The Biography of the Prophet - Ragheb Al-Sergani
السيرة النبوية - راغب السرجاني
ژانرونه
وقفات مع الهجرة إلى الحبشة
أمر رسول الله ﷺ (١٤) مؤمنًا أن يهاجروا إلى الحبشة: (١٠) رجال و(٤) نساء هن زوجات، كانت هذه هي الطليعة الأولى من المهاجرين، وأنا أريد أن أقف وقفتين في غاية الأهمية عند هذا الموقف.
الوقفة الأولى: من أول من هاجر من المسلمين؟ أسماؤهم تحتاج إلى وقفة طويلة، فالأول: هو عثمان بن عفان الأموي ﵁ وأرضاه وزوجته رقية بنت رسول الله ﷺ.
يا له من موقف، أعمق وسيلة من وسائل التربية هي وسيلة التربية بالقدوة، لقد أصدر رسول الله ﷺ أوامره بالهجرة وترك الديار، ثم لم يعزل نفسه ﷺ عن الأذى من هذه الهجرة، فها هي ابنته السيدة رقية حبيبة قلبه ﷺ تهاجر إلى الحبشة مع المهاجرين، بل تسبق المهاجرين، ويذوق ألم الفراق كما يذوقه أصحابه من المؤمنين، من المستحيل أن يتأثر الجنود بقائدهم إلا إذا شعروا أنه معهم في خندقهم، ما أسهل أن تأمر بالتقشف والهجرة، بل والموت، لكن كل ذلك لا يؤثر في أحد إلا إذا قرن بعمل التربية القدوة.
رسالة من رسول الله ﷺ إلى كل قائد: إذا أردت أن تملك قلوب شعبك وأتباعك فانزل إليهم وعش معهم وخالطهم، افرح بما يفرحون به، وتألم مما يتألمون منه، شاركهم في طعامهم وشرابهم وسفرهم وسعيهم وقتالهم، عندئذ اعلم أنك امتلكت قلوبهم.
الاسم الثاني في هذه الهجرة كان أيضًا من بيت الرسول ﷺ: إنه جعفر بن أبي طالب الهاشمي القرشي ﵁ وأرضاه، ابن عم رسول الله ﷺ، هاجر هو وزوجته السيدة أسماء بنت عميس ﵂.
وكذلك بقية الأسماء معظمهم من أصحاب الشرف والمكانة والمنعة مثل: عبد الرحمن بن عوف من بني زهرة.
والزبير بن العوام من بني أسد.
وأبو سلمة بن عبد الأسد من بني مخزوم.
وأبو حذيفة بن عتبة من بني عبد شمس.
ومصعب بن عمير من بني عبد الدار، وهكذا معظم المهاجرين من أشراف مكة.
الوقفة الثانية: أن المسلمين أخذوا بكل الأسباب الممكنة لضمان نجاح عملية الهجرة، لم يقولوا: نتوكل على الله ﷿ وندعوه، ثم نسلم أمرنا بغير إعداد، لا، بل أخذوا بكل الأسباب التي في أيديهم.
أولًا: خرج المسلمون في سرّية كاملة ولم يعلموا أحدًا أبدًا بهجرتهم.
ثانيًا: لم يخرجوا مجموعة واحدة، بل خرجوا متفرقين حتى لا يلفتوا الأنظار إليهم.
ثالثًا: لضمان عدم الاختلاف ولتوحيد الصف اختار لهم رسول الله ﷺ أميرًا من أنفسهم، اختار لهم عثمان بن مظعون ﵁ وأرضاه من بني جمح.
رابعًا: التنوع الملموس من قبائل مكة، فإن الرسول ﷺ أخرج من كل قبيلة رجلًا، وبذلك لا تستطيع مكة أن تتحزب ضد قبيلة معينة، لقد اختار رسول الله ﷺ من كل قبيلة واحدًا، فأصبح الموقف صعبًا على أهل مكة، كما أنه من الناحية الأخرى سوف يكون لهذا الوفد تأثير واضح على ملك الحبشة، فهذا الوفد المكون من خليط من قبائل مكة كأنه سفارة رسمية تمثل شعب مكة، لا يخطر أبدًا على ذهن النجاشي أن هذه حركة قبائلية بحتة، بل هي دعوة دينية أخلاقية لا تفرق بين قبيلة أو أخرى، وهذا سيكون أدعى لرد كيد قريش إذا حاولت أن تكيد للمسلمين عند ملك الحبشة.
في هذه الهجرة أخذ ﷺ بكل الأسباب المادية وفي كل أموره، حتى يعلمنا كيف نسير على دربه وعلى طريقه ﷺ.
خرج المؤمنون من مكة خفية، واجتمعوا عند ساحل البحر، ولكن مع كل هذا استطاع أهل مكة أن يعرفوا وجهتهم وأن يلحقوا بهم؛ فحرب الحق والباطل ليس لها نهاية إلى يوم القيامة، هنا كان من الممكن أن تجهض محاولة الهجرة، ولكن المسلمون ابتهلوا إلى الله ﷿ أن ينجيهم مما لحق بهم، في هذه اللحظة وجدوا سفينتين في البحر متجهتين إلى الحبشة فركب المسلمون في إحداهما، وانطلقوا باسم الله في وسط البحر، ولم يستطع المشركون أن يلحقوا بهم.
لقد استنفد المسلمون الوسع، وأخذوا بكامل الأسباب، ولكن المشركون لحقوهم؛ ليلجأ المسلمون إلى الله ﷿، وليعلموا أن الأخذ بالأسباب لا ينفع إلا إذا أراد الله ﷿، وليدركوا حق الإدراك أن الكون بيد الله ﷿ يصرفه كيف يشاء.
وصل المسلمون بأمان إلى الحبشة، وكما توقع رسول الله ﷺ استقبلهم النجاشي خير استقبال، وجلسوا عنده في أكرم حال، ولم يلقوا عنتًا ولا إيذاء ولا مشقة.
8 / 7