ولم يكن في نطقهم تمييز واضح بين الخاء والكاف، فلما كثر التمييز بينهما على أسماعهم أيام تعلموا الكتابة، جعلوا للخاء حرفا سموه الخاف على وزن الكاف، وكتبوه كما تكتب الكاف بعد حذف نقطة الإعجام.
ولما اتصلوا بأعاجم الشمال الذين ينطقون الواو «فاء» كما يقول بعض الطورانيين «فلا الضالين» بدلا من «ولا الضالين»، نطقوها مثلهم وجعلوا لها حرفا كالواو في رسمه بعد حذف نقطة الإعجام.
كذلك أخذوا السين الآرامية المسماة بالآرامية سمخ حين كتبوا بهذه اللغة؛ لورودها في كلمات كثيرة من أسفار التوراة، وهذا مع احتفاظهم بالسين، لاختلاف النطق قليلا بين اللهجتين في أحرف الذلق وأحرف الصفير.
وليس في العبرية ثاء ولا ذال ولا ضاد ولا ظاء، ولكنهم يقربون حروفهم منها بالتفخيم أو يكتفون بما يشابهها من حروفهم فيحدث الالتباس أحيانا في نقلها إلى العربية؛ ويشتبه الأمر في البحث عن مصدر الكلمة من جراء هذا الالتباس، كما يحدث في كلمة الناصرة هل هي من النصر أو من النذر أو من النظر ...؟ وكلها مميزة المعاني والمخارج في العربية ملتبسة كما نرى في العبرية، ويزيد الالتباس أن البلدة كانت قريبة من موقع نصر وكانت مسكنا للكثيرين من المنذورين للعبادة، وكانت مرقبا يسهل النظر منه إلى ما حواليه.
وقد نقحت الكتابة العبرية مرة أخرى حوالي عصر الميلاد على هدى الكتابة الآرامية، فلم تنجع الحيل في إحياء هذه اللغة التي قضي عليها بالموت لعزلتها وفراغها من مادة البقاء التي تكفل الحياة للغات بما تؤديه للعالم من رسالة إنسانية وعقيدة عامة، ثم هدم الرومان هيكل بيت المقدس فتفرق الكهان في الأرض واتخذوا اليونانية لغة لهم في مصر وأوروبة، واعتمدوا على ترجمة التوراة إليها أو إلى الآرامية للذين تخلفوا عن الهجرة إلى بلادهم، وقد شاعت يومئذ تسمية الآرامية بالسريانية للتفرقة بين المتكلمين بها من المسيحيين، والمتكلمين بها من أبنائها الذين لم يدخلوا في المسيحية، ثم اندمجت السريانية المتطورة بعد ذلك في العربية القرشية على أثر ظهور الإسلام. •••
ولما كان القرن العاشر للميلاد أيقن أحبار إسرائيل ورؤساؤهم بضياع العبرية وقلة صلاحها للبقاء بالتعليم والتلقين في نطاق المعابد المحدودة، فإنها لم تكن صالحة على حالتها في ذلك العهد للتعليم؛ لخلوها من القواعد والأصول التي تحفظ اللغة من جيل إلى جيل ... فرجع الأحبار إلى النحو العربي يقيسون عليه ويستعيرون منه: وكتبوا «آجروميتهم» الأولى باللغة العربية مقرونة في بعض الأحيان بالترجمة العبرية، وكان أول من اجتهد منهم في تحرير كلماتها وجمعها سعيد بن يوسف الفيومي - أو سعديا - صاحب معجم الأجارون وكتاب الفصاحة (892م)، وتلاه الرباني بن تميم البابلي، والرباني يهودا بن قريش، والرباني مناحم بن سروت الأندلسي، والرباني سكوم بن جبيرول، وغيرهم وغيرهم من تلاميذ العرب في المغرب ومصر والعراق. •••
وتتلمذ القوم على العرب في علم الكلام الإسرائيلي أو فلسفة اللاهوت، فكان كل من فيلسوفهم ابن جبيرول (1021-1058) الملقب بأفلاطون اليهود، وابن عزرا الغرناطي (1070-1138) صاحب الغزل الصوفي، وابن ميمون أرسطو اليهود (1135-1204)؛ تلاميذ للمدرسة الرشدية بالأندلس. وكان ابن ميمون يرى - كما قال - أن وصايا الناصري ورجل إسماعيل - يعني محمدا عليه السلام - تهدي الإنسان إلى الكمال؛ ولهذا ثار عليه المتعصبون من قومه وسموا كتابه دلالة الحائرين بضلالة الحائرين، وأول هؤلاء - ابن جبيرول - وضع منظومة في النحو العبري على مثال النحو العربي فيما عدا قواعد الإعراب؛ لأن الكلمات العبرية إما ساكنة أو مبنية، لا تجري في تحريك أواخرها على قواعد الآرامية ولا على قواعد العربية الحديثة.
وأهم كتبه في اللاهوت «ينبوع الحياة» منظور فيه إلى التصوف الإسلامي في كثير من التفصيلات. •••
ولم ينبغ بين اليهود من الفلاسفة العالميين من هو أشهر من باروخ سبنوزا (1632-1677) الذي نشأت أسرته في البلاد الألمانية، وتوفر في صباه على دراسة كل من ابن ميمون وابن عزرا، ثم خلفه المشتغلون بالفلسفة من اليهود بعد ظهور الفلاسفة الكبار من الألمان، فكان القوم كعادتهم مستفيدين في هذا الفرع الواسع من فروع الثقافة الإنسانية، كشأنهم في كل ثقافة تلقوها بين الأقدمين والمحدثين.
وكانوا حيثما اشتركوا مع العرب في ناحية من نواحي المعرفة والعقيدة تابعين مسبوقين، ولم يكونوا قط سابقين لهم أو مرشدين.
ناپیژندل شوی مخ