The Story of Moses and Al-Khidr

Abu Ishaq al-Huwaini d. Unknown

The Story of Moses and Al-Khidr

قصة موسى والخضر

ژانرونه

قصة موسى والخضر [١] النفس مجبولة على التأسي بغيرها، والاعتبار بما يحدث لمن حولها ولذلك فقد اعتنى القرآن الكريم بالقصص عناية كبيرة، فقد قص علينا قصصًا كثيرة لنأخذ منها العظة والعبرة، ومن القصص العظيمة التي قصها لنا القرآن، قصة موسى والخضر ﵉، ففيها عظات وعبر لا يستغني عن تدبرها المؤمن خلال سيره إلى الله تعالى.

1 / 1

قصة موسى والخضر إن الحمد لله، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢] . ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١] . ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠-٧١] . أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد ﵌، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. هذا هو الدرس الأول من الدروس المستفادة من قصة موسى والخضر ﵉. روى البخاري ومسلم وغيرهما من حديث سعيد بن جبير ﵀، قال: قيل لـ ابن عباس ﵄: إن نوفل المثالي يزعم أن موسى الذي صاحب الخضر ليس هو موسى بني إسرائيل، قال ابن عباس: كذب عدو الله، حدثني أبي بن كعب عن النبي ﵌ قال: (خطب موسى في بني إسرائيل يومًا حتى ذرفت العيون ووجلت القلوب، فلما انصرف تبعه رجل، فقال: يا نبي الله! هل هناك أعلم منك في الأرض؟ قال: لا. فعتب الله ﷿ عليه إذ لم يرجع العلم إليه، قال: بلى، إن لي عبدًا في مجمع البحرين هو أعلم منك، قال موسى: أي رب! وكيف لي به؟ قال: خذ حوتًا واجعله في مشكل) وفي رواية: (قال: خذ نونًا ميتًا -والنون: هو الحوت، وإليه نسب يونس ﵇ «وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا» [الأنبياء:٨٧]، فالنون هو الحوت، وكل سكان البحر يعد من الحيتان، فالسمك اسمه حوت، قال ابن عباس: اشتهيت حيتانًا، أي: أسماكًا- قال: خذ نونًا ميتًا واجعله في مشكل، فحيث فقدته فهو ثم -أي حيث فقدت هذا الحوت فالخضر هناك، فانطلقا، حتى إذا كانا ببقعة من الأرض قال موسى لفتاه: لا أكلفك كثيرًا، أيقضني إذا رد الله الحياة في الحوت، قال: ما كلفت كثيرًا، ثم إن الحوت ارتدت إليه الحياة وقفز في البحر، فأمسك الله عليه الماء وحبسه فلم يستطع أن يذهب. فلما استيقظ موسى ﵇ نسي غلامه أن يخبره أن الحوت قفز في الماء، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما، فلما كانا من الغد قال موسى لفتاه: ﴿آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا﴾ [الكهف:٦٢]، تذكر الفتى أن الحوت المشوي الذي كانا سيتغديان به قفز في الماء، قال: ﴿أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ﴾ [الكهف:٦٣] ﴿فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا﴾ [الكهف:٦٤] رجعا يقصان الآثار مرة أخرى. فلما ذهبا إلى هناك وجدا عبدًا مسجى ببردة خضراء تحت قدميه وتحت رأسه، كالذي يلتحف بلحاف فيجعله تحت رأسه وتحت قدميه، فسلم عليه موسى، فكشف عن وجهه، وقال: وهل بأرضي سلام؟ من أنت؟ قال: أنا موسى. قال: أنت موسى بني إسرائيل؟ قال: نعم. -هذا هو السؤال الذي من أجله قال ابن عباس: كذب عدو الله؛ لأن الخضر ﵇ قال: أنت موسى بني إسرائيل؟ - قال: وما تريد؟ قال: أريد أن أتعلم. قال: «إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا» [الكهف:٦٧] . قال: ﴿سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا﴾ [الكهف:٦٩] . فجاء عصفور فنثر من ماء البحر نثرة، فقال الخضر: يا موسى! إن مثل علمي وعلمك بجانب علم الله ﷿ كمثل الماء الذي أخذه هذا العصفور بمنقاره ﴿فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا﴾ [الكهف:٧٠] . فانطلقا، ووقفا على شاطئ البحر، فمر مركب فأراد الخضر وموسى أن يركبا، فقال الغلمان: عبد الله الصالح لا نحمله بأجر، فعمد إلى مكان في السفينة فخلع منه لوحًا بقدوم ووضع مكانه خشبة، قال موسى: قوم حملونا بغير أجره تخلع لوحًا من سفينتهم لتغرق أهلها، لقد جئت شيئًا إمرًا ﴿قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ [الكهف:٧٢]، قال النبي ﵌: وكانت هذه من موسى نسيانًا. فلما نزلا من السفينة وجدا أُغيلمة يلعبون، فعمد الخضر إلى ولد وضيء جميل ذكي، فأخذه من رأسه وأضجعه على الأرض وذبحه بالسكين، فقال موسى: عمدت إلى نفس لم تعمل الحل فقتلتها بغير نفس، لقد جئت شيئًا نكرًا، قال الخضر ﵇: «أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا» [الكهف:٧٢]، قال النبي ﷺ: وكانت هذه شرطًاَ)؛ لأن موسى ﵇ قال له: ﴿إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا﴾ [الكهف:٧٦] وهناك فرق في التحذير بين المرة الأولى والثانية، ففي المرة الأولى قال له الخضر: ﴿أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ [الكهف:٧٢]، وفي المرة الثانية قال له: ﴿أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا﴾ [الكهف:٧٥]، فكأنه استدار إليه وأشار إليه، ولذلك فرق النبي ﵊ بينهما وبين أن الأولى كانت من موسى نسيانًا فلم يشدد الخضر عليه، وكانت الثانية شرطًا في المفارقة، لذلك كأنه التفت إليه وحذره وأشار: ألم أقل لك -أي: في المرة الثانية- إنك لن تستطع معي صبرًا. فدخلوا إلى قرية: ﴿فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا﴾ [الكهف:٧٧] ﴿قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا﴾ [الكهف:٧٨]، قال النبي ﵊: (يرحم الله موسى -وفي رواية: رحمة الله علينا وعلى موسى- وددنا أنه صبر حتى يقص الله ﷿ علينا من أخبارهما) .

1 / 2

فوائد ودروس من قصة موسى والخضر إن قصة موسى والخضر من القصص التي تشتمل على كثير من العبر، وقد عُني القرآن الكريم جد العناية في عرض القصة؛ لأن النفس مجبولة على التأسي بغيرها، كما قالت الخنساء لما قُتل أخوها: ولولا كثرة الباكين حولي على إخوانهم لقتلت نفسي فبمصاب غيرك يهون عليك مصابك، إذا شعرت أن غيرك يشاركك في هذا المصاب خف عليك المصاب، وإنما يعظم الأمر إذا كنت متفردًا بالبلية، وإلى هذا المعنى إشارة في قوله ﵎: ﴿وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ [الزخرف:٣٩]، فالله ﵎ ينفي من أذهان أولئك هذه المشاركة التي يجدها العبد في الدنيا، فيقول له: ليس الأمر في الآخرة كالدنيا، إنك إذا رأيت غيرك في مثل مصابك هان عليك مصابك كلا! لا ينفعك أنك ترى جهنم كلها مليئة بالخلق يعذبون مثلك، إن هذا لا يخفف عنك شيئًا؛ لأن التسلية التي كنت تراها في الدنيا قد ذهبت: ﴿وَلَنْ يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ﴾ [الزخرف:٣٩] . وفي حديث الإفك أن عائشة ﵂ لما بلغتها التهمة قالت: (بكيت يومي وليلتي حتى ظننت أن البكاء فالقٌ كبدي، فاستأذنت امرأة من الأنصار فأذنت لها، فجلست تبكي معي) . قد يقول البعض: وما الفائدة من قول عائشة ﵂: (جلست تبكي معي)؟ فنقول: الفائدة هنا هي المشاركة التي تخفف عن الإنسان ألمه. ولما بعث النبي ﵊ ودعاء إلى الله تعالى في مكة، وعذب أصحابه العذاب الأليم، نزل القرآن الكريم يقص عليهم كثيرًا من القصص، وأكثر النبي ﵊ من ذكر القصص، فقص عليها آنذاك قصة الساحر والراهب، وفيها البلاء في الدين، حتى قال أبو ذر ﵁: (نالنا من الكفار شدة، فذهبنا إلى النبي ﵌ نستنصره، فوجدناه عند الكعبة، فقلنا: يا رسول الله! ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله لنا؟! فاعتدل وقال: لقد كان يؤتى بالرجل من قبلكم فينشر بالمنشار حتى يشق نصفين لا يرده ذلك عن دينه) . فإذا علمت أن أصحاب الأنبياء جميعًا عذبوا وأوذوا؛ علمت أنك لست في الطريق وحدك، هذا الطريق المستقيم طريق الله ﷿ الممتد من لدن آدم ﵇ إلى أن تقوم الساعة، لست الضحية فيه وحدك. كم من العلماء عذبوا بل طارت رقابهم! بل كم من الأنبياء عذبوا وقتلوا! ألم يقتل يحيى ﵇ وتقطع رقبته وتهدى إلى امرأة بغي، وهو نبي؟! إذا تذكرت ما فعله اليهود بموسى ﵇ هان عليك مصابك، وقد جاء في الصحيحين: (أن رجلًا جاء إلى النبي ﵌، فأخذ ببرده وجذبه حتى أثرت حاشية البرد في عنقه ﵊، وقال: يا محمد! أعطني من مال الله، فإنه ليس مالك ولا مال أبيك ولا مال أمك، فتبسم ﵊، وقال: يرحم الله أخي موسى، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، هنا يذكر النبي ﷺ موسى ﵇، ويقول: (قد أوذي بأكثر من هذا فصبر)، وليس المعنى أن موسى ﵇ أوذي أكثر من نبينا ﷺ في الحقيقة، لكن المعنى: أنه أوذي أكثر من هذا، أي: أكثر من هذا الفعل بعينه فصبر، فهنا يذكر سلفه في الأذى وفي البلاء فيحمله ذلك على الصبر. فميل الناس إلى القصص فطري، وهو ميل شديد قوي؛ لذلك فقد عني القرآن الكريم عناية كبيرة بالقصص، وقد حدد الهدف من هذه القصص، فقال تعالى: ﴿لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُوْلِي الأَلْبَابِ﴾ [يوسف:١١١]، أي: للذين يتفكرون ويأخذون الأسوة. فقصة موسى والخضر من القصص التي قصها علينا القرآن الكريم، وزادها النبي ﵌ وضوحًا. وفي هذه القصة مطالب:

1 / 3

هل الخضر ولي أم نبي؟ المطلب الأولى: هل الخضر ولي أم نبي؟ وقد يقول البعض: وهل ينبني على ذلك حكم؟ نقول: نعم. قال ابن المنادي: أول عقده تحل من الزندقة أن يكون الخضر نبيًا؛ لأن الصوفية يزعمون أن الولي أعظم من النبي، يقولون: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي إذًا: فالولي عندهم أعظم من النبي، وهذا ضلال مبين وزندقة؛ لأن النبوة ليست مكتسبه؛ بل هي منحة من الله ﷿. فإثبات أن الخضر نبي أول عقدة تحل من هذا الحبل الطويل من الزندقة، وقد استدل العلماء على أنه نبي بقوله: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف:٨٢]، أي: ليس لي دخل في الذي فعلت، ويؤكد أنه نبي أن الله ﵎ قال: ﴿وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا﴾ [الكهف:٦٥]، والله ﵎ لا يؤتي هذا العلم إلا لنبي. أما كونه لم يرسل إلى قوم فهذا هو الغالب على الأنبياء، ولذلك فإن من الفروق التي يذكرها العلماء بين الرسول والنبي: أن النبي قد يشرف بالنبوة لذاته ولكن لا تناط به رسالة، فكثير من الأنبياء لم يبلغوا رسالة تذكر، لكنهم شرفوا بهذا المنصب بأن صاروا أنبياء، بخلاف الرسول؛ فإنه لا بد أن يرسل إلى قوم. ولذلك قال العلماء: إن عدد الرسل أقل بكثير من عدد الأنبياء؛ لأن النبوة رتبه قد يشرف بها العبد بغير رسالة إلى قوم، بخلاف الرسل. وأشهر الرسل خمسة هم أولو العزم الذين نوه الله ﵎ بشرفهم، وهم: نوح ﵇، وإبراهيم ﵇، وموسى وعيسى ﵉، ونبينا ﵌. وإنما كانوا من أولي العزم؛ لأنهم أرسلوا إلى جبابرة، وذاقوا من العذاب الأليم ما لم يذقه كثير من الرسل فضلًا عن الأنبياء؛ ولذلك وصفهم الله ﷿ بأنهم من أولي العزم. إذًا: الخضر ﵇ على قول أغلب العلماء نبي، فليس بعجيب أن يتعلم نبي من نبي، إن اليهود هم الذين أنكروا أن يكون موسى هو موسى بني إسرائيل؛ لأنهم قالوا: كيف يتعلم موسى من آخر وموسى نبي، والمفترض في النبي أنه أعلم أهل الأرض؟ لأنه غلب على ذهن موسى ﵇ أنه أعلم الناس، ولم يتصور قط أن يكون هناك أعلم منه، لذلك لم يتردد في الإجابة بقوله لما سئل: هل هناك أعلم منك؟ قال: لا. لظنه أن الله ﵎ لا يعطي أحدًا علمًا أكثر منه، فأنكر بنو إسرائيل أن يكون موسى هو موسى بني إسرائيل.

1 / 4

الخضر ليس أعلم من موسى ﵇ هل الخضر أعلم من موسى ﵇؟ الجواب لا ثم لا؛ لأن الخضر ﵇ كان أعلم منه بهذه الجزئية التي علمه الله تعالى إياها؛ ليثبت لموسى ﵇ أنه ليس أعلم من في الأرض فقط، أما في بقية العلم فلا شك أن موسى أعلم، ولا شك أن موسى أفضل من الخضر، ولذلك قال له الخضر لما نقر العصفور من ماء البحر: يا موسى! إنني على علم من الله لا تعلمه أنت، وأنت على علم من الله علمك هو لا أعلمه أنا. بل لما قال له موسى ﵇: جئت أتعلم منك، قال: أما يكفيك أن الله كتب لك التوراة بيده. إذًا: الخضر ﵇ إنما هو أعلم من موسى بهذه الجزئية فقط، أما أنه أعلم من موسى بكافة الجزئيات الأخرى فلا. وقد أراد الله ﷿ أن يؤدب موسى، وكذلك كل عالم ومفتي يجب أن يُرجع العلم إلى الله ﷿، وهذا هو مستند قول العلماء بعد ذكر الفتوى: والله أعلم. فليس معنى قول المفتي: (الله أعلم) أنه يشك في فتواه؛ بل إنه يكل علم ذلك على الحقيقة إلى الله ﷿، فإن المفتي قد يفتي في القضية ويرى أن هذا هو الصواب من وجهة نظره، ويكون الأمر على خلاف ذلك، وعلى هذا الأمر تُخرَّج فتاوى العلماء التي أخطئوا فيها بأنهم كانوا يظنون أن الحق فيما ذهبوا إليه. فهذا عمر بن الخطاب ﵁ لما جاءه رجل قد قطعت إصبعه، فقال: هل عندكم من شيء في دية الأصبع؟ فسكتوا، فاجتهد عمر ﵁ رأيه، ورأى أن دية الأصابع تختلف باختلاف منافعها، فهذه الإصبع لا تساوي هذه؛ لأن هذه الإصبع تملك حركة الأصابع الأربع الباقية، فيقول: لا أساوي بينها في الدية؛ بل هي تختلف باختلاف منافعها. فهل هذا هو الصواب؟ الجواب: لا. لكن لم يكن عند عمر بن الخطاب ﵁ علم أكثر من ذلك، فاجتهد رأيه في هذا الأمر، وظل المسلمون يعملون بهذا الحكم حتى خلافة معاوية بن أبي سفيان ﵁. فلما بلغ هذا الأمر ابن عباس ﵄ قال: سمعت النبي ﵌ يقول: (هذه وهذه وهذه سواء، عشر من الجمال)، فساوى النبي ﵊ بينها، فكل إصبع ديتها عشر من الجمال، فلو افترضنا أن الجمل بألفي جنيه، فإن دية الإصبع عشرون ألف جنيه. إذًا: عمر ﵁ أفتى بخلاف الصواب، لكن هل عليه إثم؟ الجواب: لا؛ لقوله ﵊: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران)، أما الذي له أجر؛ فلأنه اجتهد فله أجر على الاجتهاد، وهو إفراغ الوسع في طلب الحق، فإن أصاب فله أجران: أجر إفرغ الوسع وأجر إصابة الحق. أقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم.

1 / 5

الاستدلال بحديث: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يصلين العصر إلا في بني قريظة) على جواز حلق اللحى الحمد لله رب العالمين، له الحمد الحسن والثناء الجميل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول الحق وهو يهدي السبيل، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. فقد ذكرنا حديث: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر، وإذا اجتهد فأصاب فله أجران) وقد ذكَّرني هذا الحديث بقضية أثارها بعض الناس، فقد استدل بعضهم على حكم حلق اللحية بإقراره ﵌ المسلمين الذين غزوا بني قريظة واختلفوا في صلاة العصر: أيصلونها في بني قريظة أم يصلونها في وقتها؟ ولم يعنف النبي ﵊ إحدى الطائفتين، فقالوا: كذلك الذي يعفي لحيته لا يجوز له أن يعنف حالقها، كما أن النبي ﵌ لم يعنف أحدًا من الطائفتين. وهذه فرية بلا مرية؛ إذ كيف يقيس هذا الإنسان إقرار النبي ﵌ أصحابه الذين اختلفوا في أداء العصر أفي الوقت أم في بني قريظة بعد الوقت على أمر نص النبي ﵊ نصًا واضح الدلالة أنه لا يجوز للمسلم أن يتعمد حلق لحيته؟! فقد قال ﷺ: (اعفوا اللحى وقصوا الشوارب) . أما الذين ذهبوا لغزو بني قريظة فقد سمعوا قوله ﵊: (لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة)، فقال بعضهم: إن النبي ﵊ لم يقصد ظاهر الخطاب؛ بل أراد أن يحثنا على القتال حتى ندخل بني قريظة قبل العصر فنصلي هناك، أو ندخل بني قريظة في وقت العصر فنصلي هناك، فهذا حث منه لنا ﵊ أن ندخل بني قريظة في وقت العصر، ولم يكن يقصد أننا لا نصلي العصر إلا في بني قريظة ولو كان وصولنا بعد العشاء. وذلك لأن عندهم أدلة واضحة على عدم جواز تأخير الصلاة عن وقتها، فهذه الأدلة الواضحة لا يمكن أن يتركوها لنص فيه احتمال، والعلماء يقولون: إذا تطرق إلى الدليل الاحتمال سقط به الاستدلال، فإذا كان ظاهر الخطاب يحتمل أكثر من وجه، فلا يتعين أحد الأوجه إلا بدليل مستقل خارج عنه. وعندهم أدلة على عدم جواز تأخير الصلاة عن وقتها، فيقولون: لا نترك هذه الأدلة القاطعة بنص يحتمل أكثر من وجه، فحملوا دلالة النص على معنى الأحاديث الأخرى، وهو: استحثاث المسلمين على دخول بني قريظة في وقت العصر. وقال بعضهم: لا. بل قصد أننا لا نصلي العصر حتى نغزو بني قريظة، ولو أخذ منا الجهاد إلى وقت العشاء. ولم يعنف بعضهم بعضًا، ولم ينشق المسلمون وهم يقاتلون بسبب هذا الاختلاف الفقهي، إنما كلٌ أخذ برأيه ولم يعنف الآخر، فالذين أبوا أن يؤخروا العصر عن وقته صلوا العصر، والآخرون لم يصلوا العصر حتى غزوا بني قريظة، فكان وقت العصر قد ذهب. فعندما جاءوا إلى النبي ﵊ وذكروا له ما حدث، تبسم ولم يعنف أحدًا، فإقراره ﵊ حقٌ؛ لأنه لا يقر على باطل ولا خطأ، فلما سكت دل على أنه أقر كلا الطائفتين. فالشبهة التي يحتجون بها: أن طائفة فعلت شيئًا، وطائفة فعلت عكس الطائفة الأولى، فلم يعنف هذه ولا تلك، فكذلك المسلم إذا أعفى لحيته لا جناح عليه، فإن حلق لحيته فلا يجوز للآخر أن يعنفه، فهل واقعة بني قريظة كمثل هذا المثل الذي ضربه هذا المحتج؟ الجواب شتان ما بين الأمرين، ولا يستقيم في الأذهان شيء إذا كانت القسمة هكذا، إذًا: فلماذا لم يعنف النبي ﵊ إحدى الطائفتين برغم أن الحق في جانب واحد منهما بلا شك؟ لأن الحق واحد لا يتعدد وإن اختلفت أفهام الناس فيه، فيستحيل أن يكون الحق متعددًا، إنما الحق واحد، وطرق الناس في الذهاب إلى الحق متباينة، لكن الذي أصاب الحق واحد فقط، فلا شك أن أحدهما مخطئ، فلماذا لم يعنفه النبي ﵊؟ لأنه ﵊ قال: (إذا اجتهد الحاكم فأخطأ فله أجر)، فهل يجوز أن يعنف من له أجر واحد المأجور؟ لا يعنف، إنما الذي يعنف هو المأزور، وهذا بنص الحديث، فلذلك لم يعنفه النبي ﵊؛ لا لأنه أقر الاثنين، بمعنى: أنه أقر أن ترك العصر حتى يخرج وقتها صواب، وأن الذين صلوا في الوقت على صواب، إنما لم يعنفهم؛ لأن الذي أخطأ أصاب أجرًا واحدًا. فحديث واقعة بني قريظة التي أقرها النبي ﵊ لا علاقة لها بالمثل المضروب؛ لأن المثل المضروب في أمر، وعلماء الإسلام يقولون: إن الأمر إذا خرج من النبي ﵊ يفيد الوجوب، أي: أنه لا يجوز للمسلم أن يخالف أمره ﵌. ورحم الله الإمام المجتهد تقي الدين السبكي إذ قال في جزء له أسماه (بيان قول الإمام المطلبي: إذا صح الحديث فهو مذهبي) قال: وليتخيل أحدكم إذا سمع حديثًا للنبي ﷺ أنه واقف بين يديه، وسمع هذا الأمر منه، أكان يسعه أن يتخلف؟ الجواب: لا. لذلك إذا سمع المسلم حديثًا للنبي ﵊ فواجب عليه أن يمتثل. نسأل الله ﵎ أن ينفعنا بما علمنا، وأن يعلمنا ما جهلنا، وأن يأخذ بأيدينا ونواصينا إلى الخير. اللهم اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا، وثبت أقدامنا، وانصرنا على القوم الكافرين. اللهم اجعل الحياة زيادة لنا في كل خير، واجعل الموت راحة لنا من كل شر. اللهم قنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تسلط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا. اللهم آت نفوسنا تقواها، وزكها أنت خير من زكاها، أنت وليها ومولاها. اللهم اغفر لنا هزلنا وجدنا، وخطأنا وعمدنا، وكل ذلك عندنا.

1 / 6

قصة موسى والخضر [٢] أول عقدة تحل من عقد الزندقة هي إثبات أن الخضر نبي وليس مجرد ولي، والعقدة الثانية التي تحل هي إثبات أنه ميت وليس بحي، وقد دل على هذا الكتاب والسنة وإجماع المحققين من العلماء، وكذلك دلَّ المعقول من عدة أوجه على أن الخضر قد مات. والكلام في هذه المسألة ليس كلامًا هامشيًا، بل هو إيقاظ للآلاف ممن ظنوا حياته وانخدعوا برؤية الشياطين التي تتمثل في صورته، مما قادهم إلى الانسلاخ عن الدين.

2 / 1

هل الخضر حي أم ميت؟ إن الحمد لله تعالى، نحمده ونستعين به ونستغفره، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا، وسيئات أعمالنا، من يهد الله تعالى فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله. ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ [آل عمران:١٠٢] . ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ [النساء:١] . ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [الأحزاب:٧٠-٧١] . أما بعد: فإن أصدق الحديث كتاب الله تعالى، وأحسن الهدي هدي محمد ﵌، وشر الأمور محدثاتها، وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار. إن الخضر ﵇ نبي على رأي جماهير العلماء، واستدلوا بقوله ﵎: ﴿وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي﴾ [الكهف:٨٢] أي: أنه مأمور من قبل الله ﵎ بما يفعل، قالوا: وهذا لا يكون إلا لنبي. قال الإمام العلم أبو الحسين بن المنادي رحمه الله تعالى: (إثبات أن الخضر نبي أول عقدة تحل من الزندقة)؛ لأن الزنادقة كما قال الحافظ ابن حجر ﵀: يقولون: إن الخضر ولي، وينشد منشدهم في ذلك قائلًا: مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي أي: أن مقام الولاية أعلى من مقام النبوة والرسالة، فالذي يصفونه بأنه ولي هو أعلى عندهم من النبي والرسول، وقولهم: (فويق الرسول) -أي: فوقه بقليل (ودون الولي) فيكون الترتيب على حسب ترتيبهم: الولي، ثم النبي، ثم الرسول، ولو عكسوه لكان أولى: الرسول، ثم النبي، ثم الولي. فإثبات أن الخضر ﵇ نبي أول عقدة تحل من الزندقة. هل الخضر ﵇ حي أم مات؟ وسبب الحديث عن هذا البحث أن كثيرًا من الجهال الخارجين عن الشريعة أو الذين تعلقوا منها بحبل واهٍ يشبه خيط العنكبوت، يزعم أحدهم أنه قابل الخضر، فيقول: أوصاني الخضر وأفتاني الخضر وأرشدني الخضر، ويقسم أنه رأى الخضر وأنه كلمه، ويحتج ببعض إطلاقات لبعض علمائنا كـ ابن الصلاح والنووي وغيرهما من أن الخضر حي، وأن كثيرًا من العارفين رأوه وكلموه كفاحًا بغير ترجمان.

2 / 2

أدلة القائلين بأن الخضر حي إن أقوى ما تعلقوا به في هذا المجال ما رواه الطبراني وغيره بسند ضعيف فيه مجاهيل كما قال ابن كثير ﵀، أن النبي ﵌ قال لأصحابه: (ألا أنبئكم بالخضر؟ كان رجل من بني إسرائيل مر على الخضر فسأله شيئًا لوجه الله، فقال له الخضر: إن الله قادر أن يعطيك كذا وكذا ما عندي شيء، فقال: سألتك بالله أن تعطيني شيئًا، فقال: ما عندي من شيء أعطيكه ولكني أستحي أن تسألني بالله شيئًا وأردك، خذني فبعني في السوق واقبض ثمني وأنفقه، قال: وكيف آخذك يا عبد الله وأنت كذا وكذا، قال: إنك سألتني بمن لا يرد، خذني فبعني، فأخذه فباعه بأربعمائة درهم، فاشتراه هذا الرجل ورآه شيخًا كبيرًا فانيًا لا يصلح للعمل. فقال له الخضر يومًا: كلفني بشيء، قال: إني أشفق عليك وقد رأيتك شيخًا كبيرًا فانيًا أن أكلفك بما لا تطيق، قال: بل كلفني -وهو لا يدري أنه الخضر- قال: فانقل هذه الحجارة -وكانت حجارة عظيمة- ريثما أذهب إلى السوق، وهذه الحجارة ما كان يحملها أقل من ستة نفر. وذهب الرجل إلى السوق ورجع فلم يجد حجرًا واحدًا فتعجب! وقال: شققنا عليك أيها الشيخ، قال: لم تكلف كثيرًا، قال: فإني على سفر اخلفني في أهلي حسنًا، قال: ألا كلفتني بشيء، قال: إنك شيخ كبير وأخشى أن أشق عليك، قال: لا بل كلفني، قال: اضرب لي اللَّبِن -الطوب- حتى أبني داري. وذهب الرجل ورجع فوجده ضرب الطوب وبنى البيت وهيأه، فأول ما رآه تعجب وقال: سألتك بالله من أنت؟ قال: بهذا دخلت العبودية -أي: أنه صار عبدًا بمثل هذا السؤال لأنه سئل بالله فلم يقدر أن يرد هذا الرجل فباعه- قال: وأنت تسألني بالله أيضًا. قال: سألتك بالله من تكون؟ قال: أنا الخضر. قال: نبي الله؟ قال: نعم. قال له: أخيرك بين أن تكون حرًا وبين أن تكون في ضيافتي، قال: بل دعني، فأعتقه) . فهذا من أكبر ما يحتجون به، وكما قدمت أنه ضعيف، فإذا كان أقوى ما عندهم ضعيفًا فما بالك بالذي بعده، لاشك أنه شر منه. ثم لو فرضنا أنه صحيح، فما وجه الدلالة فيه على القضية المتنازع فيها؟ نحن الآن بصدد إثبات هل الخضر حي أيام بعثة النبي ﵊ أم لا؟ فأين في هذه القصة على طولها من الدلالة ما يثبت هذا البحث؟ والنبي ﵊ يقول: (كان رجل من بني إسرائيل)، ونحن نعلم أن الخضر صاحب موسى ﵉ كلاهما كان في بني إسرائيل. إذًا: لو صحت هذه القصة لم يكن فيها متعلق على الأمر المتنازع عليه، إذًا: فما هي بقية حججهم؟ حكايات ورؤى أن أحد الصالحين قال: رأيت الخضر، وكلمني الخضر، وحدثني الخضر، وأفتاني الخضر، ليس عندهم أكثر من هذا. أما الأحاديث التي يحتجون بها فأجمع علماء الحديث وهم أهل الفصل في هذا الباب أن كلها أحاديث مكذوبة موضوعة مفتراة على النبي ﷺ، وأوردها ابن الجوزي في كتاب الموضوعات، وشدد النكير على واضعيها، فليس في أيديهم شيء، فالقول الصحيح في المسألة أنه مات.

2 / 3

أهمية إثبات أن الخضر قد مات نحن حين نهتم بهذه المسألة لا نقاتل طواحين الهواء بإثبات أن الخضر مات، فإن من وراء إثبات موت الخضر إنقاذًا لعشرات المئات بل الألوف من المغفلين، الذين يأخذون دينهم من هؤلاء الشياطين الذين يتمثلون بصورة الإنسي فيأخذون منهم الفتوى، إذًا: لماذا جاء النبي ﵊، إذا كنت تأخذ فتواك من الخضر؟ لقد قال النبي ﵊ لما رأى في يد عمر بن الخطاب ﵁ ورقة كما رواه أحمد في مسنده من حديث جابر، قال: (ما هذا يا عمر؟ قال: ورقة من التوراة كتبها لي رجل من اليهود -صفحة من التوراة يقرأها عمر - فغضب النبي ﵊، وقال: أمتهوكون فيها يـ ابن الخطاب؟ لقد جئتكم بها بيضاء ناصعة، والله لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباعي) . فلو سلمنا أن الخضر موجود، وأنه حي فكيف يتبع؟ وكيف تؤخذ منه الفتوى؟ وموسى ﵇ الذي هو بإجماع الخلق أجل من الخضر ولا شك في ذلك، لو كان موسى حيًا ما وسعه إلا اتباع النبي ﷺ، أفيتبع الخضر المشكوك في حياته بل المقطوع بأنه مات؟ إن في إثبات أن الخضر مات حلًا لعقدة الزندقة الأخرى التي يعيش عليها ألوف المغفلين.

2 / 4

الأدلة على أن الخضر مات الخضر مات لا شك في ذلك، والدليل على ذلك أربعة أشياء: القرآن، والسنة، وإجماع المحققين، والمعقول.

2 / 5

أقوى حجة للقائلين بأن الخضر حي لقد اطلعت على أغلب الحكايات حتى أقف على دليل ننصف به القائلين بأن الخضر حي فما وجدت شيئًا يعتمد عليه، وأقوى ما ذكروه ويذكرونه ما ذكره ابن عساكر في تاريخ دمشق بسند صحيح عن أبي زرعة الرازي وهو أحد الأعلام الكبار والجبال الرواسي في الحفظ ﵀ قال: قابلني رجل في الطريق شيخًا له هيئة وسمة، قال لي: يا غلام، لا تغشى أبواب الأمراء والسلاطين ثم غاب عني، ثم لقيني بعد ما كبرت بنفس هيئته، فقال: ألم أنهك أن تأتي أبواب السلاطين، قال: وما رأيته بعد ذلك. قال أبو زرعة: فوقع في قلبي أنه الخضر. وليس هذا بدليل؛ إذ أننا نقول: كيف عرفت أنه الخضر؟ قالوا: لأنه قال: لم أره بعد ذلك، أي: أنه اختفى في الحال، بمجرد أن قال له هاتين الكلمتين اختفى وبعد ذلك ما رآه. فنقول: هل قول أبي زرعة: (لم أره بعد ذلك) يحتمل هذا فقط، أم يحتمل أنه لم يقابله بعد ذلك؟ الجواب يحتمل الاثنين، إذًا: لماذا أخذت هذا وتركت ذاك؟ كما يقولون: ليس حبًا في علي ولكن بغضًا في معاوية. هم يبحثون عن أي دليل، ونحن نذكر (أدلتهم) تجوزًا، وإلا فهي على رسم جميع العلماء ليست أدلة، فلو تجوزنا وقلنا: هي دليل فهي كالمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة، لا تقف منها على شيء، وغالب أدلتهم هكذا، فإن كان هناك قطاع من أمة محمد ﵌ خرج بهذا الباب من الدين، ودخل هذا المهيع إلى باب الشرك وعدم الاعتماد على الله ﵎ والانسلاخ من الشريعة، فكيف يقال: إن القول بحياة الخضر أو عدم القول به مسألة هامشية. أحيانًا يدخل رجل مريض المستشفى، وبرغم أنهم يعلمون أنه ميت إلا أنهم لا يتركون صغيرًا أو كبيرًا من أسباب العلاج إلا طرقوه، لِمَ تفعلون ذلك؟ يقولون: هذا حياة إنسان، وإذا جئت أنا وتكلمت في الطب قالوا: اترك ليس هذا تخصصك، وإذا تكلمت في الطب ولبست لباس الأطباء وعلقت سماعة، ودخلت بالمعلومات العامة عندي وفتحت عيادة، وكشفوني متلبسًا بأنني طبيب ولست بطبيب يحكمون علي بالأشغال الشاقة المؤبدة، لماذا؟ لأن هذا تتعلق به أرواح الناس. فإذا كنتم تعاملون أرواح الناس هذه المعاملة أفلا تعاملون دين الخلق بأجل مما تعاملون أبدانهم؟ إن إنقاذ إنسان من الكفر أفضل من إنقاذ عشرة أبدان، فنحن بإغلاقنا هذا الباب نحل العقدة الثانية من حبل الزندقة. لا يقولن قائل: إن الكلام في النهي عن الصلاة في المساجد التي فيها قبور، أو في النهي عن الاستعانة بغير الله ﵎، أو في النهي عن اتباع غير النبي ﷺ هي مسائل هامشية، بل هذا هو النخاع واللب وما سوى ذلك هي المسائل الهامشية. ونذكر قصة الصحابي المزعوم عبد الله بن السلطان، ويعلم الله أنه لا يوجد صحابي بهذا الاسم، ويعلم أهل العلم جميعًا أنه لا يوجد صاحبي خلق بهذا الاسم عبد الله بن السلطان، كان زانيًا سارقًا قاتلًا يفعل كل أنواع الفواحش والمنكر، هذا كتيب موجود والرسول ﵊ حزين، رآه يزني فلم يقم عليه الحد، رآه يترك الصلاة ولا يؤدي الزكاة فلم يقتله، كل هذا والرسول موجود، ولا يقال: صاحبي إلا إذا كان موجودًا مع الرسول ﵊، كل هذا يجري على عين النبي ﵊ وهو حزين فقط؛ كأنه لا حول له ولا قوة. فمات عبد الله بن السلطان، فذهبوا إلى الرسول وأخبروه بموت عبد الله بن السلطان، وقالوا له: تعالى فصل عليه، قال: لا أصلي عليه، ما شاء الله من هذا الذي لم يرزق ذره من العقل بعد كل هذا يذهب إلى النبي ﵊ ويقول له: يا رسول الله! صل على عبد الله بن السلطان، فالرسول لم يصل عليه. وإذا بجبريل ﵇ ينزل يسد الآفاق بستمائة جناح وينزل على المختار ﵊ ويقول له: إن ربك يأمرك أن تصلي على عبد الله بن السلطان. انظر المهازل! أليس هذا طعن في النبي ﵊ وينشر هذا الكلام؛ لأنه ليس هناك حاكم ولا ضابط على المطبوعات التي تنشر، وكما قلنا: دخل علينا الكفر بقرونه من باب سموه باب (حرية النشر وحرية الرأي) . حتى الطعن في الإسلام حرية. ويذهب النبي ﵊ وهو لا يدري لماذا يصلي على عبد الله بن السلطان وهو أعلم بني آدم لكنه ذهب لأنه مأمور، ويصلي عليه، والذي يدفنه هو النبي ﵊. ثم يخرج النبي ﷺ، إلى أين؟ إلى بيت امرأة عبد الله بن السلطان لقد رأيت عجبًا، يطرقون الباب، فتقول المرأة من الداخل: من هذا الفاجر الذي يطرق الباب، قالوا: يا أمة الله! إنه رسول الله ﷺ ففتحت. فقال لها: يا أمة الله، ماذا كان يفعل عبد الله؟ انظر! الرسول ﷺ تحول من معلم الإنسانية الخير إلى رجل يسأل وهو جاهل! قالت: ولِمَ. قال: لأنني لما نزلت القبر وجدت ألف حورية، واحدة في يدها زنجبيل وواحدة في يدها عصير، وكلهن يتسابقن إليه خذ مني يا عبد الله، كلهن يتسابق بالقربى والزلفى إلى هذا الفاجر، اشرب. فقالت: (أما قد قلت ذلك) فإنه كان زانيًا فاسقًا فاجرًا داعرًا قاتلًا. إلخ القصة المكذوبة المفتراة التي ينبغي تحذير الناس من هذه الكتب التي تحتوي على خرافات وأساطير نسأل الله تعالى أن يختم لنا بالحسنى، ويوفقنا إلى نيل المطلب الأسمى، إنه جواد كريم، والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

2 / 6

بطلان الإجماع المزعوم على أن الخضر حي إننا نقطع أن الخضر ﵇ مات، وأنه لا وجود له، وأن أية دعوى للإجماع ينقلها أي عالم في الدنيا على أن الخضر حي هي دعوى بلا دليل، ونحن رأينا كما يقول العلماء وفي مقدمتهم شيخ الإسلام ابن تيمية من المتأخرين، ومن المتقدمين الإمام أحمد بن حنبل قال: (من ادعى الإجماع فقد كذب، وما يدريه لعل الناس اختلفوا) . أي: من ادعى الإجماع برسمهم الموجود في أصول الفقه من أنه لا يتخلف عن هذا الإجماع عالم مجتهد من أمة محمد ﷺ، وما يدريك؟ وهل تعلم جميع المجتهدين في الكرة الأرضية حتى تقول: هذا أمر مجمع عليه؟ لذلك صار الإجماع المنقول في كتب الفقه هو عدم المعرفة بالمخالف فقط لا أنه الإجماع المعروف في الأصول. هذا هو الإجماع الذي يذكره العلماء، فإذا قيل: وهذه المسألة قال العلماء فيها كذا بالإجماع، لا تتصور أنه أجمع كل إنسان في الدنيا، لا بل المراد: لا نعلم مخالفًا لهذا القول فيذكره إجماعًا على سبيل التسامح والتجاوز. فدعوى إجماع العلماء أو إجماع الأمة على أن الخضر ﵇ موجود كما نرى ذلك في الكتب هي دعوى بلا دليل. لكن المكابر لا يسلم بالحق ولو شهدت عليه أعضاؤه، والسعيد من اتعظ بغيره، والمنصف يكفيه أقل من هذا.

2 / 7

اعتراض على الاهتمام بقضية موت الخضر وحياته مع الجواب عنه السؤال اشتغل بما هو أنفع وأهم وبما يعود على صالح الأمة المسلمة في زمانها بالخير، فمالك والخضر مات أو عاش، إن أكثر من (٩٠%) من قوتنا نأخذه من يد أعدائنا، وإن المسلمين قد تخلفوا تخلفًا موجعًا عن كل مظاهر التقدم، فهلا دفعتهم حتى يساووا أولئك الكفرة في القبض على منافذ الحياة، وهم بذلك يستطيعون أن ينشروا دينهم، لأن كثيرًا من الكفرة ينظرون إلى التردي الذي يعيش فيه المسلمون الآن فيظنون أنه بسبب دينهم فلا يقدمون على الإسلام، لكنهم لو أخذوا بأسباب الحياة وتقدموا لعل هؤلاء الغربيين يعجبهم مثل هذا التقدم في ديار المسلمين، ويكون هذا من باب الدعوة إلى الإسلام؟ الجواب أن هذا القائل ليس بأول سار غره قمره؛ لأن هذا الرجل إنما تعلق بأعلى الشجرة ونسي أن السوس قد اخترم جذرها، إن الله ﵎ قال في محكم تنزيله: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ﴾ [الرعد:١١]، (ما) هنا: هي كل شيء يضاد الفطرة، كما قال النبي ﷺ: (كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه) ولم يقل: أو يسلمانه؛ لأن الفطرة هي الإسلام، وهذا الحديث من حجج القائلين بأن أولاد اليهود والنصارى الذين ماتوا وهم رضع أو لم يجر عليهم القلم أنهم في الجنة؛ لأن كل مولود يولد على الفطرة فهو يولد على الفطرة، فبعد أن يكبر أو يعقل فأبواه إما يهودانه أو يمجسانه أو ينصرانه. فبعدما يكبر هذا الإنسان يبدأ ينحرف عن الفطرة التي ولد عليها، فيعلق به (ما) هذه، فلذلك كانت الآية توجهه إلى ذلك: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا﴾ [الرعد:١١] فـ (ما) أي: الذي علق بنفوسهم. فإذا كان بيننا من يعتقد أن الخضر حي ويأخذ منه دينه فهذا خرج من الإسلام من باب واسع، ونحن لو سلمنا أن الخضر حي وأنه يفتي فتاوى لما جاز أن تتلقى منه فتوى ينفرد بها عن غيره من العلماء عندنا، فالقاعدة معروفة عند علماء الأصول: أن شرع من قبلنا شرع لنا بشرط ألا يرد في شرعنا ما يخالفه. فالخضر ﵇ إن كان نبيًا فهو تابع لنبينا ﷺ، والقائلون بحياته يستحيل أن يتخلصوا من هذا، إذ ليس من الممكن أن يكون نبيًا منفردًا بذاته والنبي ﵊ موجود عمت رسالته الخافقين، فلا يجوز له أن ينفرد بفتوى؛ بل لابد أن يفتي وفق فتوى النبي ﵊. فإن كانت فتواه التي يفتي بها لها أصل في السنة فالتعويل على ما في السنة لا على ما قاله الخضر، إذًا: فلا قيمة لفتواه، فهي إن كانت مخالفة لما عندنا فلا اعتداد بها، وإن كانت موافقة لما عندنا فهي موافقة شكلية؛ إذ الاعتماد على الحديث الذي قاله النبي ﵊.

2 / 8

تمثل الشيطان في صورة الخضر قد يغلو البعض في الخضر بأشد من ذلك، وإذا جاءك رجل صالح ما جربت عليه كذبًا قط، فأقسم بالله وبالأيمان الغلاظ أنه رأى الخضر بعينيه وكلمه، وقال: أنا الخضر، وأقسم له أنه الخضر. غير ممكن أنك ترمي هذا الرجل بالكذب أو الوهم، إذ هو عابد عالم وأقسم أنه رأى الخضر وأن الذي رآه أقسم له أنه الخضر، لكن هذا لا يكون دليلًا على أن الخضر موجود. وإليكم البيان: نحن نسلم أن هناك من يرى بعض الأشخاص يقول له: أنا الخضر، وقد يراه على خلقة أعظم من خلقة بني آدم التي يراها، لكننا نقول: إن ذلك شيطان، وأبو إسحاق الحربي قال: (ما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان) . ونحن نعلم أن الشيطان يتشكل في صورة الآدمي، ويتشكل في أي صورة، بخلاف بعض الذين قالوا: لا يتشكل إلا على شكل قطة أو هرة أو حيوان ولا يتشكل على شكل إنسان، فإن عندنا الدليل القاطع على أنه يتشكل حتى على شكل إنسان. وهذا الدليل هو قصة أبي هريرة مع سارق الصدقات كما في صحيح البخاري، وأن هذا السارق كان شيطانًا جنيًا؛ بل صرح هو بهذا لـ أبي هريرة. فهذا الجني يتشكل في أي صورة، فقد يتشكل في صورة آدمي عظيم الخلقة، ثم يقول: أنا الخضر ليضل هؤلاء الناس، فيا عجبًا لمن صدقه بأنه الخضر! وما يدريه أن هذا صادق عندما قال له: أنا الخضر؟ وهذا يذكرنا بقصة الثعلب الذي لبس جبة وفسطاطًا وأمسك مسبحة ودعا الديك حتى يؤذن للصلاة، فمن أين لنا أن هذا الثعلب صادق؟ أذكر أنني سمعت محاورة بين شيخنا الألباني حفظه الله وبين رجل مصري يعالج المصابين بالجن، فقال المصري للشيخ: هل يجوز لي أن أستعين بالجني المسلم في علاج الحالات؟ لأن الذي مس هذا الإنسان جني كافر، إما نصراني أو يهودي أو مجوسي، فهل يجوز لي أن أستعين بالجني المسلم الذي عنده القوة على أن يقاوم هذا الجني الكافر؟ فكان جواب الشيخ له هو جواب العالم الذي لا يترك الفرع ويدخل في الأصل مباشرة، ومن علامة عدم الوصول إلى الحق أنك لا ترسي أصلًا تنطلق منه، فقال له الشيخ: وكيف عرفت أنه مسلم؟ هذا هو الأصل، فلا نسلم أنه مسلم. قال: منه. قال: ومن أدراك؟ أليس من الجائز أن يكون أكفر جني على وجه الأرض، ثم يقول لك: أنا مسلم ويستدرجك، أليس هذا جائزًا؟ قال: جائز. قال: فمن أين لك أن تعلم أنه مسلم؟ إذًا: كما يقول بعض علمائنا المتأخرين: اثبت العرش ثم انقش، إذ كيف يستقيم الظل والعود أعوج. فنحن لا نستطيع أن نخوض في هذه المسألة إلا إذا ثبتنا هذا الأصل، وهو كيف نعرف أنه مسلم؟ من المعروف أنه عندما يكون الجني كافرًا يستحل كل شيء حتى دعوى أنه مسلم، فلا نصل إذًا إلى حل، فيبقى أنه لا يجوز لك أن تعتمد على الجني المسلم بزعمه أنه مسلم حتى تثبت أنه مسلم وهيهات هيهات. وليست كل دعوى تخرج من فم إنسان تسلم له، وإلا فأكثر أهل الأرض أدعياء، يدعون الكرم والشجاعة والعلم والأخلاق، ويدعون كل شيء، ويتبرءون من كل رذيلة وإن كانوا هم صناعها. حتى أن بعضهم يقول: الغاية تبرر الوسيلة، ويجعلها قاعدة عنده ليبرر عدوانه، فكل إنسان يدعي الكمال وما ليس فيه. فلو قال هذا الرجل الذي يظهر على أنه الخضر: أنا الخضر، كيف سلمت له أنه الخضر، ولماذا لا تكون أنت بذاتك الخضر مثلًا؟

2 / 9

الإجماع على موت الخضر قال الإمام أبو إسحاق الحربي: ما ألقى هذا بين الناس إلا الشيطان) . وكذا قال الإمام أحمد بن حنبل وأبو الحسين بن المنادي والإمام البخاري وابن الجوزي وابن كثير وابن تيمية وكذا قال الإمام الحافظ ابن حجر، في آخرين يطول المقام بذكرهم، فهؤلاء أجمعوا، وقد قلت: إجماع المحققين، ولم أقل: إجماع الأمة، حتى لا يقول قائل: إن فلانًا من العلماء ﵀ يقول: إنه حي، بل إجماع العلماء المحققين على أن الخضر مات.

2 / 10

دلالة العقل على موت الخضر أما المعقول فمن أوجه: الوجه الأول: أن الذين ادعوا أن الخضر حي زعموا أنه من ولد آدم لصلبه، أي: أنه من صلب آدم، وهذا باطل؛ لأن الذين يدعون أنهم رأوا الخضر يصفونه بأنه إنسان عادي، جسمه جسم رجل مقبول، وفي الصحيحين أن النبي ﵌ قال: (خلق الله ﷿ آدم طوله ستون ذراعًا، فلا يزال الخلق يتناقص إلى يوم القيامة) فمن كان من ذرية آدم من صلبه سيأخذ خصائصه من كون طوله ستين ذراعًا، كما كان طول آدم ﵇، والذين يزعمون أنهم قابلوا الخضر يقولون: إن بدنه بدن رجل عادي. ثانيًا: لو كان من صلب آدم لكان له عدة ألوف من السنين، فكيف يخلو القرآن الكريم من ذكر مثل هذا الأمر الخارق الذي هو من أدل الأشياء على ربوبية الله ﵎؟ وقد ذكر الله ﵎ نوحًا ﵇ الذي دعا قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا وجعل هذا من آيات ربوبيته، لأن هذا العمر يذكر ولا يذكر ستة آلاف أو سبعة آلاف أو ثمانية آلاف سنة!! ولئن قلنا: إن القرآن الكريم لا يذكر كل شيء أفتخلو السنة المطهرة من حديث واحد صحيح أو حسن ينبه على أبهر آيات الربوبية؟ ثالثًا: لو كان من ولد آدم لصلبه لكان من الذين ركبوا مع نوح في السفينة، ولم يذكر هذا أحد قط. رابعًا: لو ركب مع نوح في السفينة لمات، فلقد ثبت أن جميع من كان في السفينة مع نوح ماتوا بدلالة قول الله ﷿: ﴿وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ﴾ [الصافات:٧٧] فإن كان الخضر من ذرية آدم فيستحيل أن يكون حيًا؛ لأن الذي بقي هو ذرية نوح فقط، فهذا يدل دلالة قاطعة على أنه لم يكن من صلب آدم. ثم الخضر ﵇ لو كان حيًا ألا يجب عليه أن يأتي النبي ﷺ فيسلم بين يديه ويجاهد معه ويصلي معه الجماعة والجمعة خلفه، وقد قال الله ﵎ للنبي ﷺ: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف:١٥٨] أليس الخضر من الناس؟ فإن كان حيًا إبان بعثة النبي ﷺ ولم يأته ولم يجاهد معه ولم يسلم بين يديه كان ذلك من أعظم الطعن عليه، وقد جعل النبي ﵊ الهجرة واجبة إلى المدينة على من يستطيع، وقد قال الله ﵎ للمسلمين: ﴿فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا﴾ [النساء:٨٩] لأن الهجرة كانت واجبة على الأعيان؛ لأن المدينة دار الإسلام الوحيدة آنذاك وكان يجب الهجرة إليها، فلما فتحت مكة ولم تعد المدينة هي الدار الوحيدة قال النبي ﷺ: (لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية) أي: أن الهجرة الواجبة على الأعيان أغلقت وتوقفت بعد الفتح. فإن كانت الهجرة واجبة على المسلمين الذين يقيمون في مكة، ونهى الله ﵎ المسلمين أن يتخذوهم أولياء حتى يهاجروا فأين كان الخضر؟ ولم لم يذهب إلى النبي ﵊؟ خامسًا: أيقول الخضر ﵇ لموسى كليم الله وأحد أولي العزم: ﴿هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ [الكهف:٧٨]، ثم يدور مع الجهال والمغفلين الذين لا يصلون ولا يزكون، وإن فعلوا فهم يتمسكون بالإسلام بحبل واهٍ ضعيف. هل هذا إلا من أعظم الطعن في الخضر أن يلتقي بهؤلاء الجهلة ويدور معهم في الفلوات يسبح ويفارق كليم الله ويقول: ﴿هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ﴾ هذا مستحيل.

2 / 11

الأدلة من السنة على أن الخضر مات ثانيًا: السنة المطهرة: وبها احتج الإمام البخاري ﵀ على موت الخضر، وقد روى أصحاب الصحاح هذا الحديث من حديث ابن عمر وأبي سعيد الخدري وجابر بن عبد الله الأنصاري ﵃ وكلها موجودة في صحيح مسلم، وبعضها في صحيح البخاري أن النبي ﵊ قال قبل أن يموت بشهر واحد وهذا التحديد وقع في رواية جابر بن عبد الله ﵄، قال ﵊: (أرأيتكم ليلتكم هذه ليس على ظهر الأرض أحد ممن هو عليها اليوم بعد مائة عام)، أي: بدءًا من هذه الليلة جميع الموجودين على الكرة الأرضية بعد مائة عام لا يكون أحد منهم حي. وفي اللفظ الآخر: (ما من نفس منفوسة تمر عليها مائة عام وهي على ظهر الأرض حية يومئذٍ) . والعجيب أن الذين ردوا هذا الحديث قالوا: إن الخضر يعيش في البحر فلذلك الحديث لا يشمله، وهذا من المضحك المبكي الموجع، وهل هناك دليل على أنه في البحر؟ ولِمَ لم تقل: إنه في السماء؟ أليس من المضحك أن ترد الأحاديث الصحيحة بمثل هذا الباطل الذي لا يعجز عنه أحد، كل إنسان يستطيع أن يغفل دلالة القرآن الكريم والسنة المنزلة بمثل هذه الأقوال، أما نحن فنأتيكم بأدلة ناصعة كالشمس في رابعة النهار، ونؤصل أدلتنا ونسندها ونصححها، فهلا أبرزتم لنا دليلًا واحدًا ارتقيتم به إلى النبي ﷺ في مواجهة الأدلة التي نأتي بها؟ ما عندهم شيء وإنما قالوا: هو في البحر، ولو أن الحديث قال: هو في البحر لقالوا: هو في الأرض، ولو أن الحديث قال: في البحر والأرض لقالوا: في السماء، فلابد من أن يأتوا بجهة ليست موجودة في الحديث. وقد استدل بهذا الإمام البخاري على أن الخضر مات، إذ لو سلمنًا جدلًا أنه كان موجودًا في زمان النبي ﵊ فبدلالة هذا الحديث هو ميت لا محالة بعد مائة عام، ويستحيل أن يكون موجودًا بعد مائة عام. فالذين يقولون بعد المائة الأولى: رأينا الخضر وسمعنا الخضر وكلمنا الخضر! هم كذبة، والمحققون كالإمام مسلم وغيره استدلوا بهذا الحديث على انقطاع الصحبة بعد مائة عام. فقد قال النبي ﵊ هذا الحديث في السنة العاشرة للهجرة، فإذا اعتبرت أنه بعد مائة عام من هذه المقالة لا يوجد أحد ممن يعيش على ظهر الأرض، فإذًا: نقطع بأن الصحابة جميعًا سيكونون قد ماتوا بتمام سنة (١١٠هـ)، وكان آخر صحابي مات كما قال مسلم هو أبو الطفيل عامر بن واثلة مات سنة (١١٠هـ) وهذا تصديق للحديث من أنه لا يوجد أحد بعد مائة عام من هذه المقالة. لذلك ادعى جماعة الصحبة بعد سنة (١٠٠هـ) وقالوا: بل إنهم رأوا النبي ﵊، فكذبهم أهل العلم وقالوا لهم: لستم صحابة ولم تروه؛ لأن النبي ﵊ قال: (ما من نفس منفوسة تمر عليها مائة عام وهي على ظهر الأرض حية يومئذٍ) . فلو سلمنا جدلًا أن الخضر حي فهو بعد سنة (١١٠هـ) يستحيل أن يكون حيًا، فهذا دليل من السنة. ودليل آخر: في غزوة بدر لما جأر النبي ﷺ إلى ربه وقد رأى أصحابه ضعافًا أذلة يقتسمون التمرات، وحالة الفقر عليهم ظاهرة، مشردون وهم سيقابلون عتاة قريش الذين خرجوا لأجل الحرب، وهؤلاء ما خرجوا لأجل الحرب، وما عندهم استعداد، نظر إليهم ورثى لحالهم، وقال: (اللهم نصرك الذي وعدت، اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض) وقد اتفق العلماء أن عدة من كان موجودًا من الصحابة يوم بدر ثلاثمائة وثلاثة عشر رجلًا معروفون بأسمائهم، وهم الذين يطلق عليهم العلماء: البدريون، وهم غرة في جبين الإسلام والمسلمين، حسبهم أن النبي ﷺ قال: (لعل الله اطلع إلى أهل بدر، فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم) وأن النبي ﷺ قال: (لا يدخل النار أحد شهد بدرًا والحديبية) . ومن هذا أن حاطب بن أبي بلتعة كان يقسو على غلامه ويضربه، فذهب الغلام يشكوه إلى النبي ﵊ وكان حاطب ممن شهد بدرًا، فقال غلام حاطب للنبي ﵊: (والله يا رسول الله ليدخلن حاطب النار -أي: بقسوته عليَّ- فقال النبي ﵊: كذبت، لقد شهد بدرًا) . وهؤلاء البدريون ينسبون إلى هذه الغزوة المباركة، فيقال: أبو مسعود البدري ولا يقال: فلان الأحدي ولا الخندقي ولا التبوكي ولا الرضواني، لا ينسب أحد إلى غزوة قط إلا إلى بدر؛ لجلالها وشرفها؛ لذلك حصر العلماء من كان فيها. فإن كان الخضر حيًا أكان ممن يعبد الله أم لا؟ لا شك أنه ممن يعبد الله، فكيف قال النبي ﷺ: (اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض)؟ فلا يستثني الخضر ولا غيره، فهذا دليل دلالة قاطعة على أن الخضر غير موجود، هذا من السنة.

2 / 12

الأدلة من القرآن على أن الخضر مات أما القرآن: فقد قال الله ﵎ للنبي ﷺ ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ [الأنبياء:٣٤] أي: إن كتبنا عليك الموت مع جلالتك وقربك منا واصطفائنا لك وأنت سيد ولد آدم ولا فخر، وأنت أول من يهز حلق الجنة، وأول من تنشق عنه الأرض، وأول من يدخل الجنة من النبيين بل من الخلق، وأول شافع ومشفع، أفإن مت يكون هؤلاء الذين لم تتوفر لهم هذه الصفات هم الخالدون. ونحن نسأل: هل الخضر بشر أم جني؟ لا يشك أحد أنه بشر، فإن كان من البشر شمله عموم الآية بل لا شك في ذلك عند جميع العلماء: ﴿وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ﴾ [الأنبياء:٣٤] إن كان من البشر شملته الآية ﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ﴾ [آل عمران:١٨٥] ولفظة (كل) عند العلماء: تفيد العموم ولم يخرج عن هذا العموم أحد -أي: في الدنيا- إلا إبليس لعنه الله، وعيسى ﵇ بدلالة النص الخاص بكل منهما. ولو أخذنا الآية على جميع أفرادها وجميع زمانها صار الكل فانيًا. الدليل الثاني من القرآن: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ﴾ [آل عمران:٨١] . والخضر نبي: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ﴾ [آل عمران:٨١] فلا شك أنه داخل في هذه الجملة، ولا نعلم في حديث صحيح ولا حسن ولا ضعيف ضعفًا منجبرًا أن الخضر جاء إلى النبي ﷺ وآمن به وصدقه وجاهد معه، فأين كان؟ وقد أخذ الله الميثاق على جميع الأنبياء الذين يأتي النبي ﷺ وهم أنبياء أخذ عليهم الميثاق أنه إذا ظهر هذا النبي الخاتم ﷺ أنه يجب عليهم أن يأتوه ويعزروه وينصروه، فإن كان الخضر حيًا فأين كان؟ أليس هذا من الطعن في الخضر وأنه خالف ميثاق الله ﷿ ولم يجد لنصرة النبي ﵊، أليس القول ببقائه من باب الطعن فيه؟ بلى. وبهذا احتج ابن الجوزي ﵀ على أن الخضر مات.

2 / 13

قصة موسى والخضر [٣] إن الله ﷿ قد آتى الخضر ﵇ علمًا لدنيًا من عنده، وهذا العلم اللدني ليس هو العلم الباطني الذي يدعيه الصوفية، فيجعلون هذا العلم خفيًا عن بقية الناس، ولا يدركه إلا الخواص وإن كان ظاهره مخالفًا للشريعة، وإنما العلم اللدني هو الفهم والعلم الذي يلهمه الله ويجعله لبعض العباد، وأما الرؤيا المنامية فليست طريقًا للعلم.

3 / 1