وأقبل يوريلاخوس ينتفض من الذعر، وينعقد لسانه فما يكاد يبين، ثم هدأ روعه قليلا فطفق يصعقنا بأنباء ما رأى: «أوديسيوس يا ذا المجد، لقد ذهبنا نتحسس كما أمرتنا، ونرود هذا الوادي الأشب فوجدنا قصرا مشيدا فوق أكمة عالية وسط بطيحة منخفضة ذا قبة سامقة جلست تحتها امرأة أوربة - لا أدري - وهي لا تفتأ تعمل على منسج بخفة وصنعة، وترسل ألحانا حنونا حلوة، وما كادوا يهتفون بها حتى نهضت فلقيتهم بالبشر وفتحت بابها على مصراعيه فدخلوا جميعا - حاشاي - فقد أوجست خيفة، ووقر في قلبي أن ثمة شركا نوشك أن نتردى فيه، وقد راقبت رفاقي إذ هم جلوس لحظة غير قصيرة، ثم هالني ألا أراهم فجأة.» وما كاد ينتهي قفزت إلى سيفي فتسلحت به وأخذت قوسي وسهامي، وأمرته أن ينطلق بين يدي إلى حيث ذهبوا من قبل، ولكنه ركع أمامي وتعلق بساقي وجعل يرجو ويلحف في الرجاء ألا أذهب؛ «فإنك لن تفشل في إعادة رفاقنا فقط، بل قد تفشل في أن تنجو بنفسك، فانطلق بمن بقي منا، ويا حبذا لو استطعنا الفرار.» ولكني أجبته أن له أن يبقى هو فيأكل ويشرب في السفينة، ويكون بنجوة مما فزع منه، أما أنا فلم أر ضرورة لبقائي.
وانطلقت لا ألوي على شيء، ولكني قبل أن أبلغ البطيحة التي بها القصر لقيني هرمز الحبيب إله العصا السحرية، وكانت مخايل الصبا وبداوات الشباب تتدفق في بردتيه، وحمرة الورد تلتهب في خديه، لقيني فصافحني متلطفا وقال: «أيها التعس، أيان تضطرب وحدك في هذه الأرض، وقد حبست سيرس من أرسلت من رجالك في حظائرها بعد أن سحرتهم إلى خنازير شقية؟ هل أقبلت لتنجيهم؟ أم جئت لتحتجزك معهم إلى الأبد؟ ولكن أصغ إلي، إني سأحبط ما فعلت، وسأحميك وأحفظك، خذ هذا العقار،
5
ولا يهمك بعد أن تدخل قصر سيرس فإنه ينقذك من كل خطر! وهلم أعلمك ما عندها من السحر، إنها ستمزج لك كأسا من الشراب بما عندها من رجس، وستضع لك منه في طعام تقدمه لك، فكل وارو ولا تبال، فهذه البقلة العجيبة التي أعطيك ستحبط كل ما تحيك لك فلا تقدر على مسخك كمن مسخت من رفاقك، فإذا عالجتك بعصاها السحرية فاهجم عليها بسيفك غير هياب، وأرسل إليها شرر الغضب من عينيك فإنها حينذاك تنقاد لك، وتقودك إلى فراشها وتحتال عليك بصنعة الحب وتلطفات الهوى، فإياك أن تنصاع لها حتى تعطيك موثقها أن تبطل ما أنزلت برفاقك من سحر، وأن تترفق بك فلا تمسك بأذى، واحذر يا صاح أن تدنس فضل خيرك بما ركب في طبعها من شر.» وانحنى رسول الآلهة فالتقط عشبة من الأرض، ثم وضعها في يدي، وأخذ يكشف لي أسرارها ويقص علي قواها الخارقة، وذكر لي أن اسمها «مولى» وبه يدعونها في السماء، وأن الآلهة وحدهم يعرفون كيف يشفون بها رقى السحر، وكانت جذورها سودا حالكة السواد، أما زهرتها فكانت بيضاء ناصعة البياض كاللبن. وودعني هرمز ثم رف ورف وعرج في السماء، وانطلقت أنا أخبط في ظلمات من هواجسي حتى كنت لدى باب ربة السحر التي وجدتها تعمل كما ذكر لي صاحبي على نولها، وصحت صيحة عالية فأقبلت تتهادى نحوي، وفتحت مصاريع أبوابها ودعتني فدلفت وراءها، حتى كنا عند عرش عظيم ممرد فضي ذي درج، فاستويت عليه وذهبت هي فمزجت لي كأسا من الخمر بشيء من عقارها، وقدمته لي فاحتسيته، بيد أنني لم أتغير ولم أتحول عن صورتي، فضربتني بعصاها السحرية وهي تقول: «هلم إلى الحظيرة حيث تقر مع رفقائك.» ولم تكد تصمت حتى وثبت من مقعدي وامتشقت سيفي وهجمت عليها، وفي عيني جحيمان من نار الغضب، فروعت ربة السحر وزلزلت زلزالا عظيما وجرت نحوي، وركعت عند قدمي وتعلقت بساقي، وأخذت تضرع إلي وتقول في بيان رائع وكلمات باكية: «عمرك الله من أنت؟ ومن أين قدمت؟ ما ديارك؟ تكلم أنت يا من لم تسحره جرعتي الهائلة التي لم يذقها أحد وظل في صورته لحظة واحدة، ولكنك تحمل قلبا لا تجوز عليه نفثات السحر. هلم، تعال، إلي إلي أعرفك أحسن المعرفة؛ إنما أنت أوديسيوس الصناع ذو الذكر، ولقد وصلت إلى هنا من اليوم بدورك فلم يشأ هرمز ذو العصا الذهبية أن يخبرني بمجيئك، ولكن أغمد سيفك، وهلم ننعم بالعناق فوق فراشي الوثير كزوجين، وليفرخ روعك وليهدأ بالك ... اطمئن يا أوديسيوس، هلم.» وصمت لحظة ثم انطلقت أجيبها: «سيرس، كيف تتصورين أني فرخ روعي ويهدأ بالي وقد حبست في رحابك رفاقي وشركاء رحلتي بعد إذ سحرتهم إلى خنازير أيتها الربة؟ ثم تخشين إفلاتي فتخادعينني وتبهرجين علي بطلاسم الحب، داعية إياي إلى فراشك لتشوبي صفاء فضيلتي برجس رذيلتك! لا، لا إني لن أقاسمك هذا الفراش حتى تقاسميني أغلظ الأقسام ألا تلحقي بي أذى، وألا تحاولي الإضرار بي.» وراحت تحلف وتؤكد الحلف، وتقسم وتغلظ في القسم، ثم إني انطرحت في سريرها الفخم الديباجي، وأقبلت أربع من عرائس البحر خطرن من اليم وأقبلن من العيون والحرج المجاور لينهضن بخدمتنا، أما الأولى فقد أصلحت من سريرنا وطرحت عليه مطارف الخز، وأما الثانية فقد صفت الموائد ورتبت الكراسي، وجاءت الثالثة بزق عظيم من خمرة طيبة ملأت بها الكئوس الذهبية المنضدة فوق الموائد، أما الرابعة فقد أعدت لي حماما ساخنا وضمختني بأحسن الروائح والطيوب حتى انتعش جسمي الخائر وتأرجت روحي الفاترة، ثم ألبستني ثوبين غاليين من أندر الديباج، ومشت بين يدي إلى عرش عظيم مزدان بأحسن التصاوير مطعم بالذهب والفضة، فاستويت عليه واضعا قدمي على درج من لباد ناعم ... وأقبلت بعد ذلك عروس أخرى فصبت الماء على يدي من إبريق من ذهب في طست من فضة، وجاءت بمائدة حافلة بأشهى الآكال فوضعتها أمامي، لكنني ما مددت إلى شيء من ذلك يدي؛ لما كان يساورني من الهم، وما يشغل بالي من الانتقام، فلما لحظت ذلك سيرس أقبلت تميس، وأخذت تلاطفني وتقول: «ما لك تجلس ساكنا هكذا يا أوديسيوس كالذي غشي عليه؟ ما تكاد تمتد يدك إلى شيء، كأن ألف وسواس يخامرك؟ ألا تزال تخشى مكيدة فتخاف أن تتردى فيها؟ ألا ما أكبر غفلتك يا صاح! اطمئن فلقد أعطيتك موثقي وحلفت لك بأغلظ الأيمان.» وأجبتها قائلا: «كيف تمتد يدي إلى طعام أو شراب ورفاقي لا يزالون في إسار سحرك؟ أبدا لن أذوق شيئا حتى ترديهم إلى صورهم ثم ألتقي بهم.» ونهضت تحمل عصاها السحرية، وذهبت من فورها إلى الحظائر حيث أطلقت رفاقي، وكانوا لا يزالون في صور الخنازير، ثم جاءت بترياق فمسحتهم به، فعادوا إلى صورهم البشرية، وبدوا في أنضر شباب وأصباه، ثم أقبلوا نحوي يلثمون يدي، ودموع الفرح تبلل مآقيهم، وطفقوا يصيحون ويصخبون وتردد أصداءهم جنبات القصر، حتى تأثرت سيرس نفسها مما رأت، وراحت تقول: «يا ابن ليرتيس الصناع، هلم إلى مركبك فاشددها فوق البر لتكون بمأمن من غوائل البحر، ثم خبئ كنوزك وأذخارك في غيران هذه الجبال، وعد إلي مع جميع رفاقك.» وطربت لهذه الفكرة فهرولت إلى الشاطئ حيث لقيت رفاقي الآخرين يندبوننا ويذرفون دموعهم علينا، وما أن رأوني حتى أهرعوا نحوي يرقصون ويطربون ويحيون كهذه البهم التي تعود في المساء إلى حظائرهم فتتلقاها صغارها بالثغاء والرغاء والضوضاء. وهكذا تلقاني أولئك الرفاق، وبدلت دموع أحزانهم بعبرات المسرة، وخيل لهم أنهم رأوا في شخصي وطنهم المحبوب إيثاكا، حيث ولدوا وحيث نشئوا وترعرعوا ... قال قائلهم: «تالله لكأنا رأينا فيك أوطاننا يا أوديسيوس، وتالله لقد طفرت قلوبنا حين عدت إلينا فعادت أرواحنا إلى أبدانها، حدثنا أيها العزيز كيف هلك إخواننا في هذا التيه؟» وقلت لهم: «هلموا أولا نجر مركبنا على هذا السيف الهادئ، ولنخبئ أذخارنا وسلاحنا في غيران هذه الجبال، ولننطلق جميعا إلى سيرس حيث ترون جميع رفاقكم في أمنة وعز وطعام وشراب ونعيم مقيم.» وصدعوا بما أمرتهم إلا يوريلاخوس، فقد سمر مكانه، وكأنه لم يحفل بما أخبرت به، ثم حرك شفتيه فقال: «ويح لنا نحن الأشقياء البائسين، فيم ذهابنا نحن الآخرين إلى قصر سيرس وقد تمسخنا جميعا إلى سباع أو ذؤبان أو خنازير؟ ونظل إلى الأبد نحرس عرينها مرغمين! لقد ذهب كثيرون منا ضحية هوس أوديسيوس وقلة بصره، يوم حبسنا السيكلوب من أجل أطماع رئيسنا الطياش.
6 » وأوشكت أن أضرب رأسه بجرازي فيخر إلى الأرض برغم ما يربطني به من آصرة الوطن ووشيجة الغربة، لولا أن هب رجالي الآخرون يصرخون ويقولون: «أوديسيوس الكريم، لنتركه هنا ليحرس فلكنا، أما نحن فراحلون معك إلى قصر سيرس ولو كان ملئه الفزع الأكبر.» وتدفقوا من السفينة إلى الشاطئ، وانخرط يوريلاخوس بينهم منصاعا لنظراتي المتأججة. أما ما كان من سيرس حينذاك فإنها أدخلت رفاقي إلى حمامها ثم ضمختهم بأحسن الطيوب، وخلعت عليهم أفخر الملابس، ولما وصلنا وجدناهم يطعمون، فما إن رأونا حتى هبوا يعانقون صحابهم ويبكون، ثم جلسوا يستمعون إلى قصة ما حل بإخوانهم، وهم يصعدون زفرات الحزن ترددها قباب القصر، ونهضت سيرس فوجهت إلي الخطاب إذ تقول: «ابن ليرتيس العزيز، هون عليك، وليرفه رجالك عن أنفسهم ولا يستسلموا هكذا لنوبة الحزن، ولترقأ دموعهم جميعا؛ إني لا أجهل ما تجشموا من أهوال في ذلك البحر المضطرب، وما لقوا من فوادح في كل أرض بما كتب لهم في لوح القضاء. ولكن تعالوا جميعا، أنعشوا نفوسكم الخالدة بكئوس الراح، ولتستشعروا بأسكم الذي كنتم تستشعرونه يوم غارتهم شطآن إيثاكا العزيزة. إنكم إن تتناسوا آلامكم فإنها تفت في عضدكم وتوهي من قوتكم، وتكون أبدا حلفا لكم وإلبا عليكم، ولا تعودون تشعرون معها بلذة العيش وبهجة الحياة.» ووقعت كلماتها في قلوبنا فأقبلنا على الطعام والمدام، ثم إننا أقمنا عندها عاما بأكمله في أرغد عيش وأحسن حال، متقلبين في أرفه نعيم، ثم استدار الزمان وهتف بنا قانون الأزل، فدعاني رجالي إلى جلسة خارج القصر فقالوا لي: «تذكر يا مولانا وطننا الأول، فإننا نحن إليه ونتمنى لو ساقتنا المقادير إلى شطآنه.»
الحصان الذي صنعه أبيوس بإرشاد مينرفا، والذي حمله أوديسيوس الجبار هو وصحبه إلى قلاع طروادة.
وكأنما نبهوا مني غافلا، فتلبثنا يومنا هذا على مائدة ربة السحر في بلهنية وعيش مخفرج وخمر، وأقبل الليل فأوى كل إلى فراشه، وأويت أنا إلى سيرس فداعبتها ولاطفتها، ثم قلت لها في رجاء وظرف: «سيرس يا ربة، حبذا لو وفيت بعهدك فأرسلتنا فوق هذا البحر رحمة بنا؛ لنقضي حاجات الوطن، ولتنقطع شكاوى أصحابي التي مزقت نياط قلبي.» وقالت سيرس: «أوديسيوس العزيز المعروف بأصالة الرأي ورجاحة الفك، إني لن أقسرك على البقاء هنا لا أنت ولا أحدا من رفاقك، ولكنك قبل أن تفكر في شد رحالك إلى بلادك ينبغي أن تذهب في رحلة شاقة بعيدة المدى؛ إلى هيدز،
7
دار بلوتو،
8
ناپیژندل شوی مخ