14
تبعناهم نحن وظننا أن حضارتنا هي مجرد إخبار عن ماضي ووقائع نستعيد ذكراها وكأننا نعرف أنفسنا بما نجهل، ولكن هذه المرحلة انتهت أو قاربت على الانتهاء، يحاول بعض المستشرقين النفاذ إلى جوهر الفكر دون التاريخ ونتلمس نحن ذلك ولكن على استيحاء، ولكن لم يحاول معظمهم حتى الآن تمثل روح القرن العشرين، روح التحرر في البلاد النامية لأنه ما زال غريبا في عقليته وفي بنائه النفسي، وفي أهدافه وبواعثه؛ ولذلك نشأ صراع خفي أو معلن بين المستشرقين والباحثين الوطنيين في البلاد النامية الذين استطاعوا فهم لعبة الاستشراق وإقامة بديل عنه، وتأسيس علوم إنسانية وطنية، خاصة علم الاجتماع، ولكن ما زال المستشرقون يجدون من يفتح لهم ذراعهم من الباحثين الذين هم امتداد الاستشراق في بلادهم، والذين وقعوا ضحية مناهجهم، والذين لم يبلغوا بعد درجة الوعي القومي، والذين ما زالوا يسلكون «بعقدة الخواجة» أو الذين تربطهم بالاستشراق الغربي مصالح مشتركة من مناصب أو درجات أو دعوات أو مؤتمرات.
والبحث التقريري يرى نوعا لم يعرفه تراثنا بل إن الشروح والملخصات ذاتها لم تكن مجرد جمع مادة أو إسقاط أخرى، بل كانت محاولات فلسفية تزيد من نطاق التحليل الفعلي وبيان أسسها النظرية، وهذا هو الشرح، أو أن تركز على الأفكار الأساسية التي تبرز من خلال التحليلات والبراهين، وهذا هو التلخيص، أما التقرير المحض الذي يجعل من الفكر مجرد تاريخ ويصبح لدينا «تاريخ الفلسفة الإسلامية» أو «تاريخ علم الكلام» أو «تاريخ التصوف الإسلامي» أو «تاريخ الفقه الإسلامي»، فهذا تناقض لأن الفكر موضوعات مستقلة عن التاريخ، والتاريخ لا يدرس إلا الموضوعات في عالم الأعيان، فالتاريخ والفكر من طبيعتين مختلفتين، ولقد ظهرت في التراث القديم محاولات لتاريخ الفكر، ولكنها كانت محاولات فلسفية، فابن تيمية يؤرخ للفكر الإسلامي ولكنه يؤرخ له كفيلسوف، وابن رشد يبحث في علم الكلام، ولكنه لا يقرر فقط بل يفكر على ما يقرر، وينقد ويغير، ومحمد عبده في رسالته عن التوحيد لم يقرر فحسب، بل حاول إعادة بناء العلم نفسه، والأمثلة كثيرة في التراث على أن الباحث هو فيلسوف، والدارس هو مفكر، أما هذا النوع من البحث التقريري الصرف في تاريخ العلوم العقلية أو تاريخ المشاكل فهو نوع غريب كل الغرابة عن روح التراث، فضلا عن الخلط بين التاريخ والفكر، وهو خطأ لا يتبدد إلا بعد دراسة مناهج العلوم الإنسانية أولا، وتجديد الباحث لهدفه وفهمه لطبيعة التراث وخاصيته الأولى ثانيا، وهو أنه وحي يتحول إلى حضارة، وموضع مثالي يتحول إلى علوم مثالية ومناهج فكرية خالصة.
المنهج التاريخي إذن يقضي على وحدة الظاهرة واستقلالها، ويرجعها إلى عناصر مادية وإلى عوامل تاريخية مع أن هذه العناصر المادية إن هي إلا عوامل للفكر، وليست مصدرا لموضوعاته، فالطبيعة لا تنتج فكرا، بل هي محررة للفكر، ففي مقابل التفكير العلمي يوجد التفكير الماهوي، الأول يعتبر الموضوعات الفكرية معلومات والعوامل التاريخية عللا، والثاني يعتبر موضوعات الفكر مستقلة ويتعامل معها كموضوعات مستقلة أو كماهيات أو معاني، كما نضع في مقابل التفكير النشوئي التاريخي الذي يتتبع نشأة الأفكار في الظروف التاريخية التفكير التكويني الشعوري الذي يتتبع نشأة الأفكار في الشعور، وكلاهما المنهج العلمي والمنهج النشوئي التاريخي خطآن من أخطاء العصر، ونقص في تكوين عقلية الباحث الفلسفية، خاصة أمام تراث ماهوي يعطي موضوعات مثالية، مهمة الباحث إذن تحويل الموضوع من أساسه المادي كتاريخ أو حادثة أو واقعة أو فرقة إلى أساسه الفكري الشعوري من أجل تحديد تصورات العالم، مهمته وضع الحوادث التاريخية خارج دائرة الاهتمام ورؤية ماهية الفكر ونشأته في الشعور، ولا يعني تحليل الظواهر الفكرية باعتبارها موضوعات مستقلة عن التاريخ الوقوع في مثالية مغرقة؛ وذلك لأن التاريخ سيظل الحامل للأفكار وستظل المواقف الاجتماعية هي المهيئة لظهور الفكر من خلال الشعور، أي أن الموقف هو الموقف النفسي الاجتماعي، الفكر لا يظهر إلا في التاريخ وفي الموقف الاجتماعي، ولكنه لا يتأسس إلا في الشعور، ولكن في التاريخ هناك فرق بين الوقائع الدالة والوقائع المصمتة التي لا دلالة لها، فالأولى هي التي تثير الفكر، وهي التي يمكن رصدها لأنها تبين مسار الفكر في الواقع ونشأته فيه، في حين أن الثانية مجرد تجميع لوقائع لا تعني شيئا، وكأن التاريخ ما هو إلا مجموعة من الحوادث المتراصة الخالية من أي معنى.
ولما كانت الفلسفة الإسلامية ذات طابع عارض وليست ذات طابع مشكل، فالفيلسوف يعرض نظرياته وآراءه مرة واحدة، ويعبر عن تصور للعالم، ولا يفكر محللا مشكلة ما وعارضا لأوجه حلولها المختلفة؛ ولذلك كان على الباحث أن يتجه بفكره نحو المشاكل نفسها التي تكمن وراء العرض، يعرضها في صيغة تساؤلات مفتوحة دون أن يكررها في قوالب ونظريات مغلقة حتى يستطيع السامع أو القارئ أن يساهم في حلها، يمكن عرض التساؤلات في صيغة توحي بأن هناك حلين متعارضين مثل: هل المنطق يرد إلى الإلهيات أم الإلهيات إلى المنطق؟ هل السياسة عند الفارابي في تصوره للمدينة الفاضلة ترد إلى الإلهيات أم إلى بناء الدولة الحمدانية؟ هل الطبيعيات تحليل للطبيعة أم إلهيات مقنعة؟ هل الله مفارق كما هو الحال عند الفلاسفة أم حال كما هو الحال عند الصوفية؟ هل الوحي تنزيل أم تأويل؟ ميزة هذا العرض أنه يحيي الفكر ويجعله مشكلة، بل ومشكلة شخصية للطالب أو السامع أو القارئ، إذ عليه أن يختار أحد حلين أو أن يرفضهما معا أو يقيم حلا ثالثا لو استطاع ذلك،
15
لا بد للفلسفة الإسلامية إذن من الفكرة الموجهة ومن فرض أولي حتى يمكن إحياء المادة وفهمها وعدم تكرارها، فكما أن الطبيعة لا تتحدث بل يشع فيها نور العقل فتصبح معقولة، كذلك مادة الفلسفة الإسلامية لا تعرض نفسها وتحتاج إلى فرض يمكن شرحها وبيانها وإلا لصارت جزءا من التاريخ العام أو تاريخ الفرق، ويصبح الفلاسفة مادة في كتب الطبقات، مهمة التجديد أنه باستطاعته اقتراح الفروض، وإلقاء وجهات النظر التي يمكن العثور عليها إما من الوحي وهو المصدر أو من العقل وهو الأساس أو من الواقع وهو المحك أو القياس.
وفي النهاية، يمكن للباحث ابتداء من الإخبار أن يقوم بإعادة البناء، فإذا استطاع بالإخبار أن يحصل على مادة مثالية للحضارة وليس على مجرد وقائع تاريخية لا دلالة لها فإنه يمكنه بعد ذلك أن يقوم بالخطوات الثلاث الآتية: (1)
أن يقوم الباحث بجمع المادة الفكرية اللازمة إما لإرجاعها إلى أصولها في الوحي أو لإعادة بنائها في العقل دون نقد أو تمحيص أو تدخل شخصي من الباحث، خاصة إذا كان مجددا همه الأول هو عرض الموضوعات أو النظريات أو العلوم وترتيبها وتصنيفها دون أدنى تفسير من جانبه، يكفيه لذلك أقل درجات الوضوح العقلي وهذا ممكن بالرجوع إلى الوحي كنقطة ارتكاز. (2)
أن يقوم الباحث بتجاوز الترتيب والعرض إلى النقد والتمحيص محللا وناقدا، عارضا ومقترحا، مؤيدا ومهاجما إما بالنظر إلى الأصول في الوحي أو بالنظر إلى الفهم الشخصي للباحث أو ذوقه الفلسفي أو اتجاهه العلمي أو واقعه الاجتماعي، وغالبا ما يتعرض هذا النوع إلى خلط بين الأصول نفسها وبين المزاج الشخصي للباحث أو انتسابه المذهبي، وفرق بين النقد والتجديد، فكثيرا ما يتوجه الباحث في آخر مشكلة بعد أن يعرضها عرضا تاريخيا - مقررا بذلك مادة محايدة لا دخل له فيها - كثيرا ما يتوجه بالنقد المعتمد على قضايا الدين ومسلماته، وفي أحسن الأحوال على النظر العقلي والذوق السليم، كما يعتمد أحيانا على الذوق الفلسفي والمذهب الفكري الذي ينتسب إليه الباحث، وهذا ليس هو المطلوب إذ إن هذه الطريقة التي تقرر مادة محايدة وهي في الحقيقة ليست كذلك، والتي يلحق بها نقد خارجي لا يجدي تقع في خطأين: خطأ التقرير وخطأ النقد الخارجي. (3)
ناپیژندل شوی مخ