The Biography of the Prophet - Ragheb Al-Sergani
السيرة النبوية - راغب السرجاني
ژانرونه
قرار عودة المهاجرين من الحبشة إلى مكة والآثار المترتبة على ذلك
وصل إلى أسماع المسلمين في الحبشة أن مكة قد آمنت ودخل أهلها في الإسلام، قالوا: لقد آمن حمزة وعمر ﵄، وظهر المسلمون، وصاروا أعزة، ثم سجد المشركون مع رسول الله ﷺ إيمانًا بما يقول، وقد أصبحت مكة الآن مسلمة، فما الفائدة من البقاء في الحبشة بعد إيمان مكة؟ كيف حدث هذا الخطأ عند المسلمين في أرض الحبشة؟ لابد أنه وقع خطأ في نقل الأخبار من مكة إلى الحبشة أو خطأ في فهم الخبر الصحيح، ولكن في الحالتين ترتب على هذا الخطأ إرهاق شديد جدًا للمسلمين في الحبشة.
لقد قرر المسلمون أن يعودوا إلى مكة، وذلك بعد إشاعة غير صحيحة جاءت من مكة إلى الحبشة، كم من الأثمان يدفعها المسلمون ثمنًا للشائعات، وكم من الوقت والمجهود والمال يضيع جراء الشائعات، وعلى المسلمين دائمًا أن يتبينوا قبل أخذ القرار، وفي اعتقادي أنه كان يجدر بالمهاجرين أن يرسلوا رسولًا واحدًا منهم إلى مكة ليستوثق من الخبر، قبل أن يجمعوا أنفسهم ونساءهم وأطفالهم ويعودوا هذا المشوار الطويل المرهق عبر البحار والصحاري، أو أن ينتظروا رسالة واضحة من قائدهم المحنك رسول الله ﷺ، الذي كان سيرسل إليهم حتمًا بالخبر لو أن مكة آمنت فعلًا، وأن المصلحة في أن يعودوا إلى مكة، لكن هذا لم يحدث، وعاد المسلمون وركبوا البحر لمسافات طويلة، وجاءوا إلى مكة وقلوبهم ترقص من الفرحة، ثم كانت الصدمة القاسية، لقد اكتشفوا أن الخبر كان مجرد إشاعة! مر المسلمون بمعاناة كبيرة بسبب هذه العودة، لكن بفضل الله كان المسلمون على حذر كافٍ عندما اقتربوا من مكة، فقد انتظروا إلى الليل، ووقفوا خارج مكة، وأرسلوا رسولًا، وجاء لهم بالخبر أن أهل مكة ما زالوا مشركين، نعم، مشكلة ضخمة، لكن اجتمع المسلمون وعقدوا مجلسًا للشورى، وخرجوا من اجتماعهم بثلاث توصيات، واستقروا على أن يقسموا عليهم هذه التوصيات الثلاث.
التوصية الأولى: أن يعود غالبيتهم مرة ثانية إلى الحبشة دون دخول مكة.
وهذا أمر شاق على النفس، ولكنه سيكون أكثر أمنًا.
التوصية الثانية: أن يدخل بعض المسلمين إلى مكة سرًا متخفين لقضاء بعض المصالح لهم ولبقية المهاجرين، ثم العودة بعد ذلك إلى الحبشة، ومفهوم ذلك أنهم لن يبقوا في أرض مكة إلا فترة بسيطة؛ لأن مكة مدينة صغيرة ومن المستحيل أن يختبئ فيها رجل عن عيون الناس لفترة طويلة.
التوصية الثالثة: أن يدخل بعضهم إلى أرض مكة جهارًا ولكن في جوار واضح وحماية معلنة، حتى لا يعرض للقتل أو للتعذيب الشديد، وهؤلاء سوف يشرحون لرسول الله ﷺ أحوال الحبشة، ويتبادلون الخبرة مع مؤمني مكة بخصوص أمر الهجرة.
وتم بالفعل هذا الاتفاق وعاد الغالبية إلى الحبشة دون دخول مكة، ودخل بعضهم مكة سرًا ثم عادوا بعد ذلك إلى الحبشة ودخل بعضهم مكة في وضوح، أما الذين دخلوا مكة في إعلان فكان عثمان بن عفان ﵁ وأرضاه وزوجته السيدة رقية بنت رسول الله ﷺ، وعثمان بن مظعون ﵃، فدخل عثمان بن عفان الأموي في حماية قبيلته القوية بني أمية، أما عثمان بن مظعون فقد دخل في جوار الوليد بن المغيرة المشرك وهو من قبيلة بني مخزوم، وذلك لأن قبيلة عثمان بن مظعون بنو جمح وكانت من أشد القبائل محاربة له شخصيًا، وكان من أشدهم عليه أمية بن خلف الجمحي لعنه الله.
فدخل عثمان بن مظعون في إجارة الوليد بن المغيرة، وكانت إجارة غير مشروطة، وقد قلنا بأن المشركين قد رفعوا أيديهم نسبيًا عن المسلمين بعد إسلام حمزة وعمر ﵄، ولكن جدت أمور جعلت المشركين ينشطون من جديد لتعذيب المسلمين.
أولًا: أن سجود المشركين في الكعبة مع رسول الله ﷺ سبب بلبلة في أرض مكة، ومن كان مترددًا في الإيمان فلابد أن يفكر الآن بجدية، وبالذات في ظل الحماية المادية والمعنوية التي يقدمها فارسا قريش حمزة وعمر ﵄؛ لذلك فكرت قريش في إعادة البطش والتعذيب لمنع المد الإسلامي الجارف في مكة.
ثانيًا: وصلت إلى مكة أنباء الاستقبال الحافل والكريم الذي قدمه النجاشي للمهاجرين المسلمين، وهذا رفع من معنويات المسلمين من ناحية وأحبط معنويات الكفار من ناحية أخرى، فمشركو مكة كانت لهم علاقات تجارية وصداقة مع النجاشي، ولاشك أن هذه الأمور قد تتأثر بالصداقة والوفاق الجديد مع المسلمين، لهذا قررت مكة أن تنشط في مواجهة الدعوة، فماذا فعلت؟ الوسيلة الأولى: قررت قريش منع المؤمنين من السفر، وقامت بتشديد الحراسة على مخارج مكة، ومطاردة كل من خرج من المؤمنين من مكة، ووضعوا على قائمة الممنوعين من السفر كل من عرف عنه الإيمان أو اشتبه في إيمانه، كل هذا لوقف الهجرة إلى الحبشة
8 / 9