{ يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التى كتب الله لكم } أن تدخلوها وأن تسكنوها على شرط أن تقاتلوا الجبارين فيها، ففى اللوح المحفوظ إن قاتلتموهم سكنتموها كما كتب للأشقياء منازل فى الجنة لو آمنوا واتقوا وللسعداء منازل فى النار لو كفروا، أو المراد كتبها فى اللوح المحفوظ والقضاء بها أو تقديرها لمن يخلفكم من بنى إسرائيل من أولادكم وغيرهم، أو هى لكم ولو لم تدخلوها كمن له دار منع من دخولها ألا ترى إلى قوله فإنها محرمة وأل فى الأرض للعهد الذهنى وهى أرض بيت المقدس لأنهم يطلبونها لكونها أرض أنبياء بنى إسرائيل ولسعة نعمها وطيب هوائها، ولأنهم أمروا قبل الأمر بدخولها، وتقديسها تطهيرها بإسكان الأنبياء والمؤمنين من بنى إسرائيل فسميت مقدسة لأن سكانها مقدسون من الشرك والمعاصى، أو لطهارتها منهما وذلك فى الجملة أو أكثرى لا فى كل فرد وكل زمان، أو قدست من الآفات، والأرض المقدسة قرية بيت المقدس وما يليها كان أريحاء وقيل الطور وما حوله وقيل أريحاء وفلسطين وبعض الأردن وقيل دمشق وقيل الشام كله، وعن الكلبى أن إبراهيم صعد جبل لبنان فقال الله سبحانه وتعالى انظر فيما أدركه بصرك فهو مقدس ميراث لأولادك { ولا ترتدوا على أدباركم } عن دينكم بالاعتقاد وبالعصيان، أو بالعصيان، ودخل فى ذلك عدم الوثوق بالله وأن يرجعوا إلى ورائهم خوفا من الجبارين وذلك استعارة تمثيلية، وقيل الأدبار ما وراءهم من الأماكن من مصر وغيرها وعلى متعلق بحال محذوف أى منقلبين على أدباركم، دخل النقباء أرض الجبارين من الشام ومكثوا فيها أربعين يوما يتجسسون فرأوا أجساما أربعمائة ذراع وأجساما ثمانين ذراعا وغير ذلك وعوقبوا بأربعين عاما فى التيه كما أقاموا أربعين يوما فى أرض الجبارين وأخذ موسى عليه السلام ميثاقا عليهم أن لا يذكروا عظم أجسامهم للناس لئلا يفشلوا فنقضوا إلا يوشع بن نون وكالب بن يوقنا لم يذكروا، وقالا: إنها أرض نعمة وقلوب أهلها ضعاف فيها جبن، ولما سمع الناس عظم أجسامهم بكوا وقالوا ليتنا متنا بمصر، تعالوا نجعل علينا رأسا ينصرف بنا إلى مصر، وقالوا: لن ندخلها أبدا ما داموا فيها الآية، وماتوا فى التيه وعوقب النقباء العشرة بموت سريع فى التيه ولم يخرج من التيه إلا أولاد هؤلاء العصاة ويوشع وكالب، ويروى أن موسى مات فى التيه، ويروى أنه خرج مع يوشع وفتحوا بلد الجبارين.
{ فتنقلبوا } أى تصيروا أو ترتدوا ارتداد خسارة، كقولك لا ترجع يكن رجوعا قبيحا والعطف على ترتدوا كأنه قيل لا ترتدوا فلا تنقلبوا أو نصب فى جواب النهى أى لا يكن ارتدادكم فانقلابكم كقولك لا تكفر فتدخل النار بالنصب أجازه الكسائى ومنعه ابن مالك { خاسرين } الجنة والاستيلاء على بلادكم وذلك خسران الدنيا والدين والآخرة.
[5.22]
{ قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين } من بقية عاد من العمالقة يجبرون غيرهم على ماأرادوا ولا ينال منهم غيرهم ما لم يريدوا ولسنا نقاومهم ونخلة جبار لا تنالها الأيدى من الأرض لطولها فمن لا ينال منه جبار ولو قصيرا، وقيل إن طال ولا يوجد فعال من أفعل إلا جبار من أجبر ودراك من أدرك وحسان من أحسن، وقيل يقال جبر وأجبر بمعنى وأحس وحس ويدل له لفظ حاسة، آمنا بما ذكر الله عز وجل من كونهم جبارين وما يتبع ذلك من كونهم أعطوا ما لم يعطه غيرهم من القوة وعظم الأجسام، ونتهم ما روى عن زيد بن أسلم بلاغا عن غيره أن ضبعا وأولادها رفضت فى عين رجل منهم، وأفظع من ذلك ما قيل أنه استظل سبعون رجلا من بنى إسرائيل فى قحف رجل منهم { وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها } بلا قتال منا وإنا لا نقاتلهم { فإنا داخلون } داخلوها.
[5.23]
{ قال رجلان } يوشع وكالب وقيل رجلان أسلما من الجبارين وتبعا موسى عليه السلام ولا يلزم من هذا أن يكون الكلام موهما أن يوشع ويوقنا من أهل السوء لأن عدم ذكرهما بالقول لا يوجب أنهما لم يقولاه أو لم يرضياه. { من الذين يخافون } الله ويتقون من بنى إسرائيل أو من الخائفين للجبارين عصيا خوفهما وأطاعا الله، أو هما من الخائفين نسبا لاخوفا والرابط الواو، وعلى أن الرجلين من الجبارين الرابط محذوف والواو لبنى إسرائيل كالأول أى من الذين يخافهم بنو إسرائيل، وعليه يلزم إبراز الضمير منفصلا على مذهب البصريين إذ جرت الصلة على غير ماهى له، وكذا فى الخبر والحال والنعت، ولم ينفصل هنا ولست أقول به لورود السماع بخلافة عند أمن اللبس { أنعم الله عليهما } وهما يوشع بن نون من سبط إفرائيم وكالب بن يوقنا من سبط يهوذا وهو ختن موسى - بالبقاء على الإيمان والتقوى وميثاق كتم حال الجبارين، أو من أسلما من الجبارين أنعم الله عليهما بالإيمان والتقوى، والجملة نعت ثان لرجلان أو حال له أو من ضمير الاستقرار فى من الذين أو معترضة للمدح لهم وللاستدلال على صحة قولهم إذ كانا ممن أنعم الله عليهما ولبيان أن من لم يكن على ما كانا عليه ليس فى شىء من دين الله بين قال ومقوله وهو { ادخلوا عليهم } قدم على المفعول به الصريح لأن المراد الدخول وهم فيها { الباب } باب قريتهم مباغتة ومضايقة قبل أن يخرجوا إلى الصحراء فإنهم لا يجدون فيها ما يجدون من الكر فى الصحراء { فإذا دخلتموه فإنكم غالبون } لتعسر الكر عليهم فى المضيق لعظم أجسامهم فهم كانسان عظيم الجسم فى مكان ضيق فيه عقارب وثعابين، ولأنهم أجسام بلا قوة قلب ولقوله تعالى كتب الله لكم ولأن الله ينصر رسله، ولجريان قهر موسى لأعدائه فى وقائع، ولإخبار موسى عليه السلام بالغلبة وبضعف قلوبهم { وعلى الله } لا على غيره { فتوكلوا } بعد الأسباب إذ لا تأثير لها إلا بالله لأنه خالقها وخالق نفعها { إن كنتم مؤمنين } مصدقين بوعده أو مؤمنين الإيمان التام الشامل للتصديق بوعده، لا تخافوا عظم أجسامهم مع وعد الله ورسوله بالنصر لكم.
[5.24]
{ قالوا يا موسى } نادوه باسمه لفظاظتهم ولو جاز فى عرفهم وكرروه وكأنه فى مرتبتهم غير نبى { إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها } مدة دوامهم بعض من الأبد ولا يحتاج لرابط لظهور المراد أو بدل إضراب أو عطف بيان { فاذهب أنت وربك فقاتلا } استهانة بالله ورسوله، إذ قالا لهم قاتلوا ولم يقبلو وزادوا فى الرد أنهم قالوا قاتلا أنتما، والله جل وعلا متنزه عن الذهاب والحركة والسكون والقتال والتحيز، وما قدروا الله حق قدره، وذلك من صفات الأجسام واليهود مجسمة إلا من أخلص إيمانه، وهؤلاء إما مجسمة وإما متجاهلون بحال غضب ولو صاحبوا رسول الله سنين، وقيل أرادوا بالذهاب الإرادة أى أريد أنت وربك كما يقول ذهب يقول بمعنى أراد القول، ولم يذكروا هارون والرجلين اكتفاء بما هو أعظم وهو موسى وبالله الأعظم، وفى تفسير القتال بحقيقته فى حق موسى والإعانة فى حق الله جمع بين الحقيقة والمجاز، وقيل أرادوا بربك هارون لأنه أكبر منه بسنة ولا يكفى تقدير وربك يعينك مع قولهم فقاتلا، وفى كلامهم جمع الله ورسوله فى ضمير وهو لا يجوز ولو كان فيما يفعل الله أو يوصف به. أخرج مسلم وأبو داود والنسائى عن عدى بن حاتم أن رجلا خطب عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: ومن يطع الله ورسوله فقد رشد، ومن يعصهما فقد غوى، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:
" بئس خطيب القوم أنت قل: ومن يعص الله ورسوله "
، ولعله يجوز ذلك إذا كان ما لله أو لرسوله لا يستقل كحديث البخارى ومسلم والترمذى والنسائى عن أنس:
ناپیژندل شوی مخ