{ لا يغرنك } الخطاب لكل من يصلح له، أوله صلى الله عليه وسلم والمراد أمته، قال قتادة: ما غر نبى قط حتى قبضه الله، يقال غره بما يستحسنه فى الظاهر، ثم يجده عند التفتيش، أو يظهر بلا تفتيش على خلاف ما يحبه، والمعنى لا تغتر بتقلب الذين كفروا، فوضع السبب وهو الغر موضع المسبب، وهو الاغترار، وأسنده إلى فاعل الغر، وهو التقلب، وذلك مجاز أو كناية، وهما أبلغ من الحقيقة، ولا شك أن فعل ما يغتر به أحد سبب للاغترار، والاغترار مسبب، فالغر فعل الغار، والاغترار مطاوعة ذلك الفعل، فكل واحد غير الآخر، فلا يعترض بأن الغارية والمغرورية متضايقان، والمتضايقان لا يكون أحدهما سببا للآخر، بل فى درجة واحدة، حتى القطع والانقطاع إذا اعتبرت كسب كل جزء على حدة واعتبرته بتوجيه النفس إلى حصول القطع لم يكونا فى درجة { تقلب الذين كفروا } كاليهود وأهل مكة والنصارى { فى البلاد } بالتجر والحرث فى سعه وحظ، والأصل لا يغرنك الذين كفروا بتقلبهم، فذكر السبب أيضا مكان المسبب.
[3.197]
{ متاع } تمتع، أو متمتع به حقير، كما يفيده التنكير، أى ذلك متاع { قليل } بالنسبة إلى ما أعد الله لكم فى الآخرة، ولقصر مدته وتكدره والمتكدر قليل، ولو كثر، لأن تكدره نقص منه، قال مسلم عنه صلى الله عليه وسلم:
" ما الدنيا فى الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه فى اليم فلينظر بم يرجع "
، أى بم يرجع من اليم، فإنه يرجع بالبلة، وهو تمثيل بأقل ما نفهم، وحقيقة الأمر أكثر لأن البصر ينقضى ببلة الأصبع على طول تكرير جعل الأصبع فيه طولا، لا يعلمه إلا الله، والجنة لا تنقضى، ويبعد أن تفسر بالنسبة إلى أعمالهم الشاقة، فضلا عما أعد، لهم من العذاب، إذ المقام ليس لذكر ذلك إلا بتكليف إفهام أنهم ما حصلوه إلا بتعب شديد، مع ما لهم من النار فلم يتمحض لهم { ثم مأواهم جهنم وبئس المهاد } هى، شبهت بالمهاد تهكما بهم، إذ قدموها لأنفسهم كما يفرش اللين للصبى.
[3.198-199]
{ لكن } استدراك لرفع ما يوهم أن التجارة مطلقا توجب جهنم، فأخبر أن للمؤمنين الجنة، ولو اتجروا، وبأن جوعهم وبؤسهم إنما هو لكسب ما هو أعظم من نعم الدنيا وهو الجنة، وعلماء المعانى يقولون لكن لقصر القلب، ورد اعتقاد المخاطب أن المؤمنين البائسين فى خسران عظيم لا دنيا لهم ولا جنة لكفرهم بالجنة { الذين اتقوا ربهم لهم جنات تجرى من تحتها الأنهار خالدين } يدخلونها يوم القيامة مقدرين الخلود { فيها } وأما من الآن فلا يوقنون أنهم من أهلها لخوف الخاتمة فى حق كل واحد ممن لهم يجىء فيه الوحى، ويجوز إثبات التقدير للخلود بلا حذف على رسم فرض السعادة أى تثبت لهم، أي لأهل صفتهم، ناوين أنهم يخلدون فيها إن كانوا من أهلها { نزلا } حال من المستتر فى لهم، العائد إلى جنات، شبهها بما يعد للنازل من طعام وشراب وصلة، فلا تزال تزداد خيرا بلا نهاية بعد ذلك، كما يحتفل للنازل بعد ينزل عليه فجأة كل يوم فى الجنة خير مما قبله أبدا، ومعناه معد ومهيأ على عجل، ولا يصح أنه حال من جنات، لأن جنات مبتدأ، والحال لا يصح قيدا للابتداء الذى هو العامل، ويجوز أن يكون حالا من ضمير جنات المستتر فى لهم، أى ذات نزل أو هو جمع نازل على غير قياس، حال من المستتر فى خالدين، أو يقدر أنزلوها نزلا من عند الله، أى نزولا على أنه مفول مطلق { من عند الله } وما بالك بشىء من الله قابل به وليه مضاد به عدوه { وما عند الله } من ثواب الجنة لكثرته وعظمه وهنائه ودوامه { خير للأبرار } مما للكفار من متاع الدنيا لقلته وحقارته وتنغصه وفنائه، أظهر اسمهم بلفظ الأبرار إشعارا بأن أعمالهم تقوى وبر، وانها سبب الثواب، روى ابن عباس: أنه مات النجاشى، ملك الحبشة، فأخبر جبريل عليه السلام النبى صلى الله عليه وسلم بموته فى يومه، فقال للصحابه،
" اخرجوا، صلوا على أخ لكم بأرض الحبشة مات، وكشف له عن سريره، وكبر عليه أربعا واستغفر له "
، فقال المنافقون إنه صلى على حبشى نصرانى لم يره قط، وليس على دينه فنزل قوله تعالى:
{ وإن من أهل الكتاب لمن يؤمن بالله } كالنجاشى المذكور بكسر النون وفتحها وإسكان الياء وشدها لغتان، وقيل الشد غلط، لأنه ليس نسبا وشد الجيم غلط لا غير، واسمه أصحمة بفتح الهمزة وإسكان الصاد وفتح الحاء، والتاء زائدة من العربية أى عطية الله، وقيل عطية الصنم، والحبشة يقولونه بالخاء المعجمة، والقول بأن اسمه مكحول ابن صعصعة خطأ، لأن هذا اللفظ عربى وأسلم قبل الفتح، ومات أيضا قبله فى رجب عام تسعة، وكعبد الله بن سلام من اليهود وأربعين من نصارى نجران من بنى الحارث بن كعب، وهم من العرب، واثنين وثلاثين من الحبشة وثمانية من الروم على دين عيسى آمنوا برسول الله صلى الله عليه وسلم والصلاة عليه حجة للصلاة على الغائب، لأن ولو كشف له صلى الله عليه وسلم لم يكشف للصحابة، وقالت الحنفية إنه لا يصلى على غائب، وأن ذلك مخصوص بالنبى صلى الله عليه وسلم مع النجاشى تكريما له، ألا ترى أنه لم يصل على غيره من الغائبين { ومآ أنزل إليكم } من القرآن وغيره { ومآ أنزل إليهم } من التوراة والإنجيل وغير ذلك، قدم ما انزل إلينا مع تأخره عما أنزل إليهم لأنه المعيار، لا عبرة بإيمانهم إن لم يوافقوه، ولأن ما أنزل إليهم قد نسخ بعضه بالقرآن وقد حرفوه، فإنما يعتبر ما صححه القرآن ولتعجيل مسرة المؤمنين، بذكر ما أنزل إليهم { خاشعين لله } خاشعين حال من ضمير يؤمن، مراعاة لمعناه، وهو الجمع ومن هاء إليهم، والخشوع بعد النزول، والخشوع الخضوع، أو الخوف والتذلل أو الخوف اللازم للقلب، قيل تحرز به عن إيمان المنافقين، لأنه لخوف القتل لا لله، ويبحث بأنه لا يشمل الإيمان { لا يشترون بأيآت الله ثمنا قليلا } من الدنيا خوفا من زوال الرياسة إن لم يكتموا، ووصف القلة لأن ما أخذوه بدلا من دين الله قليل ولو الدنيا كلها، وتعريضا بخستهم إذ باعوا الدائم الكثير الذى فى غاية الجودة بما هوعكس ذلك { أولئك لهم أجرهم } مرتين بما صبروا، يؤتكم كفلين من رحمته { عند ربهم إن سريع الحساب } يحاسب فى لحظة، أو فى يوم، وهو قادر على أقل، فلزم من ذلك سرعة وصول الثواب إليهم إذا وضع الحساب.
ناپیژندل شوی مخ