ودَعَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ قُرَيْشًا، فَعَمَّ وخَصَّ، فَقَالَ: " يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ! اشْتَرُوا أنْفُسَكُمْ لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ! لَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، يَا بَنِي كعْبِ بْنِ لُؤَيٍّ! أَنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي مُرَّةَ بْنِ كعْبٍ! أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ شَمْسٍ! أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي عَبْدِ مَنَافٍ! أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا بَنِي هَاشِمٍ! أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ! يَا بَنِي عَبْدِ المُطَّلِبِ! أنْقِذُوا أنْفُسَكُمْ مِنَ النَّارِ، يَا عَبَّاسُ بنُ عَبْدِ المُطَّلِبِ! لَا أُغْنِي عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، ويَا صَفِيَّةُ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ! لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، ويَا فَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ! سَلِيني مَا شِئْتِ مِنْ مَالِي، لَا أُغْنِي عَنْكِ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، أنْقِذِي نَفْسَكِ مِنَ النَّارِ، فَإِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا، غَيْرَ أَنَّ لَكُمْ رَحِمًا سَأَبُلُّهَا بِبِلَالِهَا".
وَوَثَبَتْ كُلُّ قَبِيلَةٍ عَلَى مَنْ فِيهَا مِنَ المُسْلِمِينَ، فَجَعَلُوا يَحْبِسُونَهُمْ، ويُعَذِّبُونَهُمْ بالضَّرْبِ، والجُوعِ، والعَطَشِ، وبِرَمْضَاءِ مَكَّةَ إِذَا اشْتَدَّ الحَرُّ. وكَانَ أَوَّلُ مَنْ جَهَرَ بِالْقُرْآنِ بَعْدَ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ بمَكَّةَ عَبْدُ اللَّهِ بنُ مَسْعُودٍ ﵁ فآذوه وضربوه. وأنْفَقَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ ﵁ جُزْءًا كَبِيرًا مِنْ مَالِهِ في شِرَاءَ العَبِيدِ، وعِتْقِهِمْ للَّهِ. وحَمَى اللَّهُ رَسُولَهُ ﷺ بِعَمِّهِ أَبِي طَالِبٍ؛ لِأَنَّهُ كَانَ شَرِيفًا مُعَظَّمًا في قُرَيْشٍ، مُطَاعًا في أهْلِهِ، وأَهْلُ مَكَّةَ لا يَتَجَاسَرُونَ عَلَى مُكَاشَفَتِهِ بِشَيْءٍ مِنَ الأَذَى. وشَكَى المستضعفون من الصحابة إِلَى رسُولِ اللَّهِ ﷺ وهُوَ مُتَوَسِّدٌ بُرْدَةً لَهُ فِي ظِلِّ الكَعْبَةِ، فَقَالوا لَهُ: ألَا تَسْتَنْصِرُ لَنَا؟ ألَا تَدْعُو لَنَا؟. فَقَالَ ﷺ: "كَانَ الرَّجُلُ فِيمَنْ قَبْلَكُمْ يُحْفَرُ لَهُ في الأَرْضِ، فيجْعَلُ فِيهَا، فَيُجَاءُ بالمِنْشَارِ فيوضَعُ عَلَى رَأْسِهِ فيشَقُّ بِاثْنَتَيْنِ، ومَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، ويُمْشَطُ بِأَمْشَاطِ الحَدِيدِ، مَا دُونَ لَحْمِهِ مِنْ عَظْمٍ أَوْ عَصَبٍ، ومَا يَصُدُّهُ ذَلِكَ عَنْ دِينِهِ، واللَّهِ لَيُتِمَّنَّ هَذَا الأَمْرُ حتَّى يَسِيرَ الرَّاكِبُ مِنْ صنْعَاءَ إِلَى حَضْرَمَوْتٍ لا يَخَافُ إِلَّا اللَّهَ، أَوِ الذِّئْبَ عَلَى غَنَمِهِ، ولَكِنَّكُمْ تَسْتَعْجِلُونَ" (^١).
(^١) قَالَ الحَافِظُ ابنُ كَثِيرٍ: اتَّفَقَ العُلَمَاءُ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُوَالِيَ المُكْرَهُ عَلَى الكُفْرِ، إبْقَاءً لِمُهْجَتِهِ، ويَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَقْتِلَ، والأَفْضَلُ والأَوْلَى أَنْ يَثْبُتَ المُسْلِمُ عَلَى دِينِهِ، ولَوْ أَفْضَى إِلَى قتلِهِ.
1 / 202