الفطنة والإلهام ليس من العلم الباطني
فظهر مما ذكرت أن حديث أبي هريرة وقوله ليس فيه أية حجة للذين يفصلون الباطن عن الظاهر.
وكثير من الصحابة أوتي فطنة أكثر من الآخر، فمن العجب أن يأتوا إلى الفطن إذا بصر الله ﷿ له أمره فأخبره عن شيء فحدث في المستقبل كما أخبر، فيقولون: هذا عنده علم باطن لمجرد توقع واحتمال قاله فصدقه الله ﷿ في المستقبل، فيقولون: هذا عنده علم باطن.
والواقع أن الأمر بخلاف هذا، فعندنا في صحيح البخاري أن النبي ﵌ صعد على المنبر يومًا وقال: (إن الله ﷿ خير عبدًا بين زهرة الدنيا وبين ما عنده فاختار ما عنده) فبكى أبو بكر ﵁ وقال: (نفديك بآبائنا وأمهاتنا يا رسول الله) فصار الناس يتعجبون لِمَ يبكي هذا الشيخ؟ مع أن كلام النبي ﷺ كلام طبيعي.
قال أبو سعيد: (فتعجبنا للشيخ لم يبكي؟ ثم علمنا أنه كان أفهمنا، فكان المخير هو رسول الله ﷺ، وكان هذا اقتراب أجله) أي: أنه سيموت، فهمها أبو بكر مع أن الكلام عام، ولم يفهمها الصحابة، فهذا من باب قوله تعالى: ﴿فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ﴾ [الأنبياء:٧٩] .
عمر عندما أرسل جيشه يقاتل وبين عمر والجيش آلاف الأميال، صعد عمر على المنبر، فبينما هو يخطب إذ قال: (يا سارية! الجبل الجبل) كلام معترض لا علاقة له بالخطبة، فلما كتب الله النصر للجيش ورجع، قال الأمير: يا أمير المؤمنين، كأني سمعت صوتك وأنت تقول: (يا سارية! الجبل الجبل)، فلما اعتصمنا بالجبل نصرنا الله ﷿.
فـ عمر حصل عنده كشف، وهذا إلهام من الله لـ عمر: (ومعنى (الجبل الجبل) أي: الزم الجبل واجعل ظهرك بالجبل، وكان الأعداء يأتونه من قبل الجبل، قال: (يا سارية! الجبل الجبل) فلما سمع سارية هذا جعل ظهره للجبل فنصره الله ﷿.
هذا من عاقبة الإخلاص الذي إن جمعه عبد في صدره آتاه الله ﷿ حكمة، وصح عن النبي ﷺ أنه قال: (إن يكن منكم ملهمون فـ عمر)، وفي رواية أخرى: (إن يكن منكم محدثون فـ عمر) (محدثون): أي: من السماء.
وفي الحديث الحسن: (لو كان بعدي نبي لكان عمر) كل هذا توفر لـ عمر، فعندما قال: (يا سارية! الجبل الجبل) هذا إلهام من الله ﷿ ليس له علاقة بالباطن الذي يقصده القرامطة وغلاة الصوفية، وإلا فإن الباطن هنا مهم، وهو إخلاص النية لله ﷿، وأن يكون باطن الرجل كظاهره.
إذًا: خلاصة الكلام في هذا الأمر أنه لا يوجد شيء اسمه (علم الباطن) على طريقة القرامطة والإسماعيلية وغلاة الصوفية، ولا يوجد إطلاقًا ظاهر في الشرع لا علاقة له بالباطن أبدًا، إنما هناك باطن يكون ظاهرًا لبعض الناس وباطنًا لعامة الخلق.
ففي مثل قوله تعالى: ﴿لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ﴾ [الواقعة:٧٩] المعنى الذي ذكرته لا يتفطن إليه إلا علماء قلائل، فهو بالنسبة للناس جميعًا باطن لا يعرفونه، بل كثير من علوم الشريعة الظاهرة تعتبر باطنة لكثير من الناس لا يعرفونها، فإن كان الباطن بهذا الاعتبار كان صحيحًا بشرط أن يكون له علاقة باللفظ.
هذا هو تفسير الباطن الذي يقره الإسلام، أما بغير هذا فقد أفضنا فيه القول.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم.
ونسأل الله ﷿ أن يهدينا للتي هي أحسن وللتي هي أقوم.
اللهم اغفر لنا ذنوبنا، وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين.
اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر، اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها.
اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.
4 / 3