The Story of Life
قصة الحياة
ژانرونه
قصة الحياة
جمع وإعداد
عبدالإله بن عبدالله السعيدي
الحقوق متاحة لكل مسلم
(نسخة مزيدة مصححة)
٢٩ شعبان ١٤٤٢ هـ
1 / 2
المقدمة
بسم الله والصلاة والسلام على رسول الله وآله وصحبه ومن اتبع هداه، أما بعد:
فهذه الرواية الصادقة ليست من نسج الخيال، وإنما غالب فصولها وأحداثها من أخبار الوحي، ورواية ثقات المؤرخين في خلاصة غنية جدًا من الأحداث والأحاديث الصحيحة والحسنة -إن شاء الله- التي هي نواة العلم الحقيقي وتاريخ الكون والبشر.
بعيدًا عن خرافات العصر الحجري وما يسمى بعصر ما قبل التاريخ، ونظريات تحول الإنسان من قرد، ونظرية الانفجار العظيم وغيرها من الفلسفات والتخيلات الباطلة المليئة بالمتناقضات والظنون التي لا تغني من الحق شيئًا.
بعيدًا عن ذلك كله؛ هناك مصدر للحق الذي يوافقه العقل السليم والفطرة السوية فتخبت له القلوب وتطمئن إليه النفوس. إنه نور الوحي السماوي الذي أوحاه رب الكون وجعله نورًا وهدىً للناس، فيه ذكر أصل الكون وتاريخه السابق واللاحق، وما كان وما سيكون، وفيه (قصة الحياة).
من خلق هذا الكون؟ وكيف بدأ؟ وما قصة أول إنسان؟ وهل كان عالمًا أم جاهلًا؟ وما علاقته بالسماء وبالأرض وبتلك المخلوقات التي تغيب عن الأعين؟ ولماذا نحن على الأرض؟ وما قصة الأجيال التي عاشت قبلنا؟ والتي ستأتي بعدنا؟ وما الدين الحق؟ وما قصة الرسائل السماوية التي بُعث بها الأنبياء من رب العالمين؟ وكيف ستكون نهاية الحياة؟ وما مصير الكون؟.
ما أجمل أن تجد من الوحي إجابات صادقة وإرشادًا وهديًا ربّانيًا لكل تلك التساؤلات! وقد قال خاتم الأنبياء والمرسلين محمد بن عبدالله ﷺ: "مَا تَرَكْتُ شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ، وَيُبَاعِدُكُمْ عَنِ النَّارِ، إِلَّا وَقَدْ أَمَرْتُكُمْ بِهِ، ومَا تَرَكْتُ شَيْئًا يُقَرِّبُكُمْ مِنَ النَّارِ، وَيُبَاعِدُكُمْ عَنِ الْجَنَّةِ، إِلَّا وَقَدْ نَهَيْتُكُمْ عَنْهُ، تَرَكْتُ فِيكُمْ شَيْئَيْنِ لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُمَا إِنْ تَمَسَّكْتُمْ بِهِمَا: كِتَابَ اللهِ وَسُنَّتِي".
1 / 3
ولا عجب أن يقول أبو ذر ﵁: "تَرَكَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ وَمَا طَائِرٌ يُقَلِّبُ جَنَاحَيْهِ فِي الْهَوَاءِ، إِلَّا ذَكَرَ لَنَا مِنْهُ عِلْمًا". حتى قَالَ بَعْضُ الْمُشْرِكِينَ لسَلْمَانَ الفارسي ﵁ وَهُمْ يَسْتَهْزِئُونَ بِهِ: قَدْ عَلَّمَكُمْ نَبِيُّكُمْ ﷺ كُلَّ شَيْءٍ حَتَّى الْخِرَاءَةَ؟! فَقَالَ: "أَجَلْ، لَقَدْ نَهَانَا أَنْ نَسْتَقْبِلَ الْقِبْلَةَ لِغَائِطٍ، أَوْ بَوْلٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِالْيَمِينِ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِأَقَلَّ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْجَارٍ، أَوْ أَنْ نَسْتَنْجِيَ بِرَجِيعٍ أَوْ بِعَظْمٍ". وقال عمرو بن أخطب ﵁: "صَلَّى بِنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ الْفَجْرَ، وَصَعِدَ الْمِنْبَرَ فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الظُّهْرُ، فَنَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى حَضَرَتِ الْعَصْرُ، ثُمَّ نَزَلَ فَصَلَّى، ثُمَّ صَعِدَ الْمِنْبَرَ، فَخَطَبَنَا حَتَّى غَرَبَتِ الشَّمْسُ، فَأَخْبَرَنَا بِمَا كَانَ وَبِمَا هُوَ كَائِنٌ، فَأَعْلَمُنَا أَحْفَظُنَا". وقال حذيفة بن اليمان ﵁: "خَطَبَنَا رَسُولُ اللهِ ﷺ خُطْبَةً مَا تَرَكَ فِيهَا شَيْئًا يَكُونُ فِي مَقَامِهِ ذَلِكَ إِلَى قِيَامِ السَّاعَةِ إِلَّا ذَكَرَهُ، حَفِظَهُ مَنْ حَفِظَهُ، وَنَسِيَهُ مَنْ نَسِيَهُ، قَدْ عَلِمَهُ أَصْحَابِي هَؤُلَاءِ، فَمَا مِنْهُ شَيْءٌ إِلَّا قَدْ سَأَلْتُهُ عَنْهُ، إِلَّا أَنِّي لَمْ أَسْأَلْهُ: مَا يُخْرِجُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ مِنْ الْمَدِينَةِ، وَإِنَّهُ لَيَكُونُ مِنْهُ الشَّيْءُ قَدْ نَسِيتُهُ، فَأَرَاهُ، فَأَذْكُرُهُ كَمَا يَذْكُرُ الرَّجُلُ وَجْهَ الرَّجُلِ إِذَا غَابَ عَنْهُ، ثُمَّ إِذَا رَآهُ عَرَفَهُ".
ولما تفرقت تلك الروايات التي تحكي قصة الوجود والغاية من الخلق ونظام الحياة ونهاية الدنيا وتشعبت في الكتب؛ حرصت أن أجمع منها خلاصة غنية موجزة في سياق قصة تجمع أصول العلم الثابت وجوامع الحديث الصحيح وأهم أحداث التاريخ، لتحكي بنسق مترابط أبرز وأهم أحداث قصة الوجود والخلق والطريق في هذه الحياة وما فيه من تدافع الحق والباطل وأبرز أخبار الأمم وما سيكون إلى حياة الخلود.
1 / 4
وكان البدء بجمع خلاصة مختصرة من أهم جوامع الأحاديث النبوية لمطالعتها وفهمها وربط أطرافها وتسهيل مذاكرتها، فكان الأصل فيها أحاديث الأربعين النووية وما اتصل بشرحها من الروايات الصحيحة الواردة في كتاب جامع العلوم والحكم لابن رجب، ثم ما ارتبط بها من زيادات صحيحة وحسنة من مختلف كتب السنة وشروحها التي أمكن الاطلاع عليها، وفق تصحيح المحققين من أهل الحديث المتأخرين كالشيخ الألباني وغيره، مع الاستفادة الكبرى من خدمات برامج المكتبات الإلكترونية لكتب السنة.
ثم كان ترتيب هذه الروايات لتحكي قصة الحياة من بدء الخلق وصفة الخالق جل وعلا، وذكر خلق السموات والأرض وخلق أول البشر وما كان من عداوة الشيطان له، وهبوط آدم وإبليس إلى الأرض، وإرسال الرسل وقصصهم مع أقوامهم، وجمع ما صح من أحاديث قصص الأنبياء وما صح عن الصحابة في ذلك، ثم انتقاء الأظهر من روايات حفاظ المؤرخين وترجيحاتهم في الأحداث التاريخية المشتهرة التي لم ترد بأسانيد متصلة، وشمل ذلك ملخصًا لأهم أحداث السيرة النبوية الشريفة مع جمع أطراف بعض أهم أحداثها؛ كقصة الهجرة وصلح الحديبية، ثم ملخصًا موضوعيًا من جوامع الكلم النبوي، وذكر أشراط الساعة، وأحداث يوم القيامة، وبها تكتمل قصة الحياة من الوجود إلى الخلود.
وقد ازدانت القصة بحواشٍ مليئة بالتوضيحات والفوائد والفرائد والملخصات من مهمات ما بينه أهل العلم ﵏ في جملة من الموضوعات؛ كذكر النجوم والأبراج والغاية من وجودها، وهيئة السموات والأرض والأفلاك، وحساب الزمان والسنين والفصول والمواسم والتأريخ الصحيح، ووقوع التحريف في دين اليهود والنصارى وكتبهم، وحال الناس في الفترة بين عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام، وإعجاز القرآن الكريم وجمعه، وتفرق الأمة، ونشوء علم الرجال وحفظ السُّنة بالإسناد، وتوضيحات مهمة في مسائل الرق في الإسلام، والحجاب والعفة وحفظ العرض والنسل، وفوائد في حفظ الصحة والتداوي والاسترقاء، وحال الصحابة في معالجة الفتنة التي وقعت بين المسلمين في آخر زمن الخلفاء الراشدين، وذكر تداعي الأمم الكافرة على المسلمين، وفضل مجتمعات المسلمين على غيرهم، ومسائل في أشراط الساعة وذكر الدجال وابن صياد، وخروج يأجوج ومأجوج، وغير ذلك من الإثراءات.
1 / 5
فتكونت خلاصة متناسقة مفيدة، كانت الغاية أن يسهل فهمها والربط بينها ومذاكرتها ومعاودة قراءتها والاستئناس بها بصورة خاصة، ليس للتأليف العلمي؛ وإنما لأنتفع بها وأنفع بها أولادي وأحببها لهم، بعيدًا عن الإطالة والإحالة والإسناد والعزو والتخريج وذكر الخلافات؛ حيث كان القصد جمع الصحيح واختصار المهم من المطولات وتسهيل الربط بينها ومراجعتها في صورة محببة ميسرة.
ثم رغب إلي بعض الأحبة -ممن اطلع على هذا الكناش- بنشره لما فيه من مراعاة الانتقاء والتسلسل والربط والتسهيل والخلاصات، وإن كاد يخلو من الإحالات والتوثيقات؛ فلعل الله أن يفتح لقارئه بابًا للتزود من العلم النافع ويسهل لقارئه فهم كثير مما جاء في القرآن والسنة والسيرة والتاريخ وواقعه المعاصر، ويكون بقراءته الممتعة في سياق قصة مترابطة قد مرَّ بفوائد جمة من كثير من الأحاديث وجوامع الكلم والأخبار الصحيحة والحسنة الجامعة والمجتمعة الأطراف في ترابط وترتيب مختصر مفيد، ولا شك أنه عمل يعتريه النقص والخطأ والزلل، فما كان فيه من الصواب فمن الله، وما كان فيه من خطأ فمن نفسي، وأستغفر الله وأتوب إليه، ولعل الله أن يسخّر له من يفيد منه، مع وافر الشكر والدعاء لمن نقلت من كتبهم أو مواقعهم أو أبحاثهم أو مقالاتهم وترجيحاتهم فهذا العلم والجهد من جهدهم، وإنما جمعت واخترت ولخصت مما أفادوا، فجزاهم الله عني وعن المسلمين خيرًا، وبارك فيما كتبوه وعلّموه رحم اللهُ الأحياءَ منهم والأموات وغفر لهم ورفع دجاتهم.
وأسأله سبحانه المغفرة والقبول وأن ينفع بما جُمع وكُتب، وأن يوفقنا جميعًا لكل خير ويعفو عن الخطأ والزلل ويرحمنا برحتمه الواسعة، إنه غفور رحيم.
وحرره:
عبدالإله بن عبدالله السعيدي -عفا الله عنه-
٢٩ شعبان ١٤٤٢ هـ
1 / 6
الله جل وعلا
كَانَ اللهُ وَلَمْ يَكُنْ شَيْءٌ غَيْرُهُ وَلا قَبْلُهُ، هُوَ الْأَوَّلُ فَلَيْسَ قَبْلَهُ شَيْءٌ، والْآخِرُ فَلَيْسَ بَعْدَهُ شَيْءٌ، والظَّاهِرُ فَلَيْسَ فَوْقَهُ شَيْءٌ، وَالْبَاطِنُ فَلَيْسَ دُونَهُ شَيْءٌ، وِتْرٌ يحب الوِتْرَ (^١)، هُوَ الْأَحَدُ الصَّمَدُ (^٢)، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ، هُوَ الإله الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ، لا إله إلا هو وحده (^٣)، هو الرَّبُّ (^٤) ﷿، والسَّيِّدُ ﵎، الْعَلِيُّ الأَعْلَى الْمُتَعَالِ، العَلِيمُ بِكُلِّ شَيْءٍ، عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، عَلَاّمُ الْغُيُوبِ، هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ (^٥)، مَالِكُ الْمُلْكِ، بِيَدِهِ المُلكُ، ولم يكن له شريك في الْمُلْكِ، وله المُلْكُ والملكوت (^٦)، مَلِيكٌ مُقْتَدِرٌ، وجهُهُ كريمٌ، وسُلطانُهُ قديمٌ (^٧)، لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ، هُوَ مُحْيِي الْمَوْتَى، يُحْيِي وَيُمِيتُ، وهو الْحَيُّ الَّذِي لَا يَمُوتُ، والْوَارِثُ (^٨) الّذِي يَرِثُ الأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا، كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ. هُوَ اللهُ الْخَالِقُ الْبَارِيءُ (^٩) الْمُصَوِّرُ (^١٠) بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ، ونُورُ (^١١) السَّمَاوَاتِ وَالأرْضِ، وفَاطِرُ (^١٢) السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ، وهُوَ الْخَلاّقُ الْعَلِيمُ، الّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ، فَتَبَارَكَ اللهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ، صَنَع كُلَّ صَانِعٍ وصَنْعَتَهُ (^١٣)، صُنْعَ اللهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ، يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ وَيَخْلُقُ مَا يَشَاءُ، لَهُ الخَلقُ وَالأمْرُ، يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ أَنْ تَزُولا، وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ، أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا، وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (^١٤)، هو الْمَجِيدُ (^١٥)، الْكَرِيمِ الأَكْرَمُ، الْعَزِيزُ الأَعَزُّ، لَهُ الْعِزَّةُ جَمِيعًا، يعِزُّ مَنْ يشَاءُ ويذِلُّ مَنْ يشَاءُ، والعِزُّ إِزَارُهُ والكِبْرِياءُ رِدَاؤُهُ، فَهُوَ الْمُتَكَبِّرُ، وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ (^١٦) فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ، وهُوَ الْقَيُّوم، قَيِّم وقيَّام السماوات والأرض ومن فيهن، قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ (^١٧). هو الْقادِرُ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ، هُوَ الْقَهَّارُ والْقَاهِرُ (^١٨) فَوْقَ عِبَادِهِ، وَهُوَ الْكَبِيرُ (^١٩)، الجَبَّارُ (^٢٠) ذُو الْجَبَرُوتِ وَالْعَظَمَةِ، وَهُوَ الْقَوِيُّ شَدِيدُ الْمِحَالِ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (^٢١)، غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ (^٢٢)،
_________
(^١) الوتر: الفرد الواحد الذي لا شريك له، ولا نظير له.
(^٢) الصمد: السيد الذي بلغ المنتهى سؤدده. والمصمت الذي لا جوف له، ولا يأكل ولا يشرب.
(^٣) وأعظم العبادات توحيده جل وعلا، وفي الحديث: (فليكن أول ما تدعوهم إلى أن يوحدوا الله تعالى).
(^٤) ومعنى الرَّب: المالك والمتصرف والمدبر والسيد والمربي. و﴿ارْجعْ إلى رَبِّك﴾؛ أي: إلى سيدك. ولا يُقال لمخلوق: هذا الرَّبُّ.
(^٥) من (القدس)، وهو الطهارة.
(^٦) مُلك الله وملكوته: سلطانه وعظمته.
(^٧) قال الليث: السُّلطان: قدرة الملك ... وقدرة من جعل ذلك له، وإن لم يكن ملكًا. والقديم: هو الموجود لم يزل.
(^٨) الوارِث: الباقي الدائم، الذي دام وجوده.
(^٩) الباريء: هو الذي خلق الخلق، لا عن مثال.
(^١٠) المُصَوِّر: هو الذي صوَّر جميع الموجودات ورتبها، فأعطى كل شيء منها صورة خاصة وهيئة مفردة يتميز بها على اختلافها وكثرتها، الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاء.
(^١١) منوِّرها، وهادي أهلها.
(^١٢) فَطَرَ؛ أي: شَقَّ، والفَطْر: الابتداء والاختراع، فطركم أول مرة؛ أي: ابتدأ خلقكم، فطر السماوات والأرض؛ أي: شقهما وفتقهما بعد أن كانتا رتقًا، وهو مبدعها ومبتدئها وخالقها.
(^١٣) إطلاق الصانع هو وصفٌ لله أنه مبدع للكون.
(^١٤) المحيط: هو الذي أحاطت قدرته بجميع المقدورات، وأحاط علمه بجميع المعلومات.
(^١٥) المجد: المروءة والسخاء، والمجد: الكرم والشرف.
(^١٦) وكبرياء الله: شرفه، وهو من (تكبَّر): إذا أعلى نفسه.
(^١٧) القائم على كل شيء: معناه مدبر أمر خلقه، والقَيُّوم: القَيِّم بحفظ كل شيء ورزقه وتدبيره. والقائم على الشيء: الرقيب فيشمل الحفظ والإبقاء والإمداد.
(^١٨) القهر بمعنى الغلبة والأخذ من فوق. ومن صفةِ كلِّ قاهرٍ شيئًا أن يكون مستعليًا عليه.
(^١٩) معنى الكبير؛ أي: العظيم الذي كل شيء دونه، وهو أكبر وأعظم من كل شيء.
(^٢٠) "الجبار" بمعنى القهار، وبمعنى "الرؤوف" الجابر للقلوب المنكسرة، وللضعيف العاجز، ولمن لاذ به ولجأ إليه.
(^٢١) ذو الاقتدار الشديد، والمتين في صفة الله القوي.
(^٢٢) أي: أمره تعالى نافذ؛ لا يبطله مبطل، ولا يغلبه مغالب.
1 / 8
كَتَبَ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي (^١)، وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ، نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ، صَدَقَ وَعْدَهُ، ونَصَرَ عَبْدَهُ، وهَزَمَ الأَحزابَ وَحْدَه. شَهِيدٌ (^٢) لا يغيب عنه شيء، شَهِدَ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَاّ هُوَ، ذُو الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ، الذي يُجِلُّهُ كُلُّ مخلوقٍ، ويُكَرَّمُ بِعِبَادَتِهِ كُلُّ مخلوق، ﴿وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ﴾، حييٌ كريمٌ، قَرِيبٌ مُجِيبٌ، هُوَ الْمُهَيْمِنُ (^٣)، وهُوَ خَيْرٌ حافِظًا، وهو عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ وحَسِيبٌ (^٤).
هو الحَكَم، وإليه الحُكم، يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ، وهُوَ الْحَقُّ (^٥) وقَوْلُهُ الْحَقُّ، وهو الحكيم (^٦) الْمُقَدِّمُ الْمُؤَخِّرُ، القَابِضُ البَاسِطُ، المُعْطِي الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى، لا مانع لما أعطى، ولا معطي لما منع، هو الْوَهَّابُ (^٧)، يهب ما يشاء لمن يشاء كيف شاء، جوادٌ يحب الجُود، يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ، وهو المُسَعِّرُ الرَّزَّاقُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ، وَكَانَ اللهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (^٨)، وَهُوَ اللَّطِيفُ (^٩) الخَبِيرُ (^١٠)، الْفَتَّاحُ، مَا يَفْتَحْ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَهَا، وهُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ، أرْحَمُ الرَّاحِمينَ، هو الْحَنَّانُ يتحنَّنُ برحمته، كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ، وَسِعَتْ رحمته كُلَّ شَيْءٍ، وهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيد، ووسع رزقه الخلق أجمعين، فهو واسِعُ (^١١) العظمة والسلطان والملك، وواسِعُ الفضل والإحسان، سُبُّوحٌ قُدُّوسٌ (^١٢) ربُّ الملائكةِ والروحِ، جميلٌ يحبُّ الجَمَال، هُوَ السَّلامُ الذي سَلِم مِن كل عَيْبٍ ونَقْصٍ، ومنه السَّلامُ يُرْجَى وَيُطْلَب، رَفِيقٌ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ، سِتِّير، لا يستر على عبد في الدنيا إلا ستره يوم القيامة، وإِنَّ اللهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ، هو الطبيب (^١٣) الشَّافي، لا شفاء إلا شفاؤه، وهُوَ البَرُّ (^١٤) الْغَفُورُ الْغَفَّارُ الوَدُوُد، الْوَلِيُّ وَالْمَوْلَى، وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا وَمَوْلَاهُم (^١٥)، حَفِيٌّ بِعِبَادِهِ (^١٦)، كافٍ عباده ما يحتاجون إليه (^١٧)، هُوَ حَسْبُنَا وَنِعْمَ الوَكِيل، يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ، وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ، وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا، وكَفَى بِهِ كَفِيلًا (^١٨)، هُوَ المنَّانُ (^١٩) يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ، وَهُوَ الْمُسْتَعَانُ الذي يستعين به عباده فيعينهم، كَلَّمَ مُوسَى تَكْلِيمًا، وَنَاداهُ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِي الأَيْمَنِ، وَكَتَبَ لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً، وَعَتَبَ عَلَيْهِ، يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ، وما أحدٌ أصبر (^٢٠) على أذى سمعه من الله؛ يدَّعون له الولد، ثم يعافيهم ويرزقهم،
_________
(^١) أي: لأنتصرن أنا ورسلي.
(^٢) يقال: شاهد وشهيد؛ كعالم وعليم؛ أي أنه حاضر يشاهد الأشياء ويراها، شهد لعباده وعلى عباده بما عملوه، و(شهد الله)؛ بمعنى: علم، وكتب، وقضى، وأظهر، وبيَّن.
(^٣) أصل الهَيْمَنَة: الحفظ والارتقاب، يقال: إذا رقب الرجل الشيء وحفظه وشهده؛ قد هيمن فلان عليه؛ فهو يهيمن هَيْمَنَة، وهو عليه مهيمن.
(^٤) معنى الحسيب؛ أي: الحفيظ، والكافي، والشهيد، والمحاسب.
(^٥) من أسمائه تعالى: الحق، وهو المتحقق كونه ووجوده.
(^٦) الحكيم: ذو الحكمة، وهي معرفة أفضل الأشياء بأفضل العلوم.
(^٧) الهبة: العطية الخالية عن الأعواض والأغراض، فإذا كثرت؛ سمَّي صاحبها وهَّابًا.
(^٨) الْمُقِيتُ: الذي يقدر لعباده القوت، ويحفظ عليهم رزقهم.
(^٩) اللطيف: بمعنى الخبير بدقائق الأمور وما لطف وخفي منها، وبمعنى الرؤوف الذي يوصل الخير واللطف للخلق.
(^١٠) الخبير: العالم بما كان وما يكون، والعالم بكنه الشيء، المطلع على حقيقته.
(^١١) السعة: الغنى، والواسِع: الغني.
(^١٢) أي: مُسَبَّحٌ مُقَدَّسٌ، والسُبُّوح: المنَزَّه عن كل عيب ونقص، والقُدُّوس: المطهر من كل ما لا يليق بالخالق.
(^١٣) في حديث أبي رمثة ﵁؛ أنه قال للنبي ﷺ: أرني هذا الذي بظهرك؛ فإني رجل طبيب. قال ﵊: (الله الطبيب، بل أنت رجل رفيق، طبيبها الذي خلقها). وعن عائشة ﵂: (مرض رسول الله ﷺ فوضعت يدي على صدره فقلت: اذهب البأس، رب الناس، أنت الطبيب، وأنت الشافي ..). والطِّبُّ: هو العلم بالشيء، يقال: رجل طَبٌّ وطبيبٌ؛ أي: عالمٌ حاذق.
(^١٤) البَرُّ: العطوف على عباده ببرِّه ولُطْفِه.
(^١٥) من الْوِلايَةُ والْمُوَالاةُ، أي: نصيرهم وظهيرهم، ويتولاهم بعونه وتوفيقه.
(^١٦) الحفيِّ؛ أي: البَر اللطيف. أي: بارًَّا عوَّدهم منه الإجابة إذا دعوه.
(^١٧) وفي الحديث: (الحمد لله الذي أطعمنا وسقانا وكفانا وآوانا؛ فكم ممن لا كافي له ولا مؤوي له).
(^١٨) الكفيل: الوكيل والحفيظ والشهيد والعائل والضامن.
(^١٩) المنَّان أي: المعطي ابتداءً، والمِنَّة: النعمة الثقيلة.
(^٢٠) حقيقة الصبر: منع النفس من الانتقام أو غيره؛ فالصبر نتيجة الامتناع، فأطلق اسم الصبر على الامتناع في حق الله تعالى.
1 / 9
وهُوَ التَوَّابٌ (^١) يفرح بتوبة عبده، وهو شَاكِرٌ شَكُورٌ (^٢)، لا يَمَلُّ حتى تملوا (^٣)، وإن الله تعالى يغار (^٤)، وغيرة الله تعالى أن يأتي المرء ما حرَّم الله عليه، وَلَا شَخْصَ أَغْيَرُ مِنَ اللهِ، وَمِنْ أَجْلِ غَيْرَةِ اللَّهِ حَرَّمَ الفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ، وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْعُذْرُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ بَعَثَ اللهُ الْمُرْسَلِينَ، مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ، وَلَا شَخْصَ أَحَبُّ إِلَيْهِ الْمِدْحَةُ مِنَ اللهِ، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ وَعَدَ اللهُ الْجَنَّةَ، وَهُوَ عَفُوٌّ (^٥) غَفُورٌ، رَقِيبٌ على خلقه، وهُوَ الدَيَّان الذي يجازي عباده بعملهم، وإِنَّ اللهَ لَا يَنْظُرُ إِلَى أَجْسَادِكُمْ وَلَا إِلَى صُوَرِكُمْ وَلَا إِلَى أَمْوَالِكُمْ، وَلَكِنْ يَنْظُرُ إِلَى قُلُوبِكُمْ وَأَعْمَالِكُمْ. عَاتَبَ أَوْلِياءَهُ، وعَجِبَ مِنْ قَوْمٍ يُقَادُونَ إِلَى الْجَنَّةِ فِي السَّلَاسِلِ، ويَنْزِلُ اللهُ ﵎ كُلَّ لَيْلَةٍ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا فَيَسْتَجِيبُ لِمَن سَأَلَهُ، وفي يَوْمِ عَرَفَةَ يَدْنُو ثُمَّ يُبَاهِي بِعِبَادِهِ الْمَلَائِكَةَ، ويَضْحَكُ اللهُ ﷿ مِنْ رَجُلٍ وَيُدْخِلُهُ الْجَنَّةَ. وأَحَلَّ مَقْتَهُ وغَضَبَهُ على الطُغاةِ المُجْرِمِينَ الذين لا يَتُوبُونَ، وكَرِهَ انْبِعَاثَ المُنَافِقين فَثَبَّطَهُم، الّذِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ، واللهُ يَسْتَهْزِئُ بالمُسْتَهْزِئِينَ بآيَاتِهِ وعِبَادِهِ، وَيَمْكُرْ لِعِبَادهِ على مَنْ يَمْكُرْ عَلَيْهم، وَيَسْتَدْرِجُ الكَافِرِينَ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ، وإِذَا رَأَيْتَ اللهَ يُعْطِي الْعَبْدَ مِنْ الدُّنْيَا عَلَى مَعَاصِيهِ مَا يُحِبُّ؛ فَإِنَّمَا هو اسْتِدْرَاجٌ ﴿فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ، حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُون﴾. وَاللهُ هُوَ الْمُؤْمِنُ الذي يؤمِّن عبادَه المؤمنين من بأسهِ وعذابهِ، ويصدِّقُهم على إيمانِهم، وَيَصْدُقُهُم ما وَعَدَهُم (^٦)، وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (^٧) والْعِقَابِ، مُنْتَقِمٌ مِنَ المُجْرِمِينَ، ذُو بَطْشٍ شَدِيدٌ، وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ. ولله تسعة وتسعون اسمًا مَنْ أَحْصَاهَا دَخَلَ الْجَنَّةَ، فله الأسماء الحسنى والصفات العلى. وإنّه تعالى لَا يَنَامُ، وَلَا يَنْبَغِي لَهُ أَنْ يَنَامَ (^٨)، إِنَّ يَمِينَ اللَّهِ مَلْأَى لَا يَغِيضُهَا نَفَقَةٌ، سَحَّاءُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَبِيَدِهِ الأُخْرَى المِيزَانُ يَخْفِضُ وَيَرْفَعُ (^٩)، يُرْفَعُ إِلَيْهِ عَمَلُ اللَّيْلِ قَبْلَ عَمَلِ النَّهَارِ، وَعَمَلُ النَّهَارِ قَبْلَ عَمَلِ اللَّيْلِ، حِجَابُهُ النُّورُ لَوْ كَشَفَهُ لَأَحْرَقَتْ سُبُحَاتُ وَجْهِهِ (^١٠) مَا انْتَهَى إِلَيْهِ بَصَرُهُ مِنْ خَلْقِهِ، وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا، ولَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ، ولَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا، وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا.
_________
(^١) العبد توابٌ إلى الله من ذنبه، والله توابٌ عليه؛ أي: يقبل توبته ويعفو عنه.
(^٢) الشكور: من صفات الله جل اسمه، معناه: أنه يزكو عنده القليل من أعمال العباد، فيضاعف لهم الجزاء، وشكره لعباده: مغفرته لهم، والله ﷿ شكورٌ للعبد؛ أي: يشكر له عمله؛ أي: يجازيه على عمله.
(^٣) كأنَّ المعنى: لا يملُّ من ثواب أعمالكم حتى تملُّوا من العمل.
(^٤) الغيرة: هي الكراهية للشيء، وذلك جائز في صفات الله. وقد قال تعالى: ﴿وَلَكِنْ كَرِهَ الله انْبِعَاثَهُمْ﴾.
(^٥) العفو: المحو، ومنه: ﴿عَفَا الله عَنْكَ﴾: محا الله عنك؛ مأخوذ من قولهم: عفت الرياح الآثار: إذا درستها ومحتها.
(^٦) وأصل الإيمان: التصديق.
(^٧) ذو سرعة في محاسبة عباده يومئذٍ على أعمالهم التي عملوها في الدنيا.
(^٨) هو سبحانه منزه عن الحاجة للنوم، وكيف ينام وهو مالك ما في السموات وما في الأرض ومربيهم والقيّوم عليهم، ومدبر أمور معاشهم ومعادهم؟
(^٩) يَخْفِضُ الْمِيزَان وَيَرْفَعهُ بِمَا يُوزَنُ مِنْ أَعْمَالِ الْعِبَادِ الْمُرْتَفِعَةِ، وَيُوزَنُ مِنْ أَرْزَاقهمْ النَّازِلَة.
(^١٠) سُبُحَات وَجْهِه: نُورُه وَجَلَالُه وَبَهَاؤُهُ.
1 / 10
بدء الخلق
وكان عرش الله على الماء (^١)، وأوّلَ ما خلق الله القلم؛ قال له: اكتب، فجرى بما هو كائن إلى يوم القيامة (إلى الأبد)، كتب مقادير الخلائق (القدر)، وكتب في الذِّكْر (اللوح المحفوظ) كل شيء قبل أن يخلق الله السموات والأرض بخمسين ألف سنة.
_________
(^١) وعن ابن عباس ﵄: أن الماء كان عَلَى مَتْنِ الرِّيحِ. والعرش: سرير ذو قوائم تحمله الملائكة، وهو سقف المخلوقات.
1 / 11
السموات والأرض
وإِنَّ اللهَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرَضِينَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ (^١)، ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَوْمَ السَّابِعِ (^٢)، وَخَلَقَ التُّرْبَةَ يَوْمَ السَّبْتِ، وَخَلَقَ فِيهَا الْجِبَالَ يَوْمَ الْأَحَدِ، وَخَلَقَ الشَّجَرَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَخَلَقَ التِّقْن (^٣) يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ، وَخَلَقَ النُّورَ (^٤) يَوْمَ الْأَرْبِعَاءِ، وَبَثَّ فِيهَا الدَّوَابَّ يَوْمَ الْخَمِيسِ. وَخَلَقَ آدَمَ ﵇ بَعْدَ الْعَصْرِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فِي آخِرِ الْخَلْقِ، فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ، فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ (^٥).
وجعل اللهُ خلقه وإبداعه وإنعامه على المخلوقين وتربيتهم بنعمه آيات ودلائل على ربوبيته، فهو رب العالمين، تسبِّح له وتقدسه السماوات السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ، وتنزهه وتعظمه وتبجله وَتَكَبِّرُهُ، وَمَا مِنْ شَيْءٍ مِنَ الْمَخْلُوقَاتِ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِ اللَّهِ (^٦).
_________
(^١) جمهور العلماء على أنها أيام كأيامنا. وعن ابن عباس ﵄ أن اليوم الواحد من الأيام الستة بألف سنة.
(^٢) وقد قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: "أَتَانِي جِبْرِيلُ ﵇ وَفِي كَفِّهِ مِرْآةٌ بَيْضَاءٌ، فِيهَا نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَقُلْتُ: مَا هَذِهِ يَا جِبْرِيلُ؟، قَالَ: هَذِهِ الْجُمُعَةُ، يَعْرِضُهَا عَلَيْكَ رَبُّكَ ﷿ لِتَكُونَ لَكَ عِيدًا، وَلِقَوْمِكَ مِنْ بَعْدِكَ، تَكُونُ أَنْتَ الْأَوَّلَ، وَيَكُونُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى مِنْ بَعْدِكَ، قُلْتُ: مَا لَنَا فِيهَا؟، قَالَ: لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ، لَكُمْ فِيهَا سَاعَةٌ مَنْ دَعَا رَبَّهُ ﷿ فِيهَا بِخَيْرٍ هُوَ لَهُ قَسْمٌ، أَعْطَاهُ اللهُ ﷿ أَوْ لَيْسَ لَهُ بِقَسْمٍ، إِلَّا ذُخِرَ لَهُ مَا هُوَ أَعْظَمُ مِنْهُ، أَوْ تَعَوَّذَ فِيهَا مِنْ شَرِّ مَا هُوَ مَكْتُوبٌ عَلَيْهِ، إِلَّا أَعَاذَهُ اللهُ مِنْ أَعْظَمَ مِنْهُ، وَنَحْنُ نَدْعُوهُ فِي الْآخِرَةِ: يَوْمَ الْمَزِيدِ .. ". وقال ﵊: "أَضَلَّ اللَّهُ ﷿ عَنِ الْجُمُعَةِ مَنْ كَانَ قَبْلَنَا، فَكَانَ لِلْيَهُودِ يَوْمُ السَّبْتِ، وَكَانَ لِلنَّصَارَى يَوْمُ الْأَحَدِ، فَجَاءَ اللَّهُ ﷿ بِنَا فَهَدَانَا لِيَوْمِ الْجُمُعَةِ، فَجَعَلَ الْجُمُعَةَ وَالسَّبْتَ وَالْأَحَدَ، وَكَذَلِكَ هُمْ لَنَا تَبَعٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَنَحْنُ الْآخِرُونَ مِنْ أَهْلِ الدُّنْيَا، وَالْأَوَّلُونَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ الْمَقْضِيُّ لَهُمْ قَبْلَ الْخَلَائِقِ".
وَكَانَ الْيَهُودُ إنّمَا اخْتَارُوا السّبْتَ، لِأَنّهُمْ اعْتَقَدُوهُ الْيَوْمَ السّابِعَ، ثم زادوا لكفرهم أَنّ اللهَ اسْتَرَاحَ فِيهِ، تَعَالَى اللهُ عَنْ قَوْلِهِمْ، لِأَنّ بَدْءَ الْخَلْقِ عِنْدَهُمْ الْأَحَدُ، وَآخِرَ الستة الأيام الّتِي خَلَقَ اللهُ فِيهَا الْخَلْقَ الْجُمُعَةُ، وَهُوَ أَيْضًا مَذْهَبُ النّصَارَى، فَاخْتَارُوا الْأَحَدَ، لِأَنّهُ أَوّلُ الْأَيّامِ فِي زَعْمِهِمْ، وَقَدْ شَهِدَ الرّسُولُ- ﷺ لِلْفَرِيقَيْنِ بِإِضْلَالِ الْيَوْمِ، وَقَالَ فِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ: "إنّ اللهَ خَلَقَ التّرْبَةَ يَوْمَ السّبْتِ"، فَبَيّنَ أَنّ أَوّلَ الْأَيّامِ الّتِي خَلَقَ اللهُ فِيهَا الْخَلْقَ السّبْتَ، وَآخِرَ الْأَيّامِ السّتّةِ إذًا الْخَمِيسُ. والأسبوع عرف بإخبار الأنبياء أن الله خلق هذا العالم في ستة أيام ثم استوى على العرش يوم السابع.
(^٣) وهو ما يقوم به المعاش ويصلح به التدبير كالحديد وغيره من جواهر الأرض. وعند مسلم: (وَخَلَقَ الْمَكْرُوهَ يَوْمَ الثُّلَاثَاءِ). ولا ينافيه لأن كلًّا منهما خُلق فيه. وبعضهم فسر المكروه بالشر، وبعضه مثّل للمكروه بالظلام والأمراض والسموم وكل ما يؤلم.
(^٤) وفي رواية (النون) بدل النور، ومعناه: الحوت، ويحتمل أن يكون كلاهما خُلقا يوم الأربعاء، والله سبحانه أعلم.
(^٥) رواه مسلم في صحيحه، والنسائي في التفسير في السنن الكبرى وأحمد في المسند ورواه غيرهم، وصححه الشوكاني والألباني، وقد تكلم البخاري وغير واحد من الحفاظ في هذا الحديث وجعلوه من رواية أبي هريرة عن كعب الأحبار ليس مرفوعًا، وأعل بعضهم متنه حيث أشكل عليهم أن الله أخبر أنه خلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام، وأن هذا الحديث يقتضي أن مدة تخليق الأرض وحدها سبعة أيام وأنه لم يذكر السماء. ويزيل هذا الإشكال بيان معنى الحديث، حيث ذكرت الأيام السبعة في الحديث، والأيام الستة في القرآن، والحديث يتحدث عن شيء من التفصيل الذي أجراه الله على الأرض، فهو يزيد على القرآن ولا يخالفه. وإن لم ينص على خلق السماء؛ فقد أشار إليها بذكره في اليوم الخامس النور، وفي السادس الدواب، وحياة الدواب محتاجة إلى الحرارة، والنور والحرارة مصدرهما الأجرام السماوية. وخلق الأرض نفسها كان في أربعة أيام كما في القرآن، والقرآن لما ذكر خلق الأرض في أربعة أيام، لم يذكر ما يدل أن من جملة ذلك خلق النور والدواب، ولما ذكر خلق السماء في يومين لم يذكر ما يدل أنه في أثناء ذلك لم يحدث في الأرض شيئًا، والمعقول أنها بعد تمام خلقها أخذت تتشكل بما أودعه الله تعالى فيها، والله ﷾ لا يشغله شأن عن شأن. ويرجع للفائدة إلى السلسلة الصحيحة للألباني (٢/ ٧٢٦) رقم "١٨٣٣"، وبحث: (إزالة الشبهة عن حديث التربة) لعبدالقادر بن حبيب الله السندي، المنشور في مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة العدد ٤٩ صفحة ٢٩.
(^٦) والله فوق عرشه، وعرش الله هو أعلى ما نعلمه من المخلوقات، وأعظمها، وسقفها، وهو كالقبة على العالم وله قوائم، وتحته الماء، والكرسي الذي هو بالنسبة إلى العرش كحلقة في فلاة، والكرسي محيط بالسموات والأرض وهن بالنسبة إليه كحلقة في فلاة، والعالم العلوي والسفلي بالنسبة إلى الخالق جل وعلا في غاية الصغر. والكرسي - كما قال بعض السلف - أمام العرش كالمقدمة له أو تحته كالمرقاة له، والمرقاة: هو ما يُرقى عليه. ولهذا روي عن ابن عباس ﵄ أنه قال: "الكرسي موضع القدمين لله ﷾". وقال السدي: السماوات والأرض في جوف الكرسي، والكرسي بين يدي العرش. فيجب الإيمان بذلك على حقيقته كما يليق بالله ﷻ. وذكر العلماء أن السماء على شكل كرة والسماوات بعضها على بعض كقشور البصلة، وأن الأرض كرة في المركز الوسط، تحيط بها السماء الدنيا من كل جانب، وشبهوا ذلك بالبيضة أو البصلة أو البطيخة. والسماء حقيقة مبنية بناء حقيقيًا، لها كثافة وأبواب وسكان، وهي سبع سموات واحدة فوق الأخرى، وهذا الذي دل عليه القرآن، وليست كما يقول ملاحدة اليوم وغيرهم: إنها فضاء، فيسمون الفوق فضاءً، أي: ليس فيه شيء، ويزعمون أنه ليس فيه إلا هذه الكواكب، وأن الكواكب تسبح في الفضاء، وبعضها فوق بعض. وهؤلاء الملاحدة لا يستطيعون أن يصلوا إلى السماء، ولا قريبًا منها، بل يقفون عند حدهم، فهم ضعفاء، والسماء بعيدة جدًا. والأفلاك هي مدارات الشمس والقمر والنجوم والكواكب السيارة، وذكروا أنها كلها واقعة بين السماء الدنيا المبنية والأرض. والنجوم سابحة بين السماء والأرض، مسخرة بأمره سبحانه ومسيرة. وجاء في السنة ذكر المسافات بين الأرض والسماء، فعَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ ﵄، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: " لَوْ أَنَّ رَصَاصَةً مِنْ هَذِهِ مِثْلُ هَذِهِ وَأَشَارَ إِلَى مِثْلِ الْجُمْجُمَةِ أُرْسِلَتْ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ، وَهِيَ مَسِيرَةُ خَمْسِ مِائَةِ سَنَةٍ لَبَلَغَتِ الْأَرْضَ قَبْلَ اللَّيْلِ، وَتَلَا رَسُولُ اللَّهِ ﷺ ﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ﴾. وخمسمائة عام بمسير الإبل المعتاد تعادل تقريبًا: (٩) تسعة ملايين كم فقط، وعليها فتقدر المسافة الحقيقية بين سطح الأرض ونهاية السماء السابعة بـ (١٢٦) مليون كم فقط، والله أعلم. وفي سنن ابن ماجه: أن ما بين السماء والأرض مسيرة ثلاثة وسبعين سنة أو نحوها، وكذا بين كل سماء وسماء. قال الذهبي: "لا منافاة بينهما لأن تقدير ذلك بخمسمائة عام هو على سير القافلة مثلًا، ونيف وسبعون سنة على سير البريد لأنه يصح أن يقال بيننا أي بالشام وبين مصر عشرون يومًا باعتبار سير العادة وثلاثة أيام باعتبار سير البريد". والله جل وعلا أصعد رسوله إلى السماء السابعة في ليلة واحدة، وكذلك ثبت أنه إذا قبض العبد الصالح وخرجت فإن روحه يُصعد بها إلى السماء السابعة ثم تعود، وهذا كله يقع قبل أن يُدفن، أي: ما بين موته وتجهيزه والصلاة عليه ووضعه في قبره، فإذا وُضع في قبره أعيدت روحه إليه، وبعدها يوقف في القبر ويسأل.
وأما الخلاف بين الناس في مسألة ثبات الأرض في مركز الكون ونظرية دوران الأرض حول الشمس؛ فإن المثبتين لمركزية الأرض وثباتها في مكانها يقولون: إننا نجد أن الكتب السماوية خاطبت الناس بما عهدوه وأحسوه من سكون الأرض واستقرارها؛ فالشمس كما يراها الناس تدور حول الأرض، وتشرق وتغرب، وأسندت الأفعال في الحركة إلى الشمس، وقال يوشع بن نون ﵇ للشمس: "أنت مأمورة، وأنا مأمور، اللهم احبسها عليَّ شيئًا"، ونسب سليمان ﵇ الحركة إلى الشمس مع كل ما أتاه الله من العلم والسلطان والملك العظيم. وكذلك ما جاء عن غيرهم من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين. والإنسان كل يوم يشاهد بعينه الشمس تشرق من جهة المشرق، ثم تظل سائرة في فلك السماء حتى تغرب من جهة المغرب، لا يرتاب في ذلك أحدٌ باقٍ على فطرته، كما أنه يعلم يقينًا أن الأرض التي تحته ثابتة مستقرة، لا تنتقل من مكانها. وقد كان السؤال الرئيس في محاكمة جاليليو -الذي زعم حركة الأرض ودورانها حول الشمس تبعًا لكوبرنيك- هو: "لماذا تصر على وجوب حركة الأرض مع عدم وجود مشاهدة فلكية مباشرة تدل على ذلك؟ " فإنّ عدم رصد الانحراف النجمي - (إن حركة الأرض في مدار قطره المتوسط ٥٦ مليون كيلومتر لابد أن يؤثر على موقع النجوم في السماء على الأقل مابين الصيف والشتاء عندما تكون الأرض على طرفي المدار) - هو دليل نفي قاطع لدوران الأرض حول الشمس. وقد اكتشف ديفيد كينج أن كثيرًا من النظريات المنسوبة لكوبرنيك هي للفلكي العربي ابن الشاطر (ت ٧٧٧ هـ، ١٣٧٥ م)، وقد عثر في بولونيا، موطن كوبرنيك (١٤٧٣ - ١٥٤٣ م) على مخطوطات عربية عام (١٩٧٣ م)، وثبت أن كوبرنيك كان يأخذ عنها، ويدعي لنفسه ما يأخذ، وثبت منذ عام (١٩٥٠ م) أن نظريات كوبرنيك في الفلك هي في أصلها مأخوذة عن ابن الشاطر الفلكي العربي المشهور، وادعاها كوبرنيك لنفسه.
كما أن دعوى أهل الهيئة أو الهندسة أو المنجمين: أن علمهم ثابت بالبراهين الهندسية؛ غير صحيح. إذ لو كان كذلك لما وقع الخلاف العظيم بينهم في تفاصيل علمهم وجمله. ومنهم من يرى أن الفصول الأربعة (الصيف والخريف والشتاء والربيع) تتشكَّل نتيجة حركة الشمس اللولبية بين مدار السرطان ومدار الجدي أثناء دوران الشمس حول الأرض. وقد جاء بعد كوبرنيك من رد على تهافته، وأقام الحجج العلمية عليه، مثل ركشيولي P. riccioli (١٥٩٨ - ١٦٧١)، وشاينر p.scheiner (١٥٧٥ - ١٦٥٠)، وأنطوان ديوسينج Antoine deusing (١٦١٢ - ١٦٦٦) الذي ألّف كتابه ليبرهن على أن الأرض في مركز الكون، وأن يلغي كل تعقيدات نظام بطليموس، من خلال براهينه الطويلة التي يستخلص منها أنه لا ضرورة لتحريك الأرض، ولا لجعل النجوم بهذه المسافات الشاسعة، وكتابه بعنوان: Devero Systemate mundi dissertatio mathematica (Amestrdam، ١٦٤٣)
وأضاف بعض المعاصرين إشكالات عدة على أولئك الذين يزعمون ثبات الشمس ودوران الأرض حولها؛ منها: أنَّ أقصى سرعة لمركبة الفضاء ٢٧،٠٠٠ كيلومتر في الساعة، وأن معدل سرعة دوران الأرض المزعوم حول الشمس هو ١٠٠ ألف كيلومتر في الساعة، فكيف تعود المركبات الفضائية إلى الأرض بسهولة، وكيف لا تظهر صور الأرض على أنها مذنب سريع الحركة، وكيف تكون سماكة الغلاف الجوي متساوية ومتجانسة حيث يفترض أن تقل من جهة انطلاق الأرض السريع المزعوم وتزيد من الجهة الأخرى؟ ولو كانت جاذبية الشمس أقوى من جاذبية القمر، لظهرت تأثيرات جاذبية الشمس على الأرض، مثل المد والجزر؛ حيث إننا نلاحظ حدوث المد والجزر عندما يكون القمر عموديًا على الأرض، وليست الشمس. وتحدث بعضهم عن اتجاه حركة ظل القمر على الأرض -في ظاهرة كسوف الشمس- أنه يتجه إلى مشرق الأرض دلالة على تحرك الشمس ودورانها حول الأرض إلى جهة المغرب.
وذكروا أيضًا أن لاتباع الأهواء الوثنية وتعظيم الشمس والنار والشياطين أثر كبير في تجاهل الحس المشهود وتجاهل كل أولئك الفلكيين الذين يثبتون مركزية الأرض وينفون نظرية الدوران حول الشمس، ويشهد لذلك ما ينقله فرديناند هوفر في كتابه "تاريخ علم الفلك" صـ (٣١٣) فيقول: "فلكيو القرن السادس عشر الذين رفضوا فكرة كوبرنيك كانوا كثرةً، وبدلًا من ذكرهم لابد أن نحكم عليهم بالنسيان، وهذا لن يكون إلا العدل". كما ينقل فرديناند هوفر أيضًا في كتابه "تاريخ علم الفلك" صـ (١١٠) أن أرسطو ينقل عن فيلولاوس قوله: "إن مكان الشرف لابد أن يحتله الأكثر رفعة، ولكون النار أكثر رفعة من الأرض؛ فإن الأرض تدور حول النار في حركة دائرية". وهو في ذلك يتبع الشيطان إبليس في القياس الفاسد حين أُمر بالسجود لآدم فقال: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ﴾.
وأشار بعضهم إلى أن الشيطان يكره الأرض وترابها التي خلق منها أدم ﵇، فوضع عرشه على الماء، وأراد أن يتشبه بالخالق ﷾ فهو كالدجال بين أقرانه وأتباعه. وأنّ مما يؤكد اتصال أولئك القوم بالشياطين وثقتهم بهم والأخذ عنهم: ما يقوله بيير بورل (١٦٢٠ - ١٦٧١ م) في كتابه "منطق جديد يثبت تعدد العوالم" صـ (٥٦) يقول: "إذا كان هنالك مخلوق يعرف عين الحقيقة بالنسبة لتعدد العوالم ويمكنه الإجابة الكاملة على هذا السؤال: فإنهم الشياطين، ولكن كيف يمكننا الحصول على أقوالهم حول هذا الموضوع، إن ذلك من خلال وسائل الاتصال بهم، إنه أكيد فإن هذه pans، syluains والآلهة الأخرى التي كانت تظهر قديمًا للناس كانوا شياطين محبوبين، وفي قصة الساحر fauste قال بأن الشياطين تتجول بين النجوم خلال ثمانية أيام وإنهم يصعدون ٤٧ ألف lieues (المسافة تساوي ١٨٨٠٠٠ كيلومتر) وإنهم يرون الأرض ومدنها من هذه المسافات الشاسعة ... ". (Discours nouveau prouvant la pluralité des mondes [Texte imprimé]: que les astres sont des terres habitées et la terre une estoile، qu'elle est hors du centre du monde dans le troisiesme ciel et se tourne devant le soleil qui est fixe، et autres choses très curieuses / par Pierre Borel . Genève: [s.n.]، ١٦٥٧) .
فمن ذلك بينوا أن أولئك المبطلين يخالفون المحسوس ويخالفون الفطرة ويخالفون خطاب الكتب السماوية ويخالفون علماء فلكيين كثر، ويزعمون أن حركة الشمس والقمر والنجوم هي حركة ظاهرية فحسب وليست حقيقية، وكأن الناس يعيشون في توهمات فيما يرونه بأعينهم ويدركونه بحسهم. وأولئك يعظمون الشمس والنار والشياطين، ويريدون جعل الشمس مركزًا للكون، ويقولون بفضاء ليس له نهاية، وينفون علو الله على خلقه، وينفون وجود خالق خلق الإنسان بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته وأسكنه جنته وأكرمه وعلمه وهداه النجدين. بل فوق ذلك كله يؤمن أولئك الوثنيون بخرافة نظرية صاحبهم داروين في التطور البشري المختلق، وهذا الانحرافات المغلوطة للأسف هي التي أصبحت تسوق لها الحضارة الغربية المادية، والله أعلم.
وأما عن شكل الأرض أهي مسطحة أم أنها على هيئة كرة؟:
فجمهور علماء المسلمين منذ القدم يقولون بـ (كرية الأرض) وأنها على شكل كرة وأن السماء محيطة بها على هيئة كرة أيضًا، والمعاصرون يقولون: (كروية) بدلًا من كلمة (كرية) المستخدمة عندالأقدمين. كما يصطلح المعاصرون بتسمية: (علماء الفلك) بدلًا من (أهل الهيئة) وأهل الهندسة والحساب والتنجيم كما يطلق عليهم الأقدمون.
وقد قال أبو محمد عبد الله بن يوسف الجويني والد إمام الحرمين [ت (٤٣٨) هـ] في رسالة في إثبات الاستواء والفوقية [مطبوع ضمن الرسائل المنيرية] (١/ ١٨٦): "فصل: في تقريب مسألة الفوقية من الأفهام بمعنى من علم الهيئة لمن عرفه: لا ريب أن أهل هذا العلم حكموا بما اقتضته الهندسة، وحكمها صحيح؛ لأنه ببرهان لا يكابر الحس فيه؛ بأن الأرض في جوف العالم العلوي، وأن كرة الأرض في وسط السماء كبطيخة في جوف بطيخة، والسماء محيطة بها من جميع جوانبها، وأن سفل العالم هو جوف كرة الأرض، وهو المركز، ونحن نقول: جوف الأرض السابعة، وهم لا يذكرون: السابعة، لأن الله تعالى أخبرنا عن ذلك، وهم لا يعرفون ذلك، وهذه القاعدة عندهم هي ضرورية لا يكابر الحس فيها: أن المركز هو جوف كرة الأرض، وهو منتهى السفل والتحت، وما دونه لا يسمى تحتًا، بل لا يكون تحتًا، ويكون فوقًا، بحيث لو فرضنا خرق المركز وهو سفل العالم إلى تلك الجهة لكان الخرق إلى جهة فوق، ولو نفذ الخرق جهة السماء من تلك الجهة الأخرى لصعد إلى جهة فوق، وبرهان ذلك أنا لو فرضا مسافرًا سافر على كرة الأرض من جهة المشرق إلى جهة المغرب وامتد مسافرًا، لمشى مسافرًا على الكرة إلى حيث ابتدأ بالسير وقطع الكرة مما يراه الناظر أسفل منه، وهو في سفره هذا لم يبرح الأرض تحته والسماء فوقه، فالسماء التي يشهدها الحس تحت الأرض هي فوق الأرض لا تحتها؛ لأن السماء فوق الأرض بالذات فكيف كانت السماء كانت فوق الأرض من أي جهة فرضتها".
وفي المنتظم في تاريخ الملوك والأمم ص (١/ ١٣٠): "قَالَ أَبُو الوفاء بْن عقيل: ونقلت من كتاب الهندسة: ذكر علماء الهندسة أَن الأَرْض عَلَى هيئة الكرة عَلَى تدوير الفلك، موضعه فِي جوف الفلك كالمحة، فِي جوف البيضة، وإن النسيم يحيط بها كالبياض من البيضة حول المحة، وان الفلك يحيط بالنسيم كاحاطة القشرة البيضاء بالبياض المحيط بالمحة". وفيه ص (١/ ١٨٣) ذكر أَبُو الْحُسَيْن أَحْمَد بْن جَعْفَر أنهم: "أجمعوا عَلَى أَن الأَرْض بجميع أجرامها من البرد مثل الكرة، ويدل عَلَيْهِ أَن الشمس والقمر والكواكب لا يوحد طلوعها وغروبها عَلَى جميع من فِي نواحي الأَرْض فِي وقت واحد بَل عَلَى المشرق قبل المغرب، وكرة الأَرْض مثبتة فِي وسط كرة السماء كالنقطة من الدائرة يدل عَلَى ذَلِكَ أَن جرم كُل كوكب يرى فِي جميع نواحي السماء عَلَى قدر واحد، فيدل عَلَى ذَلِكَ أَن مَا بَيْنَ السماء وَالأَرْض من جميع الجهات بقدر واحد كاضطرار أَن تكون الأَرْض وسط السماء".
وقال المطهر بن طاهر المقدسي (المتوفى: نحو ٣٥٥ هـ) في كتابه: البدء والتاريخ (٢/ ٢٣): "وعند أهل النجوم: الشمس لا تزال طالعة على قوم وغاربة على قوم لأنها دائرة على كرة الأرض دورًا مستقيمًا".
وقال أبو الحسين بن المنادي: "لا خلاف بين العلماء أن السماءَ على الأرض مثل القبة، وأن العالمَ مثل الكرة، وأنها تدور بما فيه من الكواكب على قطبين ثابتين غير متحركين، أحدهما في ناحية الشمال، والآخر في ناحية الجنوب مطلعَ سهيل، وأن كرةَ الأرضِ مثبتةٌ وسط كرة السماء كالنقطة من الدائرة، والأرضُ على نَمَطٍ واحدٍ من جميع الجهات، والأفلاكُ تدورُ على محورين وقطبين ثابتين، ومَن كان مسكنه وسط الأرض عند استواء ساعات الليل والنهار رأى المحورين والقطبين، ومَن كان في بلاد الشمال يرى القطبَ الشمالي، ومَن كان في بلاد الجنوب يرى القطبَ الجنوبيَّ. وقال جالينوس: العالم شبه البيضة، والسماءُ موضعُ القشر، والهواء موضع البياض، والأرض موضع المُحّ".
وفي (نزهة الأمم في العجائب والحكم، ص: ١٠) قال هشام بن الحكم عن الأرض أنها: "وافقة على مدار واحد من كل جانب والفلك يحد بها من وجه، فلذلك لا تميل إلي ناحية من الفلك دور أخرى، لأن قوة الأجزاء متكافية وذلك كحجر المغناطيس في جذبه للحديد، فإن الفلك بالطبع مغناطيس الأرض فهو يجذبها، فهي واقفة في الوسط، وسبب وقوفها في الوسط سرعة تدور الفلك ودفعه إياها من كل جهة إلى الوسط، كما إذا أوضعت ترابًا في قارورة، وأدرتها بقوة فإن التراب يقوم في الوسط".
وقال الرازي في تفسيره (مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير ص ٤/ ١٦٤):
"وَمِمَّا يَتَعَلَّقُ بِأَحْوَالِ الْأَرْضِ أَنَّهَا كُرَةٌ". واستدل بأدلة علمية وحجج عديدة منها أبرزها:
الْحُجَّةُ الأُولَى: أنه لو كان طُولُ الْأَرْضِ مُسْتَقِيمًا؛ لَصَارَ جَمِيعُ وَجْهِ الْأَرْضِ مُضِيئًا دُفْعَةً وَاحِدَةً عِنْدَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَلَصَارَ جَمِيعُهُ مُظْلِمًا دُفْعَةً وَاحِدَةً عِنْدَ غَيْبَتِهَا.
والْحُجَّةُ الثَّانِيَةُ: أَنَّ ظِلُّ الْأَرْضِ مُسْتَدِيرٌ فَوَجَبَ كَوْنُ الْأَرْضِ مُسْتَدِيرَةً؛ لأَنَّ انْخِسَافَ الْقَمَرِ نَفْسُ ظِلِّ الْأَرْضِ عِنْدَ تَوَسُّطِ الْأَرْضِ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الشَّمْسِ، وَانْخِسَافُ الْقَمَرِ مُسْتَدِيرٌ لِأَنَّا نُحِسُّ بِالْمِقْدَارِ الْمُنْخَسِفِ مِنْهُ مُسْتَدِيرًا، وَإِذَا ثَبَتَ ذَلِكَ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مُسْتَدِيرَةً.
والْحُجَّةُ الثَّالِثَةُ: أَنَّ الْأَرْضَ طَالِبَةٌ لِلْبُعْدِ مِنَ الْفَلَكِ، وَمَتَى كَانَ حَالُ جَمِيعِ أَجْزَائِهَا كَذَلِكَ؛ وَجَبَ أَنْ تَكُونَ الْأَرْضُ مُسْتَدِيرَةً .. وأَنَّ هَذِهِ التَّضَارِيسَ لَا تُخْرِجُ الْأَرْضَ عَنْ كَوْنِهَا كُرَةً، فلَوِ اتَّخَذْنَا كُرَةً مِنْ خَشَبٍ قُطْرُهَا ذِرَاعٌ مَثَلًا، ثُمَّ أَثْبَتْنَا فِيهَا أَشْيَاءَ بِمَنْزِلَةِ جَارُوسَاتٍ أَوْ شُعَيْرَاتٍ، وَقَوَّرْنَا فِيهَا كَأَمْثَالِهَا فَإِنَّهَا لَا تُخْرِجُهَا عَنِ الْكُرَيَّةِ وَنِسْبَةُ الْجِبَالِ وَالْغَيَرَانِ إِلَى الْأَرْضِ دُونَ نِسْبَةِ تِلْكَ الثَّابِتَاتِ إِلَى الْكُرَةِ الصَّغِيرَةِ) انتهى باختصار وتصرف.
وأشار شيخ الإسلام ابن تيمية إلى ذلك في الرسالة العرشية في مواضع عدة منها قوله: "وَقَدْ قَالَ إيَاسُ بْنُ مُعَاوِيَةَ: السَّمَاءُ عَلَى الْأَرْضِ مِثْلُ الْقُبَّةِ". وقال: "أَهْلُ الْهَيْئَةِ يَقُولُونَ: لَوْ أَنَّ الْأَرْضَ مَخْرُوقَةٌ إلَى نَاحِيَةِ أَرْجُلِنَا وَأُلْقِيَ فِي الْخَرْقِ شَيْءٌ ثَقِيلٌ كَالْحَجَرِ وَنَحْوِهِ لَكَانَ يَنْتَهِي إلَى الْمَرْكَزِ، حَتَّى لَوْ أُلْقِيَ مِنْ تِلْكَ النَّاحِيَةِ حَجَرٌ آخَرُ لَالْتَقَيَا جَمِيعًا فِي الْمَرْكَزِ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ إنْسَانَيْنِ الْتَقَيَا فِي الْمَرْكَزِ بَدَلَ الْحَجَرَيْنِ لَالْتَقَتْ رِجْلَاهُمَا وَلَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا تَحْتَ صَاحِبِهِ، بَلْ كِلَاهُمَا فَوْقَ الْمَرْكَزِ، وَكِلَاهُمَا تَحْتَ الْفَلَكِ، كَالْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ، فَإِنَّهُ لَوْ قُدِّرَ أَنَّ رَجُلًا بِالْمَشْرِقِ فِي السَّمَاءِ أَوْ الْأَرْضِ وَرَجُلًا بِالْمَغْرِبِ فِي السَّمَاءِ أَوْ الْأَرْضِ، لَمْ يَكُنْ أَحَدُهُمَا تَحْتَ الْآخَرِ، وَسَوَاءٌ كَانَ رَأْسُهُ أَوْ رِجْلَاهُ أَوْ بَطْنُهُ أَوْ ظَهْرُهُ أَوْ جَانِبُهُ مِمَّا يَلِي السَّمَاءَ أَوْ مِمَّا يَلِي الْأَرْضَ، وَإِذَا كَانَ مَطْلُوبَ أَحَدِهِمَا مَا فَوْقَ الْفَلَكِ لَمْ يَطْلُبْهُ إلَّا مِنْ الْجِهَةِ الْعُلْيَا، لَمْ يَطْلُبْهُ مِنْ جِهَةِ رِجْلَيْهِ أَوْ يَمِينِهِ أَوْ يَسَارِهِ". وقال: "وَاسْتِدَارَةُ الْأَفْلَاكِ كَمَا أَنَّهُ قَوْل أَهْلِ الْهَيْئَةِ وَالْحِسَابِ فَهُوَ الَّذِي عَلَيْهِ عُلَمَاءُ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا ذَكَرَهُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ الْمُنَادَى، وَأَبُو مُحَمَّدٍ بْنُ حَزْمٍ، وَأَبُو الْفَرَجِ بْنُ الْجَوْزِيِّ وَغَيْرُهُمْ أَنَّهُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ بَيْنَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَقَدْ قَالَ تَعَالَى: ﴿وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ﴾ ". وقال: "أَنَّ وَجْهَ الْأَرْضِ الْمَوْضُوعَ لِلْأَنَامِ فَوْقَ نِصْفِ الْأَرْضِ الْكُرِّيِّ". وقال: "فَمِنْ الْمَعْلُومِ بِاتِّفَاقِ مَنْ يَعْلَمُ هَذَا أَنَّ الأفلاك مستديرة كرية الشَّكْلِ، وَأَنَّ الْجِهَةَ الْعُلْيَا هِيَ جِهَةُ الْمُحِيطِ، وَهِيَ الْمُحَدَّبُ، وَأَنَّ الْجِهَةَ السُّفْلَى هُوَ الْمَرْكَزُ، وَلَيْسَ لِلْأَفْلَاكِ إلَّا جِهَتَانِ: الْعُلُوُّ وَالسُّفْلُ فَقَطْ." وقال: "أَنَّ وَجْهَ الْأَرْضِ الَّتِي وَضَعَهَا اللَّهُ لِلْأَنَامِ، وَأَرْسَاهَا بِالْجِبَالِ، هُوَ الَّذِي عَلَيْهِ النَّاسُ وَالْبَهَائِمُ وَالشَّجَرُ وَالنَّبَاتُ، وَالْجِبَالُ وَالْأَنْهَارُ الْجَارِيَةُ. فَأَمَّا النَّاحِيَةُ الْأُخْرَى مِنْ الْأَرْضِ فَالْبَحْرُ مُحِيطٌ بِهَا، وَلَيْسَ هُنَاكَ شَيْءٌ مِنْ الْآدَمِيِّينَ وَمَا يَتْبَعُهُمْ، وَلَوْ قُدِّرَ أَنَّ هُنَاكَ أَحَدًا لَكَانَ عَلَى ظَهْرِ الْأَرْضِ وَلَمْ يَكُنْ مَنْ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ تَحْتَ مَنْ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ، وَلَا مَنْ فِي هَذِهِ تَحْتَ مَنْ فِي هَذِهِ، كَمَا أَنَّ الْأَفْلَاكَ مُحِيطَةٌ بِالْمَرْكَزِ، وَلَيْسَ أَحَدُ جَانِبَيْ الْفَلَكِ تَحْتَ الْآخَرِ، وَلَا الْقُطْبُ الشَّمَالِيُّ تَحْتَ الْجَنُوبِيِّ، وَلَا بِالْعَكْسِ".
وكذلك ما ورد في تفسير قوله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) في سورة الأنبياء، وأيضًا في سورة يس: (لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ). فذكر صاحب تفسير حدائق الروح والريحان في روابي علوم القرآن (١٨/ ٩٨): "أن الجمع في قوله: ﴿يَسْبَحُونَ﴾ لأن الضمير عائد على الشمس والقمر مع الليل والنهار، وذلك لأن الليل والنهار يسبحان أيضًا؛ لأن الليل ظل الأرض، وهو يدور على محيط كرة الأرض، على حسب دوران الأرض، وكذلك النهار يدور أيضًا؛ لأنه يخلف الليل في المحيط".
وقال الشيخ عطية محمد سالم في (تتمة أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن ص ٢/ ٦١): تنبيه: كان من الممكن أن نقدم هذه النتيجة من أول الأمر ما دامت متفقة في النهاية مع قول علماء الهيئة (الفلك)، ولا نطيل النقول من هنا وهناك، ولكن قد سقنا ذلك كله لغرض أعم من هذا كله، وقضية أشمل وهي من جهتين:
أولاهما: أن علماء المسلمين مدركون ما قال به علماء الهيئة، ولكن لا من طريق النقل أو دلالة خاصة على هذه الجزئية من القرآن، ولكن عن طريق النظر، والاستدلال، إذ علماء المسلمين لم يجهلوا هذه النظرية، ولم تخف عليهم هذه الحقيقة.
ثانيتهما: مع علمهم بهذه الحقيقة وإدراكهم لهذه النظرية، لم يعز واحد منهم دلالتها لنصوص الكتاب أو السنة.
وبناء عليه نقول: إذا لم تكن النصوص صريحة في نظرية من النظريات الحديثة، لا ينبغي أن نقحمها في مباحثها نفيًا أو إثباتًا، وإنما نتطلب العلم من طريقه، فعلوم الهيئة من النظر الاستدلال، وعلوم الطب من التجارب والاستقراء، وهكذا يبقى القرآن مصانًا عن مجال الجدل في نظرية قابلة للثبوت والنفي، أو التغيير والتبديل، كما لا ينبغي لمن لم يعلم حقيقة أمر في فنه أن يبادر بإنكارها ما لم تكن مصادمة لنص صريح. وعليه أن يتثبت أولًا وقد نبهنا سابقًا على مثل ذلك في قصة نبي الله سليمان مع بلقيس والهدهد حينما جاءه، فقال: ﴿أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ﴾ وقصَّ عليه خبرها مع قومها، فلم يبادر ﵇ بالإنكار. لكون الآتي بالخبر هدهدًا، ولم يكن عنده علم به ولم يسارع أيضًا بتصديقه، لأنه ليس لديه مستند عليه، بل أخذ في طريق التثبت بواسطة الطريق الذي جاءه الخبر به قال: ﴿سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ﴾، وأرسله بالكتاب إليهم، فإذا كان هذا من نبي الله سليمان ولديه وسائل وإمكانيات كما تعلم. فغيره من باب أولى. تنبيه آخر: إذا كان علماء الإسلام يثبتون كروية الأرض، فماذا يقولون في قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنظُرُونَ إِلَى الإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾ - إلى قوله - ﴿وَإِلَى الاٌّرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾. وجوابهم كجوابهم على قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ لشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِى عَيْنٍ حَمِئَةٍ﴾، أي في نظر العين، لأن الشمس تغرب عن أمة، وتستمر في الأفق على أمة أخرى، حتى تأتي مطلعها من الشرق في صبيحة اليوم الثاني، ويكون بسط الأرض وتمهيدها، نظرًا لكل إقليم وجزء منها لسعتها وعظم جرمها. وهذا لا يتنافى مع حقيقة شكلها، فقد نرى الجبل الشاهق، وإذا تسلقناه ووصلنا قمته وجدنا سطحًا مستويًا، ووجدنا أمة بكامل لوازمها، وقد لا يعلم بعض من فيه عن بقية العالم، وهكذا، والله تعالى أعلم).
وقد كان للمسلمين السبق في اختراع الخرائط كخرائط الإدريسي للأرض، بل وإبداع الخرائط الدقيقة كخرائط الريس بيري العثماني التي أذهلت علماء الحضارة الغربية في دقتها حيث رسم خارطتين مرسومتين بتسعة ألوان علي جلد الغزال للشواطئ الغربية لإفريقيا، والشواطئ الشرقية للأمريكيتين والحدود الشمالية لليابسة في القارة القطبية الجنوبية (أنتاركتيكا) وأظهرت بوضوح أماكن لم يكتشفها الإنسان في ذلك الزمان، ورسم جبال القارة القطبية الجنوبية ووديانها، في حين لم تتوصل المراكز الجغرافية المعاصرة إلي رسمها إلا بعد عام ١٩٥٢ م بعد أن تسلحت بأحدث تقنيات المسح الزلزالي، ومما زاد الغرب حيرة أن الصور التي التقطتها المركبات الفضائية للقارة القطبية الجنوبية جاءت مطابقة لخرائط الريس بيري، والشيء نفسه للحدود الشرقية في القارتين الأمريكيتين، مما سبب إحراجًا لعلماء التأريخ وعلماء الجغرافيا الغربيين وأثبت لهم أن المسلمين وصلوا منذ القدم لأقصى أنحاء الأرض ولأمريكا قبلهم. ولذلك يرفض الغرب الاعتراف بأن من رسم هذه الخرائط المذهلة هو السيد بيري (بيري رئيس) لأن اعترافهم بها يعني أن المسلمين كانوا يجولون في السواحل الأمريكية قبل مولد كولومبس، وأنهم كانوا يبرحون في جميع المحيطات بين القطبين. ولكونها تحوي بعض الملاحظات والكتابات التاريخية التي يعلم منها أن السواحل الشرقية لقارة أمريكا كانت مسجلة ضمن الممتلكات العثمانية تحت اسم "أنتيليا" منذ عام ١٤٦٥ م، أي قبل كولومبس بـ ٢٧ عامًا، وأن تشابه اسم جزر الأنتيل الحالية مع اسم أنتيليا يشير إلى أن هذا الاسم مأخوذ من اللغة المحلية لشعب هذه المنطقة آنذاك. وهذا الاعتراف يجرد الغرب من كثير من الاكتشافات الجغرافية التي يفخرون بها. ولكون هذه الخرائط تدل على التفوق العلمي آنذاك لكونها شديدة الدقة حتى ادعى بعض الغربيين أنها من رسم كائنات فضائية. وهي موجودة في مكتبةٍ بقصر الباب العالي في إسطنبول بتركيا.
1 / 12
النجوم والبروج
وجَعَلَ اللهُ النُّجُومَ زِينَةً لِلسَّمَاءِ الدنيا، وَرُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ، وَعَلَامَاتٍ يُهْتَدَى بِهَا، وجعل في السَّمَاءِ بُرُوجًا (^١).
والنُّجُومُ أَمَنَةٌ لِلسَّمَاءِ، فَإِذَا ذَهَبَتِ النُّجُومُ أَتَى السَّمَاءَ مَا تُوعَدُ (^٢)، إِنَّ خِيَارَ عِبَادِ اللَّهِ الَّذِينَ يُرَاعُونَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ وَالْأَظِلَّةَ لِذِكْرِ اللَّهِ.
واللهُ (جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ) (^٣).
_________
(^١) قال تعالى: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ) وقال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ) (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ) (وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ)، وعلَّم الله البشر التأمل والاهتداء بالنجوم، وكان لشعوب عديدة وللعرب خصوصًا معرفة واسعة بأسماء النجوم، وطلوعها وغروبها وَآكَدُها الْقُطْبُ الشَّمَالِيُّ. دعاهم إلى ذلك اعتمادهم عليها في سيرهم برًا وبحرًا، وساعدهم على ذلك: صفاء جوهم. وكان يتم تحديد جهة الشمال في الليل عبر النجم القطبي الذي يقع على امتداد محور دوران الأرض أي فوق القطب الشمالي تمامًا ويبدو للمشاهد من شمال الكرة الأرضية ثابتًا لا يتحرك كبقية النجوم. ويستدل على النجم القطبي من بعض الكوكبات القريبة منه. وعرف العرب نجم الشعرى وهو أسطع نجم في السماء بعد كوكب الزهرة مباشرة وكان يدلهم مع نجوم أخرى للطريق إلى اليمن حيث كانت رحلة الشتاء ولذلك كان واقع عبادتهم هذا النجم اليماني من حيث المنفعة في الاهتداء به إلى طريق اليمن. ولا يجتمع نجم شامي ونجم يماني في وقت واحد.
أما إتجاه الشرق أو الغرب فيمكن تحديدهما في النهار من خلال مراقبة الشمس فهي تطلع من اتجاه الشرق وتغيب في اتجاه الغرب بشكل تقريبي. ويمكن تحديد إتجاهي الشرق والغرب في أي مكان على سطح الأرض بشكل دقيق عند الاعتدالين الربيعي والخريفي حيث تطلع الشمس من الشرق وتغيب في الغرب تمامًا. أما في الليل فيمكن تحديد اتجاه الغرب من مراقبة القمر، وكذلك البروج والكواكب، فالقمر كالشمس يتحرك في اتجاه الغرب بشكل تقريبي إلى أن يغيب فيه. ويمكن استخدام دائرة البروج للاستدلال على الشرق والغرب حيث أن الخط الواصل بين ثلاثة بروج متجاوره يشير إلى اتجاه الشرق والغرب بشكل تقريبي ويمكن تحديد الشرق من الغرب بعد ذلك من ترتيب تلك البروج لمن يعرفها.
وقال جل وعلا: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ). والبروج هي مجموعة أو تشكيلات متقاربة من النجوم الظاهرة، ويشاهد في السماء اثنا عشر برجًا ويكون تخيل هذه الأبراج على صورة حيوان أو صورة آلة في رؤية العين؛ فسميت كل مجموعة باسم تلك الصورة التى هي عليها. وهي منازل تمر فيها الشمس في دورتها السنوية، وتتشكل خلال هذه الدورة الفصول الأربعة. فمدة زمان الربيع تكون بسير الشمس في ثلاثة أبراج وهي: الحمَل والثور والجوزاء. ومدة زمان الصيف مسير الشمس في ثلاثة أبراج هي: السرطان والأسد والسنبلة. ومدة زمان الخريف مسير الشمس في ثلاثة أبراج هي: الميزان والعقرب والقوس. ومدة زمان الشتاء مسير الشمس في ثلاثة أبراج وهي: الجَدْي والدَلْو والحوت. وقد أشار بعضهم لها على الترتيب فقال:
حَمَلَ الثَّوْرُ جَوْزَةَ السَّرَطَانِ ... وَرَعَى اللَّيْثُ سُنْبُلَ الْمِيْزَانِ
وَرَمَى عَقْرَبٌ بِقَوْسٍ لِجَدْيٍ ... نَزَحَ الدَّلْوُ بِرْكَةَ الْحِيْتَانِ
وسميت هذه المنازل بالبروج -وهي القصور العالية-؛ لأنها للكواكب السيارة كالمنازل الرفيعة لسكانها، واشتقاقها من التبرج؛ وهو الظهور، لأن أصل معنى البرج: الأمر الظاهر، من التبرج، ثم صار حقيقة في العرف للقصر العالي؛ لظهوره، ويقال: لما ارتفع من سور المدينة برج أيضًا. والشمس تقطع هذه البروج كلها مرة في السنة، كل برج في شهر، وبها تتم دورة الفلك، ويقطعها القمر في ثمانية وعشرين يومًا وكسور. فكل برج له منزلتان وثلث. ولكلّ فصل من الفصول الأربع سبعة منازل.
ولا يظهر على القبة السماوية في الليل إلا ستة من هذه البروج يغيب واحدًا منها كل شهر ويطلع مقابله برج جديد. والشمس بضوئها الوهاج تحول دون رؤية البرج الذي يقع خلفها تمامًا، ويقال حينئذ أن الشمس قد نزلت في ذلك البرج. ويستدل على نزول الشمس في أحد البروج من خلال مراقبة البرج المقابل له تمامًا على فلك البروج (١٨٠ درجة) أو ما يسمى بالرقيب. فرقيب الحمل هو الميزان وكذلك العكس، ورقيب الثور هو العقرب، وهكذا لبقية الأبراج. وعلى ذلك فإنه يمكن تحديد منزل الشمس في أي وقت من خلال معرفة البرج الرقيب الذي يطلع من جهة الشرق عند غياب الشمس، أو الذي يسقط في الغرب عند شروق الشمس. والشَّمْسُ تَطْلُعُ مِنْ الْمَشْرِقِ، وَتَغْرُبُ فِي الْمَغْرِبِ، وَتَخْتَلِفُ مَطَالِعُهَا وَمَغَارِبُهَا، عَلَى حَسَبِ اخْتِلَافِ مَنَازِلِهَا، والشمس لا تكسف إلا آخر الشهر القمري، وعندما تكون الشمس في جهة الشمال يطول النهار ويشتد الحر ويقصر الليل، وعندما تكون في الجنوب يكون عكس ذلك.
والعلم المحمود في النجوم هو: الْعِلْمُ بِأَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ، وَمَنَاظِرِهَا، وَمَطَالِعِهَا، وَمَسَاقِطِهَا، وَسَيْرِهَا، وَالاهْتِدَاءُ بِهَا، وَانْتِقَالُ الْعَرَبِ عَنْ مِيَاهِهَا لأَوْقَاتِهَا، وَتَخَيُّرُهُمُ الأَزْمَانَ لِنِتَاجِ مَوَاشِيهَا، وَضِرَابِهِمُ الْفُحُولَ، وَمَعْرِفَتُهُمْ بِالأَمْطَارِ عَلَى اخْتِلافِهَا، وَاسْتِدْلالُهُمْ عَلَى مَحْمُودِهَا وَمَذْمُومِهَا، وَالتَّوَصُّلُ إِلَى جِهَةِ الْقِبْلَةِ بِالنُّجُومِ، وَمَعْرِفَةُ مَوَاقِيتِ الصَّلاةِ، وَسَاعَاتِ اللَّيْلِ بِظُهُورِهَا وَأُفُولِهَا. فَالْعَرَبُ تَعْرِفُ أَوْقَاتَ الْمَطَرِ وَالرِّيَاحِ وَالْحَرِّ وَالْبَرْدِ بِمَطَالِعِ النَّجْمِ، وَلَهُمْ فِي ذَلِكَ فَضِيلَةٌ بَيِّنَةٌ، وَإِذَا رَأَوُا السَّحَابَ عَرَفُوا: هَلْ هِيَ ذَاتُ مَطَرٍ أَمْ لا؟ وَهَلْ مَطَرُهَا كَثِيرٌ أَوْ غَيْرُ كَثِيرٍ؟ وَهَلْ هِيَ مِمَّا قَدْ أَهْرَاقَ مَاءَهُ أَوْ مَاؤُهُ فِيهَا؟
فَكَمْ مِنْ قَوْمٍ أوشكوا على الضياع والْهَلاكِ، فَأَنْجَاهُمُ اللَّهُ تَعَالَى بِالاسْتِدْلالِ بِنَجْمٍ أَمُّوهُ وَوَجْهٍ قَصَدُوهُ، وَبِهِ يُعْرَفُ وَقْتُ النِّتَاجِ، وَوَقْتُ تَأْبِيرِ النَّخْلِ، وَوَقْتُ بَيْعِ الثَّمْرَةِ، وَإِقْبَالُ الْخَيْرِ وَإِدْبَارِهِ، وَأَمَارَاتُ الْخِصْبِ وَالْجَدَبِ، وَعَلامَاتُ السَّحَائِبِ الْمَاطِرَةِ وَالسَّحَائِبِ الْمُخْلِفَةِ، وَالْبُرُوقِ الصَّادِقَةِ وَالْكَاذِبَةِ، وَبِهِ يَنْتَقِلُونَ عَنِ الْمَحَاضِرِ إِلَى الْمِيَاهِ، وَعَنِ الْمِيَاهِ إِلَى الْمَحَاضِرِ. وإِنَّمَا جَاءَ التَّغْلِيظُ فِي هَذَا وَاللَّهُ أَعْلَمُ أَنَّ الْعَرَبَ كَانَتْ تَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ الْمَطَرَ الَّذِي جَاءَ عِنْدَ سُقُوطِ النَّجْمِ هُوَ فِعْلُ النَّجْمِ، وَلا يَجْعَلُونَهُ سُقْيًا مِنَ اللَّهِ تَعَالَى، وَإِنْ كَانَ وَافَقَ سُقُوطَ النَّجْمِ. وَأَمَّا مَنْ نَسَبَ ذَلِكَ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى وَجَعَلَهُ وَقْتًا كَمَوَاقِيتِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ كَانَ ذَلِكَ حَسَنًا. وقد صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ ﷺ صَلَاةَ الصُّبْحِ بِالْحُدَيْبِيَةِ، عَلَى إثْرِ سَمَاءٍ (مطر) كَانَتْ مِنَ اللَّيْلَةِ، فَلَمَّا انْصَرَفَ النَّبيُّ أَقْبَلَ عَلَى النَّاسِ فَقَالَ لَهُمْ: «هَلْ تَدْرُونَ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ قَالُوا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَال: أَصْبَحَ مِنْ عِبَادِي مُوْمِنٌ بي وَكَافِرٌ، فَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِفَضْلِ اللَّهِ وَرَحْمَتِهِ، فَذَلِكَ مُوْمِنٌ بِي، كَافِرٌ بِالْكَوْكَبِ، وَأَمَّا مَنْ قَالَ: مُطِرْنَا بِنَوْءِ كَذَا وَكَذَا، فَذَلِكَ كَافِرٌ بِي، مُوْمِنٌ بِالْكَوَاكِبِ».
وإِذَا أَنْفَدَ النَّاظِرُ فِي علم الحساب الفلكي عُمُرَهُ بِإِسْهَارِ اللَّيْلِ، وَشَغَلَ الْقَلْبَ عَنِ الْمَطْعَمِ، وَالْمَشْرَبِ، وَاللَّذَّاتِ، وَالْعَمَلِ لِلدُّنْيَا وَالآخِرَةِ، وَتَبَاعَدَ مِنَ اللَّهِ، وَرَسُولِهِ، وَمِنْ عِبَادِهِ الصَّالِحِينَ، كَانَ عُرْفُهُ الَّذِي انْتَهَى إِلَيْهِ، وَزُبْدَتُهُ الَّتِي مَخَضَ عَنْهَا عِلْمَ كُسُوفِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ مَتَى يَكُونُ؟ وَفِي أَيِّ وَقْتٍ يُحْدَثُ مِنَ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ؟ وَمِقْدَارُ مَا يَكْسَفُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا، وَوَقْتُ الانْجِلاءِ؟ وَهَذَا عِلْمٌ لا يَنْفَعُ اللَّهُ بِهِ بِوَجْهٍ مِنَ الْوُجُوهِ، ولا يَسْتَدِلُّ بِهِ عَلَى أَمْرٍ مِنَ الأُمُورِ، وَإِنَّمَا الْكُسُوفُ شَيْءٌ قَدَّرَهُ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِمَسِيرِ الشَّمْسِ وَالْقَمَرِ، فَيَكُونُ بِاجْتِمَاعِهِمَا أَوْ تَقَابُلِهِمَا، وَلَيْسَ عَلَى مَنْ لَمْ يَعْلَمْ وَقْتَ الْكُسُوفِ حِينَ يَكُونُ مِنْ عَيْبٍ وَلا نَقْصٍ، وَإِنَّمَا يَكُونُ الْعَيْبُ فِي الْجَهْلِ بِمَا تَعْلَمُهُ الْعَرَبُ مِنْ أَمْرِ النُّجُومِ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ، فَإِنِ اسْتَزَلَّهُ الشَّيْطَانُ، وَأَطْمَعَهُ فِي الْقَضَاءِ وَالأَحْكَامِ، وَاعْتَقَدَ فِي الْكُسُوفِ أَنَّهُ لِمَوْتِ أَحَدٍ أَوْ حَيَاتِهِ أَوْ حُلُولِ حَادِثَةٍ وَوُقُوعِ جَائِحَةٍ، فَقَدْ عَقِلَهُ الشَّيْطَانُ بِالْغُرُورِ، وَقَطَعَ أَسْبَابَهُ مِنَ الدِّينِ، لأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى اسْتَأْثَرَ بِالْغَيْبِ دُونَ أَنْبِيَائِهِ وَمَلائِكَتِهِ، إِلا مَا أَطْلَعَهُمْ عَلَيْهِ.
وإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى إِنَّمَا خَلَقَ هَذِهِ النُّجُومَ لِثَلاثِ خِصَالٍ: جَعَلَهَا زِينَةً لِلسَّمَاءِ، وَجَعَلَهَا نَهْتَدِي بِهَا، وَجَعَلَهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينَ، فَمَنْ تَعَاطَى فِيهَا غَيْرَ ذَلِكَ، فَقَدْ أَخْطَأَ حَظَّهُ، وَقَالَ رَأْيَهُ، وَأَضَاعَ نَصِيبَهُ، وَتَكَلَّفَ مَا لا عِلْمَ لَهُ بِهِ، وَإِنَّ أُنَاسًا جَهَلَةً بِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى قَدْ أَحْدَثُوا فِي هَذِهِ النُّجُومِ كِهَانَةً: مَنْ أَعْرَسَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا، كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَمَنْ سَافَرَ بِنَجْمِ كَذَا وَكَذَا، كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَعَمْرِي مَا مِنَ النُّجُومِ نَجْمٌ إِلا يُولَدُ بِهِ الطَّوِيلُ وَالْقَصِيرُ، وَالأَحْمَرُ وَالأَبْيَضُ، وَالْحَسَنُ وَالذَّمِيمُ". وقد جاء في الحديث: مَنْ اقْتَبَسَ عِلْمًا مِنَ النُّجُومِ، اقْتَبَسَ شُعْبَةً مِنَ السِّحْرِ زَادَ مَا زَادَ، وَإِذَا ذُكِرَتِ النُّجُومُ فَأَمْسِكُوا، إِنَّ أَخْوَفَ مَا أَخَافُ عَلَى أُمَّتِي فِي آخِرِ زَمَانِهَا ثَلَاثًا: إِيمَانًا بِالنُّجُومِ، وَحَيْفَ السُّلْطَانِ، وَتَكْذِيبًا بِالْقَدَرِ. أَرْبَعٌ فِي أُمَّتِي مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ، لَا يَتْرُكُونَهُنَّ: الْفَخْرُ فِي الْأَحْسَابِ، وَالطَّعْنُ فِي الْأَنْسَابِ، وَالْاسْتِسْقَاءُ بِالنُّجُومِ، وَالنِّيَاحَةُ. وإِذَا قَضَى اللَّهُ أَمْرًا فِي السَّمَاءِ سَبَّحَ حَمَلَةُ الْعَرْشِ، ثُمَّ سَبَّحَ أَهْلُ السَّمَاءِ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، حَتَّى يَبْلُغَ التَّسْبِيحُ أَهْلَ هَذِهِ السَّمَاءِ الدُّنْيَا، ثُمَّ قَالَ الَّذِينَ يَلُونَ حَمَلَةَ الْعَرْشِ لِحَمَلَةِ الْعَرْشِ: مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ؟ فَيُخْبِرُونَهُمْ مَاذَا قَالَ، فَيَسْتَخْبِرُ بَعْضُ أَهْلِ السَّمَاوَاتِ بَعْضًا، حَتَّى يَبْلُغَ الْخَبَرُ هَذِهِ السَّمَاءَ الدُّنْيَا، فَتَخْطَفُ الْجِنُّ السَّمْعَ فَيَسْمَعُهَا مُسْتَرِقُو السَّمْعِ بَعْضُهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ، فَيَسْمَعُ الكَلِمَةَ فَيُلْقِيهَا إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، ثُمَّ يُلْقِيهَا الآخَرُ إِلَى مَنْ تَحْتَهُ، حَتَّى يُلْقِيَهَا عَلَى لِسَانِ السَّاحِرِ أَوِ الكَاهِنِ، فَرُبَّمَا أَدْرَكَ الشِّهَابُ قَبْلَ أَنْ يُلْقِيَهَا، وَرُبَّمَا أَلْقَاهَا قَبْلَ أَنْ يُدْرِكَهُ، فَيَكْذِبُ مَعَهَا مِائَةَ كَذْبَةٍ، فَيُقَالُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ لَنَا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا: كَذَا وَكَذَا، فَيُصَدَّقُ بِتِلْكَ الكَلِمَةِ الَّتِي سَمِعَ مِنَ السَّمَاءِ. فَمَا جَاءُوا بِهِ عَلَى وَجْهِهِ فَهُوَ حَقٌّ، وَلَكِنَّهُمْ يَقْرِفُونَ فِيهِ وَيَزِيدُونَ.
(^٢) أي: أن النجوم ما دامت باقية، فالسماء باقية، فإذا انكدرت النجوم وتناثرت في القيامة، وهنت السماء فانفطرت وانشقت وذهبت.
(^٣) ذكر أهل الهيئة أنّ نور القمر هو من نور الشمس، وَالْقَمَرُ يَبْدُو أَوَّلَ لَيْلَةٍ مِنْ الشَّهْرِ هِلَالًا فِي الْمَغْرِبِ، ثُمَّ يَتَأَخَّرُ كُلَّ لَيْلَةٍ نَحْوَ الْمَشْرِقِ مَنْزِلًا، ثُمَّ يَطْلُعُ لَيْلَةَ الرَّابِعَ عَشَرَ مِنْ الْمَشْرِقِ قَبْلَ غُرُوبِ الشَّمْسِ، بَدْرًا تَامًّا، وَلَيْلَةَ ثَمَانٍ وَعِشْرِينَ يَبْدُو عِنْدَ الْفَجْرِ كَالْهِلَالِ مِنْ الْمَشْرِقِ، وَتَخْتَلِفُ مَطَالِعُهُ بِاخْتِلَافِ مَنَازِلِهِ. وفي كل ليلة من السنة يكون للقمر طور مختلف (قدر ما يعكسه من ضوء الشمس) مع خلفية نجمية مختلفة (ما يظهر من النجوم التي تظهر خلفه في منازله)، فلا يجتمع له ذلك الطور وتلك المنزلة معًا في ليلة أخرى طوال السنة، فهو في كل ليلة في اختلاف في مقدار ما يعكسه من ضوء الشمس مع ما يظهر خلفه من النجوم، فيعرف بذلك الوقت من الشهر والموسم من السنة. والقمر لا يخسف إلا عندما يكون بدرًا في منتصف الشهر القمري.
وقسّم العرب حركة القمر السنوية داخل حزام أو شريط أو دائرة الأبراج إلى ٢٨ منزلًا هي خير دليل لحركة حياتهم والاهتداء بها في مواعيد الزراعة وحصاد المحاصيل الصيد البحري للأسماك والصيد البري للحيوانات والصيد الجوي للطيور المهاجرة، ومواسم الأمطار والجفاف ومواقيت المد والجزر ومواسم فيضان الأنهار ومن خلالها كانوا يحددون مواعيد حروبهم وغيرها. وَهِيَ: الشَّرَطَانُ، وَالْبُطَيْنُ، وَالثُّرَيَّا، وَالدَّبَرَانُ، وَالْهَقْعَةُ، وَالْهَنْعَةُ، وَالذِّرَاعُ، وَالنَّثْرَةُ، وَالطَّرْفُ، وَالْجَبْهَةُ، وَالزُّبْرَةُ، وَالصَّرْفَةُ، وَالْعَوَّاءُ، وَالسِّمَاكُ، وَالْغَفْرُ، وَالزُّبَانَى، وَالْإِكْلِيلُ، وَالْقَلْبُ، وَالشَّوْلَةُ، وَالنَّعَائِمُ، وَالْبَلْدَةُ، وَسَعْدٌ الذَّابِحُ، وَسَعْدُ بُلَعَ، وَسَعْدُ السُّعُودِ، وَسَعْدُ الْأَخْبِيَةِ، وَالْفَرْعُ الْمُقَدَّمُ، وَالْفَرْعُ الْمُؤَخَّرُ، وَبَطْنُ الْحُوتِ.
وكل ما ذكر من منازل القمر أو الأنواء وطوالع النجوم التي تظهر في السماء فإنما هي علامات ومواقيت، والله خالقها وهو مسبب الأسباب، ولا يكون شيء إلا أن يشاء الله ﷾ وبتقديره جل وعلا.
وقد سبق المسلمون شعوب العالم قديمًا في إبداع التأمل في السماء والأرض وفق نصوص الوحي الصادق وبعيدًا عن الخرافات والتخرص بغير علم، فقادهم ذلك لإبداع الحضارة واختراع الأسطرلاب وهو نموذج ثنائي البعد للقبة السماوية، يُظهر كيف تبدو السماء في مكان محدد عند وقت محدد، وتعرف به الاتجاهات والمواقيت والفصول والمواسم المختلفة. وكان المسلمون الأسبق إلى معرفة علم الحركة ونبغ فيهم ابن باجه وأبو حمزة البغدادي، والسابق في معرفة نظرية الجاذبية جعفر بن موسى وأبو الفتح الخزيني "أو الخازني"، وأصول نظرية القس البولندي "كوبرنيكوس" في الفلك موجودة سابقًا في كتب ابن رشد لا سيما كتابه السماء والعالم. وأول من فسر ظاهرة المد والجزر وربطها بحركة القمر العالم الفلكي المسلم أبو معشر البلخي في القرن الثالث الهجري.
1 / 13
حساب الزمان والسنين
وإِنَّ الزَّمَانَ قَدِ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللَّهُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو القَعْدَةِ، وَذُو الحِجَّةِ، وَالمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ -الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ-. (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ) (^١).
_________
(^١) العام يتكون من اثني عشر شهرًا قمريًا. والطريقة التي بينها الإسلام في حساب السَّنة والشَّهر والأسبوع واليوم هي أقْوَم طريقة، فالحول (السنة)؛ لم يكن له حد ظاهر في السماء، فكان لا بد فيه من الحساب والعدد، فكان عدد الشهور الهلالية أظهر وأعم من أن يحسب بسير الشمس، فجُعلت السنة اثني عشر شهرًا قمريًا هي: مُحَرَّمَ، وصَفَرٍ، ورَبِيعُ الْأَوَّلِ، ورَبِيعُ الْآخِرِ، وَجُمَادَى الأولى َجُمَادَى الآخرة، وَرَجَبٌ، وَشَعْبَانُ، ورَمَضَانُ، وَشَوَّالُ، وذو الْقَعْدَةِ، وذو الْحِجَّةِ. وهي بعدد البروج التي تكمل بدور الشمس فيها سنة شمسية، فإذا دار القمر فيها كمل دورته السنوية، وبهذا كله يتبين معنى قوله: ﴿وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَموا عَدَدَ السِّنينَ والحِسابِ﴾؛ فإن عدد شهور السنة وعدد السنة بعد السنة إنما أصله بتقدير القمر منازل، وكذلك معرفة الحساب؛ فإن حساب بعض الشهور لما يقع فيه من الآجال ونحوها إنما يكون بالهلال، وكذلك قوله تعالى: ﴿قُلْ هِيَ مَواقيتُ للنَّاسِ وَالحَجِّ﴾. فأخبر الله أن هذا هو الدين القيم؛ ليبين أن ما سواه من أمر النسيء وغيره من عادات الأمم ليس قيمًا لما يدخله من الانحراف والاضطراب. فاليوم الطبيعي ليلته من غروب الشمس إلى شروقها ونهاره من طلوع الشمس إلى غروبها، وأما الأسبوع؛ فهو عددي من أجل الأيام الستة التي خلق الله فيها السموات والأرض ثم استوى على العرش، فوقع التعديل بين الشمس والقمر باليوم، والأسبوع بسير الشمس، والشهر والسنة بسير القمر، وبهما يتم الحساب، فالهلال يكون توقيت الشهر والسنة، وليس شيء يقوم مقام الهلال ألبتة لظهوره وظهور العدد المبني عليه وتيسر ذلك وعمومه، وغير ذلك من المصالح الخالية عن المفاسد. فالسنة القمرية: هي اثنا عشر شهرًا قمريًا، والشهرُ القمريُّ يكون حسب رؤية الهلال إما ٢٩ أو ٣٠ يومًا، وبالحساب الفلكي الدقيق: (٥٨٨ ٥٣٠، ٢٩) يومًا! والسنةُ القمريةُ (٣٥٤) يومًا، وثماني ساعات، و(٤٨) دقيقة، و(٣٦) ثانية! أَما السنةُ الشمسيةُ فإِنَّها (٣٦٥) يومًا، وستُّ ساعات، وتسعُ دقائق، و(٥.٩) ثانية!!. وهي مدّة وصول الشمس إلى النقطة التي فارقتها من نفس البرج.
والتأريخ القمري تأريخ كوني منذ خلق السموات والأرض، والشهر فيه مرتبط بظاهرة كونية ميسرة وواضحة يراها جميع البشر وهي دورة القمر في منازله في ٢٩ أو ٣٠ يومًا كما يراه الناس - وبهذه الرؤية ترتبط العبادة الشرعية- وجعل البشر يعرفون مواسم مناسبة الزراعة وتكاثر النبات والحيوان بمعرفة مواقيت الأبراج ومنازل القمر وطوالع النجوم في قبة السماء فيتعلمون منها معرفة أوقات الفصول الأربعة وتغيراتها ومعرفة الاتجاهات (وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ). ومن نعم الله أن جعل التغاير في مدة السنة الكونية القمرية مع دورة الشمس في منازل الأبراج. ونتيجة هذا التغاير أن ينعم الناس بالفصول الأربعة الصيف والشتاء والخريف والربيع في كل شهورهم القمرية على مدى السنين، فيصومون شهر رمضان مرة في الربيع ومرة في الشتاء وأخرى في الصيف أو الخريف، وهكذا في شهور الحج وسائر الشهور.
وقد كان التقويم عند الرومان قمريًا لكن السنة فيه تتألف من عشرة أشهر فقط حتى جاء ملك روما (توما الثاني ٧١٦ - ٦٧٣ ق. م) الذي أضاف شهري يناير وفبراير وأصبحت السنة تتألف من ٣٥٥ يومًا. ثم في قرابة سنة ٤٥ قبل الميلاد استعان الإمبراطور الروماني يوليوس قيصر ببعض الفلكيين الإسكندريين لوضع تأريخ حسابي، يعتمد عليه، ويؤرخ به، فوضعوا له تأريخًا مستندًا إلى السنة الشمسية حيث كانوا يعظمون الشمس، وتمثل تعديلهم في جعل السنة العادية ٣٦٥ يومًا والكبيسة ٣٦٦ يومًا. ثم بعد ميلاد المسيح عيسى بن مريم ﵇ بعدة قرون تم تحويل التقويم الشمسي إلى التأريخ النصراني الميلادي لتكون بدايته من أول السنة الميلادية نسبة إلى ميلاد المسيح عيسى ﵇ وأن تكون بداية هذا التأريخ: الأول من يناير لأنه يوم ختان المسيح ﵇ كما يزعمون؛ حيث إن ميلاده ﵇ كما يقال كان في ٢٥ ديسمبر (كانون الأول) وعندها عرف هذا التأريخ بالتأريخ الميلادي. ثم قام بابا النصارى (جوريجوري الثالث عشر) بمحاولة إصلاح الخطأ في هذا التأريخ وهو عدم مطابقة السنة الحسابية على السنة الفعلية للشمس مما أدى إلى وجود فرق سنوي قدره إحدى عشرة دقيقة بين الحساب والواقع الفعلي، ولأنه يرى أن موسم عيد الفصح يجب أن يكون في الربيع؛ فقام بإعلان حذف أحد عشر يومًا من التاريخ في لحظة وتعديل التقويم من يوم ٤ أكتوبر ١٥٨٢ م مباشرة إلى يوم ١٥ أكتوبر ١٥٨٢ م وسمي هذا التعديل بـ (التأريخ الجوريجوري) ولقي معارضة كبيرة حيث قاومته الدول غير الكاثوليكية ثم استقر العمل به في غالب الدول النصرانية. ولما سقطت حضارة المسلمين وخلافتهم وتسلط أعداء تلك الحضارة؛ فرضوا التأريخ الجريجوري على الناس وسمّوه (الميلادي)، واستخدموا التقانة والتطور في الحساب لطباعة تقويم جريجوري طويل الأمد بالتعديلات البشرية ليتوافق مع دورة الشمس والفصول الأربعة والاعتدال الربيعي والصيفي ولرغبتهم أن تتكرر مناسبة ميلاد المسيح (المختلف في تحديدها) لتكون في الشتاء في الخامس والعشرين من ديسمبر، ولرغبتهم أن يوافق عيد الفصح عندهم موسم الربيع دومًا. وفرضوا نشر هذا التقويم على الناس مع ما فيه من التغيير والتعديل. فأضل الله النصارى عن الارتباط الصحيح بسنين الكون فضلوا باتباع أهواء أحبارهم ورهبانهم وملوكهم وأضلوا كثيرًا وضلوا عن سواء السبيل. وقد حذرت نصوص الوحي من اتباع سَنَن وطرق اليهود والنصارى؛ فلو أخرج المسلم زكاته بحول التقويم الشمسي لكان آثمًا بتأخير الحق عن مستحقه وعدم اعتبار الحول الشرعي، ولو ضحى أضحيته بحسابه لربما ما أجزأته.
فالمسلمون يعتمدون في العبادة الشرعية على رؤية الأهلة لقوله ﵊ لما ذكر رمضان: "إنا أمة أمية، لا نكتب، ولا نحسب" أي: لم نكلف في معرفة مواقيت صومنا ولا عباداتنا إلى معرفة حساب فلكي ولا كتابة، وإنما ربطت عباداتنا بأعلام واضحة في السماء وأمور ظاهرة، يستوي في معرفتها؛ الحاسبون وغيرهم. ثم قال:" الشهر هكذا، وهكذا، وهكذا" - يعني: ثلاثين - ثم قال: "وهكذا وهكذا، وهكذا" وقبض إبهامه في الثالثة - يعني: تسعًا وعشرين - يعني مرة يكون ثلاثين، ومرة تسعًا وعشرين. "فلا تصوموا حتى تروا الهلال، ولا تفطروا حتى تروه، فإن غم عليكم فأكملوا العدة ثلاثين، صوموا لرؤيته، وأفطروا لرؤيته ". كما أن الدَّيْنَ مِنْ حَيْثُ هُوَ غَيْرُ مُفْتَقِرٍ إِلَى كِتَابَةٍ أَصْلًا؛ لِأَنَّ كِتَابَ اللَّهِ قَدْ سَهل اللَّهُ وَيَسَّرَ حِفْظَهُ عَلَى النَّاسِ، وَالسُّنَنُ أَيْضًا مَحْفُوظَةٌ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ ﷺ ومروية بالحفظ.
ولما دعت الحاجة المسلمين إلى التخطيط لمواعيد أعمالهم المستقبلية وسفرهم ولقاءاتهم ومواسم الفصول الأربعة وتغيراتها، وأن تكون ضمن تقويم مطبوع للسنين القادمة؛ عمدوا إلى طباعة تقاويم هجرية حتى يخططوا عليها أمور دنياهم، ومنها: (تقويم أم القرى) وهو تقويم قمري يعتمد على دورة القمر لتحديد الأشهر، وأضافوا في طباعته منازل الشمس والقمر وطوالع النجوم التي جعلها الله علامات يهتدي بها الناس في معرفة تغيرات الطقس والفصول الأربعة ومواسم الزراعة والتكاثر الفطري. ويعتمد إحداثيات (خط الطول وخط العرض) للكعبة المشرفة في مكة المكرمة أساسًا لتقويم أم القرى، كما يعتمد ولادة الهلال فلكيًا حال غروب القمر بعد غروب الشمس في مكة المكرمة.
ولو لم يكن للمسلمين تقويم مطبوع؛ فإنهم هم يؤرخون بالنظر في السماء والقمر ويهتدون إلى مواعيد فصول السنة بالنظر في قبة السماء ومنازل الشمس والقمر وطوالع تلك النجوم، ولهم في ذلك علوم وعلوم متناقلة وأشعار ومنظومات تؤصل خبرتهم الدقيقة العالية في التأمل في النجوم والاهتداء للاتجاهات ودراسة تغيرات الزمان وأثرها على الأرض.
1 / 14
خلق الملائكة والجن والإنس
وخُلِقَتْ الْمَلَائِكَةُ مِنْ نُورٍ، فهم سَفَرَةٌ، كِرَامٌ بَرَرَةٌ، حَافِظونَ، كَاتِبونَ، مُطَهَّرُونَ، لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ، وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ، جعل الله منهم رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ. وقد أَطَّتْ (^١) السَّمَاءُ وَحُقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ؛ مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا وَمَلَكٌ وَاضِعٌ جَبْهَتَهُ سَاجِدًا للهِ (^٢). وَخُلِقَ الْجَانُّ مِنْ مَارِجٍ (^٣) مِنْ نَارِ السَّمُومِ (^٤)، ثم خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ طِينٍ. وخَلَقَ اللهُ الجن والإنس لعبادته وليختبرهم في طاعته، ولم يجعلهم مجبولين على الطاعة كالملائكة، بل منحهم إرادة وعقلًا وأسبغ عليهم نِعَمَهُ ظاهرة وباطنة، وأمرهم بطاعته ونهاهم عن معصيته، وابتلاهم بالشهوات والملذات وبالشدائد، ووعد المطيع بالثواب والعاصي بالعقاب، وَالْجِنُّ وَالْإِنْسُ يَمُوتُونَ.
_________
(^١) أصدرت صوتًا من ثقل ما عليها.
(^٢) الْمَلَائِكَةُ لَيْسُوا إنَاثًا، ولا يَأكُلُونَ الطَّعَامَ، ولهم قُدْرَةُ عَلَى التَّشَكُّل، ولَا يَدْخُلُونَ بَيْتًا فِيهِ كَلْب ولا صُورَة ولا جَرَس ولا بَوْلٌ مُنْتَقِع، ولَا يَصْحَبُونَ رُفْقَةً فِيهَا كَلْبٌ وَلَا جَرَسٌ وَلَا جِلْدُ نَمِرٍ، ولَا يَقْرَبُونَ الْجُنُب، وتَتَأَذَّى الْمَلَائِكَةُ مِمَّا يَتَأَذَّى مِنْهُ بنو آدم، ولهم قدارت وأحجام مختلفة وله وظائف وأعمال كثيرة.
(^٣) الْمَارِج: اللَّهَب الْمُخْتَلِطُ بِسَوَادِ النَّار.
(^٤) (السَّمُوم): هِيَ نَار شديدة الحرارة لَا دُخَان لَهَا تَنْفُذ من المسام.
وفي الحديث: "الْجِنُّ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: صِنْفٌ لَهُمْ أَجْنِحَةٌ يَطِيرُونَ فِي الْهَوَاءِ، وَصِنْفٌ حَيَّاتٌ وَكِلَابٌ، وَصِنْفٌ يَحِلُّونَ وَيَظْعَنُونَ". قيل: أي أنواع في خلقتهن ليسوا كبني آدم نوع واحد وخلقة واحدة. قال الحكيم الترمذي: والصنف الثاني هم الذين ورد النهي عن قتلهم في خبر نهي عن قتل ذوي البيوت، وخبر نهي عن قتل الحيات؛ فإن تلك في صور الحيات، وهم من الجن ومن سكان البيوت. وقال وهب: إن من الجن من يولد له ويأكلون، ويشربون بمنزلة الآدميين، ومنهم من هو بمنزلة الريح، لا يتوالدون ولا يأكلون، ولا يشربون، وهم الشياطين. والله أعلم.
1 / 15
رحمة الله
ولَمَّا خَلَقَ اللهُ الْخَلْقَ؛ كَتَبَ كِتَابًا عَلَى نَفْسِهِ فَهُوَ مَوْضُوعٌ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: "إِنَّ رَحْمَتِي تَغْلِبُ غَضَبِي"، وإِنَّ اللهَ خَلَقَ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِائَةَ رَحْمَةٍ (مِائَةَ جُزْءٍ)، كُلُّ رَحْمَةٍ طِبَاقَ (^١) مَا بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ، أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ، وَالْإِنْسِ، وَالْبَهَائِمِ، وَالْهَوَامِّ، فَمِنْ ذَلِكَ الْجُزْءِ تَتَرَاحَمُ الْخَلَائِقُ، وَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، فَبِهَا تَعْطِفُ الْوَالِدَةُ عَلَى وَلَدِهَا، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوُحُوشُ عَلَى أَوْلَادِهَا، وَالطَّيْرُ بَعْضُهَا عَلَى بَعْضٍ، حَتَّى تَرْفَعَ الدَّابَّةُ حَافِرَهَا عَنْ وَلَدِهَا خَشْيَةَ أَنْ تُصِيبَهُ. وَادَّخَرَ عِنْدَهُ لِأَوْلِيَائِهِ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، فَإِذَا كَانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ ضَمَّهَا إِلَيْهَا فَأَكْمَلَهَا بِهَذِهِ الرَّحْمَةِ وَرَحِمَ بِهَا عِبَادَهُ (^٢)، فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِمَا عِنْدَ اللهِ مِنْ الرَّحْمَةِ، لَمْ يَيْئَسْ مِنْ الْجَنَّةِ أَحَدٌ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِمَا عِنْدَ اللهِ مِنْ الْعَذَابِ؛ مَا طَمِعَ فِي الْجَنَّةِ أَحَدٌ. ولَوْ كَانَتْ الدُّنْيَا تَعْدِلُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ؛ مَا سَقَى كَافِرًا مِنْهَا شَرْبَةَ مَاءٍ.
_________
(^١) يعني: ملء ما بينهما.
(^٢) كأن المراد بالعباد هنا: أولياؤه المؤمنون فقد سبقها بقوله:" وَادَّخَرَ عِنْدَهُ لِأَوْلِيَائِهِ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً"، ولَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رحِيمًا). ويؤيده ما أخرجه أحمد والحاكم من حديث أنس قال: " مر النبي ﷺ في نفر من أصحابه وصبي على الطريق، فلما رأت أمه القوم خشيت على ولدها أن يوطأ، فأقبلت تسعى وتقول: ابني، ابني، وسعت فأخذته، فقال القوم: يا رسول الله ما كانت هذه لتلقي ابنها في النار، فقال: ولا الله بطارح حبيبه في النار "، فالتعبير بحبيبه يخرج الكافر، وكذا من شاء إدخاله ممن لم يتب من مرتكبي الكبائر. وهو كَقَوْلِهِ تَعَالَى: (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كل شَيْء فسأكتبها للَّذين يَتَّقُونَ) فَهِيَ عَامَّةٌ مِنْ جِهَةِ الصَّلَاحِيَّةِ وَخَاصَّةٌ بِمَنْ كُتِبَتْ لَهُ، والله أعلم.
1 / 16
قصة آدم ﵇
(إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ، فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ) يعني: إذا سويَّتُ خلقه، وعدلت صورته، ونفخت فيه من روحي، فاسجدوا له.
وإن الله تعالى خلق آدم ﵇ في خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ وهو يَوْمُ الْجُمُعَةِ (^١)، بَعْدَ الْعَصْرِ فِي آخِرِ الْخَلْقِ فِي آخِرِ سَاعَةٍ مِنْ سَاعَاتِ الْجُمُعَةِ فِيمَا بَيْنَ الْعَصْرِ إِلَى اللَّيْلِ، فَأَسْجَدَ لَهُ مَلَائِكَتَهُ، وَأَسْكَنَهُ جَنَّتَهُ، فَلِلَّهِ مَا أَمْسَى ذَلِكَ الْيَوْمُ حَتَّى عَصَاهُ فَأَخْرَجَهُ مِنْهَا.
وخلق اللهُ ﷿ آدمَ عَلَى سِتِّينَ وَثَلَاثِ مِائَةِ مَفْصِلٍ، طوله سِتُّونَ ذِرَاعًا فِي السَّمَاءِ، فِي سَبْعَةِ أَذْرُعٍ عَرْضًا (^٢)، فَلَمْ يَزَلْ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدَهُ حَتَّى الْآنَ.
وخلق اللهُ آدمَ مِنْ قَبْضَةٍ قَبَضَهَا مِنْ مِنْ أَدِيمِ الْأَرْضِ كُلِّهَا أَحْمَرِهَا وَأَسْوَدِهَا وَطَيِّبِهَا وَخَبِيثِهَا، فَسُمِّيَ: آدَمَ. فَجَاءَ بَنُو آدَمَ عَلَى قَدْرِ الْأَرْضِ؛ فَجَاءَ مِنْهُمْ الْأَحْمَرُ وَالْأَبْيَضُ وَالْأَسْوَدُ وَبَيْنَ ذَلِكَ، وَالسَّهْلُ وَالْحَزْنُ وَالْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَبَيْنَ ذَلِكَ (^٣).
وخَلَقَ اللهُ آدَمَ مِنْ تُرَابٍ فَجَعَلَهُ طِينًا ثُمَّ تَرَكَهُ حَتَّى إِذَا كَانَ حَمَأً مَسْنُونًا (^٤) خَلَقَهُ وَصَوَّرَهُ، ولما صوّر الله آدم في الجنة، تركه ما شاء الله أن يتركه، حَتَّى إِذَا كَانَ صَلْصَالًا كَالْفَخَّارِ (^٥) كَانَ إِبْلِيسُ يَمُرُّ بِهِ فَيَقُولُ: لَقَدْ خُلِقْتَ لِأَمْرٍ عَظِيمٍ. فجعل إبليس يُطيف به (^٦)، وينظر ما هو، فَلَمَّا رَآهُ أَجْوَفَ قَالَ: ظَفِرْتُ بِهِ، خَلْقٌ لَا يَتَمَالَكُ (^٧).
فلما نفخ الله فيه الروحَ (^٨) كَانَ أَوَّلُ مَا جَرَى فِيهِ الرُّوحُ بَصَرُهُ وَخَيَاشِيمُهُ؛ فَعَطَسَ، فقال: الحمد لله. فحمد الله بإذنه، فقال له ربه: يرحمك ربك يا آدم،
_________
(^١) خَيْرُ يَوْمٍ طَلَعَتْ فِيهِ الشَّمْسُ يَوْمُ الْجُمُعَةِ، فِيهِ خُلِقَ آدَمُ، وَفِيهِ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ، وَفِيهِ أُخْرِجَ مِنْهَا وَفِيهِ تِيبَ عَلَيْهِ وَفِيهِ أُهْبِطَ وَفِيهِ مَاتَ، وَفِيهِ الصَّعْقَةُ، وَفِيهِ النَّفْخَةُ، وَلَا تَقُومُ السَّاعَةُ إِلَّا فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ، وَمَا عَلَى الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا وَهِيَ تُصْبِحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ مُصِيخَةً (مُصْغِيَة مُسْتَمِعَة) حَتَّى تَطْلُعَ الشَّمْسُ شَفَقًا مِنْ السَّاعَةِ، إِلَّا الْجِنَّ وَالْإِنْسَ، وَفِيهِ سَاعَةٌ لَا يُوَافِقُهَا عَبْدٌ مُسْلِمٌ، وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي، يَسْأَلُ اللهَ تَعَالَى فِيهَا شَيْئًا، إِلَّا أَعْطَاهُ إِيَّاهُ، وَلَا يَسْتَعِيذُ مِنْ شَرٍّ، إِلَّا أَعَاذَهُ اللهُ مِنْهُ. قَالَ عَبْدَ اللهِ بْنَ سَلَامٍ ﵁: هِيَ بَعْدَ الْعَصْرِ إِلَى أَنْ تَغْرُبَ الشَّمْسُ، آخِرُ سَاعَةٍ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ قَبْلَ أَنْ تَغِيبَ الشَّمْسُ، وفي الحديث:"لَا يَزَالُ الْعَبْدُ فِي صَلَاةٍ مَا كَانَ فِي مُصَلَاّهُ يَنْتَظِرُ الصَّلَاةَ".
(^٢) فَكُلُّ مَنْ يَدْخُلُ الْجَنَّةَ عَلَى صُورَةِ آدَمَ، وَطُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا، "يُبعث أَهْلُ الْجَنَّةِ عَلَى صُورَةِ آدَمَ فِي مِيلَادِ ثلاثٍ وَثَلَاثِينَ، جُردًا مُردًا مُكَحَّلِينَ، ثُمَّ يُذْهَبُ بِهِمْ إِلَى شَجَرَةٍ فِي الْجَنَّةِ فَيُكْسَوْنَ مِنْهَا، لَا تَبْلَى ثِيَابُهُمْ، وَلَا يَفْنَى شَبَابُهُمْ، ومَا مِنْ أَحَدٍ يَمُوتُ سِقْطًا وَلَا هَرِمًا - وَإِنَّمَا النَّاسُ فِيمَا بَيْنَ ذَلِكَ - إِلَّا بُعِثَ ابْنَ ثَلَاثِينَ سَنَةً، فَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، كَانَ عَلَى مِسْحَةِ آدَمَ، وصُورَةِ يُوسُفَ، وَقَلَبِ أَيُّوبَ، وَمَنْ كَانَ مِنْ أَهْلِ النَّارِ، عُظِّمُوا وَفُخِّمُوا كَالْجِبَالِ".
(^٣) قال ﵊: (إِنَّ اللَّهَ قَدْ أَذْهَبَ عَنْكُمْ عُبِّيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ وَفَخْرَهَا بِالْآبَاءِ، مُؤْمِنٌ تَقِيٌّ أَوْ فَاجِرٌ شَقِيٌّ، أَنْتُمْ بَنُو آدَمَ، وَآدَمُ مِنْ تُرَابٍ، لَيَدَعَنَّ رِجَالٌ فَخْرَهُمْ بِأَقْوَامٍ إِنَّمَا هُمْ فَحْمٌ مِنْ فَحْمِ جَهَنَّمَ، أَوْ لَيَكُونُنَّ أَهْوَنَ عِنْدَ اللَّهِ مِنَ الْجِعْلَانِ الَّتِي تَدْفَعُ بِأَنْفِهَا النَّتْنَ. وفي رواية: (مِنَ الْجُعَلِ الَّذِي يُدَهْدِهُ الْخرء بِأَنْفِهِ).
(^٤) الحمأ: الطين الأسود. المسنون: المتغيِّر لونه وريحه مِن طول مكثه. وجاء وصف الطين الذي خلق منه آدم أيضًا بأنه (لازب) أي: جيدًا لزجًا، يلتصق بعضه ببعض.
(^٥) صلصالًا: يابسًا لم تصبه نار، ويسمع له صوت عند النقر عليه كصوت الصلصلة. فهو يشبه الفخار وليس فخارًا، لأن الفخار هو الطين الذي يطبخ في النار.
(^٦) يستدير حواليه.
(^٧) فعرف إبليس بما آتاه الله من العلم أنَّ آدمَ خُلق خلقًا لَا يَمْلِكُ نَفْسَهُ وَيَحْبِسُهَا عَنِ الشَّهَوَاتِ، ولا يملك دفع الوسواس عنها ﴿وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا﴾.
(^٨) الإنسان مكون من جسد وروح، ولا يعلم حال هذه الروح إلا الله، (وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا).
1 / 17
ثم قال له: اذهب فسلم على أولئك النفر - وهم نفر من الملائكة جلوس - فاستمع ما يجيبونك، فذهب فقال: السلام عليكم، فقالوا: وعليك السلام ورحمة الله، فزادوه: ورحمة الله، ثم رجع إلى ربه، فقال له: إن هذه تحيتك وتحية ذريتك بينهم. وَقَالَ اللَّهُ لَهُ وَيَدَاهُ مَقْبُوضَتَانِ: اخْتَرْ أَيَّهُمَا شِئْتَ، فَقَالَ: اخْتَرْتُ يَمِينَ رَبِّي وَكِلْتَا يَدَيْ رَبِّي يَمِينٌ مُبَارَكَةٌ، ثُمَّ بَسَطَهَا، فَإِذَا فِيهَا آدَمُ وَذُرِّيَّتُهُ (^١)، فَقَالَ: أَيْ رَبِّ مَا هَؤُلَاءِ؟ قَالَ: ذُرِّيَّتُكَ. فَإِذَا كُلُّ إِنْسَانٍ مَكْتُوبٌ عُمْرُهُ بَيْنَ عَيْنَيْهِ، وجعل بين عيني كل إنسان منهم وبيصًا (^٢) من نور، فرأى فيهم رجلًا من أضوئهم، فأعجبه وبيص ما بين عينيه، فقال: يا رب من هذا؟، فقال: هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود. فقال: رب كم جعلت عمره؟ قال: قد كتبت له عمر أربعين سنة. قال: يا رب زده في عمره. قال: ذاك الذي كتبت له. قال: أي رب فإني قد جعلت له من عمري ستين سنة. قال: أنت وذاك، إِذًا يُكْتَبُ وَيُخْتَمُ وَلَا يُبَدَّلُ. ثُمَّ أُسْكِنَ آدَمُ الْجَنَّةَ مَا شَاءَ اللَّهُ.
_________
(^١) وفي رواية: مَسَحَ عَلَى ظَهْرِهِ، فَسَقَطَ مِنْ ظَهْرِهِ كُلُّ نَسَمَةٍ هُوَ خَالِقُهَا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ،
(^٢) يعني وميضًا أو لمعانًا.
1 / 18
إخبار الله الملائكة بخلق البشر
وأخبر الله ملائكته أنه سيجعل في الأرض بشرًا يخلُف بعضهم بعضًا، للقيام بعمارتها على طاعة الله، فسأل الملائكةُ ربَّهم -سؤال استرشاد واستفهام- عن الحكمة من جعل بني آدم خلفاء في الأرض، وهم سيفسدون فيها، ويريقون الدماء ظلمًا (^١)، قائلين: ونحن أهل طاعتك، نُنَزّهُك حامدين لك، ومعظّمين جلالك وكمالك، لا نفتُرُ عن ذلك.
وَقَدْ كَانَ فِي الأرض -قَبْلَ أَنْ يُخْلَقَ آدم بِأَلْفَيْ عَامٍ-الْجِنُّ بَنُو الْجَانِّ، فَأَفْسَدُوا فِي الْأَرْضِ، وَسَفَكُوا الدِّمَاءِ، فبَعَثَ الله عَلَيْهِمْ جُنُودًا مِنَ الْمَلَائِكَةِ، فَضَرَبُوهُمْ حَتَّى أَلْحَقُوهُمْ بِجَزَائِرِ الْبُحُورِ، ولذلك سأل الْمَلَائِكَةُ ربهم: "أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا"؟ أي: كَمَا فَعَلَ أُولَئِكَ الْجِنُّ بَنُو الْجَانِّ؟، فأجابهم الله عن سؤالهم: "إني أعلم ما لا تعلمون" (^٢) أي: من الحِكَم الباهرة في خلقهم، والمقاصد العظيمة من استخلافهم.
ولبيان منزلة آدم ﵇ علَّمه الله تعالى أسماء الأشياء كلها من الحيوان والجماد؛ ألفاظها ومعانيها، ثم عرض تلك المسمَّيات على الملائكة قائلًا: أخبروني بأسمائها إن كنتم صادقين فيما تظنون أنكم أكرم من هذا المخلوق وأفضل منه. فقالوا -مُعْترِفين بنقصهم مُرْجِعين الفضل إلى الله-: نُنَزّهُك ونعظِّمك يا ربَّنا عن الاعتراض عليك في حُكمك وشرعك، فنحن لا نعلم شيئًا إلا ما رزقتنا علمه، إنك أنت العليم الَّذي لا يخفى عليك شيء، الحكيم الَّذي تضع الأمور في مواضعها من قدرك وشرعك. وعندئذ أمر الله تعالى آدمَ أن يخبرهم بأسماء تلك المسمَّيات، فلما أخبرهم كما علَّمه ربه؛ قال الله للملائكة: ألم أقل لكم: إني أعلم ما خفي في السماوات وفي الأرض؟ وأعلم ما تُظْهرون من أحوالكم وما تحدِّثُون به أنفسكم.
_________
(^١) لعل الله سبحانه أخبر الملائكة أن البشر سيفسدون في الأرض، أو أنهم قاسوههم على الجن إذ أفسدوا لأنهم غير مفطورين على الطاعة، والله أعلم.
(^٢) رواه الحاكم في المستدرك على الصحيحين عن ابن عباس ﵄، وصححه الذهبي. ورواه ابن أبي حاتم بسند صحيح في تفسيره عن عبدالله بن عمرو بن العاص ﵄.
1 / 19
سجود الملائكة لآدم واستكبار إبليس
وأُمِر الملائكةُ بالسجود لآدم سجود تقدير واحترام، فسجدوا مسارعين لامتثال أمر الله، إلا إبليس الَّذي كان من الجن، فامتنع اعتراضًا على أمر الله له بالسجود وتكَبُّرًا على آدم، فصار بذلك من الكافرين بالله تعالى.
والله -وهو عالِم بكل شيء- قال توبيخًا لإبليس: أي شيء منعك من امتثال أمري لك بالسجود لآدم؟؛ أمنعك من السجود التكبر؟، فقال إبليس مجيبًا ربه: منعني أني أفضل منه، فقد خلقتني من نار، وخلقته هو من طين، والنار أشرف من الطين.
فأخرج اللهُ إبليسَ من الجنة مذمومًا مطرودًا من رحمة الله؛ لأن الجنة دار الطيِّبين الطاهرين، وليست للمستكبرين.
فقال إبليس: يا رب، أمهلني إلى يوم البعث حتى أغوي من أستطيع إغواءه من الناس.
قال له الله: إنك -يا إبليس- من المُمْهَلين الذين كتبت عليهم الموت يوم النفخة الأولى في الصور حين يموت الخلق كلهم، ويبقى خالقهم وحده.
فقال إبليس: بسبب إضلالك إياي حتى تركتُ امتثال أمرك بالسجود لآدم لأُقْعُدَنَّ لبني آدم لأصرفهم وأضلهم عن صراطك المستقيم كما ضَلَلْتُ أنا عن السجود لأبيهم آدم، ثم لآتِينَّهم من جميع الجهات بالتزهيد في الآخرة، والترغيب في الدنيا، وإلقاء الشبهات، وتحسين الشهوات، ولا تجد -يا رب- أكثرهم شاكرين لك؛ لما أمليه عليهم من الكفر.
1 / 20
قال الله له: إِنَّ عِبَادِي الَّذِينَ قَدَّرْتُ لَهُمُ الْهِدَايَةَ، فَلَا سَبِيلَ لَكَ عَلَيْهِمْ، وَلَا وُصُولَ لَكَ إِلَيْهِمْ، ولأملأن جهنم يوم القيامة منك ومن كل من اتبعك في كفرك وأطاعك وعصى أمر ربه. (^١)
_________
(^١) قَالَ رَسُولُ اللهِ ﷺ إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي يَقُولُ يَا وَيْلَهُ (وَفِي رِوَايَةِ: يَا وَيْلِي) أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِي النَّارُ.
1 / 21
خلق حواء وإسكانها الجنة مع آدم
وخلق الله حواء من ضلع آدم ليأنس إليها، ويطمئن بها، وجعل بينهما مودة ورحمة، وأسكنها الله الجنة مع زوجها آدم. وقال الله لآدم: يا آدم، اسكن أنت وزوجتك حواء الجنة، فكُلا مما فيها من الطيبات ما شئتما، ونهاهما أن يأكلا من شجرة عَيَّنها الله لهما، وأنهما إن أكلا منها بعد نهيه لهما كانا من المتجاوزين لحدود الله. (^١)
_________
(^١) عن ابن عباس ﵄، قال:" ﴿إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأشفقن منها﴾ قال: " قيل لآدم أتأخذها بما فيها، فإن أطعتَ غفرتُ، وإن عصيتَ حذرتك؟ قال: قبلت. قال: فما كان إلا كما بين صلاة العصر إلى أن غربت الشمس حتى أصاب الذنب ".
و﴿الْأَمَانَة﴾ التكاليف الشرعية كالصَّلَوَات وَغَيْرهَا من الْفَرَائِضُ الَّتِي ائْتَمَنَ اللَّهُ عَلَيْهَا الْعِبَادَ مِمَّا فِي فِعْلهَا مِنْ الثَّوَاب وَتَرْكهَا مِنْ الْعِقَاب وما يحفظ من أموال وأسرار. ﴿وَأَشْفَقْنَ﴾ خِفْنَ ﴿مِنْهَا﴾. وحملها الإنسان، إنه كان ظلومًا لنفسه، جهولًا بعاقبة حملها.
1 / 22