تَنوفُ على خمسةَ عشرَ عامًا، طالعتُ خلالها غالبَ المشهورِ منها والمغمور، فخُضتُ غمارها، وغُصتُ في أعماقها، وعندما بدأت فيه كنتُ أظنه كباقي التفاسير لا يتميَّز عنها بشيء، ولم أكنْ أتوقَّع أنني سأجدُ فيه هذا الكمَّ الهائلَ من الفوائد والنِّكات، والرَّقائق والعِظَات، مع حسنِ الإشارة ومتانةِ العبارة، وسلامةِ الذوق، والذبِّ عن مذهبِ الحقّ.
فالعجَبُ كيف لم تمتدَّ إليه يدُ العناية إلى الآن، وبقي حبيسَ المكتبات يَنتظرُ مَن يمسحُ عنه غبارَ الإهمال، ويكشفُ عن أنواره ظلمةَ النسيان، مع أنه يفوقُ في فوائده كثيرًا مما حقِّق وطُبع من كتب التفسير، فكان من فضلِ المولى عليّ أن أُوكلتْ هذه المهمةُ إليّ.
وكما يُقال: التيسيرُ علَامةُ الإذن، فقد يسَّر اللَّه سبحانه لنا سبيل تحقيقه، وتهيَّأ لنا في سبيل ذلك كمٌّ كبيرٌ من النسخ الخطيةِ النَّفيسةِ الكاملة، ما لا يتيسَّر مثلُه في كثيرٍ من الكتب، فقمنا بالمقارنة بينها لانتقاءِ أفضل النسخ وأكثرِها دقةً وأقلِّها تحريفًا، وقد تمَّ لنا هذا المسعى بعون اللَّه، واخترنا ثلاثةً من النسخ الخطية النَّفيسة، فتمَّ نسخ الكتاب ومقابلته من إحداها ثم مقابلتُه على الأخريين.
وقد كان من الصُّعوبات التي واجهتْنا أن الكتابَ لم يُطبع قبل الآن، ولا يوجد له، ولا حواشيَ أو شروح له يمكنُ الاستفادة منها، فكان علينا القيامُ بالمهمة كاملةً، وكانت تلك المهمةُ من الصعوبة بمكان، وذلك لكثرةِ ما فيه من أحاديثَ وآثار وأقوال، تحتاج للتخريج والشرح، وكذا لبيان حالِ المرفوعِ وما في حكمه، هذا مع كونِ أكثرِ الكتاب من إبداعِ المؤلِّف وإنشائه، وحتى ما ينقلُه فإنه يتصرَّف فيه فيزيدُ وينقص ويغيِّر، فلا تكاد تجدُ له في عباراته وأقواله سلَفًا يمكنُ الرجوعُ إليه لتصحيح تحريفٍ أو توضيحِ عبارة.
المقدمة / 8