ولما أتم المقيم إعداد الرواية، شرع في تمثيلها حالا فأضاف مأساة جديدة إلى المآسي التي تعددت منذ حل بالتراب التونسي، فافتضحت حقيقة ذلك الرجل وظهرت خلالها فظاعة السياسية الفرنسية، وجرائمها المدبرة. لقد قام بدوره أحسن قيام كأكبر الممثلين؛ إذ أبرز طبيعته الخفية، فاشمأز التونسيون مما شهدوا، وبقيت صورة دي هوتكلوك في أذهان التونسيين تمثل الاستعمار الفرنسي تمثيلا كاملا.
واستقبل المقيم العام يوم 24 مارس سمو الأمير الشاذلي باي نجل الملك الأكبر ورئيس ديوانه، وأعلمه برغبته في أن يستقبله جلالة الملك رأسا ومن غير حضور الوزراء التونسيين، وبعث في اليوم نفسه برسالة إلى دولة رئيس الحكومة السيد محمد شنيق الذي كان ابنه في حالة مرض شديد، يهدده فيها تهديدا صريحا، ويتوعده بأن ما سيلحقه من ضرر من جراء تصلبه في موقفه ربما يقضي على حياة ابنه المريض، فتجلت هكذا نفسية دي هوتكلوك الذي أصبح يتلاعب بأقدس العواطف البشرية وأشرفها وأعمقها، وهي عاطفة الأبوة بعد أن أزهق الأرواح ودمر وعذب. ولكن دولة محمد شنيق كان أصلب في الحق والواجب مما ظن دي هوتكلوك، فأجابه بالرفض وتمسك بالبقاء في الوزارة معتمدا على ثقة الملك وثقة الشعب، منكرا على فرنسا أن يكون لها الحق في تعيين الوزارة التونسية أو في إقالتها. فلم يستح المقيم من كتابة الكلمات الآتية في رسالته تلك: «ولا أخفي عنكم أنني أتأثر عميق التأثر عندما تسنح لي الفكرة بأنه لو لم تحل المشكلة الفرنسية التونسية في الأيام القريبة بالمراضاة، لثارت عاصفة شديدة من أجلك وحذوك وحولك، وربما تتعكر حالة ابنكم من جرائها.»
وأراد جلالة الملك أن يعرب للمقيم العام عن أن وزارته ما زالت تتمتع بثقته التامة، وعن تمسكه ببقائها في الحكم، فلم يجب طلبه في استقباله منفردا، بل أحضر وزارته حوله، فلما دخل عليه دي هوتكلوك يوم 24 مارس في الساعة الحادية عشرة والنصف وجده محفوفا بصاحب الدولة السيد محمد شنيق، وأصحاب المعالي السادة: محمود الماطري، ومحمد بن سالم، ومحمد سعد الله، ومحمد الصالح مزالي. فأعلم المقيم جلالة الملك بأنه اتصل من الحكومة الفرنسية ببرنامج إصلاحات، ولكنه لم يعد في الإمكان التفاوض بشأنه مع الوزارة الحالية؛ ولذا يطالب بإقالتها.
فأجاب الملك: بلغ باريس رغبتنا في عدم الاستجابة لذلك الطلب.
فتحدى إذ ذاك دي هوتكلوك الملك، وخاطبه بألفاظ بذيئة لا تليق بالمقام، ثم ختم كلامه بقوله: «إن الحكومة الفرنسية قد فوضت لي الأمر، وكلفتني بحل المشكلة بالطرق التي أراها صالحة. وإني أنتظر الجواب في حدود الساعة الثالثة بعد الظهر. ثم غادر القصر الملكي بتهوره المعهود.»
ولم يقبل منه الملك ذلك الصلف، وأرسل حالا برقية إلى رئيس الجمهورية الفرنسية قال فيها: «إن لهجة التهديد التي استعملها السفير «م. دي هوتكلوك» أثناء استقبالي له اليوم تخالف تماما تقاليد فرنسا، ويجعلنا نشك في أن سلوكه هذا هو سلوك فرنسا نفسها.»
ثم أوعز المقيم للصحافة الاستعمارية بألا تكتفي بتهديد الوزارة التونسية، بل بأن تهدد الملك نفسه، فكتبت جريدة «لابريس» في يوم 25 مارس تعليقا على ذلك الحادث جاء فيه: «في وسعنا أن نخبر بأن المقيم سوف لا يترك هذا الجواب (أي جواب جلالة الملك) بدون رد فعل سريع؛ إذ تسمح الإرشادات التي استقيناها من مصدر وثيق بأن نجزم أن «م. دي هوتكلوك» قد أكد بدوره بأنه شاعر الشعور التام بمسئوليته.
وبدون أن نسعى في التعليق على هذا الموقف الراسخ، فإنه من السهل أن نستنتج منه بأنه في الوقت الذي نضع فيه جريدتنا تحت الطبع تدور محادثات هامة بالسفارة العامة، وبدون شك بالقصر الملكي أيضا.
وإنه من الممكن أن يقع اتخاذ قرارات خطيرة جدا عندما يحين منتصف الليل.»
ودارت عجلة الحوادث بسرعة عجيبة، فانقطعت ليلة 25 مارس المخابرات الهاتفية بين تونس وباريس وبين العاصمة وبقية القطر، ولم يسمح حتى للصحافة بأن تتصل بمراسليها خارج تونس، وانتشرت القوات العسكرية انتشارا كبيرا في عدد هائل في القطر كله، واحتلت المراكز الاستراتيجية من الطرقات والأماكن العامة، وحاصرت مدينة تونس من جميع الجهات وقطعتها عن العالم، وتكاثرت الدبابات والمصفحات بأنواعها في الشوارع الرئيسية، وازدحمت الجنود في الميادين وحول الإدارات العامة والوزارات. وفي تلك الليلة نفسها في حدود الساعة الثالثة بعد منتصف الليل، هاجمت القوات الفرنسية بيوت الوزراء التونسيين، فأخرجت دولة السيد محمد شنيق من فراشه، ودخلت إلى غرفة نومه، وأزعجت عائلته وابنه المريض، وفتشت منزله، ثم ألقت عليه القبض وحملته معها. وفي الوقت نفسه وقع اعتقال بقية الوزراء الموجودين بتونس السادة محمود الماطري وزير الدولة والدكتور محمد بن سالم وزير الصحة ومحمد الصالح مزالي وزير التجارة والصناعة، وأبعدوا جميعا إلى المنفى في جهة قبلي بأقصى الجنوب التونسي، ووضعت الأختام بالشمع الأحمر على جميع مكاتب أصحاب الدولة والمعالي الوزراء ومكاتب رؤساء ومديري دواوينهم بقصد تفتيشها.
ناپیژندل شوی مخ