11
بل يمكن دراستهم ليس باعتبارهم مؤلفين، بل باعتبارهم كتابا، فإذا كان المؤلف هو الذي يضع فكرا، بل ويخلقه ويبدعه بجهده الشخصي وبصرف النظر عن أي مصدر له خارج جهده العقلي المحض، فالكاتب هو الذي يعرض الفكر ابتداء من مصدر معين هي النصوص الموحاة،
12
فدراسة المفكر على هذا الأساس ليست دراسة لتاريخ حياته الشخصية: مولده ونشأته، طفولته وصباه، رجولته وكهولته، مرضه، ووفاته، علاقاته، آثاره الاجتماعية، بل عن طريق إعادة بناء موقفه الفكري الذي يتلخص أساسا في كيفية فهم النص الموحى به والتعبير عنه إزاء معطيات ثقافية في ظرف معين، فإذا تمت إعادة بناء الموقف الفكري للكاتب، خاصة إذا كان كاتبا بادئا مثل الشافعي وعلم الأصول، وأبو حنيفة وعلم أصول الدين، والكندي والفلسفة، وليس مضيفا، يمكن بعد ذلك رؤية منهج فكري من خلال هذا الموقف، فإذا تمت إعادة بناء الموقف الفكري للشافعي مثلا يمكن تلمس جوانب المنهج الأصولي، خاصة مناهج الرواية، ومن ثم احتمال وجود منهج إسلامي متميز في النقد التاريخي للنصوص، وإذا تمت إعادة بناء الموقف الفكري لمالك مثلا أو لأبي حنيفة أو لابن حنبل أمكن أيضا تلمس بعض خصائص فكرية من كل مفكر، وكيف أن كلا منهم، طبقا لثقافته وبيئته، قد حاول بيان جانب من جوانب منهج واحد يحاول الكل الوصول إليه والتعبير عنه: الواقع عند مالك، والفكر عند أبي حنيفة، ووحدة الواقع والفكر عند الشافعي، ثم اللجوء إلى النصوص الموحى بها باعتبارها المصدر الأول للفكر عند ابن حنبل خشية استبدال الناس الحضارة بالوحي، وترك الأصول وأخذ الفروع، ويمكن إعادة بناء الموقف بصورة كاملة إذا كان للباحث موقف مشابه، فالباحث ليس دارسا مخبرا فقط أو دارسا مجددا فقط، بل هو باحث له أيضا موقف فكري ابتداء من النص - وهو موضوع فكره - في ظروف مشابهة أيضا.
والتشابه يوجد في أن كلا من الموقفين، القديم للفكر والجديد للباحث يتلخص في كيفية حل النص الموحى به للمشاكل الجديدة الموجودة أمامه ويكون السؤال: ما هو الاتجاه الفكري للمفكر أو الباحث ابتداء من النص الموحى به في فهمه له وفي تحليله للعوامل السائدة في موقفه؟ وبعبارة أخرى، كيف يمكن للنص الموحى به السيادة على الموقف وابتلاعه وتحويله إلى حالة فرعية بالنسبة له وهو الأصل؟ فإذا تشابه الموقفان يمكن للباحث الحالي أن يسقط تحليلاته لموقفه على المفكر القديم مما يساعده على سرعة الفهم ووضوح الرؤية، إذ إنه يعيش الموقف من جديد، هذا الموقف الذي عاشه المؤلف القديم، فالمواقف واحدة والاتجاهات منها واحدة إذا تشابهت الظروف وتقاربت الاحتياجات.
الفلسفة الإسلامية ليست مجرد تاريخ للتراث القديم، بل هو موقف للباحث المعاصر، فالباحث المعاصر غالبا ما يكون باحثا مسلما وفيلسوفا في نفس الوقت؛ ولذلك فإنه لا يستطيع أن يبحث محايدا بل يبحث ملتزما وآخذا لموقف، فلا يكفيه أن يقرر ما قاله مفكرو التراث، بل عليه أن يدخل في مشكلاتهم التي يصنعونها بوصف الموقف القديم وتقييمه ثم إعادة بناء هذه المشكلة أو تلك في الثقافات المعاصرة، تلك هي مهمة الباحث أساسا، والاكتفاء بالتقرير أو بالنقد الخارجي الذي يعتمد على قضايا الدين ومسلماته أو على المزاج الشخصي، هذا النقد الذي يلحق بنهاية البحث لا يكفي لإعادة بناء الموقف القديم، فالباحث المسلم يختلف عن المستشرق في أنه داخل في التراث، والتراث جزء منه، وهو مسئول عنه مسئولية قومية، ولا يستطيع أن ينظر إليه نظرة السائح الغريب الذي يعجب ويتأمل عالما غريبا عنه بل هو مسئول فكريا وقوميا عن موضوع دراسته، وله الحق في تغييره بالزيادة أو النقص، وفي تأويله وتفسيره طبقا لحاجات عصره، وفي إكماله وتطويره طبقا لظروف العصر، وهكذا كانت علاقة المفكرين بعضهم ببعض، فلم يكتب الفارابي كتابا عن الكندي عارضا آراءه، ولم يكتب ابن سينا كتابا عن الفارابي أو الكندي محللا لنظرياتهما، ولم يكتب ابن رشد كتابا عن الفارابي أو الكندي عارضا لوجهة نظرهما، بل كان كل منهم مسئولا فكريا وحضاريا (أي قوميا بلغة عصرنا) عن أعمال سابقيه، فطورها ناقدا ومغيرا ومكملا، بل إن كل عالم من علماء أصول الدين أو أصول الفقه كان يضع العلم ويعيد تأسيسه ولا يكاد يذكر سابقيه لأن العلم مستقل عن واضعيه، وكان لا يذكر إلا من ينفرد بموقف خاص يخرج من البناء للعلم. ولم يكن موقف علماء الأصول من بعضهم البعض موقف الشرح والعرض بل كان موقف الند للند: الحوار، والجدل، والنقاش، والنقد، والتفنيد، والهدم، وإعادة البناء، ولم يقم أحد بما نقوم نحن به الآن من تكرار لمادة قديمة نعيد عرضها، ونبيعها، ونتعالم بها بغزارة العلم واتساع الاطلاع وكثرة المراجع ووفرة الاقتباسات الصريحة منها والضمنية، المعلن عنها وغير المعلن حتى لقد أصبح تراثنا القديم تاريخا للمعارك الفكرية وليس مجرد متحف للأفكار يتنقل بينها السائح وهو غريب عنها، كان الصوفي يأخذ من الصوفي السابق، ويتمثله، ويزيد عليه، ولم يكن مجرد عارض لآرائه محللا لها، بل إنه حتى في عصر الشروح والملخصات كان الشرح زيادة على القديم، وكان التلخيص تركيزا على الأبنية العامة للقديم دون أطرافها، فكان أيضا عملا إيجابيا، ولم يكن مجرد إخبار وتعريف وتكرار وعرض، وكان الفقهاء أيضا يكملون بعضهم البعض أو يختلف بعضهم مع البعض الآخر، والجميع على نفس المستوى من المسئولية الفكرية والقومية، ولم تكن تعني التلمذة على شيخ والريادة عليه تكرار المريد للشيخ في التصوف أو الفقه أو الأصول، بل كانت تعني رد فعل ومعارضة ومناقضة، فإذا شب المريد فإنه يعيد بناء مذهب الشيخ قبل أن يعد فضائله ويذكر مناقبه، ويتضح ذلك أكثر في الفلسفة، فالفلسفة ليست مذاهب للكندي أو الفارابي أو ابن سينا أو إخوان الصفا أو ابن رشد بل هي قسمة عامة للفلسفة إلى منطق وطبيعيات وإلهيات، ويمكن زيادة قسم آخر وهو النفسانيات كما هو الحال عند إخوان الصفا، وهناك في الإلهيات نظريات عامة تحدد الصلة بين الإلهيات والطبيعيات، هناك أيضا موضوعات عامة مثل استقلال قوانين الطبيعة أو عدم استقلالها بصرف النظر عن المفكرين الذين قالوا بالأول أو بالثاني، وكان يمكن أن تتغير الأسماء، ولكن لا تتغير الأبنية الفلسفية أو علوم الحكمة أو النظريات أو النتائج أو الموضوعات أو المسائل، قد يكون هدف المستشرق من نسبة الفكر إلى القائل به هو إثبات جدب الحضارة، وصمت الوحي، وأنه لولا الفيلسوف أو العالم لما ظهر الفكر، فالإنسان هو خالق الفكر وليس الوحي هو مصدر الفكر، فإذا كان هؤلاء المفكرون والعلماء معظمهم غير عرب وإن كانوا مسلمين، فإن المستشرق بذلك يكون قد حقق هدفه من إثبات نظرته القومية على الحضارة الإسلامية، وإرجاع الإبداع إلى الخصائص القومية للحضارة وحتى لا تكون هي الحضارة العربية.
وقد كان العمل الفكري في تراثنا القديم عملا جماعيا لم يحدث باجتماع المفكرين معا في حلقة بحث واحدة كما يحدث في العصر الحالي، مع أن هذا قد حدث عند إخوان الصفا وفي حلقات الكلام والفقه والتصوف، بل عمل جماعي قامت به الحضارة الناشئة من مركز واحد وهو الوحي، وكأن الوحي المتحول إلى حضارة هو الذي يضفي على المؤلفين من وحدتهم، ويجعلهم جميعا وسائل يظهر هو فيها من خلالهم، للفكر مساره في التاريخ وما الأفراد إلا حوامل له، ومؤلفات أصول الفقه أبنية عقلية خالصة ومناهج تاريخية ولغوية وعقلية لا شأن لها بالقائلين بها، بل هي تعبير عن أنساق عقلية خالصة وكأنها موضوعة بفعل كلي شامل.
13
فإن قيل: إن الهدف من المنهج التاريخي هو الإخبار، والحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات عن الحضارة موضوع الدراسة، فكيف يتأتى الفهم المطلوب لها إن لم تكن هناك المادة المفسرة أو المفهومة، وإن لم يتم البحث والتنقيب عنها والتعريف بها؟ قيل: كل هذا ليس مهمة المفكر بل مهمة المحقق والناشر والمؤرخ، ولكن الباحث يأتي بعد ذلك لفهم ما جمعه المؤرخ وتفسيره وبيان دلالته، ليست مهمة الباحث هي الإخبار والتعريف، أي أن يروي لنا ما حدث بالفعل لأن روايته لا تؤدي في الغالب إلى شيء جديد لأن الفكر لا يمكن تحويله إلى وقائع يمكن سردها خاصة إذا كان ناشئا من وحي يتحول هو إلى فكر، ويتشكل في صورة علوم حضارية محددة، هدف الباحث إذن ليس الإخبار والتعريف، بل إرجاع الظواهر الفكرية إلى أصولها الأولى التي خرجت منها - الكتاب والسنة - لمعرفة كيفية خروجها منها ومحاولة العثور على منهج أو مناهج دائمة ومتكررة يمكن بواسطتها العثور على منهج إسلامي عام، فإذا كان الهدف من الإخبار هو إيصال المعاني فإن المعاني لا توجد في الوقائع التاريخية بل توجد حين توجد الوقائع في النفس وذلك عن طريق التوحيد بين التجارب الشعورية للنفس وبين الوقائع الماضية باعتبارها تجارب شعورية أيضا، يتم إيصال المعاني عن طريق قراءة الحاضر في الماضي، والشعور بالماضي في الحاضر، وليس عن طريق «الإخبار» المادي، فالوقائع المادية مصمتة لا تحمل أي معنى، لقد أدى الإخبار دوره، وهو مرحلة تمت وانتهت، فقد عرفنا ما حدث في التاريخ وتكرر ذلك حتى أصبح معادا مرددا بل منقولا من باحث إلى آخر، والآن بعد إرجاع المواضيع إلى أصول في الوحي يمكن إعادة بنائها وإعطائها أسسا عقلية يمكن أن تعطيها أبنية مستقلة بذاتها لها براهينها وصدقها ووضوحها في ذاتها، ليس المطلوب الآن هو الإخبار بل اكتشاف «تصورات العالم» في علومنا القديمة التي تحدد نظرتنا إلى واقعنا المعاصر والبحث عن موجهات سلوكنا في أبنيتنا النفسية القديمة التي ورثناها.
لقد نشأ الاستشراق لهذه الغاية، وهي الرغبة في الحصول على أكبر قدر ممكن من المعلومات عن البلاد الأخرى التي وقعت تحت الاحتلال الأوروبي حتى تستغل هذه المعلومات في فهم روح الشعوب القاطنة هناك حتى تسهل السيطرة عليها ومخاطبتها بلغتها، كانت الغاية جمع المعلومات إلى الوطن الأم وهي أوروبا، عندما كانت دولها سيدة البحار، وكان المستشرقون هم الوسيلة لذلك،
ناپیژندل شوی مخ