إن أوثق الأقوال عن نشأة العبريين منذ أربعين قرنا على وجه التقريب أنهم قبيلة بدوية صغيرة عاشت زمنا في جنوب بلاد العرب إلى الشرق، وبقيت فيه على حالة بين الإقامة والترحل إلى مسافات قريبة حتى انتقلت - مع ملازمتها الشاطئ - إلى جنوب وادي النهرين.
ويستدل على تاريخ هذه القبيلة من تاريخ الدابة التي كانت تعتمد عليها في الرحلة وحمل الأثقال، وهي الحمار
asinus Asinv ؛ فهذا الحيوان كان يوجد في حالة الوحشية على مقربة من السهول الرملية في جزيرة العرب، ويصل أحيانا في قطعانه المجفلة من السباع إلى أرض حوران.
ويظهر أن العبريين استخدموا هذا الحيوان وهو قريب من حالته الوحشية؛ لأنه كان في تلك الحالة يميل بلونه إلى الاحمرار على اقتراب من ألوان الرمال التي يعيش فيها؛ ومن هنا اسم «الحمار» واسم اليحمور الذي يطلق على الحمار الوحشي في اللغة العربية.
ويظهر أيضا أنه بقي عندهم زمنا طويلا على هذا اللون حتى تغير لونه بعض الشيء، وتولدت منه الحمر البيضاء بعد طول التدجين والعناية «المدنية»: أي بعد انتقال العبريين من البادية إلى جوار المدن، وترددهم بين معيشة البداوة ومعاهد الحضارة؛ فأصبحت الحمر البيضاء مطية لذوي الرئاسة والثروة من القوم، وفي ذلك يقول سفر القضاة من إصحاحه الخامس مخاطبا أولئك الرؤساء: «قلبي نحو قضاة إسرائيل المنتدبين في الشعب. باركوا الرب أيها الراكبون الأتن الصحر الجالسون على الطنافس.» أي إناث الحمير المبيضة اللون.
واستخدام الحمار يدل على كثير من أحوال العبريين إلى جوار القبائل التي تستخدم الجمال للسفر إلى المسافات البعيدة، ونقل الأحمال الثقيلة، ونزول المراعي المنيعة التي لا تستباح لغير ذوي القوة والكثرة من قبائل الجزيرة ... فإنما يستخدم الحمار للمسافات القصيرة والأحمال الخفيفة بالقياس إلى أحمال الجمال، ويسير الحمار في غير المفاوز الرملية التي تسلكها الإبل، ولا يبتعد وقتا طويلا عن موارد الماء الميسرة بغير عناء مجهد وبغير حاجة إلى الحماية القوية أو إلى كثرة العدد ووفرة السلاح.
فالعبريون في نشأتهم قوم ضعاف قليلون في العدد، مضطرون إلى الاكتفاء بالمعيشة التي يتركها سادة الصحراء زهدا فيها واستغناء عنها، ونكاد نعلم من ذلك مواقع نشأتهم الأولى قبل وفودهم إلى العراق وبعد مقامهم فيه إلى أيام الخليل إبراهيم.
فهذا الموقع لا بد أن يكون قريبا إلى الشاطئ قريبا إلى الحاضرة، يقيم فيه أناس لم يتفرغوا للبداوة في جوف الصحراء، ولم يتفرغوا للإقامة في الحواضر العامرة، ولكنهم عاشوا بين البادية والحاضرة يؤدون الأعمال التي تتطلبها الحاضرة من البادية وتتطلبها البادية من الحضارة، وهي في الغالب أعمال وساطة وسمسرة هادئة لا تضطرهم إلى الاقتحام والغلبة في معاملة أهل المدينة ولا في معاملة أهل الصحراء، ولا تضطرهم إلى الحوزة القوية لتحصيل القوت لهم وللدواب التي يستخدمونها؛ فإنهم يأخذون ما يحتاجون إليه من المدن جزاء أعمالهم في الوساطة بينها وبين البادية، ولا يحتاجون إلى كثرة عدد ولا وفرة سلاح لاقتحام مراعي الصحراء البعيدة؛ إذ كانت دوابهم تقنع بالقليل من العلف والمرعى، وبالقريب من موارد الشرب والسقاية، وهم في وساطتهم المتبادلة يعولون على الرضى والطلب ولا يعولون على القهر والاغتصاب.
وفي هذه المعيشة البدوية الحضرية يكمن كل سر من أسرار التاريخ العبري من فجر التاريخ إلى العصر الحاضر، وإليها يرجع تعليل المشكلات والأزمات التي تعرض العبريون أو عرضوا لها أنفسهم ولا يزالون معرضين لها حتى هذه الأيام.
فهم قبيلة لم تتطور، وقد ظلت بين البادية والحاضرة قبيلة لم تستوف أطوار البادية، ولم تتحول إلى أطوار الحضارة شعبا «مدنيا» يتمشى مع الحياة المدنية على سنة جميع الشعوب، ولازمتها عادة المعيشة على السمسرة والوساطة فلم تتقدم إلى آخر الشوط في تثمير أعمال البدو ولا في تثمير أعمال الحضر؛ فهي في حالة العزلة الاجتماعية وما يلازمها عند البدو من عزلة «العصبية» بالدم والسلالة.
ناپیژندل شوی مخ