوديسيوس
نذير من السماء
وما رميت إذ رميت ...
الانتقام الهائل
بنلوب، وأخيرا ... بنلوب!
أوديسيوس يصل إلى إيثاكا
الأوديسة
الأوديسة
لشاعر الخلود هوميروس
تعريب
ناپیژندل شوی مخ
دريني خشبة
مقدمة
هذه هي الملحمة الثانية - بعد الإلياذة - لشاعر الخلود هوميروس كما عربها وأعاد صياغتها دريني خشبة.
أجمع النقاد على أن «الأوديسة» أكثر عمقا ونبلا ورقة من سابقتها «الإلياذة»، وأجمعوا على أنها ملحمة الفضائل الحضارية - فضائل الوفاء والإيمان والأسرة والفن - بعكس الإلياذة التي كانت ملحمة فضائل البداوة وحياة الخشونة، وقالوا: إن «الأوديسة» تشيع فيها روح أنثوية رقيقة عذبة مستمدة من «بنلوب» زوجة البطل الوفية، ومن الربة «مينرفا» ربة الحكمة وحارسة أوديسيوس ومسددة خطاه.
والأوديسة هي قصة عودة البطل الإغريقي أوديسيوس أو أوليسيز، بعد سقوط طروادة، إلى وطنه ومملكته «إيثاكا»، لقد نسي البطل أن يقدم القرابين للآلهة بعد الانتصار وقبل إبحاره إلى وطنه، وفي الطريق وأثناء دفاعه عن نفسه وعن رجاله أوقع الأذى البالغ بأحد أبناء رب البحار نبتيون، فكان أن طارده الإله في البحر، وحكم عليه بالنفي لمدة عشر سنوات، ولم يستطع أن يعود إلى دياره إلا بعد أن نزل إلى العالم الآخر؛ لكي يستعلم من حكماء الموتى عن طريق العودة، وفي إيثاكا واجه البطل عشاق زوجته الذين حاولوا إجبارها على الزواج من أحدهم، فأبادهم جميعا قبل أن يكشف عن شخصيته ويستقر في بيته بين زوجته وولده.
وقد اعتمد دريني خشبة في صياغته العربية على نفس الترجمات الإنجليزية التي اعتمد عليها في صياغة «الإلياذة»، وقد ذكرناها في مقدمة الملحمة الأولى التي صدرت في روايات الهلال في أكتوبر سنة 1969م، وهي ترجمة «جورج تشابمان» في القرن السابع عشر، وترجمة «وليام كاوبر» في القرن الثامن عشر، وترجمة «ألكسندر بوب» في القرن الثامن عشر أيضا، وترجمة «وليام إيرل أوف دربي» في القرن التاسع عشر.
كذلك اعتمد دريني خشبة في ترجمته للأوديسة على نفس الأسلوب الذي اعتمد عليه في ترجمة الإلياذة، فقد حافظ بأمانة على الأحداث الروائية وروح النص، وإن كان قد أعاد بناء الأحداث وترتيبها لتناسب ذوق القارئ الحديث، وهو نفس الأسلوب الذي اعتمد عليه المترجمون الإنجليز وخاصة «جورج تشابمان».
بين مينرفا وتليماك
أنشد يا هوميروس!
وظل في فم الأبد قيثارته المرنة، ونايه المطرب، وعوده الآن، ونغمته الحلوة الحنون.
ناپیژندل شوی مخ
أنشد يا شاعر العصر الخالي.
وحل في الأسماع موسيقى مدوية، وفي العيون دموعا جارية، وفي القلوب رحمة ومحبة، وانفح عرائس الشعر من لدنك سلطانا، وحكمة وبيانا، وسريرا وصولجانا.
تغن يا شاعر أولمب!
ولترسل من جنتك نغمة تنتظم الأفلاك، ورنة تجلجل في الأفق، وآهة تزلزل قلوب الجبارين! •••
سقطت إليوم،
1
ونزح المغير بخيله ورجله، فتعالي يا عرائس الفنون فافتقدي أوديسيوس في ذلك البحر اللجي يذرعه، موجة تلبسه وموجة تخلعه، لا يعرف لمملكته ساحلا فيرسو عليه، ولا شاطئا فيقصد إليه، يخبط في اليم على غير هدى، ويرسل عينيه في الماء والسماء على غير بصيرة؛ زرقة متصلة في العلو والسفل، وتيه لا نهائي يخبط في أحشائه أسطول السادة المنتصرين.
والأقدار وحدها تعلم لماذا ضل أوديسيوس بجنوده في ذلك العباب؟ وقد عاد كل أقرانه إلى هيلاس بعد طول النأي وشحط المزار، إلا هو وإلا هم ، ممزقين في دار الغربة كل ممزق، يتجشمون المصائب والأهوال، ويتخبطون بين موج كالجبال، ويخلصون من بحر إلى بحر، ومن روع إلى روع، فإذا أرسوا على أرض وظنوا أنهم نجوا، أفزعهم فيها غير الذي رجوا.
ولقد رقت قلوب الآلهة، وودوا لو أدركوا برحمتهم أوديسيوس، إلا نبتيون الجبار - رب البحار - الذي يضمر للبطل في أعماقه كل كراهية وكل بغضاء، والذي آلى أن يصب على رأسه كل تلك الأرزاء.
عندما ينشد شاعر الأولمب تحل في الأسماع موسيقى مدوية وآهة تزلزل قلوب الجبارين.
ناپیژندل شوی مخ
وحدث أن كان نبتيون في حرب مع الإثيوبيين، فانتهزها الآلهة فرصة سانحة، وعقدوا مجلس الأولمب في ذروة جبل أيدا، وتفضل الإله الأكبر «زيوس» فافتتح الجلسة بكلمة مخلصة توجع فيها لما يلقاه بنو الإنسان من صروف الحدثان، واستطرد فذكر مأساة أجاممنون المسكين، وما لقيه على يدي زوجه وعشيقها الأثيم إيجستون من غدر وغيلة، ثم أنحى باللائمة على هؤلاء البشر البائسين الذين يقولون إن كل ما يصيبهم من خير وضير هو من عند الآلهة، وما هو إلا من عند أنفسهم، ولكن لا يفهمون!
ثم نهضت مينرفا ربة الحكمة ذات العينين الزبرجديتين، فأيدت ما قال أبوها سيد الآلهة، وأثنت عليه، ثم ذكرت أوديسيوس؛ «ذلك التعس المسكين الذي تخبطه
2
وصحبه البحر، وقضى عليه - دون أقرانه جميعا - أن يشقى هذا الشقاء الطويل عند عروس الماء الفاتنة كالبسو في جزيرة أوجيجيا ثمانية أعوام أو يزيد. ما ذنبه؟ ما جريرته؟ لماذا ينفى هذا العبد الصالح في أقصى الأرض يا أبي، إنه خير عبادك أجمعين، أذكر كم ضحى في الأضحيات باسمك، وقدم القرابين من أجلك، وحارب أعداءك، وجاهد شانئيك! لقد نمى إلي أن كالبسو تحاول جاهدة أن تستميل قلب البطل، وأن تنسيه وطنه إيثاكا، يا للهول! كيف يا أبتاه؟! وهذه الزوجة التاعسة بنلوب؟ بنلوب المحزونة المرزأة، بنلوب التي صبرت وصابرت طوال هذه السنين على ما كرثها الدهر به من بعد زوجها، بنلوب التي حافظت على طهرها وإخلاصها، أتظل هكذا سجينة في قصرها المنيف الباذخ؟ ويظل هذا القصر محاصرا بعشاقها المجانين من أمراء الأقاليم؟ أبي! يا سيد الأولمب، ألا تدرك برحمتك أوديسيوس وترده إلى وطنه ليذود هذه الكلاب التي ولغت في حوضه، وكادت تخوض في عرضه؟ تداركه يا أبي، تداركه بعطفة واحدة منك، وإنك على إنقاذه لقوي مكين.»
واستجاب لها سيد الأولمب، وقضى أن يعود أوديسيوس إلى إيثاكا، لكنه ذكرها برب البحار نبتيون، وذكرها بما بينه وبين البطل من ترات وثارات، «سببها هذه الفعلة الجنونية التي فعلها أوديسيوس بواحد من السيكلوبس
3
أبناء نبتيون؛ إذ اقتلع عينه الواحدة التي كان ينعم بسبيلها بزينة الحياة. اطمئني يا بنية وقري عينا، إننا نحن الأعلون، وسيرى نبتيون أنه لن يغلب الآلهة مجتمعة أبدا.»
وشاعت الغبطة في أعطاف مينرفا، وتضرعت إلى مولاها أن ينفذ ولده هرمز إلى جزيرة أوجيجيا، فيأمر عروس الماء كالبسو أن تعد مركبا عظيما لأوديسيوس ورفاقه؛ ليعودوا عليه إلى أوطانهم، ثم ذكرت أنها ستمضي من فورها إلى إيثاكا حيث العشاق المآفين يحاصرون قصر بنلوب، وحيث ابن أوديسيوس المنكود، تليماك، يشهد خراب مملكة أبيه ولا يستطيع أن يحرك ساكنا لصغر سنه؛ «إني سألهب إحساسه، وأفتح عينيه على ما ينبغي، سأجعله يخرج من هذه العزلة المعيبة ليبحث عن والده؛ فإنه لم يعد طفلا بعد.»
هبطت مينرفا من السماء إلى الأرض، وانقلبت فاتخذت شكل الآدميين، ولمحها تليماك، وهب للقائها.
وانطلقت مينرفا فربطت نعليها السحريين على قدميها الجميلتين، وحملت رمحها العظيم الذي تقطر المنايا من سنانه، ووضعت تاجها المرصع على رأسها الكبير، وأطلقت ساقيها للريح، حيث كانت بعد لحظة على مقربة من قصر أوديسيوس، فهبطت من السماء إلى الأرض، وفي لمحة انقلبت فاتخذت شكل الآدميين، وتخايلت في هيئة الأمير منتش
ناپیژندل شوی مخ
4
وطيلسانه، ثم تقدمت فدخلت ردهة القصر الواسعة، حيث اجتمع العشاق المجانين من أجل وليمة، وتلفتت يمنة ويسرة، ورأت الفتى السادر الساهم الحزين تليماك، وقد تعقدت فوق جبينه هموم وهموم، وتغضنت ملء أساريره آلام وآلام.
وما هو إلا أن لمحها تليماك حتى أخذه من هيبتها شيء عظيم، فهب للقائها مسرعا، ثم مد إليها يده مصافحا وهو لا يعرف من هي، وقال: «مرحبا مرحبا بالغريب المكرم! هلم فشارك في ذلك القرى، ولنتحدث بعدها فيما أقدمك إلينا، مرحبا مرحبا وأهلا وسهلا.» ودلف نحو الصالة المزخرفة، وتبعته مينرفا وفي يمناها رمحها الجبار الذي يقدح من سنانه الشرر، حتى إذا بلغا العمود الأكبر الذي أسندت إليه مئات الرماح، والذي كان أوديسيوس يسند إليه رماحه وعدة حربه، تناول تليماك الرمح وأسنده بعد جهد، حيث برز بكل عظمته وكل جلاله بين رماح العشاق الفاسقين. وتقدم نحو أريكة وثيرة منعزلة، وسأل مينرفا فاستوت عليها، وكانا ثمة بمأمن من أن يستمع إليهما أحد. وأقبلت جارية فينانة رائعة تحمل طستا وإبريقا من الذهب، فصبت الماء على يدي الضيف ويدي تليماك، ثم مضت فأحضرت مائدة نسقت عليها الورود والرياحين، ونشط النادل
5
يحمل أطباق الطعام والفاكهة والحلوى، فيأتي بها ملأى، ويمضي بها فارغة. والندمان
6
فيما بين ذلك يجذب الزق
7
إليه ويسقي، ثم يسقي، وشرع العشاق المجرمون بدورهم يلتهمون ما لذ وطاب من أكل وشراب. حتى إذا انتهوا شرع فيميوس نايه وانطلق يغني.
وانتهز تليماك فرصة انصراف القوم إلى لهوهم وشرابهم فساءل الضيف قائلا: «يا أعز الأصدقاء، أرأيت إلى أولئك الفساق؟ لو أن رب البيت هنا أكانوا يلهون لهوهم هذا أو يفسقون فسوقهم هذا؟ كلا، لقد كانوا إذن أسرع إلى الهرب منهم إلى ذلك الطرب، ولكن، أواه! أين هو؟ أين أوديسيوس العظيم الذي انقطعت عنا أخباره، ويئست من أوبته دياره؟ ولكن حدثني بربك من أنت؟ ومن أي الأقاليم قدمت؟ ومن رجال البحر الذين ألقوا مراسيهم عند إيثاكا؟ أغريب أنت أيها السيد؟ أم كنت فيما خلا من الزمان من أصدقاء أبي وأحبائه؟»
ناپیژندل شوی مخ
وقالت مينرفا ذات العينين الزبرجديتين: «ليهدأ بالك يا بني؛ فإني مجيبك على كل ما سألت؛ إنك ترى الآن منتش أمير «جزيرة الطافيان» البحارين، وسليل إنخيالوس الكبير، ولقد أبحرنا من جزيرتنا ميممين شطر جزيرة النحاس من أجل ذلك المعدن الثمين، وسفائننا ملقية مراسيها بالقرب من غابات «نيوس»، ولقد كنا ولا نزال من أحب ضيفان أبيك وأودهم إلى فؤاده ، فلما سمعنا بما حل به من شدة، وببيته من لأواء، استوحينا آلهتنا فخبرتنا أنه لا بد عائد إلى وطنه سالما غانما، وأنه لا بد منتقم من هؤلاء الفجار الأشرار، ولكن خبرني بأربابك أفي الحق أنك ابن أوديسيوس العظيم؟ إن ملامحك تشبه ملامحه، وإنك لقريب الشبه منه جدا، وإن هذا البريق الذي يشع من عينيك هو نفسه الذي كان يشع من عيني أوديسيوس ... يا للآلهة! كم سمرت إلى أبيك قبل أن يشد رحاله إلى طروادة، فهل يقدر لي أن أسمر إليه مرة أخرى؟ إنني من وقتها إلى اليوم لم أره، وهو كذلك لم يرني. ألا ما أشوقني إليه! ما أشوقني إليك.»
وشاع بارق من الأمل في نفس تليماك فقال: «ويحك أيها الصديق، إنني أنا ابن أوديسيوس، ما في ذلك ريب، والعالم كله شهيد على ذلك.»
ثم اختلطت الزرقة بالخضرة في عيني ربة الحكمة وقالت: «على رسلك يا تليماك! إذن فما هذه الولائم وتلك السمط؟ وهذا الزحام من أين أقبل؟ إني لأقلب ناظري في القوم فلا أرى شريفا ذا حسب يستأهل أن يحتفى به أو يقام له وزن.»
ويبتئس تليماك ويجيب: «أيها العزيز، لقد هاجرت الفضيلة من هنا في أثر المهاجر العظيم، وكانت آلت ألا تعود إلا معه، وكان هو - تداركته السماء - يلقنها هؤلاء بنظرة واحدة تكفي لتزول منها الجبال؛ وا أبتاه! لقد أطمع العاديات فينا بطول نأيه. فيا للنوى! إننا لا ندري اليوم أين مقره ولا أيان مستودعه. ولو قد خر تحت أسوار إليوم لاجتمع الإغريق من كل حدب هنا، هنا؛ في حاضرة إيثاكا ليذرفوا دموعهم من أجله، وليقيموا له صحائف صدورهم بمداد أبدي من التبجيل، ولكن وا أسفاه! لقد انتصر انتصار الأبطال، ثم مضى على وجهه وراء البحار في فجاج الثبج، وغدونا لا تحلم العين بنظرة مفردة منه، ولا الأذن بلفظة عذبة من لسانه المبين، تباركت يا آلهة الأولمب! ماذا عندك من الأقضية المخبوءة لي؟ الذئاب! أي يا آلهة هذه الذئاب! وحوش البرية التي اجتمعت من كل فج؛ من الجزائر المتناثرة في البحر، ومن المدائن المترامية في البر، من ساموس ودلشيوم وزاكنثوس، ومن كل إقليم وكل مصر ... كلهم يرابطون حول هذا القصر، ولا يستحيون. الفساق الأوشاب العرابيد يطلبون يد الزوجة الوفية، الأم المكلومة؛ بنلوب! بنلوب الباكية المحزونة المصدعة، كنز أوديسيوس الذي لا يفنى، يطلبون يدها ولا يرحمون وفاءها وبكاءها ولأواءها؛ لا تستطيع أن تردهم لعجزها، ولا تستطيع أن تجيبهم وهي لا تدري من أمر زوجها. وهم طوال هذه السنين يريغون نعماء أبي، فكهين في أشربات وآكال حتى أقفر الزرع وجف الضرع، وما أحسبهم مبقين على شيء، حتى علي!» •••
وانثال الحنان في فم مينرفا إذ هي تجيب الفتى المحزون: «ويح لك أيها الفتى! رحمتا لك يا بني الصغير! أواه! لو أن أباك هنا اليوم ليذود أولئك المناكيد! وحق السماء لو أنهم رأوه وهو يلاعب رمحيه أو يداعب سهامه لأجفلوا وولوا مدبرين، إن له لسهاما مسمومة سقاها أبي بعد إذ رفض أن يسمها إيلوس بن مرمريس،
8
وهو لو صوبها إلى أولئك المفاليك لأبادهم. يا رحمتا له إن أحدا غير الآلهة لا يعلم إن كان لا يزال حيا يرزق أو هو قد ابتلعه اليم أو عاجلته المنون. تليماك! يا ابن أعز الناس علي، أصغ إلي، وع الذي أقول: إنك لست طفلا بعد، فلم لا تشمر عن ساعد الجد وتبحث بنفسك عن أبيك؟! لم ترض أن يلطخ شرف بيتك هؤلاء الفجار؟ لم لا تكلمهم بنفسك في أمر أمك؟ ولم لا تصرفهم عن هذه الدار إلى بيت جدك ليطلبوا إليه يد ابنته إن شاءوا؟ أليس أبوها أليق لهذا الشأن من كل رجل سواه ما دام أوديسيوس لم يؤب؟ لم يربضون هنا كسباع الفلاة يوهون ثروتك ويأكلون مالك، ويذهبون بالأخضر واليابس مما ترك أبوك؟ استمع لما أقول يا تليماك، نبئ القوم فليجتمعوا لك، ولتسمعهم كلمتك ولتصارح أمك إن هي أرادت منهم بعلا فلتنصرف إلى بيت أبيها؛ فهو أولى بهذا الأمر من كل أحد، ثم انهض أنت يا ابن أوديسيوس، فابحث عن أوديسيوس. أعد ما استطعت من سفين وزاد، وميرة وعتاد، ولتبحر على بركة الآلهة، فلتذهب أولا إلى «بيلوس» حيث الحكيم الباسل نسطور، ثم إلى أسبرطة حيث صاحب هذه الداهية منلوس.
9
أقلع بفلكك إلى هذين فسائلهما أين مضى أبوك؛ فقد تقع منهما له على خبر، ولتكن لك أسوة في الفتى الجريء المقدام أورست الذي قتل قاتلي أبيه
10
ناپیژندل شوی مخ
وفيهم أمه. بوركت يا أورست، بوركت يا أورست! هلم يا تليماك؛ فقد تعود بأبيك حيا، فيرد الشرف والمجد إلى هذا البيت، وقد تعود به ميتا فترفع ذكره، وتقيم قبره، وتخلد في العالمين أثره، والآن فلأنهض أنا إلى رجالي وسفني، فلقد بعدت طويلا عنهم. وكلي يقين يا بني أن تقدر نصيحتي، وعلى الآلهة فلنتوكل.»
الورود وأطباق الفاكهة والحلوى للعشاق الذين استغلوا غياب أوديسيوس العظيم الذي انقطعت أخباره.
وحين انتهت مينرفا من هذا الحديث حدجها تليماك وقال: «أيها الصديق حبا، ويا أبر الأوفياء سمعا، لقد أيقظت في ضميرا أنت أحييته، فألف شكران لك. أبدا لن أنسى كلمتك: أنا ابن أوديسيوس! فلأبحث عن أوديسيوس.» وحاول الفتى أن يقدم لمحدثه هدية سنية تكون تذكار هذا اللقاء، ولكن مينرفا شكرته وأبت أن تأخذ شيئا: «فإذا نجحت في مسعاك يا بني فسوف أعود، وسوف أقبل أية هدية منك.»
ثم انطلقت ربة الحكمة ذات العينين الزبرجديتين، ولشد ما ذهل الفتى ووقف مسبوها مشدوها حين رأى هذا الأمير «منتس» ينتفض انتفاضة هائلة فيكون نسرا قشعما يضرب الهواء بجناحيه ثم يعلو ويعلو، فيكون في السماء ويغيب عن ناظريه.
ولم يحس الفتى يوما بما أحس به الساعة من هذه الذكريات الملحة على فؤاده تهيج فيه الشوق إلى لقاء أبيه، وجدد الثقة عنده وأكدها فيه يقينه أن إلها يساعده هو هذا الضيف الذي أرسل جناحيه وغاب في السماء.
وانطلق تليماك حيث جلس الفساق يستمعون إلى أغاني فيميوس، وحيث وجد أمه في الشرفة العليا تستمع هي الأخرى إلى تلك الأغاريد بين قيانها من وراء ستار صفيق وتبكي، وتسأل فيميوس أن يتغنى غير هذا الغناء غناء لا يثير شجوها وشحنها، وتثور النخوة في قلب الفتى فيصيح بأمه: «علام العويل يا أماه؟ وما وقوفك هذا الموقف تسترقين الغناء؟ وما اعتراضك على المغني؟ دعيه فليتغن ما يشاء، فلقد غدونا سخرية القضاء وهزو المقادير. ولقد ذهب أوديسيوس وذهبت معه كرامة هذا البيت، وإني لصاحبها بعده. فادخلي وليدخل معك قيانك، ولتقمن جميعا بشئون المنزل، ولتخلن إلى مغزلك ومنسجك، ودعي كل ما عدا ذلك للرجال؛ لي، لي أنا وحدي؛ سيد هذا القصر!»
وأثرت مقالة الابن في نفس أمه؛ فانثنت مع قيانها إلى مخدعها بالطابق العلوي حتى إذا خلت إلى نفسها ذرفت من الدمع على أوديسيوس ما شاء لها حزنها أن تذرف. أما تليماك فقد انطلق وسط القوم ونادى بأعلى صوته: «أيها الفساق! يا عشاق أمي، خذوا في لهوكم وتمتعوا قليلا أو كثيرا، فإذا كان الغد فاجتمعوا في الساحة الكبرى، فإن لي كلاما معكم؛ سأطلب إليكم أن تشدوا رحالكم من هنا، أتسمعون؟ لقد طالما أتلفتم لنا زادا وعتادا، ألا فلتلتمسوا الزاد والعتاد من عند أنفسكم، ولتقيموا أفراحكم وولائمكم في غير هذا المكان، فإن أبيتم فإني مستعين بالآلهة عليكم، ولتقتص منكم السماء بما جرحتم.»
وما كاد يفرغ من قالته حتى عضوا على أصابعهم لمفاجأتهم بهذا الكلام الخشن الذي لم يعتادوه، ونهض أنتينوس من مجلسه وقال: «تليماك، لقد حق لك أن تخاطبنا بهذه الشجاعة، ولكن يا لشؤم اليوم الذي تتوجك السماء ملكا فيه على إيثاكا؛ عرش آبائك وأجدادك.»
ويجيب تليماك: «ليس أحب إلي من الملك حين تخلعه علي السماء، غير أن أمره إليكم اليوم إن كان قد قضى أوديسيوس، أما أنا فلا أريد إلا أن أكون سيد هذا القصر، ولا غرو؛ فإن هذا من حقي.»
وأجابه يوريماخوس: «إن من حقك أن تقول ما تشاء يا أخانا تليماخوس، أما ملك إيثاكا فالسماء وحدها تؤتيه من تشاء. ولكن قل لنا بربك: من هذا الضيف الذي كان معك الساعة؟ هل من قبل أبيك أقبل، أو أن له عليكم دينا؟ إن أحدا منا لم يلقه ولم يره، ولكنا لمحناه من بعد، عليه سيماء النجابة والجلال ، من أين أقبل يا تليماك؟ وفيم قدم؟»
ناپیژندل شوی مخ
وأصلح تليماك من شأنه وقال: «أيها السيد يوريماخوس، إن يقيني أن أبي قد انتهى، ولن تغريني هذه الكلمات المعسولة التي يتشدق بها المنجمون. أما هذا الضيف ... هو من أصدقاء أبي طبعا، وقد أقبل لمجرد الضيافة، وهو الأمير منتش أمير البحارين، وسيد تافوس، وابن سيد هذا الزمان، الملك الشجاع إنخيالوس.»
قالها تليماك وهو أعرف الناس بضيفه، ثم انثنى كل إلى مخيمه، وانثنى تليماك إلى مخدعه بالطابق العلوي، حيث كانت مربيته يوريكليا تنتظره وتوقد له الشموع والسرج، يا لها من أنثى طيبة تخلص لمولاها وتحنو عليه! لسرعان ما خلع ملابسه فعطرتها وحفظتها، ولسرعان ما هيأت له فراشه الوثير!
وقضى تليماك ليلة نابغية ممتلئة بالهواجس والأفكار.
بعد ضياع أوديسيوس هاجرت الفضيلة هذا القصر العظيم وطمع العاديات في أهله.
تليماك يجادل العشاق
موهت أورورا
1
ابنة الفجر الوردية مشرق الأفق، فهب ابن أوديسيوس من مرقده وأصلح من شأنه وتقلد سيفه،
2
ثم انفتل مختالا، كأحد آلهة الأولمب من باب مخدعه، وجعل يقلب عينيه في هذه الخيام المضروبة التي تملأ حديقة القصر والتي يثوي فيها أولئك الفجار الأشرار عشاق بنلوب، وتلبث قليلا وفي القلب لظى، وفي النفس كلوم، ثم صاح بالملأ فهبوا مسرعين، وأخذوا ينسلون إلى الردهة الكبرى، حتى إذا انتظم عقدهم والتأم شملهم تقدم هو متهدجا نحو عرش أبيه، وفي يمينه رمح ظامئ إلى تلك الدماء النجسة التي تتدفق في أبراد تلك الذئاب، وعن جانبيه كلباه الضاربان، وفي عيني كل منهما جمرتان، وكانت مينرفا نفسها تضفي على الشاب سيماء النبل، وترقرق فوق ناصيته أمواها من العظمة والمجد؛ لتقذف منه الرعب في قلوب أعدائه حتى لبهرهم أن يروا في تليماك ذاك الضرغامة المختال.
ناپیژندل شوی مخ
وما كاد الفتى يستوي على عرش آبائه الصيد وأجداده الصناديد، حتى نهض شيخ يحمل فوق كاهله السنين الثقال، وتشتعل في رأسه شيبة التجاريب وجلائل الفعال، وكان هو إيجبتوس بعينه، إيجبتوس المسكين الذي بعث بولده أنتيفوس في أسطول عظيم وجند لجب؛ ليشارك في حرب إليوم مع أوديسيوس؛ فنازل وناضل ، وكر وفر، وجال وصال، وصمد وانتصر. ولكنه، وا أسفاه! لم يعد إلى أوطانه في العائدين، بل صحب أوديسيوس في رحلته المشئومة وراء البحار حيث أكله السيكلوب الوحش فيمن أكل، وقف إيجبتوس بين أبناء له ثلاثة؛ أحدهم من عشاق بنلوب، ثم قال: «أيها الرفاق، يا أبناء إيثاكا النبلاء، إنها أول مرة منذ أن بارح أوديسيوس بفلذات أكبادنا ندعى فنجتمع مثل هذا الاجتماع، فمن ذا الذي دعا إليه؟ وماذا يبتغي؟ أنفحة من نفحات الشباب؟ أم زفرة من زفرات الشيب؟ أم خبر من جيشنا الهالك يبشر بعود؟ لينهض باركته السماء فليحدثنا عما دعانا إليه.»
وتناول تليماك صولجانه من قواسه، وتقدم حتى كان في وسط القوم، وجهر فقال: «أنا السيد الوقور صاحب هذه الدعوة، أنا تليماك بن أوديسيوس صاحب هذه الدار، وصاحبكم ومولاكم من قبل، لقد دعوتكم لأشكو إليكم بثي وحزني، لا لأزف إليكم بشريات الجيش المفقود لا يعلم مصائره إلا زيوس! لقد فقدت والدي ووالد الإيثاكيين جميعا، ثم أنا اليوم حبيس هذه الدار، أسير هؤلاء العشاق
3
الذين يطمعون في الزواج من أمي، غير متقين في عرضي إلا، ولا راعين لأبي ذمة، يذبحون النعم
4
ويريغون
5
الزاد، ويعاقرون ابنة العنب، ولا يبالون أن يهلك الزرع والضرع ما داموا يبيتون وبطونهم ملأى، ويبيت غيرهم على الطوى! لقد استباحوا هنا كل شيء، ما دام لا أوديسيوس هنا فيردعهم، ولا حول لي فأغل أيديهم، ولا ضمائر فيصيخوا إلى قولي ويرحموا ضعفي، ويذهبوا من فورهم إلى جدي فيخطبوا إليه ابنته إن أرادت أحدهم بعلا، فهو بها أولى وبشأنها أحق. إنكم ضعفاء أيها الإيثاكيون الأوفياء، ولو استطعتم لرددتم عني غائلتهم؛ فلقد طفح الكيل، وحزب الشر، وعم الأذى، والآن أوجه إليهم قولي، ولن أستحي أن أصارحكم مرة أخرى أيها العشاق، اخجلوا إذن، ولتصبغ الفضيلة وجناتكم بحمرة الحياء، اذكروا ما عسى أن يعيركم به جيرانكم، واخشوا قارعة تحمل عليكم من أربابكم، واتقوا يوم تلقونهم تودون لو تلقفتكم الصواعق. يا قوم، أستحلفكم بسيد الأولمب، بربة العدالة ثيميس، إلا ما تركتموني أقضي البقية الباقية من أيامي في شقوتي وجدي، هل أجرم أبي مرة مع أحد منكم فأنتم اليوم تأخذونني بجريرته؟ فيم إذن مقامكم هنا؟ وفيم إذن تستنزفون آخر قطرة من خمري دون مقابل؟! اذهبوا، اذهبوا، ودعوا تليماك البائس تحز في نفسه أشجانه، وتبري اصطباره بلواه.»
ودق الأرض بصولجانه، وانفجر يبكي، وكأنما انهمرت دموعه في نفس القوم، فوجموا وجوما شديدا، ولم ينبس أحدهم ببنت شفة، حتى نهض أنتينوس آخر الأمر فقال: «لله بيانك يا تليماك! لقد كنت مصقعا حقا، ولكنك لم تصب كبد الحقيقة حين قصرت علينا اللوم، وحين لا ملوم إلا أمك، لقد خدعتنا جميعا طوال سنوات ثلاث كادت تتم أربعا، إذ رسائلها تترى علينا، تحيي في نفوسنا الآمال وتذكي فينا الأماني، لقد كانت وعودها تترادف كالبروق الخلب، وتتراءى كالسراب المضل، لقد اتخذت لها منسجا وطفقت تعمل عليه وهي تغرر بنا، وتقول: «أيها الإغريق، لقد قضى أوديسيوس، ما في ذلك ريب، وكلكم تطمعون أن تفوزوا بزوجته، ولكن أبي ليرتيس رجل شيخ وهو يدب بخطى وئيدة إلى حافة القبر، أفليس أخلق بي وبكم أن تنتظروا حتى أنسج له هذا الثوب لتكون منه أكفانه؟ وحتى لا أكون مضغة في فم الإغريقيات إن تركته برغم ثروته الطائلة وليس له كفن يضم رفاته.» ولقد أجبنا سؤلها وتلبثنا طويلا، نرجو لو تفرغ من نسج هذا الكفن، بيد أنها كانت تنقض بالليل ما تنسجه بالنهار، وهكذا دواليك، ظلت تخادعنا تلك السنين الثلاث حتى فضحت سرها إحدى وصيفاتها؛ إذ حدثتنا به واستطعنا أن نضبطها وهي تنقض غزلها أنكاثا في ضوء المشاعل في جنح الليل، فأجبرناها على إتمامه بالرغم منها. هذه هي الحقيقة يا قوم، والآن فلترسل أمك أيها الفتى إلى أبيها، وليختر لها من بيننا بعلا، أو فلتختر هي لها بعلا، أما إذا عكفت على ختلها بنا فلتثق أن شيئا منه لم يعد يجوز علينا مهما ظنت أنها أحذق من نيرو أو أكيس من الكمينا أو أبرع من ميسينيه.
6
ناپیژندل شوی مخ
حسبها ما خدعتنا! وإنا نقاسمك يا تليماك أننا لن نبرح عاكفين على ما شكوت من ذبح لنعمك، وإراغة لزادك، ومعاقرة لخمرك حتى تختار لنفسها، أو فلتعف هذه الدار، ولينضب معين خيرها.»
وشاعت الكبرياء في كل جارحة من جوارح تليماك، فقال: «أنتينوس! ماذا أصابك؟ كيف تسألني أن أقهر أمي التي غذتني ونشأتني على غير ما ترضاه؟ كيف أطردها من قصر بعلها الذي لا يعلم غير الله إن كان حيا أو ميتا؟ لبئس ما أجزيها به، ولشد ما أغضب أبي وأثير غضب الآلهة علي إن فعلته، إنها ستدعو إيرينيس كي تنتقم لها مني، وستنصب علي لعنات الناس جميعا، ويحك أيها الرجل! لن أقولها أبدا، بل اذهبوا أنتم فسلوها ما شئتم، فإما أجابت طلبتكم، وإلا فانصرفوا غير مأجورين، اذهبوا فأولموا ولائمكم في غير هذا القصر، وأريغوا من زادكم، وأنفقوا مما تحبون، أما إن رأيتم أنه أحلى لكم أن تأكلوا مال غيركم؛ فإني سأهتف أبدا بالآلهة أن تقتص لي منكم، فهي محيطة بكم.»
شرع العشاق المجرمون يلتهمون ما لذ وطاب، ثم شرع فيميوس ليغني.
وما كاد يفرغ تليماك من مقالته حتى أرسل سيد الأولمب نسرين عظيمين طفقا يضربان الهواء بخوافيهما، ثم جعلا يدومان فوق الملأ ويقدحان الشرر من أعينهما نذيري ردى وصيحة منون، ثم انطلقا نحو المدينة وغابا في ظلام البعد.
وشده القوم، وريعت أفئدة العشاق وأخذوا يتخافتون. ثم نهض فيهم القديس هاليتير بن نسطور المعروف بورعه وصدق نبوءته، فقال: «أيها الناس، يا أبناء إيثاكا، اسمعوا وعوا، ليحذر العشاق المعاميد ما يخبئ لهم الغيب من شر أوشك أن ينقذف على رءوسهم، إن أوديسيوس حي يرزق، وإنه عائد إلى وطنه، بل إنه ليغذ السير إلى هنا، وإنه ليحمل الموت الأحمر إلى خصومه، والخير الأخضر إلى مواطنيه، أنا هاليتير قديسكم الذي لا يكذب قد أنبأته قبل أن يبحر إلى طروادة بذلك النبأ وأنه عائد إلى وطنه بعد أن ينتصر على أعدائه، ويذيقهم ضعف ما صنعوا، ولن يجديهم أن يتوبوا أو يندموا، وليأتينكم نبؤه بعد حين.»
وسخر القوم منه واستهزءوا به، وقام يوريماك يرجمه بهذه الكلمات: «انقلب إلى دارك أيها العجوز الخرف، هلم إلى أحفادك الكسالى فتنبأ لهم بما ينبغي أن يأخذوا حذرهم منه، لقد قصف المنون عود أوديسيوس الفينان، فليته قصف عودك كذلك! طير؟! ها إن الطير طالما يستنسر في سماء إيثاكا، إن أكبر الظن أنك تطمع في منحة من ابن مولاك تليماك، ولكن أصغ إلي، لتكن لك منحة منا إن تنبأت له عما يكاد يذهب بك وبه من بطشتنا إن لم يختر لنفسه، أسمعت؟ لقد نصحنا له أن يرسل أمه إلى بيت أبيها ليختار لها الكفء الذي ترضى به فلم ينتصح، وأنا أرسلها كلمة صريحة في غير مين؛ إننا لن نبرح عاكفين على ما نحن فيه من هذا الخير حتى تخضع بنلوب فنمضي مأجورين، وثق أيها الشيخ المهيب الخرف أن نبوءاتك لن تفزعنا، بل هي تضاعف سخطنا عليك وبغضاءنا لك، ألا ما أطيب الإقامة هنا! لتزدد بنلوب عنادا؛ فإنا لن نزداد إلا جلادا.»
ونهض تليماك فقال: «على رسلك يا يوريماك، وعلى رسلكم أيها العشاق جميعا، لقد أرسلتها كلمة حق فلم تستمعوا لها، أبدا لن أضرع إليكم مرة أخرى. الآلهة بيني وبينكم، والإغريق أجمع أعلم بأمري وأمركم، غير أن لي طلبة إليكم بودي لو أنلتموني إياها؛ فهل تسمحون لي بمركب وعشرين بحارا فأقلع من فوري هذا إلى بيلوس ثم إلى أسبرطة، عسى أن أسمع خبرا عن أبي، أو أتلقف نبوءة من سيدة الأولمب الذي بيده ملكوت كل شيء. إني إذا أيقنت أن أبي لا يزال حيا فقد أوفق في العثور عليه ولو بعد حين، أما إذا استيقنت من هلاكه فإني عائد إلى إيثاكا فمقيم له نصبا يتفق وهذا المجد الباذخ والذكر التليد، ثم يكون لي مطلق الحرية في منح أحدكم يد أمي فتكون زوجه المخلصة إلى الأبد، بعد أن أتم لأبي كل المراسم الجنائزية؛ لتقر روحه العظيمة وتسكن إلى ربها في ظلال هيدز.»
7
وكان في المجتمعين رجل تبدو عليه مخايل النبل، وتتقد في رأسه جمرات المشيب، تهالك على نفسه حين وقف ينافح عن تليماك، فإذا هو الشيخ منطور الذي كان أوديسيوس قد استخلفه على أهله قبل إبحاره إلى طروادة لصداقة قوية كانت تجمع بينهما. قال منطور: «اسمعوا إلي يا أهل إيثاكا، ما لكم اليوم قد نسيتم آلاء ملككم أوديسيوس عليكم، وهو الذي كان يرعاكم كأب، ويغدق عليكم من فيضه العميم؟ ما لكم قد تقاعستم دون هؤلاء العشاق الذين يذهبون بخير مولاكم ويأكلون مال ابنه بغير الحق، وهم قل وأنتم كثر، آمنين مطمئنين، لا يرهبون أوبة مفاجئة من البطل الشريد؟»
وهاجت كلمة الرجل كوامن العشاق فهب أحدهم وهو ليوكريتوس يقول: «رويدك يا منطور! أيها الثرثارة العجول، كيف تجرؤ أيها الرجل فتثير الشعب على العشاق وهم سادتك؟ هل أعجبتك كثرتهم يا منطور؟ إذن فأبشر بعجزهم دون ما ابتغيت، وثق أن ملك إيثاكا نفسه لن يستطيع معهم شيئا إذا حاول إخراجهم من بيته هذا - إذا قدر له يوما أن يعود - إنه إذا فعل فسيذوق وبال أمره، ولن تنال منا حماقاتك ولا نبوءات هاليتير، وبنلوب نفسها لن تسر بأوبة أوديسيوس، ولكن اسمع أيها الشيخ، إنه لن يضيرنا أن يذهب تليماك فيذرع البحر باحثا عن والده، وله أن يتخير من السفن ما يشاء.»
ناپیژندل شوی مخ
وتفرق القوم وأهرع العشاق إلى خيامهم، وانقلب تليماك إلى سيف البحر، حيث وقف فوق صخرة ناتئة يناجي مينرفا: «أيها الربة المباركة، يا إلهة الحكمة مينرفا، يا من كنت أمس ضيفة مكرمة تحت سقف هذا البيت أصلي لك - أنا تليماك التعس - وأبتهل أن تباركيني وتسددي خطواتي، وأن تكوني رائدي الأمين في عباب هذا البحر، وأن تشدي أزري وتكوني معي إلبا على هؤلاء الفساق العرابيد، وأن تشرقي في ظلماتي البعيدة، وأن تحلي أمنا وسلاما علي. يا مينرفا، يا مينرفا، استجيبي يا ربة العدالة.»
واستجابت مينرفا وأقبلت في صورة الأمين منطور حتى كانت قبالة تليماك، ثم شرعت تكلمه كلمات هن أروح من أنفاس الفجر، وأندى من نسمات الورد، وأعذب من قطرات الندى: «السلام عليك يا تليماك، السلام عليك حين تثبت أنك ابن أوديسيوس الوفي، وفرع دوحته الوارف، وحيث تبدو فيك بدوات من حوله وطوله وقوة بأسه، وحين تقلع على بركة السماء، وفي عناية الآلهة ورعاية سيد الأولمب، في رحلة لن تكون عبثا. أنت ابن أبيك يا تليماك، أتى بك من بنلوب، وآية ذلك هذه الروح القلقة التي تشيع فيك من أجله، وهذا الجبروت الذي هو نفحة منه، وذاك الصوت الجبار الذي يتلجلج في فمك كأنه فيض من لسانه، وذلك الذكاء الوقاد الذي هو قبس من ذهنه العظيم ... بشراك يا تليماك! لا يحزنك خبال أعدائك؛ فقد أوشك القضاء أن ينقض على رءوسهم فيحطمهم. أنا، أنا هذا الشيخ المهدم، صديق أبيك وأمينة منطور، سأكون معك، وسأخدمك، وأسهر عليك، وأفديك، ولكن لتمض الآن فلتعد للرحلة ما هو حسبها من زاد وعتاد، ونخبة أولي بأس من رجالك الأقوياء، وسأنتقي أنا نفسي أشدهم مراسا وأصدقهم عزيمة. امض على بركة الآلهة، امض لا وقت لدينا فنضيعه، هلم.»
وسكتت مينرفا، ولكن حرارة كلماتها أشرقت بالآمال في نفس تليماك، فذهب وقلبه يخفق بألف أمنية إلى القصر؛ حيث رأى العشاق يذبحون ويعدون نار الشواء، وحيث قفر أنتينوس للقائه ساخرا مستهزئا: «تليماك! ناشدتك الآلهة إلا ما شاركتنا غداءنا واطرحت بغضاءك هنيهة! هلم تحس من هذه الخمر قرقفا أيها الصديق، لا يشغلك أمر هذه الرحلة؛ فقد أمرنا أن يعد لك الآخيون سفينة عظيمة، وقدرا من الزاد كبيرا، وعصبة من الرجال أولي قوة، وستبحر قريبا فتذرع البحار وراء أبيك. هلم، هلم.»
ولكن تليماك عبس عبوسة قاتمة ثم قال: «أنتينوس! إليك عني فما أستطيع مشاركة خصومي السفلة غداءهم، ولا لي قلب فأشرب النخب من يدك، لا بورك لكم هذا الذبح الذي لا يحل لكم، والذي استبحتموه من غير حق، إذ أنا طفل أحبو! أجل، لأستعجلن لكم الخراب، ولأسعين في حتفكم، ولأذهبن إلى بيلوس فأنتصر إذ عزني النصر في إيثاكا، أيها الذئاب، حتى سفائني وعتادي تنكرونها علي.»
وكان اللئيم قد أمسك بيمين تليماك كالمصافح المستهزئ، ولكن تليماك جذبها ساخطا، وترك الكلاب تغمزه وتلمزه، وتستهزئ بهذا العون الذي يرجوه من بيلوس، وتلك الجحافل التي يأمل أن يجردها عليهم من أسبرطة ... «ومن يدري؟ فقد يهتدي إلى أيفير المثمرة فيجد في أعشابها بقلة يدس لنا منها في كئوسنا فتريحه منا»، «بل من يدري؟ فلقد يبتلعه اليم كما ابتلع أوديسيوس من قبل، وتكون هناك الطامة، إنا إذن نقتسم هذا المتاع وتلك الضياع، ثم نمهر أحدنا الذي تختاره بنلوب بعلا لها بهذا القصر المنيف.»
تركهم تليماك ومضى قدما إلى غرفة أبيه بالطابق العلوي، حيث كنوزه التي لا تقدر من عدة للحرب، وذهب مدخر، وخمرة معتقة، وروح أذفر، وخز وديباج، ودر وجوهر، ومغافر
8
أعدت لليوم المنتظر؛ يوم يعود أوديسيوس فيظفر ويقهر، ويطهر بيته من ذاك النفر.
ووجد عندها حارستها يوريكليا فصاح بها: «ربيبة يوريكليا، هيا صبي من خمرك في زقاقي من مدامتك التي ادخرتها لأبي. لا لا، ليس من صفوتها يا ربيبة، احتفظي بصفوتها له، املئي اثني عشر دنا، وهيئي عشرين جوالقا من دقيق، هيا، أعديها كلها لتحمل إلى سفينتي بعد أن تنام الملكة؛ لا يعلمن أحد بأمر رحلتي إلى بيلوس وأسبرطة، حتى ولا أمي، سأرحل ثمة، سأتسمع أخبار.»
أورورا ربة الفجر في الميثولوجية اليونانية وإحدى تابعات أبوللو.
ناپیژندل شوی مخ
وصمت تليماك هنيهة، واستعبرت ربيبته يوريكليا، وأرسلت هذه الكلمات على أجنحة من الحنان، وفي أنسام من الرحمة: «رويدك يا بني، أي سفر وأي نوى؟! لقد انتهى أوديسيوس وانتهى معه كل شيء، وهو اليوم رفات سحيق في رمس عميق في بلد لا نعرفه، أتسافر يا تليماك ليأتمر هؤلاء الذئاب وقد يسلطون عليك من يغتالك، ثم يستصفون كل مالك بعد ذلك؟ حاشا يا بني، لتبق معنا نحن الذين أحببناك واصطفيناك، فيم تذرع عباب هذا البحر ولا رجاء لك في مطمح، ولا ثقة لك في شيء؟»
وأجاب تليماك في رفق: «رويدك أنت يا ربيبة، إني لم أعتزم شيئا من تلقاء نفسي؛ إنها السماء هي التي توحي إلي، ولكنني أستحلفك بكل أربابك ألا تقصي شيئا مما اعتزمته على أمي إلا بعد أحد عشر يوما أو اثني عشر يوما من رحيلي؛ فإنها لو علمت بسفري لأظلمت في عينيها مباهج الحياة ، وذهبت نفسها علي حسرات.»
وأقسمت يوريكليا بكل أربابها، وانثنت تهيئ دنان الخمر وأحمال الدقيق.
أما مينرفا، أما ربة العدالة والحكمة الخالدة، ذات العينين الزبرجديتين، فقد يممت شطر البحر وقصدت إلى المرفأ، حيث لقيت تويمون بن فرونيوس سيد الملاحين، سألته إحدى جواريه المنشآت فأعد لها واحدة من خيارها، وما كادت ذكاء تلج في خدر الأفق، وما كاد الشفق يبكي فيصبغ بدموعه جبين السماء حتى كان الملاحون قد هيئوا القلوع ونشروا الشراع، وخبروا مجاديفهم، وأحضروا عددهم، وتزودوا من السلاح، وكانت مينرفا نفسها تستحثهم؛ فسرعان أن تهادت السفينة ورقصت نشوى فوق هامات الثبج.
وذهبت مينرفا في صورة منطور وفي طيلسانه، فأشرفت على عصبة العشاق، وتمتمت بكلمات فانتشر الظلام فوق خيامهم، ولعب النعاس ملء جفونهم، وكانت الكئوس لا تزال تقهقه في أيديهم، فسقطت عن غير عمد لتسقي الأرض من تحتهم شرابا.
وطفقوا، تحت طائف الكرى، ينسلون إلى خيامهم ...
ريعت أفئدة العشاق وأخذوا يتخافتون.
وأدلفت مينرفا نحو القصر لتلقى تليماك: «تليماك، هلم، البدار! أنت هنا وكل رفاقك في الفلك المشحون ينتظرونك! هلم، يجب ألا نضيع وقتنا سدى.»
ونهض تليماك وسارت مينرفا، وسار هو في أثرها حتى كانا عند سيف البحر وحتى أشرفا على السفينة. «مرحبا يا رفاق، هلموا فاحملوا هذه الدنان وتلك الأحمال إلى السفينة، لا أحد يعلم أمر رحلتنا حتى ولا أمي، إلا ربيبتي.»
وامتثل الملاحون أمر سيدهم، ثم تقدمت مينرفا فركبت السفينة ومن ورائها ابن أوديسيوس، وجلست هي عند الدفة، ونشط البحارة فهيئوا المركب. وحدجت المغرب ربة العدالة بعينيها الزبرجديتين فهبت النسمات رخاء، ورقصت تحتها الأمواج من طرب، وانتصب تليماك واقفا يحث رجاله، واضطرب الماء تحت السفينة واصطخب، وصب القوم دنانا من الخمر تقدمه للآلهة وقربانا لمينرفا وتحية لا تبيد.
ناپیژندل شوی مخ
واحلولك الليل وتدجى غيهبه، ثم انجاب ظلامه عن فجر مبين!
في بيلوس؛ تليماك يسائل نسطور عن أبيه
برزت ذكاء من لجة المشرق فصبغت آرادها
1
الذهبية جبين الأفق النحاسي، وسكبت الأضواء الجميلة لتهدي إلى السبيل السوي، وألقت السفينة مراسيها تلقاء بيلوس - مدينة نليوس -
2
حيث وجدوا القوم على الشاطئ يقربون القرابين باسم بوسيدون ذي الشعر اللازوردي، وقد جلسوا في صفوف تسعة، وفي كل صف خمسمائة شيخ عنيد، وذبحت كل فئة قرابينها؛ تسعة عجول سمان ذوات خوار فأكلوا الحوايا،
3
وضحوا بالسواعد والأفخاذ، ثم أقبل تليماك وبين يديه مينرفا تتهادى وتقول: «تليماك! تشجع يا بني، ولا تجعل للاستيحاء سبيلا إلى نفسك، وتقدم إلى أمير هذه البلدة الصنديد نسطور؛ فقد تكون لديه أخبار عن أبيك، وقد يجلو لك الشكوك التي تخامرك، وثق أنه لن يخفي عليك من أمره خافية؛ فقد تقدمت به السن، وهو اليوم أحكم الناس.»
ويقول تليماك: «أواه يا منطور، ما أحسبني أقوى على لقاء الرجل، وأنا من تعرف من قلة الشأن ورقة الحال أنا الفتى الحدث، أنى لي بقاء الشيخ ذي التجاريب؟»
ناپیژندل شوی مخ
وتجيبه ذات العينين الزبرجديتين: «لا عليك يا بني، إن هي إلا كلمات تقولها وعلى الله قصد السبيل، العالم كله يعرف أنك نشأت في ظروف قاهرة ما كان لك بها يدان.»
ودلفت مينرفا، ودلف في أثرها تليماك، حتى كانا في وسط القوم، وحيث جلس نسطور العظيم بين أبنائه، وحيث اشتغل أهله بالشواء، وهب الجميع للقائهما، وتقدم ابن نسطور الأكبر بيزسترانوس، فصافحهما هاشا، وتلقاهما باشا، وأجلسهما.
فوق الفراء المبثوث إلى جنب أبيه، وأخيه الأصغر تراسميديس، وقدم لكل مضغة من حوية، ثم كأسا ذهبية من خمر معتقة، تذوقها قبل أن يحيا بها، ثم قال مخاطبا مينرفا: «مرحبا بك أيها الضيف المكرم، لقد شرفت في عيد نبتيون، وبودنا لو أفرغت باسمه ما في هذه الكأس من خمر صلاة له وزكاة، ونرجو لو أشركت في التقدمة زميلك، فما أحسبه إلا محبا للآلهة خابتا لها.»
وتبسمت مينرفا، وتناولت الكأس في وقار، وأرسلت هذه الصلاة باسم رب البحار: «نبتيون العظيم، تقدس اسمك، وأحاط باليابسة ملكوتك ... يا منقذ الضالين، ومغيث المتضرعين، أدرك بلطفك التائبين إليك، ونجهم من دأمائك ببركة أسمائك، مولاي وتقبل من نسطور ومن ذريته، وتقبل من جميع أهل بيلوس أضحياتهم، ثم تفضل يا مولاي فسدد خطى تليماك وخطاي إلى ما أقلعنا فوق هذا المركب الشاحب من أجله؛ آمين آمين!»
وتناول تليماك الكأس بدوره، ثم أفرغ ما فيها وتمتم بصلاة قصيرة، وما كاد يفرغ حتى تفرق المدعوون من أهل بيلوس طاعمين شاكرين، إلا مينرفا وصاحبها إلا نسطور وولديه. ثم قال نسطور: «أما وقد فرغنا من غدائنا فماذا أيها الوافدون؟ من أنتم؟ ومن أين حملكم هذا البحر؟ أتجار أنتم؟ أم قرصان تملئون الشطآن ذعرا وفزعا؟»
واستجمع تليماك شجاعته، ونفخت فيه مينرفا من روحها، وتكلم فقال: «على هينتك يا ابن نليوس العظيم يا فخر هيلاس، إني أنا ابن صديقك وصفيك أوديسيوس، سعيت إليك من أقصى الأرض أسائلك عن أبي، أبي صفيك وخليلك الذي صال معك تحت أسوار إليوم وجال، ثم لا أحد يعرف من أنبائه اليوم شيئا، لقد انتهت إلينا أخبار الأبطال اليونانيين جميعا، وعرفنا مصارعهم إلا إياه؛ أين رقد؟ وأنى ثوى؟ وأيان قرت رفاته إن كان قد شالت نعامته، أو مضى على وجهه في الأرض إن كان لا يزال حيا ... إن الآلهة نفسها لا تشاء أن تدلنا من أخباره على أثر، ولشد ما أخشى أن يكون قد ثوى هناك؛ في أعماق مملكة نبتيون مع الجميلة أمفتريت؛
4
لذلك سعيت إليك يا فخر هيلاس؛ كيما تحدثني عن أبي، وكيما تذكر لي بعض ما تعرف عما ألم به إن كنت قد شهدته، أو تقص علي ما عسى أن تكون قد سمعته من بعض حاشيتك التي تجوب هذه البحار، قل، تحدث يا نسطور ولا تخف عني شيئا، قل؛ إني أستحلفك بكل ما كان يفتديكم به في ساحة اليوم أن تقص علي أنباءه؛ لقد كان يحبك ويجلك ويوقرك، فاجز ابنه بعض ذلك.»
وكأنما رأى نسطور حلما لذيذا فقال: «ويحك أيها الصديق الشاب! ما أروع ما هجت ذكريات الماضي المفعم بالأشجان! ذكريات السادة الذادة والمغاوير الصناديد، الذين سقطوا تحت أسوار إليوم العتيدة فأرووا ثرى الميدان بدمائهم، وسطروا آية المجد بمهجهم؛ آية أخيلوس يا سليل الآلهة، وبتروكلوس يا معجز الأنداد والأقران، وأجاكس، أجاكس الذي كان أمة وحده ، لقد رقدوا جميعا تحت قلاع بريام الجبار الشيخ، ورقد معهم ولدي، يا ولدي، أواه يا قطعة قلبي، وفلذة كبدي، وثمرة حياتي وسؤددي! يا أشجع الشجعان يا أنتيلوخوس، أية قصة وأية مأساة؟! يرعاك الله أيها الشاب المحزون، أنى لي أن أقص عليك أحداث سنين تسع كانت هموما متصلة وأحزانا فاجعة وآلاما تتسعر في جميع القلوب؟! أي لسان ذرب يقص فلا يمل؟! وأي مقول رطب يحكي وما يعيا؟! إلا لو أنك أقمت تسمع الأعوام الطوال فما أحسب القصة تنتهي، القصة التي لم تجد فيها شجاعة الألوف لولا خدعة أوديسيوس وحيلته، وطول أناته وهمته، ولكن حدثني بربك أيها الشاب، أئنك حقا لولد أوديسيوس؟ أجل، إنك بملامحك وقسماتك غصن دوحته، وإنك بكلماتك العذاب عسلوج أرومته، أوه أوديسيوس، يا رفيق الشباب وحبيب القلب، لشد ما تعتلج في النفس تلك الخاتمة الهائلة التي قضاها على الأرجيف
5
ناپیژندل شوی مخ
سيد الأولمب غب انتصارهم وقبيل أوبتهم! لقد حنقت مينرفا على ولدي أتريوس إذ تنازعا، فقال قائل منهما: نضحي لربة العدالة عند سيف البحر تلقاء إليوم، ولكن الآخر أبى وأبحر على أن يقدم لها القرابين في آرجوس، يا للتعسين؛ أجاممنون البائس، ومنلوس المسكين! إنهما لم يصليا لمينرفا فحاق بهما غضبها، وعبثا حاولا بعد ذلك أن يترضياها، اختلف الأخوان ونام الجند حتى مطلع الفجر، ثم أقلع نصف الأسطول في موج ثائر مصطخب من غضب الآلهة بقيادة أجاممنون، وما هي إلا سويعات حتى هدأ اليم ونام الموج، وبلغنا تندوس فذبحنا الأضحيات باسم الآلهة، وسبحنا لرب البحار نبتيون فتطامن العباب، ولكنا ما كنا ندري ما تنسجه يد جوف
6
حولنا، بل لم يكن يخامرنا أقل شك في وصولنا إلى الوطن سالمين؛ ذلك أن أوجه النظر اختلفت ثمة، ونشب بين القادة نزاع في الرأي؛ هل يقلعون من تندوس؟ أو يتلبثون بها حتى تنجلي العاصفة التي شرعت تهب في عنفوان وشدة؟ وهنا آثر ملاحو أبيك أن يعودوا أدراجهم بسفائنهم إلى طروادة؛ وذلك مجاملة للقائد العام، بيد أني لم أر هذا الرأي، بل فررت من العاصفة بسفائني إلى جزيرة لسبوس ولحق بنا ديوميد، ثم وصل منلوس في أثره وأرسينا ثمة، وانتظرنا إذنا من السماء، أو قل بارقة من الآلهة، نقلع بعدها. وكانت العاصفة تشتد وترقص فوقنا ومن تحت أساطيلنا، فلم نر بدا من المجازفة وإلا تكسرت جوارينا على الصخور وفوق الأواذي. يا للهول! لقد بلغت قلوبنا الحناجر قبل أن نصل إلى جيريستوس، حمدا لك يا نبتيون وثناء عليك، وقل أن نذبح باسمك ألف قربان من كل عجل جسد وكبش حنيذ، ولقد فاز ديوميد فوصل بجنوده سالما على آرجوس، وكذلك فاز الجبابرة الميرميدون، جنود أخيل، بقيادة شبله العظيم نيو بتوليموس، فوصلوا إلى أوطانهم غانمين، ووصل من بعدهم فيلوكتيتيس، كذلك وصل أجاممنون وليته لم يصل، لا ريب أنك سمعت بما حاق به، لقد قتله المجرم إيجستوس،
7
ولكنه دفع روحه ثمنا لفعلته، إن العيش لم يطب لابن أجاممنون حتى ثأر لأبيه، فانقض كالصاعقة على قاتله وغاله بيده، يا للفخار أيها الصديق الشاب حيني، تنتقم لأبيك فتسجل اسمك في سجل الخالدين!»
وشاع العجب في نفس تليماك، فقال: «ويك نسطور! إنه سيكون انتقاما عادلا بحق السماء، وستتغنى الأجيال القادمة بقصته، وسيرويه الخلف عن السلف كم ذا وددت لو مكنت لي الآلهة في أعناق هذه العصبة الفاجرة من العشاق الآثمين الذين يدلون علي بعددهم وعددهم، والذين يقذفون في وجهي بالإهانة تلي الإهانة. وا أسفاه! ليت شعري لم لا تؤيد الآلهة حقي على باطلهم؟ لقد نفد اصطباري وكلت حيلتي، فماذا أعمل؟»
وقال نسطور: «أيها الصديق، لقد أذكرت مني غافلا. ويحك تليماك! لقد تناقل الناس ما كان من حماقة هذه الطغمة التي تستبيح عرض أوديسيوس وتستنزف ثروته، ولكن من يدري هل أمنوا أن يعود يوما فيستأصل شأفتهم ويديل منهم وتكون له الكرة عليهم؟ لقد كان أبوك العظيم حبيب مينرفا وصفيها، وهي لا بد آخذة بناصرك كما أخذت بناصره من قبل، وهي لا بد مدركتك وشيكا، وحائلة بين أعدائك وأعداء أبيك، وبين هذه الزيجة المجرمة.»
ويجيب تليماك: «ألا من يدري؟ إنه لا أمل في ذلك قط، آه أيتها الأحاسيس الغريبة التي تجيش في قلبي! الآلهة فقط هي القادرة على تحقيقك بمعجزة.»
تفرق القوم وأهرع العشاق.
وهنا حدجته مينرفا بنظرة هائلة من عينيها الزبرجديتين، وقالت له: «تليماك! أية كلمة هائلة زل بها لسانك؟ ما أيسر على الآلهة أن تقول للمستحيل: كن فيكون! أنا نفسي كم تجشمت أهوالا في أسفاري ثم عدت بعناية أربابي سالما إلى أرض الوطن! بل كم من أناس ظنوا أنهم نجوا من الموت في يوم غشيهم بموج كالظلل، فلما وصلوا إلى البر حاقت بهم مناياهم كما حاقت به منيته أجاممنون، حين خر صريعا بيد إيجستوس الأثيم ويد زوجه الملكة
ناپیژندل شوی مخ
8
الغادرة الفاجرة الزنيم! حقا إن الآلهة لا تملك أن تحول بين المرء وبين المنون ما دام قد جاء أجله مهما يكن حبيبها وأعز عبادها عليها.»
وعبس تليماك عبوسة خفيفة وقال: «مهما يكن من الأمر فلندع هذا الآن يا منطور، إنني لا أمل لي مطلقا في عودة أبي، ولكنها أقضية من السماء ومقادير أن أذرع وراءه البحار، وأن أعود فأسأل فخر اليونان نسطور، اللبيب الأريب الذي حكم كما هو مأثور أجيالا ثلاثة، والذي يتألق في عينيه سناء الآلهة ... أعود فأسائله كيف قتل أجاممنون؟ وكيف تهيأ لإيجستوس أن يقتله، وهو من هو أعلى منه نسبا وأعز حسبا وأشرف قدرا؟ وأين كان منلوس الملك شقيق أجاممنون؟ ألم يكن قد عاد بعد إلى أرض الوطن؟ أم كان لا يزال يطوي الآفاق، فشجع ذلك إيجستوس ونفخ في قلبه؟»
وقال نسطور: «رويدك أيها الصديق الشاب؛ فإني قاص عليك نبأ ما لم يأتك به علم؛ تالله لو لم يقتل إيجستوس قبل عودة منلوس ما أقيم على رفاته جدث، وما بكت عليه عين، ولألقي بدنه النجس لكلاب البرية وطير الفلاة تنوشه وتمزقه وتغتذي به جزاء فعلته الشنعاء وجرمه الذميم وخطيئته التي لا تغتفر، أصغ إلي؛ لقد أناب منلوس عنه حارسا أمينا يسهر على أمور المملكة، ذاك هو أتريدس الحميم الذي تغفله إيجستوس، واتصل بمولاته سرا وهو لا يدري، واستطاع أن يدبر معها هذه المؤامرة الشنيعة التي انتهت بنفي الحارس الأمين ثم قتله في برية موحشة غالبته فيها السباع الضارية والأوابد
9
الكاسرة، حتى إذا خلا لهما الجو أسلست له المملكة القيادة فحكم وساد، وطغى واستبد، وسلط على البلاد أعواما سبعة طوالا ... كل هذا والسماء ساهرة لا تغفل، فقد عاد أورست ابن الملك الغائب وابن الملكة الفاجرة، فأنقذ عرض أبيه وقتل الوحش اللئيم الذي دنس شرف المملكة ولطخ بالوحل هذا المجد الأثيل، ثم قتل أمه ... أجل، قتل أمه وجمع حوله الأرجيف البؤساء يحتفلون بهذا النصر ويصلون للآلهة التي أنقذتهم من ذاك الشر، وبينا هم في أفراحهم وانشراحهم إذا بالملك العظيم يصل بأساطيله بعد رحلة طويلة محفوفة بالمخاطر؛ فلقد أبحرنا (أنا ومنلوس) من طروادة معا، وما كدنا نبلغ صنيوم،
10
أول مرافئ أثينا، حتى وقع ما لم يكن لنا بحسبان؛ ذلك أن رب الشمس أبوللو غال بسهامه التي لا تطيش ربان الأسطول العظيم فرونتيس، فاضطر الملك أن يلقي مراسيه حتى يصلي على صديقه ويقيم الشعائر على جثمانه، ثم أقلع وما كاد حتى اضطرب البحر وفغرت اللجج أفواهها، وتدافع الموج حول الأسطول كالجبال، وعتم الجو، وغامت السماء، وانقضت الصواعق، فانشعب الأسطول، وتفرقت سفائنه وانشطرت وحداته؛ فبعضها شرق، وبعضها غرب، وبعضها يمم شطر سيدورن عند كريت، وبعضها اتجه برغمه نحو شطآن مصر، وبعضها غاص إلى الأعماق، وخمس فقط، وصلت بعد طول الجهد إلى هنا.» «بني، أيها الصديق الشاب، أخلق بك أن تذهب من فورك إلى منلوس فتسائله عن أبيك؛ فلقد لقي الأهوال في البحر، ولا ريب أنه سمع كثيرا مما جرى فيه من مختلف الأمم في رحلته المشئومة. هلم، انطلق إليه، وإن لم تسعفك سفينتك فإني ممدك بكل ما تحتاج من مركب البر أو البحر، وها هم أولاء رجالي معك أينما توجهت، بل ها هم أولاء أبنائي، ليصحبك أحدهم أو كلهم إلى منلوس؛ فإن عنده الخبر اليقين.»
وكانت الشمس قد توارت بالحجاب، والليل قد نشر ظلامه فوق الطبيعة المنهوكة الخامدة، فنهضت ابنة زيوس العظيم، مينرفا الخالدة، وهي لا تزال في صورة منطور أمير البحر وطيلسانه، فقالت: «مرحى يا فخر هيلاس! لقد قلت حقا وتكلمت صدقا، هلم البدار البدار، قطعوا ألسن القرابين
11
ناپیژندل شوی مخ