[2.264]
{ يآيها الذين ءامنوا لا تبطلوا صدقتكم بالمن والأذى } أى ولا بالأذى. فكل واحد منهما مبطل لثواب الصدقة ولو انفرد، وكيف اجتماعهما، وموجب للعقاب، لأنه ظلم للفقير، ويقال: مبطل للثواب ولا عقاب، ويقال، مبطل للمضاعفة ولا عقاب، والحق ما مر، وقيل المن على الله، والأذى للفقير { كالذى } إبطالا كإبطال الذى، أو كائنين كالذى، تشبيه للجماعة بالواحد أو بالجماعة على معنى، كالفريق الذى { ينفق ماله رئآء الناس } إنفاق رئاء الناس، أو لأجل رئاء الناس، أو مرائيا لهم، كذا يقولون، وهو عجيب، كيف لا يقتصر على أنه مفعول من أجله مع سلامته من تأويل وتقدير، والفعال على بابه، لأنه يرى الناس الإنفاق، ويرونه الثناء، والمراد مبطل لثواب عمله، وفاسق يرثائه، هذا هو الصحيح، وزعم بعض العزالى أنه إن قصد الرئاء، ورضى الله أو ثوابه لم يبطل عمله، وبعض، إن كان الرئاء غالبا بطل علمه، وإن كان مغلوبا لم يبطل، وإن كان مساويا لم يبطل عند بعض، وبطل عند بعض، وهذا فى الموحد المنافق بالكبيرة، وأما المنافق بإضمار الشرك فلا قائل بعدم إبطال علمه، والآية فيه لقوله تعالى: { ولا يؤمن بالله واليوم الأخر } أفادت الآية أن من أنكر البعث خلقك: الآية، وذلك متبادر مع احتمال أن الآية فيمن كفر بالله من قلبه { فمثله } مثل الذى ينفق للرئاء، لأنه أقرب مذكور، أو مثل المبطل لصدقته بالمن والأذى الذى هو فرد من الحج، فى قوله: لا تبطلوا... الخ، وهذا ضعيف، لأن فيه إفرادا من الجمع ولبعده، ولكن الغرض من التشبيه فى الأغلب أن يعود إلى المشبه، والغرض هنا بيان حال المشبه، بأنه لا ينتفع بصدقته { كمثل صفوان } حجر خالص، ما فيه هشاشة، وهو مفرد، اسم جمع، وقيل: اسم جنس، وله مفرد بالتاء، وهو صفوانة، وإفراد ضميره بعد ذلك قابل لذلك، والأولى الإفراد إذا قلنا اسم جمع أو اسم جنس، وقيل جمع صفاء، ويرده إفراد ذلك الضمير فى قوله تعالى { عليه تراب فأصابه } أصاب الصفوان { وابل } مطر شديد، وهو رش، فطش، فطل، فنض، فيطل، فوابل { فتركه } أى الصفوان { صلدا } نقيا من التراب، ما عليه غبره، ولو رددنا ضمير أصابه للتراب وهاء تركه للصفوان لكان فيه تفكيك الضمائر، والأولى خلافه { لا يقدرون } أى لا يقدر الذين يبطلون صدقاتهم بالمن والأذى والذى ينفق ماله رئاء الناس، أو لا يقدر الذى ينفق الرئاء، لأن المراد به الجنس، فيسرى انتفاء القدرة إلى مبطلى صدقاتهم بالمن والأذى، إذ شبهوا بالمنفق رئاء { على شىء } أى على ثواب شىء { مما كسبوا } من التصدق والإنفاق، كما لا يقبت التراب على الصلد، ولا يحرث ولا يعرس فلا ثمرة منه، أو المنافق، كالحجر فى عدم الانتفاع، وإنفاقه كالتراب لرجاء النفع فى الإنفاق بالأجر، وفى التراب بالإنبات وغير ذلك، ورده كالوابل المذهب له سريعا، الضار من حيث يظن النفع، ويجوز أن يراد بشىء نفس الثواب، أى لا يقدرون على ثواب يحصلونه مما كسبوا، وضمير الجمع فى الموضعين مراعاة لمعنى الذى، المراد به الجنس بعد مراعاة لفظه، وقيل: الذى يطلق على المفرد والجمع { والله لا يهدى } لا يوفق القوم { الكفرين } المشركين، المختوم عليهم بالشقاوة، إلى الحق، وذلك عموم شامل للمؤذى والمان والمرائى، أو هم المراد، ولم يضمر لهم إشعارا بأن كفرهم جر لهم ذلك الإيذاء والمن والرثاء، وإشعارا بأن ذلك من صفات الكفار فيجتنب.
[2.265]
{ ومثل الذين ينفقون أموالهم } فى الفرض، والنفل يقدر هنا، ومثل نفقات الذين، والنفقة تشبه البستان فى النماء، وهذا أنسب من أن يقدر فيما بعد كمثل صاحب جنة، أو أصحاب جنة { ابتغآء } طلب { مرضات الله } ألا يكونوا من أعدائه لا للثواب، فضلا عن الرثاء والمن والأذى، وأراد بالمرضاة الثواب أو الإحسان للزوم والسببية { وتثبيتا من أنفسهم } أى لأنفسهم على الجزاء، أو على الإيمان، أو يثبت كل واحد بعض نفسه على الإيمان بإنفاق المال لله جل وعلا، وإذا بذل ماله وروحه فقد ثبتها كلها ، والمال شقيق الروح، فمن بذله يثبت على سائر الأعمال الشاقة وعلى الإيمان، أو تصديرا وابتداء من أنفسهم للإيمان، أو تثبيتا من أنفسهم عند المؤمنين أنها صادقة الإيمان { كمثل جنة بربوة } فى مكان مرتفع مستو، فإن شجره أزكى ثمرا وقوة للشمس مع الرى، ولطاقة الهواء، وأحسن منظرا، كما أن صفة الإنفاق لله وسماعه أمر حسن بمال إليه { أصابها وابل فئاتت } احبها أو الناس بسبب الوابل { أكلها } ثمارها التى من شأنها أن تؤكل { ضعفين } مثلى ما يؤتى غيرها مما لم يصبه وابل أو لم يكن فى ربوة، أو لم يبارك فيه، أو مثلى ما يؤتى إذا لم يصبها، والضعف أحد المثلين كالزوج لأحد المفترنين، أو الضعف المثلان، فالضعفان أربعة: والمضاعفة بالأربعة فصاعدا مشاهدة فى الثمار، أو آتت فى السنة ما تؤتى فى السنين، وذلك هو أشد ملابسة للمقام، ألا ترى إلى تضعيف الحسنة، بل لو لم تكن بالأربعة فى الوجود صح، لأن التمثيل يكون بالتحقيق، ويكون بالغرض، وإسناد الإيتاء إلى الجنة مجاز للتسبب أو كونها محلا للثمار، لأن المؤتى أشجار الجنة، لا نفس الجنة، فذلك استخدام ولك اعتبار أن الأرض لها تسبب فى ذلك كأشجارها { فإن لم يصبها وابل فطل } أى فمصيبها طل، أو فطل يصيبها، أو فطل يكفيها، لطيبها وطيب هوائها، وهو مطر خفيف، يسمى الرذاذ، ومن العجيب تقدير بعض، فيصيبها بالفاء، والمضارع المرفوع، مع أنه لو وردت به الآية لاحتجنا إلى تأويل شبه عمل المؤمن كله تمثيلا بإنفاقه بجنة مرتفعة، يدور أمرها بين وابل وطل، فإنه ينمو بازدياده وطيب أحواله، قل أو كثر، كثمر تلك الجنة ينمو، أصابها الماء الكثير أو القليل، للشمس وطيب الهواء، وذلك استعارة تمثيلية، شبه الأعمال الصالحة من حيث القوة والضعف وما يترتب عليها من الثواب بتلك الجنة فى أحوالها وما يترتب عليها من الثمرات { والله بما تعملون بصير } فيجازيكم به خيرا أو شرا، لا تراءوا ولا تمنعوا ولا تؤذوا وأخلصوا.
[2.266]
{ أيود أحدكم } محط الاستفهام الإنكارى هو قوله، فأصابها إعصار فيه نار فاحترقت، والخطاب للناس مطلقا ، فدخل فيهم المان والمؤذى والمرائى { أن تكون له جنة } تطلق الجنة على أرض الشجر، وهو المختار، فى قوله: جنه بربوة، فهى أرض فى جملة أرض مرتفعة، ولا يلزم ذلك لجواز أن يراد الأشجار، وهو أنسب بقوله، فآتت أكلها، ولو جاز أن يقال فى أرضها أنها آتت أكلها، وتطلق على نفس الشجر كما هنا، ويدل له بيانها بقوله عز وجل: { من نخيل } جمع نخل أو مثله { وأعناب } ويدل له أيضا قوله { تجرى من تحتها الأنهر } كأنه قال: أن تكون له نخيل وشجر عنب عظام، بدليل التنكير فى جنة وفيهما، وتكون لهما جميع أشجار الثمار بدليل قوله { له فيها } فى الأشجار المعبرة عنها بالجنة { من كل الثمرت } رزق ثابت من كل الثمرات، أى من كل أنواع الثمرات، واقتصر على ذكر النخل والأعناب لشرفهما ولكثرة منافعهما، لأن فيهما إداما، ويكون منهما الخل والزبيب والعسل، ويدخران، وهما ألذ، ولا وخامة فيهما. ويكونان غذاء، والعنب والرطب والبسر فواكه أيضا، والمراد بكل الثمرات استغراق أنواعها، لما مر من أن التمثيل يصح ولو فرضا، أو الاستغراق عرفى، أى من كل الثمرات بحسب المعتاد، والمراد بالثمرات المنافع التى توجد فى البساتين، يذكر النخل بنفسها والكرم بثمره، لأن النخلة كلها منفعة والكرم لا نفع إلا فى ثمارها، والنخلة عمتنا أيضا فكانت أولى بالذكر بنفسها ومن فضائل العنب ما قيل عن الله سبحانه: أتكفرون بى وانا خالق العنب { وأصابه } أى ويصيبه الكبر، أو المراد، يود أحدكم أن كانت له جنة... الخ وأصابه، أو أن تكون له جنة الخ.. والحال أنه أصابه، وفى جعل الواو عاطفة أنه تمنى الإصابة، وهو لا يتمناها، فليست عاطفة وكون الاستفهام للإنكار لا يدفع هذا الإشكال { الكبر } كبر السن والفقر فى كبر السن أشد منه فى الشباب وما يليه { وله ذرية ضعفاء } لصغر السن، أو للجنون، أو العلل ونحو ذلك، أو كله، أو بتعدد، فهو فى عجز لكبر، وفى كثرة عيال ضعفاء، لا يكسبون له ولا يدفعون عنه { فأصابهآ } تعقيب لا سببية { إعصار } ريح تتلف، حاملة للتراب. مستديرة على نفسها، كعمود إلى جهة السماء، سمى لأنه يعصر السحاب أو الأجسام، أو لأنه كثوب أعصر، أى عصر، أو لف بالعصر، فأصله مصدر، وهو الزوبعة، هابطة أو صاعدة، وخصها بعض بالصاعدة، إلا إن أراد بالصعود كونها طويلة إلى جهة السماء، وسبب الهابطة أنه تنزل ريح من سحابة وتعارضها فى نزولها قطعة من السحاب تحتها، فتكون بين ريح فوقها ودافع من تحتها، فلا تستدير وتزداد تلويا بعوج المنافذ، وسبب الصاعدة أن تصل المادة الريحية الأرض وتقرعها وتغلبها ريح أخرى فتستدير وتلتوى، وقد تكون من تلاقى ريحين شديدين، وقد تقطع الأشجار وتخطف المراكب فى البحر، والنازلة القائف كالراقص، والصاعدة لا يرى للفائفها إلا الصعود وتكونان أيضا بمحض قدرة الله سبحانه { فيه نار } معنوية، وهى شدة الحرارة، أو حقيقية كنار الصاعقة، وكما يراها هود عليه السلام وغيره فى ريح عاد فى الجو { فاحترقت } ففقدها أحوج ما كان إليها لضعفه وعياله كذلك من قدم أعمالا صالحة، كالإنفاق، ويظنها نافعة، وقد أفسدها بالمن والأذى أو الرثاء أو نحو ذلك، فيفقد ثوابها يوم القيامة أحوج ما كان، وذلك استعارة تمثيلية، وقد روى عن ابن عباس ما ذكرته من العموم إذ قال ذلك الرجل عمل بالطاعة وسلط الشيطان عليه، فعمل بالمعاصى حتى أحرق أعماله { كذلك يبيين الله لكم الأيت لعلكم تتفكرون } كى تتفكروا فى معانيها، وتعلموا بها فتدركوا أن الدنيا فانية فتعلموا لما يدون، أو ارجعوا التفكر فى ذلك واستعملوه.
[2.267]
{ يأيها الذين ءامنوا أنفقوا } أدوا الزكاة { من طيبت } جودة وحلا { ما كسبتم } من الذهب والفضة وعروض التجارة وأصول التجارة والأنعام الثمانية، والإيمان شامل للأعمال الصالحة عندنا، وهكذا إذا لم يذكر العمل الصالح { وممآ } أى ومن طيبات ما { أخرجنا لكم من الأرض } من الحبوب الستة، وقيل، والفول والعدس والتين والزيتون، ونحو ذلك مما بلغ نصابا، وأبحاث ذلك فى الفروع، وأخطا أبو حنيفة إذ أوجبها فى كل ما أنبتت ولو بقولا وبطيخا ولو قليلا، وما أخرج الله من الأرض هو من جملة ما يكسب، وخصه بالذكر لأن التفاوت فيه كثير { ولا تيمموا } أصله، تتيمموا، حذفت إحدى التاءين، أى تقصدوا { الخبيث } رداءة { منه } من الخبيث حال كونكم { تنفقون } حال، أى مقدرين الإنفاق منه، ومن تتعلق بتنفقون، أو يتعلق بمحذوف حال من الخبيث، فتكون الهاء لما ذكر من طيبات ما كسبوا وما أخرج الله من الأرض، أو للمال الذى فى ضمن القسمين، أو لما أخرجنا، وخصه بالذكر، لأن الرداءة فيه أكثر، وكذا الحرمة، لتفاوت أصنافه ومجالبه { ولستم بئاخذيه } تنفقون منه، والحال أنكم لستم بآخذيه فى حقوقكم، كدين وصداق وأرش لرداءته فأولى ألا ينفق لحرمته، لمنع الشرع من التصرف فى المال الحرام إلا بأدائه لصاحبه، أو للفقراء، أو إصلاحه من فساد مع توبة وضمان { إلآ أن تغمضوا } بأن تغمضوا، أو إغماضا، أى وقت إغماض على حذف مضاف، لا بالنصب على الظرفية، لأن شرطه التصريح بالمصدر، أو وجود ما المصدرية { فيه } فى شأنه بالقبول من أغمض بمعنى غمض، أى غض بصره، استعير للمسامحة بقبوله مع رداءته، كمن لم ير بعينه عيبا، وهو متعد حذف مفعوله كما رأيت، وقيل، لازم، ومعناه، تساهلتم فى شأنه وتغافلتم { واعلموا أن الله غنى } عن نفقاتكم، فتحروا فيها الطيب، لعود نفعها إليكم { حميد } كثير الحمد، أو عظيمه، أى الشكر، أى الجزاء على الطاعة، ومنه قبول الجيد والإثابة عليه، أو محمود على آلائه، ومن الحمد عليها إنفاق الجيد، كانوا يتصدقون بحشف التمر ورديئه ويمسكون جيده، فنهوا عن ذلك.
[2.268]
{ الشيطان يعدكم الفقر } يخبركم بوقوعه عن الإنفاق تخويفا لكم به لئلا تنفقوا ألبتة أو الأردياء { ويأمركم بالفحشآء } بما أنكره العقل واستقبحه الشرع، ومنه البخل، وهو المراد بالذات من هذا العموم، لأن سوق الكلام لبيان حال الإنفاق وتركه، وقيل، الكلمة السيئة، وقيل، المراد هنا إنفاق الردىء، وقيل، الزنا، والعموم أولى، وأسند الوعد إلى الشيطان مبالغة بأنه نزله منزلة أفعاله التى تصدر منه، كأنه هو الموقع للفقر، من حيث إن الوعد الإخبار بما يكون من المخبر، بكسر الباء كذا يقال، وأولى منه، أنه الإخبار ولو من غيره، وأصله فى الخير والشر، وغلب فى الخير استعمالا، والوعيد يختص بالشر، والوعد فى الآية شر، ويختص أوعد بالشر، ومن استعمال وعد فيه قوله تعالى:
ناپیژندل شوی مخ