ومشكلة العبريين قديما وحديثا هي هذه المشكلة: هي مشكلة «التحجر» على حالة القبيلة وحالة «العصبية» بالدم والسلالة. وعقيدتهم في جوهرها هي عقيدة عصبية منعزلة، تؤمن بإله تعبده لأنه إلهها، وهو الإله الذي يرعاها لأنها شعبه الذي يحابيه بين الشعوب لغير سبب ولغير فضيلة فيه غير أنه شعبه المختار لديه.
وهذه حالة من العزلة «المتعصبة» لا بد أن تسوق القوم إلى اصطدام عنيف بينهم وبين جيرانهم من جانب البادية ومن جانب الحاضرة، ولا بد أن يقع فيها ذلك الشعور النافر بين صاحب المال وبين الوسيط والسمسار، كلما تحركت المطامع وتعسرت المنافع، ونشبت المنازعات في البيئة، ولو كان نشوبها لسبب غير السمسرة والاستغلال.
ولا يدرى على التحقيق هل سمي العبريون بهذا الاسم لأنهم ينتسبون إلى عابر بن سام، أو لأنهم عبروا نهر الفرات بعد قدومهم إلى وادي النهرين؛ ففي سفر يشوع يقول يشوع للشعب كله: «هكذا قال الرب إله إسرائيل. آباؤكم سكنوا في عبر النهر منذ الدهر. تارح أبو إبراهيم وأبو ناحور، وعبدوا آلهة أخرى، فأخذت إبراهيم أباكم من عبر النهر وسرت به في كل أرض كنعان.»
إلا أنهم - لضعفهم - كانوا يلوذون في كل موطن سكنوه بمن هو أقوى منهم من القبائل التي تلتقي بهم في أصولهم ويحتمون بمصاهرتها من أعدائهم؛ ففي سفر التكوين أنهم انتسبوا إلى الأصل الآرامي حين أرسل إبراهيم - عليه السلام - رسوله لخطبة رفقة بنت بتوثيل الآرامي، فقال له: «إلى أرضي وعشيرتي تذهب وتأخذ زوجة لابني ...»
ولما نزلوا أرض كنعان جعلوا لغتهم لغة كنعانية. وقال أشعيا وهو يتنبأ بغلبة قومه على أرض مصر إنه «في ذلك اليوم يكون في أرض مصر خمس مدن تتكلم بلغة كنعان.»
ولم يزالوا في هجرتهم من موطن بعد موطن بين العراق وحوران وكنعان يعيشون إلى جوار القبائل، ولا يتغلبون على واحدة منها في وقعة فاصلة حتى لجئوا إلى مصر وعادوا منها بعد عدة قرون إلى الأرض التي سموها بأرض الميعاد، ولم يتفقوا على حدودها حتى ملكوا أسباب القوة التي أطمعتهم في الغلبة عليها.
والعرف الشائع بين العبريين أنهم يتشاءمون تشاؤما «تقليديا» بالأيام التي قضوها في مصر ويحسبونها بلية البلايا، ومحنة المحن في تاريخهم كله من عهد الخليل إلى عهد النازية الهتلرية في القرن العشرين، وقد مرت بهم محنة السبي إلى وادي النهرين ولكنهم لا يتشاءمون بها كما تشاءموا بالمقام في مصر، ولا يجعلون الخروج من بابل عيدا باقيا متجددا كعيد الخروج من أرض وادي النيل.
أما الواقع المعروف بنتائجه الكثيرة فهو على نقيض ما قدروه وأوجبوه على أنفسهم من تقاليد «الحداد» وتقاليد الأعياد.
فإنهم لم يستفيدوا قط من هجرة في تاريخهم كله كما استفادوا من هذه الهجرة المصرية؛ لأنهم نعموا بالعيش الرغيد في جوار النيل، وتعلموا من آداب الحياة وشرائط الصحة ما زاد في عددهم، وزاد في خبرتهم بتدبير أمورهم والدفاع عن أنفسهم؛ فأصبحوا يعدون بمئات الألوف، ويحسنون حمل السلاح وتنظيم الزرع والحصاد، ويصلحون لنزال القبائل البادية التي أعياهم أمرها قبل خمسة قرون وتركوا لها الأرض اعتصاما بمصر وهم بضع مئات أو بضع عشرات.
وليس الفضل في هذه الزيادة وهذا التقدم لطول الزمن بين دخولهم إلى مصر وخروجهم منها؛ فإن القبائل التي تركوها في البادية بقيت كما كانت قبل خمسة قرون ، ولم تبلغ في زيادتها ولا في تقدمها بعض ما بلغوه وادعين قانعين بجوار النيل.
ناپیژندل شوی مخ